روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الاصلي ظلما وبغيا

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الالكتروني

كتاب:آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة أبو البركات ا... /يا أمة الإسلام والأزهر الشريف *أفيقوا* /تحميل مذكرة الجبر3 ث ثانوي عام 3 ثانوي.pdf. / صفحة .. س وج احياء 3ث/ أرشيف المدونة النخبة في... /الفيزياء للجميع 3 .ث /مذكرة التميز (شرح ومراجعة) النصوص للصف الثالث الثا... /العلامات والأعراض التهاب المفاصل الروماتويدي /موضوعات علمية وللثانوية العامة وكذلك مسائل شرعية... /تحميل منهج الثانوية العامة 3ث /مذكرة الأساسيات , الجبر, الهندسة الفراغية , الاستا... /حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث .حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث . /ثانوي علم النفس اللثانوية العامة 2016 استاذ سام... /ث. استاتيكا :خرائط مفاهيم المميز للصف الثالث ال... /الفيزياء الثالث الثانوي3ث. /فيزياء 3ث /مناج الثالث الثانوي 3ث. /مذكرات 3ث. /مذكرات 3ث. /الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... / الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... /ث/الديناميكا(تفاضل الدوال المتجه.pdf ) /ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي /لا يمكن الجمع بين أن المؤمن مآله إلى الجنة وبين حد... /كتاب : الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ابن كثير /دليل 24. /القران مكتوب روابط /مجلد 1. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح... /مجلد 2. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح...

اللهم إني أُشهدك أنني بريئ من كل علم وكل شأن لا ترضاه ويخالف دينك القيم

الثلاثاء، 17 مايو 2022

مجلد 1 و 2. تفسير أصل الرازي أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري للشيخ / عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)


مجلد 1. أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)
تحقيق: المكتب العلمي بدار الكمال المتحدة
* * *
(1/1)
مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
يا رب العالمين
الحمد لله الذي نشر العلوم على يد أولي الألباب، وخصَّ مَن شاء بما شاء من الفضائل والنعم الجلباب، فألهمهم الفهم والإفهام، والضبط والصواب، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّد الذي لا ينطق إلَّا بالصواب، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم الأنجاب.
أمَّا بعد:
فيقول العبد الفقير الفاني أبو عبد الرزاق عبد القادر بن المرحوم السيد عبد الله أفندي الأنصاريُّ الشهير بالأسطوانيِّ الحنفيُّ القادريُّ الدمشقيُّ غفر الله لهما بمنِّه، وستر عليهما بفضله، آمين:
فإنِّي لمَّا قرأتُ «صحيح البخاري» على مشايخي الأعلام، وراجعتُ شروحه العِظام، فرأيتُ بعضَها مطوِّل مُمِلٌّ، وبعضَها مُقِلٌّ مُخِلٌّ؛ أردتُ أن أجمع تقرير أشياخي، وأجعلها شرحًا لـ «الصحيح»، فإنِّي وإن كنتُ لستُ من أهل هذا الشأن ولا للخوض في هذا الميدان، لكنِّي أتشبَّه بهم، وأقتدي بمَن قال:
... ~فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلَهم ... إنَّ التشبُّه بالكرام فلاح
والذي أوقعني في هذا التشبُّه بعض أصحابي الأحباب بإلحاحهم عليَّ بوضع شرح على هذا الكتاب، فاستعنتُ الله على ذلك، وسألتُه إلهام الصواب، والإتمام على أتم المرام، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به عباده المؤمنين، وإذا كمل إن شاء الله تعالى؛ فأسمِّيه:
«أصل الزراري على صحيح البخاري»
واللهَ أسأل، وبنبيه أتوسَّل أن يوفقَني لإتمامه، ويعينَني على إكماله؛ إنَّه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.
==========
%ص 2%
(1/2)
مقدمة تشتمل على فصول:
الأول: في فضيلة أهل الحديث:
روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرُبُّ حامل فقه ليس بفقيه ... » الحديث، رواه البزار، وابن حبان، وكذا أبو داود بلفظ: «نضَّر الله امرأ سمع منَّا شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلَّغ أوعى من سامع»، قال الترمذي: حسن صحيح.
و (نضَّر)؛ بتشديد الضَّاد المعجمة، وقد تُخفَّف، والنَّضرة: الحُسن والبهجة؛ أي: خصَّه اللهُ بالحُسن والبهجة، وخصَّ الفقه؛ لأنَّ عليه مدار الأحكام؛ لِمَا روي: «من يُرد الله به خيرًا؛ يُفقهه في الدين»، رواه الشيخان، وغيرهما، وفي «الطبراني»: «اللهم ارحم خلفائي»، قلنا: يا رسول الله؛ من خلفاؤك؟ قال: «الذين يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس».
==========
%ص 2%
(1/3)
الفصل الثاني: في ذكر أوَّل مَن دون الحديث والسُّنن.
فأوَّل مَن أمر بتدوين الحديث وجمْعِه عمرُ بن عبد العزيز خوفَ اندراسه، فإنَّه كتب إلى أهل الآفاق: (انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه)؛ لأنَّ الصحابة والتابعين لم تكن تكتب الأحاديث، وإنَّما كانوا يؤدونها من حفظهم.
ولمَّا نشأ إمامنا الأعظم، والمجتهد الأفخم، سيِّد المجتهدين، وسند المحقِّقين الذي أقرَّ بأسبقيته وفضله المجتهدون أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه، فألَّف بالفقه ودوَّنه وبوَّبه، وجعلَه مرتبًا على كتب وفصول؛ رآه الإمام مالك، فتبعه وألَّف «الموطأ»، ثم تبعه مَن بعده وهكذا، وإنَّما كان اشتغال الإمام الأعظم بالفقه للحديث السابق، ولأنَّ عليه مدار الأحكام من حلال وحرام، وهذا هو المسؤول عنه يوم القيامة؛ فليُحفظ.
==========
%ص 2%
(1/4)
الفصل الثالث: في بيان تقسيم السنن المضافة إليه عليه السلام
قولًا، وفعلًا، أو تقريرًا، وكذا وصفًا، وخَلقًا _ككونه ليس بالطويل، ولا بالقصير_ وأيامًا _كاستشهاد حمزة، وقتل أبي جهل_ إلى متواتر ومشهور، وصحيح، وحسن، وصالح، ومُضعَّف، وضعيف، ومسند، ومرفوع، وموقوف، وموصول، ومرسل، ومقطوع، ومنقطع، ومعضل، ومعنعن، ومؤنن، ومعلق، ومدَلَّس، ومُدْرَج، وعال، ونازل، ومسلسل، وغريب، وعزيز، ومعلَّل، وفرد، وشاذ، ومنكر، ومضطرب، وموضوع، ومقلوب، ومركب، ومنقلب، ومدبج، ومصحف، وناسخ، ومنسوخ، ومختلف.
فالمتواتر: ما رواه جمع عن جمع.
والمشهور: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين.
والصحيح: ما اتصل سنده بعدول.
والحسن: ما عرف مخرجه.
والصالح: دون الحسن.
والمضعَّف: ما لم يُجْمع على ضعفه.
والضعيف: ما قَصُر عن درجة الحسن.
والمسند: ما اتصل سنده من رواته.
والمرفوع: ما أضيف إليه عليه السلام من قول، أو فعل، أو تقرير.
والموقوف: ما قَصُر على الصحابي.
والموصول: ما اتصل سنده.
والمرسل: ما رفعه تابعي إليه عليه السلام، وهو قوي يصح الاحتجاج به عند الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد، والجمهور، ولم يحتج به الشافعي؛ لأنَّه لم يذكر الصحابي الذي رواه، ورُدَّ: بأنَّه لما كان قويًا عند التابعي من حيث إنه لم يَحْتَج إلى ذكر الصحابي، فكأنَّه لشدَّة تيقنه سمعه منه عليه السلام.
والمقطوع: ما جاء عن تابعي.
والمنقطع: ما سقط من رواته واحد.
والمعضل: ما سقط من رواته اثنان.
والمعنعن: الذي قيل فيه: عن فلان عن فلان.
والمؤنن: قول الراوي: حدثنا فلان أن فلانًا قال.
والمعلق: ما حذف من أول إسناده.
والمدلَّس _بفتح اللام المشددة_: أن يسقط اسم شيخه، ويرتقي إلى شيخ شيخه.
والمدرج: كلام يذكر عقب الحديث.
والعالي: القرب منه عليه السلام.
والنازل: بضده.
والمسلسل: ما ورد بحالة واحدة.
والغريب: ما انفرد راوٍ بروايته.
والعزيز: ما انفرد بروايته اثنان.
والمعلَّل: خبرُ ظاهره السلامة.
والفرد: ما رواه واحد عن واحد.
والشاذ: ما خالف الراوي.
والمنكر: الذي لا يعرف متنه.
والمضطرب: ما روي على أوجه مختلفة.
والموضوع: الكذب.
والمقلوب: المبدل بعض رواته.
والمركب: الذي ركب إسناده لمتن آخر.
والمنقلب: هو مقلوب لفظه على الراوي.
والمدبج _بالموحدة والجيم_: رواية القرينين.
والمصحَّف: الذي تغير بنقط الحروف.
والناسخ والمنسوخ؛ كحديث المارِّ، وكحديث قنوت الفجر، وغيرهما، فإنَّ قتلَ المارِّ، وقنوتَ الفجر قد نسخ عند الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد، والجمهور، وعند الشافعي: باق على أصله.
والمختلف؛ كحديث: «لا عدوى ... »، وحديث: «فِرَّ من المجذوم ... »، وجمع بينهما بأن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن جعل الله مخالطة المريض للصحيح سببًا لإعدائه، وقد يختلف.
سئل المؤلف: متى يصير الرجل محدِّثًا؟
فأجاب: إذا كتب أربعًا مع أربع كأربع مثل أربع في أربع عند أربع بأربع على أربع عن أربع لأربع، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع، فإذا تمت له كلها؛ هان عليه أربع، وابتلي بأربع، فإذا صبر؛ أكرمه تعالى في الدنيا بأربع، وأثابه في الآخرة بأربع.
سُئل عنها؟
أجاب: الأربعة التي يحتاج إلى كتْبها: هي أخبار الرسول عليه السلام، وشرائعه، والصحابة، والتابعين، وتواريخهم، وأزمنتهم، وأمكنتهم، وغير ذلك، ولا تتم إلا بأربع: معرفة الكتابة، والصرف، واللغة، والنحو، مع أربع: فهي القدرة، والصحة، والحرص، والحفظ، فإذا تم له ذلك؛ هان عليه أربع: الأهل، والمال، والولد، والوطن، وابتلي بأربع: بشماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهلاء، وحسد العلماء، فإذا صبر؛ أكرمه في الدنيا بأربع: بعز القناعة، وبهيبة النفس، وبذلة العلم، وبحياة الأبد، وأثابه في الآخرة بأربع: بالشفاعة، وبظل تحت العرش، وبالسقي من الحوض، ومجاورة الأنبياء عليهم
%ص 2%
السلام.
(1/5)
الفصل الرابع: فيما يتعلق بالبخاري.
اتفقت الأمة على أنَّه ليس بعد كتاب [الله] أصح من «صحيحي البخاري ومسلم»، واختلف في أرجحية أحدهما على الآخر، فرجح البعض منهم المغاربة: «صحيح مسلم» على «صحيح البخاري»، والجمهور: على ترجيح «البخاري» على «مسلم»؛ لأنَّه أكثر فوائد منه، كما بسطه الإمام بدر الدين العيني قدس سره، قال: (وهو أول كتاب صنف في الحديث الصحيح، وصنفه في ستة عشر سنة ببخارى، وقيل: بمكة، وقيل: في المسجد الحرام، [قال]: وما أدخلتُ فيه حديثًا إلا بعد أن صليت ركعتين، وتيقنت صحته، قال: ويجمع بأنه كان يصنف فيه بمكة، والمدينة، والبصرة، وبخارى) اهـ
==========
%ص 3%
==================
(1/6)
الفصل الخامس: في ذكر نسب البخاري.
فهو الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة_ بضم الميم، وكسر المعجمة_ ابن بَرْدِزْبَه_ بفتح الموحدة، وسكون الراء، بعدها دال مهملة مكسورة، فزاي ساكنة، فموحدة مفتوحة، فهاء؛ ومعناه بالفارسية: الزرَّاع_ الجُعْفِيُّ؛ بضم الجيم، وسكون العين المهملة، بعدها فاء.
وكان بَرْدِزْبَه فارسيًا على دين قومه، ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجُعفيِّ والي بخارى، فنسب إليه نسبة ولاء، ويمان هذا هو جد المؤلف، وأما إبراهيم بن المغيرة؛ فلم أر من ترجمه.
ولد البخاري يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة من شوال سنة أربع وتسعين ومئة ببُخارى_ بضم الموحدة، وفتح الخاء المعجمة، وبعد الألف راء_ وهي من أعظم مدن ما وراء النهر، ألف هذا «الجامع»، و «الأدب المفرد»، و «بر الوالدين»، و «التاريخ الكبير»، و «الأوسط»، و «الصغير»، و «خلق أفعال العباد»، وله تأليف آخر، وبالجملة ففضائله كثيرة مشهورة.
==========
%ص 3%
(1/7)
بيان شروح هذا الصحيح:
شرحه الإمام أبو سليمان حمد الخطابي، وشرحه أبو جعفر أحمد الداودي، وشرحه المهلب، وشرحه أبو الحسن علي بن خلف المالكي المشهور بابن بطال، قال القسطلاني: (وغالب هذا الشرح في فقه مالك من غير تعرض لموضوع الكتاب) اهـ.
قلت: هذا كلام واهٍ؛ لأنَّ ابن بطال مشهور بالعلوم، فكيف لا يتعرض لموضوع الكتاب.
وشرحه أبو حفص عمر الإشبيلي، وأبو القاسم أحمد التيمي، وعبد الواحد ابن التين السفاقسي، وابن المُنَيِّر، والإمام قطب الدين عبد الكريم الحلبي الحنفي بشرح لطيف فيه نكت لطيفة، ولطائف شريفة، وشرحه الإمام شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني بشرح مفيد، قال ابن حجر العسقلاني: (لكن فيه أوهام؛ لأنَّه لم يأخذه إلَّا من الصحف). اهـ
قلت: هذا كلام مردود، فالأوهام تحيط بقليل البضاعة والفهم، وأخذه من الصحف ليس مَعِيبًا؛ لأنَّه أتقن في التثبت خصوصًا في هذا الكتاب.
وشرحه البرماويُّ أخذه من شرح الكرماني، كما قال في أوله.
وشرحه الشيخ برهان الدين الحلبي، وسماه: «التلقيح».
وشرحه ابن حجر العسقلاني، وسماه: «فتح الباري»، أخذه من شرح الحلبي حين كان بحلب، وقد اعتنى به الشافعية، واشتهر عندهم، ومدحوه غاية المدح، ولا غرو، فإن التطويل فيه غاية موجب للسآمة، والأوهام التي فيه لا تحيط بحصر، وقد ألف بعض الفضلاء كتابًا في ذلك سماه: «كشف الحجاب عن العوام فيما وقع في الفتح من الأوهام»، ومن جملة ما طُعن به عليه: أنَّ من عادة البخاري تكرار الأحاديث في مواضع متعددة، وعادة العسقلاني يشرح الحديث في موضع، ثم يتركه في آخر، ويحيل على الأول، وهذا غاية السآمة، ويعتمد في الإعراب على الأقوال الشاذة الضعيفة، ويعتمد على أقوال الشافعي في القول القديم، ويرجح قولًا في باب، ويعتمد غيره في باب آخر، مع ما فيه من التطويل الممل وكثرة الأقوال المخل، وفي ذلك ألف بعض الأفاضل كتابًا سماه: «منهل العليل المطل على ما وقع في الفتح من التطويل المخل».
وشرحه الإمام الكبير علامة الدنيا والفاضل الهمام بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني الحنفي في خمس مجلدات كبار، وسماه: «عمدة القاري»، فإنه شرح نفيس ما سمع بمثاله ونظيره بما اشتمل عليه من الترتيب العجيب، والفوائد البديعة الغريبة، والأبحاث الرائقة العجيبة، شرع في تأليفه في رجب سنة إحدى وعشرين وثمان مئة، وفرغ منه في أواخر الثلث من ليلة السبت خامس شهر جماد الأولى سنة سبع وأربعين وثمان مئة بمدرسته التي أنشأها بحارة كتامة بالقرب من الجامع الأزهر، وما قيل من أنه استمده من «فتح الباري» كان يستعيره ابن خضر؛ فباطل لا أصل له، بل هو كلام الحساد المتعصبين.
ونقل القسطلاني عن بعضهم: أنه ذكر لابن حجر ترجيح شرح البدر العيني بما اشتمل عليه من سياق الحديث بتمامه، وإفراد كل من تراجم الرواة بالكلام، وبيان الأنساب، واللغات، والإعراب، والمعاني، والبيان، واستنباط الأحكام، والأسئلة، والأجوبة، فقال: هذا شيء نقله من شرح لركن الدين. اهـ
قلت: هذا كلام لم يقله كابل فضلًا عن فاضل، وإذا كان يعلم أنه موجود شرح لركن الدين، فلما نقل عنه وحذا حذه لما رأى من البلاغة والتحقيق، فهو كلام باطل لا أصل له.
وما قيل: إن الإمام العيني بعد الجزء الأول لم يتكلم كما تكلم في أول كتابه؛ لأنَّه كان عنده قطعة من شرح ركن الدين؛ فهو كلام باطل؛ لأنَّ عادة البخاري تكرار الأحاديث، فإذا تكلم على حديث بما يتعلق به على عادته، وذكر في محل آخر، فإنه يقتصر الكلام عليه، ويبين المعاني، والمنطوق، والإعراب، وغيره بأخصر مما سبق، وهو لا عيب فيه.
وبالجملة: فإنَّ الشافعية طبعهم ودأبهم القدح في الأئمة الحنفية؛ إما في كتبهم، أو في كلامهم، أو غير ذلك، وذلك من عدم الحياء والأدب [1]، ولم أر أحدًا أطول لسانًا منهم أصلحهم الله تعالى، وأرضى عنهم أئمتنا الأعلام.
ومن حسن شرح البدر العيني أنه يبين في شرحه الخطأ الذي وقع فيه العسقلاني في «الفتح»، ويرده، وألف محمد بن المنصور المعزاوي أجوبة عن الاعتراضات على ابن حجر، قال القسطلاني: (لكنه لم يجب عن أكثرها).
قلت: لما أنها في محل التحقيق والتدقيق.
وقد ألف بعض الفضلاء كتابًا سماه: «السم القاتل العريني للطاعن على الإمام العيني»، وألف بعض آخر كتابًا سماه: «الطوب الرديني في قلب الطاعن على العيني»، وسبب ذلك أنه كان ابن حجر يدرس في الجامع المؤيدي، ففي شهر ربيع الأول سنة أحد وعشرين وثمان مئة ظهر بالمأذنة اعوجاج، فأمروا عليها بالهدم، فهدمت، فأنشأ يقول:
... ~لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارة تزهو من الحسن والزين
... ~تقول وقد مالت عليهم تمهلوا ... فليس على جسمي أضر من العين
فتحدث الناس في ذلك، فبلغ الشيخ الإمام بدر الدين العيني، فعارضه ارتجالًا حيث قصد بالعين التورية إليه، وشبهه بالعين الصائبة، فقال:
... ~منارة كعروس الحسن إذ جليت ... وهدمها بقضاء الله والقدر
... ~قالوا: أصيبت بعين قلت: ذا غلط ... ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر
وبعد ذلك حصل بينهما الاعتراضات والجوابات، وكان السبب من ابن حجر؛ لأنَّه ابتدأ في ذلك، وتكفيه أنه غيبة من الكبائر المنهي عنها، وكان الإمام العيني حسن الخلق، ذي مهابة وجلالة، وقدر وعز، وله تأليف في كل فن؛ الأصول، والفقه، والحديث، والنحو، والشعر، وغيرها رضي الله عنه.
وعلى كلٍّ: فهو شرح عظيم الشأن، كثير الفوائد والمعان، لم يسبق ولا يسبق بنظيره؛ لما حواه من الترتيب العجيب، وليس الخبر كالعيان.
وشرحه الشيخ أحمد القسطلاني، أخذه من شرح البدر العيني، كما يعلم ذلك من تتبع عبارتهما، وفي الحقيقة: كلهم عيال لشرح البدر العيني نفعنا الله به.
وشرحه الإمام العلامة الشهاب أحمد المنيني العثماني، لكنه لم يكمل، وشرحه العلامة الشيخ إسماعيل العجلوني، لكنه لم يكمل أيضًا، فرأيتهما وطالعتهما، فرأيت شرح العجلوني لا فائدة فيه؛ لما اشتمل عليه من الأبحاث التي في غير محلها مع التطويل الممل، والتعطيل المخل، وقد أخذه من شرح القسطلاني، وأما شرح المنيني، فلو كمل؛ لكان مفردًا؛ لما فيه من التحقيق، والتدقيق، والأبحاث المفيدة الرائقة.
وله شروح أخر أضربت عليها؛ خوف الإطالة، وفي هذا القدر كفاية.
==========
[1] رحم الله المؤلف وعفى عنه، فقد وقع فيما رمى به الأئمة الشافعية رضوان الله عليهم أجمعين.
%ص 3%
==================
(1/8)
أمَّا إسنادي في هذا الكتاب إلى مؤلفه؛ فأرويه من طرق عديدة:
فإني قرأته على الإمام العلامة والمحقق المدقق الفهامة رئيس العلماء الأعلام الملقب بالإمام الأعظم الصغير شيخ الإسلام والمسلمين خاتمة الفقهاء والمحدثين الشيخ عبد الله أفندي بن المرحوم علامة الأقطار والأمصار الشيخ سعيد الحلبي الأصل، الدمشقي الموطن، الحنفي.
وقرأته على الإمام العلامة المحقق مفتي الشافعية السيد نور الدين عمر أفندي الغزي العامري.
وقرأته على الإمام العلامة حاوي المعقول والمنقول الشيخ حسن الشطي الحنبلي.
وقرأته على الإمام العلامة فقيه الزمان، ومحقق مذهب النعمان، الفاضل الكامل، ذي [1] التحارير الفائقة، والفوائد الرائقة، السيد أحمد أفندي بن المرحوم العلامة السيد عمر أفندي الإسلابولي الأصل، الدِّمشقي الموطن، الحنفي، شارح «الدرر والغرر».
وقرأته على الإمام العلامة المدقق الفهامة الشيخ سليم بن الشيخ ياسين بن الإمام العلامة الكبير محرر مذهب محمد بن إدريس الشيخ حامد العطار.
%ص 3%
أما الأول؛ فيرويه عن والده المذكور، عن الإمام الشيخ محمد الكزبري، عن والده الشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشهاب أحمد المنيني، والشيخ علي الكزبري، وهؤلاء الثلاثة يروون عن الإمام العارف الشيخ عبد الغني النابلسي، والشيخ محمد الكاملي، عن نجم الدين محمد الغزي، عن والده الشيخ بدر الدين محمد الغزي، عن القاضي زكريا الأنصاري، عن ابن حجر العسقلاني.
وأما الثاني؛ فيرويه عن الإمام الشيخ محمد الكزبري بالسند إلى القاضي زكريا المتقدم.
وأما الثالث؛ فيرويه عن الإمام الشيخ مصطفى الأسيوطي المفتي الحنبلي، عن الشيخ أحمد البعلي الحنبلي، عن الشيخ أبي المواهب الحنبلي، عن والده الشيخ عبد الباقي الحنبلي، عن الشيخ محمد حجازي الواعظ، عن محمد بن أركماس، عن ابن حجر العسقلاني.
وأما الرابع؛ فيرويه عن الشيخ عبد الرحمن الكزبري، عن والده الشيخ محمد، عن والده الشيخ عبد الرحمن بالسند المتقدم.
وأما الخامس [2]؛ فيرويه عن جده الشيخ حامد العطار، عن والده الشيخ أحمد العطار، عن الشيخ إسماعيل العجلوني والشهاب أحمد المنيني والشيخ محمد الغزي؛ وهم يروون عن الشيخ محمد أبي المواهب الحنبلي، عن النجم الغزي، عن البدر الغزي، عن القاضي زكريا، عن ابن حجر العسقلاني.
وسند ابن حجر معلوم من «شرحه»؛ قال: (أرويه عن إبراهيم التنوخي، عن أحمد الصالحي، عن سراج الدين الزبيدي، عن أبي الوقت، عن الشيخ عبد الرحمن الداودي، عن عبد الله بن حمويه، عن الفربري، عن البخاري).
ولي طريق آخر لشيخي الرابع؛ أرويه عن شيخي أحمد أفندي، عن شيخه السيد محمد عابدين محشي «الدر المختار»، عن شيخه الشيخ شاكر مقدم سعد، عن الشيخ محمد الكزبري بالسند إلى القاضي زكريا، عن كمال الدين بن الهمام السيواسي، عن الإمام بدر الدين العيني، وسنده مذكور في خطبته، ولولا الإطالة؛ لفصَّلنا الإسنادات، وفي هذا القدر كفاية.
==========
[1] في الأصل: (ذوي).
[2] في الأصل: (أما الرابع)، والمثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ذوي).
[1] في الأصل: (ذوي).
(1/9)
الكلام على البسملة
({بسم الله الرحمن الرحيم})
ولما كان من الواجب صناعةً على كلِّ مصنِّف ثلاثة أشياء: البسملة، والحمدلة، والصلاة، ومن الجائز أربعة أشياء: مدح الفن، وذكر الباعث، وتسمية الكتاب، وبيان كيفيَّته من التبويب وغيرها؛ فبدأ المصنَّفُ بالبسملة لذلك، ولأنَّها مفتتحة في كتاب الله تعالى، ولقوله عليه السلام: «كلُّ أمرٍ ذي بال لا يبدأُ فيه ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم فهو أقطع»، وفي رواية: «بذكر الله»، وفي رواية: «أجذم»، وفي رواية: «أبتر»، والمراد بـ «الأمر»: أمر مقصود لم يجعل له الشارع مبدأً مخصوصًا، فإن جُعِلَ؛ فهي بحسب ما جعلها الشارع، والمراد بـ «الأقطع»: مقطوع اليد، والأجذم: مقطوع الأنف، والأبتر: مقطوع الذنب، فالكتاب ليس له يد ولا أنف ولا ذنب، فإذا لم يبدأ بالبسملة؛ يكون ناقص البركة؛ وهي عدم الانتفاع به، وورد: «كلُّ أمرٍ ذي بال لا يبدأُ فيه بالحمد لله؛ فهو أجذم»، وفي رواية: «أقطع»، وفي رواية: «بحمد الله»، روى ذلك أبو داود، وابن حبان، وأبو عَوانة، والنسائي، وابن ماجه.
فـ (الحمدلة): مأمور بها كلُّ مصنِّف صناعةً وشرعًا؛ لهذه الأحاديث، فإذا لم يأت بها؛ يكون كتابه ناقص البركة، وكذا الصلاة عليه عليه السلام، أجيب في ذلك أجوبة، وكلَّها واهية لا يُعتَدُّ بها، والأحسن ما أجاب به الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه: (أنَّ المؤلف أتى بالحمدلة بعد البسملة في «مسودته»، كما ذكره في بقية مصنفاته، وسقطت من بعض المبيِّضين، واستمر على ذلك) انتهى؛ فليحفظ.
وما قيل: إن المؤلِّف تلفَّظ بذلك، وإنَّه ليس في الحديث ما يدل على أنَّه لا يكون إلَّا بالكتابة ممنوع؛ لأنَّ المقصود من البسملة والحمدلة التبرُّك باسمه تعالى، ولا يحصل ذلك إلَّا بالكتابة؛ فافهم.
ولا معارضة بين حديث البسملة والحمدلة؛ لحمل حديث البسملة على الابتداء الحقيقي، وحمل حديث الحمدلة على الابتداء العوني؛ وهو ما قُدِّم أمام المقصود كما بيَّنت ذلك في شرحي على «الأزهرية».
ثمَّ إنَّ الباء حرف جرٍّ أصليّ، ولا بدَّ له من متعلَّق ومعنى، فمعناها: المصاحبة أو الاستعانة، ومتعلَّقها: إمَّا اسم أو فعل، وكلِّ منهما إمَّا خاص أو عام، وكلٌّ منهما إما مقدَّم أو مؤخَّر، فهذه احتمالات ثمانية، فاختير منها الفعل؛ لأنَّ الأصل في العمل له، وأن يكون مؤخَّرًا؛ لإفادة الحصر، وأن يكون خاصًّا؛ لأنَّ كلَّ شارعٍ في فنِّ يضمر ما جعل التسمية مبدأً له؛ وأمَّا ظهور المتعلَّق في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]؛ فلأنَّ الأهم ثَمَّة القراءة، بخلاف البسملة؛ فإنَّ الأهم فيها الابتداء.
ولفظ الجلالة: عَلَم على واجب الوجود المستحِقِّ لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم عند المحققين؛ منهم إمامنا الأعظم وأصحابه، وسيدي عبد القادر الكيلاني، وليس بمشتق، وعربيٌّ على الصحيح عندهم.
و (الرحمن) و (الرحيم): اسمان مشتقان من الرحمة؛ وهي رقة القلب؛ وهي مستحيلة عليه تعالى، والمراد لازمها؛ وهو الإنعام، وقدَّم الرَّحمن؛ لأنَّه أبلغ من حيث إنَّه عام في الدنيا والآخرة، وأمَّا الرَّحيم؛ فمختص بالآخرة، وهل الاسم عين المسمَّى أو غيره فيه خلاف، وأما أسماؤه تعالى؛ فتوقيفية على الصحيح، وتمامه في شرحنا على «القدوري».
==================
(1/10)
((1)) كتَابُ بَدْءِ الوَحْي
(1/11)
(بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):
كذا لأبي الوقت وابن عساكر والباقي، ولأبي ذرٍّ والأصيلي إسقاط لفظ (باب)، وهو بالرفع خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب، ويجوز فيه التنوين وعدمه، ويجوز في (باب) النصب بفعل محذوف؛ أي: اقرأ، والجر بحرف مقدر؛ أي: انظر إلى باب، ويجوز فيه الوقف بالسكون، ومعنى (الباب): النوع، وأصله: (بوَب)، وجمعه: أبواب.
و (البدء)؛ بالهمز مع سكون الدال: من الابتداء؛ بمعنى: الظهور.
و (الوحي): الإعلام، وفي الشرع: إعلام الله الأنبياء الشيء إمَّا بكتاب، أو برسالة ملك، أو منام، أو إلهام، ويجيء بمعنى الأمر؛ نحو: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ} الآية [المائدة: 11]، وبمعنى التسخير؛ نحو: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، ويعبر عن ذلك بالإلهام والإشارة؛ نحو: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11]، وقد يطلق على الموحى؛ كالقرآن والسنة، من إطلاق المصدر على المفعول.
والتصلية جملة خبرية، ولما كانت دعاء؛ صارت إنشاء، ومعناها: اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد، اهـ
(وَقَوْل اللهِ عَزَّ وَجَلَّ): كذا لأبوي ذر [والوقت] والأصيلي، ولابن عساكر: وقول الله سبحانه، ولغيرهم: وقول الله جلَّ ذكره، و (قول): مجرور، عطف على محل الجملة التي أضيف إليها الباب؛ أي: باب كيف كان ابتداء الوحي ومعنى قوله تعالى، ويجوز رفعه مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: وقوله كذا.
({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}) وحي إرسال فقط ({كَمَا أَوْحَيْنَا})؛ أي: كوحينا، فالكاف للتشبيه، ({إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}) [النساء: 163]، زاد أبو ذر: الآية، وإنَّما خَصَّ نوحًا؛ لأنَّه أول مشرِّع، ورُدَّ بأنَّ أوَّلَ مشرِّعٍ آدمُ، ثم شيث، ثم إدريس، وقيل: إنَّما خصَّه؛ لأنَّه أول رسول أُوذيَ من قومه، وقيل: لأنَّه أول أولي العزم، ورُدَّ: بأن آدم من أولي العزم، أجيب بقوله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]، والأحسن في الجواب كما قاله البدر العيني: (إنما خصَّه؛ لأنَّه هو الأب الثاني، وجميع أهل الأرض من ولده الثلاثة؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} [الصافات: 77]، وهم سام وحام ويافث، فإن الناس هلكوا بالطوفان إلا أصحاب السفينة، قيل: كانوا ثمانية بالنساء، وقيل: أكثر، وكلهم ماتوا خلا نوحًا وبنيه وأزواجهم) انتهى؛ فليحفظ.
==========
%ص 4%
==================
(1/12)
[حديث: إنما الأعمال بالنيات]
1# (حدثنا الحميدي): بضم المهملة وفتح الميم؛ نسبة إلى جده الأعلى حميد، أو إلى حميدات قبيلةٌ، المتوفى سنة تسع عشرة ومئتين، وليس هو صاحب «الجمع بين الصحيحين»، ولغير أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: (حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير).
(قال: حدثنا سفيان) بن عيينة التابعي المكي المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، ولأبي ذر عن الحموي: (عن سفيان).
(قال: حدثنا يحيى بن سعيد): وهو ابن قيس (الأنصاري) المدني التابعي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومئة، ولأبي ذر: (عن يحيى).
(قال: أخبرني): بالإفراد؛ لأنَّه قرأ على الشيخ وحده (محمد بن إبراهيم) بن الحارث (التيمي)؛ نسبة إلى تيم قريش، المتوفى سنة عشرين ومئة: (أنه سمع علقمة) أبا واقد؛ بالقاف (ابن وقَّاص) بتشديد القاف (الليثي) بالمثلثة؛ نسبة إلى ليث بن بكر، قيل: صحابي، وقيل: تابعي، المتوفى بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان، (يقول: سمعت) أمير المؤمنين ثاني خلفاء سيد المرسلين (عمر بن الخطاب) بن نُفَيل؛ بضم النون، وفتح الفاء، المتوفى سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه؛ أي: سمعت كلامه حال كونه (على المنبر) النبوي المدني؛ وهو بكسر الميم من النبرة؛ وهي الارتفاع؛ أي: سمعته حال كونه (قال)، ولأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر: (يقول): (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: سمعت كلامه حال كونه (يقول)، فـ (يقول): في موضع نصب حالًا من (رسول الله عليه السلام)؛ لأنَّ (سمعت) لا يتعدَّى إلى مفعولين؛ فهي حال مبيِّنة للمحذوف المقدَّر بكلام؛ لأنَّ الذات لا تسمع، وأتى بالمضارع في رواية من ذكرها بعد سمع الماضي؛ إما بحكاية الحال وقت السماع، أو لإحضار ذلك في الذهن.
(إنَّما الأعمال) الصادرة من المكلفين كاملة ومثاب عليها، (بالنيات) بالجمع، وفي بعض الروايات بالإفراد، وتقدير الكمال أو الثواب هو المطرد؛ لأنَّ كثيرًا من الأعمال يوجد ويعتبر شرعًا بدون النية، ولأنَّ إضمار الثواب متفق عليه على إرادته، ولأنَّه يلزم بها من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس، فكان أقل إضمارًا، فهو أولى، ولأنَّ إضمار الجواز والصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو ممنوع، ولأن العامل في قوله: (بالنيات) مقدر بإجماع النحاة، فلا يجوز أن يتعلَّق بـ (الأعمال)؛ لأنَّها رفع بالابتداء، فيبقى بلا خبر، فلا يجوز، فالمقدر إما مجزئة أو صحيحة أو مثيبة، فالمثيبة أولى لوجهين:
أحدهما: أنَّ عدم النية لا يُبطل أصل العمل، وعلى إضمار الصحة والإجزاء يبطل.
الثاني: أنَّ قوله: (لكلِّ امرئ ما نوى) يدُلُّ على الثواب والأجر، وعلى كلٍّ فالحديث متروك الظاهر بالإجماع، والذوات لا تنتفي بلا خلاف، فيحتاج إلى الإضمار، وإنما يكون الإضمار على خلاف الأصل، فالمراد بـ (الأعمال) حكمها، والحكم نوعان: نوع يتعلق بالآخرة؛ وهو الثواب أو العقاب، ونوع يتعلق بالدنيا؛ وهو الصحة أو الفساد، والنوعان مختلفان المبنى؛ فالأول: على صدق العزيمة، والثاني: على وجود الأركان والشرائط، ولما اختلف الحكمان؛ صار الإثم بعد كونه مجازًا مشتركًا، ولا يكفي في تصحيحه ما هو المتفق عليه
%ص 4%
وهو الحكم الأخروي، ولا دليل على ما اختلف فيه، فبقي الثواب أو العقاب، وانتفى الصحة أو الفساد، وهذا مذهب إمامنا الأعظم وأصحابه: أبي [1] يوسف ومحمد وزفر، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، ومالك في رواية.
وكذا الغسل، وعند الأوزاعي والحسن التيمم أيضًا، وقال عطاء ومجاهد: إن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية إلَّا أن يكون مسافرًا أو مريضًا، وقال مالك في رواية عنه وتلميذ الشافعي وتلميذه أحمد ابن حنبل: إنَّ النية في الأعمال كلِّها فرض لهذا الحديث، ولا دلالة لهم فيه لما علمت، وتمامه في شرحنا على «القدوري».
واختلف في (إنَّما) هل تفيد الحصر أم لا، وهل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم، وأصلها: (إنَّ) التوكيدية، دخلت عليها (ما) الكافة؛ وهي حرف زائد، وقيل: إنَّ (ما) نافية.
و (الباء) في (بالنيات) للمصاحبة أو للاستعانة، وقيل: للسببية، ولم يذكر سيبويه في معنى الباء إلَّا الإلصاق؛ لأنَّه معنى لا يفارقها.
و (النِّيَّات) بتشديد الياء: جمع نِيَّة؛ مِن نوى ينوي من باب ضرب، وهي لغة: القصد، وشرعًا: قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل، وإنما قال: (الأعمال)، ولم يقل الأفعال؛ لأنَّ الفعل يكون زمانه يسيرًا، ولم يتكرر، بخلاف العمل؛ فإنَّه على الاستمرار، ويتكرر.
(وإنَّما لكلِّ امرِئ): بكسر الراء، والمرء مثلث الميم: الإنسان أو الرجل، كما في «القاموس».
(ما نوى)؛ أي: الذي نواه أو نيته، وكذا لكل امرأة ما نوت؛ لأنَّ النساء شقائق الرجال، وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة، وحمله على التأسيس أولى؛ لإفادته معنى لم يكن في الأولى، وما ذكره بعض الشراح فليس بشيء؛ فافهم.
(فمن كانت هِجرته): بكسر الهاء؛ أي: خروجه من أرضٍ إلى أرض، (إلى دنيا يصيبها): جملة محلها الجر؛ صفة لدنيا؛ أي يحصِّلُها، (أو إلى امرأة) ولأبي ذر: (أو امرأة)، (ينكحها) أي: يتزوجها كما في الرواية الأخرى، (فهجرته) بالكسر؛ أي: خروجه، (إلى ما هاجر إليه): من الدنيا والمرأة، والجملة: جواب الشرط في قوله: (فمن).
وسبب هذا الحديث: قصة مُهاجر أمِّ قيس، المروية في «معجم الطبراني الكبير» بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس؛ فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر؛ فهاجر فتزوجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس.
قال في «شرح الأربعين»: ولم نر له أصلًا بإسناد يصح.
قال بعض الشراح: ولم يسم الرجل؛ فتأمل.
والمهاجرة المذمومة؛ إذا كانت على هذه الصفة، أما من هاجر من دار الكفر وتزوَّج [2] المرأة؛ فإنه لا يكون مذمومًا.
و (الدُّنيا) بضم الدال: مقصورة غير منونة للتأنيث والعلمية، وقد تكسر وتنون، قال في «القاموس»: (الدنيا ضد الآخرة، وقد تنون، وجمعها: دنى) اهـ، وإنما سميت بذلك لدنوِّها؛ أي: قربها من الزوال.
وفيه الرواية بالتحديث، والإخبار، والسماع، والعنعنة.
وأخرجه المؤلف في (الإيمان)، و (العتق)، و (الهجرة)، و (النكاح)، وستأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى، واحتج بهذا الحديث الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد: في أنَّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج؛ أنَّه لا ينعقد عمرة؛ لأنَّه لم ينوها، وخالفهم [3] الشافعي، واحتج به أيضًا الإمام الأعظم، ومالك، والثوري: أنَّ الرجل يصح حجه عن غيره ولا يصح عن نفسه، خلافًا للشافعي، وأحمد، والأوزاعي.
==========
[1] في الأصل: (أبو).
[2] في الأصل: (وتزويج).
[3] في الأصل: (خالهم).
==================
[1] في الأصل: (أبو).
[2] في الأصل: (وتزويج).
[1] في الأصل: (أبو).
[2] في الأصل: (وتزويج).
(1/13)
[حديث: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي]
2# وبالسند إلى المؤلف، قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي، المتوفى سنة ثماني [1] عشرة ومئتين، وفي (يوسف): تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه، (قال: أخبرنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، صاحب «الموطأ»، المتوفى سنة تسع وسبعين ومئة، وهو أحد مشايخ محمد ابن إدريس الشافعي.
(عن هشام بن عروة) بن الزبير بن العوام القرشي، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة ببغداد، (عن أبيه)؛ أبي عبد الله عروة، المتوفى سنة أربع وتسعين، (عن عائشة) بالهمز، وعوام المحدثين يبدلونها ياء (أم المؤمنين رضي الله عنها): قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]؛ أي: في الاحترام، والإكرام، وتحريم نكاحهن، والخلوة بهن، والمسافرة معهن، وتحريم نكاح بناتهن، والنظر إليهن، وهل يقال للنبي: أبو المؤمنين؟ فيه خلاف، فالمانع استدل بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40].
وأجاب المجيز بأن معناه: من رجالكم لصلبه. انتهى.
وهل عائشة أفضل من فاطمة؟ فيه خلاف، والأصح: أن عائشة أفضل، وجمع بأن فاطمة أفضل في الدنيا وعائشة أفضل في الآخرة، {وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} [البقرة: 105]، واختلف في وفاتها بعد الخمسين: إما سنة خمس، أو ست، أو سبع في رمضان، وعاشت خمسًا [2] وستين سنة، وتوفي عنها رسول الله وهي بنت ثماني عشرة، وأقامت عنده تسعًا [3]، وقيل: ثماني سنين، ولها في «البخاري» مئتان واثنان وأربعون حديثًا.
(أن الحرث بن هشام) بغير ألف بعد الحاء [4]: المخزومي؛ أسلم يوم الفتح، واستشهد بالشام سنة خمس عشرة، (رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القسطلاني: يحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك فيكون من مسندها، وأن يكون الحرث أخبرها بذلك فيكون من مرسل الصحابة؛ وهو محكومٌ بوصله عند الجمهور. انتهى، قلت: والظاهر الأول؛ فليحفظ.
(فقال: يا رسول الله؛ كيف يأتيك الوحي؟)؛ أي: صفة الوحي نفسه، أو صفة حامله، أو أعم، فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): ولأبوي ذر والوقت: (قال رسول الله عليه السلام): (أحيانًا)؛ أي: أوقاتًا؛ بالنصب على الظرفية، وعامله: (يأتيني) مؤخر عنه؛ أي: يأتيني الوحي إتيانًا (مثل) بالنصب: حال؛ أي: يأتيني مشابهًا صوتُه (صَلْصَلة الجرس)؛ بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة. و (الجرس)؛ بالجيم والمهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، والصلصلة: صوت حفيف أجنحة الملك؛ لما في الرواية الأخرى: (كأنه سلسلة على صفوان)، وإنما يقدمه حتى يفرغ من العمل، فيأتيه وهو خال عن الشغل (وهو أشده علي) الواو للحال، (فيَفْصِم عني) الوحي والملك، بفتح المثناة التحتية، وسكون الفاء، وكسر المهملة، كذا لأبي الوقت، من باب ضرب، والمراد: أنه ينجلي ما يغشاه من الشدة.
(وقد وعَيت) بفتح العين؛ أي: فهمت (عنه) عن الملك (ما قال)؛ أي: القول الذي قاله.
واعلم أن الصوت له جهتان؛ جهة قوة، وجهة طنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطنين وقع التنفير عنه.
وفي «الطبراني» مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي؛ أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع أهل السماء؛ صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة، كلما مرَّ بسماء؛ سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.
(وأحيانًا)؛ أي: أوقاتًا (يتمثَّل)؛ أي: يتصوَّر (لي) لأجلي (الملك) جبريل (رجلًا) كدحية أو غيره، منصوب بنزع الخافض على الصواب، وقيل: على المصدرية، وقيل: على التمييز، وقيل: على المفعولية، والملائكةُ: أجسامٌ علوية لطيفة تتشكل بأي شكل شاء.
وقالت الفلاسفة: هي جواهر قائمة بنفسها، والحق: أنَّ تمثل الملك رجلًا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلًا؛ بل معناه: أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه، والظاهر: أن القدر الزائد لا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط، انتهى.
ولأبي الوقت: (يتمثل لي الملك على مثال رجل).
(فيكلمني فأعي)؛ أي: أفهم (ما يقول)؛ أي: الذي يقوله، فالعائد محذوف، و (الفاء) في الكلمتين: للعطف المشير للتعقيب، ووقع التغاير بين قوله: (وعيت فأعي)؛ لأنَّ الوعي في الأول: حصل قبل الفصم ولا يتصور بعده، وفي الثاني: في حالة المكالمة ولا يتصور قبلها، ومن الوحي: الرؤيا الصادقة، قيل: إنَّ جبريل نزل على نبينا عليه السلام أربعة وعشرين ألف مرة، وعلى آدم: اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس: أربعًا، وعلى نوح: خمسين، وعلى إبراهيم: اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربع مئة مرة، وعلى عيسى: عشرًا، كذا في القسطلاني عن «تفسير ابن عادل».
وبالإسناد السابق: (قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته) صلى الله عليه وسلم، والواو للقسم، واللام للتأكيد؛ أي: والله لقد أبصرته، (يَنزِل): بفتح أوله وكسر ثالثه، ولأبي ذر والأصيلي: (يُنزَل) بالضم والفتح، (عليه) عليه السلام، (الوحي في اليوم الشديد البرد فيَفصِم) بفتح المثناة التحتية وكسر الصاد، ولأبوي ذر والوقت: (فيُفصِم)؛ بضمها وكسر الصاد، من أفصم الرباعي؛ وهي لغة قليلة؛ أي: ينجلي (عنه) عليه السلام.
(وإن جبينه): قيل: الجبين غير الجبهة؛ وهو ما فوق الصدغ، والصدغ: ما بين العين والأذن، والظاهر: أن الجبين هو أعلى الجبهة من جهة الرأس، (ليتفصد) بالفاء والصاد المهملة المشددة؛ أي: ليسيل (عرَقًا) بفتح الراء: رشح الجلد من كثرة التعب عند نزول الوحي؛ لأنَّه أمر طارئ زائد على الطباع البشرية.
ورواته مدنيون إلَّا شيخ المؤلف، وفيه تابعيان، والتحديث، والإخبار، والعنعنة، وأخرجه المؤلف في (بدء الخلق)، ومسلم في (الفضائل).
==========
[1] في الأصل: (ثمان).
[2] في الأصل: (خمس).
[3] في الأصل: (تسع).
[4] كذا قال، وهكذا ترسم ولكن المحدِّثين يلفظونها: «الحارث».
%ص 5%
==================
[1] في الأصل: (ثمان).
[2] في الأصل: (خمس).
[3] في الأصل: (تسع).
[1] في الأصل: (ثمان).
[2] في الأصل: (خمس).
[3] في الأصل: (تسع).
(1/14)
[حديث: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة]
3# 4# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا)، ولأبي ذر بواو العطف (يحيى) أبو زكريا بن عبد الله (ابن بُكير) بضم الموحدة؛ تصغير (بكر) المخزومي المصري، المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومئتين، ونسبه المؤلف لجده لشهرته به.
(قال: حدثنا الليث) بالمثلثة؛ ابن سعد الفهمي عالم أهل مصر، من تابع التابعين، المتوفى سنة خمس وسبعين ومئة، وكان من أتباع الإمام الأعظم على التحقيق، وما قيل: إنه مجتهد؛ تعصُّب، قال الشافعي: الليث أفقه من مالك. انتهى، إلَّا أنه كان حنفي المذهب؛ فليحفظ.
(عن عُقَيل) بضم العين المهملة وفتح القاف مصغر، ابن خالد ابن عَقيل؛ بفتح العين، الأَيْلي؛ بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، الأموي، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة، (عن ابن شهاب) أبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، تابعي صغير، ونسبه المؤلف لجده الأعلى لشهرته، المتوفى بالشام سنة ست وتسعين ومئة، (عن عروة بن الزُبير) بضم الزاي؛ مصغر ابن العوام، (عن عائشة أم المؤمنين) رضي الله عنها وعن أبيها: (أنها قالت: أول ما بُدِئ به) بضم الموحدة وكسر الدال (رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي) أي: من أقسام الوحي، من ربه إليه: (الرؤيا الصالحة في النوم)، قيل: الحديث من المراسيل، والظاهر أنها سمعت ذلك من النبي عليه السلام، وإنما كانت الرؤيا من الوحي؛ لأنَّه لا مدخل للشيطان فيها، وفي رواية: (الصادقة) بدل (الصالحة)؛ وهي التي ليس فيها ضغث، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر، واحترز بقوله: (من الوحي) عما رآه من دلائل النبوة من غير وحي؛ كتسليم الحجر عليه كما في «مسلم»، وأوله ما سمعه من بحيرا الراهب
%ص 5%
كما في «الترمذي».
(فكان) بالفاء للأصيلي، ولأبوي ذر والوقت: بالواو؛ أي: النبي عليه السلام، (لا يرى رؤيا) بدون تنوين، وروي به، (إلا جاءت) وقعت (مثل)؛ بالنصب بمصدر محذوف؛ أي: إلا جاءت مجيئًا مثل (فلق الصبح)؛ كرؤياه دخول المسجد الحرام، والمعنى: أنها شبيهة له في الضياء والوضوح، وعبر بـ (فلق الصبح)؛ لأنَّ مبادئ النبوة الرؤيا، والفلق: الصبح، وهل أوحي إليه شيء من القرآن في النوم أم لا؟ والأشبه أن القرآن كله نزل يقظة، وإنما ابتدئ عليه السلام بالرؤيا؛ لئلا يفاجئه الملك.
(ثم حبب إليه الخلاء) بالمد؛ مصدر بمعنى الخلوة؛ أي: الاختلاء؛ بالرفع، نائب فاعل، وفيه تنبيه على فضل العزلة؛ لأنَّها تريح القلب من الاشتغال بالدنيا والتفرغ لعبادة الله تعالى، (وكان) عليه السلام (يخلو بغار حِراء)؛ بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، والأصيلي: فتحها والقصر، وهو مصروفِ إنْ أريد المكان، وممنوع منه إن أريد البقعة، فهي أربعة: التذكير، والتأنيث، والمد، والقصر، وحراء: جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، والغار نقب فيه؛ وهو الكهف.
(فيتحنث فيه)؛ بالحاء المهملة وآخره مثلثة؛ أي: يتبع دين إبراهيم؛ (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) مع أيامهن، واقتصر عليهن تغليبًا، و (الليالي): نصب على الظرفية، وأقل الخلوة: ثلاثة أيام، ثم سبعة، ثم شهر؛ لما عند المؤلف: جاورت بحراء شهرًا، وعند أبي إسحاق: أنه شهر رمضان، وما قيل: إنه أكثر فلم يصح، والخلوة: أمر مرتب على الوحي، وإنما خص حراء بالتعبد؛ لأنَّه له فضلٌ؛ من حيث إنه ينظر منه الكعبة، والنظر إليها عبادة، ولم يأت التصريح بصفة تعبده، وقيل: بالتفكر، والله أعلم.
(قبل أن يَنزِع)؛ بفتح أوله وكسر الزاي؛ أي: يشتاق ويرجع (إلى أهله) عياله (ويتزود لذلك)؛ برفع الدال؛ أي: يتخذ الزاد للخلوة، (ثم يرجع إلى خديجة) رضي الله عنها (فيتزود لمثلها)؛ أي: لمثل الليالي، وخص خديجة؛ لأنَّه كان يتزود من عندها دون غيرها، وفيه: أن الانقطاع عن الأهل ليس من السنة؛ أي: بالكلية.
(حتى جاءه) الأمر (الحق) الوحي (وهو في غار حراء، فجاءه الملك) جبريل يوم الاثنين لسبع عشرة من رمضان، وهو ابن أربعين سنة؛ كما رواه ابن سعد، (فقال) له: (اقرأ) ما أتلوه عليك، (قال) عليه السلام، ولأبوي ذر والوقت: (قلت): (ما أنا بقارئ)، وفي رواية: (ما أحسن أن أقرأ)، و (ما): استفهامية على التحقيق؛ فإنَّ الأخفش جوَّز دخول الباء في خبرها، والدليل على أنَّها استفهامية الرواية الأخرى عن أبي الأسود في (المغازي): (قال: كيف اقرأ؟)، وقيل: إنَّ (ما) نافية، واسمها (أنا)، وخبرها (بقارئ).
(قال) عليه السلام: (فأخذني) جبريل (فغطني)؛ بالغين المعجمة ثم المهملة؛ أي: ضمَّني وعصرني، وفي رواية: (فغتني)؛ بالمثناة الفوقانية؛ أي: حبسني، (حتى بلغ مني الجَهدَ)؛ بفتح الجيم ونصب الدال؛ أي: غاية الوسع، مفعولٌ حُذف فاعله، وروي: بضم الدال والرفع؛ أي: بلغ مني الجهد مبلغه، فهو فاعل (بلغ)، وهي الأوجه، (ثم أرسلني)؛ أي: أطلقني.
(فقال: اقرأ، قلت) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: (فقلت): (ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية)؛ أي: مرة ثانية، (حتى بلغ مني الجهد)؛ بالفتح والنصب، والضم والرفع؛ كما مر، (ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة)؛ أي: المرة الثالثة، وهذا من خصائصه عليه السلام، واستدل به: على أن المؤدب لا يضرب صبيًا أكثر من ثلاث ضربات.
(ثم أرسلني فقال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ})؛ أي: بكلام ربك الذي أتلوه عليك، ({الَّذِي خَلَقَ}) [العلق: 1]؛ أي: الذي له الخلق، أو الذي خلق كل شيء، ولا دلالة فيه للشافعي على وجوب قراءة التسمية في ابتداء كل قراءة؛ لأنَّ المراد المقروء؛ وهو كلام الله تعالى، وعن علي: (أن أول ما نزل من القرآن: ({قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151])، والجمهور: أن أول ما نزل منه هذه الآيات؛ فليحفظ.
({خَلَقَ الإِنسَانَ}): خصه بالذكر؛ لشرفه، ({مِنْ عَلَقٍ}) [العلق: 2]؛ بتحريك اللام: الدم الغليظ، والقطعة منه علقة، ({اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}) [العلق: 3]؛ الزائد في الكرم على كل كريم، (فرجع بها)؛ أي: بالآيات (رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى أهله، والظاهر أن (رجع) مخفف؛ أي: أنَّه بمجرد سماعها وقراءتها حفظها، ويحتمل أنه مشدد؛ أي: صار يكررها حتى حفظها، فسار إلى أهله حال كونه (يرجُف)؛ بضم الجيم: يخفق ويضطرب، (فؤادُه): قلبه وحواسه؛ لما ظهر له من الأمر الخارق للعادة، (فدخل) عليه السلام (على خديجة بنت خويلد)؛ أم المؤمنين رضي الله عنها، فأعلمها بما وقع له، (فقال) عليه السلام: (زمِّلوني زمِّلوني)؛ بكسر الميم مع التكرار مرتين: من التزميل؛ وهو التلفف، (فزمَّلوه)؛ بفتح الميم، (حتى ذهب عنه الرَّوع)؛ بفتح الراء؛ أي: الخوف.
(فقال) عليه السلام (لخديجة) رضي الله عنها (وأخبرها الخبر)؛ جملة حالية: (لقد)؛ أي: والله لقد (خشيت على نفسي) الموت من شدة الخوف أو المرض، (فقالت له) عليه السلام (خديجة) رضي الله عنها، ولأبي ذر: (قالت)؛ بإسقاط الفاء: (كلا) نفي وإبعاد؛ أي: لا تقل ذلك، (والله ما يُخْزِيْك الله أبدًا)؛ بضم المثناة التحتية، وبالخاء المعجمة الساكنة، والزاي المكسورة، وبالمثناة التحتية الساكنة: من الخزي؛ أي: ما يفضحك الله، ولأبي ذر عن الكشميهني: (ما يَحزنك الله)؛ بفتح أوله وبالحاء المهملة وبالنون: من الحزن؛ ضد الفرح.
(إِنك)؛ بكسر الهمزة؛ أي: المتصف بمكارم الأخلاق، (لتصل الرحم)؛ أي: القرابة، (وتحمل الكَلِّ)؛ بفتح الكاف وتشديد اللام: الثِّقْل؛ بكسر المثلثة وإسكان القاف؛ أي: تدفعه عن الضعيف والمنقطع، (وتَكسب المعدوم)؛ بفتح المثناة الفوقية؛ أي: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، و (كسب): يتعدى لواحد واثنين، ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني: (وتكسب)؛ بضم أوله من (أكسب)؛ أي: تكسب غيرك المال المعدوم، و (المعدوم): الرجل الفقير، وإنَّما سماه معدومًا؛ لكونه كالميت؛ من حيث العجز، والعديم: الذي لا عقل له.
(وتَقري الضيف) بفتح أوله بلا همز؛ ثلاثيًا، وسمع بضمها؛ رباعيًا؛ أي: تهيئ له طعامًا، (وتعين على نوائب الحق)؛ أي: حوادثه، وإنما قالت: نوائب الحق؛ لأنَّها تكون في الحق والباطل، وفيه إشارة إلى فضل خديجة وحسن رأيها.
(فانطلقت)؛ أي: مضت (به خديجة) رضي الله عنها؛ مصاحبة له، (حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة)؛ بنصب (ابن) الأخير بدلًا من (ورقة) أو صفة، ولا يجوز جره؛ لأنَّه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، وتكتب بالألف ولا تحذف؛ لعدم وقوعه بين علمين، وراء (ورَقة) مفتوحة، وتجتمع معه خديجة في أسد؛ لأنَّها بنت خويلد بن أسد.
(وكان) ورقة امرأ (قد) ترك عبادة الأوثان، و (تنصر)، وللأربعة: (وكان امرأ تنصر) (في الجاهلية)؛ بإسقاط (قد)، فإنَّه خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأَعجب ورقة النصرانية للُقيه من لم يبدل شريعة عيسى عليه السلام، (وكان) ورقة (يكتب الكتاب العبراني)؛ أي: الكتابة العبرانية، وفي رواية: (الكتاب العربي).
(فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب)؛ أي الذي شاء الله كتابته، و (العبراني)؛ بكسر العين: نسبة إلى (العِبْر)؛ بكسر العين وإسكان الموحدة، وزيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس، قيل: سميت بذلك؛ لأنَّ إبراهيم تكلم بها لما عبر الفرات فارًا من نمرود، وقيل: إن التوراة عبرانية، والإنجيل سريانية، وقيل: ما نزل من السماء وحي إلَّا عربي، وكانت الأنبياء تترجمه لقومها.
(وكان) ورقة (شيخًا كبيرًا) حال كونه (قد عمي، فقالت له خديجة) رضي الله عنها؛ (يا بن العم؛ اسمع)؛ بهمزة وصل (من ابن أخيك)؛ تعني: النبي عليه السلام؛ لأنَّ الأب الثالث لورقة؛ هو الأخ للأب الرابع لمحمد عليه السلام.
(فقال له) عليه السلام: (ورقة يا بن أخي: ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما)، وللأصيلي وأبي ذر: (بخبر ما) (رأى فقال له ورقة: هذا الناموس)؛ بالنون والسين المهملة: وهو صاحب السر الوحي، والمراد به جبريل (الذي نزل الله على موسى)، زاد الأصيلي: (صلى الله عليه وسلم)، و (نزل)؛ بحذف الهمزة.
وإنَّما خصَّ موسى مع كون ورقة نصرانيًّا؛ لأنَّ توراة موسى مشتمل على الأحكام، بخلاف الإنجيل؛ لأنَّه مشتمل على المواعظ، ولأنَّ نزول جبريل على موسى متفق عليه عند أهل الكتابين، بخلاف عيسى؛ فإنَّ اليهود ينكرون نبوته.
وفي رواية عيسى: (يا ليتني فيها)؛ أي: في مدة النبوة أو الدعوى، (جَذَعًا)؛ بفتح الجيم والمعجمة وبالنصب: خبر كان مقدرة، أو على الحال من ضمير خبر ليت المقدر، وللأصيلي وأبي ذر: (جذع)؛ بالرفع: خبر ليت، والجذع: هو الصغير من البهائم، ثم استعير للإنسان؛ أي: شابًّا قويًّا، (ليتني)، وللأصيلي: (يا ليتني)، (أكون حيًّا) عند ظهور نبوتك.
(إذ يخرجك قومك) من مكة، وفي رواية: (حين يخرجك قومك)، وإنما تمنَّى ورقة عود الشباب مع أنه مستحيل؛ لأنَّ التمني في الخير جائز ولو كان مستحيلًا، أو أنَّ التمني ليس مقصودًا على بابه.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوَ)؛ بفتح الواو (مخرجيَّ هم)؛ بتشديد الياء مفتوحة؛ لأنَّ أصله: مخرجوني، جمع: مخرج، من الإخراج، فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت ياء المتكلم وواو علامة الرفع، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت، ثم أبدلت الضمة كسرة وفتحت ياء (مخرجي)؛ تخفيفًا، و (هم): مبتدأ، خبره: (مخرجي) مقدمًا، ولا يجوز العكس؛ لأنَّه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة؛ لأنَّ الإضافة غير محضة بل لفظية.
(قال) ورقة: (نعم؛ لم يأت رجل قَطُّ)؛ بفتح القاف وتشديد المهملة مضمومة، وقد تكسر وقد تخفف، (بمثل ما جئت به): من الوحي (إلا عودي)؛ لأنَّ الإخراج عن المألوف موجب لذلك، (وإن يدركْني)؛ بالجزم بأن الشرطية (يومُك)؛ بالرفع: فاعل (يدركني)؛ أي: يوم ظهور نبوتك؛ (أنصرْك)؛ بالجزم: جواب الشرط، (نصرًا): بالنصب على المصدرية (مُؤزَّرًا)؛ بضم الميم، وفتح الزاي المشددة، آخره راء مهملة مهموزًا؛ أي: قويًّا بليغًا؛ وهو صفة لـ (نصر)، وفيه إشارة: إلى أنه أقر بنبوته، ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام؛ فيكون مثل بحيرا، وفي «المغازي»: أنه قال: أشهد أنك نبي مرسل.
وفي آخره: قال عليه السلام: «لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنَّه آمن بي وصدقني»، وأخرجه البيهقي، ففيه إشارة إلى ثبوت صحبته، وقد ذكره ابن منده في «الصحابة»؛ فتأمل.
(ثم لم يَنشب)؛ بفتح المثناة التحتية والمعجمة: أي: لم يلبث، (ورقةُ)؛ بالرفع: فاعل ينشب، (أن توفي)؛ بفتح الهمزة وتخفيف النون: وهو بدل اشتمال من (ورقة)؛ أي: لم تتأخر وفاته عن هذه القصة، واختلف في وقت موته؛ قيل: بمكة، وقيل: قتل ببلاد لخم.
(وفتر الوحي)؛ أي: احتبس ثلاث سنين أو سنتين ونصف، وفي رواية: (حتى حزن عليه السلام حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال).
(قال ابن شهاب) الزهري: (وأخبرني) بالإفراد (أبو سَلَمة)؛ بفتحتين: عبد الله (بن عبد الرحمن) بن عوف المتوفى بالمدينة سنة أربع وتسعين، وأتى بالواو العاطفة؛ لبيان أنه مسند في (الأدب) و (التفسير) مع الإخبار عن عروة، وحينئذٍ؛ فهو من التعاليق حقيقة ومعنًى، كما ذكره الإمام الكرماني، وما قاله في «الفتح»، وتبعه القسطلاني؛ فقد ردَّه الإمام بدر الدين العيني بما يطول؛ فليحفظ: (أن جابر بن عبد الله) بن عمرو (الأنصاري)
%ص 6%
الخزرجي، المتوفى بالمدينة سنة ثمان، أو أربع، أو تسع وسبعين؛ وهو آخرهم موتًا بالمدينة، (قال وهو يحدث عن فترة الوحي)؛ أي: عن حال احتباس الوحي عن النزول: (فقال) النبي عليه السلام (في حديثه: بينا) أصله: (بين)، فأشبعت فتحة النون فصارت ألفًا؛ وهي ظرف زمان مقطوع عن الإضافة بالألف، (أنا أمشي)، وجواب (بينا) قوله: (إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري؛ فإذا الملك) جبريل (الذي جاءني بحراء جالس)؛ خبر المبتدأ، وهو الملك، ويجوز نصب (جالس) على الحال، ويكون خبر المبتدأ محذوفًا (على كرسي)؛ بضم الكاف وقد تكسر: ما يُجلس عليه من الأعواد، (بين السماء والأرض) ظرف محله الجر صفة لـ (كرسي).
(فرُعِبت)؛ بضم الراء وكسر العين المهملة: مبني للمفعول، وللأصيلي: (فرَعُبت)؛ بفتح الراء وضم العين؛ أي: فزعت (منه)؛ أي: من الملك جبريل، (فرجعت) إلى أهلي (فقلت) لهم: (زملوني زملوني) بالتكرار مرتين، ولكريمة: مرة واحدة، وفي رواية: (دثروني)، (فأنزل الله تعالى) ولأبوي ذر والوقت: (عز وجل): ({يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ}) [المدثر: 1]؛ أي: المتدثر وهو لابسُ الدثار؛ وهو الثوب الذي يلبس فوق القميص، قيل: إن التدثير والتزميل؛ بمعنى واحد، والظاهر أن بينهما فرقًا خفيفًا؛ فالتزمل: التلفف بالثوب، والتدثر: بسط الثوب عليه، فالفرق بين اللف والبسط؛ فليحفظ.
({قُمْ فَأَنذِرْ}) [المدثر: 2] حذِّر من العذاب لمن لا يؤمن، ولا شك أنَّ الإنذار يكون عقب نزول الوحي؛ فليحفظ، (إلى قوله: {وَالرُّجْزَ})؛ أي: الأوثان، ({فَاهْجُرْ}) [المدثر: 5]، وللأربعة: (الآية).
(فحَمِي)؛ بفتح الحاء المهملة وكسر الميم: أي: فكثر، (الوحي)؛ أي: نزوله، (وتتابع)، ولأبي ذر: (وتواتر)؛ وهما بمعنى واحد، قاله القسطلاني، قلت: ليس كما قال؛ فإن (التتابع): ظهور الشيء وبعده الآخر وهكذا، و (التواتر): ظهور الأشياء بعضها عقب بعض؛ بمهملة بفتح الميم؛ فليحفظ، وإنما لم يقتصر على قوله: فحمي؛ لأنَّه لا يفيد التواتر والتتابع.
(تابعه)؛ أي: تابع يحيى بن بكير في رواية الحديث عن الليث (عبد الله بن يوسف) التنيسي، (و) تابعه (أبو صالح) عبد الله كاتب الليث، أو عبد الغفار بن داود البكري الحرَّاني، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين، وكلاهما عن الليث، وروى عنهما المؤلف، قال القسطلاني: ووهم ابن حجر العسقلاني في «فتحه الباري»؛ حيث جعل القائل عبد الغفار، انتهى.
قلت: ....
(وتابعه)؛ أي: تابع عقيل بن خالد في هذا الحديث (هلال بن رداد)؛ بدالين مهملتين، الأولى مشددة الطائي، وليس له في الكتاب إلا هذا الموضع، (عن الزهري) محمد بن مسلم، (وقال يونس) بن يزيد الأَيْلي؛ بفتح الهمزة وسكون التحتية: التابعي، المتوفى سنة تسع وخمسين ومئة، (ومَعْمَر)؛ بفتح الميمين وسكون العين: أبو عروة بن أبي عمرو بن راشد الأزدي الحراني؛ مولاهم، المتوفى سنة أربع وخمسين ومئتين: (بَوادره)؛ بفتح الموحدة: جمع بادرة؛ وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فوافقا عقيلًا، إلَّا أنهما قالا بدل (يرجف فؤاده): (ترجف بوادره)؛ وهما بمعنى واحد في المعنى؛ من حيث أنَّهما دالان على الفزع، ولأبي ذر وكريمة: (تواتر)، وهذا أول موضع ذكر المتابعة؛ وهي المشاركة في الرواية، فإن اتفقت رجال السند؛ تسمى: متابعة حقيقية تامة، وإن اختلفت الرجال؛ سميت: ناقصة، وقد تسمى: شاهدًا.
==========
[1] في الأصل: (فضلًا).
[2] في حاشية الأصل: (هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أم المؤمنين، تزوجها عليه السلام وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي أم أولاده خلا إبراهيم فمن مارية، ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها، حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح.
قال آدم: مما فضل الله به ابني عليَّ أنْ زوجه خديجة كانت عونًا له على تبليغ أمر الله، وإن زوجتي كانت عونًا لي على المعصية، كذا قال الإمام بدر الدين العيني).
==================
[1] في الأصل: (فضلًا).
(1/15)
[حديث: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة]
5# وبه قال: (حدثنا) ولأبي الوقت: (أخبرنا) (موسى) أبو سلمة (بن إسماعيل) المِنْقَري؛ بكسر الميم، وإسكان النون، وفتح القاف، المتوفى في سنة ثلاث وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة والنون: الوضاح بن عبد الله اليشكُري؛ بضم الكاف، المتوفى سنة ست وتسعين ومئة، (قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة)؛ أبو الحسن الكوفي الهمداني؛ بالميم الساكنة والدال المهملة، وأبو عائشة قيل: لا يُعرف اسمه؛ فتأمل.
(قال: حدثنا سعيد بن جُبير)؛ بضم الجيم، وفتح الموحدة، وسكون المثناة التحتية: ابن هشام الكوفي الأسدي، من التابعين الكاملين، قتله الحجاج بن يوسف صبرًا في شعبان سنة ست وتسعين، ولم يَقتل بعده أحدًا، بل لم يعش بعده إلَّا أيامًا قليلة؛ بسبب دعائه عليه، ورؤي في المنام الحجاج فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني الله بكل قتيل قتلة، إلَّا سعيد بن جبير؛ فإنِّي قتلت فيه مئة قتلة، رحمه الله تعالى.
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما؛ عبدِ الله حبرِ هذه الأمة، وترجمانِ القرآن، أبي الخلفاء، وأحدِ العبادلة الأربعة، المتوفى بالطائف، سنة ثمان وستين، عن إحدى وسبعين سنة، في أيام ابن الزبير، (في قوله تعالى) وللأصيلي: (عز وجل): ({لاَ تُحَرِّكْ بِهِ})؛ أي: القرآن ({لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}) [القيامة: 16] (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل) القرآني (شدة)؛ مفعول (يعالج)، والجملة خبر (كان)، (وكان) عليه السلام (مما)؛ أي: ربما (يحرك)، زاد في رواية به: (شفتيه) بالتثنية، وكان يكثر من ذلك حتى لا ينسى، أو لحلاوة الوحي في لسانه، قال ابن جبير: (فقال ابن عباس) رضي الله عنهما: (فأنا أحركهما)؛ أي: شفتي (لك)، وفي رواية: (لكم)، (كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما)، وإنما لم يقل: (كما رأيت) الآتي؛ لأنَّ ابن عباس لم يدرك ذلك، (وقال سعيد)؛ هو ابن جبير: (أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه)، وإنما قال ابن جبير: (كما رأيت ابن عباس)؛ لأنَّه رأى ذلك منه، بخلاف ابن عباس؛ فإنَّه لم يره؛ لأنَّ نزول آية القيامة سابق على مولده؛ لأنَّه قبل الهجرة بثلاث سنين، ونزول الآية في بدء الوحي، ويحتمل أنه أخبر ممن رآه، أو أنه عليه السلام أخبره بذلك.
وورد عند الطيالسي: أنَّ ابن عباس رأى النبيَّ يحركهما، وهذا الحديث يسمى: المسلسل بتحريك الشفة، لكنه لم يتصل تسلسله.
(فأنزل الله تعالى)، ولأبوي ذر والوقت: (عز وجل): ({لاَ تُحَرِّكْ}) يا محمد ({بِهِ})؛ أي: بالقرآن ({لِسَانَكَ}) قبل أن يتم وحيه ({لِتَعْجَلَ بِهِ}) [القيامة: 16]؛ أي: لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، وفي رواية: (عجل به) من حبه إياه، ({إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}) في صدرك ({وقُرْآنَهُ}) [القيامة: 17]؛ أي: قراءته، فهو مصدر مضاف للمفعول، والفاعل محذوف، والأصل: وقراءتك إياه.
وما ذكره ابن حجر مأخوذ من «شرح الإمام الكرماني»؛ رده الإمام بدر الدين العيني، ويأتي في (التفسير): أنه كان يحرك به لسانه وشفتيه، فجمع بينهما، وبه اندفع ذلك، (قال) ابن عباس: (جمَعَه)؛ بفتح الميم والعين (لك صدرُك) بالرفع على الفاعلية، وللأربعة: (جمعه الله في صدرك)، وهذا تفسير قوله: (جمْعه)؛ بسكون الميم، ولأبوي ذر والوقت: (جمْعُه لك صدرُك)؛ بسكون الميم وضم العين مصدرًا، ورفع راء (صدرُك) فاعل به، (و) قال ابن عباس في تفسير {قُرْآنَهُ}؛ أي: (تقرأَه)؛ بفتح الهمزة، وقال القاضي: إثبات قراءته في لسانك؛ وهو تعليل للنهي.
({فَإِذَا قَرَأْنَاهُ}) بلسان جبريل عليك ({فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}) [القيامة: 18] وتفسيره، كما (قال) ابن عباس: (فاستمع له)؛ أي: لا تكون قراءتك مع قراءته، بل تابعة لها، (وأَنصت)؛ بهمزة القطع مفتوحة: من أنصت، وقد تكسر؛ من نصت إذا سكت؛ أي: تكون حال قراءتك ساكتًا.
({ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}) [القيامة: 19] فسره ابن عباس بقوله: (ثم إن علينا أن تقرأه)، وفسره غيره: ببيان ما أشكل عليك من معانيه؛ وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب؛ كما في «البيضاوي»، وإنما قال عن وقت الخطاب؛ لأنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى العمل؛ لأنَّه تكليف بما لا يطاق؛ كما في «شيخ زاده».
(فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل)؛ ملك الوحي المفضل به على سائر الملائكة: (استمع، فإذا انطلق جبريل) عليه السلام، (قرأه النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قرأ)، ولأبي ذر: (كما كان قرأ)، وفي رواية: (كما قرأه) بضمير المفعول؛ أي: القرآن، ولما كان النزول في رمضان جملة واحدة؛ شرع بذكر حديث تعاهد جبريل له في رمضان، في كل سنة فقال:
==================
(1/16)
[حديث: كان رسول الله أجود الناس]
6# (حدثنا عبدان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحدة، وفتح المهملة: لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومئتين، عن ست وسبعين سنة، (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك بن واضح الحنظلي، التميمي، مولاهم المروزي، تابع التابعين؛ وهو من أتباع الإمام الأعظم، توفي سنة إحدى وثمانين ومئة، (قال أخبرنا يونس) بن يزيد بن مشكان الأيلي، المتوفى سنة تسع وخمسين ومئة؛ كما مر، (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب.
(قال) أي: المؤلف، وفي «الفرع»: (ح) مهملة مفردة في الخط، مقصورة في النطق؛ لأجل الجمع بين الإسنادين:
(وحدثنا بِشْر بن محمد)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة: المروزي السختياني، المتوفى سنة أربعٍ وعشرين ومئتين، (قال: أخبرنا عبد الله)؛ هو ابن المبارك الحنفي، (قال: أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه)، ولأبوي ذر والوقت: (نحوه عن الزهري) يعني: أنَّ ابن المبارك حدث به عبدان عن يونس وحده، وحدث به بشر عن يونس ومعمر معًا.
(قال) أي: الزهري (أخبرني) بالإفراد، ولأبي ذر: أخبرنا (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بن عتبة؛ بضم العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، وفتح الموحدة: ابن مسعود، أحد الفقهاء السبعة، التابعي، المتوفى سنة تسع وتسعين، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس)، بنصب (أجود) خبر (كان)؛ أي: أجودهم على الإطلاق، (وكان أجود ما يكون) حال كونه (في رمضان) برفع أجود؛ اسم (كان) وخبرها محذوف وجوبًا.
وللأصيلي وأبي ذر: (أجود) بالنصب خبر (كان)، ولأبي ذر: (فكان أجود) بالفاء، وفيه إشارة إلى أن جوده عليه السلام في رمضان أكثر من جوده في غيره، (حين يلقاه جبريل) عليه السلام، (وكان) جبريل (يلقاه)؛ أي: النبي عليه السلام.
وجوز الإمام الكرماني أن يكون الضمير المرفوع لـ (النبي)، والمنصوب لـ (جبريل)، ورجح الأول: الإمام بدر الدين العيني؛ لقرينة قوله: (حين يلقاه جبريل) (في كل ليلة من رمضان)، مصدر رَمَضَ إذا احترق، ممنوع من الصرف للزيادة، (فيدارسه القرآن)، بالنصب مفعول ثان لـ (يدارسه)، والفاء عاطفة، وإنما يدارسه حتى يتقرر عنده ويرسخ؛ وهذا إنجاز وعده تعالى له في قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} [الأعلى: 6].
(فلرسول الله)؛ مبتدأ، خبره قوله: (أجود بالخير من الريح المرسلة)؛ أي: المطلقة، وعبر بـ (المرسلة)؛ إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، كما أنه عليه السلام دائم الجود، والفاء في (فلرسول): للسببية، واللام للابتداء، وزيدت على المبتدأ؛ للتأكيد.
==========
%ص 7%
==================
(1/17)
[حديث أبي سفيان: أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش]
7# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان)؛ بفتح المثناة وتخفيف الميم واسمه: (الحكم بن نافع)؛ بفتح الحاء المهملة والكاف: الحمصي البهراني، مولى امرأة بهراء، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومئتين، وللأصيلي وكريمة: (حدثنا الحكم بن نافع) (قال: حدثنا شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة؛ بالحاء المهملة والزاي: دينار القرشي، الأموي مولاهم، أبو بشر، المتوفى سنة اثنين وستين ومئة.
(عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله بن عتبة بن مسعود) رضي الله عنه، (أن)؛ بفتح الهمزة: (عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (أخبره: أن)؛ بفتح الهمزة: (أبا سفيان)؛ بتثليث السين: يكنى أبا حنظلة، واسمه: صخر بالمهملة، ثم
%ص 7%
المعجمة (بن حرب)، بالمهملة والراء ثم الموحدة ابن أمية، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة الفتح، وشهد الغزوات، وتوفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين عن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان رضي الله عنه.
(أخبره: أن)؛ أي: بأن (هِرَقل)؛ بكسر الهاء وفتح الراء: غير منصرف للعلمية والعجمة، ولقبه قيصر، وأول من ضرب الدنانير، وملك الروم إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه توفي النبي عليه السلام، والظاهر أنه الموسكوف المسمى الآن بالروسية، وقيل: إنه الفراسة، (أرسل إليه)؛ أي: إلى أبي سفيان حال كونه (في)؛ أي: مع (ركب)؛ جمع راكب كصحب وصاحب؛ وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها، كذا قيل (من قريش) صفة لـ (ركب)؛ بضم القاف بعدها راء ومثناة تحتية ساكنة: وهم ولد النضر بن كنانة، وإنما سميت قريشًا: لأنَّهم كانوا يفتشون الحاج خلَّتهم فيسدونها، وقيل: من القرش، وقيل: باسم دابة في البحر، والله أعلم، و (من) إما بيانية أو تبعيضية، وكان عدد الركب ثلاثين رجلًا.
(و) الحال أنهم (كانوا تُجَّارًا)؛ بضم المثناة الفوقية وتشديد الجيم، على وزن (كفار) وعلى وزن (كلاب): جمع تاجر (بالشام) بالهمز، وقد تترك، وقد تفتح الشين مع المد، وقد دخلها عليه السلام مرتين قبل النبوة مع عمه أبي طالب حتى بلغ بصرى حين لقيه الراهب، ومرة في تجارة لخديجة إلى سوق بصرى، ومرتين بعد النبوة ليلة الإسراء وفي غزوة تبوك، وتمامه في «شرح الإمام بدر الدين العيني»، (في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ)؛ بتشديد الدال من (مادد)، فأدغم الأول في الثاني من المثلين: وهو مدة صلح الحديبية سنة ست، التي ماد (فيها أبا سفيان) زاد الأصيلي: (ابن حرب)، (وكفار قريش)؛ أي: مع كفارهم على وضع الحرب عشر سنين، ونصب (كفار) على المفعول معه.
(فأتوه)؛ أي: أرسل إليه في طلب إتيان الركب، (وهم) بالميم؛ أي: هرقل وجماعته، ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي: (وهو) (بإيلياء)؛ بهمزة مكسورة، فمثناتين آخر الحروف، أولاهما ساكنة، بينهما لام، آخره ألف مهموزة، بوزن كبرياء، [و] بالقصر، وهو بيت المقدس، (فدعاهم) هرقل حال كونه (في مجلسه وحوله)؛ بالنصب على الظرفية: خبر المبتدأ؛ وهو (عظماء الروم)؛ وهم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وفي رواية: (وعنده بطارقته، والقسيسون، والرهبان)، (ثم دعاهم)؛ أي: أمر بإحضارهم؛ فلا تكرار، (ودعا ترجمانه) بالنصب على المفعولية، وفي رواية: (بترجمانه)، وفي رواية: (بالترجمان)؛ بفتح المثناة الفوقية وضم الجيم فيهما، وقد تضم التاء فيهما اتباعًا؛ وهو المفسر لغة بلغة، فقال له: أيكم أقرب؟ ولم يسم الترجمان.
(فقال) الترجمان: (أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل؟)، وفي رواية: (من هذا الرجل)، وفي رواية: (إلى هذا الرجل)، وفي رواية: (الذي خرج بأرض العرب)، (الذي يزعم)، وفي رواية: (يدعي) (أنه نبي، فقال) وفي رواية: (قال) (أبو سفيان: قلت) وفي رواية: (فقلت): (أنا أقربهم نسبًا) وفي رواية: (أنا أقربهم به نسبًا)؛ أي: من حيث النسب، وأقربيته أبي سفيان؛ لكونه من بني عبد مناف؛ وهو الأب الرابع للنبي عليه السلام ولأبي سفيان، وإنَّما خص هرقل الأقرب؛ لأنَّه الأعلم الأتقن.
(فقال)؛ أي: هرقل، وفي رواية: (قال): (أدنوه مني)؛ بهمزة قطع مفتوحة: من الدنو؛ وهو القرب حتى يمعن في السؤال، (وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره)؛ لئلا يستحوا أن يواجهوه بالتكذيب (إن كذب)؛ كما في رواية، (ثم قال) هرقل (لترجمانه: قل لهم)؛ أي: لأصحاب أبي سفيان (إني سائل هذا)؛ أي: أبا سفيان (عن هذا الرجل)؛ أي: النبي عليه السلام، (فإن كذبني) بالتخفيف، كذا قيل؛ (فكذِّبوه) بتشديد المعجمة المكسورة، (قال)؛ أي: أبو سفيان، وفي رواية بإسقاط لفظ: (قال).
(فوالله؛ لولا الحياء) وفي رواية: (لولا أن الحياء)، (من أن يأثروا علي) بضم المثلثة وكسرها و (عليَّ) بمعنى (عني)؛ أي: رفقتي: يرون عني (كذبًا) بالتنكير، وفي رواية: (الكذب) (لكذبت عنه)؛ أي: لأخبرت عن حاله بكذب؛ لبغضي إياه، وفي رواية: (لكذبت عليه)، (ثم كان أول ما سألني عنه) بنصب (أول) خبر (كان)، واسمها ضمير الشأن، وفي رواية: برفع (أول) اسم (كان)، وخبره قوله: (أن قال: كيف نسبه) عليه السلام (فيكم)، أهو من أشرافكم أم لا؟ قال أبو سفيان: (قلت: هو فينا ذو)؛ أي: صاحب (نسب) عظيم، فالتنوين للتعظيم، (قال) هرقل: (فهل قال هذا القول منكم) من قريش (أحد قط) بتشديد الطاء المضمومة مع فتح القاف، وقد يضمان، وقد تخفف الطاء وتفتح القاف، ولا تستعمل إلَّا في الماضي المنفي، وإنَّما استعمل هنا بغير نفي؛ لأنَّ الاستفهام حكمه حكم النفي، (قبله) بالنصب على الظرفية، وفي رواية: (مثله).
قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم يقله أحد قبله، (قال) هرقل: (فهل كان من آبائه مِن) بكسر الميم؛ حرف جر (مَلِك؟)؛ بفتح الميم وكسر اللام: صفة مشبهة، وفي رواية: (مَن) بفتح الميم؛ اسم موصول، و (مَلَك) فعل ماضي، وفي رواية: (فهل كان من آبائه ملك)، قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم يكن، (قال) هرقل: (فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟) وفي رواية: (أيتبعه أشراف الناس؟) بإثبات همزة الاستفهام، وفي أخرى: (فأشراف الناس اتبعوه؟) قال أبو سفيان: (قلت): وفي رواية: (فقلت): (بل ضعفاؤهم)؛ أي: اتبعوه.
قال ابن حجر: الأشراف هنا؛ أهل النخوة والتكبر، لا كل شريف، ليخرج مثل العمرين ممن أسلم قبل سؤال هرقل، واعترضه الإمام بدر الدين العيني؛ بأن العمرين وحمزة كانوا من أهل النخوة، فقول أبي سفيان جرى على الغالب ... إلى آخره، قلت: وهو وجيه؛ فليحفظ، وفي رواية: (تبعه منا الضعفاء والمساكين)، وأما ذوو الأنساب والشرف؛ فما تبعه منهم أحد، قال ابن حجر: وهو محمول على الأكثر الأغلب.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ هذا المحمل بعيد جدًا؛ لأنَّ كلامه لا يعطيه ولا يشير إليه، فالأولى الحمل على أنه لم يتبعه أحد في الظاهر، وفي باطن الأمر قد اتبعوه وأخفوه حتى يعلموا ما يقع؛ فافهم.
(قال) هرقل: (أيزيدون أم ينقصون؟) بهمزة الاستفهام، وفي رواية: بإسقاطها؛ وهو جائز مطلقًا على الصحيح، قال أبو سفيان: (قلت: بل يزيدون، قال) هرقل: (فهل يرتد أحد منهم سخطة)؛ بفتح السين المهملة: منصوب على المفعول لأجله، أو على الحال؛ أي: ساخطًا، وجوَّز ابن حجر: ضم السين وفتح الخاء، ورده الإمام بدر الدين العيني بما يطول، نعم في رواية بضم السين وسكون الخاء، (لدينه بعد أن يدخل فيه؟) خرج من ارتد مكرهًا أو رغبة؛ كما وقع لابن جحش.
قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم يرتد، وإنما سأل عنه؛ لأنَّ من دخل في أمر محقق لا يرجع عنه، بخلاف دخوله في الباطل.
(قال) هرقل: (فهل كنتم تتهمونه بالكذب) على الناس (قبل أن يقول ما قال؟)، قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم نتهمه، وإنما عدل عن سؤال الكذب إلى سؤال التهمة؛ تقريرًا لهم على صدقه.
(قال) هرقل: (فهل يغدر؟)؛ بدال مهملة مكسورة؛ أي: ينقض العهد، قال أبو سفيان: (قلت: لا) ينقض (ونحن منه)؛ أي: النبي عليه السلام (في مدة)؛ أي: مدة صلح الحديبية أو غيبته، (لا ندري ما هو فاعل فيها)؛ أي: في المدة، وأشار بقوله: (لا ندري) إلى عدم الجزم بغدره، (قال) أبو سفيان: (ولم يمكني)؛ بالمثناة الفوقية أو التحتية، (كلمة أدخل فيها شيئًا) أنتقصه به (غير هذه الكلمة)، قيل: النقص أمر نسبي، فإن من يقطع بعدم غدره؛ أرفع درجة ممن يجوَّز ذلك، وقد كان عليه السلام معروفًا عندهم بعدم الغدر، ولكن لما كان الأمر مغيبًا؛ أمن أبو سفيان أن يُنسَب في ذلك إلى الكذب، انتهى، و (غير) رفع صفة لـ (كلمة)، ويجوز فيها النصب؛ صفة لـ (شيئًا)، لكن الرواية على الأول.
(قال) هرقل: (فهل قاتلتموه؟) إنَّما نَسب القتال إليهم ولم ينسبه له عليه السلام؛ لما علم أنَّه لا يبدأ قومه حتى يقاتلوه، قال أبو سفيان: (قلت: نعم) قاتلناه، (قال) هرقل: (فكيف كان قتالكم إياه؟) بفصل ثاني الضميرين، والاختيار ألا يجيء بالمنفصل إذا تأتى أن يجيء المتصل؛ وهو أفصح من (قتالكموه) باتصال الضمير، فلذا فصله؛ وهو الصواب، كذا قال الإمام بدر الدين العيني.
قال أبو سفيان: (قلت) وفي رواية (قال): (الحرب بيننا وبينه سجال)؛ بكسر السين المهملة وبالجيم المخففة؛ أي: نُوَب، نوبة لنا ونوبة له؛ كما قال: (ينال منا وننال منه)؛ أي يصيب منا ونصيب منه، و (السجال)؛ بمعنى المساجلة: مرفوع خبر لـ (الحرب)، فما قاله ابن حجر غير وارد ومردود، والجملة: لا محل لها من الإعراب؛ لأنَّها مفسرة، وفي (الحرب بيننا وبينه سجال)؛ تشبيه بليغ.
(قال) هرقل: (ما) وفي رواية: (بما) وفي أخرى: (فما) (ذا يأمركم؟)؛ أي: ما الذي يأمركم به؟ قال أبو سفيان: (قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا)، وفي رواية: بحذف الواو؛ فيكون تأكيدًا لقوله وحده، والجملة من عطف الخاص على العام، (واتركوا ما يقول آباؤكم) من عبادة الأصنام، (ويأمرنا بالصلاة) المعهودة، وفي رواية بزيادة: (والزكاة)، (والصدق)؛ القول المطابق للواقع، وفي رواية: (بالصدقة)، (والعفاف)؛ بفتح العين: الكف عن المحارم، (والصلة) للأرحام، (فقال) هرقل (للترجمان: قل له)؛ أي: لأبي سفيان: (سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو) صاحب (نسب) عظيم؛ (فكذلك)، وفي رواية: بالواو (الرسل تبعث في نسب قومها)؛ لما علمه في الكتب.
(وسألتك هل قال أحد) وفي رواية: بإسقاط (هل) (منكم هذا القول) وفي رواية: (قبله)، (فذكرت أن لا، فقلت) في نفسي: (لوكان أحد قال هذا القول لقلت: رجل يأتسي)؛ بهمزة ساكنة، بعدها مثناة فوقية مفتوحة، وسين مهملة مكسورة؛ أي: يقتدي (بقول قيل قبله)، وفي رواية: (يتأسى) بتقديم المثناة الفوقية على الهمزة المفتوحة وفتح السين المشددة.
(وسألتك هل كان من آبائه مِن مَلك؟) وفي رواية: بفتح الميمين (فذكرت: أن لا، قلت) في نفسي، وفي رواية: (فقلت): (فلو) وفي رواية: (لو) (كان من آبائه من ملك؛ قلت: رجل يطلب ملك أبيه) بالإفراد، وإنما قال: (لأبيه) ولم يقل: (لآبائه)؛ بالجمع؛ لأنَّه يكون أعذر في طلب الملك، بخلاف ما لو قال: (ملك آبائه).
قال هرقل لأبي سفيان: (وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر) اللام جحودية؛ أي: لم يكن ليدع (الكذب على الناس) قبل النبوة، (ويكذب) بالنصب (على الله) بعد إظهارها، (وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه؛ وهم أتباع الرسل) غالبًا؛ كما مر.
قال هرقل لأبي سفيان: (وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون؛ وكذلك أمر الإيمان)؛ فإنَّه يزيد (حتى يتم) وحيه؛ ولهذا آخر النزول كان قوله: {اليوم أكملت} الآية [المائدة: 3]، (وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين) بالنون، وفي رواية: (حتى) بالمثناة الفوقية، (تخالط) بالمثناة الفوقية، (بَشَاشَتُه)؛
%ص 8%
بفتح الموحدة، والشين المعجمتين، وضم التاء (القلوبَ): بالنصب على المفعولية، وفي رواية: (يخالط) بالمثناة تحت (بشاشةَ) بالنصب مفعول، و (القلوبِ): بالجرِّ على الإضافة، والمراد بـ (بشاشة القلوب): انشراح الصدور.
(وسألتك هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر)؛ لأنَّها تطلب الآخرة، (وسألتك بما يأمركم؟) بإثبات الألف مع (ما) الاستفهامية، (فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان)؛ جمع (وثن) بالمثلثة؛ وهو الصنم، (ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف)؛ أي: بأداء الصلاة المعهودة، وعدم الكذب، وأن تكفُّوا عن المحارم، قال هرقل لأبي سفيان: (فإن كان ما تقول حقًّا)؛ لأنَّه خبر محتمل للصدق والكذب؛ (فسيملك) أي: النبي عليه السلام (موضع قدمي هاتين) أرض بيت المقدس، (وقد كنت أعلم أنه) أي: النبي عليه السلام (خارج)، وفي رواية: (فإن كان ما تقول حقًّا؛ فإنه نبي)، وفي رواية: (هذه صفة نبي)، وإنما علم ذلك هرقل؛ لأنَّ النبي منعوت في كتبهم، (لم) وفي رواية: (ولم) (أكن أظن أنَّه منكم) أي: من قريش، (فلو أنَّي أعلم أني) وفي رواية: (أنني) (أخلُص)؛ بضم اللام؛ أي: أصل (إليه؛ لتجشمت)؛ بالجيم والشين المعجمتين؛ أي: لتكلفت (لقاءه) على ما فيه من المشقة، والمراد بالتجشم: الهجرة، وكانت فرضًا قبل الفتح على كل مسلم، وفي رواية: (قال هرقل: ويحك! والله إنِّي لأعلم أنَّه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته)، (ولو كنت عنده) أي: النبي عليه السلام؛ (لغسلت عن قدميه)، وفي رواية: بإسقاط لفظ (عن)، وفي رواية: (لو علمت أنه هو؛ لمشيت إليه، حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه، ولقد رأيت جبهته يتحادر عرقها من كرب الصحيفة)، وفي رواية: (قدمه) بالإفراد، والمراد: المبالغة في الخدمة.
(ثم دعا) هرقل (بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ثم دعا من أتى بكتابه عليه السلام، وجاز زيادة الباء؛ أي: دعا الكتاب على سبيل المجاز، وما قاله ابن حجر؛ ففيه نظر، (الذي بعث به دَِحيةُ)؛ بكسر الدال وفتحها ورفع التاء على الفاعلية: ابن خليفة الكلبي، وفي رواية: (مع دحية)، وهو مدفون في سطح المزة؛ قرية قرب دمشق، وكان البعث في آخر سنة ست بعد الرجوع من الحديبية، (إلى عظيم) أهل (بُصرى)؛ بضم الموحدة مقصورًا: مدينة حوران؛ أي: أميرها الحارث بن أبي شمر الغساني، (فدفعه إلى هرقل)، فيه مجاز؛ لأنَّه أرسل به إليه صحبة عدي بن حاتم، وكان وصوله إليه في سنة سبع، (فقرأه) هرقل بنفسه أو الترجمان بأمره؛ وهو الثابت عند الواقدي، (فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم) وتقديم سليمان اسمه على البسملة؛ حكاية الحال، أو خاف منها أن تسب فقدَّم اسمه فإذا سبَّت يقع على اسمه، وفيه دليل على استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرًا؛ كذا قيل، وقال بعض الفضلاء: إن السنة تصدير الاسم فيقول: من فلان إلى فلان؛ وهو قول الجمهور، مستدلين بما في «أبي داود» عن العلاء وكان عامل النبي على البحرين، وكان إذا كتب إليه بدأ بنفسه؛ فليحفظ.
(من محمد عبد الله ورسوله)، وفي رواية: (من محمد بن عبد الله ورسول الله)، وإنما وصف نفسه بالعبودية؛ تعريضًا لبطلان قولهم في المسيح: إنه ابن الله؛ لأنَّ الرسل على السواء في أنهم عباده تعالى (إلى هرقل عظيم) أهل (الروم)؛ أي: المعظم عندهم، ويجوز في (عظيم) الجر بدل من سابقه، والرفع على القطع، والنصب على الاختصاص، وإنما لم يصفه بالإمرة أو الملك؛ لكونه معزولًا بحكم الإسلام، وذكر المدائني: أن القارئ لما قرأ: (من محمد رسول الله)؛ غضب أخو هرقل فاجتذب الكتاب، فقال له هرقل: ما لك؟ فقال: لأنَّه بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، قال: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله؛ إنَّه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم واللهُ مالكي ومالكه، (سلامٌ) بالتنكير، وفي رواية بالتعريف، (على من اتبع الهدى)؛ أي: الرشاد، ومعناه: سلم من عذاب الله من أسلم، فليس المراد به التحية وإن كان اللفظ يشعر به، (أما بعدُ): بالبناء على الضم؛ لقطعه عن الإضافة المنوية لفظًا، ويؤتى بها للفصل بين الكلامين، واختلف في أول من تكلم بها؛ فقيل: داود، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: كعب، وقيل: يعقوب، والأرجح: أنه يعرب أو يعقوب، والأقوال كثيرة؛ (فإني أدعوك بدِعاية الإسلام)؛ بكسر الدال المهملة، وفي رواية: بداعية الإسلام؛ أي: بالكلمة الداعية إليه؛ وهي الشهادة والباء بمعنى (إلى)، (أسلِمْ)؛ بكسر اللام؛ (تسلَمْ) بفتحها (يؤتك الله أجرك مرتين) بالجزم في الأول على الأمر، وفي الثاني جواب له، والثالث بحذف حرف العلة جواب ثان له أيضًا، أو بدل منه، وإعطاء الأجر مرتين؛ لكونه مؤمنًا بنبيه ثم آمن بمحمد عليه السلام، وفي رواية: (أسلم؛ تسلم، أسلم؛ يؤتك) بتكرار (أسلم) مع زيادة الواو، (فإن توليت)؛ أي: أعرضت عن الإسلام؛ (فإن عليك) مع إثمك (إثم اليَرِيْسِين)؛ بمثناتين تحتيتين؛ الأولى مفتوحة والثانية ساكنة بينهما راء مكسورة، ثم سين مكسورة، ثم مثناة تحتية ساكنة، ثم نون: جمع (يريس)، على وزن (كريم)، وفي رواية: (الأريسين) بقلب المثناة الأولى همزة، وفي أخرى: (اليريسيِّين) بتشديد الياء بعد السين جمع (يريسي)، وفي رواية: (الأريسيِّين)؛ بتشديد الياء بعد السين كذلك، إلَّا أنَّه بالهمزة في أوله موضع الياء، وأما قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ فمعناه: أنَّ وزر الإثم لا يتحمله غيره والفاعل يتحمل من جهتين؛ جهة فعله وجهة تسببه، والأريسيون: الأكارون؛ أي: الفلاحون، والمراد بهم هنا: أهل مملكته الشامل للفلاحين وغيرهم على الأظهر، وفيه أقوال، وكلها بعيدة؛ فليحفظ، وفي قوله: (فإن توليت) استعارة تبعية.
(و {يَا أَهْلَ الكِتَابِ}) وفي رواية: بإسقاط الواو، والمراد: أهل الكتابين، والظاهر أنه عليه السلام أراد مخاطبتهم بذلك ولم يرد التلاوة؛ فهو من باب الالتفات؛ فافهم، ({تَعَالَوْا}) بفتح اللام ({إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ})؛ أي: مستوية ({بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}) لا يختلف فيها القرآن، والتوراة، والإنجيل؛ وهي ({ألَّا نَعْبُدَ إلَّا اللهَ})؛ أي: نوحده بالعبادة، ({وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا})؛ أي: لا نجعل له شريكًا كما جعلتم، ({وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ}) فلا نقول: المسيح ابن الله، ولا: العزير ابن الله، ولا نطيع الأحبار، وروي: لمَّا نزلت: {اتَّخَذُواأَحْبَارَهُمْ} الآية [التوبة: 31]، قال عدي بن حاتم: ماكنا نعبدهم يارسول الله، قال: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون، فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم، قال: هو ذاك، ({فَإِن تَوَلَّوْا}) عن التوحيد ({فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) [آل عمران: 64]؛ أي: لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون.
وكتب ذلك عليه السلام قبل نزول الآية؛ فوافق لفظه لفظها، ونزلت في وفد نجران سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان سنة ست، وقيل: نزلت في اليهود، وقيل: نزلت مرتين، وقيل: إنَّ هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب؛ تعظيمًا، وإنهم يتوارثونه، وقيل: إن ملكهم زمن المنصور قلاوون أخرج لسيف الدين قلج صندوقًا مصفحًا بالذهب فيه الكتاب، فقال: هذا كتاب نبيكم الذي أرسله إلى جدي قيصر، وأوصانا آباؤنا: أنه مادام عندنا؛ لا يزال الملك فينا.
وفي سنة ست وسبعين ومئتين وألف وجد أحد الفرنج كتابًا في أرض مصر، وذهب به إلى الفرنج، فقالوا: إنه كتاب محمد إلى المقوقس، فاشتروه منه بستين ألف قرش، وأهدوه إلى الملك الأعظم؛ السلطان عبد المجيد خان_نصره الله تعالى_ العثماني، فتبارك فيه وعظمه، وجمع العلماء لقراءته، فما [1] أحد عرف قراءته؛ لأنَّه مكتوب بالكوفي، فرسم صفته وأرسله إلى والي ديارنا الشريفة الشامية، فأرسل الوالي إلى شيخ الحرم الأموي، وطلب منه مصحف عثمان رضي الله عنه، وأمر بعض عماله على ترجمته بالعربي، وأرسله إلى السلطان، والله تعالى أعلم.
(قال أبو سفيان: فلما قال) هرقل (ما قال)؛ أي: الذي قاله من السؤال والجواب، (وفرغ من قراءة الكتاب) النبوي؛ (كثر عنده الصَّخَب)؛ بالصاد المهملة والخاء المعجمة المفتوحتين؛ أي: اللغط، (وارتفعت الأصوات) المختلفة؛ وهذا معنى اللغط، (وأُخرِجنا)؛ بضم الهمزة وكسر الراء؛ أي: أمر بإخراجنا، (فقلت لأصحابي حين أخرجنا): وفي رواية: (حين خلوت بهم): والله (لقد أَمِرَ)؛ بفتح أوله مقصورًا وكسر ثانيه؛ أي: عظم (أمْر ابن أبي كَبْشة) بسكون الميم؛ أي: شأنه، و (كَبْشة)؛ بفتح الكاف وسكون الموحدة، اسم مرتجل، وأراد بذلك: النبي عليه السلام؛ لأنَّها كنية أبيه من الرضاعة؛ الحارث بن عبد العزى، وكانت له بنت تسمى كبشة، فكُنِّي بها، قيل: إنه أسلم، أو هو والد حليمة مرضعته، أو نسبه إلى جدِّ جدِّه وهب؛ لأنَّ أمه آمنة بنت وهب، وأم جد وهب: قيلة بنت أبي كبشة، والظاهر الأول؛ (أنه يخافه)؛ بفتح الهمزة: مفعول لأجله، وقيل: بكسر الهمزة على الاستئناف، والمعنى: عظم أمره عليه السلام لأجل أنه يخافه (ملك بني الأصفر)؛ وهم الروم؛ لأنَّ جدهم روم بن عيص بن إسحاق تزوج بنت ملك الحبشة؛ فجاء ولده بين البياض والسواد، فقيل له: الأصفر، قال أبو سفيان: (فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام) فأبرزت ذلك اليقين.
(وكان ابن الناطور) بالمهملة؛ أي: حافظ البستان، وفي رواية: بالمعجمة، وفي رواية: بزيادة ألف آخره، والواو عاطفة، والقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزهري، كذا قيل، وقوله: (صاحبَ) منصوب (إيلِياء)؛ بكسر الهمزة واللام، بينهما مثناة تحتية مع المد؛ وهي بيت المقدس؛ أي أميرها، ونصبه؛ إما على الاختصاص في رواية، أو على الحال، وفي رواية: أنَّه مرفوع صفة لابن الناطور؛ لأنَّ الإضافة معنوية؛ كذا قاله الإمام شهاب الدين الكرماني، واستظهره البرماوي، (وهرقلَ) بفتح اللام مجرور عطفًا على (إيلياء)؛ أي: صاحب هرقل أيضًا، وأطلق عليه الصحبة؛ إما بمعنى الاستقلال بالرأي، أو بمعنى التبع أو الصداقة، والظاهر الأول، (أُسقف)؛ بضم الهمزة: مبنيًّا للمفعول، وفي رواية: (أُسْقُفًا) بضم الهمزة، وسكون السين، وضم القاف، وتخفيف الفاء، وفي رواية: (أسقفًّا) بتشديد الفاء، وفيه روايات؛ أي: مقدمًا (على نصارى الشام)؛ لكونه رئيس دينهم، أو ملكهم، أو قيم شريعتهم؛ وهو البترك الكبير المسمى بالباب؛ بفتح الموحدتين بينهما ألف، وما قيل؛ فهو بعيد، (يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء) وغلبة جنوده جنود فارس وإخراجهم في سنة عمرته عليه السلام الحديبية؛ (أصبح خبيث النفس)؛ مما حل به من الهم، وفي رواية: (أصبح يومًا خبيث النفس)، (فقال) له (بعض بَطارقته)؛ بفتح الموحدة: جمع بطريق، بكسرها؛ وهو العالم بدينهم: (قد استنكرنا هيئتك)؛ لمخالفتها عادتك، (قال ابن الناطور): بالمهملة وفي رواية بالمعجمة (وكان هرقل) عالمًا وكان (حَزَّاءً)؛ بالمهملة وتشديد الزاي، آخره همزة منونة، منصوب؛ لأنَّه خبر (كان)؛ أي: كاهنًا (ينظر في النجوم) خبر ثان لـ (كان)؛ إن قلنا: إنه ينظر في الأمرين، أو تفسير لـ (حزاء)؛ لأنَّ الكهانة تؤخذ تارة من ألفاظ الشياطين وتارة من أحكام النجوم،
%ص 9%
فكان هرقل يعلم حساب النجوم أن المولد بقِرَانِ العلويين ببرج العقرب؛ وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي الثلاثة بروجها في ستين سنة، وكان ابتداء العشرين الأول للمولد، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل، وعند الثالثة فتح خيبر، وليس المراد بهذا تقوية قول الحساب؛ بل البشارة به عليه السلام، والجملة اعتراضية.
(فقال) هرقل (لهم)؛ أي: لبعض البطارقة (حين سألوه: إنِّي رأيت الليلة حين نظرت في النجوم مَلِك الختان)؛ بفتح الميم وكسر اللام، وفي رواية: بالضم ثم الإسكان (قد ظهر)؛ أي: غلب؛ لأنَّ في تلك الأيام كان ابتداء ظهوره؛ لأنَّه صالح الكفار بالحديبية عليه السلام، وأنزل الله سورة الفتح، (فمن) استفهامية (يختن من هذه الأمة؟)؛ أي: من أهل هذه الملل، وفي رواية: (الأمم) (قالوا: ليس يختن إلا اليهود)؛ لأنَّهم كانوا بإيلِياء (فلا يُهمنَّك) بضم المثناة تحت: من (أهم)؛ أي: لا يقلقنك (شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك) بالهمز وقد يترك؛ (فيقتلوا من فيهم من اليهود)، وفي رواية: (فليقتلوا)؛ باللام.
(فبينما هم) بالميم، وأصله (بين)، فأشبعت الفتحة فصار (بينا)، فزيدت الميم، وفي رواية: بغير ميم، ومعناهما واحد، و (هم)؛ مبتدأ خبره (على أمرهم) مشورتهم (أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسَّان)؛ بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة، واسم الملك الحارث ابن أبي شمر، و (غسان) اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد؛ فنسبوا إليه، ولم يسم الرجل ولا من أرسل به (يخبره عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس؛ فكانت بينهم ملاحم في مواطن وتركتهم وهم على ذلك، (فلما استخبره هرقل) وأخبره؛ (قال) لجماعته: (اذهبوا فانظروا) إلى الرجل (أمختَتِن هو) بهمزة الاستفهام وفتح المثناة الفوقية الأولى وكسر الثانية (أم لا؟ فنظروا إليه)، وفي رواية: (فجردوه؛ فإذا هو مختتن)، (فحدثوه) أي: هرقل (أنه مختَتِن)؛ بفتح الفوقية الأولى وكسر الثانية، (وسأله عن العرب)؛ هل يختتنون؟ (فقال)؛ أي: الرجل: (هم يختتنون)، وفي رواية: (مختتنون)، والأول أشمل؛ كما قاله الإمامان العيني والعسقلاني، (فقال هرقل: هذا) الذي نظرته في النجوم (مُلْك هذه الأمة)؛ أي: العرب (قد ظهر) بضم الميم وسكون اللام، وفي رواية: بالفتح ثم الكسر، واسم الإشارة للنبي عليه السلام؛ وهو مبتدأ خبره (ملك)، و (قد ظهر) حال، وفي رواية: (وحده يملك) وتمامه في «شرح الإمام بدر الدين العيني».
(ثم كتب هرقل إلى صاحب له) يسمى ضغاطر الأسقف (بروميَة) بالتخفيف، وفي رواية: (بالرومية)؛ وهي مدينة رئاسة الروم، قيل: إن دور سورها أربعة وعشرون ميلًا، (وكان نظيره)، وفي رواية: (وكان هرقل نظيره) (في العلم) الشامل للنجوم والكتب، لكن الأول أظهر.
(وسار هرقل إلى حمص) مجرور بالفتحة؛ لأنَّه غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث؛ وهي دار ملكه بالشام، وبها دفن خالد بن الوليد رضي الله عنه، (فلم يَرِم) هرقل؛ بفتح المثناة تحت وكسر الراء (حمص)؛ أي: لم يصل إليها، والظاهر أن يقال: وأراد هرقل المسير إلى حمص ولم يبرح (حتى أتاه كتاب من صاحبه) ضغاطر (يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم) أي: ظهوره (وأَنه نبي) بفتح الهمزة، وهذا يدل على أنَّ هرقل وصاحبه أقرَّا بنبوته، لكن هرقل لم يستمر على ذلك، بل رغب في الرئاسة، فأعرض عن الإسلام، وأما صاحبه؛ فأظهر الإسلام ودعاهم إليه فقتلوه.
(فأذن) بالقصر؛ من الإذن، وفي رواية: (فآذن) بالمد؛ أي: أعلم (هرقل لعظماء الروم) جمع عظيم (في دَسْكَرَة)؛ بمهملتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، وفتح الكاف والراء، كائنة (له بحمص)؛ أي: فيها، والدسكرة: القصر حوله بيوت، (ثم أمر بأبوابها)؛ أي: الدسكرة (فغلِّقت) بتشديد اللام، وكان دخلها ثم أغلقها، وفتح أبواب البيوت التي حولها، وأذن للروم في دخولها، ثم أغلقها عليهم، (ثم اطلع) عليهم من مكانه العالي؛ خوفًا منهم أن يقتلوه فخاطبهم (فقال: يامعشر الروم؛ هل لكم) رغبة (في الفلاح والرَُّشَد)؛ بضم الراء ثم السكون أو بفتحتين: خلاف الغي، (وأن يثبت)؛ بفتح الهمزة: مصدرية (ملككم، فتُبَايعوا)؛ بمثناة فوقية مضمومة، ثم موحدة، بعدها ألف ومثناة تحتية: منصوب بحذف النون بـ (أن) مقدرة في جواب الاستفهام، وفي رواية: (فبايعوا) بإسقاط المثناة قبل الموحدة، وفي رواية: (نبايع) بنون الجمع ثم موحدة، وفي أخرى: (نتابع) بنون الجمع أيضًا، ثم مثناة فوقية، فألف، فموحدة، وفي رواية: (فتتابعوا) بمثناتين فوقيتين، وبعد الألف موحدة، وفي رواية: (فنتبع) (هذا النبي) وفي رواية: باللام، وفي أخرى: (صلى الله عليه وسلم)، وإنما قال هذا؛ لما علم من الكتب: أن التمادي على الكفر سبب لذهاب الملك.
(فحاصوا) بمهملتين؛ أي: نفروا (حيصة حمر الوحش)؛ أي: كحيصتها (إلى الأبواب) المعهودة، (فوجدوها قد غُلِّقت)؛ بضم الغين المعجمة وكسر اللام مشددة، وإنما شبه نفرتهم بنفرة حمر الوحش؛ لأنَّها أشد نفرة من سائر الحيوانات، وقول ابن حجر: (شبههم بالحمر لمناسبة الجهل)؛ فيه نظر ظاهر لا يخفى على من له أدنى نظر في علمي المعاني والبيان، (فلما رأى هرقل نفرتهم) وأنهم ربما قتلوه، (وأيس)؛ بهمزة ثم مثناة تحتية، جملة حالية بتقدير: قد، وفي رواية: بتقديم الياء على الهمزة، وهما بمعنًى، والأول مقلوب من الثاني؛ أي: قنط (من الإيمان)؛ أي: من إيمانهم ومن إيمانه أيضًا؛ لكونه شح بملكه؛ (قال) هرقل لخدامه: (ردوهم عليَّ) بفتح المثناة تحت؛ أي: إلى محل الخطاب (وقال) لهم: (إنِّي قلت مقالتي آنفًا) بالمد مع كسر النون، وقد تقصر منصوب على الظرفية لا على الحال؛ كما توهم (أختبر)؛ أي: أمتحن (بها) الجملة حال (شدتكم)؛ أي: رسوخكم (على دينكم) إنَّما أضاف الدين إليهم؛ إشارة إلى أن له خاطرًا في الدخول في الإسلام ومنعه حب الرئاسة، (فقد رأيت) أي: شدتكم، فحذف المفعول؛ للعلم به، وفي رواية: (فقد رأيت منكم الذي أحببت)، (فسجدوا له)؛ حقيقة على عادتهم لملوكهم أو قبَّلوا الأرض بين يديه، (ورضوا عنه) بأن سكنت نفرتهم، (فكان ذلك آخرَ) بالنصب خبر (كان) (شأن هرقل) فيما يتعلق بهذه القصة أو فيما يتعلق في أمر الإيمان، فإنه قد وقعت له أمور من تجهيز الجيش إلى مؤتة سنة ثمان، وتبوك، ومحاربته للمسلمين؛ وهذا يدل على استمراره على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي؛ مراعاة لمملكته وخوفًا من أن يقتلوه؛ كما قتلوا ضغاطر، لكن في «مسند أحمد»: أنه كتب من تبوك إلى النبي عليه السلام: أنَّي مسلم، قال النبي عليه السلام: «كذب؛ بل هو على نصرانيته .. » الحديث، {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 4].
(رواه)؛ أي: حديث هرقل، وفي رواية بالواو، وفي رواية: (قال محمد _أي: البخاري_ رواه) (صالح بن كَيسان)؛ بفتح الكاف: أبو محمد أو أبو الحارث الغِفَاري؛ بكسر الغين المعجمة مخفف الفاء، المدني، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، عن مئة ونيف وستين سنة؛ كذا قيل، (و) رواه أيضًا (يونس) بن يزيد الأيلي (و) رواه (مَعمَر)؛ بفتح الميمين بينهما عين ساكنة: ابن راشد؛ الثلاثة عن الزهري، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
ومناسبة الحديث هنا من حيث أوصاف من يوحى إليه، ومن قصة هرقل؛ لتضمنها حال النبي عليه السلام في ابتداء الأمر، ولا يخفى مناسبة القصة؛ لما يذكره من كتاب الإيمان؛ وهو أول فرض على المكلف، فقال:
==========
[1] في الأصل: (فلم).
==================
(1/18)
((2)) [كتاب الإيمان]
(بسم الله الرحمن الرحيم)
واختلفت الروايات في تقديمها هنا على (كتاب) أو تأخيرها عنه ولكل وجه.
(كتاب الإيمان) وإنما لم يقل في الأول: (كتاب بدء الوحي)؛ لأنَّه كالمقدمة، فـ (الكتاب) مصدر بمعنى: الكتب؛ وهو الجمع والضم، فاستعمل جامعًا للأبواب والفصول، وجمعه (كُتُب) بضمتين، و (كُتْب)؛ بسكون المثناة الفوقية، والضمُّ فيه بالنسبة إلى الحروف المكتوبة حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز [1]، وسميت الكتابة كتابة؛ لأنها جمع الحروف والكلمات.
و (الإيمان) بكسر الهمزة لغةً: التصديق؛ أي: إذعان حكم المخبِر، وقبوله، وجعله صادقًا؛ (إفعال) من الأمن؛ فإن حقيقة (آمن به)؛ آمنه من التكذيب والمخالفة، وتعدَّى بـ (اللام) في قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17]؛ أي: بمصدق، وبـ (الباء) كما في قوله عليه السلام: «الإيمان أن تؤمن بالله ... » الحديث؛ أي: تصدق، وليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر عن غير إذعان وقبول؛ بل هو إذعان وقبول لذلك؛ بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرح به الغزالي، كذا قرره العلامة الثاني سعد الدين التفتازاني.
==========
[1] في الأصل: (مجازًا)، وليس بصحيح.
%ص 10%
==================
(1/19)
(1) [بابُ الإِيمَانِ، وقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»]
هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الآتي موصولًا: (بني الإسلام على خمس) وفي رواية: بإسقاط لفظ (باب)، وفي رواية: (باب الإيمان وقول النبي ... ) إلى آخره.
و (الإسلام) لغةً: الانقياد والخضوع، ولا يتحقق إلَّا بقبول الأحكام والإذعان؛ وذلك حقيقة التصديق، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا، فهما متحدان في التصديق وإن تغايرا بحسب المفهوم؛ فمفهوم الإيمان تصديق القلب، ومفهوم الإسلام إعمال الجوارح، وبالجملة: لا يصح أن يحكم على أحد أنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن؛ وهذا معنى الوحدة.
فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] صريح في تحقق الإسلام بدون الإيمان.
قلنا: المراد أن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية بمعنى الانقياد في الظاهر من غير انقياد الباطن بمنزلة المتلفظ بالشهادة من غير تصديق في باب الإيمان؛ فافهم.
(وهو)؛ أي: الإيمان عند المؤلف ومالك والثوري: (قول) باللسان؛ وهو النطق بالشهادتين (وفعل) وفي رواية: (وعمل) بدل (فعل)؛ وهو أعم من عمل القلب والجوارح؛ لتدخل الاعتقادات والعبادات؛ فهو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، والمراد أنَّ الأعمال شرط لكماله، وقالت الأئمة الماتريدية: الإيمان في الشرع هو التصديق بما جاء [به] النبي الأعظم عليه السلام من عند الله تعالى والإقرار به؛ أي: بما جاء من عند الله باللسان، إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلًا، والإقرار قد يحتمله؛ كما في حالة الإكراه.
فإن قيل: قد لا يبقى التصديق كما في حالة النوم والغفلة.
قلنا: التصديق باق في القلب، والذهول إنَّما هو عن حصوله، ولو سلم، فالشارع جعل المحقق الذي لم يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي، حتى كان المؤمن اسمًا لمن آمن في الحال أو المضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب، وهذا مذهب بعض العلماء منهم، وهو اختيار الإمامين فخر الإسلام وشمس الأئمة.
وذهب جمهور المحققين منهم إلى أنَّه هو
%ص 10%
التصديق بالقلب، وإنَّما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا؛ لما أنَّ تصديق القلب أمر باطن لا بدَّ له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقرَّ بلسانه؛ فهو مؤمن عند الله وإن لم يكن مؤمنًا في أحكام الدنيا، ومن أقرَّ بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق؛ فبالعكس، وهذا اختيار الشيخ الإمام أبي منصور رضي الله تعالى عنه، والنصوص معاضدة لذلك؛ منها: قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، وقوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، وتمامه في محله، وبهذا علم أن الإنسان إما مؤمن أو كافر، ولا واسطة بينهما عند أهل السنة، وأثبت المعتزلة واسطة، فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، والصحيح: أن المعتزلة فسقة؛ لأنَّهم على التوحيد، وبدعهم غير مكفرة بل مفسقة؛ فليحفظ.
وإذا وجد من العبد التصديق والإقرار؛ صح أن يقول: أنا مؤمن حقًّا؛ لتحقق الإيمان، ولا ينبغي أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ لأنَّه إن كان للشك؛ فهو كافر لا محالة، وإن كان للتأدب، أو للشك في العاقبة والمآل لا في الحال والآن، أو التبرك بذكره تعالى؛ فلا يضر، لكن الأولى تركه؛ لاحتمال توهم الشك، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين؛ فليحفظ.
(و) الإيمان (يزيد) بالطاعة (وينقص) بالمعصية، عند المؤلف، وهو مذهب محمد بن إدريس الشافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهم، واستدل المؤلف لهذا بثمان آيات؛ وكلها محمولة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهل هو مخلوق أم لا؟ قيل وقيل، والأحسن ما قاله الإمام أبو الليث السمرقندي الحنفي: إن الإيمان إقرار وهداية، فالإقرار صنع العبد؛ وهو مخلوق، والهداية صنع الرب؛ وهو غير مخلوق؛ فليحفظ.
(قال) وفي رواية: (وقال) (الله تعالى) بالواو في سورة (الفتح)، وفي رواية: (عز وجل): ({لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}) [الفتح: 4]، وقال في (الكهف): ({وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}) [الكهف: 13]؛ بالتوفيق، وهذه الآية ساقطة في رواية، وفي (مريم): [76] قوله: ({وَيَزِيدُ اللهُ}) وفي روايةبالواو، وفي أخرى: (وقال: {ويزيد الله}) ({الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}) بالتوفيق.
(وقال) في القتال، وفي رواية: (وقوله)، وفي أخرى: بإسقاطهما والابتداء بقوله: ({وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}) بالتوفيق ({وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}) [محمد: 17]؛ أي: بيَّن لهم ما يتقون، وقال في (المدثر): ({وَيَزْدَادَ}) وفي رواية: (وقوله: {ويزداد}) ({الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}) [المدثر: 31]؛ بتصديقهم أصحاب النار المذكورين بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} ... الآية [المدثر: 31]، (وقوله) تعالى في (براءة): ({أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ}) أي: السورة ({إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}) [براءة: 124]؛ بالعلم الحاصل بتدبرها (وقوله جل ذكره) في آل عمران: ({فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}) [آل عمران: 173]؛ لعدمِ التفاتِهم إلى من ثبَّطهم عن قتال المشركين، بل ثبت يقينهم بالله تعالى، (وقوله تعالى) في الأحزاب: ({وَمَا زَادَهُمْ})؛ أي: لما رأوا البلاء ({إِلَّا إِيمَانًا}) بالله ورسوله ({وَتَسْلِيمًا}) [الأحزاب: 22] لأوامره.
فاستدل المؤلف ومن وافقه بهذه الآيات على أن الإيمان يزيد وينقص، وقال رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وإمام الأئمة المعظم أبو حنيفة، وأصحابه؛ الإمام أبو يوسف، والإمام محمد، والإمام زفر، والإمام الحسن، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين: إنَّ حقيقة الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لما مر أنَّه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان؛ وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، حتى إن من حصل له حقيقة التصديق، فسواء أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي؛ فتصديقه باق على حاله لا تغير فيه أصلًا، وهذه الآيات السابقة التي ظاهرها يدل على زيادة الإيمان؛ محمولة على ما قاله إمامنا الإمام الأعظم: إنهم كانوا آمنوا بالجملة، ثم يأتي فرض بعد فرض، فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص.
وحاصله: أنه كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به؛ وهذا لا يتصور في غير عصر النبي الأعظم عليه السلام، وبهذا قال جمهور المتكلمين وكذا المحققون، وقيل: المراد بالزيادة: ثمرته، وإشراق نوره، وضياؤه في القلب؛ فإنَّه يزيد بالأعمال وينقص بالمعاصي باعتبار جهات هي غير ذات التصديق؛ بل بسبب تفاوت الإيمان باعتبار تلك الجهات يتفاوت المؤمنون عندنا.
ولهذا قال إمامنا الإمام الأعظم: (إيماني كإيمان جبريل لا مثل إيمانه)؛ لأنَّ المثليَّة تقتضي المساواة في كل الصفات، والشبيه لا يقتضيه، فلا أحد يسوِّي بين إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء من كل وجه بل يتفاوت، غير أن ذلك التفاوت هل هو بزيادة ونقص في نفس ذات التصديق، أو هو يتفاوت لا بزيادة ونقص في نفس الذات، بل بأمور زائدة عليها؟ فنحن معاشر الحنفية ومن وافقنا نمنع التفاوت في نفس ذات التصديق، ونقول: إنَّ ما يتخايل من أنَّ القطع يتفاوت قوة إنَّما هو راجع إلى ظهوره وانكشافه، فإذا ظهر القطع بحدوث العالم بعد ترتب مقدماته؛ كان الجزم الكائن فيه كالجزم في حكمنا: الواحد نصف الاثنين، وإنما تفاوتهما باعتبار أنه إذا لوحظ هذا خصوصًا مع عزوب النظر؛ فيخيل أن الجزم أولى وليس بقوي في ذاته، إنَّما هو أجلى عند العقل، فنحن معاشر الحنفية ومن وافقنا نمنع ثبوت ماهية المشكك، ونقول: إن الواقع على أشياء متفاوتة فيه، فيكون التفاوت عارضًا لها خارجًا عنها، لا ماهية لها ولا جزء ماهية؛ لامتناع اختلاف الماهية واختلاف جزئها، وحاصله: أن الخلاف باق، وقد قال بذلك جمهور المتكلمين وبعض الأشاعرة منهم؛ إمام الحرمين وغيره من المحققين، والله تعالى أعلم.
ثم استدل أيضًا بقوله: (والحب في الله) مبتدأ (والبغض في الله) عطف عليه وقوله: (من الإيمان) خبر، وهذا لفظ حديث رواه أبو داود من حديث أبي أمامة، فإن الحب والبغض يتفاوتان؛ باعتبار ما يعرض عليهما من الجهات الخارجة.
(وكتب عمر بن عبد العزيز) بن مروان، الأموي، أحد الخلفاء الراشدين، المتوفى في خامس وعشرين رجب، سنة إحدى ومئة، قيل: بدير سمعان بحمص، وقيل: بدمشق في القنوات، (إلى عَدِي بن عَدِي)؛ بفتح العين وكسر الدال المهملتين فيهما: ابن عَمرة بفتح العين، الكندي، التابعي، المتوفى سنة عشرين ومئة: (إن للإيمان)؛ بكسر الهمزة (فرائضَ)؛ بالنصب اسم (إن) مؤخر؛ أي: أعمالًا مفروضة (وشرائع)؛ أي: عقائد (وحدودًا)؛ أي: منهيات، (وسننًا)؛ أي: مندوبات، وفي رواية: (إن الإيمان فرائضُ) بالرفع خبر (إن)، وما بعده معطوف عليه، وفي رواية: (فرائع)؛ بالفاء في أوله والعين المهملة في آخره؛ وهو بمعنى: فرائض؛ فافهم.
(فمن استكملها)؛ أي: الفرائض وما معها؛ فقد (استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها؛ لم يستكمل الإيمان)؛ وهذا لا يدل على ما استدل له؛ بل فيه دلالة على عدم قبول الإيمان الزيادة والنقصان؛ لأنَّه جعل الإيمان غير الفرائض وما بعدها، فإن قوله: (إن للإيمان فرائض ... ) إلخ؛ مثل قولك: (إن لزيد عمامة وجبة وإنبازًا)، وجعل أيضًا الكمالَ كمالَ الإيمان لا للإيمان، والمعنى: من استكملها بأن أتى بها على وجهها؛ فقد استكمل الإيمان، بأن وجد حلاوته وأشرق نوره عليه، ومن لم يستكملها؛ لم يجد ذلك فصار كالشجرة بلا ثمر، وهذا آخر كلامه مشعر بذلك؛ فليحفظ.
(فإن أعش) لم أذق الموت؛ (فسأبينها)؛ أي: أوضحها (لكم)، والمراد: تفاريعها لا أصولها؛ لأنَّها معلومة لهم إجمالًا، وأراد بيانها تفصيلًا (حتى تعملوا بها، وإن أمت؛ فما أنا على صحبتكم بحريص) وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنَّ الحاجة لم تتحقق، أو أنه علم أنهم يعلمون مقاصدها، ولكنه استظهر في نصحهم، وعرفهم أقسام الإيمان مجملًا، وأنه سيذكرها لهم مفصلًا إذا تفرغ لهم، فقد كان مشغولًا بالأهم، وهذا من تعاليق المؤلف المجزومة؛ وهي محكوم بصحتها، ووصله أحمد وابن أبي شيبة في كتاب «الإيمان» لهما من طريق عيسى بن عاصم.
(وقال إبراهيم) الخليل، وفي رواية: (صلى الله عليه وسلم) وقد عاش مئة وخمسًا وسبعين سنة، أو مئتين، ودفن بحبرون؛ بالحاء المهملة؛ كذا قيل: ({وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}) [البقرة: 260]؛ أي: يسكن قلبه عن المنازعة إلى رؤية الكيفية المطلوب رؤيتها، أو المطلوب سكونه بحصول متمناه من المشاهدة المحصلة للعلم البديهي بعد العلم النظري، وهذا قطع منه بالقدرة على إحياء الموتى كمن قطع بوجود دمشق وما فيها من أجنة ذات ثمار وانهار جارية، فنازعته نفسه في رؤيتيها، فإنَّها لا تسكن وتطمئن، حتى يحصل مناها، وكذا شأنها في كل مطلوب لها مع العلم بوجوده، فليس تلك المنازعة والتطلب ليحصل القطع بوجود دمشق؛ إذ الغرض ثبوته، فهذا لا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا أَخَّرَ هذه الآية عن الآيات السابقة؛ فليحفظ.
(وقال مُعاذُ)؛ بضم الميم والذال المعجمة، وفي رواية: (وقال معاذ بن جبل)؛ هو ابن عمرو الخزرجي الأنصاري، المتوفى سنة ثمانية عشر للأسود بن هلال: (اجلس بنا) بهمزة وصل (نؤمنْ) بالجزم (ساعة)؛ أي: حصة من الزمان؛ أي: نتذاكر الخير، وأحكام الآخرة، وأمور الدين؛ فإن ذلك من الإيمان؛ أي: من فروعه ولا دلالة فيه على قبول الزيادة، كما لا يخفى؛ فليحفظ، وهذا التعليق وصله أحمد وابن أبي شيبة كالأول للأسود بن هلال.
(وقال ابن مسعود) عبد الله، وجده غافل؛ بالمعجمة والفاء: الهذلي؛ نسبة إلى جده هذيل بن مدركة، المتوفى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين: (اليقين الإيمان كله)؛ أي: التصديق القلبي هو نفس ذات الإيمان، وإنما أكده بـ (كل) الدالة على التبعيض؛ باعتبار فروع الإيمان، وهذا التعليق طرف من أثر رواه الطبراني، وتتمته: (والصبر نصف الإيمان)؛ أي: ثواب الصبر على المشقة يعدل ثواب نصف الثواب الحاصل من الإيمان، فلا دلالة فيه أيضًا على التجزئة؛ كما قيل؛ فليحفظ؛ فافهم.
(وقال ابن عمر) عبد الله
%ص 11%
وجدُّه الخطاب، أحد العبادلة السابقة للإسلام مع أبيه، المتوفى سنة ثلاث وسبعين (لا يبلغ العبد)؛ بالتعريف، وفي رواية: بالتنكير (حقيقة التقوى) التي أعلاها امتثال الأوامر واجتناب النواهي كلها، وأدناها وقاية الشرك (حتى يدع ما حاك) بالمهملة والكاف المخففة؛ أي: اضطرب (في الصدر) ولم ينشرح له، وفي رواية: بتشديد الكاف بدون ألف (ما حك)، وفي نسخة بالألف والتشديد من المحاكاة، وقد روى مسلم معناه من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع الناس عليه»؛ أي: من الأذى لإخوانك المؤمنين؛ والمعنى: لا يبلغ العبد التقوى الحقيقية العليا حتى يترك جميع المنهيات، حتى ما أضمره واضطرب في صدره من الأذى لإخوانه المؤمنين، فلا دالة فيه على الزيادة والنقصان، كما لا يخفى.
(وقال مجاهد) بن جَبْر بفتح الجيم وسكون الموحدة، غيرُ مصغَّر على المشهور، المخزومي مولى عبد الله بن السائب المخزومي، المتوفى سنة مئة وهو ساجد، في تفسير قوله تعالى: ({شَرَعَ لَكُم}) وفي رواية: ({مِّنَ الدِّينِ} [الشورى: 13])؛ أي: (أوصيناك يا محمد وإياه)؛ أي: نوحًا (دينًا واحدًا).
إنما خص نوحًا عليه السلام؛ لما قيل: إنه الذي جاء بتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأول من جاء بتحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، لا يقال: إن (إياه) تصحيف، وإن الصواب: وأنبياءه، وكيف يفرد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة؟ لأنا نقول: إن نوحًا أفرد في الآية، وبقية الأنبياء عطف عليه، وهم داخلون فيما وصى به نوحًا وكلهم مشتركون في ذلك، فذكر واحد يغني عن الكل، على أن نوحًا أقرب مذكور في الآية، فليس بتصحيف، وهذا التعليق أخرجه عبد بن حميد في «تفسيره» عن شبابة.
(وقال ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهمافي تفسير قوله تعالى: ({شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]: سبيلًا)؛ أي: طريقًا واضحًا (وسنةٌ)، لفٌّ ونشر مشوَّش، يعني: أن معنى {شرعة}: سنة، ومعنى {منهاجًا}: سبيلًا، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في «تفسيره».
==================
(1/20)
(2) [بابٌ: دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ]
وفي رواية: (باب) بالتنوين: (دعاؤكم إيمانكم)، وفي رواية: (لقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77])، ومعنى الدعاء في اللغة: الأمان؛ من الأمن، ضد الخوف، والمعنى: لا يعتد الله بكم لولا دعاؤكم معه آلهة؛ وهو خطاب لكفار قريش، وجواب لولا محذوف تقديره: لولا دعاؤكم لما خلقكم ولما اعتنى بشأنكم، فلا دلالة فيه على أن الإيمان عمل، وقيل: معناه الغوث، وقد دعا؛ أي: استغاث، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؛ فتأمل.
وهذا التعليق وصله ابن جرير من قول ابن عباس.
==========
%ص 12%
==================
(1/21)
[حديث: بني الإسلام على خمس]
8# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبيد الله) بالتصغير، وفي رواية: (وحدثنا) محمد بن إسماعيل؛ يعني: البخاري، حدثنا عبيد الله (بن موسى) بن باذام بالموحدة، وبالذال المعجمة، آخره ميم، العَبْسي بفتح العين وتسكين الموحدة، وكان شيعيًّا؛ وهو مقبول الرواية في غير الداعي إلى بدعتهم، المتوفى سنة ثلاث عشرة ومئتين بالإسكندرية.
(قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (حنظلة بن أبي سفيان) بن عبد الرحمن الجمحي المكي، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة، (عن عكرمة بن خالد) بن العاص، المخزومي، القرشي، المتوفى بمكة بعد عطاء؛ وهو توفي سنة أربع عشرة ومئة، (عن ابن عمر) عبد الله بن الخطابرضي الله عنهم، وكان واسع العلم، توفي سنة ثلاث وسبعين، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام) الذي تقدم أنَّه الانقياد (على خمس)؛ أي: خمس دعائم، وقيل: (على) بمعنى (من)؛ أي: بني الإسلام من خمس؛ فتأمل.
(شهادة أن لا إله إلا الله) بخفض (شهادة) بدل من (خمس)، وكذا ما بعدها، ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وهي، والنصب بتقدير: أعني، و (لا) هي النافية للجنس، و (إله) اسمها مركب معها تركيب مزج كـ (أحد عشر)، وفتحته فتحة بناء، وعند الزجاج: فتحة إعراب؛ لأنَّه عنده منصوب بها لفظًا وخبرها محذوف اتفاقًا تقديره: موجود، و (إلا) حرف استثناء، والاسم الكريم مرفوع على البدلية من الضمير المستكن في الخبر، وقيل: مرفوع على الخبرية لقوله: (لا)، وعليه جماعة، وهذا التركيب عند علماء المعاني يفيد القصر، وهو في هذه الكلمة من باب قصر الصفة على الموصوف، لا العكس؛ لأنَّ (إله) في معنى الوصف.
وإنما قدم النفي على الإثبات فقيل: لا إله، ولم يقل: الله لا إله إلا هو، بتقديم الإثبات على النفي؛ لأنَّه إذا نفى أن يكون ثَمَّ إله غيره؛ فقد فرَّغ قلبه مما سوى الله بلسانه ليواطئ القلب، وليس مشغولًا بشيء سوى الله تعالى، فيكون نفي الشريك عن الله بالجوارح الظاهرة والباطنة.
(و) شهادة (أن محمدًا رسول الله) وإنما لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة؛ لأنَّ المراد بـ (الشهادة): تصديق الرسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من الاعتقادات، (وإقام الصلاة)؛ أي: الإتيان بها على وجهها المعلوم عند الفقهاء، (وإيتاء الزكاة)؛ أي: إعطائها مستحقيها بإخراج جزء من المال على الوجه المخصوص؛ كما يأتي، (والحج) إلى بيت الله الحرام، (وصوم) شهر (رمضان).
وإنما لم يذكر الجهاد؛ لأنَّه فرض كفاية، ولا يتعيَّن إلَّا في بعض الأحوال، ووجه الحصر في الخمسة؛ أن العبادة: إما قوليَّة أو غيرها، الأولى الشهادتان، والثانية: إما تَركيَّة أو فعليَّة، الأولى الصوم، والثانية إما بدنيَّة أو ماليَّة، الأولى الصلاة، والثانية الزكاة، أو مركَّبة منهما؛ وهي الحج، وفي رواية تأخير الحج عن صوم رمضان، وفي قوله: (بني ... إلى آخره)؛ استعارة تبعية وبالكناية وتمثيلية، كما لا يخفى.
==========
%ص 12%
==================
(1/22)
(3) [باب أمور الإيمان]
هذا (باب أمور الإيمان) الإضافة بمعنى اللام؛ أي: باب الأمور الثابتة للإيمان في تحقيق ثمراته وضيائه، وقيل: إن الإضافة بيانية بناء على أن الأعمال هي الإيمان، وفي رواية: (أمر الإيمان) بالإفراد على إرادة الجنس، (وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على (أمور)، وفي رواية: (عز وجل): ({لَيْسَ البِرَّ}) الفعل الخير ({أَن تُوَلُّوا}) الخطاب لليهود والنصارى في دعوى القبلة، ({وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ}) قبلة النصارى ({وَالْمَغْرِبِ}) قبلة اليهود؛ أي: ليس البر مقصورًا على أمر القبلة، أو ليس البر ما أنتم عليه؛ فإنه منسوخ ({وَلَكِنَّ البِرَّ}) الذي يهتم به ({مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ}) القرآن أو أعم ({وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ}) تعالى أو حب المال ({ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى}) المحاويج منهم، ولم يقيده؛ لعدم الإلباس، ({وَالْمَسَاكِينَ}) جمع: مسكين؛ مَن لا شيء له، لقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]؛ أي: صاحب تراب، ({وَابْنَ السَّبِيلِ}) المسافر، وقيل: الضيف، ({وَالسَّائِلِينَ})؛ أي: الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ({وَفِي الرِّقَابِ})؛ أي: تخليصها بمعاونة المكاتبين، أو فك الأسارى، أو ابتياع الرقاق لعتقها، ({وَأَقَامَ [الصَّلاةَ] وَآتَى الزَّكَاةَ}) المفروضتين؛ أي: أداها في مصارفها، ({وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}) عطف على {مَنْ آمَنَ}، ({وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاء}) الفقر ({وَالضَّرَّاءِ}) نصب على المدح ولم يعطف؛ لفضل الصبر: المرض، هذا هو المشهور؛ فليحفظ، ({وَحِينَ البَأْسِ}) وقت الجهاد ({أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}) في الدين وطلب البر ({وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البقرة: 177]) عن الكفر وسائر الرذائل، وفي رواية بإسقاط قوله {ولكن البر ... } إلى آخر الآية، وفي رواية بإسقاط: {وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
وهذه الآية جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها، فمن عمل بها؛ فقد تحققت ثمرات الإيمان عنده، وأشرق نوره وضياؤه، وفي حديث أبي ذر عند عبد الرزاق: أنَّه عليه السلام سئل عن الإيمان فتلا عليه هذه الآيات، ولم يذكره المؤلف؛ لأنَّه ليس على شرطه.
وقال الله عزَّ وجلَّ: ({قَدْ أَفْلَحَ})؛ أي: فاز ({المُؤْمِنُونَ} ... الآية) [المؤمنون: 1] بإسقاط واو العطف؛ لعدم الإلباس، قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون ساقه تفسيرًا لقوله: ({هم المتقون} [البقرة: 177]) تقديره: هم الموصوفون بقوله: ({قد أفلح})، وفي رواية الأصيلي: (وقد أفلح) بإثبات الواو، وفي رواية ابن عساكر: (وقوله: {قد أفلح})، قلت: وهذا يرد ما قاله ابن حجر في «فتحه»: من احتمال التفسير مع ما فيه من البعد، أفاده القسطلاني، ويجوز في قوله: (الآية)؛ النصب بتقدير: اقرأ، والرفع مبتدأ خبره محذوف.
==========
%ص 12%
==================
(1/23)
[حديث: الإيمان بِضعٌ وستونَ شعبة]
9# وبالسند قال: (حدثنا عبد الله بن محمد) بن جعفر المُسْنَدي؛ بضم الميم، وسكون المهملة، وفتح النون، سمي به؛ لأنَّه كان يطلب المسندات، أو لأنَّه؛ أول من جمع مسند الصحابة على التراجم بما وراء النهر، وفي رواية: (الجعفي) المتوفى سنة تسع وعشرين ومئة، (قال: حدثنا أبو عامر) عبد الملك بن عمرو بن قيس العقدي؛ بفتح العين المهملة والقاف: نسبة إلى العقد؛ قوم من قيس؛ قبيلة من اليمن، أو بطن من الأزد، المتوفى سنة خمس ومئتين، (قال: حدثنا سليمان بن بلال) القرشي المدني، المتوفى سنة اثنين وسبعين ومئة، (عن عبد الله بن دينار) القرشي العدوي المدني، مولى ابن عمر، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئة، (عن أبي صالح) ذكوان السمان الزيات المدني، المتوفى سنة إحدى ومئة، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه تصغير (هرة): عبد الرحمن بن صخر الدوسي، المختلف في اسمه على أكثر من ثلاثين قولًا، المتوفى بالمدينة سنة تسع وخمسين، (عن النبي) الأعظم (صلى الله) تعالى (عليه وسلم): أنه (قال: الإيمان) بالرفع مبتدأ، وخبره (بضع)؛ بكسر الموحدة وقد تفتح.
قال الفراء: هو خاص
%ص 12%
بالعشرات إلى التسعين، فلا يقال: بضع ومئة ولا بضع وألف، انتهى، وفي «القاموس»: هو ما بين الثلاث إلى التسع، أو إلى الخمس، أو ما بين الواحد إلى أربع، أو من أربع إلى تسع، أو هو سبع، وإذا جاوز العشر؛ ذهب البضع، لا يقال: بضع وعشرون، أو يقال ذلك، انتهى، ويكون مع المذكر بهاء، ومع المؤنث بغير هاء، فتقول: بضعة وعشرون رجلًا، وبضع وعشرون امراة، ولا تعكس، وفي رواية: (بضعة).
(وستون شعبة) بتأنيث بضعة على تأويل الشعبة بالنوع؛ إذا فسرت الشعبة بالطائفة من الشيء، وقال الإمام شهاب الدين الكرماني: إنَّها في أكثر الأصول، قال ابن حجر: بل هي في بعضها، واعترضه الإمام بدر الدين العيني، ورجح قول الكرماني، وقال: إنه الصواب، ورجح القسطلاني قول ابن حجر؛ تعصبًا.
وقد وقع عند مسلم عن عبد الله بن دينار: (بضع وستون أو بضع وسبعون) على الشك، وعند أصحاب «السنن»: (بضع وسبعون) من غير شك، وهل المراد حقيقة العدد أم المبالغة؟ قيل: الظاهر أنه معنى التكثير، ويكون ذكر البضع؛ للترقي؛ يعني: أن شعب الإيمان أعداد مبهمة ولا نهاية لكثرتها، ولو أراد التحديد؛ لم يبهم، وقيل: المراد حقيقة العدد، ويكون النص وقع أولًا على البضع والستين؛ لكونه الواقع، ثم تجددت العشرة الزائدة، فنص عليها؛ فتأمل.
(والحياء) بالمد، وهو شرعًا: خلق يَبعث على اجتناب القبيح وفعل الحسن؛ وهو مبتدأ، خبره (شعبة)، وقوله: (من الإيمان) صفة لـ (شعبة)، وإنما خصه بالذكر؛ لأنَّه كالداعي إلى باقي الشعب؛ لأنَّه يبعث على الخوف من فضيحة الدنيا والآخرة، وانظر إلى قول الرسول الأعظم عليه السلام: «استحيوا من الله حق الحياء»، قالوا: إنا لنستحي من الله يا رسول الله والحمد لله، قال: «ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء؛ أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى، فمن يعمل ذلك؛ فقد استحى من الله حق الحياء».
لا يقال: إن الحياء من الغرائز فلا يكون من الإيمان؛ لأنَّه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقًا، إلا أن استعماله على وَفق الشرع؛ يحتاج إلى اكتساب، وعلم، ونية، فمن ثَمَّ كان من الإيمان، وقد زاد مسلم على ما هنا: (فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، واستدل بهذا القائلون: بأن الإيمان فعل الطاعات بأسرها، والقائلون: بأنه مركب من التصديق، والإقرار، والعمل جميعًا.
وأجيب بأن المراد شعب الإيمان قطعًا لا نفس الإيمان؛ فإن إماطة الأذى عن الطريق ليس داخلًا في أصل الإيمان حتى يكون فاقده غير مؤمن، فلا بد في الحديث من تقدير مضاف، فالمراد: ثمرات الإيمان؛ لأنَّ الأعمال غير داخلة في الإيمان؛ لما مر أن حقيقة الإيمان؛ هو التصديق، ولأنه قد ورد في الكتاب والسنة عطف الأعمال على الإيمان؛ كقوله تعالى: ({إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 107]) مع القطع بأن العطف يقتضي المغايرة وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه.
وورد أيضًا: جعل الإيمان شرط صحة الأعمال؛ كما في قوله تعالى: ({وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112]) مع القطع بأنَّ المشروط لا يدخل في الشرط؛ لامتناع اشتراط الشيء بنفسه، وورد إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال؛ كما في قوله تعالى: ({وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]) على ما مر؛ من أن العبد لا يخرج بالمعصية عن الإيمان مع القطع بأنَّه تحقق للشيء بدون ركنه؛ فهذا دليل على أن الأعمال غير داخلة في الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ كما علمت؛ فليحفظ.
==================
(1/24)
(4) [بابٌ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ]
(باب) بالتنوين: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وسقط لفظ (باب) للأصيلي.
==========
%ص 13%
==================
(1/25)
[حديث: المسلمُ مَنْ سلمَ المسلمونَ مِنْ لسانهِ]
10# وبه قال: (حدثنا آدم بن أبي إياس)؛ بكسر الهمزة، وتخفيف المثناة التحتية، آخره سين مهملة، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا شعبة) ولابن عساكر: (عن شعبةَ)؛ غير منصرف، ابن الحجاج بن الورد الواسطي، المتوفى بالبصرة سنة ستين ومئة، (عن عبد الله بن أبي السَّفَر) بفتح المهملة والفاء، وحُكي إسكانها؛ ابن يُحمد؛ بضم المثناة التحتية وفتح الميم أو بكسرها، الهمداني الكوفي، المتوفى في خلافة مروان بن محمد، (و) عن (إسماعيل) وفي رواية: (ابن أبي خالد)؛ أي: الأحمسي، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، كلاهما (عن الشعبي) بفتح المعجمة، وسكون المهملة، وكسر الموحدة؛ نسبة إلى (شَعب) بطن من همدان، أبي عمرو عامر بن شراحيل، الكوفي التابعي، قاضي الكوفة، المتوفى بعد المئة، (عن عبد الله بن عمرو) ابن العاصي القرشي السهمي، المتوفى بمكة، أو الطائف، أو مصر، سنة خمس وسبعين، وكان أسلم قبل أبيه، وكان بينه وبينه في السن إحدى عشرة سنة كما جزم المزي، قاله القسطلاني، ((عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: المسلم)؛ الذي وجد حلاوة الإيمان (من سلم المسلمون) وكذا المسلمات وأهل الذمة إلَّا في حدٍّ، أو تعزير، أو تأديب (من لسانه ويده)؛ وهذا من جوامع كلمه عليه السلام، والذي وجد حلاوة الإيمان؛ هو الذي وجد فيه هذه الصفة وباقي الصفات التي هي الأركان، وعبَّر باللسان دون القول؛ ليدخل فيه من أخرج لسانه استهزاءً بصاحبه، وقدَّمه على اليد؛ لأنَّ إيذاءه أكثر وقوعًا وأشد نكاية، ولله در القائل:
... ~جراحاتُ السنانِ لها التئامُ ... ولا يلتام ما جرحَ اللِّسانُ
وخص اليد مع أن الفعل قد يحصل بغيرها؛ لأنَّ سلطنة الأفعال إنَّما تظهر بها، والظاهر أنَّ المراد من الحديث؛ ما هو أعم من الجارحة، كالاستيلاء على حق الغير من غير حق؛ فإنَّه إيذاء، لكنه ليس باليد الحقيقي؛ فتأمل، (والمهاجر) معطوف على ما قبله؛ أي: المهاجر حقيقة (من هجر)؛ أي: ترك (ما نهى الله عنه) كأنَّ المهاجرين خوطبوا بذلك؛ لئلا يتَّكلوا على مجرد الانتقال من دارهم، وأوقع ذلك بعد انقطاع الهجرة؛ تطييبًا لقلوب من لم يدرك ذلك.
(قال أبو عبد الله))؛ أي: البخاري، وفي رواية: بإسقاطها: (وقال أبو معاوية) محمد بن خازم بالمعجمتين، الكوفي، قيل: كان مُرجئيًّا، المتوفى سنة خمس وتسعين ومئة في صفر، (حدثنا داود) وفي رواية: (هو ابن أبي هند)؛ أي: المتوفى سنة أربعين ومئة، (عن عامر) الشعبي السابق قريبًا، (قال: سمعت عبد الله بن عمرو) في رواية: (هو ابن عمرو [1])، وفي أخرى: (يعني: ابن عمرو) (عن النبي)) الأعظم (صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي بالمهملة، من بني سامة بن لؤي القرشي البصري، المتوفى في شعبان سنة سبع وثمانين ومئة (عن داود) بن أبي هند السابق (عن عامر)؛ أي: الشعبي، (عن عبد الله) بن عمرو بن العاص (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وهذا التعليق وصله إسحاق ابن راهويه في «مسنده».
==========
[1] في الأصل: (عمر)، وليس بصحيح.
%ص 13%
==================
(1/26)
(5) [بابٌ أيُّ الإسلامِ أفضل؟]
(باب) بالتنوين (أيُّ الإسلام أفضل؟)
==========
%ص 13%
==================
(1/27)
[حديث: يا رسولَ اللهِ أيُّ الإسلامِ أفضلُ؟]
11# وبه قال: (حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي) بجر الياء؛ صفة لـ (سعيد) الثاني المتوفى سنة سبع وأربعين ومئتين، وسقط عند الأصيلي: (ابن سعيد القرشي) (قال: حدثنا أبي) يحيى بن سعيد المتوفى سنة أربع وسبعين ومئة (قال: حدثنا أبو بُرْدة) بضم الموحدة وسكون الراء، واسمه: بُريد بالتصغير (بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بُردة)؛ بضم الموحدة؛ جدّ الذي قبله، وافقه في الكنية لا في الاسم، واسمه عامر، المتوفى بالكوفة سنة ثلاث ومئة، (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس بن سُليم؛ بضم السين، الأشعري نسبة إلى الأشعر؛ لأنَّه ولد أشعر، المتوفى بالكوفة سنة خمس وأربعين، (رضي الله عنه قال: قالوا)، وعند مسلم: (قلنا) وعند ابن منده: (قلت): (يا رسول الله؛ أي) وشرطها: أن تدخل على متعدد؛ وهو هنا مقدر: بذوي؛ أي: أيُّ أصحاب (الإسلام أفضل؟)، وعند مسلم: (أي المسلمين أفضل؟) (قال) عليه السلام: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)؛ أي: أفضل من غيره؛ لكثرة ثوابه من حيث الأعمال الخالصة لوجهه تعالى، فيضيء نورها في وجهه؛ كما قدمنا.
==========
%ص 13%
==================
(1/28)
(6) [بابٌ إطعامُ الطعام مِنَ الإسلامِ]
هذا (باب) بالتنوين، وهو ساقط عند الأصيلي (إطعام الطعام من الإسلام)، وللأصيلي: (من الإيمان)؛ أي: من خصاله.
==========
%ص 13%
==================
(1/29)
[حديث: أن رجلًا سأل النبيَّ: أي الإسلام خير؟]
12# وبه قال: (حدثنا عَمرو بن خالد)؛ بفتح العين، ابن فَرُّوخ؛ بفتح الفاء، وتشديد الراء مضمومة، آخره معجمة، الحرَّاني البصري، المتوفى بها سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا الليث) بالمثلثة؛ ابن سعد الفهمي، وفهم؛ من قيس عيلان المصري، الإمام الجليل المشهور، القلقشندي المولد، الحنفي المذهب على التحقيق، وما قاله القسطلاني: من أنَّ المشهور أنَّه كان مجتهدًا فتعصب؛ لأنَّه لم يشتهر إلَّا عنده، المتوفى في نصف شعبان، سنة خمس وسبعين ومئة، (عن يزيد) أبي رجاء بن أبي حبيب، التابعي الجليل، مفتي مصر، المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة، (عن أبي الخير) مرثَد؛ بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة: ابن عبد الله اليزني؛ نسبة إلى ذي يزن، المتوفى سنة تسعين (عن عبد الله
%ص 13%
ابن عمرو) أي: ابن العاصي (رضي الله عنهما: أن) بفتح الهمزة (رجلًا) هو أبو ذر؛ فليحفظ، (سأل النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم: أي) خصال (الإسلام خير؟ قال) وفي رواية: (فقال)؛ أي: النبي عليه السلام: (تطعم) الخلق (الطعام)، و (تطعم) محله رفع خبر مبتدأ محذوف؛ بتقدير: (أن)؛ أي: وهو أن تطعم الطعام، فـ (أن) مصدرية، والتقدير: هو إطعام الطعام، ولم يقل: تؤكِل الطعام ونحوه؛ لأنَّ لفظ الإطعام يشمل الأكل، والشرب، والإعطاء، (وتَقرأُ)؛ بفتح التاء وضم الهمزة: مضارع (قرأ)، (السلام على من عرفت ومن لم تعرف) من المسلمين، فلا تخص به أحدًا؛ تكبرًا وتجبرًا، بل عُمَّ به كل أحد؛ لأنَّ المؤمنين إخوة، وحذف العائد في الموضعين؛ للعلم به، والتقدير: على من عرفتَه ومن لم تعرفه، وإنَّما لم يقل: وتسلم؛ حتى يتناول سلام الباعث بالكتاب المتضمن للسلام.
==================
(1/30)
(7) [بابٌ من الإيمان أن يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه]
هذا (باب)؛ بالتنوين، وهو ساقط في رواية (من الإيمان أن يحب لأخيه) المسلم وكذا المسلمة مثل (ما) أي: الذي (يحب لنفسه).
==========
%ص 14%
==================
(1/31)
[حديث: لا يومنُ أحدكمْ حتَّى يحبَّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسهِ]
13# وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد)؛ بضم الميم، وفتح السين، وتشديد الدال المهملتين: ابن مُسرهد [بن مسربل] بن مرعيل [1] بن أرندل بن سرندلبن عرندل [2] بن ماسك بن مستورد [3] الأسدي البصري، المتوفى في رمضان سنة ثلاث وعشرين ومئتين.
(قال: حدثنا يحيى) بن سعيد بن فَرُّوخ؛ بفتح الفاء، وتشديد الراء مضمومة، آخره خاء معجمة، غير منصرف؛ للعجمة والعلمية، القطان التميمي البصري المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، (عن شعبة) بضم المعجمة؛ ابن الحجاج الواسطي البصري المتقدم، (عن قتادة) بن دِعامة_ بكسر الدال_ ابن قتادة السدوسي؛ نسبة لجده الأعلى، الأكمه البصري، التابعي، المتوفى بواسط سنة سبع عشرة ومئة، (عن أنس)؛ هو ابن مالك بن النضر _بالنون والضاد المعجمة_: الأنصاري النجَّاري، خادم رسول الله عليه السلام تسع سنين، آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة ثلاث وتسعين، (رضي الله عنه، عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، ثم عطف على شعبة قوله: (وعن حسين)؛ بالتنوين: ابن ذكوان (المعلم) البصري (قال: حدثنا قتادة) بن دِعامة المتقدم؛ فكأنه قال: عن شعبة وحسين، كلاهما عن قتادة، وأفردها؛ تبعًا لشيخه، وليست طريقة حسين معلَّقة؛ بلموصولة؛ كما رواها أبو نُعيم، وما قيل: إن قتادة مدلس ولم يصرح بالسماع؛ مردود، فإنَّه صرح أحمد والنسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس؛ فليحفظ.
(عن أنس) وفي رواية: (عن أنس بن مالك) (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن) وفي رواية: (أحدكم) وفي أخرى: (أحد)، وفي أخرى: (عبدٌ الإيمان الكامل) (حتى يحب لأخيه) المسلم وكذا المسلمة مثل (ما يحب لنفسه)؛ أي: الذي يحب لنفسه من الخير، وهذا وارد مورد المبالغة، وإلَّا فلا بد من بقية الأركان، ولم ينص على أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه؛ لأنَّ حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، ويدخل في عموم (أخيه) الذميُّ؛ بأن يحب له الإسلام ويبغض له الكفر، ويؤيِّده حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدَّ خمسًا قال: «اتَّق المحارم؛ تكن أعبد الناس، وارض بما قسم لك؛ تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك؛ تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك؛ تكن مسلمًا ... » الحديث، رواه الترمذي وغيره.
========
[1] في الأصل: (مرعيل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[2] في الأصل: (عزندل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[3] في الأصل: (مستودد)، والمثبت موافق لما في المصادر.
%ص 14%
==================
[1] في الأصل: (مرعيل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[2] في الأصل: (عزندل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[1] في الأصل: (مرعيل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[2] في الأصل: (عزندل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
(1/32)
(8) [بابٌ حبُّ الرسول من الإيمان]
(بابٌ) بالتنوين: (حب الرسول) الأعظم نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم من الإيمان).
==========
%ص 14%
==================
(1/33)
[حديث: فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه]
14# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع المتقدم (قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة الحمصي، (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (أبو الزِّناد)؛ بكسر الزاي وبالنون: عبد الله بن ذكوان المدني، القرشي، التابعي، المتوفى سنة ثلاثين ومئة، (عن الأعرج) أبي داود عبد الرحمن بن هرمز التابعي المدني القرشي، المتوفى بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومئة على الأصح، (عن أبي هريرة) نقيب أهل الصُّفَّة (رضي الله عنه: أن) بفتح الهمزة (رسول الله) وفي رواية: (عن النبي) أي: الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: فو) الله (الذي) بالفاء، وفي رواية: (والذي) (نفسي) أي: روحي (بيده)؛ أي: بقدرته، أو هو من المتشابه المفوَّض علمه إلى الله تعالى، والأول أعلم، والثاني أسلم.
وروي عن إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم _وحيث أطلق لا يراد به إلَّا أبو حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنه، وأسكنه في أعلى الجنان_ يلزم من تأويلها بالقدرة عين التعطيل، فالسبيل إليه كأمثاله: الإيمان به على ما أراد سبحانه، ونكف عن الخوض في تأويله فنقول: له يد على ما أراد لا كيَد المخلوق؛ وهكذا، انتهى.
وأقسم تأكيدًا، وفيه إشارة إلى جواز القسم على الأمر المهم للتأكيد وإن لم يكن هناك مستحلِف، والمقسَم عليه هنا قوله: (لا يؤمن أحدكم)؛ أي: لا يجد حلاوة الإيمان (حتى أكون أحب إليه) (أفعل) تفضيل بمعنى المفعول، وهو هنا مع كثرته _على غير قياسٍ_ منصوب خبرًا لـ (أكون)، وفصل بينه وبين معموله بقوله: (إليه)؛ لأنَّه يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره، (من والده) أبيه؛ أي: وأمه، وإنَّما خصَّ الأب واكتفى به؛ لما أنه يعلمه طريق الحق المستقيم، والاختلاط بالأولياء، والعلماء، والصالحين، وأحكام الله تعالى، بخلاف الأم، فهو أحق بالمحبة من الأم؛ فلذا اكتفى عليه السلام به، (وولده) ذكرًا أو أنثى، وعند النسائي: قدم الولد على الوالد؛ وذلك لمزيد الشفقة والرحمة، وأنه بضعة منه، وأنه يخلفه في داره، وعرضه، وماله، ويدعوله بعد موته، فهي صدقة جارية، فلا شك في كونه محبوبًا.
==========
%ص 14%
==================
(1/34)
[حديث: لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده]
15# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (يعقوب) أبو يوسف (بن إبراهيم) بن كثير الدورقي العبدي المتوفى سنة اثنتين وخمسين ومئتين (قال: حدثنا ابن عُلَيَّة)؛ بضم العين المهملة، وفتح اللام، وتشديد المثناة تحت؛ نسبة إلى أمه، واسمه: إسماعيل بن إبراهيم بن سهم البصري الأسدي، أسد خزاعة، الكوفي الأصل، المتوفى ببغداد سنة أربع وتسعين ومئة، (عن عبد العزيز بن صُهَيْب)؛ بضم الصاد المهملة، وفتح الهاء، وسكون المثناة تحت، آخره موحدة: البُناني؛ بضم الموحدة وبالنون؛ نسبة إلى (بنانه)؛ بطن من قريش، التابعي كأبيه، (عن أنس) وفي رواية: (ابن مالك)، (عن النبي) الأعظم، وفي رواية: (عن أنس قال: قال النبي)؛ أي: الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، ولفظ متن هذا السند؛ كما رواه ابن خزيمة عن يعقوب بهذا الإسناد: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله).
(ح) علامة للتحويل: (وحدثنا آدم) بن أبي إياس بالواو، عطف على السند السابق، العاري عن المتن، الموهمة لاستواء السندين في المتن الآتي، وليس كذلك؛ فليحفظ، (قال: حدثنا شعبة) بن الحجاج، (عن قتادة) بن دِعامة، (عن أنس) أنه (قال: قال النبي) الأعظم، وفي رواية: (قال رسول الله) (صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم)؛ أي: لا يجد حلاوة الإيمان (حتى أكون أحبَّ) بالنصب (إليه من والده) أبيه وأمه أو أعم (وولده) ذكرًا أو أنثى (والناس أجمعين)؛ هذا من باب عطف العام على الخاص، وتدخل النفس في عموم الناس؛ لما يأتي في حديث عبد الله بن هشام من التنصيص على ذكر النفس، والمراد هنا: المحبة الإيمانية؛ وهي اتباع المحبوب، لا الطبيعية، ومن ثم لم يحكم بإيمان أبي طالب مع حبه له عليه السلام، على ما لا يخفى.
==================
(1/35)
(9) [بابُ حلاوةِ الإيمان]
هذا (باب حلاوة الإيمان) والمراد: أن الحلاوة من ثمراته؛ فهي أصل زائد عليه، وسقط لفظ (باب) عند الأصيلي.
==========
%ص 14%
==================
(1/36)
[حديث: ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان]
16# وبه قال: (حدثنا محمد بن المثنى) بالمثلثة ابن عبيد العنَزي؛ بفتح النون بعدها زاي؛ نسبة إلى عنَزة بن أسد؛ حي من ربيعة، البصري، المتوفى بها سنة اثنتين وخمسين ومئتين، (قال: حدثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد بن الصلت (الثقفي) بالمثلثة، بعدها قاف، ثم فاء؛ نسبة إلى ثقيف، البصري، المتوفى سنة أربع وتسعين ومئة.
(قال: حدثنا أيوب) بن أبي تميم، واسمه: كيسان السختياني؛ بفتح المهملة؛ نسبة لبيع السختيان؛ وهو الجلد، البصري، المتوفى بها سنة إحدى وثلاثين ومئة.
(عن أبي قِلابة)؛ بكسر القاف وبالموحدة: عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر، البصري المتوفى بالشام سنة أربع ومئة، (عن أنس) وفي رواية: (ابن مالك) (رضي الله عنه عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: ثلاث)؛ أي: ثلاث خصال، مبتدأ خبره جملة (من كن فيه؛ وجد)؛ أي: أصاب (حلاوة الإيمان)؛ ولذلك اكتفى بمفعول واحد، والمراد بـ (حلاوة الإيمان): استلذاذه بالطاعات وانشراح الصدر لها؛ بحيث يخالط لحمه ودمه، فيتنور وجهه، ويحصل له التوفيق الإلهي، فيترك المنهيات ويفعل المأمورات؛ (أن يكون الله) تعالى (ورسوله) عليه السلام (أحب) أفرد الضمير فيه؛ لأنَّه أفعل تفضيل، وهو إذا وُصل بـ (من) أفرد دائمًا (إليه مما) إنَّما قال: (مما) ولم يقل: (ممن)؛ ليعم العاقل وغيره، (سواهما) عبر بالتثنية؛ إشارة إلى أن المعتبر: هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما؛ فإنَّها وحدها لاغية إذا لم تربط بالأخرى، ولا يعارض تثنية الضمير هنا بقصة
%ص 14%
الخطيب؛ حيث قال:
ومن يعصهما؛ فقد غوى، فقال له عليه السلام: «بئس الخطيب أنت»، فأمره بالإفراد؛ إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزامه الغواية، وقيل: إنه من الخصائص فيمتنع من غيره عليه السلام، والمراد بـ (الحب) هنا العقلي؛ وهو إيثار ما يقتضي العقل رجحانه، ويستدعي اختياره، وإن كان على خلاف هواه؛ فتأمل.
(وأن يحب) المتلبس بها (المَرء) بفتح الميم حال كونه (لا يحبه إلا لله) عز وجل، (وأن يكره) المكروه ضد المحبوب (أن يعود)؛ أي: العود (في الكفر كما يكره أن يُقذَف)؛ بضم أوله وفتح ثالثه؛ أي: مثل كرهه القذف (في النار)؛ وهذا نتيجة حلاوة الإيمان بظهور نوره، وضياء محاسنه، وقبح الكفر وشينه، وإنما عَدَّى (العَوْد) بـ (في) ولم يُعَدِّه بـ (إلى).
أجاب الإمام شهاب الدين الكرماني: بأنه ضمِّن معنى الاستقرار؛ كأنَّه قال: أن يعود مستقرًا فيه، وارتضاه ابن حجر العسقلاني وأجاب به، واعترضه الإمام بدر الدين العيني: بأنَّ هذا تعسف، وإنما (في) هنا؛ بمعنى (إلى) كقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]؛ أي: لتصيرنَّ إلى ملتنا، قلت: وهو وجيه، كما لا يخفى على من له أدنى حظ في العلم، فرحم الله هذا الإمام ما أعلمه في المنطوق، والمفهوم، والحجة، والبرهان، وما ذاك إلا من الحنان المنان، اللهم إنِّي أسألك بسيدنا النبي الأعظم عليه السلام وبقدوتنا الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ أن يطيل عمري في طاعتك، ويرزقني العلم النافع، والرزق الواسع، ويقهر أعدائي قهرًا يمنع عنهم الراحة والقرار، ويضيِّق عليهم فسيح الأرض، وواسع الأقطار، وأن يدخلني الجنة، وأن يكثر أولادي ويجعلهم من الصالحين، آمين.
==================
(1/37)
(10) [بابٌ علامة الإيمان حب الأنصار]
ولما ذكر المؤلف حلاوة الإيمان؛ أراد أن يبين علامته؛ فقال: (باب) بالتنوين: (علامة) حلاوة (الإيمان حب الأنصار) فـ (علامة) مبتدأ، خبره (حب)، وسقط التنوين للأصيلي ونسخة، فقوله: (علامة) مجرور بالإضافة.
==================
(1/38)
[حديث: آية الإيمان حب الأنصار]
17# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي؛ نسبة لبيع الطيالسة، البصري، المتوفى سنة عشرين ومئتين، (قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الله بن عبد الله) بفتح العين فيهما (بن جَبْر) بفتح الجيم وسكون الموحدة، الأنصاري المدني (قال: سمعت أنسًا) وفي رواية: (أنس بن مالك) (رضي الله عنه عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: آية)؛ أي: علامة حلاوة (الإيمان)؛ بالهمزة الممدودة والمثناة التحتية المفتوحة (حب الأنصار)؛ الأوس والخزرج، جمع قلة على وزن (أفعال)؛ لأنَّه معرفة، فلا فرق بين القلة والكثرة؛ فليحفظ.
وإنما قدَّرنا مضافًا؛ لظهور المراد على أنَّ العلامة في الشيء غير داخلة في حقيقته، فلا دلالة فيه على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ بل فيه دلالة واضحة على أن الأعمال خارجة عن الإيمان؛ وهي من ثمراته، وأما جواب بعضهم عن هذا؛ فلا ينهض دليلًا لمدّعاه، على أنَّه قد أجيب عنه بما يطول؛ فتأمل.
(وآية) بالمد؛ أي: علامة (النفاق)؛ وهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر (بغض الأنصار)؛ من حيث إنهم أنصاره عليه السلام، وهذا من أعلام النبوة؛ حيث أنبأنا أنه سيوجد بعدَه منافقون يُبغضون أنصاره، وإنما خُصُّوا بهذه المنقبة العظيمة؛ لما فازوا به من نصره عليه السلام، والسعي في إظهاره، مع معاداتهم جميع من وجد من قبائل العرب والعجم، وإنما عبر بالنفاق ولم يعبر بالكفر؛ لأنَّه ليس بكافر في الظاهر.
==================
(1/39)
(11) [باب]
(بابٌ) بالتنوين بدون ترجمة، ولفظ الباب؛ ساقط في رواية، فالحديث التالي من جملة الترجمة السابقة، وعلى روايةٍ إثباتُه؛ فهو كالفصل عن ما قبله مع تعلقه به.
==========
%ص 15%
==================
(1/40)
[حديث: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا]
18# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي (قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة القرشي (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو إدريس عائذ الله) بالمعجمة؛ اسم علم؛ أي: ذو عياذة بالله، فهو عطف بيان لقوله: (أبو إدريس) (بن عبد الله) الصحابي، ابن عمر الخولاني، الدمشقي، الصحابي؛ لأنَّ مولده كان عام حنين، التابعي من حيث الرواية، المتوفى بالشام بقرية داريا الكبرى سنة ثمانين: (أن عُبادة) بضم العين (بن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي، المتوفى بالرملة سنة أربع وثلاثين عن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين، (رضي الله عنه وكان شهد بدرًا)؛ أي: وقعتها، فالنصب بقوله: (شهد) وليس مفعولًا فيه؛ كذا قيل؛ وهي بئرٌ سميت باسم بانيها؛ بدر من بني النضر، (وهو أحد النقباء) جمع نقيب؛ وهو الناظر على القوم، وكانوا اثني عشر رجلًا (ليلة العقبة)؛ بمنى؛ أي: فيها، و (الواو) في (وهو) كواو (وكان) هي الداخلة على الجملة الموصوف بها؛ لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت ولا ريب أنَّ كون شهودِ عُبادةَ بدرًا وكونه من النقباء صفتان من صفاته، ولا يجوز أن تكون الواو للحال ولا للعطف؛ كذا قاله شيخ الإسلام بدر الدين العيني.
قيل: إن هذا ذكره ابن هشام في «المغني» معزيًا للفاضل الزمخشري، واعترضه ابن مالك في «شرح التسهيل»، وأجاب عنه نجم الدين سعيد، واعترضه الدماميني، وأجاب عنه الإمام العلامة الشُّمُنِّي الحنفي، وقد تبع جار الله الزمخشري في ذلك أبو البقاء الحنفي العكبري وقوَّاه؛ فليحفظ.
قيل: ويَحتمل أن يكون قائل ذلك أبا إدريس؛ فيكون متصلًا، وإن حُمل على أنه سمع ذلك من عُبادة أو الزهري؛ فيكون منقطعًا، والجملة اعتراض بين (أن) وخبرها الساقط من أصل الرواية، ولعلها سقطت من ناسخ بعدَه؛ بدليل ثبوتها عند المؤلف في (باب من شهد بدرًا)، والتقدير هنا: أنَّ عُبادة أخبر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحولَه) بالنصب على الظرفية (عِصابة)؛ بكسر العين؛ ما بين العشرة إلى الأربعين، وقوله: (من أصحابه) صفة لـ (عصابة)، والجملة اسمية، و (عصابة) مبتدأ، خبرُه (حولَه) مقدمًا، وإنما قال: (وهو أحد النقباء وإنه شهد بدرًا)؛ للتقوية والترجيح: (بايعوني)؛ أي: عاقدوني (على) التوحيد (ألَّا تشركوا بالله شيئًا)؛ أي: على ترك الإشراك، وهو عام؛ لأنَّه نكرة وهي سياق النهي كالنفي تعم، وقدَّمه؛ لأنَّه الأصل (و) على أن (لا تسرقوا) فيه حذف المفعول؛ ليدل على العموم (ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم) خصهم بالذكر؛ لأنَّهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإملاق، أو لأنَّ قتلهم؛ أكبر من قتل غيرهم؛ وهو الوأد؛ وهو أشنع القتل، أو إنه قتل وقطيعة رحم، فصرف العناية إليه أكثر، (ولا تأتوا) بحذف النون، وفي رواية: بإثباتها، (ببهتان)؛ أي: بكذب يبهت سامعه؛ أي: يدهشه؛ لفظاعته كالرمي بالزنا، وقوله: (تفترونه) من الافتراء؛ أي: تختلقونه (بين أيديكم وأرجلكم)؛ أي: من قِبل أنفسكم، فكنى باليد والرجل عن الذات؛ لأنَّ معظم الأفعال بهما (ولا تعصوا في معروف) قيَّد به مع أنه عليه السلام لا (يأمر) به؛ للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وخص ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره؛ للاهتمام به، (فمن وفى)؛ أي: ثبت على العهد، و (وفى) بالتخفيف، وفي رواية: بالتشديد (منكم؛ فأجره على الله) فضلًا ووعدًا بالجنة؛ كما وقع التصريح به في «الصحيحين»، وفي رواية الصنابحي عن عبادة، وعبر بلفظ (على) وبـ (الأجر)؛ للمبالغة في تحقق وقوعه؛ لأنَّه لا يجب على الله شيء عندنا، (ومن أصاب) منكم أيها المؤمنون (من ذلك شيئًا) غير الشرك بنصب (شيئًا) مفعول (أصاب) الذي هو صلة من الموصول المتضمن معنى الشرط، والجار للتبعيض، (فعوقب)؛ أي: به كما رواه أحمد؛ أي: بسببه (في الدنيا)؛ أي: بأن أقيم عليه الحد؛ (فهو)؛ أي: العقاب مع التوبة النصوحة (كفارة له) فلا يعاقب عليه في الآخرة، أما إذا لم يتب؛ فإنَّه يعاقب في الآخرة؛ لأنَّ الحدود شرعت لنفع الكافة من صيانة الأنساب، والأعراض، والأموال، وإقامة الحدود مع عدم التوبة؛ لا يفيد المقصود، فلا يكون الحد مطهرًا من الذنب؛ بل المطهر إنَّما هو التوبة عملًا بآية قُطاع الطريق؛ حيث قال الله تعالى بعد ذكر أحكامهم: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ*إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 33 - 34].
فأخبر تعالى أن آخر فعلهم؛ عقوبة دنيوية وأخروية، إلَّا من تاب؛ فإنَّها تسقط عنه الأخروية بالإجماع؛ للإجماع على أن التوبة لا تُسقط الحد في الدنيا، ويدل لهذا حديث أبي هريرة المروي عند البزار والحاكم وصححه أنه عليه السلام قال: «لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا».
وأما حديث علي وفيه: «ومن أصاب ذنبًا فعوقب فيه في الدنيا؛ فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة»؛ محمول على أنه عند العقوبة قد تاب عن الذنب، على أن قوله: (أن يثني ... إلى آخره)؛ دليل على أنه إذا لم يتب يعاقب في الآخرة؛ فافهم.
و (شيئًا): نكرةٌ؛ وهي تفيد العموم، فيشمل إصابة الشرك وغيره، وأجيب بأن المراد بالشرك؛ الإشراك بالله؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، وما قيل: إنه الشرك الأصغر وهو الرياء؛ فممنوع؛ لأنَّ الشارع إذا أطلق الشرك إنَّما يريد به ما يقابل التوحيد؛ فليحفظ.
(ومن أصاب من ذلك) المذكور (شيئًا) غير الشرك؛ كما مر، (ثم ستره الله) وفي رواية: (عليه)؛ (فهو) مفوض (إلى الله) عز وجل (إن شاء عفا عنه) بفضله (وإن شاء عاقبه) بعدله (فبايعناه)؛ أي: عاقدناه (على ذلك) المذكور.
قيل: مفهومه يتناول من تاب ومن لم يتب، وإنه لم يتحتم دخوله النار؛ بل هو في مشيئة الله تعالى، قلت: يُعارض هذا المفهوم قولُه تعالى في آية قطاع الطريق: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، فالاستثناء راجع إلى عذاب الدنيا والآخرة؛ حتى لو تاب قبل القدرة عليه بعد ما خاف الطريق، ولم يقتل، ولم يأخذ شيئًا، سقط عنه حق
%ص 15%
الدنيا والعقاب في الآخرة، وهذا هو التحقيق؛ كذا في «النهر الفائق شرح كنز الدقائق»، قلت: لكن لا يأمن من مكر الله؛ لأنَّه لم يطلع على قبول توبته، ومن كرمه قبولها.
ونقل العلامة البيرمي في «شرحه على الأشباه» عن «الجواهر»: رجل شرب الخمر وزنى ثم تاب ولم يحد في الدنيا، هل يحد له في الآخرة؟ قال: الحدود حقوق الله تعالى إلَّا أنه تعلق بها حق الناس؛ وهو الانزجار، فإذا تاب توبة نصوحة؛ أرجو ألَّا يحد في الآخرة، فإنَّه لا يكون أكثر من الكفر والردة، وإنَّه يزول بالإسلام والتوبة، انتهى؛ أي: فإن المرتد إذا تاب، فإنه لا يعاقب في الدنيا والآخرة، أما إذا قتل على ارتداده؛ فلا يكون قتله كفارة له؛ لعدم توبته ولبقائه على الشرك، وأخبر سبحانه: بأنَّه لا يغفر أن يشرك به، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.
==================
(1/41)
(12) [بابٌ من الدِّين الفرار من الفتن]
(باب) بالتنوين: (من الدين الفرار من الفتن) إنَّما لم يقل: من الإيمان؛ لمراعاة لفظ الحديث، وليس المراد الحقيقة؛ لأنَّ الفرار ليس بدين، فالتقدير: الفرار من الفتن شعبة من شعب الإيمان، ويدل عليه أداة التبعيض.
==========
%ص 16%
==================
(1/42)
[حديث: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم]
19# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مَسلَمة)؛ بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة: ابن قعنب الحارثي البصري، ذو الدعوة المجابة، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومئتين، (عن مالك) هو ابن أنس (عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) الأنصاري المازني المدني، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئة، (عن أبيه) عبد الله، (عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري (الخُدْري)؛ بضم الخاء وسكون المهملة: نسبة إلى (خدرة) جده الأعلى أو بطن، المتوفى بالمدينة سنة أربع وستين أو أربع وسبعين، وفي رواية: (رضي الله عنه): (أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشِك)؛ بكسر المعجمة، قيل: فتحها رديء، من أفعال المقاربة؛ أي: يقرب (أن يكون خير مال المسلم غنمًا) بالنصب؛ خبر (يكون)، وفي رواية: بنصب (خيرَ) خبرًا مقدمًا، ورفع (غنمٌ) اسمًا مؤخرًا، و (الغنم): اسم مؤنث موضوع للجنس، يقع على الذكور والإناث جميعًا، وعلى الذكور وحدهم، وعلى الإناث وحدهن، فإذا صغرتها؛ ألحقتها الهاء، (يتَّبع بها)؛ بتشديد المثناة الفوقية: (افتعال) من (اتبع اتباعًا)، ويجوز إسكانها من (تَبِع) بكسر الموحدة (يتبَع) بفتحها؛ أي: يتبع بالغنم (شَعَفَ)؛ بمعجمة فمهملة مفتوحتين: جمع شَعَفة؛ بالتحريك، وهو بالنصب مفعول (يتَّبع)؛ أي: رؤوس (الجبال ومواقِعَ)؛ بكسر القاف، بالنصب عطف على (شعَفَ)؛ أي: مواضع نزول (القطر)؛ أي: المطر؛ أي: بطون الأودية والصحارى حال كونه (يفر بدينه)؛ أي: يهرب بسببه أو مع دينه (من الفتن)؛ طلبًا لسلامته لا لقصد دنيوي، فالعزلة في أيام الفتن فضيلة، إلَّا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة؛ فإنَّه يجب عليه السعي في إزالتها؛ إما فرض عين أو فرض كفاية بحسب الحال والإمكان، وأما في غير أيام الفتنة؛ فاختلف العلماء في العزلة والاختلاط؛ فقال الشيخ الإمام ركن الدين الكرماني: المختار في عصرنا تفضيل الانعزال؛ لندور خلو المحافل من المعاصي، وقال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: قلت أنا موافق فيما قال: فإن الاختلاط مع الناس في هذا الزمان لا يجلب إلَّا الشرور، انتهى، قلت: بل ينبغي أن يقال: إن العزلة في زماننا واجبة؛ لما يحصل من المعاصي، وارتكاب الآثام، وإباحة المحرمات، وسب الدين الذي يخرج به من الإيمان، وغير ذلك من المنكرات، وقال الشافعي: الأفضل الاختلاط إلا لفقيه لا يسلم دينه بالاختلاط.
==========
%ص 16%
==================
(1/43)
(13) [باب قول النبي: أنا أعلمكم بالله]
(باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) بالإضافة، وسقط في رواية لفظ (باب)، ومقول قوله عليه السلام: (أنا أعلمكم بالله) وفي رواية: (أنا أعرفكم بالله)، والفرق بينهما: أن المعرفة هي إدراك الجزئي، والعلم إدراك الكلي.
(و) باب بيان (أن المعرفة)؛ بفتح الهمزة ويجوز الكسر على الاستئناف، (فعل القلب)، فالإيمان بالقول وحده؛ لا يكون إلا بانضمام الاعتقاد إليه، خلافًا للكرَّامية، والاعتقاد؛ فعل القلب؛ (لقوله تعالى) وفي رواية: (لقوله عز وجل): ({وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}) [البقرة: 225]؛ أي: عزمت عليه، وفيه دليل للجمهور من أن أفعال القلوب إذا استقرت؛ يؤاخذون بها، ويعارضه قوله عليه السلام: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل»، وأجيب: بأنه محمول على إذا لم يستقر، وذلك معفو عنه؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، بخلاف الاستقرار.
==========
%ص 16%
==================
(1/44)
[حديث: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا]
20# وبه قال: (حدثنا محمد بن سلَام)؛ بالتخفيف والتشديد، وقيل: إن التشديد لحن، وتمامه في «شرح الشيخ الإمام بدر الدين العيني»، واسم أبيه: الفرج السلمي، زاد في رواية: (البِيْكَندِي)؛ بموحدة مكسورة، ثم مثناة تحتية ساكنة، ثم كاف مفتوحة، ثم نون ساكنة؛ نسبة إلى بيكند؛ بلدة على مرحلة من بخارى، توفي سنة خمس وعشرين ومئتين (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (عَبْدة)؛ بسكون الموحدة، قيل: هو لقبه، واسمه عبد الرحمن بن سليمان بن حاجب الكلابي الكوفي، المتوفى بها في رجب سنة ثمان وثمانين ومئة، (عن هشام) هو ابن عروة، (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم)؛ أي: أمر الناس بالعمل (أمرهم من الأعمال بما) وفي رواية: (ما) (يطيقون)؛ أي: يطيقون الدوام عليه، فخير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قلَّ، والكثرة تؤدي إلى القطع؛ وهو نقض العهد صورة، و (أمرهم) الثانية جواب أول للشرط، والثاني قوله: (قالوا: إنا لسنا كهَيئتك)؛ بفتح الهاء؛ وهي الصورة والحالة، وليس المراد نفي تشبيه ذواتهم بحالته عليه السلام، فلا بد من التأويل، فالمراد من (هيئتك): كمثلك؛ أي: كذاتك أو كنفسك، وزيد لفظ الهيئة؛ للتأكيد؛ نحو: مثلك لا يبخل، أو [حال] من (لسنا)؛ أي: ليس حالنا كحالك، فحذف الحال وأقيم المضاف إليه مقامه، فاتصل الفعل بالضمير، فقيل: لسنا كهيئتك، قاله الشيخ الإمام ركن الدين الكرماني، (يا رسول الله؛ إن الله قد غفر لك)؛ أي: عفا عنك (ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر)؛ أي: منه، والمراد: ترك الأَولى والأفضل بالعدول إلى الفاضل وترك الأفضل، كأنَّه ذنب؛ لجلالة قدر الأنبياء عليهم السلام، قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ وهو أولى مما قال القسطلاني نقلًا عن البرماوي؛ فليحفظ.
(فيغضب)؛ على صورة المضارع، والمراد منه: حكاية الحال الماضية (حتى يُعرف)؛ بصيغة المجهول، وفي أكثر الروايات؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني: (فغضب حتى عُرف) (الغضبُ) بالرفع (في وجهه) عليه السلام، وفيه دليل على جواز الغضب عند رد أمر الشرع، ونفوذ الحكم في حال الغضب والتغير، (ثم يقولُ)؛ بالرفع عطفًا على (يغضب): (إن أتقاكم)؛ أي: أكثركم تقوًى (أعلمكم بالله) عز وجل (أنا) فـ (أتقاكم) اسم (إن)، و (أعلمكم) عطف عليه، و (أنا) خبرها، والمعنى: كأنَّهم قالوا: أنت مغفور لك لا تحتاج إلى عمل ومع هذا تواظب على الأعمال، فكيف بنا مع كثرة ذنوبنا؟! فرد عليهم بقوله: أنا أولى بالعمل؛ لأنِّي أتقاكم وأعلمكم، وأشار بالأول إلى القوة العملية، وبالثاني إلى القوة العلمية، واستدل بهذا على أن أول فرض على المكلف معرفة الله سبحانه وتعالى، وفيه دليل على أن الرجل يجوز له الإخبار بفضيلة نفسه إذا دعت إلى ذلك حاجة؛ فليحفظ.
==========
%ص 16%
==================
(1/45)
(14) [باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان]
(باب) ذكر كراهة (من كره أن يعود)؛ أي: العود (في الكفر كما يكره أن يلقى)؛ أي: ككراهة الإلقاء (في النار من الإيمان)؛ أي: من شُعَبه، ولفظ (باب) ساقط في رواية، ويجوز فيه التنوين، وإضافته لتاليه، وعلى كل تقدير؛ فـ (مَن) مبتدأ و (من الإيمان) خبره و (أن) في الموضعين مصدرية، وكذا (ما) و (من) موصولة، و (كره أن يعود) صلتها، وسقط في رواية (من الإيمان).
==========
%ص 16%
==================
(1/46)
[حديث: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان]
21# وبه قال: (حدثنا سليمان بن حَرْب)؛ بفتح المهملة، وسكون الراء، آخره موحدة: ابن بَجِيْل؛ بفتح الموحدة، وكسر الجيم، وسكون المثناة التحتية، آخره لام: الأزدي الواشِحي؛ بكسر الشين المعجمة والحاء المهملة؛ نسبة إلى بطن من الأزد، البصري قاضي مكة، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج (عن قتادة) بن دِعامة (عن أنس) وفي رواية: عن أنس بن مالك (رضي الله عنه عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال): خصال (ثلاث) أو ثلاث خصال، فعلى الأول (ثلاث) صفة لمحذوف، وعلى الثاني مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به إضافته إلى الخصال، والجملة خبره؛ وهي (من كن فيه وجد)؛ أي: أصاب (حلاوة الإيمان) باستلذاذه الطاعات وتحمل المشقات في أمر الدين، وهل هذه الحلاوة محسوسة أو معنوية؟ فيه خلاف، والأرجح الأول، ويدل له قول بلال: (أحد أحد) حين عُذِّب في الله؛ إكراهًا على الكفر، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وعند موته قالوا أهله: واكرباه، وهو يقول: (واطرباه غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه)، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، (من كان الله) يجوز في إعرابه وجهان: أحدهما: أن يكون بدلًا من (ثلاث) أو بيانًا، ويجوز أن [يكون] خبرًا لقوله: (ثلاث) على تقدير كون الجملة الشرطية صفة لـ (ثلاث)، والثاني: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: الأول مِن الذين فيهم الخصال من كان الله (ورسوله أحب إليه مما سواهما) من نفسه، وولده، ووالده، وأهله، وماله، وكل شيء، ولهذا قال: (مما) ولم يقل: ممن؛ ليعم من يعقل ومن لا يعقل.
%ص 16%
(و) الثاني منها: (من أحب عبدًا) وفي الرواية السابقة: (أن يحب المرءَ) (لا يحبه إلا لله) زاد في رواية: (عز وجل) (و) الثالث منها: (من يكره أن يعود) أي: العود (في الكفر بعد إذ أنقذه الله)؛ أي: خلَّصه ونجَّاه، زاد في رواية: (منه) (كما يكره أن يلقى في النار) وفي الرواية السابقة: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف فيالنار)، ولا تكرير في سياق الحديث هنا؛ لأنَّ المبوّب له حلاوة الإيمان فيما سبق، وهنا المحبة لله وكراهة الكفر؛ فتأمل، وفيه دليل واضح لإمامنا الإمام الأعظم ومَن قال بقوله، على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإنَّما الذي يزيد وينقص ثمراته، مثال ذلك: أن المؤمن الفاسق بارتكابه المعاصي إيمانه كإيمان العالم، لكن الفاسق لا يجد حلاوته؛ بسبب ارتكابه المعاصي، وأما العالم؛ فيجد حلاوته؛ بسبب امتثاله أوامر الله تعالى، وذلك كالبيضة الفضة التي عليها الوسخ فإنَّها سوداء، فإذا جُليت مرة؛ تضيء شيئًا قليلًا، وفي المرة [الثانية] يظهر نورها أكثر من الأول ... ؛ وهكذا، فالإيمان كالفضة، وظهور نوره وحلاوته بأداء الطاعات، وعدم ذلك بارتكاب المعاصي، كما لا يخفى على من له أدنى حظٌّ في العلم؛ فليُحفظ.
==================
(1/47)
(15) [باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال]
(باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال) التي هي ثمرات الإيمان، فالتفاضل الحاصل بسبب الأعمال، وسقط لفظ (باب) عند الأصيلي.
==================
(1/48)
[حديث: يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار]
22# وبه قال: (حدَّثنا إسماعيل) بن أبي أويس بن عبد الله الأصبحي المدني، ابن أخت الإمام مالك، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئتين، وقد تُكُلِّم فيه؛ كما أوضحه الشيخ الإمام بدر الدين العيني رحمه الله، (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس، (عن عمرو بن يحيى) بن عمارة _بفتح العين عَمرو_ (المازني) المدني، المتوفى سنة أربعين ومئة، (عن أبيه) يحيى، (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخُدري) بالدال المهملة (رضي الله عنه، عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: يدخل أهل الجنة الجنة)؛ أي: فيها، وعبر بالمضارع العاري عن سين الاستقبال المتمحض للحال؛ لتحقق وقوع الإدخال، (و) يدخل (أهل النار النار)؛ أي: فيها، (ثم) بعد دخولهم فيها (يقول الله تعالى) وفي رواية: (عز وجل)، للملائكة: (أخرجوا)؛ بهمزة قطع مفتوحة: أمر من الإخراج، زاد في رواية: (من النار) (مَن) أي: الذي (كان في قلبه) زيادة على أصل التوحيد (مثقال حبة) وقد جاء في «الصحيح» بيان ذلك، ففي رواية فيه: «أخرجوا من قال: لا إله إلا الله، وعمل من الخير ما يزن كذا»، ثم بعد هذا يخرج منها من لم يعمل خيرًا قط غير التوحيد.
قال الإمام القاضي عِياض: هذا هو الصحيح؛ لأنَّ معنى الخير هنا أمر زائد على الإيمان؛ لأنَّ مجرَّده لا يتجزَّأ، وإنما ينجزئ الأمر الزائد عليه؛ وهي الأعمال الصالحة؛ من ذكر خفي، أو شفقة على مسكين، أو خوف من الله تعالى، ونية صادقة في عمل؛ كذا في «عمدة القاري»، وهذه الجملة محلها النصب مفعولَ (أخرجوا) و (مَن) موصولة، وقوله: (كان في ... ) إلى آخره صلتها، و (مثقال حبة) كلام إضافي مرفوع؛ لأنَّه اسم (كان)، وخبره قوله: (في قلبه) مقدَّمًا، ويجوز أن يكون (اخرجوا) بضم الهمزة من الخروج، وعليه يكون (مَن) منادى حذف منه حرف النداء، والتقدير: اُخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة، (من خردل من إيمان)؛ بالتنكير؛ لأنَّ المقام يقتضي التقليل، والقلة هنا: باعتبار انتفاء الزيادة على ما يكفي، لا لأنَّ الإيمان ببعض ما يحب الإيمان به كافٍ؛ لأنَّه علم من عرف الشرع أن المراد من الإيمان الحقيقة المعهودة، وفي رواية: (من الإيمان) بالتعريف.
وهذا قوله: (من خردل من إيمان)، من باب التمثيل، فيكون عيارًا في المعرفة وليس عيارًا في الوزن؛ لأنَّ الإيمان ليس بجسم يحصره الوزن أو الكيل، لكن ما يشكل من المعقول قد يُرَدُّ إلى عيار محسوس؛ ليُفهم، ويُشبَّه به؛ ليُعلم، والتحقيق فيه: أن يُجعل عمل العبد وهو عرَض في جسم على مقدار العمل عنده تعالى، ثم يُوزن، ويدلُّ عليه ما جاء مبينًا في قوله: (وكان في قلبه من الخير ما يزن برة)، أو تُمثَّل الأعمال بجواهر؛ فتُجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة، أو الموزون الخواتيم، فإن كانت خاتمة عمله حسنًا؛ جوزي بخير، وإن كانت خاتمة عمله شرًّا؛ جُوزي بشر.
وذكر القاضي عياض: أن المعنى في قوله: (من إيمان) ومن خير وما جاء منه؛ أي: من اليقين، إلَّا أنَّه قال: المراد الثواب؛ أي: ثواب الإيمان الذي هو التصديق، وبه يقع التفاضل، فإن أتبعه بالعمل؛ عظم ثوابه، وإن كان على خلاف ذلك؛ نقص ثوابه، فإن قيل: كيف تعلمون [1] ما كان في قلوبهم في الدنيا من الإيمان ومقداره؟ قلت: لعله بعلامات؛ كما يعلمون أنهم من أهل التوحيد؛ كذا في «عمدة القاري».
قال القسطلاني: قال الغزالي: من أيقن بالإيمان وحال بينه وبين النطق به الموت؛ فهو ناج مستدلًا بقوله: (أخرجوا ... ) إلى آخره، وأما من قدر على النطق ولم يفعل حتى مات مع إيقانه بالإيمان بقلبه؛ فيحتمل أن يكون امتناعه منه بمنزلة امتناعه عن الصلاة؛ فلا يخلد في النار، ويحتمل خلافه، ورجح غيره الثاني، فيحتاج إلى تأويل قوله: (في قلبه) فيقدر فيه محذوف تقديره: منضمًا إلى النطق به مع القدرة عليه.
ومنشأ الاحتمالين: الخلاف في أن النطق بالإيمان شطر، فلا يتم الإيمان إلَّا به؛ وهو مذهب جماعة من العلماء، واختاره الإمام شمس الأئمة وفخر الإسلام، أو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط؛ وهو مذهب جمهور المحققين؛ وهو اختيار الشيخ الإمام أبي منصور، والنصوص معاضدة لذلك، قاله المحقق الثاني سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى.
(فيخرجون منها)؛ أي: من النار حال كونهم (قد اسودوا)؛ أي: صاروا سودًا من تأثير النار (فيُلقون)؛ بضم المثناة التحتية: مبنيًّا للمفعول (في نهر الحيا) بالقصر، وفي رواية: بالمد، قيل: ولا معنى له؛ أي: المطر (أو الحياة) بالمثناة الفوقية آخره؛ وهو النهر الذي مَن غُمس فيه حيي، وهو غير الكوثر، كما لا يخفى، (شك مالك) وفي رواية: (يشك) بالمثناة التحتية أوله؛ أي: في أيهما الرواية، وجملة (شك) اعتراض بين قوله: (فيلقون في نهر الحياة) السابق، وبين لاحقه؛ وهو قوله: (فينبتون) ثانيًا (كما تنبت الحِبة)؛ بكسر المهملة وتشديد الموحدة؛ أي: كنبات بزر العشب، فـ (أل) للجنس أو للعهد، والمراد: البقلة الحمقاء؛ لأنها تنبت سريعًا، (في جانب السيل، ألم تر) خطابٌ لكل من يأتي منه الرؤية (أنها تخرج) حال كونها (صفراء) تسر الناظر، وحال كونها (ملتوية) متمثلة منثنية، فالتشبيه؛ من حيث الإسراع والحسن، والمعنى: من كان في قلبه مثقالُ حبة من الإيمان يخرج من ذلك الماء نضرًا متنجدًا كخروج هذه الريحانة من جانب السيل صفراء متمايلة، وحينئذٍ فيتعين كون (أل) في الحبة للجنس؛ كذا قيل؛ فتأمل.
وبه قال: (قال وُهَيب)؛ بضم أوله، وفتح ثانيه مصغَّرًا، آخره موحدة: ابن خالد بن عجلان الباهلي البصري: (حدثنا عمرو)؛ بفتح العين: ابن يحيى المازني السابق: (الحياةِ) بالجر على الحكاية؛ وهو موافق لمالك في روايته لهذا الحديث، عن عمرو بن يحيى بسنده، ولم يشك كما شك مالك أيضًا.
(وقال) وهيب أيضًا في روايته: مثقال حبة من (خردل من خير) بدل من إيمان، فخالف مالكًا في هذه اللفظة؛ وهذا من تعاليق المؤلف، أخرجه في (الرقاق)، وفيه الرد على المرجئة القائلين: بأنه لا يضر مع الإيمان معصية، فلا يدخل النار العاصي، وعلى المعتزلة القائلين بأن المعاصي موجبة للخلود في النار.
==========
[1] في الأصل: (تعملون).
%ص 17%
==================
(1/49)
[حديث: بينا أنا نايم رأيت الناس يعرضون علي]
23# وبه قال: (حدثنا محمد بن عبيد الله) مصغرًا: ابن محمد بن زيد القرشي الأموي المدني، مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد)؛ بسكون العين: ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة، التابعي، المدني، المتوفى ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومئة، (عن صالح) أبي محمد بن كيسان الغفاري المدني التابعي، المتوفى بعد أن بلغ من [العمر] مئة وستين سنة، وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسعين، (عن ابن شهاب): هو الزهري (عن أبي أُمامة)؛ بضم الهمزة: أسعد المختلَف في صحبته، ولم يصح له سماع، وإنما ذُكر في الصحابة لشرف الرؤية (بن سهل) وفي رواية: زيادة: (ابن حُنيف)؛ بضم المهملة، المتوفى سنة مئة عن نيف وتسعين سنة: (أنه سمع أبا سعيد) سعد بن مالك (الخدري) رضي الله عنه حال كونه (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا)؛ بغير ميم، أصله: (بين)؛ أشبعت الفتحة فصارت ألفًا، (أنا نائم؛ رأيت الناس) من الرؤيا الحلمية على الأظهر، أو من الرؤيا البصرية فتطلب مفعولًا واحدًا؛ وهو (الناس)، وحينئذٍ فيكون قوله: (يعرضون علي) جملة حالية، أو علميَّة من الرأي، وحينئذٍ فتطلب مفعولين؛ وهما: (الناس يعرضون علي)؛ أي: يظهرون لي، (وعليهم قُمُص)؛ بضم الأَوَّلَين جمع (قميص) والواو للحال، (منها)؛ أي: من القمص (ما)؛ أي: الذي (يبلغ الثُّدِيَّ)؛ بضم المثلثة، وكسر المهملة، وتشديد المثناة التحتية: جمع (ثدي)، يذكر ويؤنث للمرأة والرجل، والحديث يردُّ على خَصِّه بالمرأة، وهو منصوب مفعول (يبلغ)، والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو الموصول، وفي رواية: (الثَّدْي) بفتح المثلثة وإسكان الدال، (ومنها)؛ أي: من القمص (ما دون ذلك)؛ أي: لم يصل للثدي لقصره.
(وعُرِض علي)؛ بضم العين وكسر الراء: مبنيًّا للمفعول (عمر بن الخطاب) بالرفع نائب عن الفاعل، رضي الله تعالى عنه (وعليه قميص يجرُّه)؛ لطوله (قالوا)؛ أي: الصحابة، وفي رواية: قال؛ أي: عمر بن الخطاب أو غيره (فما أوَّلتَ)؛ أي: فما عبَّرت
%ص 17%
(ذلك يا رسول الله؟ قال) عليه السلام: أولت (الدينَ)؛ بالنصب: معمول (أولت).
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: (يلزم من الحديث أن يكون عمر أفضل من الصدِّيق؛ لأنَّ المراد بالأفضل الأكثر ثوابًا، والأعمال علامات الثواب، فمن كان دينه أكثر؛ فثوابه أكثر، وهو خلاف الإجماع، قال: قلت: لا يلزم ذلك؛ لأنَّ القسمة غير حاصرة لجواز قسم رابع، وعلى تقدير الحصر؛ فلم يخص الفاروق بالثالث ولم يقصره عليه، ولئن سلمنا التخصيص؛ فهو معارَض بالأحاديث الكثيرة البالغة درجة التواتر المعنوي الدالة على أفضلية الصدِّيق، فلا تعارضها الآحاد، ولئن سلمنا التساوي بين الدليلين؛ لكن إجماع أهل السنة والجماعة على أفضليته، وهو قطع، فلا يعارضه الظني، وقد أنكر ذلك الشيعة والخوارج، قلنا: لا اعتبار بمخالفة أهل الضلال، والأصل إجماع أهل السنة والجماعة) انتهى.
وفي الحديث: التشبيه البليغ؛ وهو تشبيه الدين بالقميص؛ لأنَّه يستر العورة، وكذلك الدين يستره من النار، وفيه التفاضل في أهل الإيمان بالأعمال، والله أعلم.
==================
(1/50)
(16) [باب الحياء من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين: (الحياءَ) بالمد والرفع، مبتدأ، خبره (من الإيمان)، وحديثه سبق، وفائدة سياقه هنا: أنه ذكر الحياء هناك بالتبعية وهنا بالقصد، مع فائدة تغاير الطريق، أفاده في «عمدة القاري».
==========
%ص 18%
==================
(1/51)
[حديث: دعه فإن الحياء من الإيمان]
24# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التِّنِّيسي السابق (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا) (مالك) وفي رواية: (مالك بن أنس)، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب، القرشي العدوي، التابعي، المتوفى بالمدينة سنة ست ومئة، (عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) أي: اجتاز (على رجل من الأنصار وهو) أي: حال كونه (يعظ أخاه) من الدين، والرجلان لم يسمَّيا (في) شأن (الحياء) بالمد؛ وهو تغير وانكسار يحصل عند خوفِ ما يُعاب أو يذم، وهو من خصائص الإنسان، والوعظ: النصح، والتخويف، والتذكير، ومعناه كما قال التميمي: الزجر؛ أي: يزجره ويقول له: لا تستحي؛ لأنَّه كان كثير الحياء، وذلك يمنعه من استيفاء حقه، فوعظه أخوه على ذلك، ووقع هنا كلام بين ابن حجر وإمامنا الشيخ بدر الدين العيني في الرواية؛ كما بينه القسطلاني.
(فقال) له (رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه)؛ أي: اتركه على حيائه، (فإن الحياء من الإيمان)؛ أي: شعبة من شعب الإيمان، فـ (مِن) للتبعيض؛ كما مر، فالحياء يمنع من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان، فسُمِّي إيمانًا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه.
فإن قلت: إذا كان الحياء بعض الإيمان، فإذا انتفى الحياء؛ انتفى بعض الإيمان، وإذا انتفى بعض الإيمان؛ انتفت [1] حقيقة الإيمان؛ فينتج من هذه المقدمات انتفاء الإيمان عن من لم يستح، وانتفاء الإيمان كفر.
قلت: لا نسلم صدق كون الحياء من حقيقة الإيمان؛ لأنَّ المعنى: فإنَّ الحياء من مكملات الإيمان، وفي الكمال لا يستلزم الحقيقة، نعم؛ الإشكال قائم على قول من يقول: الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وهذا لم يقل به المحققون؛ كما قدمناه، أفاده في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (انتفى).
%ص 18%
==================
(1/52)
(17) [باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}]
(باب) بالتنوين والإضافة كما في «فرع اليونينية»، قال ابن حجر: والتقدير: (بابٌ في تفسير قوله)، و (بابُ تفسير قوله)، ونظر فيه إمامنا الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن المصنف لم يضع الباب لتفسير الآية، بل غرضه بيان أمور الإيمان، وبيان أن الأعمال من الإيمان، مستدلًّا على ذلك بالآية والحديث، فـ (باب) بمفرده لا يستحق إعرابًا؛ لأنَّه كتعديد الأسماء من غير تركيب، والإعراب لا يكون إلَّا بعد العقد والتركيب، اهـ، وقد سلمه القسطلاني؛ فليحفظ.
({فَإِن تَابُوا})؛ أي: المشركون عن شركهم بالإيمان، ({وَأَقَامُوا}) أي: أدوا ({الصَّلاةَ}) على وجهها المعهود، ({وَآتَوُا الزَّكَاةَ}) أعطوها؛ ({فَخَلُّوا}) أي: أطلقوا ({سَبِيلَهُمْ}) [التوبة: 5] جواب شرط؛ أعني: {فإن تابوا}، والمعنى: كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم؛ لأنَّهم عصموا دماءهم وأموالهم بالرجوع عن الكفر إلى الإسلام وشرائعه، وفيه الرد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان غير محتاج إلى الأعمال.
==========
%ص 18%
==================
(1/53)
[حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله]
25# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد)؛ أي: ابن عبد الله، زاد في رواية: (المُسنَدي)؛ بضم الميم وفتح النون؛ وقد مر، (قال: حدثنا أبو رَوْح)؛ بفتح الراء وسكون الواو، واسمه (الحَرَمِي)؛ بفتح الحاء والراء المهملتين، وكسر الميم، وتشديد المثناة التحتية بلفظ النسبة، تثبت فيه (أل) وتحذف، وليس نسبة إلى الحرم؛ كما تُوُهِّم، (بن عُمارة)؛ بضم العين المهملة وتخفيف الميم؛ ابن أبي حفصة نابت؛ بالنون، العتكي البصري، المتوفى سنة إحدى وثمانين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن واقد بن محمد) بالقاف، زاد في رواية: (يعني: ابن زيد بن عبد الله بن عمر)، (قال: سمعت أبي) محمد بن زيد بن عبد الله (يحدث عن ابن عمر) بن الخطاب، عبد الله رضي الله عنهما، فواقد روى هنا عن أبيه عن جد أبيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُمرت)؛ بضم الهمزة، مبنيٌّ لما لم يُسم فاعله (أنْ)؛ أي: أمرني الله تعالى بأن (أقاتل الناس)؛ أي: بمقاتلة الناس؛ وهو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بـ (الناس): المشركون، ويدل له رواية النسائي بلفظ: «أمرت أن أقاتل المشركين»، أو المراد: أهل الكتاب (حتى) أي: إلى أن (يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)، والتصديق بالرسالة يتضمن التصديق بكل ما جاء به، (و) حتى (يقيموا الصلاة)؛ أي: يؤدوها بشروطها، (و) حتى (يؤتوا الزكاة)؛ أي: يعطوها لمستحقها.
وفي (الجهاد) الاقتصار على قول: (لا إله إلا الله)، قاله وقت قتاله للمشركين الذين لا يقرُّون بالتوحيد، وأما حديث الباب؛ ففي أهل الكتاب المُقرِّين به الجاحدين لنبوته، وأما في (أبواب القِبلة): «وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قِبلتَنا، وذبحوا ذبيحتنا»؛ ففي مَن دخل الإسلام ولم يعمل الصالحات؛ كترك الجمعة والجماعة؛ فيقاتَلوا حتى يرجعوا.
(فإذا فعلوا ذلك) أو أعطوا الجزية، وأطلق الفعل على القول؛ لأنَّه فعل اللسان أو من باب التغليب؛ (عصموا)؛ أي: حفظوا ومنعوا (مني دماءهم وأموالهم)، فلا تُهدر دماؤهم، ولا تستباح أموالهم بعد عصمتهم بالإسلام (إلا بحق الإسلام) مِنْ قتْلِ نفس، أو حدٍّ، أو غرامة، (وحسابهم) بعد ذلك (على الله) في أمر سرائرهم، وأما نحن؛ فإنَّما نحكم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، وأما أمور الآخرة؛ فمفوَّضٌ إلى الله، ولفظة (على) مشعرةٌ بالإيجاب؛ فظاهره غير مراد، فإما أن يكون المراد: وحسابهم إلى الله، أو لله، أو أنه يجب أن يقع، لا أنَّه تعالى يجب عليه شيء، خلافًا للمعتزلة القائلين: بوجوب الحساب عقلًا، واقتُصر على الصلاة والزكاة؛ لأنَّ الأولى بدنيَّة عماد الدين، والثانية مالية قنطرة الإسلام.
ويؤخذ من هذا الحديث: أن تارك الصلاة عمدًا معتقدًا وجوبها بترك فرض واحد؛ يُقتل حدًّا، وهو مذهب الشافعي، وفيه أنه لا يصح الاستدلال؛ لأنَّ المأمور فيه هو القتال، ولا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل؛ لأنَّ المفاعلة تستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولم يقل: مانع الزكاة، مع أن الحديث يشمله، ومذهب إمامنا الأعظم رئيس المجتهدين: أن تارك الصلاة يحبس إلى أن يحدث توبة ولا يقتل.
==================
(1/54)
(18) [باب من قال: إنَّ الإيمان هو العمل]
(باب) مضاف إلى ما بعده، ولا يجوز غيره، وارتفاعه؛ على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب (من قال: إنَّ الإيمان هو العمل) ردًّا على المرجئة القائلين: بأن الإيمان قول بلا عمل (لقوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل): ({وَتِلْكَ}) مبتدأ، خبره قوله: ({الجَنَّةُ الَتِي أُورِثْتُمُوهَا})؛ أي: صُيِّرت لكم ميراثًا، فأطلق الإرث مجازًا عن الإعطاء؛ لتحقق الاستحقاق، أو المورِّث الكافر وكان له نصيب منه؛ ولكن كفره منعه فانتقل منه إلى المؤمن، ({بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}) [الزخرف: 72]؛ أي: تؤمنون، و (ما) مصدرية؛ أي: بعملكم، أو موصولة؛ أي: بالذي كنتم تعملونه، و (الباء) للملابسة؛ أي: أورثتموها ملابسة لأعمالكم؛ أي: لثوابها، أو للمقابلة؛ نحو: أُعطيت الشاة بالدرهم، ولا تنافي بين ما في الآية وبين حديث: «لن يدخل أحد الجنة بعمله»؛ لأنَّ المثبَت في الآية: الدخول بالعمل المقبول، والمنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عنه، والقبول من رحمة الله، فرجع الأمر إلى أن الدخول برحمته تعالى.
(وقال عِدَّة)؛ بكسر العين وتشديد الدال؛ أي: عدد (من أهل العلم) كأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومجاهد، (في قوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل): ({فَوَرَبِّكَ}) يا محمد ({لَنَسْأَلَنَّهُمْ})؛ أي: المقتسمين، وجواب القسم مؤكدًا باللام ({أَجْمَعِينَ}) [الحجر: 92] تأكيد للضمير في {لَنَسْأَلنَّهُمْ} مع الشمول في إفراد المخصوصين ({عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 93]؛ عن لا إله إلا الله) وفي رواية: (عن قول: لا إله إلا الله).
قال النووي: المعنى: لنسألنَّهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف، فقول من خص بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل، اهـ.
قلت: وردَّ عليه ابن حجر في «فتحه»، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وحاصله: أن دعوى التخصيص بلا دليل خارجي لا تُقبل؛ لأنَّ الكلام عام في السؤال عن التوحيد وغيره، فإن استدل بحديث الترمذي؛ فقد ضعف من جهة ليث، وليس التعميم في قوله: (أجمعين) حتى يدخل فيه المسلم
%ص 18%
والكافر؛ لكونه مخاطبًا بالتوحيد قطعًا، وبباقي الأعمال على الخلاف.
فالمانع من الثاني يقول: إنَّما يُسألون عن التوحيد فقط للاتفاق عليه، وإنَّما التعميم هنا في قوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فتخصيص ذلك بالتوحيد تحكُّمٌ، ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39]؛ لأنَّ في القيامة مواقف مختلفة وأزمنة متطاولة، ففي موقف أو زمان يُسألون، وفي آخرَ لا يُسألون، أو لا يُسألون سؤال استخبار، بل سؤال توبيخ وتقريع، اهـ؛ فليحفظ.
(وقال) وفي رواية بدونها ({لمثل هذا})؛ أي: لنيل مثل هذا الفوز ({فليعمل العاملون}) [الصافات: 61]؛ أي: فليؤمن المؤمنون، وهذا يشير إلى أنَّ الإيمان هو العمل، لكن اللفظ عام، ودعوى التخصيص بلا دليل لا تُقبل، إلَّا أنَّ إطلاق العمل على الإيمان صحيح؛ من حيث إنَّ الإيمان هو عمل القلب، ولا يلزم أن يكون العمل من نفس الإيمان، وغرض المصنف جواز إطلاق العمل على الإيمان الذي هو عمل القلب؛ وهو التصديق؛ فليحفظ.
==================
(1/55)
[حديث: أنَّ رسولَ الله سُئِل: أيُّ العمل أفضل؟]
26# وبه (حدثنا أحمد ابن يونس) نسبة إلى جده؛ لشهرته به، واسم أبيه: عبد الله اليربوعي، التميمي، الكوفي، المتوفى في ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومئتين.
(و) كذا حدثنا (موسى بن إسماعيل) المِنْقَري؛ بكسر الميم المتقدم (قالا) بالتثنية: (حدثنا إبراهيم بن سعد)؛ بسكون العين: ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المتقدم، (قال: حدثنا ابن شهاب) محمد بن مسلم الزُّهري، (عن سعيد بن المُسيِّب)؛ بضم الميم، وكسر المثناة التحتية، والفتح فيها أشهر، وكان يكرهه، ابن حَزْن؛ بفتح المهملة وسكون الزاي، التابعي، المتوفى سنة ثلاث وتسعين، وهو زوج بنت أبي هريرة، وأبوه وجده صحابيان، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل) بالبناء للمفعول في محل رفع خبر (أن)، وأبهم السائل؛ وهو أبو ذر، وحديثه في العتق: (أي العمل أفضل؟)؛ أي: أكثر ثوابًا عند الله تعالى؛ وهو مبتدأ وخبر، (قال) وفي رواية: (فقال) عليه السلام: هو (إيمان بالله ورسوله، قيل) مجهول (قال)، أصله: (قَوِل) نقلت كسرة الواو إلى القاف بعد سلب حركتها، فصار (قِوْل)؛ بكسر القاف وسكون الواو، قلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فصار (قِيل)، والقائل هو السائل الأول: (ثم ماذا؟)؛ أي: أي شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ (قال) عليه السلام: هو (الجهاد في سبيل الله)؛ لإعلاء كلمة الله (قيل: ثم ماذا) أفضل؟ (قال) عليه السلام: هو (حج مبرور)؛ أي: مقبول؛ أي: لا يخالطه إثم ولا رياء، وعلامة قبوله: أن يكون حاله بعد الرجوع خيرًا مما كان قبله، وفي حديث أبي ذر ذكر العتق ولم يذكر الحج، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم بالبر ثم الجهاد، وفي الحديث السابق السلامة من اليد واللسان.
وقد أجيب: بأن اختلاف الأجوبة في ذلك؛ لاختلاف أحوال الأشخاص، وإنَّما قدم الجهاد على الحج؛ للاحتياج إليه أول الإسلام، وإنَّما عرَّفه دون أخويه؛ لأنَّ المعرَّف بلام الجنس كالنكرة في المعنى، أو لأنَّ الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فنُوِّنا للإفراد، والجهاد قد يتكرر فعُرِّف، والتعريف للكمال هنا.
==========
%ص 20%
==================
(1/56)
(19) [باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة]
(باب) بالتنوين يجوز فيه وجهان؛ الإضافة إلى الجملة بعده، وتكون (إذا) ظرفية محضة والتقدير: (باب حين عدم كون الإسلام ... إلى آخره)، وأن ينقطع عن الإضافة، وتكون (إذا) متضمنة معنى الشرط، والجزاء محذوف، والتقدير: باب (إذا لم يكن)؛ أي: إن لم يكن (الإسلام على الحقيقة) الشرعية (وكان على الاستسلام)؛ أي: الانقياد الظاهر فقط والدخول في السلام، (أو) كان على (الخوف من القتل) لا ينتفع به ولا ينجيه في الآخرة، وعلى كلٍّ: فارتفاع (باب) على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب إلى آخره، (لقوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل): ({قَالَتِ الأَعْرَابُ})؛ بفتح الهمزة: أهل البدو، ولا واحد له من لفظه، وسمِّيت العرب؛ لأنَّه نشأ أولاد إسماعيل عليه السلام بعربة؛ وهي من تهامة، فنسبوا إلى بلدهم، ومقول قولهم: ({آمَنَّا}) نزلت في نفر من أسد بن خزيمة قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله عليه السلام: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون الصدقة ويمنون، فقال الله لرسوله: ({قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا})؛ لأنَّ الإيمان تصديق مع طمأنينة قلب ({وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا})؛ لأنَّ الإسلام انقياد ودخول في السلم والخروج عن أن يكون حربًا للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]؟ فإنَّ كل ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب؛ فهو إسلام، وما واطأ القلب فيه اللسان؛ فهو إيمان.
والمعنى: لا تقولوا: آمنا، ولكن قولوا: أسلمنا؛ لأنَّكم لم تؤمنوا، وفيه حجة على الكرَّامية المرجئة في قولهم: الإيمان إقرار باللسان فقط ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، ولم يقل: كتب في ألسنتهم؛ وكذا الإجماع على كفر المنافقين مع كونهم أظهروا الشهادتين.
(فإذا كان) الإسلام (على الحقيقة) الشرعية المرادف للإيمان النافع عند الله؛ (فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ}) [آل عمران: 19]؛ أي: لا دين مرضي عنده سواه، وفتح الكِسائي همزة {إن} على أنه بدل من {أنه} بدل كل من كل؛ إِنْ فُسِّر الإسلام بالإيمان، وبدل اشتمال؛ إِنْ فُسِّر بالشريعة، واستدل المؤلف بهذا على أن الإسلام الحقيقي هو الدين، وعلى أن الإسلام والإيمان مترادفان، وهو قول جماعة من المحدثين، وجمهور المتكلمين، والمعتزلة، واستدلوا بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]، والأصل في الاستثناء: كون المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون الإسلام هو الإيمان.
واعتُرض بقوله تعالى: {قلْ لم تؤْمُنوا ولكِنْ قُولوا أَسْلَمنا}، وأجيب: بأنَّ الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية؛ بمعنى الانقياد في الظاهر دون الباطن، وبالجملة: لا يصح في الشرع أن يحكم على أنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا.
وظاهر كلام أئمتنا: أنهم أرادوا عدم تغايرهما؛ بمعنى: أنه لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا الاتحاد بحسب المفهوم لما ذكر في «الكفاية شرح الهداية» من أن الإيمان: هو تصديق الله فيما أخبر به من أوامره ونواهيه، والإسلام: هو الانقياد والخضوع لألوهيته، وذلك لا يتحقق إلَّا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا فلا يتغايران، ومن أثبت التغاير؛ يقال له: ما حُكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر؛ والأظهر بطلان قوله، وقدمنا ما يتعلق بهذا؛ فافهم.
واستُدِلَّ أيضًا بقوله تعالى: ({وَمَن يَبْتَغِ})؛ أي: من يطلب ({غَيْرَ الإِسْلامِ})؛ أي: غير التوحيد والانقياد لله تعالى ({دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}) [آل عمران: 85] جواب الشرط، فلو كان الإيمان غير الإسلام؛ لم يقبل قط، فتعيَّن أن يكون عينه؛ لأنَّ الإيمان هو الدين، والدين هو الإسلام لقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ}، فينتج أن الإيمان هو الإسلام، وسقط في رواية قوله: ({وَمَن يَبْتَغِ} ... إلى آخره).
==========
%ص 20%
==================
(1/57)
[حديث: أن رسول الله أعطى رهطًا وسعد جالس]
27# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة الأموي، (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال: أخبرني) بالإفراد (عامر بن سعد)؛ بسكون العين (بن أبي وقَّاص)؛ بتشديد القاف مالك القرشي، المتوفى بالمدينة سنة ثلاث ومئة، (عن) أبيه (سعد) المذكور، أحد العشرة المبشرين بالجنة، المتوفى آخرهم بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة سنة سبع وخمسين، وحُمِل إلى المدينة، ودفن بالبقيع، (رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى) شيئًا من الدنيا (رهطًا) من المؤلَّفة لما سألوه؛ ليتألَّفهم لضعف إيمانهم، و (الرهط): العدد من الرجال لا امرأة فيهم من ثلاثة إلى عشرة، لا واحد له من لفظه، وجمعه: أرهط، وأراهط، وأرهاط، وأراهيط، (وسعد جالس) جملة اسمية وقعت حالًا، ولم يقل: وأنا جالس؛ تواضعًا أو من باب الالتفات من التكلم إلى الغَيبة، قال سعد: (فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا) من الرهط؛ وهو جعيل بن سراقة الضمري المهاجري (هو أعجبهم إليَّ)؛ أي: أفضلهم أو أحبهم إليّ، والجملة نصب صفة لـ (رجلًا)، وإنما قال: (إليَّ)؛ على طريق الالتفات، (فقلت: يا رسول الله؛ مالك عن فلان؟)؛ أي: أيُّ سبب لعدولك عنه إلى غيره، و (فلان)؛ كناية عن اسمٍ أُبْهِمَ بعد أن ذكر، (فوالله؛ إنِّي لأَراه مؤمنًا) بفتح الهمزة؛ أي: أعلمه، وفي رواية: بضمها؛ بمعنى أظنه، (فقال) وفي رواية: (قال)؛ أي: عليه السلام: (أوْ مسلمًا)؛ بسكون الواو، إضرابٌ عن قول سعد، ومعناه: النهي عن القطع بإيمانه، لا إنكاره مؤمنًا، قال سعد: (فسكتُّ) سكوتًا (قليلًا ثم غلبني ما)؛ أي: الذي (أعلم منه) من المحبة (فعدت)؛ أي: فرجعت (لمقالتي) مصدر ميمي بمعنى القول؛ أي: لقولي، وفي رواية: بسقوط (لمقالتي)، (فقلت): يا رسول الله؛ (ما لك) عدلت (عن فلان؟ فوالله؛ إنِّي لَأراه)؛ أي: أعلمه وأظنه (مؤمنًا، فقال) عليه السلام: (أو مسلمًا، فسكت) سكوتًا (قليلًا)، وفي رواية: سقط لفظ (فسكت قليلًا) (ثم غلبني ما)؛ أي: الذي (أعلم منه) من الصحبة (فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لمقالته، وإنما لم يقبل قولَه؛ لأنَّه لم يخرج مخرج الشهادة؛ بل هو مدح له، وفي رواية: سقط السؤال والجواب الثاني.
(ثم قال) عليه السلام: (يا سعد؛ إنِّي لأعطي الرجل) الضعيف الإيمان العطاء أتألَّف به قلبه (وغيرُه أحب إليَّ منه) جملة حالية، وفي رواية: (أعجب إلي منه)، وفيه إشارة إلى إيمان جعيل، وقبول قول سعد فيه؛ (خشية أن يَكُبَّه الله)؛ بفتح المثناة التحتية، وضم الكاف، ونصب الموحدة بـ (أنْ)؛ أي: لأجل خشية كب الله إياه؛ أي: إلقائه منكوسًا (في النار) لكفره؛ إما بارتداده إن لم يُعْطَ أو لكونه ينسب النبي إلى البخل، وأما من قوي إيمانه؛ فهو أحب إلي، فأَكِلُه إلى الإيمان ولا أخشى عليه الكفر.
وفيه دلالة على جواز الحلف على الظن، وجواز الشفاعة إلى الولاة،
%ص 19%
ومراجعة الشفيع، وأن المشفوع إليه لا عتب عليه إذا رد الشفاعة، وأن الإمام يصرف الأموال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم، وأنه لا يقطع لأحد على التعيين بالجنة إلَّا ما نص عليه، وأن الإقرار باللسان لا ينفع إلا مع الاعتقاد بالقلب، وعليه الإجماع؛ كما قدمناه.
(ورواه)؛ أي: الحديث بالواو العاطفة، وفي رواية: بدونها (يونس) بن يزيد الأيلي (وصالح) هو ابن كيسان المدني (ومَعْمَر)؛ بفتح الميمين؛ ابن راشد البصري (وابن أخي الزهري) محمد بن عبد الله بن مسلم، المتوفى سنة اثنين وخمسين ومئة، والأربعة (عن الزهري) محمد بن مسلم بإسناده هذا.
==================
(1/58)
(20) [بابٌ إفشاءُ السلامِ من الإسلام]
(باب) بالتنوين: (السلام من الإسلام)؛ أي: هذا باب بيان أن السلام من شعب الإسلام، وفي رواية: (إفشاء السلام من الإسلام)؛ وهو بكسر الهمزة؛ أي: إذاعة السلام ونشره، (وقال عمار) أبو اليقظان بالمعجمة؛ ابن ياسر بن عامر، المقتول بصفين مع علي في صفر سنة سبع وثلاثين، ومقول قوله: (ثلاث)؛ أي: ثلاث خصال (من جمعهن؛ فقد جمع الإيمان)؛ أي: حلاوته، وأشرق نوره عليه؛ أحدها: (الإنصاف)؛ وهو العدل (من نفسك)؛ باجتنابها النواهي [1] وامتثالها الأوامر، وفي رواية بسقوط لفظ: (فقد)، (و) الثاني: (بذل السلام) بالمعجمة (للعالَم)؛ بفتح اللام؛ أي: لكل مؤمن عرفتَه أو لا، وخرج الكافر بدليل آخر، وفيه الحض على التواضع ومكارم الأخلاق، (و) الثالث: (الإنفاق من الإقتار)؛ بكسر الهمزة؛ أي: في حالة الشدة؛ الفقر، وفيه غاية الكرم؛ وهو شامل للإنفاق على العيال والأجانب.
==========
[1] في الأصل: (النواهم).
%ص 20%
==================
(1/59)
[حديث: أن رجلًا سأل رسول الله: أيُّ الإسلام خير؟]
28# وبه قال: (حدثنا قتيبة) تصغير قِتبة؛ بكسر القاف، واحدة الأقتاب؛ وهي الأمعاء، وبها سُمِّي الرجل قتيبة، وكنيته: أبو رجاء، واسمه: علي بن سعيد بن جميل البغلاني؛ نسبة إلى بغلان؛ بفتح الموحدة وسكون المعجمة؛ قرية من قرى بلخ، المتوفى سنة أربعين ومئتين (قال: حدثنا الليث) بن سعد، (عن يزيد بن أبي حبيب) بالمهملة أوله، البصري، (عن أبي الخير) مَرثد بالمثلثة وفتح الميم، (عن عبد الله بن عمرو): هو ابن العاصي رضي الله عنه: (أن رجلًا): هو أبو ذر (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي) خصال (الإسلام خير؟ قال) عليه السلام: (تطعم) الخلق (الطعام، وتَقرأُ)؛ بفتح التاء وضم الهمزة، (السلام على من عرفتَه)؛ أي: على الذي عرفته، (و) على (مَن لم تعرفه) من المسلمين، فلا تخص به أحدًا؛ تكبرًا وتجبرًا؛ لأنَّ المؤمنين إخوة، وإنَّما لم يقل: وتؤكل الطعام؛ حتى يشمل الإعطاء والشرب وغيرهما؛ وقد تقدم.
وإنما أعاده؛ لِمَا اشتمل عليه مع المغايرة بين المشايخ المغايرة الإسنادية.
==========
%ص 20%
==================
(1/60)
(21) [باب كفران العشير وكفر دون كفر]
هذا (باب) بدون تنوين؛ لإضافته لقوله: (كفران العشير)؛ وهو الزوج، وإنَّما سمي عشيرًا؛ لأنَّه معاشر؛ أي: مخالط، و (أل) فيه للجنس، والكفران من الكَفر؛ بالفتح؛ وهو الستر، ولهذا سُمي ضِدُّ الإيمان كفرًا؛ لأنَّه يستر الحق؛ أي: التوحيد، ولما كان الكفر يتفاوتمعناه؛ قال: (وكفر دون كفر)؛ أي: أقرب من كفر، فأخذُ أموال الناس بالباطل دونَ قتل النفس بغير حق، وفي رواية: (وكفر بعد كفر) والمعنى واحد، والجمهور على جر (وكفر) عطفًا على (كفران)، وفي رواية: (وكفر) بالرفع على القطع، وإنما خص كفران العشير من أنواع الذنوب؛ لقوله عليه السلام: «لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، فَقَرَنَ حق الزوج على الزوجة بحق الله تعالى، فَكُفْرُ نعمة الزوج هو كفر نعمة الله تعالى.
(فيه)؛ أي: في الباب حديث (أبو سعيد) سعد بن مالك (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ كما أخرجه المؤلف في (الحيض).
==========
%ص 20%
==================
(1/61)
[حديث: أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن]
29# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي المدني، (عن مالك): هو ابن أنس، (عن زيد بن أسلم) مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، المكنى بأبي أسامة، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومئة، (عن عطاء بن يسار)؛ بمثناة تحتية ومهملة مخففة، القاص المدني الهلالي، مولى أم المؤمنين ميمونة، المتوفى سنة ثلاث ومئة، وقيل: أربع وتسعين، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال: قال النبي) الأعظم، وفي رواية: (عن النبي) (صلى الله عليه وسلم: أُريت النار)؛ بضم الهمزة مبنيًا للمفعول من الرؤية؛ بمعنى أُبصرت، وتاء المتكلم هو المفعول الأول أقيم مقام الفاعل، (والنار [1]) مفعول ثان؛ أي: أراني الله النار، وفي رواية: (فرأيت)، وفي أخرى: (ورأيت)، والظاهر أنها في ليلة الإسراء (فإذا أكثر أهلها)؛ أي: أهل النار (النساء)؛ برفع (أكثر) و (النساء)؛ مبتدأ وخبر، وفي رواية: بنصب (أكثر) و (النساء) مفعولي (رأيت)، وفي رواية: (رأيت النار فرأيت أكثر) بالرفع، وفي رواية: (أُريت النار أكثر أهلها النساء) فـ (رأيت)؛ بمعنى أُعلمت، و (التاء) و (النار) و (النساء)؛ مفاعيله، و (أكثر) بدل من (النار).
(يكفرن)؛ بمثناة تحتية مفتوحة أوله؛ جملة مستأنفة، وفي رواية: (بكفرهن)؛ أي: بسبب كفرهن، (قيل): يا رسول الله؛ (أيكفرن بالله؟) الهمزة للاستفهام (قال) عليه السلام: لا؛ بل (يكفرن العشير)؛ أي: الزوج، فـ (أل) للعهد، أو المعاشر مطلقًا فتكون للجنس، (ويكفرن الإحسان).
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: كفران العشير ليس لذاته؛ بل الكفران له؛ هو الكفران لإحسانه، فالجملة الثانية في الحقيقة بيان للجملة الأولى، وكفران العشير والإحسان قيل: من الكبائر.
(لو) وفي رواية: (إن) (أحسنت) يا مَن يتأتى منه العلم (إلى إحداهن الدهرَ) منصوب على الظرفية، و (الدهر)؛ الزمان؛ أي: مدة عمرك، وإفادة (لو) امتناع الشيء لامتناع غيره، فلِمَ [2] صحَّ (إنْ) في الرواية الثانية؟ وأجيب: بأنَّ (لو) هنا؛ بمعنى (إنْ) في مجرد الشرطية فقط، لا بمعناها الأصلي؛ فافهم، (ثم رأت منك شيئًا) منصوب مفعول (رأت)؛ أي: شيئًا قليلًا لا يوافق مزاجها أو شيئًا حقيرًا لا يعجبها، فالتنوين فيه للتعليل أو للتحقير (قالت: ما رأيت منك خيرًا) مفعول (رأيت) (قطُّ)؛ بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة على الأشهر ظرف زمان؛ لاستغراق ما مضى.
وفيه: وعظ الرئيس المرؤوس وتحريضه على الطاعة، ومراجعة المتعلم العالم والتابع المتبوع، وجواز إطلاق الكفر على كفر النعمة وجحد الحق.
==========
[1] في الأصل: (والناس).
[2] في الأصل: (فلما).
%ص 20%
==================
[1] في الأصل: (والناس).
[1] في الأصل: (والناس).
(1/62)
(22) [باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها]
هذا (باب) بالتنوين، وهو ساقط في رواية: (المعاصي) مصدر ميمي؛ وهي مخالفة الشرع، ويجوز في (باب) الإضافة إلى ما بعده (من أمر الجاهلية)؛ وهي زمان الفترة قبل الإسلام، سُمِّيت بذلك؛ لكثرة جهالتهم، (ولا يُكْفَر)؛ بفتح المثناة تحت وسكون الكاف، وفي رواية: بضم المثناة التحتية، وفتح الكاف، وتشديد الفاء مفتوحة (صاحبها بارتكابها)؛ أي: باكتسابها والإتيان بها، فلا ينسب إلى الكفر (إلا بالشرك)؛ أي: بارتكاب الشرك بالله تعالى، خلافًا للمعتزلة القائلين: بأن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر؛ بل هو فاسق، وللخوارج القائلين: بتكفيره، والذي حققه العلماء في كتب التوحيد أن المعتزلة فسقة؛ لأنَّهم من أهل التوحيد، وقيد بـ (الارتكاب)؛ للاحتراز عن الاعتقاد، فلو اعتقد حِلّ حرام معلوم من الدين بالضرورة يكفر؛ (لقول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) لأبي ذر: (إنك امرؤ فيك جاهلية)؛ أي: فعلت فعلًا من أفعال الجاهلية بأن عيرته بأمه (وقول الله تعالى) وفي رواية: (عز وجل) وفي أخرى: (وقال الله): ({إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}) نزلت في قضية وحشي قاتل حمزة، إلى أن قال للنبي عليه السلام: إنِّي أشركت بالله، وقتلت النفس، وزنيت، فهل يقبل الله مني توبة؟ فأنزل: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ} الآية [الفرقان: 68]، فتلاها عليه، فقال: أرى شرطًا فلعلي لا أعمل صالحًا أنا في جوارك [1] حتى أسمع كلام الله، فنزلت هذه الآية، والمراد بـ (الشرك): الكفر؛ لأنَّ من جحد نبوة نبينا عليه السلام كان كافرًا ولو لم يجعل مع الله إلهًا آخر، والمغفرة منتفية عنه بالإجماع، ({وَيَغْفِرُ}) الله ({مَا دُونَ ذَلِكَ}) أي: الشرك ({لِمَن يَشَاءُ}) [النساء: 48] الغفران له، فكل من مات على التوحيد؛ غير مخلد في النار، وإن ارتكب جميع المعاصي غير الشرك.
وهذا أعظم دليل على بطلان قول مَن قال: إنَّ المغفرة لأهل بيت النبوة محقَّقةٌ لهم وإنَّ ذنوبهم صورية لا معنوية، وإنَّ ذنوبهم مغفورة لهم بدون توبة، وإنَّه لا أحد منهم يدخل النار، وألَّف في ذلك رسالة، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33]، والمراد بـ {الرِّجْسَ}: الزكاة؛ كما بُيِّن في محلِّه، ولم يلتفت إلى قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا [العَذَابُ] ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]، قال القرطبي: فتُحَدُّ حدَّين، وقال تعالى لنوح: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] فأخرجه من نسبه؛ لأنَّه أشرك بالله تعالى، وقد ردَّيتُ عليه بكلام آخر أوضحته في «شرحي على مختصر القدوري»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (جورك).
%ص 20%
==================
(1/63)
[حديث: يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية]
30# وبه قال: (حدثنا سليمان بن حرب)؛ بالموحدة الأزدي البصري (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (عن واصل) بن حَيَّان بالمهملة المفتوحة والمثناة التحتية المشددة، وفي رواية: (عن واصل الأحدب)، وفي رواية: (هو الأحدب)؛ أي: الأسدي الكوفي، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئة، (عن المعرور)؛ بعين مهملة ورائين مهملتين بينهما واو، وفي رواية زيادة: (ابن سويد) بضم السين؛ أبو أمية الأسدي الكوفي (قال) وفي رواية: (وقال): (لقيت أبا ذر) بالذال المعجمة المفتوحة وتشديد الراء؛ جندب_ بضم الجيم والدال المهملة وقد تفتح_ ابن جُنادة_ بضم الجيم_ الغفاري؛ نسبة إلى قبيلة من كنانة، القائل: يحرم على الإنسان ما زاد على حاجته من المال، المتوفى (بالرَّبَذَة) سنة اثنتين وثلاثين؛ وهي بفتح الموحدة والراء المشددة، والذال المعجمة؛ موضع بينه وبين المدينة ثلاث مراحل، قريبة من ذات عرق، (وعليه)؛ أي: لقيته حال كونه عليه (حُلَّة)؛ بضم المهملة واللام المشددة؛ وهي إزار ورداء، ولا يسمى حُلَّة حتى يكون ثوبين، وسميت بذلك؛ لحلول أحد الثوبين على الآخر، (وعلى غلامه) قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: واسم هذا الغلام لم يبين في الروايات، ويحتمل أن يكون أبا مرواح مولى أبي ذر (حُلَّة)؛ أي: وحال كون غلامه عليه حُلَّة؛ فهي ثلاثة أحوال، (فسألته عن ذلك)؛ أي: عن تساويهما في لبس الحُلَّة، وإنما سأله عن ذلك؛ لأنَّ عادة العرب وغيرهم أن يكون ثياب المملوك دون ثياب سيده، والذي فعله أبو ذر؛ كان خلاف المألوف، (فقال) أبو ذر: (إني ساببت)؛ بموحدتين؛ أي: شاتمت (رجلًا)؛ هو بلال المؤذن مولى أبي بكر رضي الله عنهما (فعيرته) بالعين
%ص 20%
المهملة؛ أي: نسبْته إلى العار (بأمه)، وفي (الأدب): (وكانت أمه أعجمية؛ فنلت منها)، وفي رواية: (فقلت له: يا ابن السوداء)، (فقال لي النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر؛ أعيرته بأمه؟!)؛ بالاستفهام الإنكاري التوبيخي، وهذا كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريم ذلك، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية فيه، ولذا قال له عليه السلام: (إنك امرؤٌ)؛ بالرفع خبر (إنَّ)، وحركةُ عينِ كلمتِه تابعةٌ للامها في الأحوال الثلاث؛ كما وضحه الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ فراجعه (فيك جاهلية)؛ بالرفع مبتدأٌ قُدِّم خبرُه؛ وهو (فيك).
وروي: أنه لمَّا شكاه بلال؛ قال له عليه السلام: «شتمت بلالًا وعيرته بسواد أمه؟!» قال: نعم، قال: «حسبت أنه بقي فيك شيء من كبر الجاهلية»، فألقى أبو ذر خده على التراب، ثم قال: لا أرفع خدي حتى يطأ بلال خدي بقدمه؛ فوطئ خده؛ كذا في «القسطلاني».
(إخوانكم) في الإسلام (خَوَلكم)؛ بفتح أوله المعجمة والواو؛ أي: خدمكم أو عبيدكم، وقدم الخبر على المبتدأ؛ للاهتمام بشأن الأخوة، ويجوز أن يكونا خبرين؛ أي: هم إخوانكم هم خولكم، وأعربه الزركشي بالنصب؛ أي: احفظوا، قال: وقال الإمام أبو البقاء العكبري [1] الحنفي: إنَّه أجود، اهـ.
ورواه المؤلف في (حسن الخلق): «هم إخوانكم»، قلت: وهو لا يرجِّح تقدير الرفع كما قيل؛ لأنَّ هذا الحديث هنا لم يصرح بقوله: هم إخوانكم، وهذه الاحتمالات مبنية على هذه الرواية المذكورة هنا، وفيما يأتي يتعيَّن الرفع ويرتفع الاحتمال؛ فافهم.
(جعلهم الله تحت أيديكم)؛ مجاز عن القدرة أو الملك، (فمَن) موصولة مبتدأ (كان أخوه): اسم (كان) (تحت يده): منصوب خبر (كان)، والجملة صلة الموصول، وقوله: (فليطعمه)؛ بضم المثناة التحتية: خبر المبتدأ، والفاء لتضمنه معنى الشرط، و (الفاء) في (فمَن)؛ فإنها عاطفة على مقدَّر؛ تقديره: وأنتم مالكون إياهم فمن ... إلخ، (مما يأكل) يجوز أن تكون (ما) موصولة والعائد محذوف؛ تقديره: مِن الذي تأكله، وأن تكون مصدرية؛ أي: مِن أكله، وإنما لم يقل: مما يطعم؛ رعاية للمطابقة؛ لأنَّ الطعم يجيء بمعنى الذوق، (وليُلبسه)؛ بضم المثناة التحتية (مما) أي: من الذي (يلبس)؛ أي: يلبسه؛ بفتح المثناة التحتية، ويجوز في (الفاء) في (فمَن) أن تكون سببية؛ كما في {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، و (مِن) للتبعيض، فإذا أطعمه مما يقتاته؛ كان قد أطعمه مما يأكله، ولا يلزمه أن يطعمه من كل مأكوله [2] على العموم، لكن يستحب له ذلك.
(ولا تكلفوهم ما) أي: الذي (يغلبهم)؛ أي: تعجز قدرتهم عنه، والنهي فيه للتحريم، (فإن كلفتموهم)؛ أي: ما يغلبهم؛ (فأعينوهم) عليه، ولا يخفى أنه يلحق بالعبد الدابة، والخادم، والأجير، والضيف، ويستفاد من الحديث: النهي عن سب العبيد وتعييرهم، والحث إلى الإحسان إليهم والرفق بهم، قال القسطلاني: وإن التفاضل الحقيقي بين المسلمين إنَّما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريفَ النَّسبِ نسبُه إذا لم يكن من أهل التقوى، ويفيد الوضيعَ النَّسبِ التقوى [3]، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، اهـ.
قلت: وهذا موافق لما قدمته لك، وهو يدل على بطلان قول هذا المتعصِّب الذي قد أحدث في الشريعة أمرًا يوصل إلى هتك الشريعة في حق أهل البيت، والله الموفق، وفيه الحث على التواضع وعدم الترفع على المسلم وإن كان عبدًا، وفيه جواز إطلاق الأخ على الرقيق، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (العبكري).
[2] في الأصل: (مالوله).
[3] في الأصل: (بالتقوى).
==================
[1] في الأصل: (العبكري).
[2] في الأصل: (مالوله).
[1] في الأصل: (العبكري).
[2] في الأصل: (مالوله).
(1/64)
(22) [باب: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}]
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط في رواية ({وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا})؛ أي: تقاتلوا، والجمع باعتبار المعنى، فإن كل طائفة جمع؛ ({فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) [الحجرات: 9] بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى، وفي رواية: ({اقتتلوا ... }؛ الآية)، (فسماهم المؤمنين)، وفي رواية: (مؤمنين مع تقاتلهم)، فعُلِمَ أنَّ صاحب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، ولا يخلد في النار، وفيه: دلالة على وجوب قتال الفئة الباغية على إمام الحق بغير حق؛ وهو مذهب إمامنا الأعظم رئيس المجتهدين رضي الله عنه.
==========
%ص 21%
==================
(1/65)
[حديث: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار]
31# وبه قال: (حدثنا عبد الرحمن بن المبارك) بن عبد الله العَيْشي؛ بفتح العين المهملة، وسكون المثناة التحتية، وبالشين المعجمة، البصري، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا حماد بن زيد) بن درهم أبو إسماعيل، الأزرقي، الأزدي، البصري، المتوفى سنة تسع وسبعين ومئة (قال: حدثنا أيوب)؛ هو السختياني، (ويونس) بن عبيد بن دينار، البصري، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئة؛ كلاهما (عن الحسن) أبي سعيد بن أبي الحسن الأنصاري، المتوفى سنة ست عشرة ومئة، (عن الأحنف)، من الحنف_وهو الاعوجاج في الرجل_ بالمهملة والنون: أبي بحر الضحاك، (بن قيس) بن معاوية المخضرم، المتوفى بالكوفة سنة سبع وستين في إمارة ابن الزبير، (قال: ذهبت لأنصُر) أي: لأجل أن أنصر (هذا الرجل): هو علي بن أبي طالب؛ كما في «مسلم»، وللمؤلف في (الفتن): أريد نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك يوم وقعة الجمل، (فلقيني أبو بَكْرة) نُفَيع_بضم النون وفتح الفاء_ ابن الحارث بن كَلَدة؛ بالكاف واللام المفتوحتين، المتوفى بالبصرة سنة اثنتين وخمسين، (فقال) لي: (أين تريد؟ قلت)، وفي رواية: (فقلت): أريد مكانًا؛ لأنَّ السؤال عن المكان والجواب بالفعل؛ فيؤوَّل بذلك، (أنصر) أي: لكي أنصر (هذا الرجل، قال: ارجع) وكان منعه اجتهادًا منه، فهو مثاب عليه، (فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما)، وفي رواية: (إذا توجه المسلمان بسيفيهما) فضرب كل واحد منهما الآخر؛ (فالقاتل والمقتول في النار)؛ أي: يستحقَّانها، وأمرهما مفوض إليه تعالى؛ كما في حديث عبادة: «فإن شاء؛ عفا عنهما، وإن شاء؛ عاقبهما، ثم أخرجهما من النار، فأدخلهما الجنة»؛ كما ثبت في حديث أبي سعيد، وفيه إشارة إلى مذهب المعتزلة القائلين بوجوب العقاب، وأجيب بالمنع؛ لما علمت.
وهذا الحديث ليس عامًا، فإن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة؛ لأنَّ قتالهم عن اجتهاد وظنِّ صلاح، فهما مأجوران، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد [1]، والحق الذي عليه أهل السنة والجماعة: الإمساك عما صدر بين الصحابة وحسن الظن بهم، فإنَّهم مجتهدون، وقد رفع الله الحرج عن المجتهد المخطئ في الفروع، وتوقف الطبري وغيره في تعيين المحق منهم، والجمهور على أن عليًّا رضي الله عنه وأشياعه كانوا مصيبين؛ لأنَّه كان أحقَّ الناس بها وأفضل من على وجه الأرض حينئذٍ؛ فتأمل، وقد رجع الأحنف عن رأي أبي بَكْرة في ذلك، وشهد مع عليٍّ باقي حروبه، والله أعلم.
قال أبو بكرة: (فقلت) وفي رواية: (قلت): (يا رسول الله؛ هذا القاتل) يستحق النار؛ لكونه ظالمًا (فما بال المقتول)؛ وهو مظلوم؟ (قال) عليه السلام: (إنه كان حريصًا)؛ أي: شجيعًا (على قتل صاحبه)، وإنما أدخل الحرص على القتل وهو صغيرة، في سلك القتل وهو كبيرة؛ لمجرد كونهما في النار فقط، وإن تفاوتا صغرًا وكبرًا، وفيه دلالة على أن من عزم على المعصية بقلبه ووطَّن في نفسه عليها؛ أَثِمَ في اعتقاده وعزمه، ولهذا جاء بلفظ (الحرص).
ويُحمل قوله عليه السلام: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلموا أو تعملوا به»، والحديث الآخر: «إذا هم عبدي بسيئة؛ فلا تكتبوها عليه» على أن ذلك فيما لم يوطِّن نفسه عليها، وإنما مرَّ ذلك من غير استقرار، ويُسمَّى هذا: همًّا، وبه يفرَّق بين الهمِّ والعزم، وإن عزم؛ تكتب سيئة، فإذا عملها؛ كتبت معصية ثانية؛ كذا حققه الشيخ الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه.
==========
[1] في الأصل: (من أصاب له أجران ومن أخطأ له أجر واحد) والوجه اقتران الجواب بالفاء.
%ص 21%
==================
(1/66)
(23) [باب ظلم دون ظلم]
هذا (باب) بالتنوين: (ظلم دون ظلم)؛ أي: بعضه أخف من بعض، وهذه الترجمة لفظ رواية حديث رواه أحمد ابنحنبل من (كتاب الإيمان) من حديث عطاء بن أبي رباح.
==========
%ص 21%
==================
(1/67)
[حديث: لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}]
32# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي، الباهلي، البصري السابق، (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج.
(ح) مهملة؛ للتحويل، وأكثر الروايات بدونها، وعليه شرح الشيخ الإمام بدر الدين العيني (قال) يعني: المؤلف: (وحدثني) بالإفراد (بِشْر)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة، وفي رواية: (ابن خالد) أبو محمد العسكري، المتوفى سنة ثلاث وخمسين ومئتين، (قال: حدثنا محمد)، وفي رواية: (محمد بن جعفر)؛ أي: الهذلي البصري المعروف بغُنْدر، المتوفى سنة ثلاث وتسعين ومئة، (عن شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (عن سليمان) بن مهران الأعمش، الأسدي الكاهلي، الكوفي، ولد يوم قتل الحسين؛ يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين، وعند المؤلف: سنة ستين، المتوفى سنة ثمان ومئة، (عن إبراهيم) بن يزيد بن قيس النَّخَعي أبي عمران الكوفي، الفقيه الثقة، المتوفى وهو مختف من الحجاج سنة ست وتسعين، (عن علقمة) بن قيس بن عبد الله، المتوفى سنة اثنتين وستين، وقيل: وسبعين، (عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه: (لما نزلت) وفي رواية: قال: لما نزلت هذه الآية: ({الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}) [الأنعام: 82] واللبس: الخلط؛ أي: لا تخلطوا إيمانكم بظلم؛ أي: عظيم؛ وهو الشرك؛ إذ لا أعظم منه، وورد التصريح به عند المؤلف: قلنا: يا رسول الله؛ أيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، بل {لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} بشرك،
%ص 21%
ألم تسمعوا إلى قول لقمان ... ؛ فذكر الآية الآتية.
ونقل القسطلاني عن التميمي: أنَّه منع تصور خلط الإيمان بالشرك، وحمله على عدم حصول الصفتين لهم، كفر متأخر عن إيمان متقدم؛ أي: لم يرتدوا، أو المراد: أنَّهم لم يجمعوا بينهما ظاهرًا وباطنًا؛ أي: لم ينافقوا، قال: وهذا أوجه؛ فتأمل.
(قال أصحاب رسول الله) وفي رواية: (النبي صلى الله عليه وسلم): (أيُّنا لم يظلم؟)؛ أي: نفسه؛ كما في الرواية السابقة مبتدأ وخبره، والجملة مقول القول، (فأنزل الله)، وفي رواية زيادة: (عز وجل) عقب ذلك: ({إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13])، وإنما حملوه على العموم؛ لأنَّ قوله: {لَظُلْمٌ} نكرة، وهي في سياق النفي فتعُم، لكن عمومها هنا بحسب الظاهر، كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من هذه الآية، فبين لهم النبي عليه السلام: أن ظاهره غير مراد؛ بل هو من العام الذي أريد به الخاص.
والمراد بالظلم: الشرك، ومعنى الظلم في الأصل: وضع الشيء في غير موضعه، وإنما فهموا حصر الأمن والاهتداء فيمن لم يلبس إيمانه حتى ينتفيا عمن لبس؛ مِن تقديم {لَهُمُ} على {الأَمْنُ} في قوله: {لَهُمُ الأَمْنُ}؛ أي: لهم لا لغيرهم، ومِن تقديم {وَهُم} على {مُهْتَدُونَ}.
وفي الحديث: أنَّ المعاصي لا تسمى شركًا، وأنَّ من لم يشرك بالله شيئًا؛ فله الأمن وهو مهتد، وإن عُذِّبَ؛ فإنَّ مآله إلى الجنة، وأن درجات الظلم تتفاوت، وأن العام يطلق ويراد به الخاص [1]، والمفسر يقضي على المجمل، وأن النكرة في سياق النفي تعُم، وأن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره.
==========
[1] في الأصل: (العام)، وليس بصحيح.
==================
(1/68)
(24) [باب علامة المنافق]
هذا (باب علامات المنافق) وسقط لفظ (باب) عند الأصيلي، وإنما لم يعبر بآيات الموافق للحديث؛ إشارة إلى أنه ورد بلفظ علامات؛ كما في «صحيح أبي عوانة»؛ فافهم، والعلامات: جمع علامة؛ وهي ما يستدل به على الشيء، والنفاق: مخالفة الظاهر للباطن، فإن كان في اعتقاد الإيمان؛ فهو نفاق الكفر، وإلَّا؛ فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك، وتتفاوت مراتبه؛ كما أوضحه في «عمدة القاري»، و (المنافق) من باب المفاعلة للاثنين؛ لكنها هنا من باب (خادع) و (طارق)؛ فليحفظ.
==========
%ص 22%
==================
(1/69)
[حديث: آية المنافق ثلاث]
33# وبه قال: (حدثنا سليمان أبو الربيع) بن داود الزهراني العتكي، المتوفى بالبصرة سنة أربع وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير الأنصاري الزرقي مولاهم، المدني، المتوفى ببغداد سنة ثمانين ومئة (قال: حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل) الأصبحي التميمي المدني، المتوفى بعد الأربعين، (عن أبيه) مالك جد مالك الإمام، المتوفى سنة ثنتي عشرة ومئة.
ومعنى قولهم في مالك: (إمام الأئمة)؛ أي: أئمة مذهبه والآخذين عنه كالشافعي، وأما إمام الأئمة على الإطلاق الذي إذا قيل: الإمام الأعظم؛ انصرف إليه؛ رئيس المجتهدين بلا نزاع الإمام المقدم التابعي الجليل أبو حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنه، وأسكنه في أعلى الجنان، فإنَّ الإمام مالك أخذ عنه الفقه، والإمام الشافعي أخذ عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام الأعظم، والإمام أحمد أخذ عن الشافعي، فهو البحر، وكلهم اغترفوا منه، قدس الله روحه ونوَّر ضريحه.
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: آية المنافق)؛ أي: علامته، واللام للجنس، و (آية) مبتدأ، وقوله: (ثلاث) خبره؛ لأنَّه اسم جمع، ولفظه مفرد، والتقدير: آية المنافق معدودة بالثلاث.
قال ابن حجر العسقلاني: (وإنما أفرد إما على إرادة الجنس أو أن العلامة إنَّما تحصل باجتماع الثلاث، والأول أليق) انتهى، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني فقال: (كيف يراد الجنس والتاء فيها تمنع ذلك؟ لأنَّ التاء فيها كالتاء في «تمرة»، والآية والآي؛ كالتمرة والتمر، قال: وقوله: «إنما تحصل ... » إلى آخره؛ يُشعر بأنه إذا وجد واحد فيه من الثلاث لا يطلق عليه منافق، وليس كذلك؛ بل يطلق عليه اسم المنافق، غير أنه إذا وجد فيه الثلاث كلها؛ يكون منافقًا كاملًا) انتهى.
أحدها: (إذا حدَّث) غيرَه في كلِّ شيء؛ (كذب) _بتخفيف الذال الممعجمة_ عليه وأخبره بخلاف الواقع.
الثانية منها: (وإذا أوعد) غيرَه بشيء في المستقبل؛ (أخلف) في وعده فلم يف به، وهو من عطف الخاص على العام؛ لأنَّ الوعد نوع من التحديث؛ لكنه أفرده؛ لزيادة قبحه، وخلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنًا للوعد، أما لو كان عازمًا ثم عَرَض له مانع أو بدا له رأي؛ فهذا لم يوجد منه صورة النفاق، ويدل لذلك ما في «أبي داود»: «إذا أوعد الرجل أخاه ومِن نيَّته أن يفي له، فلم يف؛ فلا إثم عليه»، ولا يخفى أنَّ هذا في الوعد بالخير، أما في الشر أو الإيذاء؛ فيجب؛ أي: يفترض إخلافه؛ فليحفظ.
(و) الثالثة منها: (إذا اؤتمن) _بصيغة المجهول، من الائتمان_ أمانة؛ (خان) بأن تصرف فيها من غير إذنه.
وإنما اقتصر على هذه الثلاث؛ أنَّ الديانة ثلاثة: قول، وفعل، ونية، ففساد القول بالكذب، وفساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف، وحينئذ لا تعارض بين ما يأتي بلفظ: «أربع من كن فيه ... »، والرابعة: إذا عاهد غدر؛ لأنَّ معنى الغدر: الخيانة، فإذا وجدت هذه الخصال في مسلم؛ فهل يكون منافقًا؟ أجيب: بأنها خصالُ نفاقٍ لا نفاقٌ، إما على المجاز، أو أنَّ المراد: نفاق العمل لا نفاق الكفر، أو المراد: مَن اتصف بها وصارت عادة له، يدل له التعبير بـ (إذا) المفيدة لتكرار الفعل، أو المراد: الإنذار والتحذير عن ارتكابها، أو أنه ورد في رجل معين وكان منافقًا، أو المراد: المنافقون في زمنه عليه السلام.
==========
%ص 22%
==================
(1/70)
[حديث: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا]
34# (تابعه)؛ أي: تابع سفيانَ الثوري (شعبةُ) بن الحجاج في روايته (عن الأعمش)، وقد وصله في (المظالم)، وفائدة هذه المتابعة؛ كون الحديث مرويًّا من طريق آخر.
==========
%ص 22%
==================
(1/71)
(25) [بابٌ قيامُ ليلة القدرِ من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين، وهو ساقط في رواية (قيام ليلة القدر من الإيمان)؛ أي: شعبه.
==========
%ص 22%
==================
(1/72)
[حديث: من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا]
35# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع البَهراني؛ بفتح الموحدة، الحمصي، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين (قال: أخبرنا شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة (قال: حدثنا أبو الزناد)؛ بالنون عبد الله بن ذكوان القرشي، (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدني، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن يَقم ليلة القدر) للطاعة، و (يَقم)؛ بفتح المثناة تحت: من (قام يقوم)، وقع هنا متعديًا، ويدل له حديث الشيخين: «من قامه ... » إلى آخره، (إيمانًا) أي: تصديقًا (واحتسابًا) لوجهه تعالى لا للرياء، منصوبان على المفعول له، والأوجه أن يكونا على الحال، مصدرًا؛ بمعنى الوصف؛ أي: مؤمنًا محتسبًا؛ (غفر له ما تقدم من ذنبه) إلا حقوق العباد؛ فإنَّها لا تسقط إلَّا بالأداء أو الرضا بالإجماع، وفيه دلالة على جعل الأعمال إيمانًا؛ أي: من ثمراته، و (ليلة) منصوب مفعول به لا فيه؛ كذا قيل، وجملة (غفر له) جواب الشرط، وقد وقع ماضيًا وفعل الشرط مضارعًا؛ وهو جائز على قول البعض، على حدِّ قوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم [مِّنَ السَّمَاءِ] آيَةً فَظَلَّتْ} [الشعراء: 4]، وإنما عبر بالمضارع هنا وفي قيام رمضان بالماضي؛ لأنَّ قيام رمضان وصيامه محقَّقَا الوقوع، بخلاف ليلة القدر؛ لعدم تعيُّنها، وقيل: استعمل لفظ الماضي في الجزاء مع أن المغفرة في زمن الاستقبال؛ إشارة إلى تحقق وقوعه على حدِّ قوله: {أَتَى أَمْرُ اللهِ} [النحل: 1].
==========
%ص 22%
==================
(1/73)
(26) [باب الجهاد من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين: (الجهاد) قتال الكفار؛ لإعلاء كلمته تعالى، شعبة (من) شعب (الإيمان)؛ أي: ثمرة من ثمراته، ولفظ (باب) ساقط عند الأصيلي كعادته.
==========
%ص 22%
==================
(1/74)
[حديث: انتدب الله لمن خرج في سبيله]
36# وبه قال: (حدثنا حرمي بن حفص) بن عمر العَتَكي؛ بفتح المهملة والمثناة الفوقية؛ نسبة إلى العتيك بن الأسد، القَسْمَلي؛ بفتح القاف، وسكون المهملة، وفتح الميم؛ نسبة إلى قَسْمَلة؛ قبيلة من الأزد، البصري، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عبد الواحد) بن زياد العبدي؛ نسبة إلى عبد القيس، البصري، الثقفي؛ نسبة إلى ثقيف، المتوفى سنة سبع وسبعين ومئة [1] (قال: حدثنا عُمارة)؛ بضم العين المهملة: ابن القعقاع بن شبرمة، الكوفي الضبي؛ نسبة إلى ضبة بن أد بنِ طابخة (قال: حدثنا أبو زرعة) هرم أو عبد الرحمن أو عمرو أو عبد الله (بن عمرو) وفي رواية زيادة: (ابن جرير) البَجَلي؛ بفتح الموحدة والجيم؛ نسبة [إلى] بجيلة بنت صعب (قال: سمعت أبا هريرة) رضي الله عنه (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: انْتَدب الله)؛ بنون ساكنة، ومثناة فوقية مفتوحة، ودال مهملة، من ندبت فلانًا؛ فانتدب؛ أي: أجاب إليه، وفي «القاموس»: ندبه إلى الأمر؛ دعاه وحثَّه، أو معناه: تكفَّل؛ كما رواه المؤلف، وفي رواية زيادة: (عز وجل) (لمن خرج في سبيله) حال كونه (لا يُخرجه إلا إيمانٌ) وفي رواية: (إلا الإيمان)، وفي رواية: (إلا إيمانًا)، (بي وتصديقٌ برسلي) بالرفع فيهما؛ فاعل (لا يخرجه)، وبالنصب فيهما مفعول له؛ أي: لا يخرجه المخرجُ، فالاستثناءُ مفرَّغٌ، وإنما قال: (بي) ولم يقل: به؛ للالتفات من الغَيبة إلى التكلم، وذكر ركن الدين الكرماني أن في رواية: (أو تصديق) بدل الواو، فهي بمعناها، وأن الإيمان بالله مستلزم لتصديق رسله، وهو مستلزم للإيمان بالله، واعترضه ابن حجر: بأنه لم يثبت في شيء من الروايات بلفظ (أو)، انتهى.
قلت: بل هو ثابت في «أصل فرع اليونينية» كهي (أو) بالألف قبل الواو، وعلى الألف (لا س) علامة سقوط الألف عند من رقم له
%ص 22%
بالسين؛ وهو ابن عساكر الدمشقي؛ فليحفظ.
(أن أَرجعه)؛ بفتح الهمزة من (رجع)، و (أنْ) مصدرية، والأصل: بأن أرجعه؛ أي: برجوعه إلى بلده، وفي رواية: بضم الهمزة (بما نال)؛ أي: بالذي أصابه من النيل وهو العطاء، (من أجر) فقط إن لم يغنموا، (أو) أجر مع (غنيمة) إن غنموا، أو أنَّ (أو) بمعنى الواو، وعبَّر بالماضي موضع المضارع؛ لتحقق وعده تعالى، (أو) أنْ (أدخله الجنة) مع المقربين بلا حساب ولا عقاب؛ لأنَّ الشهادة تكفرها، أو عند موته لقوله: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
(ولولا أن أشق) أي: لولا المشقة (على أمتي ما قعدت خلفَ) بالنصب على الظرفية؛ أي: ما قعدت بعد (سرية)؛ بل كنت أخرج معها بنفسي؛ لعظم أجرها، وسبب المشقة: صعوبة تخلفهم بعده، ولا قدرة لهم على المسير معه، وشفقة عليهم، و (لولا) امتناعية، و (أنْ) مصدرية في موضع رفع بالابتداء، و (ما) وقعت جواب (لولا)، وأصله (لما) فحُذِفت اللام، (ولوددت)؛ أي: والله لوددت؛ أي: أحببت (أني أُقتل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا، ثم أُقتل)؛ بضم الهمزة في الكل، وفي رواية: بالفاء.
وإنما ختم بقوله: (ثم أُقتل) والقرار إنَّما هو على حالة الحياة؛ لأنَّ المراد الشهادة، فختم الحال عليها أو الإحياء للجزاء من المعلوم، و (ثم) للتراخي في الرتبة أو الزمان، وتمنِّيه عليه السلام المراد به: حصول ثواب الشهادة، لا تمني المعصية للقاتل، وفيه استحباب طلب القتل في سبيل الله، وفضل الجهاد، ويعارضه قوله عليه السلام: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية»، إلا أن يُحمل الأول على طلب الثواب، والثاني على هجوم العدو مع عدم قدرة الدفع؛ فتأمل.
==========
[1] في الأصل: (سبع وسبعين ومئتين وألف)، وليس بصحيح.
==================
(1/75)
(27) [بابٌ تطوع قيام رمضان من الإيمان]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (تطوُّعُ) (تفعُّل)، ومعناه: التكليف بالطاعة، والمراد به هنا: التنفل؛ وهو رفعٌ بالابتداء، وقوله: (قيامِ رمضان) مضاف إليه، و (رمضان) ممنوع من الصرف؛ للعلمية والألف والنون، وفي رواية: بدون التنوين في (باب) مضافًا لما بعده، وفي رواية: زيادة لفظ (شهر)، وفي رواية: سقوط لفظ (باب) (من الإيمان)؛ أي: من ثمراته.
==========
%ص 23%
==================
(1/76)
[حديث: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا]
37# وبه قال: ([حدثنا] إسماعيل) بن أبي أويس المدني الأصبحي (قال: حدثني) بالإفراد (مالك): هو ابن أنس وهو خاله، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن حميد بن عبد الرحمن) بن عوف، أبو إبراهيم، القرشي المدني الزهري، وأمه أم كلثوم بنت عقبة أخت عثمان بن عفان لأمه، المتوفى بالمدينة سنة خمس ومئة، قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ وهو الصحيح، قاله ابن حجر العسقلاني، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَن قام) بالطاعة صلاة التراويح وغيرها في ليالي (رمضان) حال كون قيامه (إيمانًا)؛ أي: مؤمنًا مصدقًا بالله، (و) حال كونه (احتسابًا)؛ أي: محتسبًا له تعالى لا للرياء؛ (غُفِر له ما تقدم من ذنبه) إلا حقوق العباد، فالمغفورة؛ الذنوب الصغائر، وأما الكبائر؛ فلا تسقط إلا بالتوبة أو الحد، وما ورد من الغفران في قيام رمضان، وفي صومه، وليلة القدر، وكفارة صوم يوم عاشوراء سنة، ويوم عرفة سنتين، وما بين الرمضانين للذنوب بواحد، فما الذي يكفره الآخر؟ فإن كل واحد يكفر الصغائر، فإن لم توجد؛ فإنَّه يرفع له درجات، ويكتب له حسنات، ويخفف عنه في الموقف، ويسهل عليه الصعود على الصراط، وفضل واسع.
==========
%ص 23%
==================
(1/77)
(28) [باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط عند الأصيلي كعادته: (صوم رمضان) حال كونه (احتسابًا) أي: محتسبًا (من الإيمان)؛ أي: من ثمراته، ولم يقل: (وإيمانًا)؛ اختصارًا أو لاستلزام الاحتساب الإيمان.
==========
%ص 23%
==================
(1/78)
[حديث: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا]
38# وبه قال: (حدثنا ابن سلَام)؛ بتخفيف اللام، وفي رواية: (البيكندي)، وفي أخرى: (محمد بن سلام) (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (محمد بن فُضَيل)؛ بضم الفاء وفتح المعجمة: ابن غزوان الضبي مولاهم، الكوفي، المتوفى سنة تسع وخمسين ومئة (قال: حدثنا يحيى بن سعيد) الأنصاري قاضي المدينة، (عن أبي سلمة) عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن صام رمضان) كله عند قدرته عليه، أو بعضه عند مرضه ونيِّته إكماله حال كون صيامه (إيمانًا و) حال كونه (احتسابًا)؛ أي: مؤمنًا محتسبًا مصدقًا به مخلصًا به؛ (غُفِر له ما تقدم من ذنبه) الصغائر، والكبائر بالتوبة والحدِّ، ونصب (رمضان) على الظرفية، وأتى بـ (احتسابًا) بعد (إيمانًا)؛ للتوكيد.
==========
%ص 23%
==================
(1/79)
(29) [بابٌ الدين يسر]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط عند الأصيلي: (الدينُ) مبتدأ؛ أي: الإسلام، فـ (أل) للعهد، وقوله: (يسرٌ) خبر؛ أي: عينه ذو يسُْرة؛ بضم السين وسكونها؛ ضد العسر، ومعناه التخفيف، (وقولِ) بالجر معطوف على ما أضيف إليه الباب، وفي رواية: بالرفع (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: أحبُّ الدينِ) مبتدأ؛ بمعنى المحبوب؛ أي: أحب خصال دين الإسلام (إلى الله) تعالى الملةُ (الحنيفيةُ) خبر؛ أي: المائلة عن الباطل إلى الحق، والمراد بالحنيفية: الإبراهيمية (السمحةُ)؛ أي: السهلة المخالفة لأديان الأمم السالفة، بالرفع صفة (الحنيفية).
وهذا التعليق وصله المؤلف في «الأدب»، وأحمد، والطبراني، وإنما ذكره ترجمة؛ لأنَّه ليس على شرطه.
==================
(1/80)
[حديث: إنَّ الدين يسر]
39# وبه قال: (حدثنا عبد السلام بن مُطَهَّر)؛ بضم الميم وفتح الطاء المهملة، والهاء المشددة: ابن حسام الأزدي البصري، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عمر بن علي) بن عطاء المقدمي البصري المتوفى سنة تسعين ومئة، (عن مَعْن بن محمد)؛ بفتح الميم وسكون العين المهملة: ابن معن (الغِفاري)؛ بكسر الغين المعجمة؛ نسبة إلى غِفار الحجاز، فإن قيل: ما حكم حديث رواية عمر بن علي المدلِّس بالعنعنة عن معن؟ أجيب: بأنها محمولة على ثبوت سماعه من جهة أخرى كجميع ما في «الصحيحين» عن المدلسين؛ كما أوضحه الشيخ الإمام بدر الدين العيني، (عن سعيد بن أبي سعيد) واسمه كيسان (المَقْبُري)؛ بفتح الميم، وسكون القاف، وضم الموحدة؛ نسبة إلى مقبرة بالمدينة، المدني، أبي سعْد؛ بسكون العين، المتوفى بعد اختلاطه بأربع سنينسنة خمس وعشرين ومئة، وكان سماع معن عن سعيد قبل اختلاطه، (عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: إن الدين يسر).
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: أي: ذو يسر، وذلك لأنَّ الالتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلَّا بالتأويل، أو الدين يسر؛ أي: عينه، على المبالغة، فكأنَّه لشدة اليسر وكثرته نفس اليسر؛ كما يقال الإمام الأعظم فقه [1]؛ لأنَّه صار عين الفقه، ومنه رجل عَدْل، و (اليسر)؛ بالضم والفتح؛ نقيض العسر، ومعناه: التخفيف، إما بالنسبة إلى ذاته، أو بالنسبة إلى سائر الأديان؛ وهو الظاهر؛ لأنَّ الله تعالى رفع عن هذه الأمة الأضر الذي كان على من قبلهم، كعدم جواز الصلاة إلَّا في المسجد، وعدم الطهارة بالتراب، وقطع الثوب الذي يصيبه النجاسة، وقبول التوبة بقتل أنفسهم، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، انتهى؛ فليحفظ.
والتأكيد بـ (إنَّ)؛ ردًّا على منكرِ يُسرِ هذا الدين على تقدير كون المخاطب منكِرًا، وإلَّا؛ فعلى تقديره تنزيله منزلة المنكِر، وإلَّا؛ فعلى تقدير: المنكرين غير المخاطب، وإلَّا؛ فلكون القضية ممَّا يهتم بها، انتهى.
(ولن يشادَّ هذا الدينَ أحد) وفي رواية: بإسقاط لفظ (هذا)؛ بالشين المعجمة وإدغام سابق المثلين في لاحقه؛ من المشاددة؛ وهي المغالبة؛ أي: لا يتعمق أحد في الدين ويترك الرفق (إلا غلبه) الدينُ، وعجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه، و (يشاد) منصوب بـ (لن)، و (الدين) نُصب بإضمار الفاعل؛ أي: لن يشادَّ الدينَ أحدٌ، وفي رواية: برفع (الدين) على أنَّ (يُشادَّ) مبني لما لم يسم فاعله، واعترض بأن أكثر الروايات بالنصب، وجمع بينهما بالنسبة إلى روايات المشارقة والمغاربة.
(فسددوا) بالمهملة من السَّداد؛ وهو التوسط بالعمل؛ أي: الزموا السداد من غير إفراط ولا تفريط، (وقاربوا) بالموحدة؛ أي: في العبادة، إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل؛ فاعملوا بما يقرب منه، (وأبشروا)؛ بقطع الهمزة من الإبشار، وفي لغة: بضم الشين من البشرى؛ بمعنى الإبشار؛ أي: أبشروا بالثواب على العمل، وأبهم المبشَّر به؛ للتنبيه على تعظيمه، وسقط (وأبشروا) في رواية، (واستعينوا)؛ أي: اطلبوا الإعانة (بالغدوة): سير أول النهار إلى الزوال أو ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، كالغداة والغدية (والروحة): اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل، وضبطهما الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ بفتح الراء في (الرَّوحة) وضم الغين المعجمة في (الغُدوة)، قال: وهو الصحيح، وتبعه على ذلك ابن الأثير في «النهاية»، وضبطهما الشيخ ركن الدين الكرماني وتبعه ابن حجر؛ بفتح أولهما، قلت: والمشهور الأول، كما لا يخفى؛ فافهم، (وشيءٍ)؛ أي: واستعينوا بشيء (من الدُّلْجة)؛ بضم الدال المهملة وإسكان اللام: سير آخر الليل أو الليل كله، ومن ثَم عبر بـ (مِن) التبعيضية، وقد أوضحه في «عمدة القاري»؛ ولأن عمل الليل أشرف من عمل النهار، وفي هذا استعارة الغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (فقيه)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 23%
==================
(1/81)
(30) [باب الصلاة من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين وترْكِه بإضافته إلى الجملة بعده؛ لأنَّ قوله: (الصلاة) مرفوع بالابتداء، وخبره قوله: (من الإيمان)؛ أي: الصلاة شعبة من شعب الإيمان، ولفظ (باب) ساقط عند الأصيلي كعادته، (وقول الله تعالى) وفي رواية: (عزَّ وجلَّ)، ويجوز فيه الجر عطفًا على المضاف إليه، والرفع عطفًا على لفظ (الصلاة): ({وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]) بالخطاب؛ لأنَّ المقام يقتضي الغَيبة؛ لكنه قصد تعميم الحكم للأمة الأحياء والأموات،
%ص 23%
فذكر الأحياء المخاطبين؛ تغليبًا لهم على غيرهم (يعني: صلاتكم) بمكة (عند البيت) المراد به: الكعبة؛ لأنَّها المرادة عند الإطلاق.
وقال ابن عباس: كان يصلي عليه السلام إلى بيت المقدس؛ لكنه لا يستدبر الكعبة؛ بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس، وأطلق آخرون: أنه كان إلى بيت المقدس، وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة فلما تحول إلى المدينة؛ استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنَّه يجمع بين القولين.
==================
(1/82)
[حديث: أن النبي كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده]
40# وبه قال: (حدثنا عمرو بن خالد)؛ بفتح العين: ابن فروخ الحنظلي الحراني، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا زُهَير)؛ بضم أوله وفتح ثانيه مصغرًا: ابن معاوية بن حُديج بضم الحاء المهملة، وفتح الدال المهملة، آخره جيم، الجُعفي الكوفي، المتوفى سنة اثنتين وسبعين ومئة (قال: حدثنا أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي التابعي، المتوفى سنة ست وعشرين ومئة، (عن البرَاء)؛ بتخفيف الراء والمد على المشهور، وفي رواية: (عن البراء بن عازب) بن الحارث الأنصاري الأوسي، المتوفى بالكوفة سنة اثنتين وسبعين: (أن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم كان أولَ ما قدِم)؛ بكسر الدال ونصب (أول) على الظرفية، لا خبر (كان)، كما وهم الزركشي؛ فإنَّ خبر (كان) قوله: (نزل) في أول قدومه (المدينة)؛ أي: مدينة النبي الأعظم عليه السلام، فـ (أل) للعهد، وتسمى طيبة؛ أي: في هجرته من مكة (نزل على أجداده أو قال)؛ أي: أبو إسحاق (أخواله من الأنصار): (مِن) للبيان، وهذا شكٌّ من أبي إسحاق.
والمراد بالأجداد: هم من جهة الأمومية، وإطلاق الجد والخال هنا مجاز؛ لأنَّ هاشمًا جدَّ أب النبي الأعظم عليه السلام زوِّج من الأنصار، ونزوله عليه السلام كان في بيت جدِّي الصحابي الجليل أبي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه، وأقام عنده سبعة أشهر، وبعث وهو عنده، وهذه فضيلة عظيمة؛ حيث اختار النبي النزول في بيت جدي رضي الله عنه.
(وأنه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (صلَّى قِبَل)؛ بكسر القاف وفتح الموحدة، والجملة رفع خبر (أنَّ) (بيت المقدس) مصدر ميمي كـ (المرجع)، منصوب على الحال؛ أي: حال كونه متوجهًا إليه (ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا) على الشك في رواية زهير هنا، وجزم مسلم بالأولى، فيتعيَّن اعتمادها؛ وهي الصحيحة، قبل بدر بشهرين، وجزم القاضي ومالك بن أنس بصحة الثانية، والجمع بينهما: أنَّ من جزم بالأولى؛ أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، والمعنى: الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بالثانية؛ عدَّهما معًا، ومن شكَّ؛ تردد في ذلك وكان القدوم في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف رجب في السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، وسقط في روايةٍ قوله: (شهرًا) الأول.
(وكان) النبي الأعظم عليه السلام (يعجبه) خبر (كان) (أن تكون قبلتُه قِبَل)؛ بكسر القاف وفتح الموحدة؛ أي: كون قبلته جهةَ (البيت) الحرام؛ أي: كان يحب ذلك فـ (أن تكون) في محل رفع فاعل (يعجبه)، و (أنْ) مصدرية، والتقدير كما علمته، (وأنَّه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، عطفًا على (أنه) السابقة (صلى أول صلاة صلاها)؛ متوجِّهًا إلى الكعبة، وجملة (صلى) من الفعل والفاعل محلُّها رفع خبر (أنَّ)، وبنصب (أولَ) مفعول (صلى) (صلاة العصر) بدل منه، وأعربه ابن مالك: بالرفع، وسقط لفظ (صلى) في رواية.
وجاء في «الترمذي»، و «النسائي»، و «الشيخين» في (الصلاة): عن ابن عمر قال: (بينا الناس في صلاة الصبح)، وفي «مسلم» عن أنس: (أنها الصبح)، والجمع بين الروايتين: أنَّ التي صلاها مع النبي العصر، مر على قوم من الأنصار في تلك الصلاة؛ وهي العصر، فهذا رواية البراء، وأما رواية ابن عمر وأنس: أنَّها الصبح؛ فهي صلاة أهل قباء ثاني يوم، ومال بعض المتأخِّرين إلى ترجيح رواية الصبح؛ لأنَّها جاءت عن صحابيَّين، لكن الصواب أنَّها العصر؛ كما أوضحه في «عمدة القاري».
(وصلى معه)؛ أي: مع النبي الأعظم عليه السلام (قومٌ) مرفوع فاعل؛ وهو موضوع للرجال دون النساء، ولا واحد له من لفظه، وقد تدخلن النساءُ فيه على سبيل التبَع، (فخرج رجل ممن صلى معه)؛ وهو عبَّاد بن بشر بن قيظي، أو عباد بن نَهِيك_بفتح النون وكسر الهاء_ ابن أساف الخطمي، أو عباد بن وهب؛ وهي أقوالٌ ثلاثةٌ، أصحها أوسطها، (فمر على أهل مسجد) من بني سلمة، ويعرف الآن بمسجد القبلتين في صلاة العصر (وهم راكعون) يَحتمل أن يراد حقيقة الركوع، وأن يراد به الصلاة؛ من إطلاق الجزء وإرادة الكل، قلت: والظاهر الأول، (فقال) لهم: (أشهد) أي: أحلف (بالله؛ لقد صليت مع رسول الله) وفي رواية: (مع النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة)؛ أي: حال كونه متوجِّهًا إليها، واللام: للتأكيد، و (قد) للتحقيق، وجملة (أشهد) اعتراض بين القول ومقوله، (فداروا)؛ أي: سمعوا كلامه فداروا، فالفاء فصيحة (كما هم) عليه (قِبَل البيت) الحرام، ولم يقطعوا الصلاة؛ بل أتموها إلى جهة الكعبة، فصلوا صلاة واحدة إلى جهتين.
وهذه الكاف تحتمل وجهين؛ الأول: أن تكون للاستعلاء؛ كما في نحو: كن كما أنت، والتقدير هنا: فداروا على ما هم عليه، وفي إعرابه أوجه؛ الأول: أن تكون (ما) موصولة، و (هم) مبتدأ، وخبره محذوف؛ وهو (عليه)، الثاني: أن تكون (ما) زائدة ملغاة، والكاف زائدة، و (هم) ضمير مرفوع أنيب عن المجرور؛ كما [في] قولك: ما أنا كأنت، والمعنى: فداروا في الحال مماثلين لأنفسهم في الماضي، الثالث: أن تكون (ما) كافة، و (هم) مبتدأ، وحذف خبره؛ وهو (عليه) أو (كائنون)، الرابع: أن تكون (ما) كافة أيضًا، و (هم) فاعل، والأصل: كما كانوا، ثم حذفت (كان)؛ فانفصل الضمير، الوجه الثاني: أن تكون الكاف كاف المبادرة، والمعنى: فداروا مبادرين في حالهم التي هم عليها، والوجه الأول هو الأحسن، أفاده في «عمدة القاري»؛ وهو في غاية التحقيق،
وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب؛ أي: القرآن، وبه قال إمامنا الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور، وللشافعي فيه قولان، وكذا أحمد، وأجازه مالك.
وفيه دليل على جواز الاجتهاد بالقبلة؛ وهو مذهب الإمام الأعظم، وجواز الاجتهاد بحضرة الرسول، وفيه خلاف.
وفيه دليل على أنَّ من صلَّى بالاجتهاد إلى غير القبلة ثم تبين له الخطأ بعدما فرغ؛ لا يلزمه الإعادة؛ لأنَّه فعل ما عليه؛ لأنَّ أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظنِّهم بقاء الأمر؛ فلم يؤمروا بالإعادة؛ وهو مذهب الإمام الأعظم.
وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين؛ بل إلى أربع جهات، كمن صلى إلى جهة باجتهاد ثم تبدل اجتهاده إلى أخرى؛ يستدير ... وهكذا حتى لو صلى أربع ركعات كل ركعة إلى جهة؛ فإنه جائز؛ وهو مذهب الإمام الأعظم، وبه قال الشافعي.
(وكانت اليهود قد أعجبهم) أي: النبي الأعظم عليه السلام و (هم) منصوب على المفعولية؛ (إذ كان) عليه السلام (يصلي قِبَل بيت المقدس)؛ أي: حال كونه متوجِّهًا إليه، و (إذ) ظرف بمعنى: حين)، والمعنى: أعجب اليهود حين كان يصلي عليه السلام قِبَل بيت المقدس، و (إذ) إنَّما تقع بدلًا عن المفعول؛ كما في قوله: {إذ انتبذت} [مريم: 16]، وهنا المفعول هو الضمير المنصوب؛ فلا يصح أن يكون بدلًا منه؛ لفساد المعنى، والضمير المستتر في (أَعجب)؛ ضمير الفاعل؛ فافهم، والإضافة في (بيت المقدس)؛ من إضافة الموصوف إلى صفته كـ (صلاة الأولى)، والمشهور فيه الإضافة، وقد جاء على الصفة: (البيت المقدس)، قال أبو علي: تقديره: بيت مكان الطهارة، (وأهلُ الكتاب) بالرفع عطفًا على اليهود؛ وهو من عطف العام على الخاص، وقال ركن الدين الكرماني: أو المراد بهم النصارى فقط، خاص عطف على خاص، قال ابن حجر: وفيه نظر؛ لأنَّ النصارى لا يصلُّون لبيت المقدس، فكيف يعجبهم؟ واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأن الكرماني لما قال: المراد به: النصارى فقط؛ قال: وجعلوا تابعة؛ لأنَّهم لم يكن قبلتهم، بل إعجابهم كان بالتبعية لليهود، على أن نفس الحديث يشهد بإعجاب النصارى أيضًا؛ لأنَّ قوله: (وأهل الكتاب) إذا كان عطفًا على (اليهود)؛ يكونون داخلين فيما وصف به اليهود، فالنصارى من جملة أهل الكتاب، فهم أيضًا داخلون فيه، والأظهر أن يكون (وأهلَ الكتاب)؛ بالنصب على أن الواو فيه بمعنى (مع)؛ أي: كان يصلي قِبَل بيت المقدس مع أهل الكتاب، وهذا وجه صحيح، ولكن يحتاج إلى تصحيح الرواية بالنصب، وفي هذا الوجه أيضًا يدخل فيه النصارى؛ لأنَّهم من أهل الكتاب، انتهى؛ وهو في غاية التحقيق؛ فليحفظ.
(فلما ولَّى) عليه السلام (وجهَه قِبَل البيت)؛ أي: أقبل عليه السلام وجهَه نحو الكعبة؛ (أنكروا ذلك)؛ أي: أنكر أهل الكتاب توجيهه إليها، فعند ذلك نزلت: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} ... الآية [البقرة: 142]؛ كما صرح به المؤلف في رواية من طريق إسرائيل.
(قال زهير) بالتصغير؛ يعني: ابن معاوية: (حدثنا أبو إسحاق) يعني: الهمداني السبيعي، (عن البراء) بن عازب (في حديثه هذا) وفي رواية: (أبو إسحاق في حديثه عن البراء): (أنه مات على القبلة) أي: المنسوخة (قبل أن تحوَّل) أي: قبل التحويل إلى الكعبة (رجالٌ) عشرة؛ منهم: عبد الله بن شهاب الزهري القرشي مات بمكة، والبراء بن معرور الأنصاري بالمدينة (وقُتِلوا)؛ بضم أوله وكسر ثانيه.
وفائدة ذِكر القتل: بيان كيفية موتهم؛ إشعارًا بشرفهم، واستبعادًا لضياع طاعتهم، أو أن الواو بمعنى (أو)؛ فيكون شكًّا؛ لكن القتل فيه نظر؛ فإن تحويل القبلة كان قبل نزول القتال، على أنَّ هذه اللفظة لا توجد في غير رواية زهير بن معاوية، وإنما يوجد في باقي الروايات ذكر الموت فقط، أفاده القسطلاني، قلت: احتمال الشك بعيد، ومراده أنه مات رجال وسبب موتهم كان القتل.
%ص 24%
وقوله: إن التحويل كان قبل نزول القتال؛ لا ينافي ذكر القتال؛ لأنَّ القتال كان في جميع الأمم الماضية، وليس المعنى أنهم قُتلوا قصاصًا؛ بل في وقعة من الوقعات، وجُلُّ سؤال زهير عن هذا؛ فتأمل.
(فلم ندر ما نقول فيهم؛ فأنزل الله تعالى) وفي رواية: (عز وجل): ({وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]) بالقبلة المنسوخة أو صلاتكم إليها، وقال الكرماني: يَحتمل أن يكون المؤلف ذكر قول زهير معلقًا، واعترضه ابن حجر بأن المؤلف ساقه في (التفسير) موصولًا مع جملة الحديث، وردَّه الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأنَّ صورته صورة تعليق، وأنَّه لا يلزم من سوقه في (التفسير) جملة واحدة أن يكون هذا موصولًا غير معلق، انتهى؛ فليحفظ.
وفي الحديث دليل على صحة نسخ الأحكام؛ وهو مجمع عليه، خلافًا لليهود، ووجوب الصلاة إلى القبلة، والإجماع على أنَّها الكعبة، وعلى شرف النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وكرامتِه على ربه؛ حيث يعطي له ما يحبه من غير سؤال.
==================
(1/83)
(31) [باب حسن إسلام المرء]
هذا (باب حسن إسلام المرء) بإضافة (باب) لما بعده، وهو ساقط عند الأصيلي.
==================
(1/84)
[حديث: إذا أسلم العبد فحسُنَ إسلامه]
41# وبه قال: (قال مالك) وفي رواية: (وقال)، وفي أخرى: (قال: وقال مالك) هو ابن أنس: (أخبرني) بالإفراد (زيد بن أسلم) أبو أسامة القرشي المكي، مولى عمر بن الخطاب: (أن عطاء بن يسار)؛ بفتح المثناة تحت والسين المهملة: أبا محمد المدني، مولى أم المؤمنين ميمونة (أخبره أن أبا سعيد) سعد بن مالك (الخدري)؛ بالدال المهملة رضي الله عنه (أخبره: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يقول) بالمضارع حكاية حالٍ ماضية: (إذا أسلم العبد) وكذا الأَمة، وخصَّ الذكر؛ تغليبًا، (فحسن إسلامه) أو إسلامها بالدخول فيه ظاهرًا وباطنًا، أو المراد: المبالغة في الإخلاص لله تعالى بالطاعة والمراقبة؛ (يُكَفِّر)؛ بضم المثناة تحت، وفتح الكاف، مع تشديد الفاء المكسور،: من التكفير؛ وهو التغطية، وهو في المعاصي كالإحباط في الطاعات، وقال الفاضل جار الله الزمخشري: التكفير إماطة المستحق من العقاب بثواب زائد أو بتوبة، انتهى (الله عنه) وعنها، جزاء الشرط؛ أعني: (إذا)، ويجوز فيه الرفع والجزم، وذلك إذا كان فعل الشرط ماضيًا والجواب مضارعًا، وعند الجزم يلتقي الساكنان، فتحرك بالكسر؛ لأنَّه الأصل، ولكن الرواية هنا بالرفع، وفي روايةٍ: (كَفَّر الله) بصيغة الماضي، فوافق فعل الشرط؛ فليحفظ، (كلَّ سيئة) منصوب مفعول (يُكَفِّر) (كان زلَفها) بتخفيف اللام المفتوحة، وفي رواية: بتشديد اللام، وفي أخرى: (أَزْلَفها) بزيادة همزة مفتوحة؛ وهما بمعنًى واحد؛ أي: أسلفها وقدمها، (وكان بعد ذلك)؛ أي: بعد حسن الإسلام (القصاصُ) بالرفع اسم (كان) على أنَّها ناقصة، أو فاعل على أنَّها تامة، وعبر بالماضي؛ لتحقق الوقوع؛ (الحسنةُ) بالرفع مبتدأ، خبره (بعشر)؛ أي: تُكتب أو تُثبت في الصحف أو في الميزان بعشر (أمثالها) حال كونها منتهية (إلى سبع مئة ضِعف)؛ بكسر الضاد: المثل إلى ما زاد، يقال: لك ضعفه؛ يريدون: مثليه وثلاثة أمثاله؛ لأنَّه زيادة غير مخصوصة؛ كذا في «القاموس».
وزعم بعض الشافعية أنَّ التضعيف لا يتجاوز سبع مئة، وأجيب: بأنه أخرج المؤلف في (الرقاق) من حديث ابن عباس: «كتب الله له عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة»، وهو يرد عليه.
وأما قوله تعالى: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: 261]؛ فالمراد: أنه يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء؛ بأن يجعلها سبع مئة، أو أنه يضاعف السبع مئة بأن يتجاوزها بأضعاف، لما في «أبي عاصم» عن أبي هريرة أنه قال: (إن الله يعطي بالحسنة ألفي ألف حسنة).
وفي حديث مالك مما أسقطه المؤلف: أن الكافر إذا حَسُن إسلامه، يُكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك، فالله من فضله إذا كتب الحسنات المتقدمة قبل الإسلام؛ فبالأَولى أن يتفضَّل على عبده المسلم بما شاء من غير حساب، وإنما أسقط المؤلف هذه الزيادة؛ لأنَّ القاعدة: أنَّ الكافر لا يُثاب على طاعته في شركه، وردَّه النووي بأن الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم الإجماع: أن الكافر إذا فعل أفعالًا جميلة على جهة القربى؛ كصدقة، وصلة رحم، وإعتاق، ثم أسلم ومات على الإسلام؛ أنَّ ثواب ذلك يُكتب له، والحديث الآتي يدل عليه، فدعوى أنه مخالف للقواعد غير مسلَّمة.
وأما قول الفقهاء: لا تصح عبادةٌ من كافر، ولو أسلم؛ لم يعتدَّ بها؛ فمرادهم: لا يعتد بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرُّض لثواب الآخرة، فإن أقدم قائل: بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة؛ فهو مجازف، فيرَدُّ قوله بهذه السنة الصحيحة.
(والسيئةُ) بالرفع مبتدأ خبره (بمثلها) أي: لا يُزاد عليها (إلَّا أن يتجاوز الله) سبحانه (عنها)؛ أي: عن السيئة فيعفو عنها، وفيه دليل ظاهر لأهل السنة: أنَّ العبد تحت المشيئة إن شاء الله تجاوز عنه وإن شاء أخذه، وهو يردُّ قول القائل: إن ذنوب أهل البيت مغفورة لهم بدون توبة، وفيه ردٌّ على المعتزلة القائلين: أن مرتكب الكبيرة في النار، وقال ابن حجر: أول الحديث يردُّ على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان؛ لأنَّ الحُسن تتفاوت درجاته.
قلت: هذا كلام ساقط؛ لأنَّ الحُسن من أوصاف الإيمان، ولا يلزم من قابلية الوصف الزيادة والنقصان قابلية الذات إياهما؛ لأنَّ الذات من حيث هو هو لا يقبل ذلك؛ كما عرف في موضعه، أفاده الشيخ الإمام بدر الدين العيني قُدِّس سرُّه، قلت: وقدمنا ما يتعلق بذلك أول الكتاب؛ فيراجع.
==========
%ص 25%
==================
(1/85)
[حديث: إذا أحسن أحدكم إسلامه]
42# وبه قال: (حدثنا) بالجمع، وفي رواية: (حدثني) (إسحاق بن منصور) بن أبي بَهرام؛ بفتح الموحدة على المشهور، أبو يعقوب الكَوسج، من أهل مرو، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (عبد الرزاق) بن همَّام بن نافع اليماني الصنعاني، المتوفى سنة إحدى عشرة ومئتين، وكان شيعيًّا (قال: أخبرنا مَعْمَر)؛ بميمين مفتوحتين: ابن راشد، أبو عروة البصري، وتقدم، (عن همَّام)؛ بتشديد الميم، وفي رواية: (عن همَّام بن مُنَبِّه)؛ بضم الميم، وفتح النون، وتشديد [1] الموحدة، بن كامل أبي عقبة اليماني الذماري الأبناوي [2]، التابعي، المتوفى بصنعاء سنة إحدى عشرة ومئة، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحسن أحدكم إسلامه) باعتقاده، وإخلاصه، وبدخوله فيه بالباطن والظاهر، وفي رواية: (إذا أحسن إسلام أحدكم)، والخطاب فيه بحسب اللفظ، وإن كان للحاضرين من الصحابة؛ لكن الحكم عام؛ لما علم أن حكمه عليه السلام على الواحد حكم على الجماعة إلَّا بدليل منفصل، وكذا حكم تناوله النساء، وكذا فيما إذا قال: إذا أسلم المرء أو العبد؛ فإن المراد منه: الرجال والنساء جميعًا بالاتفاق، بقي كيفية التناول أهي حقيقة شرعية أم عرفية أو مجاز أو غير ذلك؟ أفاده في «عمدة القاري»، قلت: والظاهر الأول، والله أعلم.
(فكلُّ) الفاء في جواب (إذا) (حسنة يعملها) مبتدأ، خبره قوله: (تُكتب له بعشر أمثالها) حال كونها منتهية (إلى سبع مئة ضِعف)؛ بكسر الضاد المعجمة؛ أي: مثل، وأتى هنا بـ (كل)، وفي الحديث السابق بـ (أل)، ولا فرق بينهما في المعنى؛ لأنَّ (أل) هناك للاستغراق، و (كل) أيضًا للاستغراق.
(وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها) زاد مسلم: (حتى يلقى الله)، ولا فرق في إطلاق الحسنة والسيئة بالحديث السابق، والتقييد هنا بقوله: (يعملها)؛ لأنَّ المطلق محمول على المقيد، وزاد هنا لفظ (تُكتب)، وأسقطها في الحديث السابق، فهي مقدرة؛ لأنَّ الجارَّ لا بُدَّ له مِن متعلق؛ وهو (تُكتب) أو نحوها، والباء في (بمثلها) للمقابلة، أفاده في «عمدة القاري».
==================
[1] في الأصل: (وسكون)، وليس بصحيح.
(1/86)
(32) [بابٌ أحب الدين إلى الله أدومه]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (أحبُّ الدين إلى الله) زاد في رواية: (عز وجل) (أدومُه) خبر عن (أحبُّ)، ومحبة الله للدين: إيصال الثواب عليه، و (أحب) و (أدوم) كل منهما (أَفعل) تفضيل من الدوام؛ وهو شمول الأزمنة؛ أي: التأبيد، والمراد: الدوام العرفي؛ وذلك قابل للكثرة والقلة.
==================
(1/87)
[حديث: مه، عليكم بما تطيقون فوالله لا يملُّ الله حتى تملوا]
43# وبه قال: ([حدثنا] محمد بن المثنَّى)؛ بالمثلثة والنون المفتوحة المشددة: أبو موسى البصري المعروف بالزَّمِن؛ مرَّ، (قال: حدثنا يحيى)؛ هو ابن سعيد القطان الأحول؛ كما مرَّ، (عن هشام) هو ابن عروة (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير بن العوَّام؛ وقد مرَّ، (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم دخل عليها): جملة محلها الرفع خبر (أنَّ)، (و) الحال (عندها امرأة، فقال) بالفاء وفي رواية: بحذفها، فيكون جملة اسمية استئنافية؛ أعني: جواب سؤال مقدر، كأنه يقول: ماذا قال حين دخل؟ قالت: قال: (مَن هذه؟) مبتدأ وخبر؛ أي: المرأة (قالت) أي: عائشة: هي (فلانةُ) خبر لمبتدأ محذوف، غير منصرف للعلمية والتأنيث؛ لأنَّه كناية عن كل علم مؤنث [1]؛ وهي الحولاء _بالحاء المهملة والمد_ بنت تويت؛ بمثناتين مصغرًا، من بني أسد، وكانت صالحة عابدة مهاجرة رضي الله عنها.
(تَذكر)؛ بفتح المثناة الفوقية؛ أي: عائشة، وفي رواية: بالمثناة التحتية المضمومة، مبنيٌّ لما لم يُسمَّ فاعله، وقوله: (من صلاتها) في محل رفع مفعول نائب عن الفاعل، والمعنى: يذكرون أن صلاتها كثيرة، وفي رواية زيادة: (لا تنام بالليل)، وعلى الأول: هي محلها النصب على المفعولية، ولعل عائشة أَمِنت عليها الفتنة فمدحتها في وجهها، لكن في «مسند الحسن بن سفيان»: كانت عندي امرأة، فلما قامت؛ قال عليه السلام: «من هذه يا عائشة؟» قالت: يا رسول الله؛ هذه فلانة، وهي أعبد أهل المدينة، فظاهر هذه الرواية أنَّ مدحها كان في غيبتها بعد أن خرجت
%ص 25%
المرأة.
(قال) عليه السلام: (مَهْ)؛ بفتح الميم وسكون الهاء؛ اسم للزجر؛ بمعنى: (اكفف)، فإنْ وصلتَ [2]؛ نَوَّنتَه كان نكرة، وإذا حُذف؛ كان معرفة.
فنهاها عليه السلام عن مدح المرأة بما ذكرته أو عن تكلف عمل ما لا يطاق.
وعند مالك: وفيه: (فقيل له: هذه الحولاء لا تنام الليل، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرفتِ الكراهة في وجهه)، فهذا يدل للاحتمال الثاني.
ولذا قال: (عليكم) من العمل (بما) بموحدة، وفي رواية بدونها (تطيقون)؛ أي: بالذي تطيقون المداومة عليه، وحذف العائد للعلم به، ويفهم منه النهي عن تكليف ما لا يطاق، وسبب وروده خاص بالصلاة، لكن اللفظ عام فيشمل جميع الأعمال، وعدل عن خطاب النساء إلى خطاب الرجال؛ طلبًا لتعميم الحكم، فغلَّب الذكور على الإناث في الذِّكْر، أفاده في «عمدة القاري»، (فوالله لا يمَل الله) من الملالة؛ وهي السآمة والضجر (حتى) أنْ (تَمَلُّوا)؛ بفتح الميم في الموضعين؛ وهو من باب المشاكلة والازدواج؛ وهو أن يكون إحدى اللفظين موافقة للأخرى وإن خالفت معناها، والملال: ترك الشيء استثقالًا وكراهية له بعد حرص ومحبة فيه، وهذا من صفات المخلوق لا الخالق عز وجل، فيحتاج إلى التأويل، فقال المحققون: هو على سبيل المجاز؛ لأنَّه تعالى لمَّا كان يقطع ثوابه عمن قطع العمل مَلالًا؛ عبَّر عن ذلك بالمَلال من باب تسمية الشيء باسم سببه، أو معناه: لا يقطع عنكم فضله حتى تمَلُّوا سؤاله.
(وكان أحبَّ الدين)؛ أي: الطاعة، ومنه الحديث في صفة الخوارج: «يمرقون من الدين»؛ أي: من طاعة الأئمة، ويجوز أن يكون فيه حذفًا؛ تقديره: أحب الأعمال الدين (إليه)؛ أي: إلى النبي الأعظم عليه السلام، وفي رواية: (إلى الله)، وليس بين الروايتين تخالف؛ لأنَّ ما كان أحب إلى الله؛ كان أحب إلى رسوله، وفي رواية: (وكان أحبُّ) بالرفع اسم (كان)، (ما داوم) من المداومة؛ وهي المحافظة؛ أي: حافظ وواظب (عليه صاحبه) وإن قَلَّ، فبالمداومة على القليل تستمر الطاعة، بخلاف الكثير الشاق، وربما يزيد القليل الدائم على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة، والمجرور محله نصب خبر (كان)، و (صاحبه) مرفوع بـ (داوم)، وكلمة (ما) للمدة، والتقدير: مدة دوام صاحبه عليه، وفي الحديث دلالة على استعمال المجاز؛ وهو إطلاق المَلل عليه تعالى، وجواز الحلف من غير استحلاف، وأنه لا كراهة فيه وهو مذهب الإمام الأعظم، وقال الشافعي: يكره، وفيه بيان شفقته عليه السلام ورأفته بأمته، وفيه دليل على أن صلاة الليل كلِّه مكروهة، ونفاها مالك ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح، والله تعالى أعلم.
==================
[1] (كل علم مؤنث): ضرب عليها في الأصل.
(1/88)
(33) [باب زيادة الإيمان ونقصانه]
(بابُ زيادةِ الإيمان ونقصانه) بإضافة (باب) لتاليه قطعًا، (وقولِ الله تعالى) بالجرِّ عطفًا على ما قبله، وفي رواية: (عز وجل): ({وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]) هو الدلالة الموصلة إلى البغية، أو الدلالة مطلقًا؛ لقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى: 52]؛ أي: لتدل، والمعنى: زدناهم دلالة على ما أنزلناه من امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقوله: ({وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا} [المدثر: 31]) قال البيضاوي: بالإيمان به، انتهى، فيكون المراد بالازدياد: الازدياد بحسب الكمية لازدياد متعلَّقه، فإنَّ الإيمان قد كان يزداد به يومًا فيومًا في زمان الوحي بحسب ازدياد ما يجب الإيمان به؛ فإنَّ مَن آمن بجميع ما جاء من عند الله قبل نزول ما يدل على عدد الزبانية إذا نزل عليهم قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] فآمنوا به أيضًا؛ فلا شك أنه يزداد إيمانهم بحسب الكمية لازدياد متعلقه؛ كذا قرره شيخ زاده.
(وقال) بلفظ الماضي، ولم يقل: (وقوله) موافقة لأخويه؛ لبيان غرضه: ({اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3])؛ أي: أكملت لكم شرائع دينكم؛ لأنَّها نزلت يوم كملت الفرائض، والسنن، واستقرار الدين، ولم يقل أحد: إن الدين كان ناقصًا إلى وقت نزول هذه الآية حتى أكمله في هذا اليوم، وإنما المراد: إكمال شرائع الدين في هذا اليوم؛ لأنَّ الشرائع نزلت شيئًا فشيئًا طول مدة النبوة، فلما كملت الشرائع؛ قبض الله نبيه عليه السلام، وليس المراد: التوحيد؛ لوجوده قبل نزول الآية، فإنِ ادَّعى أحدٌ أن الأعمال من الإيمان؛ فليس يتصور؛ لأنَّه يلزم أن يكون كمال الإيمان في هذا اليوم، وقبله كان ناقصًا؛ لأنَّ الشرائع التي هي الأعمال ما كملت إلا في هذا اليوم؛ كذا في «عمدة القاري».
وقال الفاضل الزمخشري: أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام، والتوقيف على الشرائع، وقوانين القياس، وأصول الاجتهاد، انتهى، ومثله ذكر البيضاوي.
فإن قلت: إذا كان تفسير الآية ما ذكر، فما وجه استدلال المؤلف بها على زيادة الإيمان ونقصانه؟ أجيب: بأن الكمال مستلزم للنقص وهو يستدعي قبوله الزيادة.
ومن ثَم قال: (فإذا ترك) وفي رواية: (فإذا تركت) (شيئًا من الكمال؛ فهو نقص)، فيلزم من هذا أن يكون إيمان من مات من الصحابة قبل نزول الفرائض أو بعضها ناقصًا، ولا قائل به؛ لأنَّ الإيمان لم يزل تامًّا، وأجاب القسطلاني: بأنَّ النقص بالنسبة إلى الذين ماتوا قبل نزول الفرائض من الصحابة صوريٌّ نسبيٌّ، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى، فالأكمليَّة أمر نسبيٌّ، انتهى.
قلت: لا نسلِّم أنَّ إيمانهم ناقص؛ لأنَّ من مات قبل نزول الفرائض على صحبته؛ فهو كامل الإيمان؛ لأنَّ الواجب عليه الإيمان بالله وبرسوله وما جاء به إجمالًا، وقد حصل منه ذلك، فلا يكون إيمانه ناقصًا؛ بل هو تامٌّ، كمن مات بعد نزول الفرائض على صحبته، وقوله: (صوريٌّ نسبيٌّ)؛ أي: بحسب الصورة والنسبة، ولا شكَّ أنَّ من نسب إلى النقص؛ فهو ناقص لا محالة، فإن قيل: مَن نسب إلى النقص لا يلزم أن يكون ناقصًا؛ قلنا: بل هو ناقص؛ إمَّا على النقص التام، أو نقص في بعض الجهات، فرجع الأمر إلى نقص إيمانهم، ولا قائل به، فتحصَّل من هذا: أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن مَن مات قبل نزول الفرائض من الصحابة؛ فهو كامل الإيمان، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 26%
==================
(1/89)
[حديث: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله]
44# وبه قال: (حدثنا مُسلِم) بضم الميم وكسر اللام مخففًا (بن إبراهيم) أبو عمرو البصري الأزدي الفَرَاهِيدي؛ بفتح الفاء والراء، وبالهاء المكسورة، والمثناة التحتية، والدال المهملة وقيل: معجمة؛ بطن من الأزد مولاهم، القصاب أو الشحام، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين (قال: حدثنا هِشام)؛ بكسر الهاء: ابن أبي عبد الله سندر، الرَّبَعي بفتح الراء والموحدة؛ نسبة إلى ربيعة بن نزار بن معَدِّ بن عدنان، البصري، الدَّسْتَُوائي؛ بفتح الدال وسكون السين المهملتين، بعدهما مثناة فوقية مفتوحة أو مضمومة، مهموز من غير نون، نسبة إلى كورة من كور الأهواز؛ لبيعه الثياب المجلوبة منها، المتوفى سنة أربع وخمسين ومئة، وكان يُرمى بالقدر؛ لكنه لم يكن داعية، (قال: حدثنا قتادة) هو ابن دِعامة، (عن أنس) هو ابن مالك رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: يَخرج من النار)؛ بفتح المثناة تحت: من الخروج، وفي رواية: بضم المثناة؛ من الإخراج في جميع الحديث، فقوله: (مَن قال) محلُّه رفع على الوجهين، فالرفع على الأول على الفاعلية، وعلى الثاني على النيابة عن الفاعل، و (مَن) موصولة، وما بعدَها جملة صلتها، ومقول القول: (لا إله إلا الله)؛ أي: مع قول: محمد رسول الله، فالمراد المجموع، وصار الجزء الأول منه علمًا للكل؛ كما يقال: قرأت {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}؛ أي: قرأت السورة، أو كان هذا قبل مشروعية ضمِّها إليه؛ كذا ذكر الاحتمالين الشيخ الإمام بدر الدين العيني.
قلت: الظاهر هو الاحتمال الأول، ولذا نظر القسطلاني في الاحتمال الثاني، ولم يذكر وجهه، ولعل وجهه: أن الإيمان لا يكون إلَّا بتصديق التوحيد بالله وبرسوله معًا، وأنَّ ذلك هو الذي يطلق عليه الإيمان، وقد يجاب: بأنَّ قوله: (قبل المشروعية)؛ أي: حال قيام النبوة؛ فإنَّ النبي أولًا شرع لهم التوحيد لله؛ ردًّا عليهم من عبادة الأوثان، ثم بين لهم: أنِّي نبي مرسل إليكم، على أن المصدق بالله تعالى يلزمه التصديق برسوله؛ لأنَّه جاء من عند الله، فالإيمان بها إيمان إجمالًا، وهو كافٍ؛ كما قدمناه؛ فليحفظ.
(وفي قلبه وزن شعيرة) واحدة الشعير (من خيرٍ)؛ أي: من إيمان؛ كما في الرواية الأخرى، والتنوين فيه للقليل؛ ترغيبًا في تحصيله، والمراد به: الإيمان بجميع ما جاء به الرسول عليه السلام، والجملة اسميَّةٌ حالٌ، وفيه استعارة بالكناية؛ لأنَّ الوزن إنَّما يُتصوَّر في الأجسام دون المعاني، والإيمان معنى، ولكنه شبه الإيمان بالجسم، فأضيف إليه ما هو من لوازم الجسم؛ وهو الوزن.
(ويخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله) محمد رسول الله (وفي قلبه وزن بُرَّة)؛ بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة: واحدة البُرِّ؛ وهي القمحة، (من خيرٍ، ويخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله) محمد رسول الله (وفي قلبه وزن ذَرَّة)؛ بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء المفتوحة: واحدة الذَّرِّ؛ وهو كما في «القاموس»: صغار النمل، ومئة منها زنة حبة شعير، انتهى.
وقيل: إنَّ الذر: الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤوس الإبر، وعن ابن عباس: إذا وضعت كفَّك على التراب ثم نفضتها، فما سقط من التراب؛ فهو ذرة.
%ص 26%
وإنما قدَّم الشعيرة على البُرَّة؛ لأنَّها أكبر جرمًا منها، وأخَّر الذرة؛ لصغرها، فهو من باب الترقِّي في الحكم وإنْ كان من باب التنزُّل في الصورة.
وقوله: (من خير) المراد به: الثمرات، وكذا في روايةِ: (من إيمان)؛ أي: أنَّ ثمرات الإيمان لا نزاع في أنَّها تزيد وتنقص، والمراد بالثمرات: مراتب العلوم الحاصلة المستلزمة للتصديق لكلِّ واحد من جزئيات الشرع، وأمَّا حقيقة التصديق؛ فشيء واحد لا يقبل الزيادة ولا النقصان.
قال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: إن كان المراد من الإيمان: التصديق؛ فلا يقبل الزيادة والنقصان، وإن كان الطاعات؛ فيقبلهما، والأصل هو التصديق والقول بلا إله إلا الله؛ لإجراء الأحكام في الدنيا، والناس إنَّما يتفاضلون في التصديق التفصيلي، لا في مطلق التصديق، وقوله تعالى: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] حكاية عن إبراهيم، وكيف يمكن أن يقال في حقه: زاد تصديقه بالمعاينة؟ لأنَّ القول بهذا يستلزم القول بنقصان تصديقه قبل ذلك؛ وذا لا يجوز في حقه عليه السلام، وإنما مراده من هذا: أن يضم إلى علمه الضروري العلمَ الاستدلالي؛ ليزيد سكونًا؛ لأنَّ تضافر [1] الأدلة أسكن للقلب؛ فليحفظ.
ويستفاد من الحديث: أنَّ صاحب الكبيرة من الموحِّدِين لا يَكفر بفعلها ولا يخلد بالنار، وفيه دخول عصاة الموحِّدين النار وأنَّ مآلهم إلى الجنة، وأنَّه لا يكفي في الإيمان معرفة القلب دون الكلمة ولا الكلمة من غير اعتقاد، والله تعالى أعلم.
اللهم إنِّي أسألك بنبينا محمد عليه السلام وبقدوتنا الإمام الأعظم؛ أن ترزقني علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبَّلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، ودخول الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله وصحبه.
(قال أبو عبد الله) يعني: المؤلِّف، وفي رواية: بإسقاطها: (قال أَبَان)؛ بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة: ابن يزيد العطار البصري، ووزنه: (فَعَال) كـ (غَزَال)، منصرفٌ، والهمزة فاء الكلمة أصليةٌ، والألف زائدة، وهو المشهور وقول الأكثرين والصحيح، وقيل: إنه غير منصرف؛ لأنَّه على وزن (أَفْعَل) منقول من (أبان يبين)، ولو لم يكن منقولًا؛ لوجب أن يقال فيه: (أَبْيَن) بالتصحيح، وهو قول ابن مالك؛ فافهم.
(حدثنا قتادة) هو ابن دِعامة قال: (حدثنا أنس) هو ابن مالك، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: «من إيمان» مكان «خير») وفي رواية: (من خير)، وهذا من تعليقات المؤلِّف، وقد وصله الحاكم، وإنما ذكره المؤلِّف؛ للتنبيه على تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس؛ لأنَّ قتادة مدلس لا يحتج بعنعنته إلَّا إذا ثبت سماعه للذي عنعن عنه، وعلى تفسير المتن بقوله: (من إيمان) بدل قوله: (من خير).
==========
[1] في الأصل: (تظاهر)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/90)
[حديث: أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم]
45# وبه قال: (حدثنا الحسن بن الصَّبَّاح)؛ بتشديد الموحدة: ابن محمد، وللأصيلي: (البزار) بالزاي بعدها راء، الواسطي، المتوفى ببغداد سنة ستين ومئتين: أنه (سمع جعفر بن عون) بن أبي جعفر المخزومي، المتوفى بالكوفة سنة سبع ومئتين قال: (حدثنا أبو العُميْس)؛ بضم العين المهملة، وسكون المثناة التحتية، آخره سين مهملة، الهذلي المسعودي الكوفي، المتوفى سنة خمسين [1] ومئة (قال: أخبرنا قيس بن مُسلِم)؛ بضم الميم وكسر اللام مخفَّفًا، الكوفي العابد، المتوفى سنة عشرين ومئة، (عن طارق بن شهاب)؛ أي: ابن عبد شمس الصحابي، المتوفى سنة ثلاث وثمانين [2]، (عن عمر بن الخطاب) رضي الله عنه: (أنَّ رجلًا من اليهود)؛ هو كعب الأحبار قبل أن يُسلم، كما قاله الطبراني، واليهودُ: علم [على] قوم موسى؛ من (هادوا)؛ أي: مالوا، أو من (هاد)؛ إذا رجع؛ لأنَّهم يتهودون؛ أي: يتحركون عند قراءة التوراة وغير ذلك، كما بسطه في «عمدة القاري».
(قال له) أي: لعمر: (يا أمير المؤمنين) فيه دلالة على أن ذلك كان بعد موت الصديق الأكبر؛ (آيةٌ) مبتدأٌ، وساغ مع كونه نكرة؛ لتخصصه بالصفة؛ وهي (في كتابكم) القرآن (تقرؤونها) جملة محلها رفع صفةٍ أخرى، والخبرُ قولُه: (لو علينا معشر اليهود نزلت)؛ أي: لو نزلت علينا؛ لأنَّ (لو) لا تدخل إلا على الفعل، فحذف الفعل؛ لدلالة الفعل المذكور عليه، كذا قاله الشرَّاح، ويمكن أن يجعل الجارُّ والمجرور متعلقًا بالفعل المذكور، وتكون (لو) فقط كأنها داخلة عليه، ويتوفر عليها صفتها من اختصاصها بالفعل، والظاهر الاقتصار عليه، قاله الشيخ إسماعيل العجلوني؛ فتأمل، و (معشر) منصوب على الاختصاص، أو أعني معشر اليهود، والمعشر: الجماعة الذين شأنهم واحد، ويجمع على معاشر؛ (لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا) أصله: (عودًا) من العود، سُمي به؛ لأنَّه في كل عام يعود، والمعنى: نعظِّمه في كل سنة ونُسَرُّ فيه؛ لعظم ما حصل فيه من كمال الشريعة المطهرة، (قال) أي: عمر: (أي آية) هي؟ فالخبر محذوف (قال) أي: كعب: ({اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}) قال البيضاوي: بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، ({وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}) بالهداية والتوفيق، أو بفتح مكة وهدم منارات الجاهلية، ({وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ})؛ أي: اخترته لكم ({دِيناً} [المائدة: 3]) من بين الأديان؛ وهو الدين عند الله تعالى.
(قال) وفي رواية: (فقال) (عمر) رضي الله عنه: (قد عرفنا ذلك اليوم والمكان) وكان ذلك في حجة الوداع، وعاش بعدها عليه السلام ثلاثة أشهر، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه (الذي نزلت) وفي رواية: (أنزلت) (فيه على النبي) الأعظم، وفي رواية: (على رسول الله) (صلى الله عليه وسلم، وهو قائم)؛ أي: والحال أنَّه قائم (بعرفةَ) الباء: ظرفية، غير منصرف؛ للعلميَّة والتأنيث، والباء متعلقة بـ (قائم) أو بـ (نزلت) (يومَ جمعةٍ) وفي رواية: (يومَ الجمعة)، وإنَّما لم تمنع من الصرف؛ لأنَّها صفة أو غير صفة وليست علمًا، ولو كانت علمًا؛ لامتنع صرفها؛ وهي بفتح الميم، وضمها، وإسكانها، فالساكن بمعنى المفعول، والمتحرك بمعنى الفاعل، وهذه قاعدة كلية، والمعنى: إما جامع للناس أو مجموع له، وإنما لم يقل عمر: جعلناه عيدًا؛ ليطابق جوابه السؤال؛ لأنَّه جاء في «الصحيح»: أن النزول كان بعد العصر، ولا يتحقق العيد إلَّا من أول النهار، ولهذا قال الفقهاء: إن رؤية الهلال بالنهار لليلة المستقبَلة، ولا شك أن اليوم التالي ليوم عرفة عيد للمسلمين، فكأنه قال: جعلناه عيدًا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتعبد فيه.
ويظهر من هذه الرواية ورواية إسحاق ولفظه: (يوم جمعة يوم عرفة)، وللطبراني: (وهما لنا عيد): أنَّ الجواب تضمَّن أنَّهم اتخذوا ذلك اليوم عيدًا؛ وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدًا؛ لأنَّه ليلة العيد، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني رحمه [الله] تعالى.
==========
[1] في الأصل: (عشرين)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
[2] في الأصل: (ثلاث وعشرين ومئة)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
%ص 27%
==================
[1] في الأصل: (عشرين)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
[1] في الأصل: (عشرين)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
(1/91)
(34) [باب الزكاة من الإسلام]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (الزكاة من الإسلام)؛ أي: من شعبه؛ مبتدأ وخبر، ويجوز بالإضافة إلى الجملة بعده، (وقولُِه) بالرفع والجر، وللأصيلي: (عز وجل) ولابن عساكر: (سبحانه): ({وَمَا أُمِرُوا})؛ أي: وما أُمِر أهل الكتاب في التوراة والإنجيل ({إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ})؛ أي: ليوحِّدوه، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيدخل فيه جميع الناس ({مُخْلِصِينَ}) حال من ضمير (يعبدوا) ({لَهُ الدِّينَ}) منصوب به، والإخلاص: ما صفا عن الكدر وخلص من الشوائب، والرياء: آفة عظيمة تقلب الطاعة معصية، فالإخلاص رأس جميع العبادات، ({حُنَفَاءَ}) حال ثانية؛ جمع حنيف؛ وهو المائل عن الضلال إلى الهدى، ({وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ}) عطف خاص على عام؛ أي: يؤدوها على وجهها ({وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ})؛ أي: يعطوها إلى مصارفها، ولكنهم خالفوا حكمه، فقال بعضهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} [التوبة: 30]، وقال بعضهم: عيسى ابن الله، وقال بعضهم: عيسى هو الله، وقال بعضهم: {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، وعامَّة اليهود مشبِّهة، انتهى؛ فليحفظ، ({وَذَلِكَ})؛ المذكور من هذه الأشياء هو ({دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: 5])؛ أي: دين الملة القيمة؛ أي: المستقيمة التي لا اعوجاج فيها.
==========
%ص 27%
==================
(1/92)
[حديث: خمس صلوات في اليوم والليلة]
46# وبه قال: (حدثنا إسماعيل) بن أبي أويس الأصبحي المدني، ابن أخت مالك الإمام، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين (قال: حدثني) بالإفراد، وللأصيلي: (حدثنا) (مالك بن أنس) الإمام، وسقط في روايةٍ قوله: (بن أنس)، (عن عمه أبي سُهيل)؛ بضم السين نافع (بن مالك) بن أبي عامر المدني، (عن أبيه) مالك بن أبي عامر، المتوفى سنة اثنتي عشرة ومئة: (أنه سمع طلحة بن عبيد الله) بن عثمان القرشي التيمي، أحد العشرة المبشرة بالجنة، المقتول يوم الجمل لعشرٍ خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة بعد أن استُخرج طريًّا كما مات من قنطرة القرة بأمر ابنته بعد ثلاثين سنة؛ بسبب رؤيتها له في المنام، وأنه يشكو إليها النداوة رضي الله عنه (يقول: جاء رجل) هو ضِمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نَجْد)؛ بفتح النون وسكون الجيم، قال الجوهري: نجد من بلاد العرب، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق؛ فهو نجد، وهو مذكَّر، كذا في «عمدة القاري» وتمامه فيه، وفي رواية: (جاء رجل من أهل نجد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) (ثائر) بالمثلثة؛ أي: منتفش ومنتشر شعر (الرأس) من عدم الرفاهية، أطلق اسم الرأس على الشعر؛ لأنَّ الشعر منه ينبت، كما يطلق اسم السماء على المطر؛ لأنَّه من السماء ينزل، أو لأنَّه جعل نفس الأمر ذا ثوران على طريق المبالغة، وفي (ثائر) يجوز الرفع والنصب، أما الرفع؛ فعلى أنه صفة لـ (رجل)، والنصب على أنه حال، ولا يضر إضافته؛ لأنَّها لفظية؛ فليحفظ.
(نسمع) بنون الجمع (دَوِيَّ صوتِه)؛ بفتح الدال، وكسر الواو، وتشديد الياء، منصوبٌ مفعولًا به (ولا نفقه)؛ أي: لا نفهم، بنون الجمع كذلك (ما يقول)؛ أي: الذي يقوله، في محل نصب على المفعولية، وفي رواية: (يُسمَع ولا يُفقَه)؛ بضم المثناة التحتية فيهما؛ مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله، و (دوي) و (ما يقول) نائبان
%ص 27%
عنه، والأولى هي المشهورة وعليها الاعتماد، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وقال: الدَّوِيُّ: بُعْدُ الصوت في الهواء وعلوه، ومعناه: صوت شديد لا يفهم منه شيء كدَوِيِّ النحل، انتهى.
(حتى دنا) أي: إلى أن قرُب فهمناه؛ (فإذا) للمفاجأة (هو) مبتدأ (يسأل عن الإسلام) خبره؛ أي: عن أركانه وشرائعه بعد التوحيد والتصديق، أو عن حقيقته؛ واستبعده في «عمدة القاري»؛ من حيث إنَّ الجواب يكون غير مطابق للسؤال وهو قوله: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): هو (خمسُ صلوات في اليوم والليلة)، أو خذْ خمسَ صلوات، ويجوز الجرُّ بدلًا من (الإسلام)، وفيه حذف أيضًا؛ تقديره: إقامة خمس صلوات؛ لأنَّ عين الصلوات الخمس ليست عين الإسلام، بل إقامتها من شرائع الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة؛ لأنَّه علم أنه يعلمها، أو علم أنه إنَّما يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكرها فلم ينقلها الراوي؛ لشهرتها، وذكر هذا الأخير الكرماني، ومشى عليه القسطلاني، واستبعده الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ لأنَّه يلزم نسبة الراوي الصحابي إلى التقصير في إبلاغ كلام الرسول وقد نَدب النبيُّ الأعظم عليه السلام إلى ضبط كلامه، وحفظه، وإبلاغه مثل ما سمعه منه في حديثه المشهور، قلت: وهو وجيه؛ فليحفظ.
(فقال) الرجل المذكور، وفي رواية: (قال): (هل عليَّ غيرُها؟) بالرفع مبتدأ مؤخر، خبره (عليَّ)، (قال) عليه السلام: (لا) شيء عليك غيرها.
وفيه دليل على أن الوتر سنة؛ وهو قول الإمام أبي يوسف، والإمام محمد الشيباني، والإمام الشافعي، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: إن الوتر واجب؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى} [البقرة: 238]، و {الوُسْطَى} هي: الوتر، ولقوله عليه السلام: «اجعلوا آخر صلاتكم وترًا» رواه الشيخان، ولقوله عليه السلام: «إن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر»، وعن عبد الله بنبريدة عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوتر حق، فمن لم يوتر؛ فليس مني»، قاله ثلاثًا، وقال عليه السلام: «من نام عن وتر أو نسيه؛ فليقضه [1] إذا ذكره» رواها أبو داود وغيره، والحاكم وصححها، والأمرُ وكلمةُ (عَلَى) و (حق) للوجوب، ووجوب القضاء فرعُ وجوب الأداء.
وفي الحديث أيضًا دلالة على أن صلاة العيدين سنة؛ وهو قول الإمام أبي يوسف، والإمام محمد، والإمام الشافعي، وقال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم: إنَّها واجبة؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، والمراد بها: صلاة العيد، كما قاله المفسرون، ولقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، وقد واظب عليها النبي الأعظم عليه السلام من غير ترك؛ وهذا دليل الوجوب، بل والفرضية، ولهذا قال الإمام أبو موسى الضرير: إنَّها فرض كفاية، وهو قول الإصطخري من الشافعية، وقول حماد بن زيد من أصحاب إمامنا الأعظم أيضًا.
والجواب عن الحديث: أنه إنَّما لم يذكر الوتر للأعرابي؛ لأنَّه لم يكن واجبًا يومئذٍ بدليل أنه لم يذكر الحج؛ لأنَّه لم يُفرض، فالوتر مثلُه، فلا حجة في الحديث، وإنما لم يذكر له صلاة العيدين؛ لأنَّه كان من أهل البادية، وهي لا تجب عليهم ولا على أهل القرى، فلا حجة فيه أيضًا.
(إلا أن تطوع) استثناء متصل، وهو الأصل في الاستثناء، فيُستَدل به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم نفل؛ وجب عليه إتمامه، وبقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}، وإبطال العمل: نقض العهد، وبالاتفاق على أن حج التطوع يلزم بالشروع فيه صحيحًا كان الحج أم فاسدًا، فلا يمتاز عن غيره.
والمعنى: أي: إلَّا أن تَشرع في التطوع؛ فيصير واجبًا كما يصير واجبًا بالنذر، فإذا أفسده؛ وجب عليه قضاؤه، وقد روى أحمد في «مسنده» عن عائشة قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين، فأُهديت لنا شاة؛ فأكلنا، فدخل علينا النبي عليه السلام، فأخبرناه، فقال: «صوما يومًا مكانه»، وفي لفظ آخر: «أبدلا يومًا مكانه»، وروى الدارقطني عن أم سلمة: أنها صامت يومًا تطوعًا، فأفطرت، فأمرها النبي عليه السلام أن تقضيَ يومًا مكانه، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، ولولا الإطالة لأوردناها، وبالجملة: فالأمر بالقضاء أمرٌ للوجوب، فدل على أن الشروع ملزِم، وأن القضاء بالإفساد واجب، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه.
وقال الشافعي: لا تلزم النوافل بالشروع فيها، بل يستحب إتمامها؛ لما روى النسائي: أن النبي الأعظم عليه السلام كان أحيانًا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي «البخاري»: أنه أمر جويرية [2] بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل بظاهره على أن الشروع في النفل لا يستلزم الإتمام، فهذا النص في الصوم، والباقي بالقياس.
قلنا معشر الحنفية: لا دلالة له على ما ذكر؛ فإن حديث النسائي لا يدل على أنه عليه السلام ترك القضاء بعد الإفطار، وإفطاره كان عن عذر، وحديث جويرية إنَّما أمرها بالفطر؛ لما تحقق عنده من العذر الموجب للإفطار؛ كضعف بنيتها أو لأجل الضيافة أو غير ذلك، وأنه أمرها بالقضاء، والأمر بالقضاء مستفاد من غير هذا الحديث كالذي شاهده لنا من حمل المطلق على المقيد، وإذا وقع تعارض بين الأخبار؛ فالترجيح معنا لثلاثة أوجه؛ أحدها: إجماع الصحابة، والثاني: أن أحاديثنا مثبتة وأحاديثه نافية، والقاعدة: أن المُثبِت مقدَّم على النافي، والثالث: أنه الاحتياط في العبادة لله تعالى؛ حيث قال: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فإن إبطال العمل نقض العهد واستهزاء وسخرية، ألا ترى أن المخلوق لو أمرك بأمر وشرعت فيه ولم تتمه؛ هل يرضى منك أم يسخط؟ فإذا تممته ثم أفسدته وضيعت ماله؛ هل يفرح أم يغضب؟ هذا في المخلوق، فما بالك في الخالق جل وعلا سبحانه.
واعلم أن الواجب عندنا دون الفرض وأعلى من السنة، والفرق بينها ظاهر في كتب الفروع، وعند الشافعي: الفرض والواجب سيان إلا في الحج؛ فوافقنا فجعل فيه فرضًا وواجبًا وسنة؛ فافهم.
(قال) وفي رواية: (فقال) (رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصيام رمضان) كلام إضافي مرفوع عطفًا على قوله: (خمس صلوات)، وفي رواية: (وصوم)، (قال) الرجل: (هل عليَّ غيره؟ قال) عليه السلام: (لا)؛ أي: ليس عليك غيره (إلا أن تطوع)؛ أي: إلا إذا تطوعت؛ فيلزمك إتمامه، وإذا أفسدته؛ يلزمك قضاؤه، وما قيل: إن في استدلالنا نظر؛ لأنَّا لا نقول بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع؛ لتباينهما، وأن الاستثناء عندنا من النفي ليس للإثبات، بل مسكوت عنه؛ ممنوع؛ لما علمت من ثبوت النص في الصوم أنه يجب قضاؤه بالإفساد، وإتمامه بالشروع، والباقي بالقياس عليه، على أن الاستثناء هنا متصل لا منقطع، فإنَّ الواجب عندنا فرض أيضًا، لكن يفرق بينهما من حيث الاعتقاد والتكفير، فإنَّ الوتر واجب وهو فرض عملي لا اعتقادي ولا يكفر جاحده، وإنَّ الصبح فرض علمي اعتقادي يكفر جاحده، فصار بينهما موافقة لا مباينة، فكان الاستثناء متصلًا، كما لا يخفى.
وأما قوله: فالاستثناء من النفي مسكوت عنه؛ فمعناه هنا: أنَّه لما ذكر النبيُّ للرجل الصلاة والصوم، وكان لم يصل ولم يصم، وفي عقله أنهما ثابتان، فما سيق له لنفي ما عداهما؛ فيلزمه الصلاة والصوم، وهذا بطريق الإشارة، أو أنهما يثبتان بطريق الضرورة؛ لأنَّ وجودهما لما كانا ثابتين في عقله يلزم من نفيهما ثبوتهما ضرورة، والتقدير: لا صلاة ولا صوم غير الخمس ورمضان ثابت، فيكون كالتخصيص بالوصف، وليس له دلالة على نفي الحكم عما عداه عندنا، فلا دلالة للكلام على ثبوتهما منطوقًا ولا مفهومًا، بل بالإشارة أو بالضرورة لا بالعبارة عندنا، وتمامه في كتب الأصول؛ فليحفظ.
(قال) الراوي طلحة بن عبيد الله: (وذكر له)؛ أي: للرجل (رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزكاة)، وإنما قال ذلك الراوي؛ لأنَّه إمَّا نسي نص النبي عليه السلام أو التبس عليه، وفي رواية: (الصدقة)، والمراد بها: الزكاة، (قال) وفي رواية: (فقال)؛ أي: الرجل المذكور: (هل عليَّ غيرها؟) خبر ومبتدأ (قال) عليه السلام: (لا) ليس عليك غيرها (إلا أن تطوع)، ولم يذكر الحج، وقدمنا في الجواب: أنه لم يكن فُرِض، أو أنه علم حاله أنه لم يجب عليه الحج؛ لعدم استطاعته، (قال) الراوي: (فأدبر الرجل) الأعرابي، من الإدبار؛ أي: تولى (وهو يقول)؛ أي: والحال أنه يقول: (والله لا أزيد) في التصديق والقبول (على هذا) المذكور (ولا أنقص) منه
%ص 28%
شيئًا، وفي رواية: (والذي أكرمك إنِّي لا أزيد على ما ذكرت ولا أنقص منه شيئًا)؛ أي: قبلت كلامك قبولًا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول، أو لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص منه عند الإبلاغ؛ لأنَّه كان وافد قومه؛ ليتعلم ويعلمهم، وقيل غير ذلك.
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) حين سمعه: (أفلح)؛ أي: الرجل؛ أي: فاز (إن صدق) في كلامه، وعند مسلم: «أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق»، وإنَّما أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر مع أنه لم يذكر له المنهيات، والمندوبات، والواجبات؛ لأنَّه جاء في رواية المؤلف في (الصيام) قال: (فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام)؛ فهي داخلة في عمومه، لكن يعكر عليه قوله في آخره: (فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئًا)؛ فيقتصر على الفرائض والمنهيات، وأما النوافل؛ فيحتمل أنه كان قبل شرعها، والفلاح راجع إلى الزيادة والنقصان؛ يعني: أنه إذا لم يزد ولم ينقص؛ كان مفلحًا؛ لأنَّه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه؛ كان مفلحًا، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك أنه لا يكون مفلحًا؛ لأنَّ هذا مما يعرف بالضرورة، فإنَّه إذا أفلح بالفرض؛ ففلاحه بالمندوب مع الفرض أولى، وفي الحديث دلالة على عدم فرض صوم عاشوراء وغيره سوى رمضان، وهو بالإجماع.
واختلف في صوم يوم عاشوراء، هل كان فرضًا قبل رمضان؟ فعند إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم: أنه كان فرضًا، والأظهر عند الشافعي: أنه لم يكن فرضًا، وأن السفر من بلد إلى أخرى لأجل تعلم العلم مندوب، وأن الحلف بالله من غير استحلاف ولا ضرورة يجوز؛ لأنَّه لم ينكر عليه النبي عليه السلام، وفيه استعمال الصدق في الخبر المستقبل، واستعمال (رمضان) من غير (شهر)، وفيه دلالة على جواز الحلف بالآباء مع ورود النهي عنه، ولعله كان قبل ورود النهي، أو بأنها جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرى على لسانهم: (عَقرى حَلقى) و (تربت يمينك)، والنهي إنَّما ورد في القاصد بحقيقة الحلف؛ لما فيه من تعظيم المحلوف به، وهذا هو الراجح عند العلماء، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (فليقضيه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (جويرة)، وكذا في الموضع اللاحق.
==================
[1] في الأصل: (فليقضيه)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فليقضيه)، وليس بصحيح.
(1/93)
(35) [باب اتباع الجنائز من الإيمان]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (اتباع الجنائز من الإيمان)؛ أي: شعبة من شعبه، مبتدأ وخبر، ويجوز في (باب) الإضافة للجملة بعده، و (اتِّباع)؛ بتشديد التاء مصدر (اتبع) من باب الافتعال، و (الجنائز): جمع جَِنازة؛ بالجيم المفتوحة والمكسورة، والكسر أفصح، وقيل: بالفتح للميت، وبالكسر للنعش وعليه الميت، وقيل: عكسه، مشتقة من (جنز)؛ إذا ستر.
==========
%ص 29%
==================
(1/94)
[حديث: من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا]
47# وبه قال: (حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي المَنْجُوفي) نسبة لجدِّ أبيه مَنْجُوف؛ بفتح الميم، وسكون النون، وضم الجيم، آخره فاء، ومعناه: الموسع، وكنيته أبو بكر السدوسي البصري، المتوفى سنة اثنتين وخمسين ومئتين (قال: حدثنا رَوح)؛ بفتح الراء وبالحاء المهملتين: ابن عبادة بن العلاء البصري، المتوفى سنة خمس ومئتين (قال: حدثنا عوف)؛ بالفاء: ابن أبي جميلة بَنْدُوْيَه؛ بفتح الموحدة، وبالنون الساكنة، والدال المهملة المضمومة، وواو ساكنة، ومثناة تحتية مفتوحة، العبدي الهجري البصري، المتوفى سنة ست وأربعين ومئة، ونسب إلى التشيع، (عن الحسن) هو البصري (ومحمدٍ) بالجر عطفًا على (الحسن)، وللأصيلي: (ومحمدٌ) بالرفع، هو ابن سيرين أبو بكر الأنصاري، مولاهم البصري التابعي الجليل، المتوفى سنة عشر ومئة، بعد الحسن بمئة وعشرين يومًا؛ كلاهما (عن أبي هريرة) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اتَّبع)؛ بتشديد التاء المثناة فوق، وفي رواية: (تَبِع) بدون ألف وكسر الموحدة؛ أي: لحق، قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس: 90]؛ أي: لحقهم، وقال: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175]؛ أي: لحقه، وفي «العباب»: تَبِعت القوم بالكسر: أتبَعهم تَبَعًا وتبَاعة؛ بالفتح؛ إذا مشيت خلفهم، أو مرُّوا بك فمضَيت معهم، واتَّبعت القوم؛ مثل تبعتهم؛ إذا كانوا سبقوك فلحقتهم، انتهى.
(جنازةَ مسلم) (من) موصولة مبتدأ، و (اتبع) جملة من الفعل والفاعل، و (جنازة مسلم) كلام إضافي مفعوله، والجملة صلة الموصول، وفيه حجة ظاهرة لإمامنا الإمام الأعظم في أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، وهو مذهب الأوزاعي وقول علي بن أبي طالب، وهو حجة على الشافعية في زعمهم أن المشي أمامها أفضل من خلفها، والركوب وراء الجنازة لا بأس به، لكن المشي أفضل عندنا، وقالت الشافعية: لا فرق بين الراكب والماشي، والحديث حجة عليهم؛ لأنَّه بسياق المشي لا الركوب؛ فهو حجة لنا أيضًا، حال كون ذلك (إيمانًا واحتسابًا)؛ أي: مؤمنًا محتسبًا، لا مكافأة ولا مخافة، (وكان معه)؛ أي: مع المسلم، وفي رواية: (كان معها)؛ أي: مع الجنازة (حتى) أن (يُصلِّي عليها) على صيغة المعلوم؛ بكسر اللام، والضمير يرجع إلى (من)، وفي (عليها) إلى (الجنازة)، وفي رواية: بفتح اللام على صيغة المجهول، والجار والمجرور في (عليها) نائب عن الفاعل، و (حتى) للغاية، و (أن) الناصبة بعدها و (يصلى) (ويفرغ) منصوبان بها بالبناء للفاعل أو للمفعول، وقوله: (من دفنها) نائب عن الفاعل، وللأصيلي: (يصلِّ) بحذف الياء وكسر اللام، وخبر المبتدأ _أعني: (مَن) الموصولة_ قولُه: (فإنه يرجع من الأجر بقيراطين)، ودخلت الفاء؛ لتضمنه معنى الشرط، و (مِن) بيانية، ومجرورها حال، مثنى (قيراط)؛ اسم لمقدار من الثواب يقع على القليل والكثير، بيَّنه بقوله: (كل قيراط مثل) جبل (أُحُد) مبتدأ وخبر؛ بضمتين: بالمدينة، سمِّي به؛ لتوحُّده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، وهو في جانب المدينة من جهة الشمال على نحو ميلين منها، وفي الحديث: «أُحد يحبُّنا ونحبُّه، وهو على باب الجنة، وغيره يبغضنا ونبغضه، وهو على باب النار»، وفيه قبر هارون عليه السلام، وفيه قبض وواراه أخوه موسى عليهما السلام، وكانا قد مرَّا به حاجَّين أو معتمرَين؛ فليحفظ.
وأصل (قيراط): قرَّاط؛ بتشديد الراء، بدليل جمعه على قراريط، فأبدل من إحدى الراءين؛ كما في الدينار؛ وهو في اللغة: نصف دانق، والدانق: سدس درهم، وهو يختلف باختلاف البلدان، فأهل الشام يجعلون القيراط جزءًا من أربعة وعشرين جزءًا، وعند الفقهاء: القيراط جزء من عشرين جزءًا من الدينار، وكل قيراط ثلاث حبات، فيكون الدينار ستين حبة، وكل حبة أربع أرزات، فيكون مئتين وأربعين أرزة.
والحاصل: أن القيراط مقدار من الثواب معلوم عند الله تعالى، وهذا الحديث يدل على عظم مقداره هنا، ولا يلزم منه أن يكون هذا هو القيراط المذكور في «من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد، أو زرع، أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراط»، بل يجوز أن يكون أقل منه، بل الظاهر أن القيراط في الأجر أعظم من القيراط المذكور في نقص الأجر؛ لأنَّه من قبيل المطلوب تركه، والأول من قبيل المطلوب فعله، وعادة الشرع تعظيم الحسنات وتضعفها دون السيئات؛ كرمًا منه تعالى، ورحمة، ولطفًا، فحصول القيراطين مقيد بالصلاة، والاتباع، وحضور الدفن، فلو اتبع حتى دفنت ولم يصل عليها؛ لم يحصل القيراطان؛ جمعًا بين الروايتين، وحملًا للمطلق على المقيد، والظاهر أنه يكفي الاتباع في أكثر الطريق لا في جميعه مع ما يجده من المشقة من الازدحام، واختلاط النساء بالرجال، وصياحهن، وغيره من المنكرات، فلو تباعد عن الجنازة؛ هل يكون متبعًا أم لا؟ والظاهر أنه إن كان بحال لا تخفى الجنازة عن بصره؛ يكون متبعًا، أو إن يعدُّه العرف متبعًا؛ فيكون محصلًا لهذين القيراطين.
قال في «البحر الرائق»: (وإن كان مع الجنازة نائحة أو صائحة؛ زجرت، فإن لم تنزجر؛ فلا بأس بأن تتبع الجنازة، ولا يمتنع لأجلها؛ لأنَّ الاتباع سنة فلا يترك ببدعة من غيره، فإن النبي عليه السلام استمع بواكي حمزة رضي الله عنه؛ كما في «المجتبى»)، فأفاد بقوله: (لا بأس) أن تركه أولى، لكن لا يُترك أصلًا، بل يتبع إما أكثر الطريق، كما قلنا، أو يتباعد، كما قلنا، والله تعالى أعلم.
(ومن صلى عليها)؛ أي: على الجنازة، مبتدأ، (ثم رجع) إلى منزله أو اشتغل بعمل ينافيها (قبلَ أن تدفن) بنصب (قبل) على الظرفية، و (أن) مصدرية؛ أي: قبل الدفن؛ (فإنه يرجع) خبر المبتدأ (بقيراط) واحد من الأجر، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ثم حضر الدفن؛ لم يحصل له القيراط الثاني، وكذا لو حضر الدفن ولم يصلِّ أو اتبعها ولم يصلِّ؛ فليس في الحديث حصول القيراط له، وإنما يحصل القيراط لمن تبعها بعد الصلاة، لكن له أجر في الجملة، وعن أشهب: أنه كره اتباع الجنائز والرجوع قبل الصلاة، وإطلاق الحديث يخالفه، وفي رواية مسلم: «من صلى على جنازة ولم يتبعها؛ فله قيراط، ولو تبعها ولم يصل ولم يحضر الدفن؛ فلا شيء له»، والله أعلم.
(تابعه)؛ أي: تابع رَوحًا في الرواية عن عوف (عثمانُ) بن الهيثم بن جهم البصري (المؤذن) بمسجدها، المتوفى لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة عشرين ومئتين، وفي رواية: (قال أبو عبد الله: تابعه عثمان المؤذن) (قال: حدثنا عوف) الأعرابي (عن محمد) بن سيرين ولم يروه عن الحسن، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم نحوَه) بالنصب؛ أي: بمعنى ما سيق، لا بلفظه.
وهذه المتابعة وصلها أبو نعيم في «مستخرجه»، وإنما ذكر المؤلف رواية المنجوفي أولًا مع أنها أنزل من رواية عثمان؛ لأنَّ رواية المنجوفي موصولة وهي أشد اتفاقًا من رواية عثمان، وإنما ذكر المتابعة؛ للتنبيه بروايته على أن الاعتماد في هذا
%ص 29%
السند على محمد بن سيرين؛ لأنَّ عوفًا ربما كان ذكره، وربما كان حذفه مرة فأثبت الحسن.
==================
(1/95)
(36) [باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر]
هذا (باب خوف المؤمن من أن يحْبَط) على صيغة المعلوم، من باب (عَلِم يعْلَم)؛ وهو البطلان، وقال النووي: المراد بالحبط: نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر، فإن الإنسان لا يكفر إلا بما يعتقده أو يفعل عالمًا بأنه يوجب الكفر، قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: وفيه نظر؛ لأنَّ الجمهور على أن الإنسان يكفر بكلمة الكفر وبالفعل الموجب للكفر وإن لم يعلم أنه كفر، انتهى، قلت: وهو ظاهر؛ فليحفظ.
(عمله)؛ أي: مِن حبط عمله، فـ (أن) مصدرية، و (مِن) في رواية ساقطة، و (أن) توجد، لكنها مقدرة؛ لأنَّ المعنى عليها، المراد: ثواب عمله، فالمضاف محذوف (وهو لا يشْعُر) به، جملة اسمية وقعت حالًا من باب (نَصَر ينْصُر)؛ أي: لا يعلم ولا يفطن به.
لا يقال: إن ما قاله المؤلف يقوِّي مذهب الإحباطية؛ لأنَّ مذهبهم إحباط الأعمال بالسيئات وإذهابُها جملةً، فحكموا على العاصي بحكم الكافر؛ لأنَّ مراد المؤلف: إحباط ثواب ذلك العمل فقط؛ لأنَّه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه، قاله القسطلاني.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ إحباط ثواب العمل يكون غالبًا بسبب الرياء، وقد نص أئمتنا الأعلام على أن الرياء لا يدخل في الفرائض والواجبات؛ بمعنى: أنه لا يحبط ثوابها، وإنما يحبط الثواب في النوافل والطاعات المندوبة، فإن أخلص فيها؛ يبقى ثوابه الموعود به، وإن لم يخلص؛ حبط ثوابه، والمراد: أنه ينقص عن قدره المعلوم، لا يذهب بالكلية؛ لأنَّه تعالى وعد بعدم إضاعة ثواب الأعمال، والله أعلم.
ومراد المصنف هنا: الرد على المرجئة القائلين: بأن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط المطلقين الإيمان الكامل مع وجود المعصية.
(وقال إبراهيم) بن يزيد بن شريك (التيمي)؛ تيم الرِّباب؛ بكسر الراء، الكوفي، المتوفى سنة اثنتين وتسعين شهيدًا، قتله الحجاج بن يوسف، وقيل: مات في سجنه: (ما عرضت قولي على [1] عملي إلا خشيت أن أكون مكذَّبًا)؛ بفتح الذال المعجمة؛ أي: أن يكذبني من رأى عملي مخالفًا لقولي، وإنما قال ذلك؛ لأنَّه كان يعظ الناس، وفي رواية: بكسر الذال؛ وهي رواية الأكثر؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، ومعناه: أنه لم يبلغ غاية العمل مع وعظه للناس، وقد ذم الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقصَّر في العمل، فقال: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، فخشي أن يكون مكذِّبًا؛ أي: مشابهًا لهم، وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟ [البقرة: 44].
وهذا التعليق وصله المؤلف في «تاريخه» عن أبي نعيم، وأحمد ابن حنبل في «الزهد»، عن ابن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي حيان التيمي، عن إبراهيم المذكور.
(وقال ابن أبي مُليكة)؛ بضم الميم: عبد الله_بفتح العين_ ابن عبيد الله؛ بضمها، واسم أبي مليكة: زهير القرشي التيمي، المكي، الأحول، المؤذن، القاضي لابن الزبير، المتوفى سنة سبع عشرة ومئة: (أدركت ثلاثين) صحابيًّا (من أصحاب النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) أجلَّهم السيدة عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، وعقبة بن الحارث، والمِسور بن مَخرمة (كلهم يخاف) أي: يخشى (النفاق) في الأعمال (على نفسه)؛ لأنَّ أعمارهم طالت حتى رأَوا من التغيير ما لم يعهدوه، مع عجزهم عن إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت، أو لأنَّه قد يَعرِض للمؤمن في عمله ما يشق به مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم ذلك وقوعه منهم، وإنما ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوىرضي الله عنهم (ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل) عليهما السلام؛ لأنَّهما معصومان لا يطرأ عليهما ما يطرأ على غيرهما من البشر، وقد روى الطبراني في «الأوسط» مرفوعًا من حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد ضعيف: «من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ كان مؤمنًا كإيمان جبريل عليه السلام»، ونقل هذا عن إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل أنه قال: (إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول: إيماني مثل إيمان جبريل)؛ لأنَّ المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضي ذلك، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعض الصفات، لا يقال: إن الحديث ضعيف؛ لأنا نقول: اتصافه بالضعف حين وصوله إلينا، وحين وصوله للإمام الأعظم لا شك أنه صحيح يُعتمد عليه؛ لأنَّ الضعف لا يكون إلا بعد التابعين؛ لأنَّ النبي عليه السلام قد أثبت لهم الخيرية بقوله: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»؛ وهم التابعون رضي الله عنهم أجمعين.
وما قيل: إن في هذا الأثر إشارة إلى أنهم كانوا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه؛ ممنوع؛ لأنَّه لا يفهم ذلك من حالهم، وإنما المفهوم من حالهم: أنهم كانوا خائفين سوء الخاتمة؛ لعدم العصمة، ويؤيده ما روي عن عائشة: أنها سألت النبي الأعظم عليه السلام عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، فقال: «هم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ويخافون ألَّا يُتقبل منهم»، وقول بعض السلف في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]: أعمال كانوا يحتسبونها حسنات بُدِّلت سيئات، والله أعلم.
(ويُذكَر) على صيغة المجهول، لا يقال: إن هذه الصيغة تدل على الضعف؛ لأنَّها بصيغة التمريض؛ لأنَّ عادة المؤلف أن صيغة التمريض لا تدل على الضعف، بل يأتي بها إذا وقع تغيير من حيث النقل بالمعنى أو من حيث الاختصار، على أن هذا الأثر صحيح، (عن الحسن) البصري، وقد وصله جعفر الفريابي في كتاب «صفة المنافق» له من طرق متعددة: (ما خافه)؛ أي: النفاق، وفي رواية: (عن الحسن أنه قال)، وفي أخرى: (وما خافه) (إلا مؤمن ولا أَمِنه)؛ بفتح الهمزة وكسر الميم (إلا منافق)، وجعل النووي الضمير في (خافه) و (أَمِنه) لله تعالى، وتبعه الكرماني، قلت: وهو بعيد جدًّا؛ لأنَّ سياق الحسن البصري المروي عند الفريابي؛ حيث قال: (حدثنا قتيبة: حدثنا جعفر بن سليمان، عن المعلى بن زياد: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو؛ ما مضى مؤمن قط وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن)، وهو عند أحمد بلفظ: (والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، ولا أمنه إلا منافق)؛ يعيِّنُ إرادة المؤلف الأول؛ أعني: النفاق، وإليه أشار الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وتبعه القسطلاني؛ فليحفظ.
(وما يُحذَر) على صيغة المجهول؛ بتخفيف الذال المعجمة وتشديدها؛ كذا في «عمدة القاري»، و (ما) مصدرية، والجملة محلها الجرُّ عطفًا على حذف المؤمن؛ أي: وباب ما يحذر (من الإصرار على القتال والعصيان من غير توبة)، وفي رواية: (على النفاق) بدل (القتال)، وعليها شرح الإمام البدر العيني؛ وهي المناسِبة لما قدَّمه المؤلف، وفي الأولى مناسبة للحديث الآتي، وما قاله في «الفتح» من (الرواية الثانية لم تثبت)، فقد رده القسطلاني بأنها ثبتت عن أبي ذر والسميساطي؛ كما رقم له بـ «فرع اليونينية»، وما بين الترجمتين من الأثار اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفصل بها بينهما؛ لتعلقها بالأولى فقط، وأما الحديثان الآتيان؛ فالأول للثانية، والثاني للأولى؛ فهو لف ونشر مشوش؛ أي: غير مرتب، ومراد المؤلف: الرد على المرجئة؛ حيث قال: (لقول الله تعالى) وفي رواية: (عز وجل)، وفي أخرى: (لقوله عز وجل): ({وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}) ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين؛ لقوله عليه السلام فيما رواه الترمذي من حديث الصديق الأكبر رضي الله عنه: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» ({وَهُمْ يَعْلَمُونَ}) [آل عمران: 135] حال مِن {يُصِرُّوا}؛ أي: ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به، وروى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعًا: «ويل للمصرين؛ الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون»؛ أي: يعلمون أن من تاب؛ تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره.
==========
[1] ضرب على (على) في الأصل، ولعل الصواب ثبوتها.
%ص 30%
==================
(1/96)
[حديث: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر]
48# وبه قال: (حدثنا محمد بن عرعرة)؛ بالعينين والراءين المهملات، غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث، ابن البَرِنْد؛ بكسر الموحدة والراء وبفتحهما وبسكون النون، البصري، المتوفى سنة ثلاث عشرة ومئتين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن زُبَيد)؛ بضم الزاي، وفتح الموحدة، وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة: ابن الحارث بن عبد الكريم اليامِي؛ بالمثناة تحت، وميم مخففة مكسورة، الكوفي، المتوفى سنة اثنين وعشرين ومئة (قال: سألت أبا وائل)؛ بالهمزة بعد الألف: شقيق بن سلمة الأسدي؛ أسد خزيمة، الكوفي، التابعي، المتوفى سنة تسع وتسعين أو اثنين وثمانين (عن) قول (المُرجِئة)؛ بضم الميم، وكسر الجيم، ثم همزة؛ نسبة إلى الإرجاء؛ وهو التأخير؛ لأنَّهم أخروا الأعمال عن الإيمان؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق، هل هم مصيبون فيه أم مخطئون؟ (فقال) أبو وائل في جوابه لزُبَيد: (حدثني) بالإفراد (عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه: (أن) أي: بأن (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: سِبَاب)؛ بكسر السين المهملة وتخفيف الموحدة، مصدر مضاف للمفعول؛ أي: شتم (المسلم) والتكلم في عِرضه بما يَعيبه ويؤلمه (فسوق)؛ أي: فجور وخروج عن الحق، ويَحتمل أن يكون على بابه من المفاعلة؛ أي: تشاتمهما فسوق، قلت: وهذا هو الظاهر لما في «المطالع»: (السباب: المشاتمة؛ وهي من السب؛ وهو القطع، وقال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب؛ وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه) انتهى، وهذا صريح بأن السباب ليس بمصدر؛ فافهم.
(وقتاله) أي: مقاتلته
%ص 30%
(كفر)؛ أي: فكيف يحكم بتصويب قولهم: إن مرتكب الكبيرة غير فاسق مع حكم النبي الأعظم عليه السلام على من سب المسلم بالفسق ومن قاتله بالكفر، وقد عُلِم بهذا خطؤهم ومطابقة جواب أبي وائل لسؤال زُبَيد عنهم، وليس المراد بالكفر هنا حقيقته التي هي الخروج عن الملة، وإنما أطلق عليه الكفر؛ مبالغة في التحذير، معتمدًا على ما تقرَّر في القواعد على عدم كفره بمثل ذلك، أو أطلقه عليه؛ لشبهه به؛ لأنَّ قتال المسلم من شأن الكافر، أو المراد: الكفر اللغوي؛ وهو الستر؛ لأنَّه بقتاله له ستر ما له عليه من حق الإعانة والنصرة وكف الأذى، ولا نعني بهذا إلا هذا، فقد قال أئمتنا الأعلام: لا يُفتى بتكفير مسلم مهما أمكن، ولو وُجِدَ مئة قول بتكفيره وقولٌ واحد بعدم تكفيره؛ فالمفتى به عدم التكفير؛ لأنَّ تكفير المسلم أمر صعب، وهذا في غاية الاحتياط؛ فليحفظ.
==================
(1/97)
[حديث: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر]
49# وبه قال: (أخبرنا قتيبة بن سعيد) السابق، وفي رواية: بإسقاط (ابن سعيد)، وفي أخرى: (هو ابن سعيد) قال: (حدثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المدني، وقد مر، (عن حُميد)؛ بضم الحاء المهملة: ابن أبي حُميد، واسم أبي حُميد تِيْر؛ بكسر المثناة الفوقية، وسكون المثناة التحتية، آخره راء مهملة؛ أي: السهم، الخزاعي البصري، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومئة، (عن أنس) وفي رواية: (ابن مالك)، وفي أخرى: (حدثنا أنس)، وفي أخرى: (حدثني أنس)، وبهذا يحصل الأمن من تدليس حُميد (قال: أخبرني) بالإفراد (عبادة بن الصامت) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج)؛ أي: من الحجرة، والجملة خبر (أنَّ) (يخبر) جملة مستأنفة، والأولى أن يكون حالًا مقدرة؛ لأنَّ الخبر بعد الخروج على حدِّ: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 7]؛ أي: مقدرين الخلود؛ كما حققه في «عمدة القاري»، (بليلة القدر) أي: بتعينها (فتلاحَى)؛ بفتح الحاء المهملة: من التلاحِي؛ بكسرها؛ أي: تنازع (رجلان من المسلمين)؛ هما عبد الله بن أبي حَدْرَد؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الدال المهملة، وفتح الراء، آخره دال أخرى، وكعب بن مالك؛ كان على عبد الله دين لكعب يطلبه، فتنازعا فيه ورفعا صوتيهما في المسجد (فقال) عليه السلام: (إني خرجت لأخبرَكم) بنصب الراء بـ (أن) المقدرة بعد لام التعليل، وهذا مقول القول، والضمير مفعول (أخبر) أول، وقوله: (بليلة القدر) سد مسد الثاني والثالث؛ لأنَّ التقدير: أخبركم بأن ليلة القدر هي الليلة الفلانية، (وإنه)؛ بكسر الهمزة؛ أي: الشأْن (تلاحى) تنازع (فلان) ابن أبي حدرد (وفلان) كعب بن مالك في المسجد وشهر رمضان، وزادت منازعتهما على القدر المباح في المسجد، فكانت لغوًا، وهو ليس بمحلٍّ للغو، مع ما كان في الزيادة من رفع الصوت بحضرة النبي الأعظم عليه السلام؛ فافهم.
(فرُفعت)؛ أي: رُفع بيانها أو علمها من قلبي؛ بمعنى: نسيتها، يدل عليه ما في رواية مسلم من حديث أبي سعيد: «فجاء رجلان يحتقَّان _بتشديد القاف؛ أي: يدعي كل منهما أنه محق_ معهما الشيطان، فنسيتها»، فيعلم من هذا الحديث: أن سبب الرفع: النسيان، ومن حديث الباب: التلاحي، ويَحتمل أن يكون من كل منهما، والله أعلم، (وعسى أن يكون) رفعها (خيرًا لكم)؛ لتزيدوا في الاجتهاد في طلبها، وشذَّ قوم فقالوا برفعها، وهو غلط، ويدل عليه قوله: (التمسوها)؛ أي: اطلبوها؛ لأنَّ لو كان المراد رفع وجودها؛ لم يأمرهم بالتماسها، وفي رواية: (فالتمسوها) (في) ليلة (السبع) _بتقديم السين على الموحدة_ والعشرين من رمضان، (والتسع) _بتقديم المثناة فوق على السين المهملة_ والعشرين منه، (والخمس) والعشرين منه، والتقييد بالعشرين وبرمضان استفيد من الأحاديث الأُخَر الدالة عليهما، لا يقال: كيف يأمر [1] بطلب ما رفع علمه؟ لأنَّا نقول: المراد طلب التعبد في مظانها، وربما يقع العمل مصادفًا لها؛ لا أنَّه مأمور بطلب العلم بعينها، وفيه ذم الملاحاة والخصومة، وأنها سبب العقوبة للعامة بذنب الخاصة، والحث على طلب ليلة القدر.
==========
[1] في الأصل: (يؤمر)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 31%
==================
(1/98)
(37) [بابُ سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة]
هذا (بابُ) بدون تنوين؛ لإضافته إلى قوله: (سؤالِ جبريلَ النبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان) بإضافة (سؤال) لـ (جبريل) من إضافة المصدر إلى فاعله، و (جبريل) لا ينصرف؛ للعلمية والعجمة، و (النبي) منصوب مفعول المصدر، و (عن الإيمان) متعلق بالسؤال، (و) عن (علمِ) وقت (الساعة) قُدِّر بالوقت؛ لأنَّ السؤال لم يقع عن نفس الساعة، بل عن وقتها بقرينة ذِكْر: (متى الساعة؟) (وبيانِ) بالجر عطفًا على (سؤال جبريل) (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم له)؛ أي: لجبريل أكثر المسؤول عنه؛ لأنَّه لم يبين وقت الساعة؛ لأنَّ حكم معظم الشيء حكم كله، أو أن قوله عن الساعة: «لا يعلمها إلا الله» بيانٌ له؛ كما حققه في «عمدة القاري».
(ثم قال) عليه السلام، وعطف الفعلية على الاسمية؛ لأنَّ الأسلوب يتغير بتغير المقصود؛ فإنَّ المقصود من الكلام الأول: الترجمة، ومن الثاني: كيفية الاستدلال، فلتغايرهما تغاير الأسلوبان، وفيه خلاف عند النحاة: (جاء جبريل) عليه السلام (يعلمكم دينكم، فجعل) عليه السلام (ذلك كله دينًا)، ويدخل فيه اعتقاد وجود الساعة وعدم العلم بوقتها لغير الله تعالى؛ لأنَّهما من الدين، (وما بيَّن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان)؛ أي: مع ما بيَّن للوفد أن الإيمان هو الإسلام؛ حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام، (وقوله تعالى) وفي رواية: (وقول الله تعالى)، وفي أخرى: (عز وجل): ({وَمَن يَبْتَغِ}) أي: يطلب ({غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً}) من الأديان ({فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}) [آل عمران: 85]؛ أي: مع ما دلت عليه هذه الآية أن الإسلام هو الدين؛ لأنَّه لو كان غيره لم يقبل، فاقتضى ذلك أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وهو اختيار المؤلف وجماعة من المحدثين، وهو مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وهو المنصوص عن الشافعي، وقال أحمد ابن حنبل بتغايرهما؛ وقدمنا الكلام فيه.
==========
%ص 31%
==================
(1/99)
[حديث: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله]
50# وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم) بن سهم المشهور بابن عُلَيَّة؛ بضم العين المهملة، وفتح اللام، وتشديد المثناة التحتية؛ وهي أمه (قال: أخبرنا أبو حَيَّان)؛ بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية، يحيى بن سعيد بن حيان (التيمي)؛ نسبة إلى تيم الرباب، الكوفي، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، و (حيان)؛ إما مشتق من الحياة فلا ينصرف، أو من الحين فينصرف؛ كما مر، (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير البجلي، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: كان النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم بارزًا) أي: ظاهرًا (يومًا للناس) غير محتجب عنهم، و (يومًا) نصب على الظرفية، وفي رواية أبي داود عن أبي فروة: (كان عليه السلام يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله عليه السلام أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانًا من طين يجلس عليه، وكنا نجلس بجنبيه) (فأتاه رجل)؛ أي: مَلَك في صورة رجل، وفي رواية: (جبريل)، وفي «النسائي»: عن أبي فروة: (فإنا لجلوس عنده؛ إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأنَّ ثيابه لم يمسها دنس)، وفي رواية مسلم من حديث عمر: (بينما نحن ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر _وفي رواية ابن حبان [1]: شديد سواد اللحية_ لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي عليه السلام، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه)، ولسليمان التيمي: (ليس عليه سحناء؛ أي: هيئة سفر، وليس من البلد، فتخطى حتى برك بين يدي النبي عليه السلام كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النبي عليه السلام) (فقال) بعد أن سلم: (يا محمد)، كما في «مسلم»، وإنما ناداه باسمه كما يناديه الأعراب؛ تعمية بحاله، أو لأنَّ له حالة المعلم، وللمؤلف في (التفسير): (فقال: يا رسول الله)؛ (ما الإيمان؟)؛ أي: ما متعلقاته؟ وقد وقع السؤال بـ (ما) ولا يُسأل بها إلَّا عن الماهية، (قال) عليه السلام: (الإيمان) كرره؛ للاعتناء بشأنه (أن تؤمن بالله)؛ أي: تصدق بوجوده وبصفاته الواجبة له تعالى والمستحيلة عليه تعالى، والظاهر أنه عليه السلام علم أنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن حقيقته، وإلَّا فكان الجواب: الإيمان التصديق، وإنما فسر الإيمان بذلك؛ لأنَّ المراد من المحدود: الإيمان الشرعي، ومن الحد: اللغوي، حتى لا يلزم تفسير الشيء بنفسه.
فإن قلت: لو كان حدًّا؛ لم يقل جبريل في جوابه: (صدقت)؛ كما في «مسلم»؛ لأنَّ الحد لا يقبل التصديق، أجيب: بأن قوله: (صدقت) تسليم، والحد يقبل التسليم ولا يقبل المنع؛ لأنَّ المنع طلب الدليل، والدليل إنَّما يتوجه للخبر، والحد تفسير لا خبر، وتمامه في «القسطلاني».
(وملائكته) جمع ملك، وأصله: ملائك (مفعل) من الألوكة؛ بمعنى: الرسالة، زيدت فيه التاء؛ لتأكيد معنى الجمع أو لتأنيث الجمع، وهم أجسام علوية نورانية مشكَّلة بما شاءت من الأشكال، والإيمان بهم: هو التصديق بوجودهم تفصيلًا فيما عُلم تعيينه كجبريل، أو إجمالًا فيما لم يعلم؛ كالأنبياء عليهم السلام، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]؛ أي: وأن تؤمن بملائكته، (و) أن تؤمن (بلقائه)؛ أي: برؤيته تعالى في الآخرة، قاله الخطابي، واعترضه
%ص 31%
النووي: بأن أحدًا لا يقطع لنفسه بها إنَّما هي مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بم يختم له، وأجاب الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأن المراد أنها حق في نفس الأمر، أو المراد: الانتقال من دار الدنيا، انتهى.
(و) أن تؤمن (برسله) عليهم السلام، وفي رواية: (ورسله) بإسقاط الموحدة؛ أي: التصديق بأنهم صادقون فيما أَخبروا به عن الله تعالى، وتأخيرهم في الذكر؛ لتأخير إيجادهم لا لأفضلية الملائكة، وفي رواية زيادة: (وكتبه)؛ أي: تصدق بأنها كلام الله، وأنَّ ما اشتملت عليه حقٌّ، (و) أن (تؤمن)؛ أي: تصدق (بالبعث) من القبور وما بعده؛ كالصراط، والميزان، والجنة، والنار، أو المراد بعثة الأنبياء، قال في «عمدة القاري»: والأول أظهر، وقيل: إن قوله: (بلقائه) مكرر؛ لأنَّها داخلة في الإيمان بالبعث، وتغاير تفسيرهما يحقق أنَّها ليست مكررة، وإنما أعاد (تؤمن)؛ لأنَّه إيمان بما سيوجد، وما سبق إيمان بالموجود في الحال؛ فهما نوعان.
ثم (قال) أي: جبريل: يا رسول الله؛ (ما الإسلام؟ قال) عليه السلام: (الإسلام) أعاده تفخيمًا لأمره: (أن تعبدَ الله)؛ أي: تطيعه فيما أمر ونهى، أو تنطق بالشهادتين، قلت: والأول أظهر، (ولا تشركَ به)؛ بالفتح، وفي رواية: بالضم، زاد الأصيلي: (شيئًا)، (و) أن (تقيم) أي: تديم أداء (الصلاة) المكتوبة؛ كما صرح به مسلم، أو تأتي بها على ما ينبغي، وهو وتاليه من عطف الخاص على العام، (و) أن (تؤدي) أي: تعطي (الزكاة المفروضة) قيَّد بها؛ احترازًا من صدقة النافلة؛ فإنَّها زكاة لغوية، أو من المعجَّلة، أو لأنَّ العرب كانت تدفع المال للسخاء والجود، فنبَّه بالفرض على رفض ما كانوا عليه، قال الزركشي: والظاهر أنها للتأكيد، (و) أن (تصوم رمضان) ولم يذكر الحج، إما ذهولًا أو نسيانًا من الراوي، ويدل له مجيئه في رواية كهمس: (وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا)، وقيل: لأنَّه لم يكن فرض، ورُدَّ بأن في رواية ابن منده بسندٍ على شرط مسلم: أن الرجل جاء في آخر عمره عليه السلام، ولم يذكر الصوم في رواية عطاء الخراساني، واقتصر في حديث أبي عامر على الصلاة والزكاة، ولم يزد في حديث ابن عباس على الشهادتين، وزاد سليمان التيمي بعد ذكر الجميع: الحج، والاعتمار، والاغتسال من الجنابة، وإتمام الوضوء، وقد حصل هنا الفرق بين الإسلام والإيمان، فجعل الإسلام عمل الجوارح، والإيمان عمل القلب.
فالإيمان لغة: التصديق مطلقًا، وفي الشرع: التصديق والنطق معًا، فأحدهما ليس بإيمان، أما التصديق؛ فإنه لا ينجي وحده من النار، وأما النطق؛ فهو وحده نفاق، فتفسيره في الحديث: الإيمان بالتصديق والإسلام بالعمل، إنَّما فسر به إيمان القلب والإسلام في الظاهر، لا الإيمان الشرعي والإسلام الشرعي، والمؤلف يرى أنهما والدين عبارات عن واحد، والمتَّضح: أن محلَّ الخلاف إذا أُفرد لفظ أحدهما، فإن اجتمعا؛ تغايرا كما وقع هنا، كذا قرره القسطلاني، قلت: فيه نظر؛ فإنَّ الإسلام هو الخضوع والانقياد؛ بمعنى: قبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق، ويؤيده قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36].
وبالجملة: لا يصح في الشرع أن يحكم على واحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا، والمراد بعدم تغايرهما: أنَّه لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا الاتحاد بحسب المفهوم؛ لما في ذكره في الكفاية من [أنَّ] الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر به من أوامره ونواهيه، والإسلام هو الانقياد والخضوع لألوهيَّتِه، وذلك لا يتحقق إلَّا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا، فلا يتغايران، ومن أثبت حدَّ التغاير يقال له: ما حُكْم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا؛ فهو ليس بثابت للآخر، والأظهر بطلان قوله؛ وقدمنا بقية الكلام؛ فافهم.
ثم (قال) جبريل: يا رسول الله؛ (ما الإحسان؟) (ما) استفهامية مبتدأ، والإحسان خبره، و (أل) فيه للعهد؛ أي: ما الإحسان المتكرر في القرآن المترتب عليه الثواب؟ (قال) عليه السلام مجيبًا له: الإحسان (أن تعبد الله)؛ أي: عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك له (كأنك تراه)؛ أي: مثل حال كونك رائيًا له، (فإن لم تكن تراه) سبحانه؛ فاستمر على إحسان العبادة، (فإنه) تعالى (يراك) دائمًا، والإحسان: الإخلاص أو إجادة العمل، وهذا من جوامع كلمه عليه السلام؛ لأنَّه شامل لمقام المشاهدة ومقام المراقبة.
ثم (قال) جبريل: يا رسول الله؛ (متى) تقوم (الساعة؟) (أل) للعهد، والمراد يوم القيامة (قال) عليه السلام: (ما) أي: ليس (المسؤول) زاد في رواية: (عنها) (بأعلم من السائل)؛ بزيادة الموحدة في (أعلم)؛ لتأكيد معنى النفي، والمراد: نفي علم وقتها؛ لأنَّ علم مجيئها مقطوع به، فهو علم مشترك، وهذا وإن أشعر بالتساوي في العلم إلا أن المراد التساوي في العلم بأن الله استأثر بعلم وقت مجيئها؛ لقوله بعدُ: «خمسٌ لا يعلمهنَّ إلَّا الله»، وليس السؤال عنها ليعلم الحاضرون كالأسئلة السابقة، بل لينزجروا عن السؤال عنها، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب: 63]، فلما وقع الجواب بأنه لا يعلمها إلَّا الله؛ كفُّوا، وهذا السؤال والجواب وقعا بين عيسى وجبريل؛ كما في «نوادر الحميدي» عن الشعبي قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، (وسأخبرك عن أَشراطها)؛ بفتح الهمزة، جمع شرط؛ بالتحريك؛ أي: علامتها السابقة عليها أو مقدماتها، لا المقارنة لها؛ وهي (إذا ولدت الأمة) أي: وقت ولادة الأمة (ربَّها)؛ أي: مالكها وسيدها، وهو هنا كناية عن كثرة أولاد السراري حتى تصير الأم كأنها أمة لابنها؛ من حيث إنَّها ملك لأبيه، أو أن الإماء تلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعايا، والملك سيد رعيته، أو كناية عن فساد الحال؛ لكثرة بيع أمهات الأولاد، فيتداولهن المُلَّاك، فيشتري الرجل أمه وهو لا يشعر، أو كناية عن كثرة العقوق بأن يعامل الولد أمه معاملة السيدِ أمتَه في الإعانة بالسب، والضرب، والاستخدام، فأطلق عليه (ربها)؛ مجازًا لذلك.
وعورض بأنَّه لا وجه لتخصيص ذلك بولد الأمة إلَّا أن يقال: إنَّه أقرب إلى العقوق، وعند المؤلف في (التفسير): (ربَّتها) بتاء التأنيث على معنى النسمة؛ ليشمل الذكر والأنثى، وقيل: كراهة أن يقول: (ربَّها)؛ تعظيمًا للفظ (الرب)، وعبر بـ (إذا) الدالة على الجزم؛ لأنَّ الشرط محقَّق الوقوع، ولم يعبر بـ (إنْ)؛ لأنَّه لا يصح أن يقال: إنْ قامت القيامة؛ كان كذا، بل يرتكب قائله محظورًا؛ لأنَّه يشعر بالشك فيه؛ كذا حققه في «عمدة القاري»، وتمامه فيه.
قلت: وهذه الاحتمالات كلها واقعة الآن في زماننا، نعوذ بالله من الجهل والغفلة، اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، والتوفيق لما تحبه وترضاه.
(و) من أشراط الساعة (إذا تطاول رُعاةُ الإبل) بضم الراء جمع راع (البُهمُ)؛ بالرفع؛ صفة للرعاة، وبالجر؛ صفة للإبل، ففيه روايتان، وهو بضم الباء الموحدة، جمع (بهيم) على الأولى، وجمع (بهماء) على الثانية، وفي رواية: بفتح الباء الموحدة، فلا وجه له هنا، جمع (بهيمة)؛ صغار الضأن والمعز، والمراد بالبهم: الأسود الذي لا يخالطه لون غيره؛ وهو شر الإبل.
والمعنى؛ أي: وقت تفاخر أهل البادية بإطالة البنيان وتكاثرهم باستيلائهم على الأمر، وتملكهم البلاد بالقهر المقتضي لتبسطهم بالدنيا، فهو عبارة عن ارتفاع الأسافل كالعبيد والسفلة من الجمَّالين والزراعين وغيرهم، وقد عَدَّ في الحديث من الأشراط علامتين، والجمع يقتضي ثلاثة، فإما أن يكون على أنَّ أقل الجمع اثنان، أو أنَّه اكتفى باثنين لحصول المقصود بهما في علم أشراط الساعة.
وعلمُ وقتها داخل (في) جملة (خمس) من الغيب (لا يعلمهنَّ إلَّا الله، ثم تلا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34])؛ أي: علم وقتها، وفي رواية: ({وَيُنَزِّلُ} .. الآيةَ)؛ بالنصب بتقدير: اقرأ، وبالرفع مبتدأ خبره محذوف؛ أي: الآيةُ مقروءةٌ إلى آخر السورة، ولمسلم: (إلى قوله: {خَبِيرٌ})، والجار والمجرور متعلق بمحذوف كما قدرناه، فهو على حد قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]؛ أي: اذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات، وتمام الآية: {وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ}؛ أي: في أيامه المقدَّر له والمحل المعيَّن له، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} أذكرًا أم أنثى؟ تامًا أم ناقصًا؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}؟ من خير أو شر، وربما يعزم على شيء ويفعل خلافه، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}؟ أي: كما لا تدري في أي وقت تموت؟
قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة؛ لهذا الحديث، فمن ادَّعى علم شيء منها غير مستند إلى الرسول عليه السلام؛ كان كاذبًا في دعواه، انتهى.
(ثم أدبر) من الإدبار؛ أي: رجع الرجل السائل، (فقال) عليه السلام: (ردوه)، وفي رواية: (فأخذوا ليردوه) (فلم يروا شيئًا) لا عينه ولا أثره، ولعل قوله: (ردوه) على إيقاظ للصحابة؛ ليتفطنوا إلى أنه ملَك لا بشر، (فقال) عليه السلام: (هذا) ولكريمة: (إن هذا) (جبريل) عليه السلام (جاء يُعلِّم الناس دينهم)؛
%ص 32%
أي: قواعد دينهم، وهي جملة وقعت حالًا مقدرة؛ لأنَّه لم يكن معلمًا وقت المجيء، وأسند التعليم إليه وإن كان سائلًا؛ لأنَّه لما كان السبب فيه أسنده إليه، أو أنه كان من غرضه.
وللإسماعيلي: «أراد أن تعلموا؛ إذ لم تسألوا»، وفي حديث أبي عامر: «والذي نفس محمد بيده؛ ما جاءني قط إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة»، وفي رواية سليمان التيمي: «ما شُبِّه عليَّ منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى ولَّى».
(قال أبو عبد الله) المؤلف: (جعل)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (ذلك) المذكور (كله من الإيمان)؛ أي: من ثمرات الإيمان، وفي الحديث بيان عظم الإخلاص والمراقبة، وفيه أن العالم إذا سئل عما لا يعلمه؛ يقول: لا أدري، ولا ينقص ذلك من جلالته، بل يدل على ورعه، وتقواه، ووفور علمه؛ فإنَّ النبي الأعظم ورد عنه أنه قال: «لا أدري حتى أسأل جبريل»، وجبريل قال: «لا أدري حتى أسأل ميكائيل ... » وهكذا إلى رب العزة جل جلاله، ونُقل قول: (لا أدري) عن إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، وعن الإمام مالك، وعن الإمام الشافعي، وعن الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنهم، وقال مالك: قول: لا أدري؛ نصف العلم، وتوقف إمامنا الإمام الأعظم في اثنتي عشر مسألة، والإمام مالك في ثماني عشرة مسألة، وهذا من ورعهما وتقواهما، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]، وفيه: أن الملائكة تَمثَّل بأي صورة شاؤوا من صور بني آدم، كقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، وقد كان جبريل يتمثل بصورة دحية، ولم يره النبي عليه السلام في صورته التي خلق عليها غير مرتين، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (حيان)، وهو تصحيف.
==================
(1/100)
(38) [باب منه]
هذا (بابٌ) بالتنوين بدون ترجمة؛ لتعلقه بالترجمة السابقة؛ من حيث اشتراكهما في جعل الإيمان دِينًا.
==========
%ص 33%
==================
(1/101)
[حديث أبي سفيان مع هرقل]
51# وبه قال: (حدثنا إبراهيم بن حمزة)؛ بالزاي: ابن محمد بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي المدني، المتوفى بالمدينة سنة ثلاثين ومئتين (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، (عن صالح) هو ابن كيسان الغفاري، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله)؛ بفتحها، ابن عتبة، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة: (أن عبد الله بن عباس أخبره قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سفيان)؛ بتثليث أوله، وللأصيلي: (ابن حرب): (أن هرقل) عظيم الروم (قال له) أي: لأبي سفيان في قصته المذكورة سابقًا: (سألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟)، وفي الرواية السابقة: الاستفهام بالهمزة؛ وهو القياس؛ لأنَّ (أَم) المتصلة مستلزمة للهمزة، وأجيب بأن (أم) هنا منقطعة؛ أي: بل ينقصون، فيكون إضرابًا عن سؤال الزيادة واستفهامًا عن النقصان، على أن جار الله الزمخشري أطلق أنَّها لا تقع إلا بعد الاستفهام؛ فهو أعم من الهمزة؛ فافهم.
(فزعمت) وفي السابقة: (فذكرت) (أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم)؛ أي: أمر الإيمان؛ كما في الرواية السابقة، (وسألتك هل يرتد) وفي السابقة: (أيرتد) بالهمزة (أحد سَخطة)؛ بفتح السين، وفي رواية: (أحد منهم سَخطة)؛ أي: ساخطًا؛ أي: كراهة، منصوب على الحال أو على المفعول لأجله، (لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت) في السابقة: (فذكرت) (أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يَسخَطه أحد)؛ بفتح المثناة التحتية والخاء، ولم يذكر هذه اللفظة وتاليها في الرواية السابقة.
واقتصر هنا على هذه القطعة؛ لبيان غرضه منها هنا؛ وهي تسمية الدين إيمانًا، ونحو هذا الحذف يسمونه خرمًا، والصحيح جوازه من العالم إذا كان ما تركه غير متعلِّق بما رواه؛ بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة، والظاهر أنَّ الخرم وقع من الزهري لا من المؤلف؛ كما قاله القسطلاني تبعًا للكرماني، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأنه كيف يكون الخرم من الزهري وقد أخرجه البخاري بتمامه بهذا الإسناد في (كتاب الجهاد)؟ وليس الخرم إلَّا من البخاري، انتهى.
قلت: وهو ظاهر؛ لأنَّ عادة البخاري الخرم في بعض الأحاديث؛ لبيان غرضه واستدلاله كما وقع هنا، فلا شكَّ أن الخرم وقع هنا من المؤلف؛ لأنَّ سياقه في (الجهاد) بتمامه بهذا الإسناد؛ دليل واضح على ذلك، والله أعلم.
==========
%ص 33%
==================
(1/102)
(39) [باب فضل من استبرأ لدينه]
هذا (باب فضل من استبرأ لدينه)؛ أي: الذي طلب البراءة؛ لأجل دينه من الذم الشرعي أو من الإثم، وإنما قال: (لدينه) ولم يقل: لعرضه؛ لأنَّه لازمٌ له، والاستبراء للدين من الإيمان.
==========
%ص 33%
==================
(1/103)
[حديث: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات]
52# وبه قال: (حدثنا أبو نعيم)؛ بضم النون: الفضل بن دُكَين؛ بضم الدال المهملة وفتح الكاف؛ وهو لقبه، واسمه عمرو بن حماد، القرشي التيمي الطلحي، المتوفى بالكوفة سنة ثمان أو تسع عشرة ومئتين (قال: حدثنا زكريا) بن أبي زائدة، واسمه خالد بن ميمون، الهمداني الوادعي الكوفي، المتوفى سنة سبع أو تسع وأربعين ومئة (عن عامر) هو الشعبي، وفي «فوائد أبي الهيثم» من طريق يزيد بن هارون عن زكريا قال: (حدثنا الشعبي)، وبهذا حصل الأمن من تدليس زكريا؛ كذا في «عمدة القاري»: أنه (قال: سمعت النعمان بن بشير)؛ بفتح الموحدة وكسر المعجمة: ابن سعْد؛ بسكون العين، الأنصاري الخزرجي، وأمه عمرة بنت رواحة، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة، المقتول سنة خمس وستين، وقول القابسي وابن معين عن أهل المدينة: لا يصح للنعمان سماع من النبي عليه السلام؛ يرده قوله هنا: (سمعت النعمان بن بشير) (يقول: سمعت رسول الله) وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وعند مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه (يقول: الحلالُ بيِّنٌ) مبتدأ وخبر؛ أي: ظاهرٌ بالنظر إلى ما دل عليه بلا شبهة، (والحرامُ بيِّنٌ) مبتدأ وخبره؛ أي: ظاهرٌ بالنظر إلى ما دل عليه بلا شبهة، (وبينهما) خبر، أمورٌ (مشبَّهاتٌ) مبتدؤه؛ بتشديد الموحدة المفتوحة؛ أي: شُبِّهت بغيرها ممَّا لم يتبيَّن به حكمها على التعيين، وفي رواية: (مشتَبِهات)؛ بمثناة فوقية مفتوحة وموحدة مكسورة؛ أي: اكتسبت الشبهة من وجهين متعارضين، بقي ثلاث روايات فيها مذكورة مع معانيها بغاية الإيضاح في «عمدة القاري»؛ فيراجع، (لا يعلمها)؛ أي: لا يعلم حكمها (كثير من الناس) وفي رواية الترمذي: (لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام؟) وقليل من الناس يعلم حكمها؛ وهم العلماء، إما بنص، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن نصٌّ ولا إجماع؛ اجتهد فيه المجتهد وألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به؛ صار حلالًا أو حرامًا، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه؛ فهل يؤخذ بالحل أو الحرمة أم بالتوقف؟ فيه ثلاثة مذاهب؛ وهي مخرَّجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب:
أحدها: أنه لا يحكم بتحليل ولا تحريم ولا غيرها؛ لأنَّ التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، وهو الأصح؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وفي «البدائع»: وهو المختار، وهو قول الشافعية.
الثاني: أن الحكم الحل والإباحة، وهو قول بعض أئمتنا، وهو قول الإمام الكرخي، ومشى عليه الإمام المرغيناني في «الهداية»، والإمام الجليل قاضيخان في «الفتاوى».
الثالث: المنع، وهو قول بعض أصحاب الحديث.
الرابع: الوقف؛ بمعنى: أنه لا بدَّ لها من حكم، لكنا لم نقف عليه بالعقل، وهو قول بعض أئمتنا.
وقد يكون الدليل غير خال عن الاحتمال، فالورع تركه لا سيما على القول: بأن المصيب واحد، وهو المشهور في مذهب إمامنا الإمام الأعظم والإمام مالك، ومنه ثار القول في مذهبهما بمراعاة الخلاف أيضًا، وكذا روي عن الشافعي: أنه كان يراعي الخلاف؛ حيث لا يفوت به سنة عندهم.
فعلى هذا: ساغ لنا إذا سُئِلنا عن مذهبنا أن نقول: مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب؛ بناء على أن الحق واحد، وقال الشافعي: إن الحق متعدد، فلا يجوز له أن يقول ذلك، والله تعالى أعلم.
(فمَن) موصولة مبتدأ (اتقى) أي: حَذِرَ (المشبَّهات)؛ بالميم وتشديد الموحدة، وفي رواية: (المشْتَبِهات)؛ بالميم والمثناة الفوقية بعد الشين الساكنة، وفي أخرى: (الشُّبهات) بإسقاط الميم، وضم الشين، وبالموحدة: جمع شبهة؛ وهي الالتباس، وأصل (اتقى): اوتقى؛ من وقى وقاية، قلبت الواو تاء، وأدغمت التاء في التاء، صلة الموصول، وقوله: (استبرأ) خبره، وفي رواية: (فقد استبرأ) بالهمز بوزن (استفعل) (لدينه) المتعلق بخالقه، (وعرضه) المتعلق بالخلق؛ أي: حصل البراءة لدينه من الالتباس، ولعرضه من طعن الناس، وفي رواية: (لعرضه ودينه)، (ومَن) شرطية، وفعل الشرط قوله: (وقع في الشُّبهات) التي أشبهت الحرام من وجه والحلال من آخر؛ بمعنى: التبس أمرها، وفي رواية: (المشْتَبِهات)؛ بالميم، وسكون الشين، وفوقية قبل الموحدة، وفي أخرى: (المشبَّهات)؛ بالميم والموحدة المشددة، وجواب [من] محذوف في جميع النسخ، وثبت
%ص 33%
في رواية الدارمي عن أبي نُعيم شيخ المؤلف فيه، ولفظه قال: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) (كراعٍ)؛ أي: مثله مثل راع، وفي رواية: (كراعي بالياء)، (يرعى): جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل؛ للتنبيه بالشاهد على الغائب، أو أن تكون (مَن) موصولة لا شرطية مبتدأ، والخبر (كراع يرعى)، وحينئذٍ لا حذف، والتقدير: الذي وقع في الشبهات كراع يرعى مواشيه.
(حول الحمى)؛ بكسر الحاء المهملة وفتح الميم: المحمي، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، والمراد: موضع الكلأ الذي مُنع منه الغير وتُوعِّد على من رعى فيه، (يوشك)؛ بكسر المعجمة؛ أي: يقرب، (أن يواقعه)؛ أي: يقع فيه، وعند ابن حبان: اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك؛ استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه؛ كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه.
(ألا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام: حرف تنبيه أن الأمر كما تقدم، (وإن لكل ملِك)؛ بكسر اللام من ملوك العرب (حمى)؛ مكانًا مخصبًا حظره لرعي مواشيه وتوعَّد من رعى فيه بغير إذنه بالعقوبة، وسقط قوله: (ألا وإن) في رواية (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام، (إنَّ) وفي رواية: (وإن)، (حمى الله) تعالى، وفي رواية زيادة: (في أرضه)، (محارمه) وفي رواية: (معاصيه) بدل (محارمه)؛ أي: المعاصي التي حرمها؛ كالزنا ونحوه، فهو من باب التمثيل والتشبيه بالشاهد عن الغائب، فشبه المكلفَ بالراعي، والنفسَ بالبهيمة؛ بالأنعام، والمشبهات بما حول الحمى، والمحارم بالحمى، وتناول المشبهات بالرتع حول الحمى، ووجه التشبيه: حصول العقاب بعدم الاحتراز عن ذلك.
(ألا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام، إن الأمر كما ذكر، (وإن في الجسد مضغة) بالنصب اسم (إن) مؤخر؛ أي: قطعة من اللحم، وسميت بذلك؛ لأنها تُمضَغ في الفم لصغرها، أو لأنَّ أول نقطة تكون من النطفة، (إذا صلحت)؛ بفتح اللام وضمها، والفتح أفصح؛ أي: المضغة، (صلح الجسد كله)؛ لأنَّه مركب عليها، وسقط لفظ (كله) في رواية، (وإذا فسدت)؛ أي: المضغة (فسد الجسد كله)؛ لأنَّه مركب عليها.
(ألا)؛ بالفتح والتخفيف، (وهي)؛ أي: المضغة (القلب)؛ أي: الفؤاد، وقيل: القلب أخص من الفؤاد، وإنما سمي به؛ لتقلبه في الأمور، وقيل: لأنَّه خالص ما في الإنسان، وخالص كل شيء قلبه، وأصله مصدر ثم نُقل وسمي به هذا العضو؛ لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
... ~ما سمِّي القلبُ إلَّا من تقلُّبه ... فاحذرْ على القلبِ من قلبٍ وتحويلِ
قيل: إن القلب محل العقل، وهو قول بعض المتكلمين، والشافعية، والفلاسفة، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم: إن العقل في الدماغ، وهو قول جمهور المتكلمين والأطباء.
وقال الإمام النووي: ليس في الحديث دلالة على أن العقل في القلب، واستدل به أيضًا على أن من حلف لا يأكل لحمًا فأكل قلبًا؛ حنث، قلت: ولأصحاب الشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه يحنث، وإليه مالَ الصيدلاني المروزي، والأصح: أنه لا يحنث؛ لأنَّه لا يسمى لحمًا اهـ.
فعُلِم منه: أن بعض الشافعية قالوا: العقل في القلب، وبعضهم قالوا: إنه في الدماغ، وظاهر عبارة أئمتنا الأعلام: أن العقل مقره في القلب، وسلطانه ونوره وشعاعه في الدماغ، وبهذا يحصل التوفيق بين القولين؛ فليحفظ.
==================
(1/104)
(40) [باب أداء الخمس من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين (أداء الخُمُس)؛ بضم المعجمة والميم، (من الإيمان) مبتدأ وخبره؛ أي: من شعبه، ويجوز إضافة الباب لما بعده.
==========
%ص 34%
==================
(1/105)
[حديث: مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامى]
53# وبه قال: (حدثنا علي بن الجَعْد)؛ بفتح الجيم وسكون العين، أبو الحسن ابن عُبيد؛ بضم العين، الجوهري، الهاشمي، البغدادي، المتوفى فيها سنة ثلاثين ومئتين، (قال: أخبرنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (عن أبي جمرة)؛ بالجيم والراء، واسمه نصر بن عمران بالصاد المهملة، الضُّبَعي؛ بضم الضاد المعجمة، بعدها موحدة مفتوحة، بعدها عين مهملة، البصري المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة، والضُّبَعي: نسبة لبطن من عبد القيس.
(قال: كنت أقعد) بلفظ المضارع حكاية حالٍ ماضية؛ استحضارًا لتلك الصورة للحاضرين، (مع ابن عباس) رضي الله عنهما؛ أي: عنده زمن ولايته بالبصرة من قِبَل علي بن أبي طالب، (يُجلسني)؛ بضم أوله من غير فاء، مِن أجلس، وفي رواية: بالفاء؛ أي: يرفعني بعد أن أقعد.
(على سريره) عطف على (أقعد)؛ لأنَّ الجلوس على السرير بعد القعود، وروى المؤلف في (العلم) السبب في إكرام ابن عباس له، ولفظه: (كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس)، والترجمة: التعبير بلغة عن لغة لمن لا يفهم، فقيل: كان يتكلم بالفارسية، وكان يترجم لابن عباس عن من تكلم بها، وفيه دليل على جواز الترجمة والعمل بها، وجواز المترجم الواحد؛ كما قاله القاضي.
قلت: قال أئمتنا الأعلام: والواحد يكفي للتزكية والرسالة والترجمة؛ لأنَّها خبر وليست بشهادة حقيقية، ولهذا لا يشترط لفظة الشهادة؛ فليحفظ.
(فقال: أقم)؛ أي: توطن (عندي)؛ لتساعدني بتبليغ كلامي إلى من خفي عليه من السائلين، (حتى) أن (أجعل لك سهمًا)؛ أي: نصيبًا (من مالي)، سبب الجعل الرؤيا التي رآها في العمرة؛ كما سيأتي في الحج، قال أبو جمرة: (فأقمت معه)؛ أي: عنده مدة (شهرين) بمكة، وإنما عبر بـ (مع) المقتضية للمصاحبة دون (عند) المقتضية لمطابقة (أقم عندي)؛ للمبالغة.
وفي رواية مسلم بعد قوله (وبين الناس): (فأتت امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فنهى عنه، فقلت: يا بن عباس: إنِّي انتبذت [1] في جرة خضراء نبيذًا حلوًا فأشرب منه فيقرقر بطني، قال: لا تشربْ منه وإن كان أحلى من العسل).
(ثم قال: إنَّوَفْد)؛ أي: جماعة (عبد القيس) أبو القبيلة، وهو ابن أَفْصَى؛ بهمزة مفتوحة، وفاء ساكنة، وصاد مهملة مفتوحة، ابن دُعْمي؛ بضم الدال المهملة، وسكون العين المهملة، وبياء النسبة، ابن جَديلة؛ بفتح الجيم، ابن أسد بن ربيعة بن نزار، كانوا ينزلون البحرين وحوالي القطيف، وكانوا أربعة عشر رجلًا بالأشج، ويُروى أنهم أربعون، فيحتمل أن يكون لهم وفادتان، أو أن الأشراف أربعة عشر والباقي تبع، وأسماؤهم وبيانهم موضح في «عمدة القاري» غاية الإيضاح.
(لما أتوا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) عام الفتح قبل خروجه من مكة، وكان سبب وفودهم كما في «عمدة القاري» إسلام منقذ بن حبان، وتعلمه الفاتحة وسورة اقرأ، وكتابته عليه السلام لجماعة عبد القيس كتابًا، فلما رحل إلى قومه؛ كتمه أيامًا، وكان يصلي، فقالت زوجته لأبيها المنذر بن عائذ وهو الأشج: إنِّي أنكرت فعل بعلي منذ قدم مِن يثرب؛ إنه ليغسل أطرافه، ثم يستقبل الجهة، يعني: الكعبة، فيحني ظهره مرة ويقع أخرى، فاجتمعا فتحادثا في [2] ذلك، فوقع الإسلام في قلبه، وقرأ عليهم الكتاب، وأسلموا وأجمعوا المسير إلى رسول الله عليه السلام، فلما قدموا؛ (قال) عليه السلام (مَن القوم؟ أو) قال (مَن الوفد؟) شك شعبة أو أبو جمرة، (قالوا) نحن (ربيعة)؛ أي: ابن نزار بن معَدِّ بن عدنان، وإنما قالوا: ربيعة؛ لأنَّ عبد القيس من أولاده، وعبر عن البعض بالكل؛ لأنَّهم بعض ربيعة، ويدل له ما في المؤلف في (الصلاة)، فقالوا: إنا هذا الحي من ربيعة.
(قال) عليه السلام: (مرحبًا بالقوم أو) قال (بالوفد)، وأول من قال: مرحبًا: سيف بن ذي يزن، وانتصابه على المصدرية بفعل مضمر؛ أي: صادفوا رُحبًا؛ بالضم؛ أي: سعة، حال كونهم (غير خزايا) جمع خزيان على القياس؛ أي: غير أذلاء أو غير مستحيين لقدومكم مبادرين دون حرب يوجب استحياءكم، و (غير) بالنصب حال، ويروى: بالخفض صفة لـ (القوم).
(ولا ندامى) جمع نادم على غير قياس، وإنما جُمع كذلك؛ اتباعًا لـ (خزايا) للمشاكلة والتحسين، وذكر القزاز: أن (ندمان) لغة في (نادم)، فجمعه المذكور على هذا قياس، (فقالوا)، وللأصيلي: (قالوا): (يا رسول الله؛ إنا لا نستطيع أن نأتيك)؛ أي: الإتيان إليك، (إلا في الشهر الحرام) سُمي الشهر شهرًا؛ لشهرته وظهوره، وحرامًا؛ لحرمة القتال فيه عندهم، والمراد الجنس، فيشمل الأربعة الحُرُم، والمراد شهر رجب، كما صُرِّح به في رواية البيهقي.
وفي رواية: (إلا في شهر الحرام)، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع، والبصريون يمنعونها ويؤولون ذلك على حذف مضاف؛ أي: ومسجد الوقت الجامع، وشهر الوقت الحرام.
وقول ابن حجر: هذا من إضافة الشيء إلى نفسه، رده الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز؛ كما عُرِف في موضعه؛ فليحفظ، وفي رواية: (إلا في أشهر الحُرُم)، تقديره: في أشهر الأوقات الحُرُم، و (الحُرُم)؛ بضمتين جمع حرام، وفي رواية: (إلا في كل شهر حرام).
(و) الحال (بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَرَ)؛ بضم الميم وفتح المعجمة، مخفوض بالمضاف بالفتحة؛ للعلمية والتأنيث، وهذا مع قولهم: (يا رسول الله)، يدل على تقدم إسلامهم على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق.
(فمرنا بأمرٍ فصْلٍ)؛ بالصاد المهملة وبالتنوين في الكلمتين على الوصفية، لا بالإضافة؛ أي: يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى: المفصَّل المبين، وأصل (مرنا): أأمرنا؛ بهمزتين؛ من أمر يأمر،
%ص 34%
فحذفت الهمزة الأصلية؛ للاستثقال، فصار (أمرنا)، فاستغني عن همزة الوصل فحذفت، فبقي (مُر) على وزن (عُل)؛ لأنَّ المحذوف فاء الفعل.
(نخبر به مَن)؛ أي: الذي استقرَّ، (وراءَنا)؛ أي: خلفنا مِن قومنا الذين خلَفناهم في بلادنا، و (نخبر) بالجزم جوابًا للأمر، وبالرفع لخلوِّه من ناصبٍ وجازم، والجملة في محلِّ جرِّ صفة لـ (أمر)، (وندخل به الجنة) إذا قُبِل بفضله تعالى، ويجوز الجزم والرفع في (ندخل) كـ (نخبر)؛ عطفًا عليها، لكن يتعيَّن الرفع في هذه على رواية إسقاط الواو، وتكون الجملة مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب.
(وسألوه) عليه السلام (عن الأشربة)؛ أي: عن ظروفها، أو سألوه عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة، فعلى الأول: المحذوف المضاف، وعلى الثاني: الصفة.
(فأمرهم) عليه السلام (بأربع)؛ أي: بأربع جمل أو خصال، (ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده) تفسيرٌ لقوله: (فأمرهم بأربع)، ومن ثَم حذف العاطف، (قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال) عليه السلام: هو (شهادة أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله)؛ برفع شهادة خبر مبتدأ محذوف، ويجوز الجرُّ على البدلية، (وإقام الصلاة)؛ أي: أدائها بأوقاتها على الوجه المعلوم.
(وإيتاء الزكاة)؛ أي: إعطاؤها في مصارفها، (وصيام رمضان) فيه دليلٌ على عدم كراهة قول رمضان من غير تقييد بالشهر، (و) الخامس (أن تعطوا من المغنم الخُمُس)؛ بضم الخاء المعجمة والميم، وإنما أمرهم بأربع وذكر لهم خمسًا؛ لأنَّهم كانوا مجاورين كفَّارَ مُضر وكانوا أهلَ جهاد وغنائم، فزاد الخامس لذلك، ولم يذكر لهم الحجَّ؛ لكونه على التراخي لا يمنع من الأمر به، وفيه خلاف، فعند الإمام أبي يوسف؛ وهو رواية عن إمامنا الإمام الأعظم: وجوبه على الفور، وعليه الفتوى، وهو مذهب مالك، وعند الإمام محمَّد الشيباني؛ وهو رواية أيضًا عن الإمام الأعظم: أنَّه على التراخي، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل؛ لأنَّ فرض الحج كان بعد الهجرة، وأنَّه عليه السلام كان قادرًا على الحج في سنة ثمان وفي سنة تسع ولم يحجَّ إلَّا في سنة عشر.
وأجيبَ: بأنَّه عليه السلام كان عالمًا بإدراكه فلذلك أخَّره، بخلاف غيره مع ورود الوعيد في تأخيره بعد الوجوب، أو لشهرته عندهم، أو لكونه لم يكن فُرِض؛ لأنَّ قدومهم كان في سنة ثمان قبل فتح مكَّة، وهو فُرِض في سنة تسع على قول، والأصحُّ: أنَّه فُرِض سنة ست كما سيأتي، أو لكونه لم يكن سبيل لهم إليه من أجل كفَّار مُضر.
ثم عطف المؤلف على قوله: (وأمرهم) قوله: (ونهاهم عن أربع: عن الحَنْتَم)؛ أي: عن الانتباذ فيه؛ وهو بفتح المهملة، وسكون النون، وفتح المثناة الفوقية، وهي الجرَّة أو الجِرار الخُضر أو الحمر، أعناقها على جنوبها، أو متخذَة من طين، وشعر، ودم، أو (الحنتم): ما طُلي من الفخار بالحنتم المعمول بالزجاج وغيره، وسقطت (عن) الثانية لكريمة.
(و) عن الانتباذ في (الدُّباء)؛ بضمِّ المهملة، وتشديد الموحدة، والمدِّ؛ اليقطينُ الكبير الأبيض، (و) عن الانتباذ في (المزفَّت)؛ بالزاي والفاء: ما طلي بالزِّفت، (وربما قال: المقيَّر)؛ بالقاف والمثناة التحتية المشددة المفتوحة؛ وهو ما طلي بالقار، ويقال له: القير؛ وهو نبت يحرق إذا يبس، تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت.
(وقال: احفظوهن وأخبروا بهن)؛ بفتح الهمزة، (مَن وراءَكم)؛ أي: الذين كانوا أو استقروا، فـ (مَن) موصولة مبتدأ، و (وراءكم) خبره، ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها؛ لأنَّه يُسرع إليها الإسكار، فربَّما شرب منها مَن لم يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كلِّ وعاء، مع النهي عن شرب كلِّ مُسكر، ففي «مسلم»: «كنتُ نهيتُكم عن الانتباذ إلَّا في الأسقية فانتبذوا في كلِّ وعاء، ولا تشربوا مُسكرًا»، وهو مذهب إمامنا الإمام الأعظم والجمهور، وهو قول الشافعي، وذهب مالك، وأحمد، وإسحاق إلى أن النهي باقٍ، والصواب الجزم بالإباحة؛ لتصريح النسخ؛ كما علمت، والله أعلم.
وفي الحديث استعانة العالم في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم، وفيه استحباب قول: مرحبًا للزائرين، وندب العالم إلى إكرام الفاضل، وفي قوله: (أجعل لك سهمًا من مالي) دليل على جواز أخذ الأجرة على التعليم؛ كما قاله ابن التين، قلت: مذهب إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل ومَن قال بقوله: أنَّ الاستئجار على الطاعات لا يصح، واستثنى المتأخرون تعليم القرآن، فجوَّزوا الاستئجار عليه؛ لخوف الضياع، والأذان والإمامة؛ للعلة المذكورة؛ لأنَّهما من شعائر الدين، فهذه الثلاثة مستثناة للضرورة.
قال في «الهداية»: الأصل أنَّ كل طاعة يختصُّ بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها عندنا؛ لقوله عليه السلام: «اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به ... » الحديث، فالاستئجار على الطاعات مطلقًا لا يصح عند أئمتنا الأعلام، اهـ.
فالمُفتَى به: جواز أخذ الأجرة؛ استحسانًا، على تعليم القرآن، لا على القراءة المجرَّدة كما صرح به أئمَّة المذهب، وهو قول أحمد، وعطاء، والضحَّاك، والزهري، والحسن، وابن سيرين، وطاووس، والشعبي، والنخلي، فقارئ القرآن بالأجرة لا يستحق الثواب لا للميت ولا للقارئ؛ لأنَّ الاستئجار على قراءة القرآن باطلة، ولم يفعلها أحد من الخلفاء، وكذا الوصية بذلك باطلة.
وهذا كله مع قطع النظر عما يحصل في زماننا من المنكرات التي يتوصَّلون إليها بحيلة قراءة القرآن والتهاليل؛ من الغناء، والرقص، واللهو، واللعب في بيوت الأيتام، ودق الطبول، وإقلاق الجيران، والاجتماع بحسان المردان، فكل من له معشوق لا يتيسر له الاجتماع به إلَّا في ذلك المكان فيجلس كلٌّ منهم بجنب معشوقه بعد إلقاء العمائم وثقيل الثياب، ويظهرون أنواع الخلاعات والرقص بما يسمونه الحربية، ويهيج بهم الهيام بسماع الغناء بأصوات حسان، وتخلع الولدان، فعند ذلك تذهل العقول ولا يدري شيخهم ما يقول، وتجتمع النسوان من كل مكان، ثم يأكلون الطعام الحرام في بيوت الأيتام، ثم يهبون ما تحصّل منهم في تلك الأوقات الخاسرات إلى روح مَن كان سببًا في اجتماعهم على هذه المنكرات، نعوذ من الجهل العظيم بالله الكريم، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم الحليم.
==========
[1] في الأصل: (أنتبذ).
[2] في الأصل من دون (في) والسياق يقتضيها.
==================
[1] في الأصل: (أنتبذ).
[1] في الأصل: (أنتبذ).
(1/106)
(41) [باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى]
هذا (باب ما جاء)؛ أي: الذي جاء في الحديث (أن الأعمال)؛ بفتح الهمزة: فاعل (جاء)، وفي رواية: بكسرها، وفي أخرى: (أن العمل)، (بالنية)؛ بالتشديد المثناة التحتية، (والحِسْبة)؛ بكسر الحاء وسكون السين المهملتين: اسم من الاحتساب؛ وهو الأجر والثواب، (ولكل امرئ ما نوى)؛ أي: الذي نواه، ولفظ (الحسبة) من حديث أبي مسعود الآتي، وأدخلها بين الجملتين تنبيهًا على أنَّ التبويب شامل لثلاث تراجم: الأعمال بالنية، والحِسبة، ولكل امرئ ما نوى، وفي رواية: (قال أبو عبد الله البخاري)، وفي أخرى إسقاطها.
(فدخل فيه)؛ أي: في الكلام السابق، (الإيمان) بناء على ما اختاره المؤلف من أن الإيمان؛ عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية؛ لأنَّ الشارع قال: (الأعمال بالنية) وهي حركات البدن ولا دخل للقلب فيه، وأما الإيمان بمعنى معرفة الله؛ فكذلك لا تحتاج إلى نية؛ لأنَّ المعرفة لو توقفت على النية؛ لزم أن يكون عارفًا بالله قبل معرفته، وهو محال وكذا التسبيح وسائر الأذكار والتلاوة لا يحتاج شيء منها إلى نية التقرب.
(و) كذا (الوضوء) بناء على ما ذهب إليه المؤلف، ومالك، والشافعي، وأحمد، وعند إمامنا الإمام الأعظم، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، لا يدخل.
وقالوا: الوضوء ليس عبادة مستقلة، وإنما هو وسيلة إلى الصلاة، والنبي الأعظم عليه السلام حين علَّم الأعرابي الجاهل الوضوء لم يعلِّمه النية، ولو كانت فرضًا؛ لعلَّمه، وقال الخصم: ونوقضوا بالتيمم، فإنَّه وسيلة وقد اشترط فيه النية عندنا.
قلنا: هذا التعليل ينتقض بتطهير الثوب والبدن عن الخبث؛ فإنَّه طهارة ولم يشترط فيها النية، فإن قالوا: الوضوء تطهير حكمي يثبت شرعًا، غير معقول؛ لأنَّه لا يعقل في المحل نجاسة تزول بالغسل؛ لأنَّ الأعضاء طاهرة حقيقةً وحُكمًا، أما حقيقة فظاهرٌ، وأما حكمًا فلأنه لو صلى إنسان وهو حاملُ مُحدِثٍ؛ جازت صلاته، وإذا ثبت أنه تعبُّدي وحكم الشرع بالنجاسة في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة، كان مثل التيمم؛ حيث جعل الشارع ما ليس بمطهر حقيقة مطهرًا حكمًا، فيشترط فيه النية كالتيمم؛ تحقيقًا لمعنى التعبد؛ لأنَّ العبادة لا تتأدّى بدون النية، بخلاف غسل الخبث؛ فإنَّه معقول؛ لما فيه من إزالة عين النجاسة عن البدن أو الثوب، فلا تتوقف على النية.
قلنا: الماء مطهر بطبعه؛ لأنَّه خلق مطهرًا، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، كما أنه مزيل للنجاسة ومطهر بطبعه، وإذا كان كذلك؛ تحصل الطهارة باستعماله، سواء نوى أو لم ينوِ، كالنار يحصل بها الإحراق وإن لم يقصد، والحدث يعم البدن؛ لأنَّه غير متجزئ، فيسري إلى جميع الأعضاء، ولهذا يوصف به كله، فيقال: فلان محدث لسائر الصفات؛ لأنَّه ليس بعضُ الأعضاء أولى بالسراية من بعض؛ لأنَّه لو خصص بعض الأعضاء بالحدث؛ لخص موضع خروج النجاسة بذلك؛ لأنَّه
%ص 35%
أولى المواضع به لخروج النجاسة منه، لكنه لم يخص، فإنَّه لا يقال: مخرجه محدث، فإذا لم يخص المخرج بذلك؛ فغيره أولى، وإذا ثبت أنَّ البدن كله موصوف بالحدث؛ كان القياس غسل كله، إلَّا أنَّ الشارع اقتصر على غسل الأعضاء الأربعة التي هي الأمهات للأعضاء؛ تيسيرًا، وأسقط غسل الباقي فيما يكثر وقوعه كالحدث الأصغر؛ دفعًا للحرج، وفيما عداه؛ وهو الذي لا يكثر وجوده كالحدث الأكبر مثل الجنابة، والحيض، والنفاس، أقرَّ على الأصل؛ حيث أوجب غسل البدن فيها.
فثبت بما ذكرنا: أنَّ ما لا يعقل معناه وصف كل البدن بالنجاسة مع كونه طاهرًا حقيقة وحكمًا دون تخصيص المخرج، وكذا الاقتصار على غسل بعض البدن؛ وهو الأعضاء الأربعة بعد سراية الحدث إلى جميع البدن غير معقول، وكونهما مما لا يعقل لا يوجب تغيير صفة المطهر، فبقي الماء مطهرًا كما كان، فيطهر مطلقًا، والنية لو اشترطت إنَّما تشترط للفعل القائم بالماء؛ وهو التطهير، لا الوصف القائم بالمحل؛ وهو الحدث؛ لأنَّه ثابت بدون النية، وقد بينّا أنَّ الماء فيما يقوم به من صفة التطهير لا يحتاج إلى النية؛ لأنَّه مطهر طبعًا، بخلاف التراب؛ لكونه ملوِّثًا بالطبع، وإنما صار مطهرًا شرعًا حال إرادة الصلاة بشرط فقد الماء، فإذا وجدت نية إرادة الصلاة؛ صار مطهرًا، وبعد إرادة الصلاة وصيرورته مطهرًا شرعًا مستغنى عن النية كما استغنى الماء عنها بلا فرق بينهما، والله أعلم.
(و) كذا (الصلاة) فلا خلاف في أنَّها لا تصحُّ إلَّا بالنية، ووقتها أول العبادات، ولكن الأول حقيقي وحُكمي، أما الحقيقي؛ ففي «الخلاصة» أجمع أصحابنا: أن الأفضل أن تكون مقارنة للشروع، ولا يكون شارعًا بمتأخرة عنها؛ لأنَّ ما مضى لا يقع عبادة؛ لعدم النية، فكذا الباقي؛ لعدم التجزُّئ.
وأما الحكمي؛ ففي «الأشباه» قالوا: لو نوى عند الوضوء أن يصلي الظهر مثلًا مع الإمام، ولم يشتغل بعد النية بما ليس من جنس الصلاة، إلَّا أنه لما انتهى إلى مكان الصلاة لم تحضره النية، وشرع في الصلاة؛ جازت صلاته بتلك النية، هكذا روي عن أئمتنا الثلاثة الأعلام.
وفي «التجنيس والمزيد»: إذا توضأ في منزله ليصلي العصر، ثم حضر المسجد، وافتتح الصلاة بتلك النية؛ فإن لم يشتغل بعمل آخر؛ تكفيه، هكذا قال الإمام محمد؛ لأنَّ النية المتقدمة تكفيها إلى وقت الشروع حكمًا، انتهى.
والمراد بما ليس من جنسها كل ما يدل على الإعراض عنها؛ كأكل وكلام مباح وغيرهما، وأما المشي إلى مقام الصلاة، فإنَّه مغتفر؛ لأنَّه من أفعالها حكمًا، فإنَّه غير قاطع لها، كما في «فتح القدير»، ولا تشترط بقاء النية مع كل ركن؛ للحرج، كذا في «البناية»، وكذا في بقية العبادات، وفي «القنية» لا يلزم نيته العبادة في كل جزء، إنَّما يلزمه في جملة ما يفعله في كل حال، انتهى، وفي «العناية»: افتتح المكتوبة ثم ظن أنَّها تطوع فأتمها على نية التطوع؛ أجزأته عن المكتوبة، انتهى.
والحاصل أن المذهب المعتمد: أن العبادة ذات أفعال تكتفي بالنية في أولها، ولا يحتاج في كل فعل اكتفاءً بانسحابها عليها، كذا في «الأشباه والنظائر» للإمام العلامة زين بن نجيم رضي الله عنه، وأما محلها؛ فالقلب في كل موضع، ولا يكفي التلفظ بها باللسان دون القلب، وفي «القنية» و «المجتبى»: ومن لا يقدر أن يُحضِر قلبه لينوي بقلبه أو يشك في النية؛ يكفيه التكلُّم بلسانه، {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، انتهى، ثم قال فيها: ولا يؤاخذ بالنية حال سهوه؛ لأنَّ ما يفعله من الصلاة فيما يسهو معفوٌ عنه، وصلاته مُجْزئة وإن لم يستحق بها ثوابًا، اهـ.
وهل يستحب التلَفُّظ بها ليكون مقررًا لما في القلب، أو يسن، أو يكره؟ فيه أقوال: فاختار في «الهداية» الأول لمن لم تجتمع عزيمته، قال في «فتح القدير»: ولم ينقل عن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه التلفظ بالنية لا في حديث صحيح ولا ضعيف، وزاد في «الحلية»: (ولم ينقل عن الأئمة الأربعة).
وفي «المفيد»: وكره بعض مشايخنا النطق باللسان، ورآه الآخرون سنة، وفي «المحيط»: الذكر باللسان سنة، فينبغي أن يقول: اللهم إنِّي أريد صلاة كذا فيسرها لي وتقبلها مني، ونقلوا في كتاب الحج: أن طلب التيسير لم ينقل إلا في الحج، بخلاف بقية العبادات، وفي «المجتبى» و «المختار»: أنه مستحب، انتهى.
(و) كذا (الزكاة) لكن فيها تفصيل؛ وهو أن صاحب النصاب الحولي إذا دفع زكاته إلى مستحقها؛ لا يجوز له ذلك إلا بنية مقارنة للأداء، أو عند عزل ما وجب منها؛ تيسيرًا له، وأما إذا كان له دين على فقير فأبراه عنه؛ سقط زكاته عنه نوى الزكاة أو لا، ولو وهب دينه من فقير ونوى عن زكاةِ دينٍ آخر أو نوى زكاة عين له؛ لا يصح، ولو غلب الخوارج على بلدة فأخذوا الزكاة؛ سقطت عن أرباب الأموال، بخلاف العشر؛ فإنَّ للإمام أن يأخذه ثانيًا؛ لأنَّ التقصير هنا من جهة رب المال؛ حيث مر بهم، وهناك التقصير في الإمام؛ حيث قصر فيهم، وقال الشافعي: السلطان إذا أخذ الزكاة فإنَّها تسقط ولو لم ينو رب المال؛ لأنَّ السلطان قائم مقامه.
قلت: وكان ينبغي على أصله ألَّا تسقط إلَّا بالنية منه؛ لأنَّ السلطان قائم مقامه في دفعها إلى المستحقين، لا في النية، ولا حرج في اشتراط النية عند أخذ السلطان، انتهى.
(و) كذا (الحج) ولا خلاف فيه أنه لا يصح إلا بالنية؛ لأنَّه داخل في عموم الحديث، والنية فيه سابقة على الأداء عند الإحرام؛ وهو النية مع التلبية، أو ما يقوم مقامها من سَوق الهدي، فلا يمكن فيه القران والتأخير؛ لأنَّه لا يصح أفعاله إلا إذا تقدم الإحرام؛ وهي ركن فيه أو شرط على قولين لأئمتنا الأعلام، ولو طاف طالبًا لغريم؛ لا يجزئه، ولو وقف بعرفات كذلك؛ أجزأه، والفرق: أن الطواف عُهِدَ قربة مستقلة، بخلاف الوقوف.
ولو طاف بنية التطوع في أيام النحر؛ وقع عن الفرض عندنا، وقال الشافعي: إذا نوى الحج عن الغير؛ ينصرف إلى حج نفسه ويجزئه عن فرضه، واستدل بحديث شبرمة المروي في «أبي داود»، عن ابن عباس: أن النبي الأعظم عليه السلام سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: «من شبرمة؟»، قال: أخ له أو قريب له، قال: «حججت عن نفسك؟»، قال: لا، قال: «حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة».
وقال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: ويجوز حج الصَّرَورة؛ بالصاد المهملة، وتخفيف الراء؛ وهو الذي لم يحج عن نفسه حجة الإسلام يحج عن غيره؛ لعموم هذا الحديث، ولما رواه الشيخان: أن امرأة من خَثْعم قالت: يا رسول الله؛ إن أبي أدركته فريضة الحج، وإنه شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم حجي عن أبيك»، من غير استفسار هل حججت أم لا، وهذا الحديث أصح من حديث شبرمة، على أن الدارقطني قال: الصحيح من الرواية: «اجعلها عن نفسك ثم حج عن شبرمة»، قالوا: كيف يأمره بالحج والإحرامُ وقع عن الأول؟
قلنا: يحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام، حين لم يكن الإحرام لازمًا، على ما روي عن بعض الصحابة: أنه تحلل في حجة الوداع من الحج بأفعال العمرة، فكان يمكنه فسخ الأول وتقديم حج نفسه، والزيادات التي رواها البيهقي لم تثبت، اهـ؛ فليحفظ.
(و) كذا (الصوم) وفيه خلاف، فمذهب إمامنا الأعظم: أنه لا يصح الصوم إلا بالنية، وهو لا يخلو إما أن يكون فرضًا أو نفلًا، فإن كان فرضًا فلا يخلو إما أن يكون أداء رمضان أو غيره، فإن كان أداء رمضان؛ فإنَّه يصح بنية متقدمة من غروب الشمس، وبمقارنة، وهو الأصل، وبمتأخرة عن الشروع إلى ما قبل نصف النهار الشرعي، وإن كان غير أداء رمضان من قضاء، أو نذر، أو كفارة؛ فتصح بنية متقدمة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وتصح بنية مقارنة لطلوع الفجر؛ لأنَّ الأصل القِران، كما في «فتاوى الخانية»، وإن كان نفلًا؛ فحكمه حكم أداء رمضان، وتصح نية عبادة في ضمن عبادة أخرى.
قال في «القنية»: نوى في الصلاة المكتوبة أو النافلة الصوم تصح نيته ولا تفسد صلاته، انتهى، وعن إمامنا زفر رحمه الله روايتان: أحدهما: أن أداء رمضان لا يحتاج إلى نية أصلًا، وهو قول عطاء ومجاهد، والثانية: أنه لا بد فيه من النية، وتكفيه النية من أول الشهر فقط، ولا يحتاج أن ينوي كل ليلة.
ونصّ أئمتنا الأعلام على أنَّ قول زفر ضعيف لا يعوَّل عليه، وأنه لا بد في كل يوم من نية؛ كما ذكرنا، غير أنه لا يشترط تعيين الرمضانية في الأداء، حتى لو صام رمضان بنية قضاء، أو نذر عليه، أو تطوع؛ يجزئه عن فرض رمضان أداء؛ لأنَّه معيار لا يسع غير المؤدَّى، بخلاف قضاء رمضان؛ فإنَّه يشترط فيه التعيين.
وقال مالك، والشافعي، وأحمد: لا بد فيه من النية، ويشترط تبييتها من الليل، وتعيين الرمضانية.
(و) كذا (الأحكام) جمع حكم، والمراد بها المعاملات؛ كالبيع، والشراء، والهبة، والوديعة، واللقيط، واللقطة،
%ص 36%
والمناكحات؛ كالنكاح، والطلاق، والعدة، والإجارات، والمخاصمات، والدعاوى، وغيرها، فإنه لا يشترط في جميع ذلك النية، لكن إن نوى؛ يثاب على ذلك العمل، وإن لم ينو [1]؛ لا يثاب ومضى فعله على الصحة.
فنحن لا ندعي أن النية لا توجد في مثل هذه الأشياء، وإنما ندعي عدم اشتراطها، ومؤدي الدين إذا قصد براءة الذمة وذلك عبادة؛ برئت ذمته، وحصل له الثواب، ولا نزاع فيه، وإذا أدى من غير براءة الذمة؛ هل يقول أحد: إن ذمته لم تبرأ؟
(وقال) وفي رواية: (وقال الله تعالى)، وفي رواية: (عز وجل) [2]: ({قُلْ كُلٌّ}) أي: كل أحد، ({يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84])، قال الليث: (الشاكلة من الأمور ما وافق فاعله)، والمعنى: أن كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعمة، واليأس عند الشدة، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، ويدل عليه قوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84]، وقال الزجاج ومجاهد: أي: مذهبه وطريقته، وفسره المؤلف بقوله: (على نيته) وهو مروي عن الحسن البصري، ومعاوية بن قرة المزني، وقتادة، فيما أخرجه عبد بن حميد والطبري عنهم.
(ونفقة الرجل على أهله)؛ زوجته، وأولاده، وكل من تلزمه النفقة عليه، (يحتسبها صدقة) حال كونه مريدًا بها وجه الله تعالى، فـ (يحتسبها) حال متوسطة بين المبتدأ والخبر، وفي رواية: بحذف الواو، وجملة (نفقة ... ) إلخ ساقطة في رواية.
(وقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) في حديث ابن عباس المروي عند المؤلف، ولفظه: «لا هجرة بعد الفتح» (ولكن) طلب الخير (جهاد ونية) «وإذا استُنفرتم؛ فانفروا»، أخرجه هنا معلقًا، وأخرجه مسندًا في (الحج)، و (الجهاد)، و (الجزية).
==========
[1] في الأصل: (ينوي).
[2] في الأصل تأخر قوله: (وفي رواية عز وجل) عن قوله الآتي: ({قُلْ كُلٌّ}).
==================
[1] في الأصل: (ينوي).
[1] في الأصل: (ينوي).
(1/107)
[حديث: الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى]
54# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميمين واللام، (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا)، (مالك)؛ هو ابن أنس، (عن يحيى بن سعيد)؛ هو الأنصاري، (عن محمد بن إبراهيم)؛ هو ابن الحارث التيمي، (عن علقمة بن وقَّاص)؛ بتشديد القاف: الليثي، (عن عمر)؛ هو ابن الخطاب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأعمال) الصادرة من المكلفين تكمُل ويثاب عليها، (بالنية) بالإفراد وحذف (إنما)، فإن لم ينو [1] فيها؛ تكون غير كاملة ولا يثاب عليها؛ لأنَّ الكمال والثواب منوط بالنية، وتقدير الكمال والثواب هو المطَّرد، ولأنه متفق عليه، وهذه الصيغة لا تفيد الحصر؛ لأنها غير محصورة بـ (إنما)، على أن الصيغة المصدرة بـ (إنما) اختلف فيها هل تفيد الحصر أم لا؟ فهذه عدم إفادتها الحصر بالأَولى، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: كاملة ومثاب عليها.
وما قيل: إن الأحسن تقدير صحيحة أو مجزئة؛ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل عليه، ولو سُلِّم فيلزم منه نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو لا يجوز، فتقدير الكمال أحسن وأولى؛ فافهم.
(ولكل امرئ ما نوى)؛ أي: الذي نواه إذا كان المحل قابلًا؛ كما تقدم، (فمن كانت هجرته)؛ بكسر الهاء: خروجه من أرض إلى أخرى (إلى الله ورسوله) نية وعقدًا (فهجرته إلى الله ورسوله) حكمًا وشرعًا، وإنَّما أبرز الضمير؛ لقصد الاستلذاذ بذكره تعالى ورسوله عليه السلام، (ومن كانت هجرته لدنيا) وفي رواية: (إلى دنيا) (يصيبها) يحصِّلها (أو امرأة يتزوَّجها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه)؛ أي: إلى ما ذكر.
فإن قلت: قد استعمل (دنيا) بالتأنيث مع كونه منكَّرًا، وأجيب: بأن (دنيا) جعلت عن الوصفية غالبًا، وأجريت مجرى ما لم يكن قط وصفًا مما وزنه: (فُعْلى) كرجعى وبهمى، فلهذا ساغ فيها ذلك، ومراد المؤلف بهذا الحديث الرد على المرجئة؛ حيث قالوا: إن الإيمان قول باللسان دون عقد القلب، والجملة الأولى سقطت عند المؤلف من رواية الحميدي أول الكتاب، فذكر في كل باب ما يناسبه.
==================
(1/108)
[حديث: إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة]
55# وبه قال: (حدثنا حجاج بن مِنهال)؛ بكسر الميم، وفي رواية: بالتصريف فيهما، وفي أخرى: بتنكير الأول وتعريف الثاني، أبو محمد الأَنْماطي؛ بفتح الهمزة وسكون النون، نسبة إلى الأنماط؛ ضرب من البسط، السُّلَمي؛ بضم المهملة وفتح اللام، المتوفى بالبصرة سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومئتين.
(قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (قال: أخبرني) بالإفراد (عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي، المتوفى سنة ست عشرة ومئة، (قال: سمعت عبد الله بن يزيد) بن حصين الأنصاري الخَطْمي؛ بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة، المتوفى زمن ابن الزبير، (عن ابن مسعود) عقبة بن عمرو؛ بفتح العين وسكون الميم، ابن ثعلبة الأنصاري، الخزرجي، البدري، المتوفى بالكوفة قبل الأربعين، سنة إحدى وثلاثين، أو اثنين وأربعين.
(عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنفق الرجل) ومثله المرأة نفقة من دراهم أو غيرها، (على أهله)؛ زوجته، وولده، ومَن تجب نفقته عليه حال كون الرجل والمرأة (يحتسبها)؛ أي: يريد بها وجه الله (فهو)؛ أي: الإنفاق، وفي رواية: (فهي)؛ أي: النفقة، (له صدقة)؛ أي: كالصدقة في الثواب، لا حقيقة، وإلا حرمت على الهاشمي والمطلبي، والصارف له عن الحقيقة الإجماع، وإطلاق الصدقة على النفقة مجاز، أو المراد بها الثواب، كما علمت.
فالتشبيه واقع على أصل الثواب لا في الكمية ولا في الكيفية، وأفاد أن الثواب في الإنفاق إنَّما يحصل بقصد القربة، سواء كانت واجبة أم مباحة، وأنَّ مَن لم يقصد القربة؛ لم يحصّل الثواب الكامل، وأنَّ براءة ذمته من النفقة الواجبة عليه، وحذف المعمول؛ ليفيد العموم؛ أي: أيَّ نفقة كانت كثيرة أم قليلة؛ كذا قرره في «عمدة القاري».
==========
%ص 37%
==================
(1/109)
[حديث: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها]
56# وبه قال: (حدثنا الحَكَم)؛ بفتح الكاف، هو أبو اليمان، (ابن نافع قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة القرشي، (عن الزهري) أبي بكر محمد بن شهاب، (قال: حدثني) بالإفراد، (عامر بن سعْد)؛ بسكون العين، (عن سعد بن أبي وقَّاص)؛ بتشديد القاف: المدني أحد العشرة، (أنه أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) مخاطبًا لكلِّ مَن يصحُّ منه الإنفاق: (إنك) ظاهره الخطاب لسعد، (لن تنفق نفقة) قليلة أو كثيرة، (تبتغي)؛ أي: تطلب، (بها وجه الله) تعالى؛ أي: ذاته بإخلاص وطيب نفس من غير رياء، ولا سمعة، ولا مَنٍّ، و (الباء) في (بها) للمقابلة، أو بمعنى (على)، ووقع في بعض النسخ: (عليها) بدل (بها)، أو للسببية؛ أي: لن تنفق نفقة تبتغي بسببها وجه الله تعالى (إلا) نفقة (أُجرت عليها)؛ بضمِّ الهمزة وكسر الجيم، وفي رواية: (إلَّا أجرت بها).
(حتى) ابتدائية (ما تجعل)؛ أي: الذي تجعله، مبتدأ، (في فم امرأتك) والخبر محذوف تقديره: فأنت مأجور فيه، وما ذكره ابن حجر: من أنَّ (حتى) هنا عاطفة، وما بعدها منصوب المحل، ردَّه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، وفي رواية: (في فِي امرأتك) وهي رواية الأكثرين؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني.
وقال القاضي عياض: حذف الميم هو الصواب، وبالميم لغة قليلة، والمستثنى محذوف؛ كما علمت؛ لأنَّ الفعل لا يقع مستثنى، والتقدير: لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلَّا نفقة أُجرت عليها، ويكون (أُجرت عليها) صفة للمستثنى، والمعنى على هذا؛ لأنَّ النفقة التي يثاب عليها؛ التي تكون ابتغاء وجه الله تعالى، وإلَّا لا يثاب عليها الثواب الكامل.
والاستثناء متَّصل؛ لأنَّه من الجنس، والتنكير في (نفقة) في سياق النفي، فيعم القليل والكثير، والخطاب للعموم، كذا قرره في «عمدة القاري».
والمرائي بعمل الواجب غير مثاب وإن سقط عقابه بفعله، كذا قاله البرماوي كالكرماني، واعترضهما الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن سقوط العقاب مطلقًا غير صحيح؛ بل الصحيح التفصيل فيه؛ وهو أن العقاب الذي يترتب على ترك الواجب يسقط؛ لأنَّه أتى بعين الواجب، ولكنه كان مأمورًا أن يأتي بما عليه بالإخلاص وترك الرياء، فينبغي أن يعاقب على ترك الإخلاص؛ لأنَّه مأمور به، وتارك المأمور به يعاقب.
قلت: وهو وجيه، وإنما خص المرأة بالذكر؛ لأنَّ عود منفعتها إلى المنفق الزوج، ومع ذلك فله الثواب، فغيرها يثاب عليه من باب أولى، هذا الحديث قطعة من حديث طويل، أخرجه المؤلف في (الجنائز) وغيرها، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
==========
%ص 37%
==================
(1/110)
(42) [باب قول النبي: الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين]
هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) مبتدأ، وخبر، ومضاف، (الدين النصيحة)؛ أي: عماد الدين أن يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، (لله) تعالى ظاهرًا وباطنًا، لا خوفًا من ناره ولا طمعًا في جنته، مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، و (اللام) في (لله) صلة؛ لأنَّ الفصيح أن يقال: نصح له، (و) النصيحة (لرسوله) عليه السلام بأن يصدِّق برسالته، ويؤمن بجميع ما جاء به، ويمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نَهى عنه.
(و) النصيحة (لأئمَّة المسلمين) بإعانتهم على الحقِّ وكفِّهم عن الباطل، وأمَّا أئمَّة الاجتهاد؛ فتقليدهم في الأحكام، وإظهار علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم، (و) نصيحة (عامتهم) بإرشادهم في آخرتهم ودنياهم، وكفَّ الأذى عنهم، وتعليم ما جهلوا فيه، وإنَّما ترك اللام فيه؛ لأنَّهم كالاتباع للأئمَّة لا استقلال لهم، وإعادة اللام تدل على الاستقلال.
وهذا الحديث وصله مسلم عن تميم الداري، وزاد فيه: (النصيحة لكتاب الله)، وذلك بتعلُّمِه وتعليمه، وإقامة حروفه، والإيمان بأنه كلام الله، وتنزيهه، والتصديق بما فيه، والتسليم لمشابهه، وإقامة حدوده.
وإنَّما لم يذكره المؤلف مسندًا وذكره ترجمة؛ لكونه ليس على شرطه؛ لأنَّ راويه تميم، وأشهر طرقه فيه سُهيل بن أبي صالح؛ وهو منسوب إلى النسيان وسوء الحفظ، والله أعلم.
%ص 37%
(وقوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل)، وفي أخرى: (وقول الله في سورة براءة): ({إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}) [التوبة: 91] بالإيمان بهما وإطاعتهما في السر والعلانية.
==================
(1/111)
[حديث: بايعت رسول الله على إقام الصلاة]
57# وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد): هو ابن مُسرهِد، (قال: حدثنا يحيى): هو ابن سعيد القطان، (عن إسماعيل) بن أبي خالد البَجَلي التابعي، (قال: حدثني) بالإفراد (قيس بن أبي حازم)؛ بالحاء المهملة والزاي المعجمة، البَجَلي؛ بفتح الموحدة والجيم، نسبة إلى بَجيلة بنت صعب، الكوفي التابعي المخضرم، المتوفى سنة أربع وثمانين أو ثمان وتسعين، (عن جرير بن عبد الله) بن جابر البَجَلي الأحمسي؛ بالحاء والسين المهملتين، المتوفى سنة إحدى وخمسين، (قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عاهدته وعاقدته، وكان قُدُومه عليه سنة عشر في رمضان، وأسلم، وبايعه (على إقام الصلاة)؛ أي: أدائها على وجهها، (وإيتاء)؛ أي: إعطاء (الزكاة و) على (النصح لكل مسلم) ومسلمة.
وفيه تسمية النصح دينًا وإسلامًا؛ لأنَّ الدين يقع على العمل كما يقع على القول، وهو فرض كفاية على قدر الطاقة إذا علم أنه يقبل نصحه ويأمن على نفسه المكروه، فإن خشي؛ فهو في سعة، فيجب على من علم بالمبيع عيبًا أن يُبيِّنه بائعًا كان أو أجنبيًا، وعلى أن ينصح نفسه بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وحذف التاء من (إقامة)؛ تعويضًا عنها بالمضاف إليه، ولم يذكر الصوم وغيره؛ لدخوله في السمع والطاعة في الرواية الأخرى؛ فافهم.
==================
(1/112)
[حديث: أما بعد أتيت النبي قلت أبايعك على الإسلام]
58# وبه قال: (حدثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السَّدوسي؛ بفتح السين الأولى، نسبة إلى سدوس بن شيبان البصري، المعروف بعارم؛ بمهملتين، المختلط بأخرة، المتوفى بالبصرة سنة أربع عشرة ومئتين، والعارم: الشرير المفسد، فهو لقب رديء (قال: حدثنا أبو عوانة)؛ بفتح العين والنون: الوضاح اليشكري، (عن زياد بن عِلاقة)؛ بكسر العين المهملة وبالقاف: ابن مالك الثعلبي؛ بالمثلثة والمهملة، الكوفي، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئة (قال: سمعت جرير بن عبد الله) البَجَلي الأحمسي السابق آنفًا رضي الله عنه؛ أي: سمعت كلامه؛ فالمسموع هو الصوت والحروف، فلما حذف هذا؛ وقع ما بعده تفسيرًا له، وهو قوله: (يقول يومَ)؛ بالنصب على الظرفية، أضيف إلى الجملة؛ أعني: قوله: (مات المغيرة بن شعبة) سنة خمسين من الهجرة، وكان واليًا على الكوفة في خلافة معاويةَ كاتبِ الوحي، واستناب عند موته ولده عروة، وقيل: استناب جريرًا ولذا خطب، وقد (قام) على المنبر (فحمِد الله)؛ أي: أثنى عليه بالجميل، وجملة (قام) استئنافية لا محل لها، (وأثنى عليه)؛ أي: ذكره بالخير، ويَحتمل أن يُراد بـ (الحمد) وصفه متحليًا بالكمالات، وبـ (الثناء) وصفه متخليًا عن النقائص، فالأول إشارة إلى الصفات الوجودية، والثاني إلى الصفات العدمية؛ أي: التنزيهات؛ كذا في «عمدة القاري»، (وقال: عليكم باتقاء الله) اسم فعل؛ بمعنى: الزموا اتقاء الله (وحده)؛ أي: حال كونه منفردًا (لا شريك له) في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، (والوَقارِ)؛ أي: الرزانة؛ بفتح الواو: مجرور بالعطف على (اتقاء)؛ أي: وعليكم بالوقار (والسكينة)؛ أي: السكون، وإنَّما أمرهم بذلك؛ لأنَّ الغالب أنَّ وفاة الأمراء يؤدي إلى الفتنة، والهرج، والاضطراب، والمرج (حتى يأتيكم أمير) بدل أميركم المغيرة المتوفى، (فإنما يأتيكم الآنَ)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: المدة القريبة من الآن، فيكون الأمير زيادًا؛ إذ ولَّاه معاوية بعد وفاة المغيرة بالكوفة، أو المراد: الآن حقيقةً، فيكون الأمير جريرًا بنفسه؛ لما روي: أنَّ المغيرة استخلف جريرًا على الكوفة عند موته؛ على ما ذكرنا، كذا في «عمدة القاري»، و (حتى) للغاية، والفعل بعدها منصوب بـ (أن) مقدرة بعد (حتى)، ومفهوم الغاية من (حتى) هنا _وهو أنَّ المأمور به وهو الاتقاء_ ينتهي بمجيء الأمير ليس مرادًا؛ بل يلزم عند مجيء الأمير بالطريق الأولى، وشرط اعتبار مفهوم المخالفة ألَّا يعارضه مفهوم الموافقة، انتهى، «قسطلاني» بزيادة.
(ثم قال) جرير: (استعفوا)؛ بالعين المهملة؛ أي: اطلبوا العفو (لأميركم) المتوفى من الله تعالى، (فإنه)؛ أي: الأمير، و (الفاء) للتعليل (كان يحب العفو) عن ذنوب الناس، فالجزاء من جنس العمل، وفي رواية: (استغفروا لأميركم)؛ بغين معجمة؛ أي: اطلبوا الغفران له من الله، (ثم قال: أما بعدُ)؛ بالبناء على الضم: ظرف زمان حذف منه المضاف إليه ونوي معناه، وفيه معنى الشرط، تلزم الفاء في تاليه، والتقدير: أمَّا بعد كلامي هذا؛ (فإنِّي أتيت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قلت) وإنما لم يأت بأداة العطف؛ لأنَّ الجملة من الفعل والفاعل بدل من (أتيت) أو هي استئناف، وفي رواية: (فقلت له): (يا رسول الله؛ أبايعك على الإسلام، فشَرَطَ) عليه السلام (عليَّ)؛ بتشديد المثناة؛ أي: الإسلام (والنصحِ)؛ بالجرِّ عطفًا على قوله: (الإسلام)، وبالنصب عطفًا على المقدر؛ أي: شَرَطَ عليَّ الإسلام وشَرَطَ النصح (لكل مسلم) ومسلمة، وذمي؛ بدُعائه إلى الإسلام وإرشاده إلى الصواب إذا استشار، فالتقييد بـ (المسلم) أغلبي، (فبايعته على هذا) المذكور من الإسلام والنصح، (ورب هذا المسجد)؛ أي: مسجد الكوفة إن كانت خطبته ثَمَّ، أو أشار به إلى المسجد الحرام، ويؤيِّده ما في «الطبراني» بلفظ: (ورب الكعبة)؛ تنبيهًا على شرف المقسم به؛ ليكون أقرب إلى المطلوب، كذا في «عمدة القاري»، قلت: لكن ظاهر السياق يدل على أنه كان في مسجد الكوفة؛ فتأمل، (إني لناصح لكم) فيه إشارة إلى أنَّه وفَّى بما بايع به النبي عليه السلام، وأنَّ كلامه عارٍ عن الأغراض النفسانية، والجملة جواب القسم مؤكد بـ (أن) واللام، والجملة اسمية.
(ثم استغفر) الله تعالى (ونزل) عن المنبر، أو معناه: قعد؛ لأنَّه في مقابلة قام، كذا في «عمدة القاري»، قلت: والظاهر الأول؛ لأنَّ النزول لا يستعمل بمعنى القعود وإن كان يطلق عليه لغة؛ فافهم، والله أعلم.
اللهم إنِّي أسألك بجاه حبيبك ونبينا محمد وبقدوتنا الإمام الأعظم عليهما الصلاة والسلام أن تمُنَّ علينا بالعلم والعمل، اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، ودخول الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين.
==========
%ص 38%
==================
(1/113)
((3)) [كتاب العلم]
هذا (كتاب العلم)؛ أي: في بيان ما يتعلق به، وقدَّمه على غيره؛ لأنَّ مدار تلك الكتب كلِّها على العلم، وهو مصدر (علمت وأعلم علمًا)؛ نقيض الجهل، وهو إدراك الكليات، والمعرفة: إدراك الجزئيات، فلا يجوز أن يقال: الله عارف كما يقال: عالم، واختُلف في حدِّه؛ فقيل: إنه لا يُحدُّ؛ لعسر تحديده، وقيل: لا يُحدُّ؛ لأنَّه ضروري؛ إذ لو لم يكن ضروريًّا؛ لزم الدور، واللازم باطل، فالملزوم مثله، وقيل: إنه يُحدُّ؛ واختُلف في حدِّه؛ والأصحُّ: أنَّه صفة من صفات النفس توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض في الأمور المعنوية، فقوله: (صفة) جنس؛ لتناوله لجميع صفات [1] النفس، وقوله: (يوجب تمييزًا) احتراز عما لا يوجب تمييزًا كالحياة، وقوله: (لا يحتمل النقيض) احتراز عن مثل الظن، وقوله: (في الأمور المعنوية) يخرج إدراك الحواس؛ لأنَّ إدراكها في الأمور الظاهرة المحسوسة، كذا قرره في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل (الصفات)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 38%
==================
(1/114)
(1) [باب فضل العلم]
(بسم الله الرحمن الرحيم) وفي رواية: ثبوتها قبل (كتاب).
(باب فضل العلم) وإنما قال: (فضل العلم)، ولم يقل: فضل العلماء؛ لأنَّ بيان فضل العلم يستلزم بيان فضل العلماء؛ لأنَّ العلم صفة قائمة بالعالم، فذِكْر بيان فضل الصفة يستلزم بيان فضل من هي قائمة به.
(وقول الله تعالى)؛ بالجرِّ عطفًا على المضاف إليه، إمَّا (فضل العلم) أو على (العلم) في (كتاب العلم) بناء على إثبات الباب وحذفه، وقال ابن حجر: ضبطناه في الأصول بالرفع على الاستئناف، قلت: هذا ليس بشيء، كما لا يخفى على أنه قد رده الشيخ الإمام بدر الدين العيني بما يطول، إلى أن قال: فتعين بطلان دعوى الرفع؛ فليحفظ: ({يَرْفَعِ})؛ بالكسر في الفرع والتلاوة؛ للساكنين ({اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}) بالنصر وعلوِّ الكلمة، ودخول الجنة في الآخرة ({وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ})؛ منصوب بالكسرة، مفعول {يَرْفَعِ}؛ أي: ويرفع العلماء منكم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل، قال ابن عباس: درجات العلماء فوق المؤمنين بسبع مئة درجة، ما بين الدرجتين خمس مئة عام، ({وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}) [المجادلة: 11] تهديد لمن لم يمتثل الأمر أو استكرهه.
(وقوله) عز وجل: ({رَّبِّ}) وللأصيلي: {وقل رب}، ({زِدْنِي عِلْمًا}) [طه: 114]؛ أي: سَلْهُ الزيادة منه؛ أي: بالقرآن؛ لأنَّه عليه السلام كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد به علمًا، وإنما اقتصر على هاتين [1] الآيتين في الاستدلال لما ترجم له؛ إمَّا لأنَّ القرآن العظيم أعظم الأدلة، أو لأنَّه لم يقع له حديث من هذا النوع على شرطه؛ لأنَّه أوَّلًا كان يكتب الأبواب والتراجم ثم يلحق فيها ما يناسبها من الأحاديث التي على شرطه، ولو لم يكن من فضيلة العلم وأهله إلَّا آية {شَهِدَ اللهُ} [آل عمران: 18] فبدأ الله
%ص 38%
تعالى بنفسه، ثم ثنَّى بملائكته، وثلَّث بأهل العلم؛ لكفى.
وفي الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء»، وغاية العلم العمل، والعالم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر، فمن عمل به سَعِدَ في الدنيا والآخرة.
==========
[1] في الأصل (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/115)
(2) [باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه]
هذا (باب) مضاف إلى (مَن) الموصولة (سُئِل) على صيغة المجهول؛ بضم السين وكسر الهمزة: جملة من الفعل والمفعول النائب عن الفاعل، صلةٌ لها (عِلمًا) بالنصب مفعولٌ ثان، (وهو مشتغلٌ في حديثه) جملة وقعت حالًا من الضمير، (فأتمَّ الحديثَ، ثُمَّ أجاب السائل) عطفه بـ (ثم)؛ لأنَّ السؤال حصل عقيب الاشتغال بالحديث، والجوابُ بعد الفراغ منه.
==========
%ص 39%
==================
(1/116)
[حديث: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة]
59# وبه قال: (حدثنا محمد بن سِنان)؛ بكسر السين المهملة وبالنونين: أبو بكر الباهلي البصري، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومئتين (قال: حدثنا فُلَيح)؛ بضم الفاء، وفتح اللام، وسكون المثناة التحتية، آخره حاء مهملة، وهو لقبه، واسمه عبد الملك، وكنيته أبو يحيى، ابن سليمان الخزاعي المدني، المتوفى سنة ثمان وستين ومئة.
(ح) للتحويل، قال المؤلف: (وحدثني) بالإفراد، وفي رواية: (قال: وحدثنا) (إبراهيم بن المنذر) القرشي الحزامي المدني، أبو إسحاق، المتوفى سنة ست أو خمس وثلاثين بالمدينة (قال: حدثنا محمد بن فليح) المذكور، المتوفى سنة سبع وتسعين ومئة (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: (حدثنا) (أبي) هو فُليح المذكور (قال: حدثني) بالإفراد (هلال بن علي) ويقال له: هلال بن أبي ميمون، وهلال بن أبي هلال، وهلال ابن أسامة؛ نسبة إلى جده، وقد يُظَنُّ أنَّهم أربعة، والكلُّ واحدٌ، الفهري القرشي المدني، المتوفى في آخر خلافة هشام، كذا في «عمدة القاري»، (عن عطاء بن يسار) مولى ميمونة بنت الحارث، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه أنه (قال: بينما) أصله (بين) فزيدت عليه (ما)، وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في مجلس) حال كونه (يحدِّث القوم) الجملة من الفعل والفاعل والمفعول خبر عن المبتدأ؛ وهو (النبي)، و (القوم): الرجال دون النساء وتدخلن تَبَعًا، وجمعه: أقوام، وجمع الجمع: أقاوم، والمفعول الثاني محذوف؛ أي: الحديث؛ (جاءه)؛ أي: النبي عليه السلام (أعرابي) منسوب إلى الأعراب؛ بفتح الهمزة: سكَّان البادية، لا واحد له من لفظه، قال في «عمدة القاري»: ولم يُعرف اسم هذا الأعرابي، قلت: قيل: إنَّ اسمه رُفيع؛ فتأمَّل، وفيه استعمال (بينما) بدون (إذ) و (إذا)؛ وهو فصيح، انتهى، (فقال: متى الساعة؟) استفهام عن الوقت التي تقوم فيه القيامة، وسميت بذلك؛ لأنَّها تَفْجَأ الناس في ساعة، فيموت [1] الخلق كلهم بصيحة واحدة، و (الساعة): القيامة، وأصلها (سوعة)، قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها.
(فمضى) أي: اشتغل (رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث)؛ أي: القوم، وفي رواية: (يحدثه) بالهاء؛ أي: يحدث القوم الحديث الذي كان فيه، فلا يعود الضمير المنصوب على الأعرابي، وفي رواية: (بحديثه)، (فقال بعض القوم: سمع) عليه السلام (ما) أي: الذي (قال)؛ أي: قاله الأعرابي، (فكره) عليه السلام (ما) أي: الذي (قال)؛ أي: قاله الأعرابي، فحذف العائد، والجملة مفعول (سمع)، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية؛ أي: سمع قوله، (وقال بعضهم: بل لم يسمع) النبي عليه السلام قوله، و (بل) حرف للإضراب، وَلِيَها هنا جملة؛ أعني قوله: (لم يسمع)؛ فكان الإضراب بمعنى الإبطال، والجملة اعتراض بين (فمضى) وبين قوله: (حتى إذا قضى)؛ أي: كمَّل وتمَّم عليه السلام (حديثَه)، وقوله: (حتى إذا) يتعلَّق بقوله: (فمضى يحدِّث) لا بقوله: (لم يسمع)، وإنَّما لم يجبه عليه السلام؛ لأنَّه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها، أو كان ينتظر الوحي، أو كان مشغولًا بجواب سائل آخر، ويؤخذ منه أنه ينبغي للعالم، أو القاضي، أو المفتي رعاية تقدم الأسبق فالأسبق في السؤال.
(قال) عليه السلام: (أين أُراه)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: أظن أنَّه قال: أين (السائل)؛ بالرفع مبتدأ مؤخر، خبره (أين) مقدمًا، و (أُراه) معترضة بين المبتدأ وخبره، وقول ابن حجر: إنَّه مرفوع على الحكاية، خطَّأه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (عن الساعة)؛ أي: عن زمانها، والشكُّ من محمد بن فُليح، و (أين) سؤال عن المكان، بُنِيَ؛ لتضمُّنه حرف الاستفهام، (قال) الأعرابي: (ها أنا) السائل (يا رسول الله)، فالسائل المقدر خبر المبتدأ الذي هو (أنا)، و (ها) بالمد: حرف تنبيه، (قال) عليه السلام: (إذا ضُيِّعت الأمانة) (إذا) تتضمن معنى الشرط، ولذا جاء جوابها بالفاء وهو قوله: (فانتظر الساعة، قال) الأعرابي: (كيف إضاعتُها)؛ أي: الأمانة يا رسول الله؟ (قال) عليه السلام مجيبًا له: (إذا وُسِّد)؛ بضم الواو مع تشديد السين؛ أي: فُوِّض وأُسْنِد (الأمرُ) المتعلِّق بالدين كالخلافة، والقضاء، والإفتاء (إلى غير أهله)؛ أي: بولاية غير أهل الدين والأمانات؛ لغلبة الجهل وضعف أهل الحق عن القيام به؛ (فانتظر الساعة) (الفاء) للتفريع أو جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كان الأمر كذلك؛ فانتظر الساعة، وليست هي جواب (إذا) التي في قوله: (إذا وُسِّد)؛ لأنَّها لا تتضمَّن ههنا معنى الشرط، وإنَّما قال: (إلى غير أهله) ولم يقل: لغير أهله؛ ليدل على معنى تضمين الإسناد.
وفيه أنَّ الأئمة إذا قَلَّدوا الأمر لغير أهل الدين؛ فقد ضيَّعوا الأمانات؛ لأنَّ الله ائتمنهم على عباده وفرض عليهم النصح، وفيه أنَّ الساعة لا تقوم حتى يؤتمن الخائن، وفيه وجوب تعليم السائل ومراجعة العالم عند عدم فهم السائل، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل (فتموت)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 39%
==================
(1/117)
(3) [باب من رفع صوته بالعلم]
هذا (باب) مضاف إلى (مَن) الموصولة (رَفَعَ صوتَه بالعلم) جملة، صلتها؛ أي: من رفع صوته بكلام يدل على العلم، فهو من باب إطلاق اسم المدلول على الدال، وإلَّا فالعلم صفة معنوية لا يتصور رفع الصوت به، أفاده في «عمدة القاري»؛ فافهم.
==========
%ص 39%
==================
(1/118)
[حديث: تخلف عنَّا النبي في سفرة سافرناها فأدركنا]
60# وبه قال: (حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل) واسمه محمد، وعارم لقبه، السدوسي البصري، المتوفى سنة ثلاث أو أربع وعشرين ومئتين، وسقط في رواية: (عارم بن الفضل)، وعليها شَرَحَ إمامُنا الشيخ بدر الدين العيني (قال: حدثنا أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة: الوضاح اليشكري، (عن أبي بِشْر)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة: جعفر بن إياس اليشكري المعروف بابن أبي وحشية، الواسطي، وقيل: البصري، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئة، (عن يوسف)؛ بتثليث السين المهملة مع الهمز وتركه، (بن ماهَك)؛ بفتح الهاء، غير منصرف؛ للعلمية والعجمة، لأنَّه بالفارسية تصغير (ماه)؛ وهو القمر بالعربي، وقاعدتهم إذا صغروا الاسم؛ جعلوا في آخره الكاف، وفي رواية بالصرف، فلوحظ فيه معنى الصفة؛ لأنَّ التصغير من الصفات، فيصير الاسم بعلَّة واحدة؛ وهي غير مانعة، ورُوي بكسر الهاء مصروفًا، اسم فاعل من (مهكتَ الشيء مهكًا)؛ إذا بالغتَ في سحقه، وعلى قول الدارقطني: إن ماهك اسم أمه، يتعيَّن عدم صرفه؛ للعلمية والتأنيث، لكن الأكثرون على خلافه، وأنَّ اسمها مُسيكة ابنة بُهْز؛ بضم الموحدة، وسكون الهاء، وبالزاي، الفارسي المكي، المتوفى سنة ثلاث عشرة ومئة، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(عن عبد الله بن عَمرو)؛ بفتح العين؛ هو ابن العاصي رضي الله عنهما (قال: تخلَّف)؛ بتشديد اللام؛ أي: تأخَّر خلفنا (النبي) الأعظم، وفي رواية: (تخلَّف عنا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في سَفرة) بفتح السين المهملة (سافرناها) من مكة إلى المدينة؛ كما في «مسلم»، (فأدركَنا)؛ بفتح الكاف؛ أي: لحق بنا النبي عليه السلام، (وقد أرهقتنا) بتأنيث الفعل؛ أي: غشيتنا (الصلاةُ) وقتها، أو حملتنا الصلاة أدائها، أو أعجلتنا لضيق وقتها، و (الصلاة) بالرفع فاعل، وروي: (أَرْهَقْنا) بالتذكير وسكون القاف؛ لأنَّ تأنيث (الصلاة) غير حقيقي، و (الصلاةَ) بالنصب مفعول؛ أي: أخرناها، و (نا) ضمير رفع، وفي الرواية الأولى: ضمير نصب، وهذه الصلاة هي صلاة العصر؛ كما في «مسلم»،ى (ونحن نتوضأ) جملة اسمية وقعت حالًا، (فجعلنا) من أفعال المقاربة، ويستعمل استعمال (كاد)؛ أي: كِدْنا (نمسح)؛ أي: نغسل غسلًا خفيفًا؛ أي: مبقعًا حتى يُرى كأنَّه مسح؛ كذا حققه في «عمدة القاري»، (على أرجلنا) جمع رِجل؛ لمقابلة الجمع، وإلَّا فليس لكلٍّ إلَّا رجلان، لا يقال: إنَّه يلزم أن يكون لكلِّ واحدٍ رجلٌ واحدة؛ لأنَّ المراد جنس الرِّجْل سواء كانت واحدة أو ثنتين، (فنادى) عليه السلام (بأعلى صوته: ويلٌ) بالرفع على الابتداء؛ وهي كلمة عذاب وهلاك، وقيل: إنه اسمُ وادٍ في جهنم، وقيل: صديد أهل النار، والتحقيق الأول؛ فليحفظ (للأعقاب) جمع عقب؛ وهو المستأخر الذي يُمسك شِراكَ النعل؛ أي: ويل لأصحاب الأعقاب المقصِّرين في غسلها، أو العقب هي المخصوصة بالعقوبة، وتمامه في «عمدة القاري» (من النار) قالها (مرتين أو ثلاثًا) شكٌّ من ابن عَمرو، و (أل) للعهد، والمراد: الأعقاب التي رآها لم ينلها المطهر، أو للجنس، فيكون المراد: كلَّ عقب لم يعمها الماء.
وإنَّما أخَّرت الصحابة الصلاة عن الوقت المستحب؛ محافظةً وطمعًا أن يصلُّوها مع النبي عليه السلام، وفيه دليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وفيه وجوب تعميم الأعضاء بالمطهر، وأن الجسد يعذب، وجواز رفع الصوت في المناظرة بالعلم، وفيه أن العالم ينكر ما يرى من التضييع للفرائض والسنن ويغلظ القول في ذلك، ويرفع صوته للإنكار، وغير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وأولادًا كثيرة، يا أرحم الراحمين.
%ص 39%
==================
(1/119)
(4) [باب قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا]
هذا (باب قول المحدِّث) اللغوي؛ وهو الذي يحدِّث غيرَه، لا الاصطلاحي؛ وهو الذي يشتغل بالحديث النبوي: (حدثنا أو أخبرنا) وفي رواية: (وأخبرنا)، (وأنبأنا)، هل فيه فرقٌ أم الكلُّ واحد؟ وفي رواية: إسقاط (وأنبأنا)، وفي أخرى: إسقاط (وأخبرنا).
(وقال) لنا (الحُمَيْدِي)؛ بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، فياءُ تصغير، وياء نسبة: أبو بكر عبد الله بن الزبير، القرشي الأسدي المكي: (كان ابن عُيَيْنَة)؛ بضم العين المهملة، ومثناتين تحتيتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، وفتحِ النون: سفيان، وفي رواية: (وقال لنا الحميدي): («حدثنا» و «أخبرنا» و «أنبأنا» و «سمعتُ» واحدًا)؛ أي: بمعنًى واحد، لا فرقَ بين هذه الألفاظ الأربعة عند المؤلف، زاد القاضي عِياض: (وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان، وأنه لا خلاف [في] ذلك) وإليه مال الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي، وصححه ابن الحاجب، وقال الحاكم: إنه مذهب الأئمة الأربعة، والزهري، ويحيى القطان وغيرهم، وقيل: بالمنع في القراءة على الشيخ إلَّا مقيَّدًا؛ مثل: حدثنا فلان قراءةً عليه، وأخبرنا قراءةً عليه، وقيل: بالمنع في (حدثنا)، وبالجواز في (أخبرنا)، وبه قال الشافعي، ومسلم، وابن جريج، والأوزاعي، والنسائي، وهذا اصطلاح بينهم أرادوا به التمييز بين النوعين، وخصُّوا قراءةَ الشيخ بـ (حدثنا).
وفصَّل المتأخِّرون أنَّه متى سمع وحدَه من الشيخ؛ أفرد فقال: حدثني، أو أخبرني، أو سمعتُ، ومتى سمع مع غيره؛ جَمَعَ فقال: حدثنا أو أخبرنا، ومتى قرأ بنفسه على الشيخ؛ أفرد فقال: أخبرني، وخصُّوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ مَن يخبره، وكله مستحسن، وليس بواجبٍ عندَهم، وتمامه في «عمدة القاري».
(وقال ابن مسعود) عبد الله رضي الله عنه: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق) في نفس الأمر (المصدوق) بالنسبة إلى الله تعالى، أو إلى الناس، أو بالنسبة إلى ما قاله غيره _أي: جبريل_ له، وهذا طرف من حديث وصله المؤلف في (القدر).
(وقال شَقيق)؛ بفتح المعجمة: أبو وائل بن مسلمة الأسدي الكوفي التابعي، (عن عبد الله)؛ أي: ابن مسعود، وإذا أُطلق كان هو المراد من بين العبادلة، كما أنه إذا أُطلق الإمام الأعظم؛ كان المراد به أبا حنيفة النعمان التابعي الجليل، وكذا إذا أُطلق إمام الأئمة كان هو المراد أيضًا، رضي الله عنه؛ فليحفظ.
وقيل لمالك: إمام الأئمة؛ أي: أئمة مذهبه لا إمام المجتهدين؛ لأنَّ إمام المجتهدين على الإطلاق ورئيسهم بلا نزاع إمامنا الأعظم، التابعي الجليل؛ لأنَّه شيخ مالك، ومالك شيخ الشافعي، والشافعي شيخ أحمد ابن حنبل؛ فليحفظ، ولا تغترَّ بقول بعض الناس؛ فإنَّه ناشئ عن تعصبهم وتعنتهم، وإنَّما هذا هو التحقيق؛ فليحفظ.
(سمعتُ النبي) الأعظم، وفي رواية: (سمعت من النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم كلمة) وهذا وصله المؤلف في (الجنائز).
(وقال حذيفة) بن اليمان صاحب سِرِّ رسول الله عليه السلام في المنافقين، العبسي الأنصاري، واسم اليمان حِسْل؛ بكسر الحاء وسكون السين المهملتين، المتوفى بالمدائن سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان رضي الله عنه بأربعين ليلة، ومقول قوله: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين)، وهذا وصله المؤلف في (الرقاق).
فاستدل المؤلف بهذه التعاليق الثلاثة؛ حيث إن الصحابي تارة يقول: حدثنا، وتارة يقول: سمعت، على عدم الفرق بينهما، ثم عطف عليها ثلاثة أخرى فقال: (وقال أبو العالية)؛ بالمهملة والمثناة التحتية: رُفيع؛ بضم الراء وفتح الفاء: ابن مهران؛ بكسر الميم، الرياحي؛ بالمثناة التحتية والحاء المهملة، أسلم بعد موت النبي الأعظم عليه السلام بسنتين، وتوفي سنة تسعين، كذا قاله الكرماني، وتبعه ابن حجر والقسطلاني، وردَّه الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وقال: إنه البرَّاء؛ بتشديد الراء، واسمه زياد بن فيروز البصري القرشي، المتوفى سنة تسعين؛ فافهم، (عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل)، وهذا وصله المؤلف في (التوحيد).
(وقال أنس) بن مالك رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل)، وفي رواية: (فيما يرويه عن ربه)، وفي أخرى: (تبارك وتعالى) بدلًا عن قوله: (عز وجل)، وهذا وصله المؤلف في (التوحيد) أيضًا.
(وقال أبو هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم عز وجل)؛ بكاف الخطاب مع ميم الجمع، وهذا وصله المؤلف في (التوحيد) أيضًا.
واستدل المؤلف بهذه التعاليق الثلاثة على حكم المعنعن، وأن حكمه الوصل عند ثبوت السلامة واللُّقِي، وهو مذهب جمهور المحدِّثين وغيرهم، وردَّه مسلمٌ ولم يشترط ذلك، وعلى أنَّ رواية النبي الأعظم عليه السلام إنَّما هي عن ربه سواء صرح بذلك الصحابي أم لا؛ لأنَّ ابن عباس روى عنه حديثه المذكور في موضع آخر، ولم يذكر فيه عن ربه، ولفظُ الرواية شاملٌ لجميع الأقسام المذكورة، وكذا لفظ العنعنة؛ لاحتماله كلًّا من هذه الألفاظ الثلاثة.
==========
%ص 40%
==================
(1/120)
[حديث: إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها]
61# وبه قال: (حدثنا قتيبة)، وفي رواية: (ابن سعيد) (قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر) هو ابن أبي كثير الأنصاري، (عن عبد الله بن دينار) القرشي العدوي المدني مولى ابن عمر، (عن ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (قال: قال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِنَ الشَّجر)؛ بفتح المعجمة؛ وهو ما كان على ساق من نبات الأرض، والمراد: مِن جنسه (شجرةً) بالنصب اسم (إنَّ)، وخبرها الجار والمجرور، و (مِن) للتبعيض، وقوله: (لا يسقط ورقها) في محل نصب صفة لـ (شجرة)، وهي صفة سلبية تبين أن موصوفها مختصٌّ بها دون غيرها، (وإنَّها)؛ بكسر الهمزة عطف على (إنَّ) الأولى (مَثَلُ المسلم)؛ بفتح الميم والثاء المثلثة معًا، وفي رواية: بكسر الميم وسكون الثاء؛ كـ (شَبَه) و (شِبْه) لفظًا ومعنًى، واستعير (المثل) هنا كاستعارة (الأسد) لـ (المقدام) للحال العجيبة أو الصفة الغريبة، كأنَّه قال: حال المسلم العجيب الشأن كحال النخلة، أو صفته الغريبة كصفتها، فـ (المسلم) هو المشبَّه و (النخلة) هي المشبَّه بها، وقوله: (فحدِّثوني) فعل أمر؛ أي: إنْ عرفتموها؛ فحدِّثوني (ما هي) مبتدأ وخبر، والجملة سدتْ مسدَّ مفعولي التحديث، (فوقع الناس في شجر البوادي) جمع بادية؛ خلاف الحاضرة؛ أي: ذهبت أفكارهم إلى شجر البوادي، وجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع، وذهلوا عن النخلة، وفي رواية: (البواد) بحذف المثناة التحتية، وهي لغة.
(قال عبد الله) بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (ووقع في نفسي) أي: فكري (أنَّها) أي: الشجرة المسؤول عنها (النخلةُ)؛ بالرفع خبر (أن)، وبفتح الهمزة؛ لأنَّها فاعل (وقع)؛ (فاستحييت)، زاد في رواية: (فأردتُ أن أقول: هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم)، وفي أخرى: (فإذا أنا عاشرُ عشرة أنا أحدثهم)، وفي أخرى: (ورأيتُ أبا بكر وعمرَ لا يتكلَّمان، فكرهت أن أتكلم)، وفي أخرى: (قال عبد الله: فحدثتُ أبي بما وقع في نفسي فقال: لإنْ كنتَ قلتَها؛ أحبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا)، زاد في أخرى: (أحسبه قال: حمر النعم).
(ثم قالوا: حدِّثْنا) بكسر الدال المهملة وسكون المثلثة (ما هي يا رسول الله، قال) عليه السلام: (هي النخلة) مبتدأ وخبر، والجملة وقعت مقول القول؛ واحدة النخل، والنخل والنخيل بمعنى واحد، الواحدة: نخلة.
وفي (التفسير): (قال عبد الله: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها، ولا ولا ولا)، ذكر النفي ثلاث مرات على الاكتفاء، وتفسيرُه؛ أي: ولا ينقطع ثمرها، ولا يعدم فيؤها، ولا يبطل نفعها.
وأما وجه الشبه؛ فقد اختلف فيه: فقيل: وجه الشبه: أن النخلة إذا قَطَعتَ رأسها؛ ماتت، بخلاف باقي الشجر، وقيل: لأنها لا تحمل حتى تلقح، وقيل: لأنَّها تموت إذا غرقت أو فسد ما هو كالقلب لها، وقيل: لأنَّ لطلعها رائحة المني، وقيل: لأنَّها تعشق كالإنسان، والصحيح: هو كثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجودها على الدوام، فإنَّه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس، وبعد اليُبس يتخذ منها منافع كثيرة من خشبها، وورقها، وأغصانها، فيستعمل جذوعًا، وحطبًا، وعصيًّا، وحصرًا، وحبالًا، وأواني، وغير ذلك، ثم آخرها نواها ينتفع به علفًا للإبل، ثم جمال ثباتها وحسن ثمرتها، وكلها منافع، وكذلك المؤمن خيرٌ كله؛ من كثرة الطاعات، ومكارم الأخلاق، ومواظبته على صلاته، وصيامه، وذكره، والصدقة، وسائر الطاعات، وإنما كان هذا هو الصحيح؛ لأنَّ التشبيه إنَّما وقع بالمسلم، والأقوال السابقة تشمل المسلم والكافر؛ فهي ضعيفة، والمعتمد هذا، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
%ص 40%
==================
(1/121)
(5) [باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم]
هذا (باب طرحِ)؛ بالجر للإضافة؛ أي: إلقاء (الإمام المسألةَ) بالنصب مفعول المصدر (على أصحابه؛ ليختبر) أي: ليمتحن (ما) أي: الذي (عندهم) من الاختبار؛ وهو الامتحان (من العلم) (من) بيانية.
==================
(1/122)
[حديث: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها]
62# وبالسند إليه قال:
%ص 40%
(حدثنا خالد بن مَخْلد)؛ بفتح الميم وسكون الخاء: أبو الهيثم القَطَواني؛ بفتح القاف والطاء؛ نسبة لموضع بالكوفة، البجلي مولاهم، الكوفي، تُكُلِّم فيه، وقال ابن عدي: لا بأس به، المتوفى في المحرم سنة ثلاث عشرة ومئتينقال: (حدثنا سليمان) بن بلال أبو محمد التيمي القرشي المدني، الفقيه المشهور، وكان بربريًا حسنَ الهيئة، توفي سنة اثنتين وسبعين ومئة في خلافة هارون الرشيد بالمدينةقال: (حدثنا عبد الله بن دينار) القرشي العدوي المدني، (عن) عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن من الشجر) أي: من جنسه (شجرةً) بالنصب، وزاد المؤلف: (قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال: كنا عند النبي عليه السلام فأُتي بجمارة، فقال: إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها) صفة لـ (شجرة) مختصَّة بها دون غيرها، وفي رواية زيادة: (ولا يتحات)، (وإنَّها)؛ بكسر الهمزة، (مِثْل)؛ بكسر الأول وسكون الثاني، وبفتحهما؛ على ما مرَّ؛ أي: شِبْه (المسلم)، وفي رواية: «مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء لا يسقط ورقها ولا يتحات» (حدِّثوني) بدون فاء؛ أي: إن عرفتموها؛ حدثوني (ما هي؟) مبتدأ وخبر (فوقع الناس في شجر البوادي)؛ أي: ذهبت أفكارهم إليها دون النخلة، (قال) عبد الله بن عمر: (فوقع في نفسي)؛ بالفاء، وفي السابقة بالواو، وفي رواية: (فألقى الله في روعي) (أنها النخلة)، وفي رواية: (بينا نحن عند النبي عليه السلام جلوس؛ إذ أُتي بجمار نخلة، فقال عليه السلام: «إنَّ مِنَ الشجر لَمَا بركتُه كبركة المسلم»، فظننتُ أنَّه يعني النخلة، فأردت أن أقول: هي النخلة يا رسول الله، ثم التفت فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم، فسكتُّ)، وفي رواية: (فاستحييت).
(ثم قالوا: حدِّثنا) المراد منه الطلب والسؤال (ما هي يا رسول الله؟)، وفي رواية: (قال: كنا عند رسول الله عليه السلام ذات يوم، فقال: «إنَّ مثل المؤمن كمثل شجرة لا يسقط لها أنملة [1] أتدرون ما هي؟» قالوا: لا. قال: هي النخلة)، زاد في هذه الرواية: «لا يسقط لها أنملة ولا يسقط لمؤمن دعوة»، ووجه الشبه بين النخلة والمسلم؛ من حيث عدم سقوط الورق وعدم سقوط الدعوة، والبركة في كل منهما في جميع الأجزاء.
وفي الحديث استحباب إلقاء العالم المسألة على أصحابه؛ ليختبر أفهامهم، وفيه توقير الكبار وترك التكلم عندهم، واستحباب الحياء ما لم يؤدي إلى تفويت المصلحة، وفيه جواز اللغز مع بيانه، وما رواه أبو داود عن النبي عليه السلام: أنه نهى عن الأغلوطات
_أي: صعاب المسائل_ محمول على ما إذا خرج على سبيل تعنت المسؤول، أو تعجيزه، أو تخجيله، وفيه جواز طلب الأمثال، وفيه أن التشبيه لا عموم له، وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه مَن هو دونه.
وفيه دلالة على فضيلة النخل، قال المفسرون: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} لا إله إلا الله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} هي النخلة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في الأرض {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}؛ أي: رأسها {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ [حِينٍ]} [إبراهيم: 24 - 25]
وقت، فشبه الله الإيمان بالنخلة؛ لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها، وشبه ارتفاع عمله بارتفاع فروعها، وما يكتسبه المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وزمان بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها من الرطب والثمر، وقد ورد ذلك صريحًا فيما رواه البزار عن ابن عمر قال: قرأ رسول الله عليه السلام فذكر هذه الآية، فقال: «أتدرون ما هي؟» قال ابن عمر: لم يَخْفَ عليَّ أنَّها النخلة، فمنعني أن أتكلَّم؛ لمكان سِنِّي، فقال عليه السلام: «هي النخلة»، وروي في حديث مرفوع لكنه لم يثبت: أنَّ النخلة خلقت من بقية طينة آدم عليه السلام، فهي كالعمَّة للأناسيِّ، والله تعالى أعلم.
(1/123)
(6) [باب ما جاء في العلم وقوله تعالى {وقل رب زدنى علمًا}]
(باب ما جاء في العلم وقول الله تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}) [طه: 114]؛ أي: سل الله زيادة، وهذا ساقط في أكثر الروايات، ثابت في رواية.
هذا (باب) في بيان حكم (القراءة والعرض على المحدِّث) متعلِّق بهما على التنازع؛ أي: بأن يقرأ عليه الطالب من حفظه أو كتاب، أو يسمعه عليه بقراءة غيره من كتابٍ أو حفظٍ، والمحدِّثُ حافظٌ للمقروء أو غيرُ حافظ مع تتبُّع أصلِه بنفسه أو ثقة ضابط غيره، واحترز به عن عرض المناولة؛ وهو العاري عن القراءة، وذلك بأنْ يعرض الطالب مرويَّ شيخه اليقظ العارف عليه، فيتأمَّله الشيخ، ثم يعيده عليه ويأذن له في روايته عنه.
(ورأى الحسن) البصري (وسفيان) الثوري (ومالك) بن أنس الإمام (القراءة) على المحدِّث (جائزة) في صحة النقل عنه، وادَّعى القاضي عياض عدم الخلاف في صحة الرواية بها، وروى الحاكم من طريق مطرِّف قال: صحبت مالكًا سبع عشرة سنة، فما رأيتُه قرأ «الموطأ» على أحد؛ بل يقرؤون عليه، وسمعتُه يأبى أشدَّ الإباء على مَن يقول: لا يجزئه إلَّا السماع من لفظ الشيخ، ويقول: كيف لا يجزئك هذا في الحديث ويجزئك في القرآن، والقرآن أعظم؟!
(قال أبو عبد الله) أي: المؤلف: (سمعت أبا عاصم) النبيل (يذكر عن سفيان) الثوري (ومالك) الإمام (أنهما كانا يريان القراءة والسماع جائزًا)، وفي رواية: (جائزة)؛ أي: القراءة؛ لأنَّ السماع لا نزاع فيه، وفي رواية: (حدثنا عُبيد الله بن موسى)؛ بضم العين، (عن سفيان) الثوري (قال: إذا قُرئ) على المحدِّث؛ (فلا بأس أن يقول: حدَّثَني) بالإفراد (وسمعتُ) منه، فالقراءة والسماع سواء.
(واحتجَّ بعضُهم)؛ هو الحميدي شيخ المؤلف (في القراءة على العالم)؛ أي: في صحة النقل عنه (بحديث ضِمام بن ثعلبة)؛ بكسر الضاد المعجمة، وثعلبة؛ بالمثلثة، ثم المهملة، وبعدَ اللام موحدة، وفي رواية: أنَّه (قال للنبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: آللهُ)؛ بهمزة الاستفهام مبتدأ خبره قوله: (أمرك أن)؛ أي: بأنْ (تصلي) بالمثناة الفوقية، وفي رواية: بنون الجمع (الصلوات؟)، وفي رواية: بالإفراد، (قال) عليه السلام: (نعم) أمرنا أن نصلي، (قال) الحميدي: (فهذه قراءة على النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (فهذه قراءة على العالم)؛ (أخبر ضِمام قومه بذلك، فأجازوه)؛ أي: قبلوه منه، وليس المراد الإجازة المصطلحة عليها بين أهل الحديث، لا يقال: إجازة قومه لا حجة فيه؛ لأنَّهم كفرة؛ لأنا نقول: المراد الإجازة بعد الإسلام، أو لأنَّ فيهم مسلمون يومئذ.
فإن قلتَ: قولُه: (أخبر قومه بذلك) ليس في الحديث الذي ساقه المؤلف هنا، فكيف يحتجُّ به؟ قلت: لم يقع في هذا الطريق، وإنما وقع في طريق آخر ذكرها أحمد وغيره من طريق أبي إسحاق قال: حدثني محمد بن الوليد، عن كُريب، عن ابن عباس قال: بعث [بنو] سعد بن بكر [1] ضِمامَ بن ثعلبة ... فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: [أنَّ] ضِمامًا قال لقومه عندما رجع إليهم: إنَّ الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى في ذلك اليوم وفي حاضريهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا.
(واحتج مالك) الإمام (بالصَّكِّ)؛ بفتح المهملة وتشديد الكاف: الكتاب، فارسي معرب، جمعه: أصك وصكاك، والمراد به: المكتوب الذي يكتب فيه إقرار المقر (يُقرأ على القوم)؛ بضم المثناة التحتية مبنيًّا للمفعول، (فيقولون)؛ أي: الشاهدون لا القوم؛ لأنَّ المراد منهم من يعطي الصك؛ وهم المقرُّون بالديون أو غيرها، فلا يصح لهم أن يقولوا. قسطلاني: (أشهدَنَا فلانٌ) بالتنوين (ويقرأ ذلك قراءة عليهم)، وفي رواية: (وإنما ذلك قراءة عليهم)، فتسوغ الشهادة عليهم بقولهم: نعم، بعد قراءة المكتوب عليهم، مع عدم تلفظهم بما هو مكتوب، وهذه حجة؛ لأنَّ الإشهاد أقوى حالات الإخبار، (ويُقرَأ) بضم أوله مبنيًّا للمفعول أيضًا (على المقرئ) المعلم للقرآن، (فيقول القارئ) عليه: (أقرأني فلانٌ) بالتنوين.
وقاس مالك قراءة الحديث على قراءة القرآن، فروى الخطيب البغدادي من طريق ابن وهب قال: سمعت مالكًا، وسئل عن الكتب التي تعرض عليه: أيقول الرجل: حدثني؟ قال: نعم، كذلك القرآن، أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول: أقرأني فلان، فكذلك إذا قرأ على العالم؛ صح أن يروي عنه، كذا في «عمدة القاري».
وبه قال: (حدثنا محمد بن سلَام)؛ بتخفيف اللام، البيكندي (قال: حدثنا محمد بن الحسن)؛ بفتح الحاء المهملة، ابن عمران (الواسطي) قاضي واسط، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة، وليس له في «البخاري» غير هذا، (عن عَوف)؛ بفتح العين آخره فاء، هو ابن أبي جميلة المعروف بالأعرابي، (عن الحسن) هو البصري (قال: لا بأس)؛ أي: في صحة النقل عن المحدث (بالقراءة على العالم)؛ أي: الشيخ، متعلق بالقراءة، لا خبر لقوله: (لا بأس)؛ فليحفظ.
وهذا الأثر رواه الخطيب بأتمَّ سياقًا منه من طريق أحمد ابن حنبل، عن محمد بن الحسن الواسطي، عن عوف الأعرابي: أن رجلًا سأل الحسن فقال: يا أبا سعيد؛ منزلي بعيد والاختلافُ يشقُّ عليَّ، فإن لم تكن ترى بأسًا؛ قرأت عليك، قال: ما أبالي قرأتُ عليك أو قرأتَ عليَّ، قال: فأقول: حدَّثني الحسن؟ قال: نعم؛ حدَّثني الحسن، كذا في «عمدة القاري».
وبه قال: (حدثنا عُبيد الله)؛ بضم العين، وفتح الموحدة، مصغرًا (ابن موسى) بن باذام العبسي؛ بالمهملتين، (عن سفيان) الثوري أنَّه (قال: إذا قُرِئ)؛ بضم القاف، وكسر الراء، وفي رواية: (إذا قرأت)، وفي أخرى: (إذا قرأ) (على المحدِّث؛ فلا بأس) على القارئ (أن يقول: حدَّثني) كما جاز أن يقول: أخبرني، فهو مشعرٌ بأنَّه لا تفاوت عنده بين (حدثني) و (أخبرني)، وبين أن يقرأ على الشيخ أو يقرأ الشيخ عليه، كذا في «عمدة القاري».
(قال) أي: المؤلف: (وسمعت)، وفي رواية: (قال أبو عبد الله: سمعت) بغير واو (أبا عاصم)؛ هو الضحَّاك بن مَخْلد؛ بفتح الميم، الشيباني البصري، المشهور بالنَّبِيل؛ بفتح النون، وكسر الموحدة، وسكون المثناة التحتية، آخره لام، لقب به؛ لأنَّه كان يلازم الإمام زفر، وكان حسنَ الحال في كسوته، فجاء النبيل يومًا إلى بابه، فقال الخادم
%ص 41%
للإمام زفر: أبو عاصم بالباب، فقال له: أيهما؟ فقال: ذاك النبيل. أو لكبر أنفه، توفي في ذي الحجة، سنة تسع ومئتين، عن تسعين سنة وستة أشهر، (يقول عن مالك) الإمام (و) عن (سفيان) الثوري: (القراءة على العالم)؛ أي: الشيخ، (وقراءته)؛ أي: الشيخ (سواء)؛ أي: متساوية في الرتبة في صحة النقل وجواز الرواية.
وقال إمامنا الإمام الأعظم: قراءة الطالب على الشيخ أرجح من قراءته بنفسه؛ لأنَّه أضبط، وهو قول ابن أبي ذئب والإمام مالك، كما ذكره الدارقطني عنه، وقيل: إن قراءة الشيخ بنفسه أرجح
==========
[1] زيد في الأصل: (بن)، ولا يصح.
==================
(1/124)
[حديث: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي]
63# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التِّنِّيسي (قال: حدثنا الليث) بن سعد الفهمي، وهو من أتباع إمامنا الإمام الأعظم، (عن سعيد) بن أبي سعيد؛ بكسر العين فيهما، (هو المقبُري)؛ بضم الموحدة، ولفظ (هو) سقط في رواية.
(عن شريك)؛ بفتح المعجمة، (ابن عبد الله بن أبي نَمِر)؛ بفتح النون وكسر الميم، القرشي المدني، المتوفى سنة أربعين ومئة، (أنه سمع أنس بن مالك) رضي الله عنه؛ أي: كلامه حال كونه، (يقول: بينما) أصله: (بين) زيدت عليها (ما) ظرف زمان، وفي رواية: (بينا)؛ بغير ميم (نحن) مبتدأ خبره قوله: (جلوس)؛ جمع جالس، (مع النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في المسجد)؛ أي: مسجد رسول الله عليه السلام، فـ (أل) للعهد، (دخل رجل) جواب (بينما)، وفي رواية: (إذ دخل رجل)، لكن الأصمعي لا يستفصح (إذ) و (إذا) في جواب (بينا) و (بينما).
(على جَمَل) صفة لـ (رجل)، زوج الناقة؛ بفتح الجيم والميم، [و] تسكين الميم لغة، وبه قرأ ابن السماك: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمْلُ}؛ بسكون الميم، جمعه جمال، وجمالة، وجمالات، وجمائل، وأجمال.
(فأناخه)؛ أي: أبركه على ركبتيه، أصله: فأنْوَخه، قلبت الواو ألفًا بعد نقل حركتها إلى ما قبلَها، (في) رحبة (المسجد) أو ساحته، (ثم عَقَلَه)؛ بفتح العين المهملة والقاف المخففة؛ أي: شدَّ على ساقه مع ذراعه حبلًا بعد أن ثنى ركبتيه، وفيه جواز إدخال البعير في المسجد، وهو دليل على طهارة أبوال الإبل وأرواثها، وهو قول الإمام محمد الشيباني شيخ الإمام الشافعي.
وقال إمامنا الإمام الأعظم والإمام أبو يوسف: إنَّ أبوالها نجسة نجاسةً مخففة، ولا دليل في الحديث على الطهارة؛ لأنَّه روى أبو نُعيم: (أقبل على بعير له حتى أتى المسجد فأناخه، ثم عَقَله فدخل المسجد)، وفي رواية أحمد والحاكم عن ابن عباس: (فأناخ بعيره على باب المسجد فعَقَله، ثم دخل)، وهذا يدل على أنَّه لم يدخل المسجد؛ فتأمل.
(ثم قال لهم: أيُّكم) استفهام مرفوع على الابتداء، خبره (محمد؟ والنبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئٌ)؛ بضم الميم آخره همزة اسم فاعل، أصله: موتكئ، قُلبت الواو تاء، وأُدغمت التاء في التاء؛ أي: استوى على وِطاء، والجملة اسمية وقعت حالًا.
(بين ظهرانيهم)؛ بفتح الظاء المعجمة والنون؛ أي: بين أصحابه، وزيد لفظ (الظهر)؛ ليدل على أنَّ ظهرًا منهم قُدَّامَه وظهرًا منهم وراءَه، فهو محفوفٌ بهم من جانبيه، والألف والنون للتأكيد، وقيل: زيدت الألف والنون على (ظهر) عند التثنية، ثم كثر حتى استُعمل في الإقامة بين القوم مطلقًا؛ أي: فهو ممَّا أُريد بلفظ التثنية فيه معنى الجمع، واستُشكل ثبوت النون مع الإضافة، ودُفع بأنَّه ملحق بالمثنى لا أنَّه مثنًى حقيقةً، وحذفت منه نون التثنية فصار (ظهرانيهم).
(فقلنا: هذا الرجل) مبتدأ وخبر، (الأبيض) صفة لـ (رجل)، وقوله: (المتكئ) بالرفع صفة لـ (رجل) أيضًا، والمراد بـ (الأبيض): هو البياض المشرب بحمرة، كما دل عليه رواية الحارث ابن عمير قال: (الأمغر)، فُسِّر بالحمرة مع بياضٍ صافٍ، ولا تنافي بين وصفه هنا بالبياض وبين ما ورد أنَّه ليس بأبيض، ولا آدم؛ لأنَّ المنفي البياض الخالص كلون الجصِّ كريه المنظر، كلون [البرص] [1]،كذا في «عمدة القاري».
(فقال له) عليه السلام (الرجل) المذكور: (أَبنَ عبد المطلب)؛ بفتح الهمزة والنون: منادى مضاف، أصله: يا ابن عبد المطلب، فحذف حرف النداء، وفي رواية: (يا ابن عبد المطلب)، وفي رواية: بكسر الهمزة وفتح النون.
(فقال له النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك)؛ أي: سمعتك، أو المراد إنشاء الإجابة أو نزل تقريره للصحابة في الإعلام عنه منزلة النطق، وإنَّما لم يجبه بنعم؛ لأنَّه أخلَّ بما يجب من رعاية التعظيم والأدب؛ حيث قال: (أيُّكم محمد؟)، وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} [النور: 63]، فحقُّه أن يخاطبه بالرسالة أو بالنبوة، فلما قال: (أيُّكم محمد؟)؛ علم عليه السلام أنَّه باقٍ على جفاء الجاهلية، فلم ينكر عليه ولم يرد عليه، أو أنَّه لم يكن آمَنَ، أو كان ذلك قبل النهي عن مخاطبته عليه السلام بذلك، أو لم يبلغه.
وقال أيضًا: (ابن عبد المطلب) وكان عليه السلام يكره الانتساب إلى الكفار، لعله أراد تطابق الجواب للسؤال بقوله: أيُّكم بابن عبد المطلب؟ فأجابه عليه السلام: أنا ابن عبد المطلب، وإنَّما كره هنا ذلك وقال يوم حنين: أنا ابن عبد المطلب؛ للإشارة إلى رؤيا رآها عبد المطلب مشهورة كانت إحدى دلائل نبوته فذكرهم بها، وبخروج الأمر على الصدق.
(فقال الرجل) المذكور (للنبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وسقط في رواية قوله: (الرجل ... ) إلخ، وفي أخرى: لفظ (الرجل) فقط، (إني سائلُك) جملة اسمية مؤكدة بـ (إن) مقول القول، (فمشدِّدٌ عليك في المسألة)؛ بكسر الدال الأولى المثقلة، والفاء عاطفة على (سائلك)، (فلا تجِدْ)؛ بكسر الجيم والجزم على النهي، وهي من الوجدة؛ أي: لا تغضب، (عليَّ في نفسك، فقال) عليه السلام له: (سل عمَّا بدا) من البُدُوِّ؛ أي: ظهر، (لك، فقال) الرجل المذكور: (أسألك بربك)؛ أي: بحقِّ ربِّك، الباء للقسم، (ورب من قبلك، آللهُ)؛ بهمزة الاستفهام الممدودة والرفع على الابتداء، وقوله: (أرسلك) خبره، وعند مسلم: (فبالذي خلق الأرض ونصب هذه الجبال، آللهُ أرسلك)، (إلى الناس كلهم) الإنس والجن، (فقال) عليه السلام، وفي رواية: (قال).
(اللَّهُمَّ)؛ أي: يا الله، (نعم) الميم بدل عن حرف النداء، وذكر ذلك؛ ليدل على تيقن المجيب في الجواب المقترن به؛ كأنه ينادي تعالى متشهدًا على ما قاله في الجواب، وهذه الأيمان المذكورة إنَّما ذكرت للتأكيد وتقرير الأمر.
(قال) وفي رواية: (فقال الرجل المذكور)، (أَنْشُدُك)؛ بفتح الهمزة، وإسكان النون، وضم المعجمة؛ أي: أسألك، (بالله) الباء للقسم، (آللهُ أمرك)؛ بمدِّ الهمزة، وفيه همزتان الأولى للاستفهام والثانية للجلالة، (أن نصلي الصلوات الخمس)؛ بنون الجمع، وفي رواية: بتاء الخطاب، وفي رواية: الصلاة بالإفراد؛ أي: جنس الصلاة، وكلُّ ما وجب عليه فهو واجب على أمته حتى يقوم دليل الخصوصية، وفي رواية ثابت عن أنس بلفظ: (أن علينا خمس صلوات يومَنا وليلتَنا)؛ فافهم.
(في اليوم والليلة، قال) عليه السلام: (اللَّهُمَّ)؛ أي: يا الله، (نعم، قال) الرجل المذكور: (أنشدك)؛ أي: أسألك (بالله) باؤه للقسم، (آللهُ) بالمدِّ، (أمرك أن تصوم)؛ بتاء الخطاب، وفي رواية: بالنون، (هذا الشهر من السنة)؛ أي: رمضان من كلِّ سنة، فـ (اللام) فيهما للعهد، والإشارة لنوعه لا لعينه.
(قال) عليه السلام: (اللهمَّ)؛ أي: يا الله، (نعم، قال) الرجل المذكور: (أَنشدك) أسألك (بالله، آللهُ)؛ بالمدِّ، (أمرك أن تأخذ)؛ بتاء المخاطب؛ أي: بأن تأخذ، (هذه الصدقة) المعهودة؛ وهي الزكاة، (من أغنيائنا فتقسمَها)؛ بتاء المخاطب المفتوحة، والنصب عطفًا على (أن تأخذ)، (على فقرائنا) من تغليب الاسم للكل بمقابلة الأغنياء؛ إذ خرج مخرج الأغلب؛ لأنَّهم الأغلب من الأصناف الثمانية.
(فقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) له: (اللَّهُمَّ)؛ أي: يا الله، (نعم)؛ أي: اشهد على ما قلت في الجواب، قال أكثر الشُّرَّاح: ولم يتعرَّض للحجِّ؛ لأنَّه كان معلومًا عندهم في شريعة إبراهيم.
قال في «عمدة القاري»: وهو مذكور في «صحيح مسلم بن الحجاج القشيري»، فقد وقع فيه ذكر الحجِّ ثابتًا عن أنس ابن مالك، وكذا في حديث أبي هريرة وابن عباس أيضًا عند مسلم، وقيل: إنَّما لم يذكره؛ لأنَّه لم يكن فُرِضَ، أو لأنَّه لم يكن من أهل الاستطاعة.
(فقال الرجل) المذكور لرسول الله عليه السلام: (آمنتُ بما)؛ أي: بالذي، (جئتَ به) من الوحي، واختُلف هل كان مسلمًا عند قدومه أم [لا]؛ فقال جماعة: إنَّه كان مسلمًا قبل وفوده، وإليه ذهب المؤلف وبوَّب له: باب القراءة والعرض على المحدِّث، مستدلًا بقوله: (آمنت بما جئت به)، وبقوله: (وأنا رسول من) مبتدأ وخبر مضاف إلى (مَن) بفتح الميم (ورائي)؛ أي: مَن خلفي، (مِن)؛ بكسر الميم، (قومي)، وإنَّ هذا إخبارٌ، ورجَّحَه القاضي عياض، وقال جماعة: إنَّه لم يكن مسلمًا وقت قدومه، وإنَّما كان إسلامه بعدَه؛ لأنَّه كان متثبتًا، ويدل عليه ما في حديث ابن عباس رواه ابن إسحاق: (أنَّ بني سعد بن بكر بعثوا ضِمام بن ثعلبة ... ) الحديث، وفي آخره: (حتى إذا فرغ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله).
وأجابوا عن قوله: (آمنت): بأنَّه إنشاء وابتداء الإيمان، لا إخبار بإيمانٍ تقدم، وكذلك قوله: (وأنا رسول مَن ورائي)، وبأنَّه لا يلزم مِن تبويب المؤلف له أنَّه كان مسلمًا؛ لأنَّ العرض على المحدث هو القراءة عليه أعمّ من أن يكون تقدمت له أو ابتدأها.
وقالوا: قد بوَّب أبو داود عليه: باب المشرك يدخل المسجد، وهو يدل على أنَّه لم يكن مسلمًا قبل قدومه، والظاهر: أنَّه قبل قدومه لم يكن
%ص 42%
الإيمان محققًا عنده، فلمَّا سأل النبيَّ عليه السلام؛ تحقَّق عنده وجدَّد إيمانه؛ فليحفظ.
(وأنا ضِمام بن ثعلبة)؛ بكسر الضاد المعجمة، وبالثاء المثلثة، والباء الموحدة المفتوحة، (أخو بني سعد بن بكر) بن هوازن، وهم أخوال رسول الله عليه السلام، قدم على النبي الأعظم عليه السلام، بعثه إليه بنو سعد، فسأل عن الإسلام، ثم رجع إليهم فأخبرهم به فأسلموا.
وقال ابن عباس: ما سمعنا بوافد قط أفضل من ضِمام، وكان قدومه سنة تسع، قاله ابن إسحاق والطبري، وقال الواقدي: كان سنة خمس، وفيه نظر لما في «مسلم»: أنَّ قدومه كان بعد نزول النهي عن السؤال في القرآن، وهو في (المائدة)، ونزولها متأخِّرٌ جدًّا، وبما قد عُلِمَ أنَّ إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإسلام إنَّما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه كان بعد فتح مكة.
وبما في حديث ابن عباس: أنَّ قومه أطاعوه ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد في الإسلام إلا بعد وقعة خيبر، وكان في شوال سنة ثمان، فالمعتمد: أنَّ قدوم ضِمام كان في سنة تسع، وبه جزم أبو عبيدة وغيره؛ فافهم.
وفي الحديث دليل لما ذهب إليه العلماء من أنَّ العوام المقلِّدين مؤمنون، وقبول خبر الواحد، وجواز تسمية الأدنى للأعلى دون أنْ يُكنِّيه إلَّا أنَّه نُسخ في حقِّه عليه السلام، وجواز الاتِّكاء بين الناس في المجالس، وجواز تعريف الرجل بصِفته من البياض والحمرة، والطول والقصر، والاستحلاف على الخبر؛ ليُعلم اليقين، وفيه التعريف بالشخص، وفيه النسبة إلى الأجداد.
فائدة: هل النجدي السائل في حديث طلحة بن عبيد الله السابق هو ضِمام بن ثعلبة أو غيره، قال جماعة: إنَّه هو إيَّاه، والنجدي هو ضِمام بن ثعلبة، وإليه مال ابن عبد البر والقاضي عياض، وقيل: غيره، والله أعلم.
(رواه)؛ أي: هذا الحديث، وفي رواية: (ورواه) بالواو (موسى) بن إسماعيل، كما في رواية أبو سلمة المنقري التَّبُوذَكِي، (و) رواه أيضًا (علي بن الحُميد)؛ بضم الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية، بن مصعب المَعْنِي؛ بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وكسر النون، بعدها ياء؛ نسبة إلى مَعَن بن مالك، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين؛ كلاهما (عن سليمان) زاد في رواية: (ابن المغيرة) أبي سعيد القيسي البصري، المتوفى سنة خمسين أو خمس وستين ومئة، وفي رواية: (أخبرنا سليمان)، (عن ثابت) هو البُنانيُّ؛ بضم الموحدة وبالنونين؛ نسبة إلى (بنانة) بطن من قريش، أو اسم أمه (بنانة)، واسم أبيه: أسلم، العابد البصريُّ، المتوفَّى سنة ثلاث وعشرين ومئة.
(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم بهذا)؛ أي: بمعناه، وفي رواية: (مثله)، وحديث موسى بن إسماعيل موصولٌ في «صحيح أبي عَوانة»، وحديث علي بن الحُميد موصولٌ عند الترمذي أخرجه عن المؤلف.
(1/125)
(7) [باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان]
هذا (باب ما يُذكَر)؛ بضم المثناة التحتية وفتح الكاف، (في المناولة) من النوال وهو العطاء، وهي نوعان:
أحدهما: المقرونة بالإجازة؛ وهي أن يرفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه مثلًا ويقول: هذا سماعي وأجزت لك روايته عني، وهذه حالة محل السماع عند مالك والزهري وغيرهما، فيجوز إطلاق (حدثنا) و (أخبرنا) فيها، والصحيح: أنَّه منحطٌّ عن درجته، وعليه الأكثر.
والآخر: المناولة المجرَّدة عن الإجازة، وهي بأنْ يُناوله أصل السماع كما علمت، ولا يقول له: أجزت لك الرواية عني، وهذه لا تجوز الرواية بها على الصحيح، ومراد المؤلف القسم الأول، وهو غير العرض السابق؛ فافهم.
(وكتابِ أهل العلم بالعلم) بجرِّ (كتاب) عطفًا على قوله: (في المناولة)، (إلى) أهل (البُلْدان)؛ بضمِّ الموحدة وسكون اللام، جمع بلد، وأهل القرى وغيرهما، وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب شيئًا من حديثه، وهي نوعان؛ أحدهما: المقرونة بالإجازة، وثانيهما: الخالية عنها، والصحيح في الثانية: أنَّه يجوز الرواية بها؛ بأن يقول: كتب إليَّ فلان قال: حدثنا بكذا.
وقد سوَّى المؤلف الكتابة المقرونة بالإجازة بالمناولة، ورجَّح قوم المناولة عليها؛ لحصول المشافهة بها بالإذن دون المكاتبة، وجوَّز جماعة الإخبار فيهما، والأَولى ما عليه المحقِّقون من اشتراط بيان ذلك.
(وقال أنس) وفي رواية: (أنس بن مالك)، كما وصله المؤلف في (فضائل القرآن): (نسخ عثمان) وفي رواية: (عثمان بن عفان) أحد الخلفاء والعشرة، المتوفى شهيد الدار يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة، سنة خمس وثلاثين، عن تسعين سنة، ومدَّةُ خلافته ثنتي عشرة سنة رضي الله عنه (المصاحف)؛ بفتح الميم جمع مصحف، ويجوز في ميمه الحركات الثلاث، مأخوذة من أصحف؛ أي: جمعت فيه الصُّحُف؛ بضمتين جمع صحيفة؛ وهي الكتابة، قال المؤلف في (فضائل القرآن): إنَّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية، وفيه: ففزع [1] حذيفةُ من اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدركْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلافَ اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر رضي الله عنهماأنْ أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وفيه: حتى إذا نسخوها ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة (فبعث بها)؛ أي: أرسل عثمان بالمصاحف (إلى الآفاق)؛ بمدِّ الهمزة، جمع أفق؛ أي: أرسل إلى كلِّ أُفق بمصحف ممَّا نسخوا، وفي غير «البخاري»: أنَّ عثمان أرسل مصحفًا إلى الشام، ومصحفًا إلى الحجاز، ومصحفًا إلى اليمن، ومصحفًا إلى البحرين، وأبقى عنده مصحفًا؛ لتجتمع الناس على قراءة ما يُعلم ويُتقن.
وقيل: هي أربعة، بعث واحدًا إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى الشام، وحبس عنده آخر، وعليه الأكثر، وقيل: إنها سبعة، ودلالة هذا على تجويز الرواية بالمكاتبة ظاهرة، فإنَّ عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف ومخالفة ما عداها، والمستفاد من بعثه المصاحف إنَّما هو قبول إسنادِ صورة المكتوب بها، لا أصل ثبوت القرآن؛ فإنَّه متواتر عندهم؛ فافهم.
(ورأى عبد الله بن عمر) هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن القرشي العدوي المدني، المتوفى سنة إحدى وسبعين ومئة، وقال ابن حجر العسقلاني: عبد الله هذا هو ابن عَمرو ابن العاص، مستدلًا بكلامٍ أوهنَ من العنكبوت، ولا يقوله من سكن البيوت، فلا يعول عليه، وقد ردَّه الشيخ الإمام بدر الدين العيني بما يطول، ونقله عنه القسطلاني وأقرَّه، والصواب: ما قلناه، وبه جزم الكرماني وقطب الدين وغيرهما؛ فليحفظ.
(و) كذا رأى (يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني (ومالك)، وللأصيلي: (مالك بن أنس) الإمام، (ذلك جائزًا) إشارة إلى كل واحد من المناولة والكتابة باعتبار ووردت الإشارة بذلك إلى المثنى كما في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]؛ أي: ما ذكر من الفارض والبكر، فأشار بذلك إلى المثنى، أفاده في «عمدة القاري»، وفيه كلام يتعلَّق بالمناولة، وأنَّها ثمانية أقسام؛ فراجِعْها فإنَّها مفيدة، ولولا الإطالة لذكرتها؛ فافهم.
(واحتج بعض أهل الحجاز) هو الحُميدي شيخ المؤلف، وإنَّما سُمِّيتْ بذلك؛ لأنَّها حجزت بين نجد والغور، وقيل: هي مكة والمدينة ويمامة وقراها (في) صحة (المناولة بحديث النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم؛ حيث كتب)؛ أي: أمر بالكتابة (لأمير) وفي رواية: (إلى أمير)، (السَّرِيَّة)؛ بفتح السين المهملة وتشديد المثناة التحتية؛ قطعة من الجيش، وهو عبد الله بن جحش المجدع، أخ زينب أم المؤمنين (كتابًا وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا) وفي رواية عروة: أنه قال: (إذا سرت يومين فافتح الكتاب)، وفي أخرى: (لا نقرأ) بنون الجمع مع حذف الضمير، ويلزم منه كون (نبلغ) بالنون أيضًا؛ كذا قيل.
(فلما بلغ ذلك المكان) وهو نخلة بين مكة والطائف، (قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، ولم يذكره المؤلف موصولًا في كتابه هذا، لكن وصله الطبراني بإسنادٍ حسن، وذكره ابن إسحاق في «المغازي» مرسلًا، وساقه إمامنا بدر الدين العيني في «شرحه»؛ فيراجع، والدلالة منه ظاهرة، فإنه جاز له الإخبار بما في الكتاب بمجرد المناولة، ففيه المناولة ومعنى الكتابة.
==================
(1/126)
[حديث: أن رسول الله بعث بكتابه رجلًا وأمره أن يدفعه إلى]
64# وبه قال: (حدثنا إسماعيل بن عبد الله) هو ابن أبي أويس المدني، (قال: حدثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعْد)؛ بإسكان العين؛ سبط عبد الرحمن بن عوف، (عن صالح) هو ابن كَيسان الغِفاري المدني، (عن ابن شهاب) محمد ابن مسلم الزُّهري، (عن عُبيد الله)؛ بالتصغير، (ابن عبد الله)؛ بالتكبير، (ابن عُتْبَة)؛ بضم المهملة، وإسكان المثناة الفوقية، وفتح الموحدة، (ابن مسعود: أنَّ عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (أخبره: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلًا)؛ أي: بعث رجلًا متلبِّسًا بكتابه مصاحبًا له، و (رجلًا) منصوب على المفعولية؛ وهو عبد الله بن حُذافة السَّهْميِّ، كما صرح به المؤلف في (المغازي)؛ بضم الحاء المهملة وبالذال المعجمة، وبعدَ الألف فاء، ابن قيس القرشي، أخ خنيس بن حذافة، زوج حفصة، المتوفى في خلافة عثمان، رضي الله عنهما.
(وأمره) عليه السلام (أن يدفعه)؛ أي: بأن يدفعه، و (أنْ) مصدريَّة؛ أي: يدفعه، (إلى عظيم البحرين) هو المنذر بن ساوَى؛ بالسين المهملة وفتح الواو، والبحرين؛ بلد بين البصرة وعمان، وهي بلفظ التثنية، وإنَّما ثنَّوها؛ لأنَّ في ناحية قراها بحيرة على باب الإحياء وقرى هجر، بينهما وبين البحر الأخضر
%ص 43%
عشرة فراسخ، وقدر البحيرة ثلاثة أميال في مثلها.
وقد صالح النبي عليه السلام أهل البحرين، وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث العلاء إلى المنذر بن ساوَى، فصدَّق وأسلم، وإنَّما قال: (عظيم البحرين) ولم يقل: ملك البحرين؛ لأنَّه لا ملك ولا سلطنة للكفار، فإنَّ الكل لرسول الله عليه السلام ولمن ولَّاه.
(فدفعه) معطوف على مقدر؛ أي: فذهب به إلى عظيم البحرين فدفعه إليه ثم دفعه (عظيم البحرين إلى كسرى)؛ بفتح الكاف وكسرها، والكسر أفصح، فارسي معرب (خسرو)، جمعه أكاسرة على غير قياس، وهو لقب لكلِّ مَن مَلَك الفرس، كما أنَّ (قيصر) لقب لكلِّ مَن مَلَك الروم؛ وهو أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وليس هو أنوشروان.
(فلمَّا قرأه) وفي رواية: بحذف الهاء؛ أي: قرأ كسرى الكتاب، (مزَّقَه) جواب (لمَّا)؛ أي: قطعه شقفًا، قال ابن شهاب الزُّهري: (فحسبتُ)؛ أي: ظننت، (أنَّ ابن المسيب)؛ بفتح المثناة التحتية وكسرها، قيل: الرواية بالفتح، (قال:) ولما مزقه وبلغ النبي عليه السلام ذلك غضب، (فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ)؛ أي: بأن (يُمزَّقوا)؛ أي: بالتمزيق، فـ (أنْ) مصدريَّة، (كلَّ مُمَزَّق)؛ بفتح الزاي في الكلمتين؛ أي: يُمزَّقوا غايةَ التمزيق، فسلَّطَ الله على كسرى ابنه شيرويه، فقتله بأنْ مزَّقَ بطنه سنة سبع، فتمزق ملكه كلَّ ممزق، وزال من جميع الأرض، واضمحل بدعوته عليه السلام، وقال عليه السلام: «إذا مات كسرى فلا كسرى بعدَه»، وكان ملكه سبعًا وأربعين سنة وسبعة أشهر، وكتب كسرى إلى باذان عامله في اليمن: إنَّه بلغني أنَّ رجلًا من قريش يزعم أنَّه نبيٌّ، فسِرْ إليه فاستتبه، فإن تاب، وإلَّا فابعث إليَّ برأسه، فبعث باذان بكتابه إلى النبي عليه السلام، فكتب إليه عليه السلام: إنَّ الله وعدني بقتل كسرى في هذه الليلة لسبع ساعات مضت منها، وهي ليلة الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الأولى سنة سبع، فلمَّا أتى باذان الكتاب قال: إنْ كان نبيًّا سيكون كما قال، فسلَّط الله عليه ابنه شيرويه، فقتله في اليوم الذي قال رسول الله عليه السلام، فلمَّا بلغ باذان بعث بإسلامه وإسلام مَن معه من الفرس، وتمامه في «عمدة القاري».
وفي الحديث جواز الكتابة بالعلم إلى البلدان، وجواز الدعاء على الكفار، ووجه الدلالة من الحديث: أنَّه عليه السلام لم يقرأ الكتاب على رسوله، ولكن ناوله إيَّاه، وأجاز له أنْ يُسند ما فيه عنه.
==================
(1/127)
[حديث: كتب النبي كتابًا فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا]
65# وبه قال: (حدثنا محمد بن مُقاتل) بصيغة الفاعل من المقاتلة بالقاف والمثناة الفوقية، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين، وفي رواية: (أبو الحسن المروزي)، (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا)، (عبد الله)؛ أي: ابن المبارك؛ لأنَّه إذا أُطلق (عبد الله) فيمَن بعدَ الصحابة؛ فالمراد هو، كما أنَّه إذا أُطلق الإمام الأعظم؛ فالمراد به أبو حنيفة، التابعي الجليل، رئيس المجتهدين رضي الله عنه.
(قال: أخبرنا شُعبة)؛ هو ابن الحَجَّاج، (عن قَتادة) بن دِعامة السدوسي، (عن أنس بن مالك)، وسقط (ابن مالك) في رواية، رضي الله عنه، (قال: كتب النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: كتب الكاتب بأمره، وقيل: إنَّه عليه السلام كتب بيده الشريفة، وسيأتي تحقيقه، (كتابًا) مفعول (كتب)؛ لأنَّه اسم لا مصدر؛ أي: إلى العجم أو إلى الروم، كما صرح بهما المؤلف في (كتاب اللباس)، (أو أراد أن يكتب) شكٌّ من الراوي أنس؛ أي: أراد الكتابة، فـ (أنْ) مصدريَّة، (فقيل له) عليه السلام (إنَّهم)؛ أي: الروم أو العجم (لا يقرؤون كتابًا إلَّا مختومًا)؛ خوفًا من كشف أسرارهم، و (مختومًا) نُصب على الاستثناء؛ لأنَّه من كلام غير موجب، (فاتخذ) عليه السلام (خاتمًا مِن فِضَّة) مفعول (اتخذ)، و (مِن)؛ بكسر الميم؛ بيانيَّة، و (الفاء) مكسورة، (نقْشُه)؛ بسكون القاف: مبتدأ، (محمَّدٌ رسولُ الله) جملة اسمية من المبتدأ والخبر؛ خبر المبتدأ الأول، والرابط كون الخبر عين المبتدأ، كأنَّه قيل: نقْشُه هذا المذكور.
ونقل الشيخ الإمام علاء الدين في «شرحي التنوير والملتقى»: أنَّ نقش خاتمه عليه السلام كان ثلاثة أسطر، لفظ الجلالة أعلاه، وتحتها (محمد)، وتحته (رسول)، اهـ؛ فليحفظ، وانظر الهامش.
الله
محمد
رسول
(كأني أنظر إلى بياضه) وأصل (كأنَّ) للتشبيه، ولكنها هنا للتحقيق، ذكره الكوفيون والزجاج، ومع هذا لا تخلو عن معنى التشبيه، والجملة محلها رفع خبر (كأنَّ)، حال كونه (في يده) الشريفة، وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، فإنَّ الخاتم ليس في اليد؛ بل في إصبعها، وفيه القلب؛ لأنَّ الإصبع في الخاتم، لا الخاتم في الإصبع، كذا قرره في «عمدة القاري».
قال شعبة (فقلت لقَتادة) بن دِعامة: (مَن قال) جملة اسمية، و (من) استفهامية، (نقشه محمد رسول الله) مقول القول، (قال: أنسٌ) قاله.
وفي الحديث جواز كتابة العلم إلى البلدان، وجواز الكتاب إلى الكفار، وختم الكتاب للسلطان، والقضاة، والحكام، والنُّظَّار، وفيه جواز استعمال خاتم الفِضَّة للرجال، قال القاضي عياض: وهو بالإجماع، وأجمعوا على تحريم لبس خاتم الذهب للرجال، وشَذَّ قول ابن حزم؛ حيث أباحه، وبعضهم كرهه، قال النووي: هذان القولان باطلان.
وفيه جواز نقش الخاتم، ونقش اسم صاحبه، ونقش اسم الله فيه؛ بل فيه كونه مندوبًا، وهو قول أئمتنا الأعلام ومالك وغيرهم، ولكن يجعله في كمه أو بيمينه إذا دخل الخلاء أو استنجى.
وكان نقشُ خاتم الصديق الأكبر: نعم القادر الله، وعمر: كفى بالموت واعظًا، وعثمان: ليصبرن أو لتندم، والصديق الأصغر: الملك لله، وخاتم إمامنا الإمام الأعظم: قل الخير وإلَّا فاسكت، مقتبس من قوله عليه السلام: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيرًا وإلَّا فيسكت»، وخاتم الإمام أبي يوسف: مَن عمل برأيه؛ فقد ندم، والإمام محمد: من صبر ظَفِر؛ بفتح الظاء المعجمة وكسر الفاء، كذا في «شرح الملتقى» للإمام الشيخ علاء الدين المفتي بدمشق الشام، والإمام والخطيب بجامعها جامع بني أمية، جعله عمارًا إلى قيام الساعة.
==========
%ص 44%
==================
(1/128)
(8) [باب من قعد حيث ينتهي به المجلس]
هذا (باب) حكم (مَن) موصولة، وجملة (قعد) صلتها، (حيث) بالبناء على الضم منصوب على الظرفية المكانية، (ينتهي به المجلس) فاعل، (ومَن رأى فرجة) عطف على (مَن قعد)؛ بضم الفاء وفتحها لغتان، وهي الخلل بين الشيئين، وفُرِّق بينهما: فالضم: اسم للخلل بين الشيئين، والفتح: للتفصي من الهمِّ.
(في الحلقة)؛ بسكون اللام وفتحها، والأول أشهر، والثاني استعمال العوام، وهي كلُّ مستدير خالي الوسط، والجمع حَلَق؛ بفتح الحاء واللام، (فجلس فيها)؛ أي: في الفرجة، وفي رواية: (إليها)، وإنَّما قال: (في الحلقة) ولم يقل: في المجلس؛ ليطابق لفظ الحديث، وقال في الأول: (به المجلس)؛ لأنَّ الحكم فيهما واحد.
==========
%ص 44%
==================
(1/129)
[حديث: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة]
66# وبه قال: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس المدني، (قال: حدثني) بالإفراد، (مالك) الإمام، (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري البخاري، ابن أخ أنس لأمه، التابعي المتوفى سنة اثنتين وثلاثين ومئة.
(أن أبا مُرَّة)؛ بضم الميم وتشديد الراء، اسمه: يزيد، (مولى عقيل)؛ بفتح العين، (بن أبي طالب)، وقيل: مولى أخيه علي، وقيل: مولى أختهما أم هانئ، (أخبره عن أبي واقد)؛ بالقاف المكسورة والدال المهملة، اسمه: الحارث بن عوف أو الحارث بن مالك، أو عوف بن الحارث والأول أصح، الصحابي (الليثي)؛ بالمثلثة، البدري في قول، المتوفى بمكة سنة ثمان وستين، وصرَّح أبو مُرَّة عند النسائي فقال: (عن أبي مُرَّة: أنَّ أبا العالية واقد حدَّثه) (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما) أصله: (بين) زيدت فيه لفظة (ما)، وهو من الظروف التي لزمت إضافتها إلى الجملة، وفي رواية: (بينا) بدون (ما) وأصلها: (بين)، فأشبعت فتحة النون بالألف، والعامل فيه معنى المفاجأة (هو) مبتدأ، خبره (جالس) حال كونه (في المسجد) النبوي، (والناس معه) جملة حالية، (إذ أقبل) جواب (بينما)، وقدَّمنا: أنَّ الأصمعيَّ لا يستفصح مجيء (إذ) و (إذا) في جواب (بين)، (ثلاثة) فاعل (أقبل)، (نفر) بالتحريك؛ عدة رجال، من الثلاثة إلى العشرة، والمراد: ثلاثة رجال من الطريق، فدخلوا المسجد كما في حديث أنس: (فإذا ثلاثةُ نفرٍ مارين)، ولم يتعرف أسماؤهم ولا واحدًا.
(فأقبل اثنان) منهم (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد) منهم، (قال: فوقفا على) مجلس (رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: اشترفا عليه، وقال ابن حجر: (على) بمعنى (عند)، وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّها لم تجئ بمعناها؛ فليحفظ، وفي رواية: (فلما وقفا سلما).
(فأمَّا)؛ بفتح الهمزة وتشديد الميم: تفصيليَّة، (أحدهما) بالرفع مبتدأ، خبره قوله: (فرأى فُرجة)؛ بضم الفاء، (في الحلقة فجلس فيها) وأتى بالفاء في (فرأى)؛ لتضمُّن (أمَّا) معنى الشرط، وفي رواية: (فَرجة)؛ بفتح الفاء، كما مرَّ.
(وأمَّا الآخَر)؛ بفتح الخاء؛ أي: الثاني، (فجلس خلفَهم) بالنصب على الظرفية، لعلَّه لم يجد فرجة؛ فتأمَّل، (وأمَّا الثالث؛ فأدبر) من الإدبار؛ أي: التولِّي، حال كونه (ذاهبًا)؛ أي: أدبر مستمرًا في ذهابه ولم يرجع.
(فلمَّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم) مِن حديثه، (قال: ألَا)؛ بالتخفيف حرف تنبيه، ويَحتمل أنْ تكون (الهمزة) للاستفهام و (لا) للنفي، (أُخبِرُكم عنِ النفر الثلاثة)، فقالوا: أخبرنا عنهم يا رسول الله، فقال: (أمَّا)؛ بالتشديد للتفصيل، (أحدُهم فآوى) بهمزة مقصورة؛ أي: لجأ، (إلى الله تعالى)، أو دخل مجلس رسول الله عليه السلام (فآواه)؛ بالمد، (الله إليه)؛ أي: جازاه بنظير فِعْله، بأنْ جعله في رحمته ورضوانه، أو يؤويه يوم القيامة إلى ظِلِّ عرشه، فنسبة الإيواء إلى الله
%ص 44%
تعالى مجازٌ؛ لاستحالته في حقِّه تعالى، فالمراد لازِمُه، وهو إرادة إيصال الخير، ويسمَّى هذا المجاز: مشاكلةٌ ومقابلةٌ.
(وأمَّا الآخَر)؛ بفتح الخاء، (فاستحى)؛ أي ترك المزاحمة؛ حياءً من رسول الله عليه السلام ومن أصحابه، وعند الحاكم: ومضى الثاني قليلًا ثم جاء فجلس، قال في «عمدة القاري»: معناه: استحى مِنَ الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث، اهـ؛ فليحفظ.
(فاستحيى اللهُ منه)؛ أي: جازاه بمثل فعله؛ بأنْ رحمه ولم يعاقبه، وهذا أيضًا من قبيل المشاكلة؛ لأنَّ الحياء تغيُّرٌ وانكسارٌ يَعتري الإنسان مِن خوفِ ما يُذَمُّ به، وهذا محالٌ على الخالق تبارك وتعالى، فيكون مَجازًا عن ترك العقاب للاستحياء، فيكون هذا من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، كما في «عمدة القاري».
(وأمَّا الآخَر)؛ أي: الثالث، (فأعرض) عن مجلس النبي الأعظم عليه السلام ولم يلتفت إليه؛ بل ولَّى مُدبرًا، (فأعرض الله عنه)؛ أي: جازاه؛ بأنْ سخط عليه، وهذا أيضًا من باب المشاكلة؛ لأنَّ الإعراض: هو التفات إلى جهة أخرى، وذاك لا يليق في حقِّ الله تعالى، فيكون مَجازًا عن السُّخط والغضب، المجاز عن إرادة الانتقام.
والمراد في مثل هذه الإطلاقات: غاياتها ولوازمها، والعلاقة بين الحقيقي والمجازي اللزوم، والقرينة الصارفة هو العقل، وفي رواية: («وأمَّا الآخَر؛ فاستغنى فاستغنى الله عنه»)، ويَحتمل أنَّه كان منافقًا، فاطلع النبي الأعظم عليه السلام عليه وعلى حاله وأمْره، وتمامُه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
وفي الحديث الثناءُ على مَن زاحم في طلب الخير، وجوازُ التخطِّي لسَدِّ الخلل ما لم يؤذ [1]، وأنَّ مَن سبق إلى موضع من المسجد فهو أحقُّ به، وأنَّ من الأدب أن يجلس حيث ينتهي به المجلس، وأنَّ الإنسان إذا فعل قبيحًا؛ جاز أن يُنسب إليه، وأنَّ مَن أعرض عن مجالسة العلماء؛ فإنَّ اللهَ يُعرض عنه، وفيه استحبابُ التحلُّقِ للعلم والذِّكر وغير ذلك، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يؤذي).
==================
(1/130)
(9) [باب قول النبي: رب مبلغ أوعى من سامع]
هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: رُبَّ مُبَلَّغٍ) _بفتح اللام فقط_ إليه عني يكونُ (أوعى)؛ أي: أفهم لما أقوله، (مِن سامعٍ) منِّي، و (قَوْلِ) مجرورٌ بالإضافة، و (رُبَّ) حرفُ جرٍّ يُفيد التقليل، لكنَّه كثُر استعماله في التكثير؛ بحيث غلب حتى صارت كأنَّها حقيقة فيه.
وقال الكوفيُّون: إنَّها اسم، وتنفرد (رُبَّ) عن أحرف الجرِّ بوجوب تصديرها وتنكير مجرورها ونعته إن كان ظاهرًا، وغلبةِ حذف معدَّاها ومضيه، وبزيادتها في الإعراب دون المعنى، ومحلُّ مجرورها رفعٌ على الابتداء، نحو قوله هنا: (رُبَّ مُبَلَّغٍ)، فإنَّه وإنْ كان مجرورًا بالإضافة لكنَّه مرفوعُ المحل على الابتداء، وخبره (يكون) المقدَّر، و (أوعى) صفة للمجرور، وأمَّا نحو: رُبَّ رجلٍ لقيت؛ فنصب على المفعولية، وفي نحو: رُبَّ رجل صالح لقيت؛ رفع أو نصب، وعلى مذهب الكوفيِّين: أنَّ (رُبَّ مُبَلَّغٍ)؛ كلامٌ إضافي مبتدأٌ، وقوله: (أوعى مِنْ سامعٍ) خبرُه.
وفي (رُبَّ) ستةَ عشَرَ لغةً: ضمُّ الراء وفتحُها وكلاهما مع التشديد والتخفيف، وهذه الأربعة مع تاء التأنيث الساكنة، أو محرَّكة، ومع التجرُّد منها، فهذه اثنتي عشرة، والضمُّ والفتحُ مع إسكان الباء، وضمُّ الحرفين مع التشديد ومع التخفيف، أفاده في «عمدة القاري».
==========
%ص 45%
==================
(1/131)
[حديث: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام]
67# وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد) هو ابن مُسرهِد، (قال: حدثنا بِشْر)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة، ابن الفضل بن لاحق الرقاشي البصري، أبو إسماعيل الذي كان يصلي كل يوم أربعمئة ركعة، ويصوم يومًا ويفطر يومًا، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة.
(قال: حدثنا ابن عون)؛ بالنون: عبد الله بن أرطبان البصري، مولى عبد الله بن مغفل الصحابي الذي قال في حقِّه خارجة: (صحبت ابن عون أربعًا وعشرين سنة، فما أعلم أنَّ الملائكة كتبت عليه خطيئة)، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة، وقيل: سنة خمسين ومئة.
(عن ابن سيرين)؛ هو محمد، (عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة) نُفَيع؛ بضم النون وفتح الفاء، ابن الحارث، أبو عمرو الثقفي البصري، أول مولود ولد في الإسلام بالبصرة، المتوفى سنة ست وتسعين، (عن أبيه) أبي بَكْرة نُفَيع بن الحارث، (ذَكَرَ)؛ أي: أبو بَكْرة؛ أي: أنَّه كان يُحدِّثهم فذكر، (النبيَّ) الأعظم، بالنصب مفعول (ذكر)، (صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم)، وفي أخرى: (ذُكِر_ بضمِّ أوله وكسر ثانيه_ النبيُّ صلى الله عليه وسلم) بالرفع نائبٌ عن الفاعل؛ أي: قال أبو بَكْرة حال كونه قد ذكر النبي عليه السلام، وفي «النسائي» قال: (وذكر) بالواو، إمَّا للحال أو للعطف، على أن يكون المعطوف عليه محذوفًا، أفاده في «عمدة القاري».
(قعد) عليه السلام (على بعيره) بمِنى يوم النَّحْر في حجة الوداع، وإنَّما قعد عليه وورد النهي عن اتخاذ ظهورها منابر؛ لأجل الحاجة إلى إسماع الناس، والنهي محمول على ما إذا لم تدعُ الحاجة إليه، على أنَّه عليه السلام هو المشرِّع، فلا يبعد أن يكون فعله ناسخًا للنهي؛ فليحفظ.
(وأمسك إنسان بخطامه)؛ بكسر الخاء، (أو بزمامه) وهما بمعنى واحد، وهو الخيط الذي يُشد فيه البُرَة؛ بضم الموحدة وفتح الراء؛ حلقة من صفر تُجعل في لحم أنف البعير، وقال الأصمعي: يُجعل في أحد جانبي المنخرين، والشكُّ من الراوي، قيل: الممسك هنا أبو بَكْرة؛ لرواية الإسماعيلي عنه: (وأمسكت أنا بخطامها [1] أو زمامها)، وقيل: بلال؛ لرواية النسائي عن أم الحصين قالت: (حججتُ فرأيتُ بلالًا يقود بخطام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم)، وقيل: عمرو بن خارجة؛ لما في السنن عنه قال: (كنتُ آخذُ بزمام ناقته عليه السلام).
قلت: ورجَّح الشيخ الإمام بدر الدين العيني أنَّ الممسك هو عمرو بن خارجة؛ لأنَّه أخبر عن نفسه، قلت: ويَحتمل تعدُّد الإمساك بأنْ مسك هذا حصة، وهذا أخرى، وهذا أخرى، وكلُّ مَن رأى الممسك أخبر عنه، وإنَّما أمسك؛ لصون البعير عن الاضطراب والتشويش على راكبه عليه السلام.
(ثم قال) عليه السلام، وفي رواية: (فقال)، (أيُّ يوم هذا؟) برفع (أيُّ)، والجملة وقعت مقول القول، (فسكتنا) عطف على (قال)، (حتى) بمعنى (إلى)، (ظنَّنا أنَّه سيسميه سوى اسمه)؛ بفتح همزة (أنَّه) في محلِّ نصب على المفعوليَّة.
(قال: أليس) فالهمزة ليست للاستفهام الحقيقي؛ بل لنفي ما بعدها، وما بعدها منفي، فيكون إثباتًا؛ لأنَّ نفي النفي إثبات، فيكون المعنى: هو (يوم النحر) كما في قوله: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؛ أي: الله كاف عبده.
(قلنا) وفي رواية: (فقلنا)، (بلى) حرف يختصُّ بالنفي ويفيد إبطالَه، وهو هنا مقول القول أُقيم مُقام الجملة التي هي مقول القول، (قال) عليه السلام (فأيُّ شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظنَّنا أنَّه)؛ بفتح الهمزة، (سيسمِّيه) أتى بالسين؛ للتوكيد، (بغير اسمه) المعلوم، (فقال) عليه السلام، وفي رواية: (قال): (أليس بذي الحجة؟)؛ بكسر الحاء المهملة وفتحها والكسر أفصح، وكذا ذو القعدة؛ بكسر القاف.
(قلنا: بلى)، وسقط في رواية السؤال عن الشهر والجواب الذي قبله، فقال: (أيُّ يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظنَّنا أنَّه سيسميه سوى اسمه، قال: أليس بذي الحجة؟)، فهو من إطلاق الكلِّ على البعض، وفي رواية: (فأيُّ بلد هذا؟ فسكتنا حتى ظنَّنا أنَّه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بمكَّة؟)، وفي رواية بالسؤال عن الشهر والجواب الذي قبله مع السؤال عن البلد، وهذه الثلاثة ثابتةٌ عند المؤلف في (الأضاحي) و (الحج)، كما بسطه هنا في «عمدة القاري».
(قال) عليه السلام (فإنَّ دماءكم)؛ أي: سفك دمائكم بغير حق، (وأموالكم)؛ أي: أخذها بغير حق، (وأعراضَكم) جمع عِرْض؛ بكسر العين: موضعُ المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه، أو أصله، أو فرعه؛ أي: ثلب أعراضكم بغير حق (بينكم حرام) خبر (إنَّ) مرفوع، (كحرمة يومكم هذا)؛ هو يوم النحر، (في شهركم هذا)؛ هو ذو الحجة، (في بلدكم هذا)؛ هي مكة المكرمة، وإنَّما شبه الثلاثة بالثلاثة؛ لاشتهار الحرمة فيها عندهم، بخلاف الأموال، والدماء، والأعراض؛ فإنَّهم في الجاهلية كانوا يستبيحونها، وما قاله ابن حجر ردَّه في «عمدة القاري».
(ليبلغِ)؛ بكسر الغين المعجمة؛ لأنَّه أمرٌ، ولكنَّه لما وصل بما بعده حرك بالكسر؛ لأنَّه الأصل، (الشاهد)؛ أي: الحاضر في المجلس، (الغائب) عنه، والمراد: إمَّا تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام.
(فإن الشاهد عسى أن يبلِّغَ) في محلِّ رفع خبر (إنَّ)، (مَنْ)؛ أي: الذي، (هو أوعى)؛ أي: أفهم، (له)؛ أي: للحديث، (منه) صلة لأفعل التفضيل، أعني قوله: (أوعى)، وإنَّما فصل بينهما بقوله: (له)؛ لأنَّ الظروف يُتوسَّع فيها ما لا يُتوسَّع في غيرها.
ويؤخذ من الحديث وجوبُ تبليغ العلم على العالم، وأنَّ حامل الحديث يجوز الأخذ عنه وإن كان جاهلًا بمعناه، وجوازُ القعود على ظهر الدواب، كما مرَّ، وأنَّ الخطبة تكون على موضع عالٍ، ومساواةُ المال والدموالعرض في الحرمة، وفيه الحث على التأدُّب مع الكبير؛ حيث يسألهم فيقولون: اللهُ ورسولُه أعلم، رضي الله عنهم أجمعين.
%ص 45%
==========
[1] في الأصل: (بخضامها).
==================
(1/132)
(10) [باب العلم قبل القول والعمل]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط في رواية، (العلم قبل القول والعمل) يعني: أنَّ الشيء يُعلم أولًا ثم يُقال ويُعمل به، فالعلم مقدَّم عليهما بالذات وبالشرف؛ لأنَّه عمل القلب، وهو أشرف أعضاء البدن، (لقول الله تعالى)، وللأصيلي: (عزَّ وجلَّ): ({فَاعْلَمْ})؛ أي: يا محمد، ({أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} [محمد: 19] فبدأ) الله تعالى (بالعلم) أولًا ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، وهو قول وعمل، والخطاب وإن كان للنبي الأعظم عليه السلام، لكنَّه عامٌّ متناولٌ لأمَّته، والأمر للدوام، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} [الأحزاب: 1]؛ أي: دُمْ على التقوى.
(وأنَّ العلماء) يجوز في (أنَّ) فتح همزتها عطفًا على سابقه وكسرُها على الحكاية، (هم ورثة الأنبياء) عليهم السلام؛ أي: مسميين بذلك، لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا [1] مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]؛ أي: وهم العلماء (وَرَّثوا)؛ بفتح الواو مع تشديد الراء المفتوحة؛ أي: الأنبياء، أو بفتح الواو مع كسر الراء المخففة؛ أي: العلماء، ويجوز ضم الواو وتشديد الراء المكسورة أيضًا؛ أي: العلماء، وما قاله ابن حجر فليس بصحيح، كما نبَّه عليه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(العلم، مَن أخذه أخذ) من ميراث النبوة (بحظ)؛ أي: نصيبٍ (وافر)؛ أي: كثير كامل، وهذا قطعة من حديث أخرجه الترمذي، وابن حبان، والحاكم من حديث أبي الدرداء: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا؛ سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضًىلطالب العلم، وإنَّ العالم تستغفر له مَن في السماوات ومَن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنَّما ورثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافر» اهـ، وتُكُلِّم في سنده كما هو مبسوطٌ في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(ومن سلك طريقًا) حال كونه (يطلب به)؛ أي: السالك، على حدِّ {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، (علمًا) نكَّره؛ ليتناول العلوم الدينية، وليشمل الكثير والقليل، (سهَّل الله له طريقًا)؛ أي: في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفِّقَه للأعمال الصالحة الموصلة (إلى الجنة)، أو هو بشارة بتسهيل العلم على طالبه؛ لأنَّ طلبه موصل إلى الجنة.
وفي «مسند الفردوس» بسنده إلى سعيد بن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا طالب العلم؛ فإنَّه متعوب البدن، لولا أنَّه يأخذ بالعجب؛ لصافحته الملائكة معاينة، ولكن يأخذ بالعجب ويريد أن يقهر مَن هو أعلم منه).
وهذه الجملة التي ساقها المؤلف أخرجها مسلم من حديث الأعمش، عن أبي صالح، والترمذي، وقال: حسن، ولم يقل: صحيح؛ لتدليس الأعمش، لكن في رواية مسلم عن الأعمش: (حدثنا أبو صالح)، فانتفت تهَمة تدليسه، كما بسطه في «عمدة القاري».
(وقال) الله (جلَّ ذكره)، وفي رواية: (جلَّ وعزَّ): ({إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ})؛ أي: يخافه، ({مِنْ عِبَادِهِ})؛ أي: من علم قدرته وسلطانه، ({العُلَمَاءُ} [فاطر: 28])، قاله ابن عباس، وقرئ: برفع الجلالة ونصب {العُلَمَاءُ}، وهي قراءة الإمام الأعظم وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما؛ لأنَّ الخشية فيها تكون استعارة، والمعنى: إنَّما يُجِلُّهم ويعظِّمُهم.
ومن لوازم الخشية التعظيم، فيكون من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، فإن قلت: خشية الله مقصورة على العلماء بقضية كلام هذه الآية، وقد ذكر الله أيضًا: أنَّ الجنة لمن يخشى وهو: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]، فيلزم من ذلك ألَّا تكون الجنةُ إلَّا للعلماء خاصَّةً.
أجاب شيخ الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأنَّ المراد من العلماء الموحِّدون، وأنَّ الجنة ليست إلَّا للموحدين الذين يخشون الله تعالى؛ أي: يخافونه [2]، ومَنِ ازداد علمًا؛ ازدادَ مِنَ الله خوفًا، وفي الحديث: «أعلمُكم بالله أشدُّكم له خشيةً»، وقال عليه السلام أيضًا: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له».
(وقال) الله تعالى: ({وَمَا يَعْقِلُهَا})؛ أي: الأمثال المضروبة، ({إِلَّا العَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]) الذين يعقلون عن الله تعالى، وروى جابر: أنَّ النبي الأعظم قرأ هذه الآية قال: «العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه»، ({وَقَالُوا})؛ أي: الكفَّار حين دخولهم النار: ({لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ}) الإنذار سماع قبول للحق، وإنَّما حذف المفعول؛ لأنَّه كالفعل اللازم، ({أَوْ نَعْقِلُ}) كلامَ الرسل عقلَ متأملين، ({مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11])؛ أي: في جملتهم في النار، والمراد من (العقل) هنا: العلم؛ لأنَّهم تمنَّوا أن لو كان لهم عقل؛ لما دخلوا النار، وروى أبو سعيد الخدري مرفوعًا: «أنَّ لكل شيء دِعامة، ودِعامة المؤمن عقلُه، فبقدر ما يعقل يعبد ربَّه، ولقد ندم الفجار يوم القيامة فقالوا: {لَوْ كُنَّا ... }؛ الآية».
وروى أنس مرفوعًا: «أنَّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنَّما يرتفع العباد غدًا في الدرجات وينالون الزلفى من ربِّهم على قدر عقولهم».
(وقال) الله تعالى: {قُلْ} ({هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]) نفى المساواة بين العلم والجهل، فيقتضي نفي المساواة أيضًا بين العالم والجاهل، وفيه مدح للعلم وذم الجهل.
(وقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) فيما أخرجه ابن أبي عاصم بهذا اللفظ في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن أبيه مرفوعًا بإسناد حسن، ووصله المؤلف بعد بابين (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)، وفي رواية: (يفهِّمه)؛ بالهاء المشددة المكسورة بعدها ميم، فالفقه لغة: الفهم، قال تعالى: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 28]؛ أي: يفهموا، ثم خص به علم الشريعة، والعالم به يسمى فقيهًا، («وإنما العلم بالتعَلُّم»)؛ بفتح العين وتشديد اللام المضمومة، وفي رواية: (بالتعلِيم) بكسر اللام وبالمثناة التحتية.
وليس هذا من كلام المؤلف، كما قاله الكرماني؛ بل هو حديث أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية، ولفظه: «يا أيها الناس؛ تعلموا العلم، إنَّما العلم بالتعلُّم، والفقه بالتفقه، ومَنْ يردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين» إسناده حسن، ورواه أبو نعيم من حديث أبي الدرداء، ولفظه: «إنَّما العلم بالتعلُّم، وإنَّما الحلم بالتحلُّم، ومَن يتحرَّ الخير؛ يعطَه»؛ فافهم.
(وقال أبو ذر) جندب بن جنادة الغفاري فيما وصله الدارمي في «مسنده» وغيره من حديث أبي مرثد، كما بسطه في «عمدة القاري»، وذلك لما قال له رجل والناس مجتمعون عليه عند الجمرة الوسطى يستفتونه: ألم تُنهَ عن الفُتيا؟ وكان الذي منعه عثمان؛ لاختلافٍ حصل بينه وبين معاوية بالشام في تأويل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصَّةً، وقال أبو ذرٍّ: نزلت فينا وفيهم، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذرٍّ، وحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذرٍّ عن المدينة إلى الرَّبَذَة؛ بفتح الراء المهملة، والباء الموحدة، والذال المعجمة، إلى أن مات: (أرقيبٌ أنت عليَّ؟) (لو وضعتم الصمصامة)؛ بالمهملتين، الأولى مفتوحة؛ أي: السيف الصارم الذي لا ينثني، أو الذي له حدٌّ واحد، (على هذه، وأشار) بقوله: (هذه) (إلى قفاه)، وفي رواية: (إلى القفا) وهو مقصور: مؤخَّرُ العنق، يُذَكَّر ويؤنَّث، (ثم ظننت أنَّي أُنْفِذ)؛ بضم الهمزة، وكسر الفاء، آخره معجمة؛ أي: أقدر على إنفاذ، (كلمة)؛ أي: تبليغها، (سمعتها من النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم قبل أن تُجِيزوا)؛ بضم المثناة فوق، وكسر الجيم، وبعد التحتية زاي معجمة، الصمصامة (عليَّ)؛ أي: على قفاي؛ أي: قبل أن تقطعوا رأسي، (لأنفذتها)؛ بفتح الهمزة والفاء وإسكان الذال المعجمة، وإنَّما فعل أبو ذرٍّ هذا؛ حرصًا على تعليم العلم لطلب الثواب، ولأمر النبي عليه السلام بالتبليغ عنه، وللوعيد في حقِّ الكتمان.
وزاد في رواية: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد الغائب») وتقدم قريبًا، وفيه دليل على أنَّ أبا ذرٍّ كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا، و (لو) هنا لمجرَّد الشرط كـ (إن) من غير ملاحظة الامتناع، أو المراد: أنَّ الإنفاذ حاصل على تقدير الوضع، فعلى تقدير عدم الوضع حصولُه أولى، كقوله: نِعْمَ العبد صهيب لو لم يخفِ الله؛ لم يعصه.
وفيه جواز الشِّدَّة وتحمُّل الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويباح له أن يسكت إذا خاف الأذى، كما قال أبو هريرة: (لو حدثتكم بكل ما في جوفي؛ لرميتموني بالبعر)، قال الحسن: صدق، وأراد بذلك ما يتعلَّق بالفتن ممَّا لا يتعلَّق بذكره مصلحةٌ شرعية، وإلَّا لما كتمه، وسيأتي في محلِّه، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
(وقال ابن عباس) رضي الله عنهمافيما وصله ابن أبي عاصم والخطيب بإسناد حسن، ({كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 89])؛ أي (حلماء) جمع حليم؛ باللام وضم الحاء المهملة؛ وهو الطمأنينة عند الغضب، (فقهاء) جمع فقيه؛ وهو العالم بالأحكام الشرعيَّة العلميَّة من أدلتها التفصيليَّة، وفي رواية: (حكماء) جمع حكيم، وهي الفقه في الدين، وقيل: صحة القول، والعقد، والفعل، (علماء) جمع عالم، وهذا تفسيره.
وقال في «عمدة القاري»: (الرباني
%ص 46%
منسوب إلى الرب، وأصله: «ربي»، فزيدت فيه الألف والنون؛ للتأكيد والمبالغة في النسبة، العالي الدرجة في العلم بأن يكون عالمًا ومعلمًا، وإنَّما سمِّي العلماء ربانيين؛ لأنَّهم يربون العلم؛ أي: يقومون به)، وتمامه فيه.
وقال المؤلف حكاية عن بعضهم: (ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره)؛ أي: بجزئيات العلم قبل كلياته، أو بفروعه قبل أصوله، أو بمقدماته قبل مقاصده، وإنَّما لم يذكرِ المؤلف حديثًا موصولًا في هذا الباب؛ إمَّا أنه لم يثبت عنده بشرطه أو اكتفى بما ذكره تعليقًا؛ لأنَّ المقصود من الباب بيان فضيلة العلم، ويُعلم ذلك من المذكور آية، وحديثًا، وإجماعًا سكوتيًا من الصحابةرضي الله عنه، وتمامه في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (اصطفيانهم).
[2] في الأصل: (يخافوه).
==================
[1] في الأصل: (اصطفيانهم).
[1] في الأصل: (اصطفيانهم).
(1/133)
(11) [باب ما كان النبي يتخولهم بالموعظة]
هذا (باب ما كان)؛ أي: باب كون، (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) فـ (الباب) مضاف إلى الجملة بعدَه، و (ما) مصدريَّة، (يتخولهم)؛ بالخاء المعجمة واللام؛ أي: يتعهدهم، والمراد: أصحابهرضي الله عنهم، (بالموعظة) بالنصح والتذكر بالعواقب، (والعلم) من عطف العام على الخاص، وذكره الموعظة؛ لكونها مذكورة في الحديث، وأمَّا العلم؛ فاستنباطًا، (كي لا يَنفِروا)؛ أي: لئلا يملُّوا عنه ويتباعدوا منه؛ بفتح المثناة التحتية وكسر الفاء.
==========
%ص 47%
==================
(1/134)
[حديث: كان النبي يتخولنا بالموعظة في الأيام]
68# وبه قال: (حدثنا محمد بن يوسف) بن واقد الفِريابي؛ بكسر الفاء، وسكون الراء بعدها مثناة تحتية وبعد الألف موحدة، نسبة إلى فِرياب؛ مدينة من نواحي بلْخ، أبو عبد الله الضَّبِّيُّ؛ بفتح الضاد المعجمة وتشديد الموحدة، المتوفى في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومئتين.
وقال الكرماني: هو محمد بن يوسف البيكنديُّ، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه وهم؛ لأنَّ المؤلف حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلَّا الفِريابي وإن كان يروي عنِ البيكندي؛ فليحفظ.
(قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا)، (سفيان) هو الثوري، (عن الأعمش) سليمان بن مهران، (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة الكوفي، وفي رواية: (أحمد عن الأعمش قال: سمعت شقيقًا)، وعند المؤلف في (الدعوات): (قال الأعمش: حدثنا شقيق)، فانتفت تهَمة تدليس الأعمش؛ فليحفظ.
(عن ابن مسعود) عبد الله رضي الله عنه أنَّه (قال: كان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا) جملة محلُّها النصب خبر (كان)؛ بالخاء المعجمة واللام؛ أي: يتعهدنا؛ أي: يراعي الأوقات في التذكير ولا يفعله كل يوم، وفي رواية: (يتخوننا) بالنون موضع اللام؛ أي: يتعهدنا، وفي رواية: (يتحولهم)؛ بالحاء المهملة؛ أي: يطلب أحوالهم التي ينشَطون فيها للموعظة، وصوَّبها أبو عمرو الشيباني، وتمامه في «عمدة القاري».
(بالموعظة في الأيام) صفة لـ (الموعظة)؛ أي: أنَّه يعظهم في أوقات معلومة، ولم يكن يستغرق الأوقات، (كراهةَ) بالنصب مفعول له؛ أي: لأجل كراهة (السآمة) بالمدِّ؛ أي: الملالة من الموعظة، (علينا)، وفي رواية: (كراهية) بزيادة مثناة تحتية، والجارُّ والمجرور إمَّا متعلِّق بـ (السآمة) على تضمين (السآمة) معنى المشقَّة؛ أي: كراهة المشقَّة علينا، وإمَّا صفة؛ أي: كراهة السآمة الطارئة علينا، وإمَّا حالٌ [1]؛ أي: كراهة السآمة حال كونها طارئة علينا، وإمَّا يتعلَّق بمحذوف؛ أي: كراهة السآمة شفقةً علينا، أفاده في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (حالًا)، وليس بصحيح.
%ص 47%
==================
(1/135)
[حديث: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا]
69# وبه قال: (حدثنا محمد بن بَشَّار)؛ بفتح الموحدة وتشديد المعجمة: ابن عثمان بن داود، أبو بكر الملقب ببُنْدار؛ بضم الموحدة، وإسكان النون، وبالدال المهملة: العبدي نسبة إلى عبد مضر بن كِلاب البصري، المتوفى في رجب سنة اثنتين وخمسين ومئتين عن خمس وثمانين سنة.
(قال: حدثنا يحيى) وفي رواية: (ابن سعيد)؛ أي: القطَّان الأحول، (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (قال: حدثني) بالإفراد، (أبو التَّيَّاح)؛ بفتح المثناة الفوقية، وتشديد المثناة التحتية، آخره مهملة: يزيد بن حُميد؛ بالتصغير، الضُّبَعي؛ بضم المعجمة وفتح الموحدة، نسبةً إلى ضُبَعة بن يزيد، المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة.
(عن أنس)؛ أي: ابن مالك، كما في رواية، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنَّه (قال: يسِّروا) أمرٌ من اليسر نقيض العسر؛ أي: سهل، والجملة مقول القول، (ولا تعسِّروا) نهيٌ، من عسَّر تعسيرًا، لا يقال: الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده؛ لأنَّ المقصود التصريح بما لزم ضمنًا للتأكيد، ولو اقتصر على (يسِّروا) وهو نكرة؛ لصدق ذلك على مَن يسَّرَ مرَّةً وعسَّرَ في معظم الحالات، فإذا قال: ولا تعسِّروا؛ انتفى التعسير في جميع الحالات من جميع الوجوه.
(وبشِّروا) أمرٌ مِن البشارة؛ وهي: الإخبار بالخير، نقيض النذارة؛ وهي: الإخبار بالشَّرِّ، (ولا تُنَفِّروا) نهيٌ مِن نفَّر بالتشديد؛ أي: بشِّروا المؤمنين أو الناس بفضل الله وسَعَة رحمته، ولا تُنَفِّروهم بذكر عِقابه وعذابه الأليم.
لا يقال: كان المناسبُ أن يقال بدل (ولا تُنَفِّروا): (ولا تُنْذِروا)؛ لأنَّ الإنذار نقيض التبشير لا التنفير؛ لأنَّا نقول: المقصود من الإنذار التنفير، فصرح بما هو المقصود منه.
لا يقال: إنَّه كان يقتصر على قوله: (ولا تعسِّروا ولا تُنفِّروا)؛ لأنَّا نقول بعموم [1] النكرة في سياق النفي؛ لأنَّه لا يلزم من عدم التعسير ثبوت التيسير، ولا من عدم التنفير ثبوت التبشير [2]، فجمع بين هذه الألفاظ؛ لثبوت هذه المعاني، ولأنَّ المحلَّ محلُ إطناب لا اختصار.
وبين (يسِّروا) وبين (بشِّروا) الجناس الخطي، والجناس بين اللفظين تشابههما في اللفظ، وهذا من الجناس التام المتشابه، وهو باب من أنواع البديع الذي يزيد في الكلام البليغ حُسْنًا وطلاقة، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (لعموم).
[2] في الأصل: (ولا من عدم التعسير ثبوت التيسير).
%ص 47%
==================
[1] في الأصل: (لعموم).
[1] في الأصل: (لعموم).
(1/136)
(12) [باب من جعل لأهل العلم أيامًا]
هذا (باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة) بالجمع في الأول والإفراد في الثاني، وفي رواية: بالجمع فيهما، وفي آخر: بالإفراد فيهما، و (باب) خبرٌ لمبتدأ محذوف ومضافٌ لما بعده.
==========
%ص 47%
==================
(1/137)
[حديث: كان عبد الله يذكر الناس كل خميس]
70# وبه قال: (حدثنا عثمان بن أبي شيبة) هو عثمان بن محمد بن إبراهيم ابن أبي شيبة بن خواستي؛ بضم المعجمة، وبعد الألف سين مهملة، ثم تاء مثناة فوقية: أبو الحسن العبسي الكوفي، المتوفى لثلاث بقين من المحرم سنة تسع وثلاثين ومئتين.
(قال: حدثنا جرير) بن عبد الحميد بن قرط بن هلال الضبي الكوفي، المتوفى سنة ثمان وثمانين ومئة، وقيل: سبع، (عن المنصور) بن المعتمر بن عبد الله، الممتنع من تولي القضاء، الصائم أربعين سنة مع قيام ليلها، المتوفى سنة ثلاث أو اثنين وثلاثين ومئة، وعمش من البكاء.
(عن أبي وائل) شقيق بن سلمة أنه (قال: كان عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، (يُذَكِّر الناس) جملةٌ محلها النصب خبر (كان)، (في كل) يوم (خميس، فقال له)؛ أي: لابن مسعود (رجل)، قال في «عمدة القاري»: إنَّه يزيد بن عبد الله النخعي: (يا أبا عبد الرحمن) هو كنية عبد الله بن مسعود، (لَوددتُ) اللام: جواب قسم محذوف؛ أي: والله لَأحببتُ، (أنَّك)؛ بفتح الهمزة؛ لأنَّه مفعول، (ذكَّرتنا) بتشديد الكاف، محلُّه الرفع خبر (أنَّ)، (كل يوم) منصوبٌ على الظرفية؛ أي: في كلِّ يوم، (قال) عبد الله: (أَمَا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف الميم: حرفُ استفتاح بمنزلة (أَلَا)، وتكثر قبل القسم، أو بمعنى: حقًّا، وما قاله الكرماني أنَّها حرف تنبيه ردَّه في «عمدة القاري»، (إنَّه)؛ بكسر الهمزة، والضمير فيه للشأن، أو بفتحها على أنَّ (أَمَا) بمعنى: حقًّا، (يمنعني) فعل ومفعول، (من ذلك)؛ أي: الذكر كل يوم، (أنِّي)؛ بفتح الهمزة: فاعل (يمنعني)، (أكره) جملةٌ محلها الرفع خبر (أنَّ)، (أنْ أُمِلَّكم)؛ بضم الهمزة، وكسر الميم، وتشديد اللام المفتوحة، و (أنْ) مصدريَّة؛ أي: أكره إملالكم وضجركم، (وإنِّي)؛ بكسر الهمزة، (أتخوَّلُكم)؛ بالخاء المعجمة، جملةٌ محلها الرفع خبر (إنَّ)؛ أي: أتعهدكم، (بالموعظة كما) الكاف: للتشبيه و (ما) مصدريَّة، (كان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا)؛ أي: يتعهدنا (بها)؛ أي: بالموعظة، (مخافةَ السآمة علينا) يتعلَّق بـ (المخافة) أو يتعلَّق بـ (السآمة)، وفيه من الاقتداء بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم والمحافظة على سنته.
==========
%ص 47%
==================
(1/138)
(13) [باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين]
هذا (باب) بالتنوين (مَن) موصولة؛ أي: الذي (يُرِدِ الله به خيرًا) بالنصب مفعول (يُرِد) المجزوم؛ لأنَّه فعل الشرط؛ لأنَّ الموصول متضمِّنٌ معنى الشرط، وكُسِرَ؛ لالتقاء الساكنين، وجواب الشرط (يفقهْه)؛ بسكون الهاء، (في الدين)، وفي رواية: سقط قوله: (في الدين).
والفقه لغةً: الفَهْم، يقال: فُقِه الرجل بالكسر: إذا فهم، وبالضم: إذا صار فقيهًا، ثم خُصَّ بعلم الشريعة؛ لأنَّه مستنبط من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، فيقال فيه اصطلاحًا: العلمُ بالأحكام الشرعيَّة العمليَّة من أدلتها التفصيليَّة.
==========
%ص 47%
==================
(1/139)
[حديث: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين]
71# وبه قال: (حدثنا سعيد بن عُفَير)؛ بضم
%ص 47%
العين المهملة، وفتح الفاء، وسكون المثناة التحتية، آخره راء، ابن كثير المصري، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا ابن وهب)؛ بسكون الهاء، واسمه عبد الله بن وهب بن مسلم المصري أبو محمد القرشي الفهري، المتوفى بمصر سنة سبع وتسعين ومئة، لأربع بقين من شعبان.
(عن يونس) بن يزيد الأيلي، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (قال: قال حُميد بن عبد الرحمن) بن عوف، وحاء (حُميد) مضمومة، وفي رواية: (حدثني_ بالإفراد_ حُميد بن عبد الرحمن قال): (سمعت معاوية) بن أبي سفيان، صخر بن حرب الأموي كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقبه كثيرة جمَّة، توفي في رجب سنة ستين عن ثمان وسبعين سنة؛ أي: سمعت قولَه حالَ كونِه (خطيبًا) حالَ كونِه (يقول: سمعت النبي) الأعظم، وفي رواية: (سمعت رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: كلامَه حالَ كونِه (يقول: مَن يُرِدِ الله) عزَّ وجلَّ؛ بضمِّ المثناة التحتية وكسر الراء، من الإرادة وهي صفة مخصِّصةٌ لأحد طرفي المقدور بالوقوع، (به خيرًا)؛ أي: جميع الخيرات، أو خيرًا عظيمًا، و (مَن) موصولة تتضمَّن معنى الشرط، و (يُرِد) فعل الشرط، وجزاؤه [1] قوله: (يفقهْه)؛ بسكون الهاء؛ أي: يجعله فقيهًا (في الدين) والفقه [2] لغةً: الفَهْم، ولا يناسب هنا إلَّا المعنى اللغوي؛ ليتناول فهم كلِّ علم من علوم الدين، وإنَّما نكَّر (خيرًا)؛ لفائدة التعميم؛ لأنَّ النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي فتعمُّ، والتنوين فيه للتعظيم، أو التنكير للتعظيم.
(وإنَّما أنا قاسم)؛ أي: أقسم بينكم بتبليغ الوحي، و (إنَّما) أداة حصر، و (أنا) مبتدأ، و (قاسم) خبرُه، وقوله: (والله يعطي) مبتدأ وخبره، والجملة: حال؛ أي: يعطي كل واحد منكم من الفهم على قدر ما تعلقت به إرادته تعالى، فالتفاوت في أفهامكم منه تعالى، وهنا كلام طويل يُطلب من «شرح الشيخ الإمام بدر الدين العيني» رحمه الله تعالى.
فإن قلت: الحصر بـ (إنَّما) مع أنَّه عليه السلام له صفات أخرى سوى قاسم.
أُجيب: بأنَّ هذا ورد ردًّا على مَن يعتقد أنَّه عليه السلام يعطي ويقسم، فلا ينفي إلَّا ما اعتقده السامع، لا كل صفة من الصفات، وفيه حذف المفعول.
(ولن تزال هذه الأمة قائمة) (لن): ناصبة للنفي، و (تزال): من الأفعال الناقصة، و (هذه الأمة) جملة اسمية: اسمُها، و (قائمة) بالنصب: خبرُها، (على أمر الله)؛ أي: على الدين الحق، (لا يضرهم من)؛ أي: الذي، (خالفهم حتى يأتي أمر الله) والجملة حال، و (حتى) غاية لقوله: (لن تزال).
أراد بهذا أنَّ أمَّتَه آخرُ الأمم وأنَّ عليها تقوم الساعة وإنْ ظهرتْ أشراطُها وضعف الدين، فلا بُدَّ أن يبقى من أُمَّتِه مَن يقوم به، وقوله عليه السلام: «لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحدٌ: الله الله»، وقوله: «لا تقوم الساعة إلَّا على أشرار الخلق» إنَّما ذلك عند القيامة، وبيانه ما جاء في حديث أبي أمامة أنَّه عليه السلام قال: «لن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم»، قيل: وأين هم يا رسول الله؟ قال: «ببيت المقدس أو أكناف بيت المقدس»، قال إمامنا الإمام الأعظم والإمام المؤلف: هم أهل العلم.
وفي الحديث: دلالة على حجة الإجماع، وفيه: فضل الفقه في الدين على سائر العلوم؛ لأنَّ عليه مدار الأحكام، وفيه: فضل العلماء على سائر الناس، وفيه: إخباره عليه السلام بالمغيَّبات، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (جزاءه).
[2] في الأصل: (والفهم).
==================
[1] في الأصل: (جزاءه).
[1] في الأصل: (جزاءه).
(1/140)
(14) [باب الفهم في العلم]
هذا (باب الفهم)؛ بسكون الهاء وفتحها لغتان، (في العلم)؛ أي: العقل والمعرفة، كذا فسَّره الليث، وفسَّر (الفهم) بالعلم ابن حجر والبِرماوي تبعًا للكرماني، وهو غير صحيح، كما بسطه الشيخ الإمام بدر الدين العيني رحمه الله تعالى؛ فليحفظ.
==========
%ص 48%
==================
(1/141)
[حديث: إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم]
72# وبه قال: (حدثنا علي) وفي رواية: (ابن عبد الله)؛ أي: المديني، المتوفى في ذي القعدة سنة أربع وثلاثين ومئتين، (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عُيينة، (قال: قال لي ابن أبي نَجيح)؛ بفتح النون: هو عبد الله بن يسار المكي، قيل: يُرمَى بالقدر، لكن وثَّقه أبو زرعة وغيره، المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومئة، وفي «مسند الحميدي»: (عن سفيان حدثني ابن أبي نَجيح)، (عن مجاهد) هو ابن جَبْر؛ بفتح الجيم وسكون الموحدة، وقيل: جُبير؛ بالتصغير، المخزومي الإمام المتفق على جلالته وتوثيقه، المتوفى سنة مئة، (قال: صحبت ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (إلى المدينة)؛ أي: مدينة النبي الأعظم عليه السلام، (فلم أسمعه) حال كونه (يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا حديثًا واحدًا) أراد به الحديث الذي بعده متصلًا به، (قال: كنا)، وفي رواية: بإسقاط لفظ (قال)، (عند النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) في مجلسٍ، (فأُتي)؛ بضم الهمزة، (بجُمَّار)؛ بضمِّ الجيم وتشديد الميم، وهو شحم النخيل.
(فقال) عليه السلام: (إنَّ من الشجر) كل ما له ساق من نبات الأرض، (شجرةً) بالنصب اسم (إنَّ)، وخبرُها الجار والمجرور، و (مِن) للتبعيض، (مَثَلها كمَثَل)؛ بفتح الميم والمثلثة فيهما؛ أي: صفُتها العجيبة كصفة (المسلم) في النفع، قال ابن عمر: (فأردتُ أن أقول) في جواب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حدثوني ما هي؟»، كما صرّح به في رواية، (هي النخلة) مبتدأٌ وخبرُه، والجملة مقول القول، (فإذا أنا أصغر القوم)، (ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان)، كما في رواية، (فسكتُّ)؛ بضمِّ التاء على صيغة المتكلِّم؛ تعظيمًا لهما.
(قال)، وفي رواية: (فقال)، (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) مبتدأ وخبره، والجملة مقول القول، ووجه المناسبة في الحديث للترجمة من كون ابن عمر لما ذَكر النبيُّ عليه السلام المسألة عند إحضار الجُمَّار إليه؛ فَهِم أنَّ المسؤول عنه النخلة، بقرينة الإتيان بجُمَّارها، وبقية [1] مباحثه تقدمت مرارًا؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (وبقيته).
%ص 48%
==================
(1/142)
(15) [باب الاغتباط في العلم والحكمة]
هذا (باب الاغتباط في العلم والحكمة) الاغتباط: افتعال من الغبطة، وهي: أن يتمنى مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها عنه، والحسد: أن يتمنى زوال ما فيه، والحكمة: معرفة الأشياء على ما هي عليه، فهي مرادفة للعلم، فالعطف عليه من باب العطف التفسيري.
(وقال عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه) فيما أخرجه أبو عمرو بإسناد صحيح من حديث ابن سيرين عن الأحنف عنه، وأخرجه الخوزي، وابن أبي شيبة، والبيهقي، كما بسطه في «عمدة القاري»: (تفقهوا قبل أن تُسَوَّدوا)؛ بضمِّ المثناة الفوقيَّة، وفتح السين المهملة، وتشديد الواو؛ أي: قبل أن تصيروا [1] سادة، وتعلموا العلم ما دُمتُم صغارًا قبل السيادة والرئاسة؛ لأنَّ مَن سوَّده الناس يستحي أن يَقعُد مقعد المتعلِّم؛ خوفًا على رئاسته عند العامة، فيبقى على جهله، وقيل: معناه: قبل أن تتزوَّجوا، وقيل: معناه: قبل أن تَسْوَدَّ لحيتكم، والمعنى الأول أعم، وتمامه في «عمدة القاري».
وفي رواية الكشميهني زاد قوله: (قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، وفي رواية: (قال محمد بن إسماعيل)؛ أي: المؤلف: (وبعد أن تُسَوَّدوا)؛ بضمِّ المثناة الفوقيَّة، وفتح السين المهملة، وتشديد الواو، عطف على قول عمر رضي الله عنه؛ أي: تفقهوا قبل أن تُسَوَّدوا وتفقهوا بعد أن تُسَوَّدوا؛ أي: بعد أن تصيروا سادةً كبارًا؛ لأنَّه لا يجوز ترك التفقه بعد السيادة إذا فاته قبلَها حتى يمضي عمره باشتغاله في العلم لينال الشهادة الواردة في الأحاديث الجمَّة.
ويدل لذلك أيضًا: أنَّ المؤلف أكَّد ذلك بقوله: (وقد تعلَّم أصحاب النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) العلم (في كبر سنهم)؛ لأنَّ الناس الذين آمنوا بالنبي عليه السلام وهم كبارٌ ما تفقَّهوا إلَّا في كبر سنهم، وما ذكره الكرماني وتبعه القسطلاني كلُّه تعسُّفٌ وخروجٌ عن مقصود المؤلف، مع ما فيه من التكلف الذي لا حاجة إليه، كما نبَّه عليه الشيخ الإمام بدر الدين العيني رضي الله تعالى عنه ونفعنا به في الدارين؛ فليحفظ.
==================
(1/143)
[حديث: لا حسد إلا في اثنتين]
73# وبه قال: (حدثنا الحُميدي)؛ بضم الحاء المهملة: أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عبس المكي، المتوفى سنة تسع عشرة ومئتين، (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عُيينة، (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع، (إسماعيل بن أبي خالد على غير ما)؛ أي: على غير اللفظ الذي، (حدَّثَناهُ الزهريُّ) محمد بن مسلم بن شهاب، المسوق روايته عند المؤلف في (التوحيد)، يعني: أنَّ ابن عُيينة ذكر أنَّ الزهريَّ حدَّثه بهذا الحديث بلفظ غير اللفظ الذي حدَّثه به إسماعيل، [و] (الزهريُّ) بالرفع فاعلُ (حدَّث)، و (نا) مفعولُه، والضمير يرجع إلى الحديث.
والغرض من هذا: الإشعارُ بأنَّه سمع ذلك من إسماعيل على وجهٍ غير الوجه الذي سمع من الزهري، إمَّا مغايرةً في اللفظ أو في الإسناد أو غير ذلك، وفائدته: التقوية والترجيح بتعداد الطرق، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الروايتين وما بينهما من التخالف
%ص 48%
في اللفظ.
(قال)؛ أي: إسماعيل بن [أبي] خالد، (سمعت قيس بن أبي حازم)؛ بالحاء المهملة والزاي، (قال: سمعت عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه؛ أي: كلامَه حالَ كونِه (قال: قال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: لا حسدَ)، فـ (لا) لنفي الجنس، و (حسد) اسمه مبني على الفتح، وخبرُه محذوف؛ أي: جائز، (إلَّا في اثنتين) بتاء التأنيث؛ أي: خصلتين، وللمؤلف: (اثنين) بغير تاء؛ أي: شيئين (رجلٌ) بالرفع على تقدير: إحدى الاثنتين خصلةُ رجلٍ، فلمَّا حذف المضاف اكتسب المضاف إليه إعرابَه، والنصب على إضمار (أعني رجلًا)، وهي رواية ابن ماجه، والجرُّ على أنَّه بدل من (اثنين) [1]، وعلى رواية (اثنتين) بالتاء؛ فهو بدل أيضًا على تقدير حذف المضاف؛ أي: خصلةُ رجلٍ؛ لأنَّ (اثنتين) معناه: خصلتين، كما مر، (آتاه الله) بالمدِّ؛ أي: أعطاه (مالًا) من الحلال (فسُلِّط) بضمِّ السين، وفي رواية: (فسلَّطه) بالهاء، وعبَّر بـ (سلَّط)؛ ليدُلَّ على قهر النفس المجبولة على الشُّحِّ (على هلَكَته) بفتح اللام والكاف؛ أي: إهلاكه (في الحق) لا في التبذير.
(ورجلٌ) بالأوجه الثلاثة (آتاه الله) بالمدِّ أيضًا؛ أي: أعطاه، (الحكمة)؛ أي: القرآن، كما في حديث أبي هريرة: «لا حسد إلَّا في اثنتين؛ رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو يهلكه_ وفي رواية: ينفقه_ في الحق»، (فهو يقضي بها) بين الناس، (ويعلمها) لهم، أطلق الحسد وأراد الغبطة، من باب إطلاق اسم المسبب على السبب، ومعنى الحسد هنا: شدة الحرص والرغبة، كنَّى بالحسد عنهما؛ لأنَّهما سببه والداعي إليه، ولهذا سماه المؤلف اغتباطًا، ويدُلُّ له ما ذكره المؤلف في (فضائل القرآن) من حديث أبي هريرة ولفظه: «فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل»، فلم يتمنَّ السلب، وإنَّما تمنَّى أن يكون مثلَه، وقد تمنَّى ذلك الصالحون والأخيار.
وفيه قول بأنَّه تخصيصٌ لإباحة نوع من الحسد، وإخراجٌ له عن جملة ما حُظر منه، كما رُخِّص في نوع من الكذب وإن كانت جملتُه محظورة، فالمعنى: لا إباحة في شيء من الحسد إلَّا فيما كان هذا سبيله؛ أي: لا حسد محمودٌ إلَّا هذا، وقيل: إنَّه استثناء منقطع بمعنى: لكن في اثنين، وإذا أنعم الله على أخيك نعمةً فكرهتها وأحببتَ زوالَها فهو حرام، إلَّا نعمة أصابها كافر، أو فاجر، أو مَن يستعين بها على فتنة أو فساد، ويُستدَلُّ بهذا الحديث على أنَّ الغنيَّ الشاكر الذي قام بشروط المال أفضلُ من الفقير الصابر، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (اثنتين)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/144)
(16) [باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر]
هذا (باب ما ذَكر في ذهاب)؛ بالفتح (موسى) وفي رواية زاد: (صلى الله عليه وسلم) هو ابن عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قيل: عاش مئة وعشرين [1] سنة، وقيل: مئة وستين [2] سنة، وكانت وفاته في التيْه في سابع آذار لمضيِّ ألف سنة وست مئة وعشرين سنة من الطُّوفان، وموسى: معرَّب موشى؛ بالشين المعجمة، سمَّته به آسية بنت مُزاحم امرأة فرعون لمَّا وجدوه في التابوت، وهو اسم اقتضاه حاله؛ لأنَّه وجد بين الماء والشجر، فـ (مو) بلغة القبط: الماء، و (شى): الشجر، فعُرِّب فقيل: موسى.
(في البحر) خلاف البَرِّ، سُمِّي به؛ لعمقه واتِّساعه، وهو ملتقى بحر فارس والروم، وقيل: بحر المغرب وبحر الزُّقاق، فبحر فارس ينبعث من بحر الهند شمالًا، وبحر الروم: هو بحر إفريقية والشام يمتد من البحر الأخضر إلى المشرق، وبحر إفريقية: هو بحر طرابلس الغرب، وبحر الغرب: هو البحر الأخضر الذي لا يُعرف منه إلَّا ما يلي الغرب؛ لأنَّ المراكب لا تجري فيه، وبحر الزُّقاق بين طَنجة وبرِّ الأندلس.
(إلى الخَضِر عليهما السلام)؛ بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، وقد تسكَّن الضاد مع كسر الخاء وفتحها، واسمه بَلْيا؛ بفتح الموحدة، وسكون اللام، آخره مثناة تحتية، ويقال: إبَلْيا بزيادة الهمزة، وقيل: اسمه خضر، وقيل: أرميا، وقيل: اليسع، وقيل: عامر، والمشهور الأول، وهو ابن مَلْكان؛ بفتح الميم وإسكان اللام، ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وقيل: خضرون بن عمائيل بن الغنز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وقيل: هو ابن حلفياء، وقيل: ابن قابيل ابن آدم، وقيل: ابن آدم لصلبه.
وكان في زمن ذي القرنين الأكبر الذي كان في زمن إبراهيم، وكان وزيره، وإنَّه شرب من ماء الحياة، والصحيح: أنَّه كان متقدِّمًا على زمن ذي القرنين.
وهو نبيٌّ على الصحيح، وقيل: إنَّه وليٌّ، وقيل: إنَّه من الملائكة، وهو غريب، وقيل: إنَّه مرسَل، فهو نبيٌّ معمَّر محجوبٌ عن الأبصار على الصحيح، وأنَّه باق إلى يوم القيامة، قيل: لأنَّه دَفن آدم بعد خروجهم من الطوفان، فنالتْه دعوة أبيه آدم بطول الحياة، وقيل: لأنَّه شرب من عين الحياة، والقول بحياته قولُ جمهور العلماء، والصالحين، والعامة، وأنكر حياته المؤلف وغيرُه من المحدِّثين، وقيل: لا يموت إلَّا في آخر الزمان حتى يرتفع القرآن، وفي «مسلم»: (أنَّ الدجَّال يقتل رجلًا) قال الراوي: إنَّه الخَضِر.
(فإن قلت): إنَّ الترجمة تُفيد أنَّ موسى ركب البحر لمَّا توجَّه في طلب الخَضِر، مع أنَّه ثبت عند المؤلف أنَّه خرج إلى البحر وإنَّما ركب في السفينة هو والخَضِر بعد أن التقيا.
(أجيب): بما روى عبدُ بن حُميد عن أبي العالية: (أنَّ موسى التقى بالخَضِر في جزيرة من جزائر البحر) اهـ، والتوصُّل إلى جزيرة في البحر لا يقع إلَّا بسلوك البحر، وبما رواه أيضًا من طريق الرَّبيع بن أنس قال: (انجابَ الماء عن مسلك الحوت فصار طاقة مفتوحة فدخلها موسى على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخَضِر)، فهذان الأثران الموقوفان برجال ثقات يوضِّحان أنَّه ركب البحر إليه، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(و) باب (قوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ}) حكايةً عن خطاب موسى الخَضِر عليهما السلام، سأله أن يعلِّمَه من العلم الذي عنده ممَّا لم يقف عليه موسى، وكان له ابتلاءً؛ حيث لم يَكِل العلم إلى الله تعالى، وهو لا ينافي نبوَّتَه وكونَه صاحبَ شريعةٍ؛ لأنَّه راعى الأدب والتَّواضع فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعًا له.
({عَلَى أن تُعَلِّمَنِ ... })؛ أي: على شرط أن تعلمني، وهو في موضع الحال من الكاف، (الآية [الكهف: 66]) بالنصب على تقدير: اذكر الآية، وبالرفع على أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: الآية بتمامها، وزاد الأصيلي باقي الآية؛ وهو قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]؛ أي: علمًا ذا رُشْد، وهو إصابة الخير، وقرأ يعقوب وأبو عمرو وغيرُهما: بفتحهما [1]، وهما لغتان، وهو مفعول {تُعَلِّمَنِ}، ومفعول {عُلِّمْتَ} العائد محذوف، وكلاهما منقول من (عَلِمَ) الذي له مفعول واحد، ويجوز أن يكون علة لـ {أَتَّبِعُكَ}، أو مصدرًا بإضمار فعله.
==========
[1] في الأصل: (عشرون).
[2] في الأصل: (ستون).
[3] أي: فتح الراء والشين؛ أي: (رَشَدًا).
%ص 49%
==================
[1] في الأصل: (عشرون).
[2] في الأصل: (ستون).
[1] في الأصل: (عشرون).
[1] في الأصل: (عشرون).
[2] في الأصل: (ستون).
(1/145)
[حديث: بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل]
74# وبه قال: (حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع، (محمد بن غُرَير)؛ بغين معجمة مضمومة، وراء مكررة، الأولى منهما مفتوحة، بينهما مثناة تحتية ساكنة، ابن الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو عبد الله القرشي (الزهريِّ) المدني، نزيل سمرقند.
(قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم) بن سعد، أبو يوسف القرشي المدني الزهري، المتوفى ببغداد، سنة ثمان ومئتين في شوال، (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع، (أبي): إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو يعقوب القرشي المدني الزهري، شيخ محمد بن إدريس الشافعي (عن صالح) بن كَيسان؛ بفتح الكاف، التابعي، المتوفى وهو ابن مئة ونيف وستين سنة، ابتدأ بالتعليم وهو ابن تسعين سنة، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (حدَّث)، وفي رواية: (حدثه)، (أنَّ عُبيد الله)؛ بالتصغير، (ابن عبد الله)؛ بالتكبير، ابن عُتبة (أخبره عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنه، (أنَّه تمارى)؛ أي: تجادل وتنازع، (هو)؛ أي: ابنُ عباس، (والحُرُّ)؛ بضم الحاء المهملة وتشديد الراء، (ابن قَيْس)؛ بفتح القاف، وسكون التحتية، آخره مهملة، (ابن حِصْن)؛ بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين، الصحابي (الفَزاري)؛ بفتح الفاء، والزاي، ثم الراء، نسبةً إلى فزارة بن شيبان (في صاحب موسى) عليه السلام، هل هو الخَضِر أم غيره؟ (فقال ابن عباس) رضي الله عنهما: (هو خضر)؛ بفتح أوله وكسر ثانيه، أو بكسر أوله وإسكان ثانيه،
%ص 49%
وإنَّما لم يُدخل على (خضر) آلة التعريف وفي الترجمة ذكره معرَّفًا مع أنَّه عَلَمٌ؛ لأنَّ بعض الأعلام دخول التعريف عليه لازم؛ نحو: النجم والثريا، وبعضها غير لازم؛ نحو: الحارث، والخضر من هذا القسم، والعَلَم إذا لُوحظ فيه معنى الوصف؛ يجوز إدخال التعريف عليه؛ كالعباس والحسن وغيرهما، ولم يذكر مقالة الحُرِّ بن قيس، قال بعضهم: لم أقف على شيءٍ من طرق هذا الحديث، قلت: مقالته قد تمت، وما بعدها إنَّما كان قول أُبيٍّ بحضور الحُرِّ بن قيس وعبد الله بن عباس، فالحديث مقالة الجميع؛ فافهم.
(فمر بهما)؛ أي: بابن عباس والحُرِّ بن قيس (أُبيُّ بن كعب)؛ أي: ابن المنذر الأنصاري، أقرأ هذه الأمة، المتوفى سنة تسع عشرة، وقيل: عشرين، وقيل: ثلاثين بالمدينة، كذا في «عمدة القاري»، وفي خارج باب الشرقي [في] ديارنا الشامية قبةٌ مُهابةٌ وتحتَها قبرٌ جليلٌ عظيمٌ، المشهور عند العامَّة أنَّه أُبيُّ بن كعب، يُقصد بالزيارة، والدعاءُ عنده لا يُرَدُّ؛ فتأمَّل، (فدعاه) أي: ناداه (ابن عباس) رضي الله عنهما، وروي: (فمرَّ بهما أُبيُّ بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: يا أبا الطُّفيل؛ هلمَّ إلينا)، (فقال: إنِّي تماريت) أي: اختلفتُ (أنا وصاحبي هذا) الحُرُّ بن قيس، وأتى بتأكيد المعطوف عليه بالضمير المنفصل؛ لتحسين العطف، ويجوز أن ينتصب على المفعول معه، (في صاحب موسى) عليه السلام (الذي سأل موسى) ربَّه، وزاد في رواية: (صلى الله عليه وسلم) (السبيل)؛ أي: الطريق الموصل (إلى لُقِيِّه)؛ بضم اللام، وكسر القاف، وتشديد المثناة التحتية؛ أي: إلى الاجتماع معه؛ حيث قال: (ادللني اللَّهُمَّ عليه)، (هل سمعت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟) جملة حالية، (قال) أُبيُّ بن كعب: (نعم؛ سمعت رسول الله)، وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، زاد في رواية: (يَذكر شأنَه) حالَ كونِه (يقول: بينما) بالميم (موسى) عليه السلام (في ملأ) بالقصر: الجماعة أو الأشراف (من بني إسرائيل) هم أولاد يعقوب عليه السلام؛ لأنَّ إسرائيل هو اسم يعقوب، وأولاده اثنا عشر؛ وهم: يوسف، وبنيامين، وداني، ويفتالي، وزابلون، وجاد، ويساخر، وأشير، وروبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، وهم الذين سماهم {الأسباط} [البقرة: 136]، وسمُّوا بذلك؛ لأنَّ كلَّ واحد منهم وَلد قبيلة، والأسباط في كلام العرب: الشجر الملتف [1] الكثير الأغصان، والأسباط من بني إسرائيل؛ كالشعوب من العجم والقبائل من العرب، وجميع بني إسرائيل من هؤلاء المذكورين؛ (جاءه رجل) جواب (بينما)، وفي رواية: (إذ جاءه رجل)، والفصيح في جوابه ترك (إذ) و (إذا)، قال بعضهم: لم أقف على تسمية الرجل، قلت: لعلَّه جبريل جاءه بصفة رجل، كما جاء لنبينا عليه السلام بصفة أعرابي؛ كما تقدَّم؛ فافهم، (فقال) لموسى عليه السلام: (هل تعلم أحدًا أعلم) بالنصب صفة لـ (أحد) (منك؟ قال)، وفي رواية: (فقال)، (موسى: لا) أعلم أحدًا أعلم مني، وجاء في (التفسير): «فسأل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يَرُدَّ العلمَ إليه»؛ أي: عتب مخصوص، s) زاد الأصيلي: (عزَّ وجلَّ) (إلى موسى) عليه السلام: (بلَى)؛ بفتح اللام، وفي رواية: (بل)، وهي للإضراب؛ أي: أوحى الله إليه: لا تقل: لا؛ بل (عبدنا خضر) أعلم منك؛ أي: قل: الأعلم عبد خضر، وعلى هذه الرواية فالمناسب أن يقول: عبد الله أو عبدك، وأجيب: بأنَّه ورد على سبيل الحكاية عن الله تعالى، فموسى أعلم على الجملة، والعموم ممَّا لا يمكن جهل الأنبياء بشيء منه، والخضر أعلم على الخصوص ممَّا أُعلم من الغيوب وحوادث القدر ممَّا لا يعلمُ الأنبياءُ منه إلَّا ما أُعلموا من غيبه، ولهذا قال له الخضر: «إنَّك على علم من علم الله علَّمك لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علَّمنيه لا تعلمه»، وهذا مثلُ قول نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لا أعلم إلَّا ما علَّمني ربي»، وإنما أُلجئ موسى للخضر؛ للتأديب لا للتعليم.
(فسأل موسى) عليه السلام (السبيل) أي: الطريق الموصل (إليه)؛ أي: إلى الخضر، فقال: اللَّهُمَّ ادللني عليه، (فجعل الله له) أي: لأجله (الحوتَ) بالنصب مفعول (جعل) أول، والحوت: السمكة (آيةً)؛ أي: علامة، بالنصب مفعول ثان، (وقيل له): يا موسى؛ (إذا فقَدت)؛ بفتح القاف؛ أي: لم تجد (الحوت؛ فارجع، فإنك ستلقاه)، وذلك لمَّا قال موسى: أين أطلُبُه؟ قال تعالى له: على الساحل عند الصخرة، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتًا في مكتل، فحيث فقدتَه؛ فهو هناك، فقيل: أخذَ سمكةً مملوحة، وقال لفتاه: إذا فقدت الحوت؛ فأخبرني.
(وكان) وفي رواية: (فكان) (يتَّبع)؛ بتشديد المثناة الفوقية (أثر الحوت في البحر)؛ أي: ينتظر فقدانه، فرقد موسى عليه السلام، فاضطرب الحوت ووقع في البحر، قيل: إنَّ يوشع حمل الخبز والحوت في المكتل فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة، فلمَّا أصاب السمكة روح الماء وبرده؛ عاشت، وقيل: توضأ يوشع من تلك العين، فانتضح الماء على الحوت، فعاش ووقع في الماء، فاستيقظ موسى وطلب من يوشع الخبز والحوت؛ ليأكل منه.
(فقال لموسى فتاه) يوشع بن نون بن إليشامع بن عميهوذ بن بارص بن بعدان بن تاجن بن تالخ بن راشف بن رافح بن بريعا بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب عليه السلام، و (يُوشَع)؛ بضم المثناة التحتية وفتح الشين المعجمة، و (نون) مصروف كنوح، وإنَّما قال: فتاه)؛ أي: صاحبه؛ لأنَّه كان يخدمه ويتبعه، وقيل: كان يأخذ عنه العلم: ({أرأيت})؛ أي: أخبرني، وهو مقول القول ({إذ}) بمعنى حين، وفيه حذفٌ؛ تقديره: أرأيت ما دهاني إذ ({أوينا}) أي: رقدنا ({إلى الصخرة})؛ الحجر الكبير، وهي التي دون نهر الزيت بالمغرب، ({فإنِّي}) الفاء تفسيرية ({نسيت الحوت})؛ أي: نسيت تفقده وما يكون منه، مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة من لقاء الخضر، ({وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره})؛ أي: وما أنساني ذكرَه إلَّا الشيطان، وإنَّما نسبه له؛ هضمًا لنفسه، فهو اعتذارٌ عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه، أو دهش لمَّا رأى من الآيات الباهرة، ({قال}) أي: موسى: ({ذلك}) مبتدأ؛ أي: فقدان الحوت، وقوله: ({ما كنا نبغي}) خبره، و {ما} موصولة، و {كنا نبغي} صلتها؛ أي: ذلك الذي كنا نطلبه علامة على المقصود، ({فارتدا}) رجعا ({على آثارهما})؛ أي: من الطريق الذي سلكاه، يقصَّان ({قَصصًا}) بالنصب على المصدرية؛ أي: يتبعان آثارهما اتِّباعًا، ({فوجدا}) [الكهف: 63 - 64] (خضرًا) عليه السلام (فكان من شأنهما) أي: موسى والخضر (الذي قصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ في كتابه)، وفي رواية: (ما قصَّ الله ... ) إلى آخره، من قوله: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} إلى قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ} [الكهف: 66 - 83].
وفي الحديث: جواز التماري في العلم من غير تعنُّت، وفيه: الرجوع إلى أهل العلم عند التنازع، وفيه: طلب العالم الزيادة من العلم، وفيه: ندب التواضع، وفيه: حمل الزاد وإعداده في السفر، وهو لا ينافي التوكل، خلافًا لمن نفاه، وفيه: قبول خبر الواحد الصدوق، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الملتفت)، وهو تحريف.
==================
(1/146)
(17) [باب قول النبي: اللهم علمه الكتاب]
هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: اللهم علمه)؛ أي: فهِّمْه أو حفِّظْه (الكتاب)؛ أي: القرآن، والضميرُ يرجع لابن عباس؛ لتقدُّمِ ذكرِه مِن غلبته للحُرِّ بن قيس بدعائه عليه السلام، وهذا لفظ حديث وضعه ترجمةً على صورة التعليق، ثم ساقه مُسندًا، وهل يُقال لمثله: مرسلًا أم لا؟ فيه خلاف.
==========
%ص 50%
==================
(1/147)
[حديث: اللهم علمه الكتاب]
75# وبه قال: (حدثنا أبو مَعْمَر)؛ بميمين مفتوحتين بينهما عين ساكنة مهملة، آخره راء، عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج البصري المُقْعَد _بضم الميم، وسكون القاف، وفتح العين_ المنقري القدري، الموثق من ابن معين، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري، أبو عبيدة البصري، المتوفى بها في المحرَّم سنة ثمانين ومئة (قال: حدثنا خالد) بن مهران الحذَّاء، أبو المَنازل؛ بفتح الميم، ولم يكن بحذَّاء وإنَّما كان يجلس إليهم ينظر شغلهم في النعل، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة (عن عِكرمة)؛ بكسر العين، مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدني، البربري الأصل، المتوفى بالمدينة سنة خمس أو ست أو سبع أو خمس عشرة ومئة عن ثمانين سنة، (عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنه (قال: ضمَّني رسولُ الله) وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) إلى نفسه أو إلى صدره، كما في رواية مُسَدَّد عن عبد الوارث، (وقال) عطف على (ضمَّ): (اللَّهُمَّ) أصله: يا اللهُ، فحذف حرف النداء وعوض
%ص 50%
الميم، ولا يجوز الجمع بينهما، وما ورد مؤول، (عَلِّمْه) بمعنى: عرِّفْه، لا يقتضي إلَّا مفعولين: الأول: الضمير، والثاني: قوله: (الكتابَ) بالنصب؛ أي: القرآن، فـ (أل) للعهد؛ أي: اللفظ باعتبار دلالته على معانيه.
وفي «الترمذي» و «النسائي»: أنَّه عليه السلام دعا له أن يؤتى الحكمة مرَّتين، وفي «معجم الصحابة»: مسح على رأسه وقال: «اللَّهُمَّ فقِّهْه في الدين، وعلِّمْه التأويل»)، وفي رواية: قال: «اللَّهُمَّ علِّمْه الحكمة وتأويل الكتاب»، فقيل: المراد بـ (الحكمة): القرآن والسنة، وقيل: المراد بها: السنة، ويدُلُّ له هذه الروايات؛ لقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]؛ أي: القرآن والسنة، وإنَّما دعا له لما يأتي عند المؤلف عنه قال: (دخل النبي عليه السلام الخلاء فوضعتُ له وَضوءًا)، زاد مسلم: (فلما خرج قال: «مَن وضع هذا؟»، فأخبر)؛ أي: أخبرتْه ميمونةُ؛ لأنَّ ذلك في بيتها، وحقَّقَ الله إجابة دعوة نبيه عليه السلام، فكان حبْر هذه الأمة وترجُمان القرآن، وفي الحديث دلالة على استحباب ضم الطفل وهو بالإجماع، وأما معانقة الرجل الرجل القادم من سفرٍ وغيره؛ فقال في «ملتقى الأبحر»: ويكره للرجل أن يقبِّل الرجل أو يعانقَه في إزار بلا قميص، وهو قول الإمام الأعظم والإمام محمد، وعند الإمام أبي يوسف لا يكره، انتهى.
قلت: والخلاف فيما إذا لم يكن عليهما غير الإزار، أما إذا كان عليهما قميص أو جُبَّة؛ فلا كراهة بالإجماع، وقال الشيخ الإمام أبو منصور: المكروه من المعانقة ما كان على وجه الشهوة، وأمَّا على وجه البِرِّ والكرامة؛ فلا كراهة عندهم، كذا في شرحه المشهور بـ «دامات أفندي»، قلت: والإزار: هو ما يَستر العورة من السُّرَّة إلى الرُّكبة، والقميص: ما يَستُر البدن، وحَدُّ الشهوة من الشيخ: تحرُّكُ قلبِه، ومن الشابِّ: تحرُّكُ آلتِه، والله أعلم.
==================
(1/148)
(18) [بابٌ متى يصح سماع الصغير]
هذا (باب) بالتنوين: (متى) استفهاميَّة (يصح سماع الصغير)، وللكشميهني: (الصبي الصغير)، ومراد المؤلف: الاستدلال على أنَّ البلوغ ليس بشرط في التحمُّل، واختُلف في السِّنِّ؛ فقال ابن هارون: إذا فَرَّق بين البقرة والدابة، وقال ابن حنبل: إذا عقل وضبط، وقال ابن معين: أقله خمس عشرة سنة، وقال عياض: أقله خمس، والذي يعتمد عليه التمييز، فإن فَهِمَ الخطاب ورَدَّ الجواب؛ كان مميِّزًا صحيحَ السماع وإن كان دون خمس، وإن لم يكن كذلك؛ لم يصحَّ سماعُه وإن كان ابنَ خمسين، وتمامُه في «عمدة القاري».
==========
%ص 51%
==================
(1/149)
[حديث: أقبلت راكبًا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام]
76# وبه قال: (حدثنا إسماعيل) هو ابن عبد الله المشهور بابن أبي أويس، كما في رواية (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الإمام، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله)؛ بالتكبير، (بن عُتْبَة)؛ بضم العين، وسكون المثناة الفوقية، وفتح الموحدة، (عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما، (قال: أقبلت) حال كوني (راكبًا على حمارٍأَتَانٍ)؛ بفتح الهمزة، وبالمثناة الفوقية، آخره نون؛ وهي الأنثى من الحمر، وإنما لم يقل: حمارة؛ لأنَّ الحمارة قد تطلق على الفرس الهجين، كما قاله الصاغاني، فلو قال: على حمارة؛ لربما كان يُفهم أنَّه أقبل على فرس هجين، وليس كذلك، على أنَّ الجوهريَّ حكى أنَّ الحمارة في الأنثى شاذَّة، و (أتانٍ) بالجر والتنوين كسابقه على النعت، أو بدل الغلط، أو بدل البعض من كلٍّ؛ لأنَّ الحمار يطلق على الجنس فيشمل الذكر والأنثى، أو بدل كل من كل، نحو: {شَجَرَةٍ ... زَيْتُونَةٍ} [النور: 35]، وفي رواية: بإضافة (حمار) إلى (أتان)؛ أي: حمار هذا النوع وهو الأتان، كذا في «عمدة القاري»، وهذا أوجه وأحسن مما ذكره الكرماني، والدماميني، والبِرماوي؛ لأنَّه مخالف لما قاله أهل اللغة، كما لا يخفى على مَن تتبع.
(وأنا يومئذ) الواو: للحال، و (أنا) مبتدأ، وخبرُه قوله: (قد ناهزت)؛ أي: قاربت، (الاحتلام) وهو يسمى مراهق، و (الاحتلام): البلوغ الشرعي، مشتق من الحلُم؛ بالضم: ما يراه النائم، (ورسول الله صلى الله عليه وسلم) الواو: للحال، مبتدأ، خبرُه قوله: (يصلي)، وفي رواية البزار: (المكتوبة)، ولم أقف على تعيين هذه الصلاة (بمنًى) منصوب على الظرفية بالصرف وعدمه، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأحسن صرفها وكتابتها بالألف، سمِّيت بها؛ لما يمنى بها من الدماء؛ أي: تراق، وهو موضع بمكة يذبح فيه الهدايا وترمى فيه الجمرات، (إلى غير جدار) في محل نصب على الحال، وفيه حذفٌ؛ تقديره: يصلِّي غير متوجِّهٍ إلى جدار؛ بكسر الجيم: الحائط، والمراد به: السترة؛ يعني: إلى غير سترة أصلًا، ويدل له ما في رواية البزار بلفظ: (والنبي عليه السلام يصلي المكتوبة ليس شيء يستره)، (فمررت بين يدي) أي: قُدَّام (بعض الصف) فالتعبير بـ (اليد)؛ مجاز؛ لأنَّ الصف لا يد له، والمراد بـ (بعض الصف): صف من الصفوف أو بعض من الصف الواحد، (وأرسلتُ)؛ بضم التاء: فعل وفاعل، ومفعوله قوله: (الأتانَ تَرتَعُ)؛ بتاءين مثناتين فوقيَّتين مفتوحتين، وضم العين المهملة؛ أي: تأكل ما تشاء، أو تسرع في المشي، والأول أصوب، و (ترتعُ) مرفوع، والجملة محلُّها النصب على الحال من الأحوال المقدَّرة؛ أي: مقدار رتعها، (ودخلت الصف) وفي رواية: (فدخلت _بالفاء_ في الصف) (فلم ينكِر)؛ بكسر [1] الكاف على صيغة المعلوم (ذلك عليَّ)؛ أي: فلم ينكر النبي الأعظم عليه السلام عليَّ ذلك ولا غيره، وفي رواية: بلفظ المجهول،؛ أي: لم ينكر أحد لا رسول الله عليه السلام ولا غيره ممن كانوا معه.
واستدل المؤلف بهذا على أنَّ التحمُّل لا يُشترط فيه كمال الأهليَّة، وإنَّما يُشترط عند الأداء، ويلحق بالصبي في ذلك العبد، والفاسق، والكافر، وفيه دليل على جواز مَن عَلِمَ الشيءَ صغيرًا وأدَّاه كبيرًا بالإجماع، وكذا الفاسق والكافر إذا أدَّيا حالَ الكمال.
وفيه جواز الركوب لصلاة الجماعة، وأنَّ مرور الحمار غير قاطع للصلاة، وعليه بوَّب أبو داود، وما ورد محمولٌ على قطع الخشوع، وفيه صحة صلاة الصبي، وأنَّه إذا فُعِل بين يدي النبي عليه [السلام] شيء ولم ينكره؛ فهو حجة، وأنَّ سُترة الإمام سُترةٌ لمن خلفه، وعليه بوَّب المؤلِّف وهو بالإجماع، والمرور بين يدي المصلي مكروه إذا كان إمامًا أو منفردًا وصليا إلى سُترة، وأمَّا المأموم؛ فلا يضرُّه؛ لأنَّه خلف الإمام وهو سُترة لمن خلفه، وسيأتي بقيَّة مباحثه إن شاء [الله تعالى].
==========
[1] في الأصل: (بفتح)، ولا يستقيم مع قوله: (على صيغة المعلوم).
%ص 51%
==================
(1/150)
[حديث: عقلت من النبي مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين]
77# وبه قال: (حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (محمد بن يوسف) هو البيكندي أبو أحمد، وما قيل: إنَّه الفِريابي؛ فمردودٌ بعدم الرواية عن أبي مُسْهِر الآتي، (قال: حدثنا أبو مُسْهِر)؛ بضم الميم، وإسكان السين المهملة، وكسر الهاء، آخرُه راء، عبد الأعلى بن مُسْهِر الغسَّاني الدمشقي، المتوفى ببغداد سنة ثمان عشرة ومئتين (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (محمد بن حَرْب)؛ بفتح الحاء وإسكان الراء المهملتين، آخره موحدة، هو الأبرش؛ أي: الذي فيه نكت صغار تخالف لونه، الخولاني الحمصي، أبو عبد الله قاضي دمشق، المتوفى سنة أربع وسبعين ومئة، وما قيل: إنَّه تفرَّد أبو مُسْهِر برواية هذا الحديث عن ابن حرب؛ مردودٌ، فقد رواه ثلاثةٌ غير أبي مُسْهِر كما عند النَّسائي والبيهقي (قال: حدثني) بالإفراد (الزُّبَيدي)؛ بضم الزاي وفتح الموحدة: أبو الهذيل محمد بن الوليد بن عامر الشامي، قاضي حمص، المتوفى بالشام سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة عن سبعين سنة، (عن الزهري) محمد بن مسلم ابن شهاب، (عن محمود بن الرَّبيْع)؛ بفتح الراء وكسر الموحدة، ابن سراقة الأنصاري الخزرجي، أبو نعيم وأبو محمد، المدني، المتوفى ببيت المقدس سنة تسع وتسعين، عن ثلاث وتسعين سنة (قال: عَقَلت)؛ بفتح العين المهملة، بابه (ضرب)؛ أي: عرفت أو حفظت (من النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم مَجَّةً) بالنصب على المفعولية؛ بفتح الميم والتنوين (مجَّها) من فيه؛ أي: رمى بها حال كونها (في وجهي)، وقيل: المَجُّ: إرسال الماء من الفم مع نفخ، (وأنا ابن خمس سنين) مبتدأ وخبره، والجملة معترضة وقعت حالًا، إمَّا من التاء في (عَقَلتُ) أو من الياء في (وجهي)، (من) ماء (دَلْو)؛ بفتح الدال المهملة وإسكان اللام، وفي رواية النَّسائي: (من دلو معلق)، وفي (الرِّقاق) عن معمر: (من دلو كانت في دارهم)، وفي (الصلاة): (من بئر)، ولا تعارض بين هذه الروايات؛ لحمل ذلك على أنَّه أخذ بالدلو من البئر وتناوله عليه السلام من الدلو؛ وهو وعاء يتخذ من جلد يستسقى فيه الماء في الآبار، وفي الحديث بركة النبي الأعظم عليه السلام وسماع الصغير وضبطه بالسنن، وجواز ملاعبة الصبيان.
==========
%ص 51%
==================
(1/151)
(19) [باب: الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ.]
هذا (باب الخروج) أي: السفر (في طلب العلم)؛ أي: لأجل طلبه برًّا وبحرًا، (ورحل) بالحاء المهملة (جابر بن عبد الله) الأنصاري الصحابي المشهور رضي الله عنه، (مسيرةَ شهر إلى عبد الله بن أُنيس)؛ بضم الهمزة، مصغر أنس، ابن سعد الجُهَني؛ بضم الجيم وفتح الهاء، المتوفى بالشام سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنهما (في)؛ أي: لأجل (حديث واحد) فلفظ
%ص 51%
(في) للتعليل، كما في قوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، والحديث ذكره المؤلف في (المظالم) بلفظ: ويذكر عن جابر عن عبد [الله] ابن أنيس سمعت النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: «يَحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُد كما يسمعه مَن قَرُب: أنا الملك أنا الديان».
زاد أحمد وأبو يعلى: (لا ينبغي لأهل الجنة أن تدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى يقتصه منه حتى اللطمة، قال: وكيف وإنَّما يأتي عراة غرلًا بهمًا، قال: بالحسنات والسيئات)، والعراة: جمع عار، والغرل: بضم الغين المعجمة وإسكان الراء جمع أغر، وهو الأقلف، وبهمًا: بضم الموحدة؛ أي: ليس معهم شيء، أو أصحاء ليس فيهم عاهات كالعمى والعور وغيرهما، وإنَّما هي أجساد صحيحة للخلود إمَّا في الجنة وإمَّا في النار، وقوله: (فيناديهم) المعنى: يجعل ملكًا يناديهم أو يخلق صوتًا ليسمعه الناس، وأمَّا كلام الله؛ فليس بحرف ولا صوت.
(فإن قلت): إنَّ المؤلف نقض قاعدته؛ حيث عبر هنا بقوله: (ورحل) بصيغة الجزم المقتضية للتصحيح، وفي المظالم بقوله: (ويذكر) بصيغة التمريض.
(قلت): لأنَّ عند المؤلف (يذكر) معناه الجزم أيضًا لا التمريض، ولعله ذكره هناك؛ لأنَّ الصوت ممَّا يُحتاج إلى تأويله في نسبته إلى الربِّ جلَّ وعزَّ؛ فافهم.
==================
(1/152)
[حديث: في رحلة سيدنا موسى إلى سيدنا الخضر]
78# وبه قال: (حدثنا أبو القاسم خالد بن خَلِيٍّ)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام مخففةً، بعدَها مثناة تحتيَّة مشدَّدة، الكلاعي، قاضي حمص، كما في رواية، (قال: حدثنا محمد بن حرب)؛ بفتح الحاء المهملة وسكون الراء آخره موحدة، الخولاني الحمصي.
(قال: حدثنا الأوزاعي)، وسقط (حدثنا) في رواية، بفتح الهمزة، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد، أحد أتباع التابعين، نسبة إلى (أوزاع) قرية بدمشق خارج باب الفراديس، أو بطن من حمير، أو من همْدان؛ بسكون الميم، المتوفى فجأة في الحمام، سنة سبع وخمسين ومئة، عن تسع وستين، ولد ببعلبك ودفن ببيروت، وكان أهل الشام والمغرب على مذهبه.
قال: (أخبرنا الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب، (عن عبيد الله)؛ بالتصغير، (بن عبد الله)؛ بالتكبير، (ابن عتبة)؛ بضم العين، (ابن مسعود عن) عبد الله (بن عباس) رضي الله عنهما، (أنَّه تمارى) من التماري؛ وهو التنازع والتجادل، (هو)؛ أي: عبد الله بن عباس، (والحُرُّ بن قيس بن حصن الفزاري) نسبة إلى فزارة بن شيبان (في صاحب موسى) بن عمران عليه السلام، هل هو الخضر أم غيره، زاد في الرواية السابقة: (قال ابن عباس: هو خضر)، ولفظ (هو) ساقط، في رواية: (وإنِّي) بضمير الفصل؛ لأنَّه لا يُعطف على الضمير المرفوع المتَّصل إلَّا بعد تأكيده بالمنفصل، وعلى روايةٍ إسقاط (هو)، فعطْفُه على المرفوع المتَّصل بغير تأكيد ولا فصل جائز عند الكوفيِّين.
(فمرَّ بهما أُبَيُّ بن كعب) هو الأنصاري، (فدعاه ابن عباس)؛ أي: ناداه فجاء، (فقال) له: (إنِّي تماريتُ)؛ أي: اختلفت، (أنا وصاحبي هذا)؛ أي: الحُرُّ بن قيس، (في صاحب موسى الذي سأل) موسى ربه، (السبيل إلى لُقِيِّه)؛ بضم اللام، وكسر القاف، وتشديد المثناة التحتية، مصدر بمعنى اللقاء، يقال: لَقِيتُه لِقاءً بالمدِّ، ولِقًا بالقصر، ولُقِيًّا بالتشديد؛ حيث قال: اللهم ادللني عليه.
(هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه)؛ أي: قصته، (فقال أُبَيٌّ) بن كعب: (نعم سمعت النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه) قصته لأصحابه، (يقول: بينما)؛ بالميم، (موسى) عليه السلام، (في ملأ) جماعة، (من بني)؛ أي: ذرية، (إسرائيل) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وعند مسلم: «بينما موسى في قومه يُذَكِّرُهم أيامَ الله».
(إذ جاءه رجل) قيل: لم يسمَّ، قلت: ولعله جبريل، (فقال)، وفي رواية: (قال): (أتعلم) بهمزة الاستفهام، وفي رواية: بحذفها، وفي أخرى: (هل تعلم)، (أحدًا أعلمَ) بنصبهما مفعولًا وصفة، وفي رواية: (أن أحدًا أعلمُ)، (منك، قال موسى: لا) لما في اعتقاده من دلائل النبوة.
(فأوحى الله تعالى إلى موسى: بلى)، وفي رواية: (بل)، وهي للإضراب؛ أي: أوحى إليه: لا تقل: لا؛ بل (عبدنا خضر)؛ أي: قل الأعلم عبدنا خضر، على سبيل الحكاية عن قوله تعالى، وعلمُ الخضر في شيء خاص، وعلمُ موسى في العموم.
(فسأل) موسى ربه (السبيل إلى لُقِيِّه) وفي السابقة: (إليه) بدل (لُقِيِّه)، وزيادة (موسى)، (فجعل الله له)؛ أي: لأجله، (الحوت) دابة، منصوبان على أنَّهما مفعولا جعل، (آية) علامة دالة له على مكانه، (وقيل له: إذا فقَدت الحوت)؛ بفتح القاف، (فارجع فإنك ستلقاه)؛ أي: الخضر، (فكان موسى يتَّبع)؛ بتشديد المثناة الفوقية، (أثر الحوت في البحر)، وفي رواية: في الماء؛ أي: ينتظر فقدانه، إلى أن قعد موسى عند الصخرة ورقد ثم انتبه.
(فقال فتى موسى) يوشع بن نون، (لموسى) بعد أن توضأ يوشع من ماء عين الحياة ووقع منه على الحوت فصار حيًّا، فانسل من المكتل وذهب في البحر: (أرأيت) أخبرني، (إذ أوينا)؛ أي: حين نزلنا، (إلى الصخرة) ونمت عندها، (فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلَّا الشيطان أن أذكره)؛ أي: وما أنساني ذكرَه إلَّا الشيطان، قاله اعتذارًا لموسى.
(قال موسى: ذلك)؛ أي: فقدان الحوت، (ما كنا نبغي)؛ أي: نطلب من العلامة الدالة على اجتماعي بالخضر، (فارتدا) رجعا، (على آثارهما)؛ أي: على الطريق الذي سلكاه يقصَّان، (قَصصًا، فوجدا خضرًا) على طِنفسة على وجه الماء أو نائمًا مسجى بثوب، وإنَّما سُمِّيَ خضرًا [1] قيل: لأنَّه كلَّما قعد على شيء اخضرَّ بعد أن كان يابسًا، أو لحُسْنه وإشراق وجهه، أو لأنَّه كلَّما صلَّى في مكان اخضرَّ ما حولَه، وكنيته أبو العبَّاس.
(فكان من شأنهما)؛ أي: من قصة موسى والخضر، (ما)؛ أي: الذي، (قصَّ الله في كتابه) بسورة الكهف ومطابقته للترجمة من حيث إنَّ موسى خرج إلى طلب الخضر، وهو ظاهر؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (خضر).
%ص 52%
==================
(1/153)
(20) [باب فضل من عَلِمَ وعلَّم]
هذا (باب فضل من علِم)؛ بتخفيف اللام المكسورة؛ أي: مَن صار عالمًا، (وعلَّم) غيرَه؛ بفتحها مشدَّدة.
==========
%ص 52%
==================
(1/154)
[حديث: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم]
79# وبه قال: (حدثنا محمد بن العلاء)؛ بالمهملة والمدِّ، المكنى بأبي كُريب؛ بضم الكاف، مصغَّر (كرب) بالموحدة، الهمداني؛ بسكون الميم والدال المهملة، وشهرته بكنيته أكثر من اسمه، المتوفى سنة ثمان وأربعين ومئتين، (قال: حدثنا حماد بن أُسامة)؛ بضم الهمزة: ابن يزيد الهاشمي القرشي الكوفي، المتوفى سنة إحدى ومئتين عن ثمانين سنة، (عن بُرَيد بن عبد الله)؛ بضم الموحدة، وفتح الراء، وسكون المثناة التحتية، آخره دال مهملة، ابن أبي بُرْدة ابن أبي موسى الأشعري.
(عن أبي بُرْدة)؛ بضمِّ الموحدة وإسكان الراء، ابن أبي موسى الأشعري، (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري، وإنَّما لم يقل: عن أبيه؛ لأجل التفنن في الإسناد، (عنِ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: مَثَل)؛ بفتح الميم والثاء المثلثة؛ أي: الصفة العجيبة، (ما بعثني الله به من الهدى) الرشاد والدلالة يذكَّر ويؤنَّث، وهو لغة: المعرفة، واصطلاحًا: الدلالة الموصلة إلى البُغية، (والعلم)؛ بالجر عطفًا على (الهدى)، وهو صفة توجب تمييزًا لا يَحتمل النقيض، والمراد به هنا الأدلة الشرعيَّة، (كمَثَل)؛ بفتح الميم والمثلثة: خبر للمبتدأ الذي هو لفظ (مَثَل)، (الغيث)؛ المطر، (الكثير أصاب) الغيث، (أرضًا)، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول محلها نصب على الحال بتقدير (قد)، (فكان منها)؛ أي: من الأرض أرض (نَقِيَّة)؛ بفتح النون، وكسر القاف، وبالمثناة التحتية المشددة؛ أي: طيبة، كما في رواية في «مسلم».
(قَبِلت الماء)؛ بفتح القاف وكسر الموحدة، من القبول، ولا خلاف في هذا، خلافًا لمن وهم، (فأنبتت الكَلَأ)؛ بفتح الكاف واللام آخره مهموز مقصور: النبات يابسًا ورطبًا، (والعشب) النبات الرطب، وهو بالنصب عطفًا على المفعول، (الكثير) بالنصب صفة للعشب، وهو من ذكر الخاصِّ بعد العام، (وكانت)، وفي رواية: (وكان) عطف على (فكان)، وقوله: (منها) خبر (كان) مقدَّمًا، وقوله: (أجادب) بالرفع اسم (كان) مؤخرًا، وهو بالدال المهملة جمع جدب؛ بفتح الدال المهملة على غير قياس، وفي رواية (أجاذب)؛ بالذال المعجمة، قال الأصيلي: والصواب: بالمهملة، وفي رواية: (إخاذات)؛ بكسر الهمزة، ومعجمة مخففة، ومعجمة، وفي أخرى: (أحارب)؛ بحاء مهملة وراء مهملة، والمراد بها الأرض التي لا تشرب لصلابتها فلا تُنبت شيئًا.
(أمسكت الماء) جملة محلُّها الرفع صفة (أجادب)، (فنفع الله بها)؛ أي: بالأجادب، وللأصيلي: (به)، (الناس) فيكون الضمير المذكور للماء، (فشربوا) من الماء، (وسَقَوا) دوابَّهم؛ بفتح السين والقاف وسكون الواو، (وزرعوا) ما يصلح للزرع، وعند مسلم والنسائي: (ورعَوا من الرعي).
(وأصاب منها)؛ أي: الغيث، (طائفةً) بالنصب مفعوله، (أخرى) صفة (طائفة)؛ أي: قطعة أخرى من الأرض، وفي رواية: (وأصابت)؛ أي: أصابت طائفة أخرى، كما صرح به النسائي، (إنَّما هي قِيعان)؛ أي: ما هي إلَّا قِيعان؛ بكسر القاف، جمع قاع: وهو الأرض المتسعة، وقيل: اللمساء، وقيل: التي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في الحديث، وأصل قِيعان: قوعان، قلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار
%ص 52%
ما قبلها.
(لا تُمسك ماء) في محل رفع صفة (قِيعان)، (ولا تُنبت كلأ) صفة أيضًا؛ بضم المثناة الفوقية فيهما، (فذلك)؛ أي ما ذكر من الأقسام الثلاثة محله رفع مبتدأ، (مَثَل) خبره؛ بفتح الميم والمثلثة، (مَن) موصولة محلُّها [1] الجرُّ بالإضافة، (فقُه)؛ بضم القاف وقد تكسر؛ أي صار فقيهًا، (في دين الله) تعالى، (ونفعه ما)، وفي رواية: (بما)؛ أي: بالذي، (بعثني الله) سبحانه، (به، فعلِم) ما جئتُ به، (وعلَّم) غيرَه.
وهذا على قسمين؛ الأول: العالم العامل المعلِّم، كالأرض الطيبة شربت فانتفعت بنفسها وأنبتت فنفعت غيرها.
والثاني: الجامع للعلم، المستغرق لأوقاته فيه، المعلِّم غيرَه، لكنه لم يعمل بنوافله، كالأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وتمام تحقيقه في «عمدة القاري».
(ومَثَل)؛ بفتح الميم والمثلثة، (مَن) موصولة، (لم يرفع بذلك رأسًا) يعني: تكبر ولم يلتفت إليه من غاية تكبره؛ بأن دخل الدين ولم يسمع العلم، أو سمعه ولم يعمل به ولم يعلِّمه، كالأرض السبخة التي لا تقبل الماء وتفسده على غيرها.
(ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)؛ أي: مَن لم يدخل في الدين أصلًا؛ بل بلغه فكفر به، كالأرض الصمَّاء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا تنتفع به، شبَّه عليه السلام ما جاء به من الدين بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم، وكذا حال الناس قبل مبعثه عليه السلام، فكما أنَّ الغيث يحيي البلد الميت كذلك علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبَّه السامعين له بالأراضي المختلفة التي ينزل بها الغيث، وتمامه في «عمدة القاري».
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلِّف، وهو ساقط في رواية، (قال إسحاق) بن إبراهيم بن مَخْلَد، بفتح الميم، وإسكان الخاء المعجمة، وفتح اللام: أبو يعقوب الحنظلي المِروزي المشهور بابن راهَوَيه؛ بالهاء والواو المفتوحتين آخره تحتية ساكنة، وقيل: بضم الهاء وفتح التحتية، المتوفى سنة ثمان وثلاثين ومئتين، أو هو إسحاق ابن إبراهيم بن نصر السعدي البخاري نزيل المدينة، المتوفى سنة اثنين وثلاثين ومئتين، أو هو إسحاق بن منصور بن بَهْرام الكوسج المِروزي، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين، والظاهر الأول؛ لأنَّه أطلق، فالمراد هو كذا قيل.
(وكان منها طائفة)؛ أي: قطعة من الأرض، (قيَّلت الماء)؛ بالمثناة التحتية المشدَّدة، بدل قوله: (قبلت)؛ بالموحدة، وجزم الأصيلي أنَّها تصحيف من إسحاق، وصوَّبها غيرُه، و (قيلت) من القيلولة؛ أي: شربت نصف النهار، وزاد في رواية هنا: (قاع)؛ أي: قِيعان المذكور في الحديث، جمع قاع؛ أرض (يعلوه الماء) ولا يستقرُّ فيه.
(والصفصف المستوي من الأرض) هذا ليس في الحديث، وإنَّما ذكره جريًا على عادته في الاعتناء في تفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن العظيم، ووقع فيه: {قاعًا صفصفًا} [طه: 106]، وما فسَّره المؤلف هو قول أكثر أهل اللغة، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (محله)، وليس بصحيح.
==================
(1/155)
(21) [باب رفع العلم وظهور الجهل]
هذا (باب رفع العلم وظهور الجهل) الأول مستلزم للثاني، وأتى به للإيضاح، (وقال ربيعة) الرأْي؛ بإسكان الهمزة، ابن عبد الرحمن فرُّوخ؛ بالراء المشدَّدة المضمومة والخاء المعجمة، المدني الربعي، قتل بالأنبار في دولة بني العباس، (لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم)؛ أي: الفهم، (أن يضيِّعَ نفسه) بترك الاشتغال أو بعدم إفادته لأهله؛ لئلَّا يموت العلم، وفي رواية: بحذف (أنْ)، وهذا الأثر وصله البيهقي في «المدخل» والخطيب في «الجامع»، و (ينبغي) تُستعمل بمعنى الوجوب وبمعنى الندب.
==================
(1/156)
[حديث: إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم]
80# وبه قال: (حدثنا عِمران بن مَيسرة)؛ بكسر العين وفتح ميم ميسرة: ضد الميمنة، أبو الحسن المنقري البصري، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان التيمي البصري، (عن أبي التَّيَّاح)؛ بفتح الفوقية، وتشديد التحتية، آخره مهملة، يزيد بن حُميد الضبعي، المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة.
(عن أنس)، زاد في رواية: (ابن مالك)، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ) للتوكيد؛ بكسر الهمزة، (من أشراط)؛ بفتح الهمزة، (الساعة)؛ أي: القيامة؛ أي: علامتها، والجار والمجرور خبر مقدم، (أنْ) مصدريَّة (يُرفعَ العلم)؛ بضم المثناة التحتية في محل نصب اسمها مؤخَّرًا [1]؛ أي: رفع العلم بموت حملته وقبض العلماء، وليس المراد محوه من صدور الحفاظ وقلوب العلماء، وعند النسائي: بحذف (أنْ) فيكون محل (أن يرفع العلم) رفعًا على الابتداء، وخبره (من أشراط الساعة) مقدم.
(و) أن (يَثبت الجهل)؛ بفتح المثناة التحتية، من الثبوت؛ بالمثلثة ضد النفي، وعند مسلم: (ويبث) من البث؛ بموحدة فمثلثة: وهو الظهور والفشو، (و) أن (يُشرب)؛ بضم المثناة التحتية، (الخمر) قيل: المراد كثرة شربه؛ لما عند المؤلِّف في (النكاح): «ويكثر شرب الخمر»، قلت: هذا غير مراد، وإنَّما المراد شربُه مطلقًا هو جزء العلة من الأشراط، وما عند المؤلِّف في (النكاح) لا يستلزم نفي مطلق الشرب أن يكون من أشراطها؛ لأنَّ المقيَّد بحكمٍ لا يستلزم نفي الحكم المطلق، والأصل إجراء كلِّ لفظٍ على مقتضاه، ولا تنافيَ بين حكمٍ يمكن حصوله معلقًا بشرطٍ تارة وبغيره أخرى؛ كالملك فإنَّه يوجد بالشراء والهبة وغيرهما.
وما قيل: إنَّ المطلق محمولٌ على المقيَّد لأنَّ المقام مقام الاحتياط والحمل على الكثرة أولى، ممنوعٌ؛ لأنَّ حمل المطلق على المقيَّد مسلَّم في غير هذا المحلِّ؛ لأنَّ الشارع أمرنا باجتنابه بالكلِّيَّة، ولم يفصل بين قليله وكثيره، وحمل المطلق على المقيد غيرُ جائز هنا، وقوله: لأنَّ المقام مقام الاحتياط، هذا شاهد ودليل عليه؛ لأنَّه إذا كان المقام مقام الاحتياط؛ فالمنع منه بالكُلِّيَّة فرضٌ، فيجب الحمل على الشرب مطلقًا؛ فافهم؛ وليحفظ.
(و) أن (يظهر الزنا) بالقصر لغة حجازيَّة وبالمدِّ لغة نَجْدِيَّة، والنسبة إلى الأول: زنوي، وإلى الآخر: زناوي؛ أي: يفشو وينتشر، وصرَّح في رواية مسلم: (ويفشو الزنا).
فوجود هذه الأربعة هو العلامة لوقوع الساعة؛ أي: القيامة: وهي واقعةٌ في هذا الزمان، اللَّهُمَّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها، وأعذنا من خِزْيِ الدنيا وعذاب الآخرة.
==========
[1] في الأصل (مؤخر).
%ص 53%
==================
(1/157)
[حديث: من أشراط الساعة أن يقل العلم]
81# وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد)؛ بضم الميم، وفتح السين والدال المهملتين: ابن مُسَرْهِد، (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان، (عن شعبة) هو ابن الحجاج، (عن قتادة)؛ بفتح القاف والمثناة الفوقية: ابن دِعامة، (عن أنس)، زاد الأصيلي: (ابن مالك)، (قال: لَأُحدِّثَنَّكم)؛ بفتح اللام؛ أي: والله لَأحدِّثَنَّكم، فلذا أكد بالنون، وبه صرَّح أبو عَوانة، عن هشام، عن قتادة، (حديثًا لا يحدِّثكم أحدٌ بعدي)، وعند مسلم: بحذف الكاف والميم، وعند المؤلِّف من طريق هشام: بحذف لفظ (أحد)، ومن أين عَرَف أنَّ أحدًا لا يحدِّث بعدَه، ولعلَّه عرفه بإخبار النبي الأعظم عليه السلام له، أو قال بناءً على ظنِّه أنَّه لم يسمع الحديثَ غيرُه من النبي الأعظم عليه السلام، ويَحتمل أنَّه قال ذلك لأهل البصرة خاصَّةً؛ لأنَّه آخر مَن مات مِن الصحابة عندهم.
(سمعت رسول الله)، وفي رواية: (النبي الأعظم)، (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: كلامَه حالَ كونه (يقول: مِن)، وفي رواية: (إنَّ مِن)، (أشراط)؛ بفتح الهمزة، جمع شرط بالتحريك؛ أي: علامات، (الساعة) القيامة، (أن يقِلَّ)؛ بكسر القاف، من القلة، (العلم) والجملة رفع على الابتداء، و (أن) مصدريَّة، و (مِن أشراط الساعة) خبر مقدم، والتقدير: (من أشراط الساعة قِلَّةُ العلم)؛ أي: بموت أهله، وعند المؤلِّف: أن يرفع العلم، ولا تنافيَ بينهما؛ لأنَّ القِلَّة قد تطلق ويراد بها العدم، أو كان ذلك باعتبار زمانين؛ كأن يقال: القِلَّة في ابتداء أمر الأشراط، والعدم انتهاؤه، كذا قال في «عمدة القاري»، وتمامه فيه.
(و) أن (يظهر الجهل) وقِلَّةُ العلم مستلزمة لظهور الجهل، (و) أن (يظهر الزنا)؛ بالقصر والمدِّ؛ أي: يفشو، (و) أن (تكثر النساء و) أن (يقل الرجال)؛ لكثرة القتل، فبموت الرجال فتكثر النساء وبقلَّتهم يكثر الفساد والجهل، وأشار بهذا إلى كثرة الفتوح فتكثر السبايا، فيتخذ الرجل عدة موطوءات، أو أنَّه تكثر ولادة الإناث، وتقل ولادة الذكور؛ لأنَّ النساء حبائل الشيطان، وهن ناقصات عقل ودين.
(حتى)؛ أي: إلى أن (يكون لخمسين امرأة القَيِّمُ) بالرفع اسم (يكون)، وقوله: (الواحدُ) صفتُه، مَن يقوم بأمرهِنَّ، وهل المراد حقيقةُ العدد أو مجازٌ عن الكثرة والمبالغة بأنَّ الأربعة كمال النصاب فاعتبر الكمال، وزيادة واحدة مبالغة، أو لأنَّ الأربعة تنسحب إلى عشرة وهي إلى خمسين إلى
%ص 53%
مئة إلى ألف تأكيدًا للكثرة ومبالغة فيها، ويَحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي لا يبقى فيه مَن يقول: الله الله، فيتزوَّج الرجلُ الواحدُ بغير عدد جهلًا بالحكم الشرعي.
قلت: لا يلزم ذلك أن يكون في ذلك [1] الزمان؛ لأنَّ ذاك هو زمان يوم القيامة، وكلامُنا في علاماتها، فالظاهرُ أن يكون ذلك بكثرة الشيعة والروافض وغيرهم من الفِرَق الضَّالَّة، ومِن عقائدهم: أنَّهم لا ينكحون؛ بل يتمتَّعون، فيأخذ الخنزير الواحد منهم هذا العدد بحكم المتعة، ويظنُّون أنفسَهم أنَّهم على الحقِّ جهلًا، وزيفًا، وخروجًا عن السُّنَّة المطهَّرة؛ فتأمَّل.
وإنَّما قال: (القَيِّم) بالتعريف؛ إشعارًا بما هو المعهود من كون الرجال قوَّامين [2] على النساء، وإنَّما كان اختلال هذه الأمور من علاماتها؛ لأنَّ الخلائق لا يُتركون سُدى، ولا نبي بعد هذا الزمان، فيتعيَّن خراب العالم وهو قرب القيامة.
==========
[1] في الأصل (تلك).
[2] في الأصل (قوامون).
==================
[1] في الأصل (تلك).
[1] في الأصل (تلك).
(1/158)
(22) [باب فضل العلمِ]
هذا (باب فضل العلم) لا يقال: تقدم هذا الباب بعينه في أول (كتاب العلم) فذِكره هنا تَكرار؛ لأنَّا نقول: الذي قدَّمه هناك في بيان فضل العلماء، وهنا على فضل العلم، وما قيل: إنَّ المراد هنا الزيادة، ممنوع، كما نبَّه عليه وردَّه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
%ص 54%
==================
(1/159)
[حديث: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن]
82# وبه قال: (حدثنا سعيد بن عُفَير)؛ بضم العين المهملة، وفتح الفاء، وإسكان المثناة التحتية، آخره راء، (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية بالجمع، (الليث) بن سعد الحنفي، من أتباع إمامنا الإمام الأعظم التابعي الجليل المعظم، (قال: حدثني) بالإفراد، (عُقَيل)؛ بضم العين المهملة، وفتح القاف، وسكون المثناة التحتيَّة: ابن خالد الأَيْلي؛ بفتح الهمزة وسكون التحتية، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن حمزة)؛ بالمهملة والزاي، (ابن عبد الله)؛ بالتكبير، (بن عمر) بن الخطاب، المكنى بأبي عُمارة؛ بضم العين المهملة، القرشي العدوي المدني التابعي، (أنَّ ابن عمر) رضي الله عنهما، (قال: سمعت رسول الله)؛ أي: كلامَه، (صلى الله عليه وسلم) حالَ كونه (قال)، وفي رواية: (يقول)، (بينا) أصله: (بين)، فأشبعت الفتحة فصارت ألفًا، وقد تدخل عليها (ما)، فيقال: (بينما)، وهنا بغير ميم.
(أنا) مبتدأ، وقوله: (نائم) خبرُه، (أُتيت)؛ بضم الهمزة على صيغة المجهول، وهو جواب (بينا) وعامل فيه، (بقَدَح)؛ بفتحتين: وعاءٌ يشرب فيه، (لبنٍ) متعلِّقٌ بـ (أُتيت)، (فشربت)؛ أي: من اللبن، (حتى إنِّي)؛ بكسر الهمزة على كون (حتى) ابتدائيَّة، وبفتحها على كونها جارَّة، وياء المتكلِّم اسم (إنَّ)، وخبرُها قوله: (لَأَرى)؛ بفتح الهمزة من الرؤية.
(الرِّيّ)؛ بكسر الراء المهملة، وتشديد المثناة التحتية، كذا في الرواية، وحكى الجوهري الفتح أيضًا، وقيل: بالكسر الفعل، وبالفتح المصدر، كما أوضحه في «عمدة القاري»، وأصله: الروي اجتمعت الواو مع الياء وسُبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.
(يخرج في أظفاري) وفي رواية: (من أظفاري)، وفي أخرى: (من أطرافي)، والجارُّ والمجرور محلُّه نصب مفعول ثان لـ (أرى)، إن قدرت الرؤية بمعنى العلم، أو حال إن قدرت بمعنى الإبصار، ولفظ (في) [في] المتن يجوز أن تكون بمعنى (على)؛ أي: على أظفاري، ويكون بمعنى يظهر عليها، و (الظفر) إمَّا منشأ الخروج أو ظرفه.
(ثم أَعطيت)؛ بفتح الهمزة، (فضلي)؛ أي: الفضل الذي بقي بعد شُربي من اللبن، (عمرَ بن الخطاب) رضي الله عنه، بالنصب مفعول ثان لـ (أَعطيت)، (قالوا)؛ أي: الصحابة، (فما أوَّلتَه) (الفاء) زائدة؛ أي: عبَّرتَه، (يا رسول الله) منادى منصوب، (قال): أوَّلتُه، (العلم)؛ بالنصب والرفع روايتان، أمَّا النصب؛ فعلى المفعولية تقديره: أوَّلتُه العلم، وأمَّا الرفع؛ فعلى أنَّه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: المؤوَّل به العلم.
والمراد بـ (اللبن) هو الحليب في عرفنا، ووجه تفسيره بالعلم؛ الاشتراك في كثرة النفع بهما وكونهما سببًا للصلاح، ذاك في الأشباح، والآخر في الأرواح، وهل كان هذا الشرب وما يتعلَّق به واقعًا حقيقة؟
أجاب الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأنَّه واقع حقيقة ولا محذور فيه إذ هو ممكن، ورؤيا الأنبياء حق، وفيه فضيلة عمر رضي الله عنه وجواز تعبير الرؤيا؛ لأنَّها جزء من أجزاء النبوَّة، والله أعلم.
==================
(1/160)
(23) [باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها]
هذا (باب الفتيا)؛ بضم الفاء: اسم، وكذا الفتوى، وهو الجواب في الحادثة، (وهو)؛ أي: المفتي، (واقف)؛ أي: راكب، (على ظهر الدابَّة)؛ وهي كلُّ ما دَبَّ على وجه الأرض، والمراد بها ما تُركب عادة، ولفظ (ظهر) ساقط في رواية.
(وغيرها)؛ أي: غير الدابة من الوقوف على الأرض أو ماشيًا عليها، وفي رواية: (أو غيرها)، وهذا وجه المناسبة بين الترجمة والحديث خلافًا لما زعمه بعضهم؛ فافهم.
==========
%ص 54%
==================
(1/161)
[حديث: أن رسول الله وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه]
83# وبه قال: (حدثنا إسماعيل) بن أبي أويس ابن أخت مالك، (قال: حدثني) بالإفراد، (مالك) بن أنس الإمام، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن عيسى بن طلحة بن عُبيد الله)؛ بالتصغير؛ بضم العين: القرشي التيمي التابعي، المتوفى سنة مئة.
(عن عبد الله بن عمرو بن العاصي) الجمهورُ على كتابته بالمثناة آخره، وهو الفصيح، والأعياص جمع عِيص؛ بكسر العين المهملة: الشجر الكثير الملتفُّ، والأعياص مِن قريش أولاد أُميَّة بن عبد شمس الأكبر؛ وهم أربعة: العاصي، وأبو العاصي، والعيص، وأبو العيص، والعيصان من معادن بلاد العرب.
(أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف) جملةٌ محلُّها الرفع خبر (أنَّ)، (في حِجة)؛ بكسر الحاء المهملة وفتحها، والمعروف من الرواية الفتح، (الوَداع)؛ بفتح الواو، اسم: التوديع، ولا يجوز الكسر، خلافًا لما زعمه بعضهم، (بمنى) في محلِّ نصب على الحال، وهي قرية قرب مكة، يُذبح فيها الهدايا، وتُرمى فيها الجمرات، وهو مقصور بالصرف وعدمه، والأول أحسن كما تقدم.
(للناس) حال كونهم، (يسألونه) عليه السلام، فهو حال من ضمير وقف، ويَحتمل أن يكون من الناس؛ أي: وقف لهم حال كونهم سائلين منه، ويجوز أن يكون استئنافًا بيانيًا لعِلَّة الوقوف، كذا قرَّره في «عمدة القاري».
(فجاءه رجل) قيل: لم يُعرف اسمه، وفي رواية: (فجاء رجل)، (فقال): يا رسول الله، (لم أشعُر)؛ بضم العين؛ أي: لم أعلم؛ أي: لم أفطنه، (فحلقت) رأسي، و (الفاء) سببية، (قبل أن أذبح)؛ أي: الهدي، (فقال) رسول الله عليه السلام، (اذبح) هديك، (ولا حرج)؛ أي: ولا إثم عليك.
(فجاء آخر)؛ أي: رجل غير الأول، (فقال): يا رسول الله، (لم أشعُر)؛ بضم العين؛ أي: لم أفطن، (فنحرت) هديي، من النحر في اللبة، مثل الذبح في الحلق، والفاء سببية أيضًا، كأنَّه جعل الحلق والنحر كلًّا منهما سببًا عن عدم شعوره، وكأنَّه يعتذر لتقصيره، (قبل أن أرمي) الجمرة، (أنْ) مصدريَّة: أي: قبل الرمي. (قال) عليه السلام، وفي رواية: (فقال): (ارمِ) الجمرة، (ولا حرج)، فـ (لا) لنفي الجنس، و (حرج) اسمُها مبنيٌّ على الفتح، وخبرُها محذوف تقديرُه: لا حرج عليك.
(فما سُئل)؛ بصيغة المجهول، (النبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عن شيء) من أعمال يوم العيد؛ من الرمي، والنحر، والحلق، والطواف، (قُدِّمَ ولا أُخِّر)؛ بضم أوَّلهما على صيغة المجهول، وفي الأول حذف؛ أي: لا قُدِّم ولا أُخِّر؛ لأنَّها لا تكون في الماضي إلَّا مكررة على الفصيح، وحسُن ذلك هنا؛ لأنَّه وقع في سياق النفي، وتمامه في «عمدة القاري».
(إلَّا قال) عليه السلام للسائل: (افعل) ذلك كما فعلتَه قبلُ أو متى شئت، (ولا حرج) عليك، ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذا؛ لأنَّكم فعلتموه على الجهل منكم لا على القصد منكم خلاف السُّنَّة، وكانت السُّنَّة خلاف هذا، وأسقط عنهم الحرج وأعذرهم؛ لأجل النسيان وعدم العلم، والدليل عليه قول السائل: (فلم أشعر).
وجاء ذلك مصرَّحًا في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه الحافظ الطحاوي بإسناد صحيح: أنَّ رسول الله عليه السلام سأله رجل في حجته فقال: إنِّي رميت وأفضت ونسيت فلم أحلق، قال: «فاحلق ولا حرج»، ثم جاء رجل آخر فقال: إنِّي رميت وحلقت ونسيت أن أنحر، فقال: «انحر ولا حرج»، فدلَّ ذلك أنَّ الحرج الذي رفعه الله عنهم إنَّما كان لأجل النسيان والجهل بأمر المناسك؛ لأنَّ السائلين كانوا ناسًا أعرابًا لا عِلم لهم بالمناسك، فأجابهم عليه السلام بقوله: «لا حرج»؛ يعني: فيما فعلتم بالنسيان وبالجهل، فإنَّه أباح لهم ذلك فيما بعدُ.
وممَّا يؤيِّد هذا قولُ حبْر الأُمَّة ابن عباس رضي الله عنهما: مَن قدَّم شيئًا من حجه أو أخَّره؛ فليُهرق لذلك دمًا، والحال أنَّه أحد رواة الحديث المذكور، فلو لم يكن معنى الحديث عنده على ما ذكرنا؛ لما قال بخلافه، والدليل على هذا ما رواه أبو سعيد الخدري كما أخرجه الحافظ الطحاوي، قال: سُئل رسول الله عليه السلام وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرميَ، قال: «لا حرج»،
%ص 54%
وعن رجل ذبح قبل أن يرميَ، قال: «لا حرج»، ثم قال: «عباد الله؛ وضع الله عنكم الحرج والضيق، فتعلَّموا مناسككم؛ فإنَّها من دينكم».
قال الحافظ الطحاوي: أفلا يرى إلى أنَّه أمرهم بتعلُّم مناسكهم؛ لأنَّهم كانوا لا يُحسنونها، فدل ذلك على أنَّ الحرج الذي رفعه الله عنهم هو لجهلهم بأمر المناسك لا لغير ذلك، فعلم ما قرَّرناه: أنَّ الترتيب في أعمال الحج واجبٌ يتعلَّق الدمُ بتركه، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، والإمام مالك، وابن جُبير، والحسن، والنَّخَعي، وقتادة وغيرهم، فلو حلق قبل أن يذبح؛ فعليه دمٌ، وإن كان قارنًا؛ فعليه دمان عندنا.
وقال الإمام زفر: إذا حلق قبل أن ينحر؛ فعليه ثلاثة دماء؛ دمان [1] للقِران، ودم للحلق قبل النحر، وقال الإمام أبو يوسف والإمام محمد: عليه دمٌ واحد، وقال الإمام الشافعي وأحمد ابن حنبل: الترتيب في الأعمال المذكورة في الحديث سُنَّة، فلا شيء بتركه، واستدلا بالحديث المذكور، وقالا: معنى قوله: «لا حرج»؛ أي: لا شيء عليك مطلقًا من الإثم، لا في الترتيب، ولا في ترك الفدية، ولا حجة لهما في الحديث؛ لما علمتَ أنَّه أسقط الحرج للنسيان وعدم العلم، ولعله لم يبلغهما الأحاديث الواردة في ذلك؛ فتأمَّل.
وفي الحديث جواز سؤال العالم راكبًا، وماشيًا، وواقفًا، وجواز الجلوس على الدابة وهي واقفة للحاجة، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل (دمين) والصواب أنها بدل من (ثلاثة) المبتدأ.
==================
(1/162)
(24) [باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس]
هذا (باب من أجاب الفتيا)؛ أي: باب في بيان المفتي الذي أجاب المستفتي في فتياه، (بإشارة اليد والرأس)، والمناسبة بين البابين ظاهرة، ولفظ (باب) ساقط عند الأصيلي كعادته.
==========
%ص 55%
==================
(1/163)
[حديث: أن النبي سئل في حجته فقال: ذبحت قبل أن أرمي]
84# وبه قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) أبو سلَمة؛ بفتح اللام: التبوذكي البصري، (قال: حدثنا وُهَيب)؛ بضم الواو، وفتح الهاء، وسكون التحتية، آخره موحَّدة: ابن خالد الباهلي البصري، المتوفى سنة خمس أو تسع وستين، (قال: حدثنا أيوب) السختياني البصري، (عن عكرمة)؛ بكسر العين وإسكان الكاف: مولى ابن عباس، (عن ابن عباس) عبد الله، رضي الله تعالى عنهما، (أنَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم سُئل)؛ بضم السين المهملة، (في حجته)؛ بفتح الحاء المهملة وكسرها؛ أي: الوداع، (فقال)؛ أي: السائل: (ذبحت) هديي، (قبل أن أرمي) الجمرة هل علي حرج؟ (فأومأ)؛ أي: أشار عليه السلام، وفي رواية: (قال: فأوما) (بيده) الكريمة حال كونه قد (قال)، وفي رواية: (فقال): (لا حرج) عليك، وللأصيلي: (ولا حرج) بالواو؛ أي: امض [1] في فعلك لا حرج عليك؛ لأنَّك جاهل ناسي، و (على) حالية، قال: يكون جمع بين الإشارة والنطق، ويَحتمل أن يكون (قال) بيانًا لقوله: (فأومأ)، ويكون من إطلاق القول على الفعل، كذا في «عمدة القاري».
(وقال) ذلك السائل أو غيره: (حلقت) رأسي، (قبل أن أذبح) هديي؛ أي: قبل ذبحه، فـ (أن) مصدريَّة، (فأومأ)؛ أي: أشار عليه السلام، (بيده) الشريفة، (ولا حرج)؛ أي: امض في فعلك ولا إثم عليك؛ لأنَّك لا تعلم المناسك وأحكامَها.
وهذه الأحاديث مطلقة، وما رويناه مقيَّد، فيُحمل المطلق على المقيَّد، على أنَّ الأحاديث التي استدل بها إمامنا الأعظم مثبتة، وغيرَها نافية، ومن القواعد المقرَّرة عند المحقِّقين: أنَّ المثبت مقدَّم ومرجَّح على النافي؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل (امضي).
%ص 55%
==================
(1/164)
[حديث: يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن]
85# وبه قال: (حدثنا المكي بن إبراهيم) بن بَشِير؛ بفتح الموحدة، وكسر المعجمة، آخره راء: ابن فرقد، أبو السكن البلخي، المتوفى سنة أربع عشرة ومئتين ببلخ عن ثمان وثمانين سنة، (قال: أخبرنا حنظلة) زاد الأصيلي: (بن أبي سفيان)؛ أي: ابن عبد الملك.
(عن سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (قال: سمعت أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر؛ أي: كلامَه، (عنِ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: يُقبَض)؛ بضمِّ أوَّله على صيغة المجهول، (العلمُ)؛ أي: بموت العلماء، وهو تفسير لقوله في الرواية المارَّة: (يُرفع العلم).
(ويَظهر)؛ بفتح أوَّله على صيغة المعلوم، (الجهل)، وظهوره لازمُ قبضِ العلم، فذِكره تأكيدٌ وإيضاح، (والفتنُ) بالرفع عطفًا على الجهل، وفي رواية: بإسقاط لفظ (الجهل)، (ويَكثر)؛ بفتح أوَّله بصيغة المعلوم، (الهَرْج)؛ بفتح الهاء، وسكون الراء، آخره جيم: الفتنة والاختلاط والقتال.
(قيل: يا رسول الله؛ وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرَّفها) بتشديد الراء، (كأنَّه يريد القتل)، فكأن الراوي فهم من تحريف يده وحركتها كالضارب أنَّه يريد القتل، والظاهر أنَّ هذا زيادة من الراوي عن حنظلة، وفيه إطلاق القول على الفعل، و (الفاء) في (فحركها) تفسيريَّة، مفسِّرة لقوله: (هكذا)، وتمامه في «عمدة القاري».
==================
(1/165)
[حديث: ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته]
86# وبه قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي، (قال: حدثنا وُهيب) هو ابن خالد الباهلي، (قال: حدثنا هشام) هو ابن عروة بن الزبير بن العوَّام، (عن فاطمة) بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي زوجة هشام بن عروة وبنت عمِّه.
(عن أسماء) بنت أبي بكر الصديق زوجة الزبير، وكان عبد الله بن أبي بكر شقيقها، وعائشة وعبد الرحمن أخواها لأبيها، وهي ذات النطاقين، المتوفاة في مكة في جماد الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير، وقد بلغت المئة ولم يسقط لها سِنٌّ ولم يتغيَّر لها عقل، أنَّها (قال: أتيت عائشة) بالنصب مفعول، ومنع التنوين منه؛ لأنَّه غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث، أم المؤمنين رضي الله عنها.
(وهي تصلي) جملة اسمية وقعت حالًا من عائشة، (فقلتُ) لها: (ما شأن الناس) قائمين فزعين، (فأشارت) عائشة (إلى السماء) تعني: انكسفت الشمس، (فإذا الناس)؛ أي: بعضهم، (قيام) لصلاة الكسوف، و (إذا) للمفاجأة، وما بعده مبتدأ وخبر، (فقالت)؛ أي: عائشة: (سبحان الله) مفعول مطلق التُزِمَ إضمارُ فعله، تقديره: أُسَبِّحُ الله سبحان؛ أي: تسبيحًا، معناه: أنزِّهُه.
(قلت: آية؟) بهمزة الاستفهام وحذفها، خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: أهي آية؛ أي: علامة لعذاب الناس كأنَّها مقدمة له، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، أو علامة لقرب زمان القيامة، (فأشارت) عائشة (برأسها؛ أي: نعم) تفسير لقوله: (إشارة).
وقال أهل الهيئة: إنَّ الكسوف سببه حيلولة القمر بينها وبين الأرض، فلا يرى حينئذٍ إلَّا لون القمر، وهو كَمِدٌ لا نورَ له، وذاك لا يكون إلَّا في آخر الشهر عند كون النيِّرين في إحدى عقدتي الرأس والذنب، وله آثار في الأرض، وهذا إن كان غرضهم أنَّ الله تعالى أجرى سُنَنَه بذلك كما أَجرى باحتراق الحطب اليابس عند مساس النار، فلا بأس به، وإن كان غرضهم أنَّه واجب عقلًا وله تأثيرٌ بحسب ذاته؛ فهو باطل؛ لما عُلم أنَّ جميع الحوادث مسندَةٌ إلى إرادة الله ولا مؤثِّر في الوجود إلَّا الله تعالى.
قالت أسماء: (فقمت) في الصلاة، (حتى) إلى أن (علاني)؛ بالعين المهملة وتخفيف اللام، من علوت الرجل غلبتُه، وفي رواية: (تجلَّاني)؛ بالفوقية والجيم وتشديد اللام؛ أي: علاني؛ أي: غلبني، (الغَشي)؛ بفتح المعجمة الأولى وسكون الثانية، آخره مثناة خفيفة، وبكسر الشين المعجمة وتشديد الياء أيضًا، بمعنى: الغشاوة، وهي الغطاء.
وفي الأصل: تحرك الخلط الصفراوي يصعد بخاره للدماغ بسبب الحركة، وهنا بطول القيام، والمراد به هنا الحالة الغريبة القريبة منه، فأطلقت (الغشي) عليها مجازًا، ولهذا قالت: (فجعلتُ) من الأفعال الناقصة، و (التاء) اسمه، وقوله: (أصبُّ على رأسي الماء) جملة من الفعل والفاعل المستتر والمفعول: محلُّها النصب خبر (جعل)، وإنَّما صبَّتْ في تلك الحالة الماء البارد؛ لأنَّه يُطفئ حرارة البخار، ويُسكِن تهيُّج الصفراء، ويجلو البصر.
(فحمِد الله) عزَّ وجلَّ (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: قال: الحمد لله، (وأثنى عليه) بأن شكره وذكره بصفات الكمال، فهو من عطف العام على الخاص، (ثم قال) عليه السلام، (ما) نافية، (مِن) زائدة للتأكيد، (شيء) اسم (ما)، (لم أكن) جملةٌ محلُّها رفع صفة لـ (شيء)، (أُريته)؛ بضم الهمزة، جملةٌ محلُّها النصب خبر (لم أكن)، ولا يصحُّ جعلها حالًا خلافًا لمن زعمه.
(إلَّا رأيتُه) استثناء مفرَّغ، فتُلغى فيه (إلَّا) من حيث العمل لا من حيث المعنى؛ أي: رؤيته عين حقيقة؛ بأنْ كُشف له وأُزيلت الحجب عنه، فرأى ربَّه عزَّ وجلَّ بلا كيف ولا كيفيَّة؛ لأنَّه ممَّا لم يمنعه العقل، وكذا كلُّ شيء يصحُّ شرعًا رؤيته، حال كوني، (في مَقامي)؛ بفتح الميم الأولى وكسر الثانية؛ أي: مكاني، زاد في رواية: (هذا) خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو هذا، ويؤوَّل بالمشار إليه.
(حتى الجنة والنار) يجوزُ فيهما الرفع، والنصب، والجرُّ، أمَّا الرفع؛ فعلى أنَّ (حتى) ابتدائية، و (الجنة) مبتدأ محذوف الخبر، و (النار) عطفٌ عليه؛ أي: حتى الجنة مرئية، وأمَّا النصب؛ فعلى أن تكون (حتى) عاطفة عطفت (الجنة) على الضمير المنصوب في (رأيته)، وأمَّا الجر؛ فعلى أن تكون (حتى) جارَّة فرآهما حقيقةً أو صُوِّرتا له في الحائط كما يتمثَّل المرئيات في المرآة، ويدلُّ له ما في المؤلف في (الكسوف): فقال عليه السلام: «الجنة والنار ممثلين في قبلة هذا الجدار»، وفي «مسلم»: «إنِّي صُوِّرتْ لي الجنة والنار، فرأيتُهما دون [1] هذا الحائط»، وتمامه في «عمدةالقاري».
%ص 55%
(فأُوحي)؛ بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول (إليَّ: أنَّكم)؛ بفتح الهمزة: مفعول (أوحي) نائب عن الفاعل (تُفتنون) جملة محلُّها الرفع خبر (أنَّ)؛ أي: تُمتحنون وتُختبرون (في قبوركم) وهو دليل على ثبوت عذاب القبر، (مثلَ أو قريبًا)؛ بحذف التنوين في الأول وإثباته في الثاني، وفي رواية: بحذفه فيهما مع حذف الألف، وفي أخرى: بإثباته فيهما مع ثبوت الألف.
(لا أدري أيُّ ذلك) لفظ (مثل أو قريبًا)، (قالت أسماء؟)، و (أيُّ) مرفوع على الابتداء، خبرُه قوله: (قالت أسماء)، وضميرُ المفعول محذوف؛ أي: قالته، ويجوز أن تكون (أي) استفهاميَّة وموصولة، فإن كانت استفهاميَّة؛ يكون فعل الدراية معلقًا بالاستفهام؛ لأنَّه من أفعال القلوب، ويجوز أن تكون (أي) مبنيَّة على الضم مبتدأ حذف صدر صلتها؛ تقديره: لا أدري أي ذلك هو قالته، وإن كانت موصولة؛ تكون (أي) منصوبة إمَّا مفعول لـ (أدري) أو بـ (قالت) سواء كانت موصولة أو استفهاميَّة، وتمامه في «عمدة القاري».
(من فتنة المسيح)؛ بالحاء المهملة، إنَّما سُمِّي مسيحًا؛ لأنَّه يمسح الأرض، أو لأنَّه ممسوح إحدى العينين، وفرَّق بعضهم بينه وبين عيسى ابن مريم بأن يقال فيه: المسِّيح كـ (سكِّيت)؛ بتشديد السين المهملة؛ لأنَّه مُسح خلقه؛ أي: شوِّه، ويقال لعيسى: مسيح؛ بالتخفيف، وقال آخرون: يقال له: بالخاء المعجمة؛ لأنَّه خلق خلقًا ملعونًا، وبالمهملة لعيسى؛ لأنَّه خلق خلقًا حسنًا.
(الدَّجَّال)؛ بتشديد المعجمة، (فَعَّال) من الدَّجَل؛ وهو الكذب وخلط الحقِّ بالباطل، وتقدير الرواية الأولى: مثل فتنة الدجال أو قريبًا من فتنة الدجال، فحذف ما كان (مثل) مضافًا إليه وترك على هيئته قبل الحذف، وجاز الحذف؛ لدلالة ما بعدَه.
وأمَّا وجه الثانية: فهو أن يكون (مثل) أو (قريب) كلاهما مضافان إلى (فتنة المسيح)، ويكون قوله: (لا أدري أيُّ ذلك قالت أسماء؟) معترضة بين المضاف والمضاف إليه، مؤكِّدة لمعنى الشك المستفاد من كلمة (أو).
وأمَّا وجه الثالثة: فهو أن يكون (مِثلًا) منصوبًا على أنه صفة لمصدر محذوف، و (أو قريبًا) عطفًا عليه، والتقدير: تُفتنون في قبوركم فتنةً مِثلًا _أي: مماثلًا_ من فتنة المسيح الدجَّال أو فتنةً قريبًا من فتنة المسيح الدجال، وتمامه في «عمدة القاري».
(يقال) للمفتون: (ما علمك) مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، وإنَّما عُدِل عن خطاب الجمع إلى المفرد؛ لأنَّ السؤال عن العلم يكون لكلِّ واحد بانفراده واستقلاله، وتمامه في «عمدة القاري».
(بهذا الرجل) عليه السلام، ولم يقل: بي؛ لأنَّه حكاية عن قول الملكين السائلين المسمِّيَيْن بمنكر ونكير، ولم يقولا [2] له: رسول الله؛ لئلَّا يلقَّنَ منهما إكرامَ الرسول، فيُعظِّمُه تقليدًا لهما لا اعتقادًا، (فأمَّا) للتفصيل وفيه معنى الشرط فلذا دخلت الفاء في جوابها، (المؤمن أو الموقن)؛ أي: المصدِّق بنبوة النبي الأعظم عليه السلام، (لا أدري بأيهما)، وفي رواية: (أيُّهما المؤمن أو الموقن)، (قالت أسماء) الشك من فاطمة بنت المنذر، (فيقول) جواب (أمَّا)؛ أي: المقبور المفتون: (هو محمَّد) مبتدأٌ وخبر، (هو رسول الله) مبتدأٌ وخبر، هو (جاءنا) جملة من الفعل والفاعل والمفعول، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو جاءنا (بالبينات)؛ أي: المعجزات الدالة على نبوته (والهدى)؛ أي: الدلالة الموصلة إلى البغية، (فأجبنا)؛ أي: قبلنا نبوَّته معتقدين حقيتها معترفين بها، (واتَّبعنا) فيما جاء به إلينا، أو الإجابة تتعلق بالعلم والاتباع بالعمل، وفي رواية: زيادة الهاء في آخرهما، وحذف ضمير المفعول من الأولى للعلم به، (هو محمد)، وفي رواية: (وهو محمد صلى الله عليه وسلم).
(ثلاثًا) منصوب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: يقول المؤمن: هو محمَّد قولًا ثلاثًا؛ أي: ثلاث مرات، ولفظ (ثلاثًا) ذُكر للتأكيد، فلا يكون المقول إلَّا ثلاث مرات، فاندفع أن يقال: يلزم أن يكون (هو محمد) مقولًا تسع مرَّات؛ فافهم.
(فيقال) له: (نَمْ) فعل أمر، حال كونك، (صالحًا)؛ أي: منتفِعًا بإيمانك وعملك، (قد علمنا إنْ)؛ بكسر الهمزة؛ أي: الشأن، (كنت لموقنًا به)؛ أي: إنَّك موقنٌ به، و (اللام) هي الفارقة بين المخففة والنافية عند البصريين، وقال الكوفيُّون: (إنْ) بمعنى (ما)، و (اللام) بمعنى (إلَّا)، كقوله تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4]؛ أي: ما كل نفس إلَّا عليها حافظ، ويكون التقدير هنا: ما كنت إلَّا موقنًا، وحكى السفاقسي بفتح الهمزة على جعلها مصدريَّة؛ أي: علمنا كونك موقنًا به، بناءً على أنَّ (اللام) اجتُلبتْ للفرق، لا للابتداء.
(وأمَّا المنافق)؛ أي: غير المصدق بقلبه لنبوَّته، (أو المرتاب)؛ أي: الشاكُّ، وأصله: مرتيب؛ بفتح المثناة التحتية في المفعول وكسرها في الفاعل من الريب، قالت فاطمة: (لا أدري أيُّ ذلك قالت أسماء) رضي الله عنها، (فيقول) (الفاء) في جواب (أمَّا)؛ أي: المفتون: (لا أدري، سمعتُ الناسَ) حالَ كونهم (يقولون شيئًا فقلتُه)؛ أي: قلت ما كان الناس يقولونه، وفي رواية: وذكر الحديث بتمامه؛ وهو أنَّه يقال له: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين، نسأل الله العافية.
وفي الحديث دليل على أنَّ الجنة والنار مخلوقتان، وسأل اليهود عمر عن قوله تعالى [3]: {جَنَّةٍ عَرْضُهَا} الآية [آل عمران: 133]: وأين تكون النار، فقال لهم عمر: أرأيتُم إذا جاء الليل فأين يكون النهار، فقالوا له: لقد نزعت ممَّا في التوراة، وفيه سؤال منكر ونكير، وخروج الدجَّال، وسُنِّيَّة صلاة الكسوف، وحضور النساء الجماعات، وجواز السؤال من المصلي.
وفيه دليل على امتناع الكلام في الصلاة ولو كلمة، وهو مذهب إمامنا الإمام الأعظم وأتباعهرضي الله عنه، وفيه جواز الإشارة ولا كراهة فيها إذا كانت لحاجة، وهو مذهبنا أيضًا، وجواز العمل اليسير في الصلاة وأنَّه لا يبطلها، وهو مذهبنا، وأنَّ الغشي لا ينقض الوضوء ما دام العقل والفهم باقيًا، وهو مذهبنا، وأمَّا صبُّ الماء؛ فالمراد به بعمل قليل؛ بحيث لا يعدُّه الناظر كثيرًا، وإلَّا لفسدت الصلاة، والله أعلم.
==================
[1] في الأصل: (بدور) تبعًا لـ «عمدة القاري».
[2] في الأصل: (يقولان).
(1/166)
(25) [باب تحريض النبي وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان ... ]
هذا (باب تحريض) وهو بالضاد المعجمة وكذا بالمهملة، بمعنًى واحد، وهو الحث على الشيء، خلافًا لمن زعم أنَّ المهملة تصحيف؛ فافهم، (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم وفد) جماعة، (عبد القيس) القبيلة المشهورة، (أنْ يحفظوا الإيمان والعلم) عطف خاص على عام، (ويخبروا به مَن وراءَهم) من الناس.
(وقال مالك بن الحُويرث)؛ مصغَّر الحارث؛ بالمثلثة، ابن حشيش؛ بفتح المهملة وبالشين المعجمة المكررة، وقيل: بضم المهملة، ابن عوف بن جندع الليثي، أبو سليمان، المتوفى بالبصرة سنة أربع وتسعين، ممَّا وصله المؤلف في (الصلاة)، ومسلم كذلك.
(قال لنا النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لمَّا قدم عليه في ستةٍ مِن قومه، وأسلم، وأقام عنده أيامًا، وأذن له بالرجوع: (ارجعوا إلى أهليكم) جمع الأهل، وهو يُجمع مكسَّرًا على (الأهال) و (الأهالي)، ومُصَحَّحًا بالواو والنون نحو: (الأهلون)، وبالألف والتاء نحو: (الأهلات)، (فعلِّموهم) أمر دينهم، وفي رواية: (فعِظوهم)؛ أي: ذكِّروهم.
==========
%ص 56%
==================
(1/167)
[حديث: مرحبًا بالقوم _أو: بالوفد_ غير خزايا ولا ندامى]
87# وبه قال: (حدثنا محمد بن بَشَّار)؛ بفتح الموحدة والشين المعجمة، ابن عثمان البصري، (قال: حدثنا غُندَر)؛ بضم الغين المعجمة وفتح الدال المهملة، محمد بن جعفر الهذلي البصري، (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجَّاج، (عن أبي جمرة)؛ بالجيم والراء، نصر بن عمران البصري، أنَّه (قال: كنت أترجم)؛ أي: أعبِّر، (بين ابن عباس) زمن ولايته بالبصرة مِن قِبَل علي بن أبي طالب (وبين الناس) فأعبِّرُ لهم ما يقول ابن عباس، وله ما يقولونه، (فقال) ابن عباس: (إنَّ وفدَ) جماعة، (عبد القيس) بن أَفْصَى؛ بفتح الهمزة، وسكون الفاء، وفتح الصاد المهملة، أربعة عشر رجلًا، والوفد: اسمٌ جمع، لا جمعٌ لـ (وافد)، وهم القوم يأتون رُكبانًا، (أتَوا النبي) الأعظم عام الفتح، وفي الرواية السابقة: (لما أتَوا [رسول] الله)، (صلى الله عليه وسلم قال) لهم: (مَنِ الوافد أو) قال لهم:
%ص 56%
(مَنِ القوم؟) بالشكِّ مِن شعبة أو شيخه (قالوا) نحن (ربيعة) بن نزار بن مَعَد بن عدنان؛ لأنَّ عبد القيس من أولاده، (فقال) عليه السلام، وفي رواية: (قال): (مرحبًا بالقوم أو بالوفد) على الشك أيضًا، وفي رواية بحذفهما، وانتصابُه على المصدريَّة بفعلٍ مضمر (غير) بالنصب حال، وبالجرِّ صفة (خزايا)؛ أي: مذَلِّين ولا مهانِين بالقتل والسَّبِي (ولا ندامى) جمع نادم على القياس؛ كما قدَّمناه، وعند النسائيِّ قال: «مرحبًا بالوفد ليس الخزايا النادمين».
(قالوا): يا رسول الله؛ (إنا نأتيك من شُقَّة)؛ بضمِّ الشين المعجمة؛ أي: سفرة، (بعيدة) وكانوا ينزلون البحرين، (وبيننا وبينك هذا الحي من كفَّار مُضر)؛ بضمِّ الميم ممنوعٌ من الصرف؛ للعلمية والتأنيث، وأصل الحي: منزل القبيلة، ثم سُمِّيت به؛ اتِّساعًا، (ولا نستطيع أن نأتيك)؛ أي: الإتيان إليك (إلَّا في شهرٍ حرامٍ)؛ بتنكيرها؛ أي: رجب، كما صرَّح به البيهقي، وفي رواية: (في شهر الحرام)؛ بتعريف الثاني، (فمرنا بأمر) زاد في (الإيمان): (فصل) (نخبر به) بالرفع على الصفة لقوله: (أمر)، وبالجزم جوابًا للأمر (مَن وراءَنا)؛ أي: الذي استقرَّ خلفنا من قومنا، (ندخل به الجنة)؛ بإسقاط واو العطف الثابتة في (كتاب الإيمان) مع الرفع على الحال المقدَّرة؛ أي: نخبر مقدِّرين دخول الجنة، أو على الاستئناف، أو البدلية، أو الصفة بعد الصفة، والجزم جوابًا للأمر بعد جواب، وفي رواية: (وندخل) بإثبات الواو كالأولى، وعليها؛ فلا يتأتَّى الجزم في الثاني مع رفع الأول، كذا قرَّره في «عمدة القاري».
(فأمرهم) عليه السلام (بأربع) جمل أو خصال، (ونهاهم عن أربع، أمرهم: بالإيمان بالله عز وجل وحده، قال: هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)؛ برفع (شهادة): خبر لمبتدأ محذوف، ويجوز الجرُّ على البدليَّة، (وإقام الصلاة) المفروضة؛ أي: أداؤها، (وإيتاء الزكاة)؛ أي: إعطاؤها، (وصوم رمضان، و) زاد الخامس: أن (تعطوا الخُمُس مِنَ المغنم)، وصرَّح بـ (أن) أحمدُ؛ لكونهم كانوا مجاورين كفَّار مضر وكانوا أهل جهاد وغنائم، فزاد الخامس لذلك، (ونهاهم عن الدُّبَّاء)؛ بضم الدال المهملة وتشديد الموحَّدة والمدِّ: القرع؛ أي: عن الانتباذ بهذه الأشياء، ثم ثبتت الرخصة بما في «مسلم»: «كنت نهيتكم عنِ الانتباذ إلَّا في الأسقية، فانتبذوا في كلِّ وعاءٍ، ولا تشربوا مسكرًا»، (و) عن (الحَنْتم)؛ بفتح الحاء المهملة وسكون النون: جِرار متخذةٌ من طين، ودم، وشعر، أو مطلية بما يسدُّ الخَرْق، (و) عن (المُزَفَّت)؛ أي: المطليِّ بالزفت، (قال شعبة: ربما)، وفي رواية: (وربما) (قال) أبو جمرة: عن (النَّقِير)؛ بفتح النون وكسر القاف؛ أي: الجذع المنقور، (وربما قال): عن (المقيَّر)؛ أي: المطليِّ بالقار، وليس المراد أنَّه كان يتردَّد في هاتين اللفظتين؛ ليثبت إحداهما دون الأخرى؛ لأنَّه على هذا التقدير يلزم التَكرار؛ بلِ المراد أنَّه كان جازمًا بذكر الألفاظ الثلاثة الأُوَل، شاكًّا في الرابع؛ وهو النقير، فكان تارة يذكره وتارة لا يذكره، وكان أيضًا شاكًّا في التلفُّظ بالثالث؛ أعني المزفَّت، فكان تارة يقول: المزفت، وتارة يقول: المقيَّر، والدليل عليه: أنَّه جزم بالنقير في الباب السابق، ولم يتردَّد إلَّا في المزفَّت والمقيَّر فقط، كذا قرره في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(قال: احفظوه)؛ أي: المذكور، (وأخبروه)؛ بفتح الهمزة وكسر الموحَّدة، وفي رواية: بحذف الضمير، وفي أخرى: (وأخبروا به) (مَن وراءَكم) من قومكم، وتمامه قدَّمناه.
==================
(1/168)
(26) [باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله]
هذا (باب الرحلة)؛ بكسر الراء؛ أي: الارتحال، وبالضم: جودة الشيء (في المسألة النازلة) بالمرء، (وتعليمِ أهله) بالجرِّ عطفًا على الرحلة، قال في «عمدة القاري»: والصواب حذف هذه الجملة؛ لأنَّه يأتي آخر الباب.
==========
%ص 57%
==================
(1/169)
[حديث عقبة: أنه تزوج ابنة لأبي إهاب]
88# وبه قال: (حدثنا محمد بن مقاتل) المروزي، وفي رواية: (ابن مقاتل أبو الحسن) (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي (قال: أخبرنا عُمر بن سعِيد)؛ بضم العين في الأول وكسرها في الثاني (بن أبي حُسَين)؛ بضم الحاء وفتح السين المهملتين؛ مصغرًا، النوفلي المكي (قال: حدثني) بالإفراد (عَبْد الله)؛ بفتح العين وسكون الموحدة (ابن أبي مُليكة)؛ بضم الميم: زهير التيمي القرشي الأحول المكي، ونسبه لجده؛ لشهرته به، وإلَّا فأبوه عُبيد الله؛ بضم العين، (عن عُقْبَة)؛ بضم العين، وسكون القاف، وفتح الموحدة (بن الحارث) بن عامر القرشي المكي، أبو سِروعة؛ بكسر السين المهملة، وحكي فتحها، قال أبو عمران: ابن أبي مليكة لم يسمع من عقبة، وهو سهوٌ؛ لما سيأتي عند المؤلف في (النكاح): أنَّ ابن أبي مليكة قال: حدثنا عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث قال: وسمعته من عقبة، فهذا صريح في سماعه من عقبة: (أنَّه)؛ أي: عقبة بن الحارث (تزوَّج ابنةً) وللأصيلي: (بنتًا) (لأبي إِهاب بن عَزِيز)؛ بكسر الهمزة، وفتح العين المهملة، وكسر الزاي، وسكون التحتية: ابن قيس بن سويد التيمي الدارمي، واسم ابنته: غَنِيَّة؛ بفتح المعجمة، وكسر النون، وتشديد التحتية، وكنيتها: أم يحيى، (فأتته امرأة) قال في «عمدة القاري»: لم أقف على اسمها، (فقالت: إنِّي أرضعت عقبة) بن الحارث (والتي تزوَّج بها)؛ أي: غَنِيَّة، وفي رواية: بحذف (بها)، (فقال لها عقبة: ما أعلم أنكِ) بكسر الكاف (أرضعتني)، وفي رواية: (أرضعتيني)؛ بزيادة تحتية قبل النون، (ولا أخبرتني) وفي رواية: (ولا أخبرتيني)؛ بزيادة تحتية قبل النون [1]، (فركب) عقبة (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال كونه (بالمدينة)؛ أي: فيها، وكان ركوبه من مكة، (فسأله)؛ أي: سأل عقبة النبيَّ الأعظم عليه السلام عن الحكم، (فقال) وفي رواية: (قال) (رسول الله) وفي رواية: (قال النبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: كيف) تباشرها (وقد قيل): إنك أخوها من الرضاعة؟! (ففارقها عقبة) بن الحارث؛ أي: طلقها احتياطًا وورعًا، لا حكمًا بثبوت الرضاع وفساد النكاح؛ لأنَّه ليس قول المرأة الواحدة شهادةً يجوز الحكم بها في أصل من الأصول، وإنَّما يثبت الرضاع بما يثبت به المال؛ وهو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وهذا مذهب إمامنا الإمام الأعظم رضي الله عنه.
(ونَكحت) غَنِيَّة بعد فراق عقبة، ومُضِيِّ عِدتها (زوجًا غيره) هو ظُرَيب؛ بضم المعجمة، وفتح الراء، آخره موحدة: ابن الحارث، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الفوقية)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 57%
==================
(1/170)
(27) [باب التناوب في العلم]
هذا (باب التناوب) بالجرِّ؛ للإضافة (في العلم)، والتناوب (تفاعل) من ناب؛ أي: قام مقامي؛ بأن يأخذ هذا مرة ويذكره لهذا، والآخر مرة ويذكره له.
==========
%ص 57%
==================
(1/171)
[حديث عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار]
89# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) هو الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة؛ بالمهملة والزاي، (عن الزهري) محمد بن مسلم ابن شهاب،
(ح) مهملة للتحويل: (قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، وهو ساقط في رواية، (وقال ابن وهب) عبد الله المصري فيما وصله ابن حبَّان في «صحيحه» عن ابن قتيبة، عن حرملة، عن عبد الله بن وهب: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي، (عن ابن شهاب) الزهري المذكور في الموصول، فغاير بين اللفظين؛ تنبيهًا على قوَّة محافظته على ما سمعه من شيخه، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (ابن أبي ثور)؛ بالمثلثة، القرشي النوفلي التابعي، (عن عبد الله بن عباس، عن عمر) بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه (قال: كنت أنا وجارٌ)؛ بالرفع عطفًا على الضمير المنفصل المرفوع، أعني: أنا، وإنَّما أظهره؛ لصِحَّة العطف حتى لا يلزم عطف الاسم على الفعل، هذا قول البصريين، وعند الكوفيين: يجوز من غير إعادة الضمير، ويجوز فيه النصب على معنى المعية، واسمه: عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري الخزرجي، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (لي) جارٌ ومجرور في محل رفع أو نصب صفة لـ (جار)، (مِن) بيانية (الأنصار) جمع ناصر أو نصير، عبارة عن الصحابة الذين آووا ونصروا رسول الله عليه السلام من أهل المدينة، وهو اسم إسلامي سمَّى الله به الأوس والخزرج (في بني) في محل نصب خبر (كان)؛ أي: مستقرِّين، أو نازلين، أو كائنين فيها، وفي رواية: (من بني) (أمية بن زيد)؛ أي: في هذه القبيلة ومواضعهم؛ يعني: في ناحية بني أمية، سُمِّيت البقعة باسم مَن نزلها، (وهي)؛ أي: القبيلة، وفي رواية: (وهو)؛ أي: الموضع (من عوالي) خبر (هي) (المدينة) جمع عالية، وهي عبارة عن قرًى بقرب المدينة من فوقها في جهة الشرق، وأقرب العوالي إلى المدينة على ميلين، أو ثلاثة، أو أربعة، وأبعدها ثمانية، وتمامه في «عمدة القاري» (وكنا نتناوب) جملة محلها النصب خبر كان (النزول) بالنصب مفعوله (على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل) جملة محلها الرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: جاري (يومًا) بالنصب على الظرفية، (وأنزل يومًا) من العوالي إلى رسول الله عليه السلام؛ لتعلُّم العلم، (فإذا نزلت) أنا؛ (جئته) جواب (فإذا)؛ لما فيها من معنى الشرط (بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره) من الشرائع، (وإذا نزل) جاري؛ (فعل) معي (مثل ذلك) فيأتيني بخبر يومه من الوحي وغيره، (فنزل صاحبي الأنصاريُّ) بالرفع صفة لـ (صاحبي) المرفوع،
%ص 57%
(يوم نوبته)؛ أي: يومًا من أيام نوبته، فسمع أنَّ النبيَّ الأعظم عليه السلام اعتزل نساءه، فرجع إلى العوالي فجاء، (فضرب بابي) فالفاء تسمَّى فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن شرط مقدر (ضربًا شديدًا، فقال: أثَمَّ هو)؛ بفتح المثلثة وتشديد الميم: اسم يُشار به إلى المكان البعيد، وهو ظرف لا ينصرف، (ففزِعت)؛ بكسر الزاي؛ أي: خِفت لأجل الضرب الشديد؛ لأنَّه كان على خلاف عادته، فـ (الفاء) تعليلية، وللمؤلف في (التفسير): (قال عمر: كنا نتخوَّف مَلِكًا من ملوك غسان ذُكر لنا أنَّه يريد أن يسير إلينا وقد امتلأت صدورنا منه، فتوهَّمت لعلَّه جاء إلى المدينة، فخفته لذلك)، (فخرجت إليه فقال: قد حدث أمر عظيم) أراد به اعتزاله عليه السلام عن أزواجه الطاهرات، وإنَّما وصفه بالعظمة؛ لكونه مَظِنَّة الطلاق وهو عظيم، لا سيما بالنسبة إلى عمر؛ فإنَّ بنته إحدى زوجاته، وفي أصل الحديث بعد قوله: (أمر عظيم): (طلق رسول الله عليه السلام نساءه، قلت: قد كنتُ أظنُّ أنَّ هذا كائنٌ حتى إذا صليت الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نزلت)، (فدخلت على حفصة) أمِّ المؤمنين، فالداخل أبوها عمر، لا الأنصاري، و (الفاء) تفصيحية أفصحت عن المقدر؛ أي: نزلت من العوالي فجئت إلى المدينة فدخلت على حفصة؛ (فإذا هي تبكي) مبتدأ وخبره، (فقلت) لها: (طلقكُنَّ) وفي رواية: (أطلقكُنَّ) (رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت)؛ أي: حفصة: (لا أدري)؛ أي: لا أعلم، ومفعوله محذوف؛ أي: أنَّه طلق، (ثمَّ دخلتُ على النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فخرجت من عندها ودخلت عليه، (فقلت وأنا قائم): يا رسول الله؛ (أَطلقتَ نساءك؟)؛ بهمزة الاستفهام مفتوحة، (قال) عليه السلام: (لا، فقلت) وللأصيلي: (قلت): (الله أكبر!) وقع موقع التعجُّب من كون الأنصاري ظنَّ أنَّ اعتزالَه عليه السلام عن نسائه طلاقٌ أو ناشئٌ عنه، فلمَّا رأى عمرُ أنَّ صاحبه لم يصب في ظنِّه؛ تعجَّب منه بلفظ: (الله أكبر).
وإيراد هذا الحديث هنا للتناوب [1] في العلم، وفيه: جواز دخول الآباء على البنات بغير إذن أزواجهنَّ، وفيه: أنَّ لطالب العلم أن ينظر في معيشته وما يستعين به، وفيه: قبول خبر الواحد، وفيه: توقيت يوم للعلم ويوم للمعيشة، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (التناوب)، وليس بصحيح.
==================
(1/172)
(28) [باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره]
هذا (باب الغضب) بالإضافة، وهو انفعال يحصُل من غليان الدم لشيءٍ دخل في القلب (في) حالة (الموعظة)؛ أي: الوعظ (و) في حالة (التعليم إذا رأى) الواعظ أو المعلِّم (ما يكره)؛ أي: الذي يكرهه، فحذف العائد.
أراد المؤلف الفرق بين قضاء القاضي وهو غضبان، وبين تعليم العلم أو تذكير الوعظ؛ فإنَّه بالغضب أجدر وخصوصًا بالموعظة، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وتبعه ابن المُنَيِّر والبِرماوي، واعترضه الدَّماميني؛ حيث قال: أمَّا الوعظ؛ فمُسَلَّم، وأمَّا تعليم العلم؛ فلا نُسَلِّم أنَّه أجدر بالغضب؛ لأنَّه ممَّا يدهش الفكر، فقد يفضي التعليم به إلى خلل، والمطلوبُ كمالُ الضبط.
قلت: وهو مردودٌ؛ فإنَّ الغضب يقوِّي القلب ويحسِّنه، ويخرج الجواب منه سريعًا