روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الاصلي ظلما وبغيا

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الالكتروني

كتاب:آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة أبو البركات ا... /يا أمة الإسلام والأزهر الشريف *أفيقوا* /تحميل مذكرة الجبر3 ث ثانوي عام 3 ثانوي.pdf. / صفحة .. س وج احياء 3ث/ أرشيف المدونة النخبة في... /الفيزياء للجميع 3 .ث /مذكرة التميز (شرح ومراجعة) النصوص للصف الثالث الثا... /العلامات والأعراض التهاب المفاصل الروماتويدي /موضوعات علمية وللثانوية العامة وكذلك مسائل شرعية... /تحميل منهج الثانوية العامة 3ث /مذكرة الأساسيات , الجبر, الهندسة الفراغية , الاستا... /حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث .حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث . /ثانوي علم النفس اللثانوية العامة 2016 استاذ سام... /ث. استاتيكا :خرائط مفاهيم المميز للصف الثالث ال... /الفيزياء الثالث الثانوي3ث. /فيزياء 3ث /مناج الثالث الثانوي 3ث. /مذكرات 3ث. /مذكرات 3ث. /الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... / الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... /ث/الديناميكا(تفاضل الدوال المتجه.pdf ) /ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي /لا يمكن الجمع بين أن المؤمن مآله إلى الجنة وبين حد... /كتاب : الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ابن كثير /دليل 24. /القران مكتوب روابط /مجلد 1. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح... /مجلد 2. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح...

اللهم إني أُشهدك أنني بريئ من كل علم وكل شأن لا ترضاه ويخالف دينك القيم

الثلاثاء، 17 مايو 2022

مجلد 1 و 2. تفسير أصل الرازي أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري للشيخ / عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)


مجلد 1. أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)
تحقيق: المكتب العلمي بدار الكمال المتحدة
* * *
(1/1)
مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
يا رب العالمين
الحمد لله الذي نشر العلوم على يد أولي الألباب، وخصَّ مَن شاء بما شاء من الفضائل والنعم الجلباب، فألهمهم الفهم والإفهام، والضبط والصواب، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّد الذي لا ينطق إلَّا بالصواب، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم الأنجاب.
أمَّا بعد:
فيقول العبد الفقير الفاني أبو عبد الرزاق عبد القادر بن المرحوم السيد عبد الله أفندي الأنصاريُّ الشهير بالأسطوانيِّ الحنفيُّ القادريُّ الدمشقيُّ غفر الله لهما بمنِّه، وستر عليهما بفضله، آمين:
فإنِّي لمَّا قرأتُ «صحيح البخاري» على مشايخي الأعلام، وراجعتُ شروحه العِظام، فرأيتُ بعضَها مطوِّل مُمِلٌّ، وبعضَها مُقِلٌّ مُخِلٌّ؛ أردتُ أن أجمع تقرير أشياخي، وأجعلها شرحًا لـ «الصحيح»، فإنِّي وإن كنتُ لستُ من أهل هذا الشأن ولا للخوض في هذا الميدان، لكنِّي أتشبَّه بهم، وأقتدي بمَن قال:
... ~فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلَهم ... إنَّ التشبُّه بالكرام فلاح
والذي أوقعني في هذا التشبُّه بعض أصحابي الأحباب بإلحاحهم عليَّ بوضع شرح على هذا الكتاب، فاستعنتُ الله على ذلك، وسألتُه إلهام الصواب، والإتمام على أتم المرام، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به عباده المؤمنين، وإذا كمل إن شاء الله تعالى؛ فأسمِّيه:
«أصل الزراري على صحيح البخاري»
واللهَ أسأل، وبنبيه أتوسَّل أن يوفقَني لإتمامه، ويعينَني على إكماله؛ إنَّه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.
==========
%ص 2%
(1/2)
مقدمة تشتمل على فصول:
الأول: في فضيلة أهل الحديث:
روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرُبُّ حامل فقه ليس بفقيه ... » الحديث، رواه البزار، وابن حبان، وكذا أبو داود بلفظ: «نضَّر الله امرأ سمع منَّا شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلَّغ أوعى من سامع»، قال الترمذي: حسن صحيح.
و (نضَّر)؛ بتشديد الضَّاد المعجمة، وقد تُخفَّف، والنَّضرة: الحُسن والبهجة؛ أي: خصَّه اللهُ بالحُسن والبهجة، وخصَّ الفقه؛ لأنَّ عليه مدار الأحكام؛ لِمَا روي: «من يُرد الله به خيرًا؛ يُفقهه في الدين»، رواه الشيخان، وغيرهما، وفي «الطبراني»: «اللهم ارحم خلفائي»، قلنا: يا رسول الله؛ من خلفاؤك؟ قال: «الذين يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس».
==========
%ص 2%
(1/3)
الفصل الثاني: في ذكر أوَّل مَن دون الحديث والسُّنن.
فأوَّل مَن أمر بتدوين الحديث وجمْعِه عمرُ بن عبد العزيز خوفَ اندراسه، فإنَّه كتب إلى أهل الآفاق: (انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه)؛ لأنَّ الصحابة والتابعين لم تكن تكتب الأحاديث، وإنَّما كانوا يؤدونها من حفظهم.
ولمَّا نشأ إمامنا الأعظم، والمجتهد الأفخم، سيِّد المجتهدين، وسند المحقِّقين الذي أقرَّ بأسبقيته وفضله المجتهدون أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه، فألَّف بالفقه ودوَّنه وبوَّبه، وجعلَه مرتبًا على كتب وفصول؛ رآه الإمام مالك، فتبعه وألَّف «الموطأ»، ثم تبعه مَن بعده وهكذا، وإنَّما كان اشتغال الإمام الأعظم بالفقه للحديث السابق، ولأنَّ عليه مدار الأحكام من حلال وحرام، وهذا هو المسؤول عنه يوم القيامة؛ فليُحفظ.
==========
%ص 2%
(1/4)
الفصل الثالث: في بيان تقسيم السنن المضافة إليه عليه السلام
قولًا، وفعلًا، أو تقريرًا، وكذا وصفًا، وخَلقًا _ككونه ليس بالطويل، ولا بالقصير_ وأيامًا _كاستشهاد حمزة، وقتل أبي جهل_ إلى متواتر ومشهور، وصحيح، وحسن، وصالح، ومُضعَّف، وضعيف، ومسند، ومرفوع، وموقوف، وموصول، ومرسل، ومقطوع، ومنقطع، ومعضل، ومعنعن، ومؤنن، ومعلق، ومدَلَّس، ومُدْرَج، وعال، ونازل، ومسلسل، وغريب، وعزيز، ومعلَّل، وفرد، وشاذ، ومنكر، ومضطرب، وموضوع، ومقلوب، ومركب، ومنقلب، ومدبج، ومصحف، وناسخ، ومنسوخ، ومختلف.
فالمتواتر: ما رواه جمع عن جمع.
والمشهور: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين.
والصحيح: ما اتصل سنده بعدول.
والحسن: ما عرف مخرجه.
والصالح: دون الحسن.
والمضعَّف: ما لم يُجْمع على ضعفه.
والضعيف: ما قَصُر عن درجة الحسن.
والمسند: ما اتصل سنده من رواته.
والمرفوع: ما أضيف إليه عليه السلام من قول، أو فعل، أو تقرير.
والموقوف: ما قَصُر على الصحابي.
والموصول: ما اتصل سنده.
والمرسل: ما رفعه تابعي إليه عليه السلام، وهو قوي يصح الاحتجاج به عند الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد، والجمهور، ولم يحتج به الشافعي؛ لأنَّه لم يذكر الصحابي الذي رواه، ورُدَّ: بأنَّه لما كان قويًا عند التابعي من حيث إنه لم يَحْتَج إلى ذكر الصحابي، فكأنَّه لشدَّة تيقنه سمعه منه عليه السلام.
والمقطوع: ما جاء عن تابعي.
والمنقطع: ما سقط من رواته واحد.
والمعضل: ما سقط من رواته اثنان.
والمعنعن: الذي قيل فيه: عن فلان عن فلان.
والمؤنن: قول الراوي: حدثنا فلان أن فلانًا قال.
والمعلق: ما حذف من أول إسناده.
والمدلَّس _بفتح اللام المشددة_: أن يسقط اسم شيخه، ويرتقي إلى شيخ شيخه.
والمدرج: كلام يذكر عقب الحديث.
والعالي: القرب منه عليه السلام.
والنازل: بضده.
والمسلسل: ما ورد بحالة واحدة.
والغريب: ما انفرد راوٍ بروايته.
والعزيز: ما انفرد بروايته اثنان.
والمعلَّل: خبرُ ظاهره السلامة.
والفرد: ما رواه واحد عن واحد.
والشاذ: ما خالف الراوي.
والمنكر: الذي لا يعرف متنه.
والمضطرب: ما روي على أوجه مختلفة.
والموضوع: الكذب.
والمقلوب: المبدل بعض رواته.
والمركب: الذي ركب إسناده لمتن آخر.
والمنقلب: هو مقلوب لفظه على الراوي.
والمدبج _بالموحدة والجيم_: رواية القرينين.
والمصحَّف: الذي تغير بنقط الحروف.
والناسخ والمنسوخ؛ كحديث المارِّ، وكحديث قنوت الفجر، وغيرهما، فإنَّ قتلَ المارِّ، وقنوتَ الفجر قد نسخ عند الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد، والجمهور، وعند الشافعي: باق على أصله.
والمختلف؛ كحديث: «لا عدوى ... »، وحديث: «فِرَّ من المجذوم ... »، وجمع بينهما بأن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن جعل الله مخالطة المريض للصحيح سببًا لإعدائه، وقد يختلف.
سئل المؤلف: متى يصير الرجل محدِّثًا؟
فأجاب: إذا كتب أربعًا مع أربع كأربع مثل أربع في أربع عند أربع بأربع على أربع عن أربع لأربع، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع، فإذا تمت له كلها؛ هان عليه أربع، وابتلي بأربع، فإذا صبر؛ أكرمه تعالى في الدنيا بأربع، وأثابه في الآخرة بأربع.
سُئل عنها؟
أجاب: الأربعة التي يحتاج إلى كتْبها: هي أخبار الرسول عليه السلام، وشرائعه، والصحابة، والتابعين، وتواريخهم، وأزمنتهم، وأمكنتهم، وغير ذلك، ولا تتم إلا بأربع: معرفة الكتابة، والصرف، واللغة، والنحو، مع أربع: فهي القدرة، والصحة، والحرص، والحفظ، فإذا تم له ذلك؛ هان عليه أربع: الأهل، والمال، والولد، والوطن، وابتلي بأربع: بشماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهلاء، وحسد العلماء، فإذا صبر؛ أكرمه في الدنيا بأربع: بعز القناعة، وبهيبة النفس، وبذلة العلم، وبحياة الأبد، وأثابه في الآخرة بأربع: بالشفاعة، وبظل تحت العرش، وبالسقي من الحوض، ومجاورة الأنبياء عليهم
%ص 2%
السلام.
(1/5)
الفصل الرابع: فيما يتعلق بالبخاري.
اتفقت الأمة على أنَّه ليس بعد كتاب [الله] أصح من «صحيحي البخاري ومسلم»، واختلف في أرجحية أحدهما على الآخر، فرجح البعض منهم المغاربة: «صحيح مسلم» على «صحيح البخاري»، والجمهور: على ترجيح «البخاري» على «مسلم»؛ لأنَّه أكثر فوائد منه، كما بسطه الإمام بدر الدين العيني قدس سره، قال: (وهو أول كتاب صنف في الحديث الصحيح، وصنفه في ستة عشر سنة ببخارى، وقيل: بمكة، وقيل: في المسجد الحرام، [قال]: وما أدخلتُ فيه حديثًا إلا بعد أن صليت ركعتين، وتيقنت صحته، قال: ويجمع بأنه كان يصنف فيه بمكة، والمدينة، والبصرة، وبخارى) اهـ
==========
%ص 3%
==================
(1/6)
الفصل الخامس: في ذكر نسب البخاري.
فهو الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة_ بضم الميم، وكسر المعجمة_ ابن بَرْدِزْبَه_ بفتح الموحدة، وسكون الراء، بعدها دال مهملة مكسورة، فزاي ساكنة، فموحدة مفتوحة، فهاء؛ ومعناه بالفارسية: الزرَّاع_ الجُعْفِيُّ؛ بضم الجيم، وسكون العين المهملة، بعدها فاء.
وكان بَرْدِزْبَه فارسيًا على دين قومه، ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجُعفيِّ والي بخارى، فنسب إليه نسبة ولاء، ويمان هذا هو جد المؤلف، وأما إبراهيم بن المغيرة؛ فلم أر من ترجمه.
ولد البخاري يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة من شوال سنة أربع وتسعين ومئة ببُخارى_ بضم الموحدة، وفتح الخاء المعجمة، وبعد الألف راء_ وهي من أعظم مدن ما وراء النهر، ألف هذا «الجامع»، و «الأدب المفرد»، و «بر الوالدين»، و «التاريخ الكبير»، و «الأوسط»، و «الصغير»، و «خلق أفعال العباد»، وله تأليف آخر، وبالجملة ففضائله كثيرة مشهورة.
==========
%ص 3%
(1/7)
بيان شروح هذا الصحيح:
شرحه الإمام أبو سليمان حمد الخطابي، وشرحه أبو جعفر أحمد الداودي، وشرحه المهلب، وشرحه أبو الحسن علي بن خلف المالكي المشهور بابن بطال، قال القسطلاني: (وغالب هذا الشرح في فقه مالك من غير تعرض لموضوع الكتاب) اهـ.
قلت: هذا كلام واهٍ؛ لأنَّ ابن بطال مشهور بالعلوم، فكيف لا يتعرض لموضوع الكتاب.
وشرحه أبو حفص عمر الإشبيلي، وأبو القاسم أحمد التيمي، وعبد الواحد ابن التين السفاقسي، وابن المُنَيِّر، والإمام قطب الدين عبد الكريم الحلبي الحنفي بشرح لطيف فيه نكت لطيفة، ولطائف شريفة، وشرحه الإمام شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني بشرح مفيد، قال ابن حجر العسقلاني: (لكن فيه أوهام؛ لأنَّه لم يأخذه إلَّا من الصحف). اهـ
قلت: هذا كلام مردود، فالأوهام تحيط بقليل البضاعة والفهم، وأخذه من الصحف ليس مَعِيبًا؛ لأنَّه أتقن في التثبت خصوصًا في هذا الكتاب.
وشرحه البرماويُّ أخذه من شرح الكرماني، كما قال في أوله.
وشرحه الشيخ برهان الدين الحلبي، وسماه: «التلقيح».
وشرحه ابن حجر العسقلاني، وسماه: «فتح الباري»، أخذه من شرح الحلبي حين كان بحلب، وقد اعتنى به الشافعية، واشتهر عندهم، ومدحوه غاية المدح، ولا غرو، فإن التطويل فيه غاية موجب للسآمة، والأوهام التي فيه لا تحيط بحصر، وقد ألف بعض الفضلاء كتابًا في ذلك سماه: «كشف الحجاب عن العوام فيما وقع في الفتح من الأوهام»، ومن جملة ما طُعن به عليه: أنَّ من عادة البخاري تكرار الأحاديث في مواضع متعددة، وعادة العسقلاني يشرح الحديث في موضع، ثم يتركه في آخر، ويحيل على الأول، وهذا غاية السآمة، ويعتمد في الإعراب على الأقوال الشاذة الضعيفة، ويعتمد على أقوال الشافعي في القول القديم، ويرجح قولًا في باب، ويعتمد غيره في باب آخر، مع ما فيه من التطويل الممل وكثرة الأقوال المخل، وفي ذلك ألف بعض الأفاضل كتابًا سماه: «منهل العليل المطل على ما وقع في الفتح من التطويل المخل».
وشرحه الإمام الكبير علامة الدنيا والفاضل الهمام بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني الحنفي في خمس مجلدات كبار، وسماه: «عمدة القاري»، فإنه شرح نفيس ما سمع بمثاله ونظيره بما اشتمل عليه من الترتيب العجيب، والفوائد البديعة الغريبة، والأبحاث الرائقة العجيبة، شرع في تأليفه في رجب سنة إحدى وعشرين وثمان مئة، وفرغ منه في أواخر الثلث من ليلة السبت خامس شهر جماد الأولى سنة سبع وأربعين وثمان مئة بمدرسته التي أنشأها بحارة كتامة بالقرب من الجامع الأزهر، وما قيل من أنه استمده من «فتح الباري» كان يستعيره ابن خضر؛ فباطل لا أصل له، بل هو كلام الحساد المتعصبين.
ونقل القسطلاني عن بعضهم: أنه ذكر لابن حجر ترجيح شرح البدر العيني بما اشتمل عليه من سياق الحديث بتمامه، وإفراد كل من تراجم الرواة بالكلام، وبيان الأنساب، واللغات، والإعراب، والمعاني، والبيان، واستنباط الأحكام، والأسئلة، والأجوبة، فقال: هذا شيء نقله من شرح لركن الدين. اهـ
قلت: هذا كلام لم يقله كابل فضلًا عن فاضل، وإذا كان يعلم أنه موجود شرح لركن الدين، فلما نقل عنه وحذا حذه لما رأى من البلاغة والتحقيق، فهو كلام باطل لا أصل له.
وما قيل: إن الإمام العيني بعد الجزء الأول لم يتكلم كما تكلم في أول كتابه؛ لأنَّه كان عنده قطعة من شرح ركن الدين؛ فهو كلام باطل؛ لأنَّ عادة البخاري تكرار الأحاديث، فإذا تكلم على حديث بما يتعلق به على عادته، وذكر في محل آخر، فإنه يقتصر الكلام عليه، ويبين المعاني، والمنطوق، والإعراب، وغيره بأخصر مما سبق، وهو لا عيب فيه.
وبالجملة: فإنَّ الشافعية طبعهم ودأبهم القدح في الأئمة الحنفية؛ إما في كتبهم، أو في كلامهم، أو غير ذلك، وذلك من عدم الحياء والأدب [1]، ولم أر أحدًا أطول لسانًا منهم أصلحهم الله تعالى، وأرضى عنهم أئمتنا الأعلام.
ومن حسن شرح البدر العيني أنه يبين في شرحه الخطأ الذي وقع فيه العسقلاني في «الفتح»، ويرده، وألف محمد بن المنصور المعزاوي أجوبة عن الاعتراضات على ابن حجر، قال القسطلاني: (لكنه لم يجب عن أكثرها).
قلت: لما أنها في محل التحقيق والتدقيق.
وقد ألف بعض الفضلاء كتابًا سماه: «السم القاتل العريني للطاعن على الإمام العيني»، وألف بعض آخر كتابًا سماه: «الطوب الرديني في قلب الطاعن على العيني»، وسبب ذلك أنه كان ابن حجر يدرس في الجامع المؤيدي، ففي شهر ربيع الأول سنة أحد وعشرين وثمان مئة ظهر بالمأذنة اعوجاج، فأمروا عليها بالهدم، فهدمت، فأنشأ يقول:
... ~لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارة تزهو من الحسن والزين
... ~تقول وقد مالت عليهم تمهلوا ... فليس على جسمي أضر من العين
فتحدث الناس في ذلك، فبلغ الشيخ الإمام بدر الدين العيني، فعارضه ارتجالًا حيث قصد بالعين التورية إليه، وشبهه بالعين الصائبة، فقال:
... ~منارة كعروس الحسن إذ جليت ... وهدمها بقضاء الله والقدر
... ~قالوا: أصيبت بعين قلت: ذا غلط ... ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر
وبعد ذلك حصل بينهما الاعتراضات والجوابات، وكان السبب من ابن حجر؛ لأنَّه ابتدأ في ذلك، وتكفيه أنه غيبة من الكبائر المنهي عنها، وكان الإمام العيني حسن الخلق، ذي مهابة وجلالة، وقدر وعز، وله تأليف في كل فن؛ الأصول، والفقه، والحديث، والنحو، والشعر، وغيرها رضي الله عنه.
وعلى كلٍّ: فهو شرح عظيم الشأن، كثير الفوائد والمعان، لم يسبق ولا يسبق بنظيره؛ لما حواه من الترتيب العجيب، وليس الخبر كالعيان.
وشرحه الشيخ أحمد القسطلاني، أخذه من شرح البدر العيني، كما يعلم ذلك من تتبع عبارتهما، وفي الحقيقة: كلهم عيال لشرح البدر العيني نفعنا الله به.
وشرحه الإمام العلامة الشهاب أحمد المنيني العثماني، لكنه لم يكمل، وشرحه العلامة الشيخ إسماعيل العجلوني، لكنه لم يكمل أيضًا، فرأيتهما وطالعتهما، فرأيت شرح العجلوني لا فائدة فيه؛ لما اشتمل عليه من الأبحاث التي في غير محلها مع التطويل الممل، والتعطيل المخل، وقد أخذه من شرح القسطلاني، وأما شرح المنيني، فلو كمل؛ لكان مفردًا؛ لما فيه من التحقيق، والتدقيق، والأبحاث المفيدة الرائقة.
وله شروح أخر أضربت عليها؛ خوف الإطالة، وفي هذا القدر كفاية.
==========
[1] رحم الله المؤلف وعفى عنه، فقد وقع فيما رمى به الأئمة الشافعية رضوان الله عليهم أجمعين.
%ص 3%
==================
(1/8)
أمَّا إسنادي في هذا الكتاب إلى مؤلفه؛ فأرويه من طرق عديدة:
فإني قرأته على الإمام العلامة والمحقق المدقق الفهامة رئيس العلماء الأعلام الملقب بالإمام الأعظم الصغير شيخ الإسلام والمسلمين خاتمة الفقهاء والمحدثين الشيخ عبد الله أفندي بن المرحوم علامة الأقطار والأمصار الشيخ سعيد الحلبي الأصل، الدمشقي الموطن، الحنفي.
وقرأته على الإمام العلامة المحقق مفتي الشافعية السيد نور الدين عمر أفندي الغزي العامري.
وقرأته على الإمام العلامة حاوي المعقول والمنقول الشيخ حسن الشطي الحنبلي.
وقرأته على الإمام العلامة فقيه الزمان، ومحقق مذهب النعمان، الفاضل الكامل، ذي [1] التحارير الفائقة، والفوائد الرائقة، السيد أحمد أفندي بن المرحوم العلامة السيد عمر أفندي الإسلابولي الأصل، الدِّمشقي الموطن، الحنفي، شارح «الدرر والغرر».
وقرأته على الإمام العلامة المدقق الفهامة الشيخ سليم بن الشيخ ياسين بن الإمام العلامة الكبير محرر مذهب محمد بن إدريس الشيخ حامد العطار.
%ص 3%
أما الأول؛ فيرويه عن والده المذكور، عن الإمام الشيخ محمد الكزبري، عن والده الشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشهاب أحمد المنيني، والشيخ علي الكزبري، وهؤلاء الثلاثة يروون عن الإمام العارف الشيخ عبد الغني النابلسي، والشيخ محمد الكاملي، عن نجم الدين محمد الغزي، عن والده الشيخ بدر الدين محمد الغزي، عن القاضي زكريا الأنصاري، عن ابن حجر العسقلاني.
وأما الثاني؛ فيرويه عن الإمام الشيخ محمد الكزبري بالسند إلى القاضي زكريا المتقدم.
وأما الثالث؛ فيرويه عن الإمام الشيخ مصطفى الأسيوطي المفتي الحنبلي، عن الشيخ أحمد البعلي الحنبلي، عن الشيخ أبي المواهب الحنبلي، عن والده الشيخ عبد الباقي الحنبلي، عن الشيخ محمد حجازي الواعظ، عن محمد بن أركماس، عن ابن حجر العسقلاني.
وأما الرابع؛ فيرويه عن الشيخ عبد الرحمن الكزبري، عن والده الشيخ محمد، عن والده الشيخ عبد الرحمن بالسند المتقدم.
وأما الخامس [2]؛ فيرويه عن جده الشيخ حامد العطار، عن والده الشيخ أحمد العطار، عن الشيخ إسماعيل العجلوني والشهاب أحمد المنيني والشيخ محمد الغزي؛ وهم يروون عن الشيخ محمد أبي المواهب الحنبلي، عن النجم الغزي، عن البدر الغزي، عن القاضي زكريا، عن ابن حجر العسقلاني.
وسند ابن حجر معلوم من «شرحه»؛ قال: (أرويه عن إبراهيم التنوخي، عن أحمد الصالحي، عن سراج الدين الزبيدي، عن أبي الوقت، عن الشيخ عبد الرحمن الداودي، عن عبد الله بن حمويه، عن الفربري، عن البخاري).
ولي طريق آخر لشيخي الرابع؛ أرويه عن شيخي أحمد أفندي، عن شيخه السيد محمد عابدين محشي «الدر المختار»، عن شيخه الشيخ شاكر مقدم سعد، عن الشيخ محمد الكزبري بالسند إلى القاضي زكريا، عن كمال الدين بن الهمام السيواسي، عن الإمام بدر الدين العيني، وسنده مذكور في خطبته، ولولا الإطالة؛ لفصَّلنا الإسنادات، وفي هذا القدر كفاية.
==========
[1] في الأصل: (ذوي).
[2] في الأصل: (أما الرابع)، والمثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ذوي).
[1] في الأصل: (ذوي).
(1/9)
الكلام على البسملة
({بسم الله الرحمن الرحيم})
ولما كان من الواجب صناعةً على كلِّ مصنِّف ثلاثة أشياء: البسملة، والحمدلة، والصلاة، ومن الجائز أربعة أشياء: مدح الفن، وذكر الباعث، وتسمية الكتاب، وبيان كيفيَّته من التبويب وغيرها؛ فبدأ المصنَّفُ بالبسملة لذلك، ولأنَّها مفتتحة في كتاب الله تعالى، ولقوله عليه السلام: «كلُّ أمرٍ ذي بال لا يبدأُ فيه ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم فهو أقطع»، وفي رواية: «بذكر الله»، وفي رواية: «أجذم»، وفي رواية: «أبتر»، والمراد بـ «الأمر»: أمر مقصود لم يجعل له الشارع مبدأً مخصوصًا، فإن جُعِلَ؛ فهي بحسب ما جعلها الشارع، والمراد بـ «الأقطع»: مقطوع اليد، والأجذم: مقطوع الأنف، والأبتر: مقطوع الذنب، فالكتاب ليس له يد ولا أنف ولا ذنب، فإذا لم يبدأ بالبسملة؛ يكون ناقص البركة؛ وهي عدم الانتفاع به، وورد: «كلُّ أمرٍ ذي بال لا يبدأُ فيه بالحمد لله؛ فهو أجذم»، وفي رواية: «أقطع»، وفي رواية: «بحمد الله»، روى ذلك أبو داود، وابن حبان، وأبو عَوانة، والنسائي، وابن ماجه.
فـ (الحمدلة): مأمور بها كلُّ مصنِّف صناعةً وشرعًا؛ لهذه الأحاديث، فإذا لم يأت بها؛ يكون كتابه ناقص البركة، وكذا الصلاة عليه عليه السلام، أجيب في ذلك أجوبة، وكلَّها واهية لا يُعتَدُّ بها، والأحسن ما أجاب به الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه: (أنَّ المؤلف أتى بالحمدلة بعد البسملة في «مسودته»، كما ذكره في بقية مصنفاته، وسقطت من بعض المبيِّضين، واستمر على ذلك) انتهى؛ فليحفظ.
وما قيل: إن المؤلِّف تلفَّظ بذلك، وإنَّه ليس في الحديث ما يدل على أنَّه لا يكون إلَّا بالكتابة ممنوع؛ لأنَّ المقصود من البسملة والحمدلة التبرُّك باسمه تعالى، ولا يحصل ذلك إلَّا بالكتابة؛ فافهم.
ولا معارضة بين حديث البسملة والحمدلة؛ لحمل حديث البسملة على الابتداء الحقيقي، وحمل حديث الحمدلة على الابتداء العوني؛ وهو ما قُدِّم أمام المقصود كما بيَّنت ذلك في شرحي على «الأزهرية».
ثمَّ إنَّ الباء حرف جرٍّ أصليّ، ولا بدَّ له من متعلَّق ومعنى، فمعناها: المصاحبة أو الاستعانة، ومتعلَّقها: إمَّا اسم أو فعل، وكلِّ منهما إمَّا خاص أو عام، وكلٌّ منهما إما مقدَّم أو مؤخَّر، فهذه احتمالات ثمانية، فاختير منها الفعل؛ لأنَّ الأصل في العمل له، وأن يكون مؤخَّرًا؛ لإفادة الحصر، وأن يكون خاصًّا؛ لأنَّ كلَّ شارعٍ في فنِّ يضمر ما جعل التسمية مبدأً له؛ وأمَّا ظهور المتعلَّق في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]؛ فلأنَّ الأهم ثَمَّة القراءة، بخلاف البسملة؛ فإنَّ الأهم فيها الابتداء.
ولفظ الجلالة: عَلَم على واجب الوجود المستحِقِّ لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم عند المحققين؛ منهم إمامنا الأعظم وأصحابه، وسيدي عبد القادر الكيلاني، وليس بمشتق، وعربيٌّ على الصحيح عندهم.
و (الرحمن) و (الرحيم): اسمان مشتقان من الرحمة؛ وهي رقة القلب؛ وهي مستحيلة عليه تعالى، والمراد لازمها؛ وهو الإنعام، وقدَّم الرَّحمن؛ لأنَّه أبلغ من حيث إنَّه عام في الدنيا والآخرة، وأمَّا الرَّحيم؛ فمختص بالآخرة، وهل الاسم عين المسمَّى أو غيره فيه خلاف، وأما أسماؤه تعالى؛ فتوقيفية على الصحيح، وتمامه في شرحنا على «القدوري».
==================
(1/10)
((1)) كتَابُ بَدْءِ الوَحْي
(1/11)
(بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):
كذا لأبي الوقت وابن عساكر والباقي، ولأبي ذرٍّ والأصيلي إسقاط لفظ (باب)، وهو بالرفع خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب، ويجوز فيه التنوين وعدمه، ويجوز في (باب) النصب بفعل محذوف؛ أي: اقرأ، والجر بحرف مقدر؛ أي: انظر إلى باب، ويجوز فيه الوقف بالسكون، ومعنى (الباب): النوع، وأصله: (بوَب)، وجمعه: أبواب.
و (البدء)؛ بالهمز مع سكون الدال: من الابتداء؛ بمعنى: الظهور.
و (الوحي): الإعلام، وفي الشرع: إعلام الله الأنبياء الشيء إمَّا بكتاب، أو برسالة ملك، أو منام، أو إلهام، ويجيء بمعنى الأمر؛ نحو: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ} الآية [المائدة: 11]، وبمعنى التسخير؛ نحو: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، ويعبر عن ذلك بالإلهام والإشارة؛ نحو: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11]، وقد يطلق على الموحى؛ كالقرآن والسنة، من إطلاق المصدر على المفعول.
والتصلية جملة خبرية، ولما كانت دعاء؛ صارت إنشاء، ومعناها: اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد، اهـ
(وَقَوْل اللهِ عَزَّ وَجَلَّ): كذا لأبوي ذر [والوقت] والأصيلي، ولابن عساكر: وقول الله سبحانه، ولغيرهم: وقول الله جلَّ ذكره، و (قول): مجرور، عطف على محل الجملة التي أضيف إليها الباب؛ أي: باب كيف كان ابتداء الوحي ومعنى قوله تعالى، ويجوز رفعه مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: وقوله كذا.
({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}) وحي إرسال فقط ({كَمَا أَوْحَيْنَا})؛ أي: كوحينا، فالكاف للتشبيه، ({إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}) [النساء: 163]، زاد أبو ذر: الآية، وإنَّما خَصَّ نوحًا؛ لأنَّه أول مشرِّع، ورُدَّ بأنَّ أوَّلَ مشرِّعٍ آدمُ، ثم شيث، ثم إدريس، وقيل: إنَّما خصَّه؛ لأنَّه أول رسول أُوذيَ من قومه، وقيل: لأنَّه أول أولي العزم، ورُدَّ: بأن آدم من أولي العزم، أجيب بقوله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]، والأحسن في الجواب كما قاله البدر العيني: (إنما خصَّه؛ لأنَّه هو الأب الثاني، وجميع أهل الأرض من ولده الثلاثة؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} [الصافات: 77]، وهم سام وحام ويافث، فإن الناس هلكوا بالطوفان إلا أصحاب السفينة، قيل: كانوا ثمانية بالنساء، وقيل: أكثر، وكلهم ماتوا خلا نوحًا وبنيه وأزواجهم) انتهى؛ فليحفظ.
==========
%ص 4%
==================
(1/12)
[حديث: إنما الأعمال بالنيات]
1# (حدثنا الحميدي): بضم المهملة وفتح الميم؛ نسبة إلى جده الأعلى حميد، أو إلى حميدات قبيلةٌ، المتوفى سنة تسع عشرة ومئتين، وليس هو صاحب «الجمع بين الصحيحين»، ولغير أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: (حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير).
(قال: حدثنا سفيان) بن عيينة التابعي المكي المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، ولأبي ذر عن الحموي: (عن سفيان).
(قال: حدثنا يحيى بن سعيد): وهو ابن قيس (الأنصاري) المدني التابعي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومئة، ولأبي ذر: (عن يحيى).
(قال: أخبرني): بالإفراد؛ لأنَّه قرأ على الشيخ وحده (محمد بن إبراهيم) بن الحارث (التيمي)؛ نسبة إلى تيم قريش، المتوفى سنة عشرين ومئة: (أنه سمع علقمة) أبا واقد؛ بالقاف (ابن وقَّاص) بتشديد القاف (الليثي) بالمثلثة؛ نسبة إلى ليث بن بكر، قيل: صحابي، وقيل: تابعي، المتوفى بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان، (يقول: سمعت) أمير المؤمنين ثاني خلفاء سيد المرسلين (عمر بن الخطاب) بن نُفَيل؛ بضم النون، وفتح الفاء، المتوفى سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه؛ أي: سمعت كلامه حال كونه (على المنبر) النبوي المدني؛ وهو بكسر الميم من النبرة؛ وهي الارتفاع؛ أي: سمعته حال كونه (قال)، ولأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر: (يقول): (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: سمعت كلامه حال كونه (يقول)، فـ (يقول): في موضع نصب حالًا من (رسول الله عليه السلام)؛ لأنَّ (سمعت) لا يتعدَّى إلى مفعولين؛ فهي حال مبيِّنة للمحذوف المقدَّر بكلام؛ لأنَّ الذات لا تسمع، وأتى بالمضارع في رواية من ذكرها بعد سمع الماضي؛ إما بحكاية الحال وقت السماع، أو لإحضار ذلك في الذهن.
(إنَّما الأعمال) الصادرة من المكلفين كاملة ومثاب عليها، (بالنيات) بالجمع، وفي بعض الروايات بالإفراد، وتقدير الكمال أو الثواب هو المطرد؛ لأنَّ كثيرًا من الأعمال يوجد ويعتبر شرعًا بدون النية، ولأنَّ إضمار الثواب متفق عليه على إرادته، ولأنَّه يلزم بها من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس، فكان أقل إضمارًا، فهو أولى، ولأنَّ إضمار الجواز والصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو ممنوع، ولأن العامل في قوله: (بالنيات) مقدر بإجماع النحاة، فلا يجوز أن يتعلَّق بـ (الأعمال)؛ لأنَّها رفع بالابتداء، فيبقى بلا خبر، فلا يجوز، فالمقدر إما مجزئة أو صحيحة أو مثيبة، فالمثيبة أولى لوجهين:
أحدهما: أنَّ عدم النية لا يُبطل أصل العمل، وعلى إضمار الصحة والإجزاء يبطل.
الثاني: أنَّ قوله: (لكلِّ امرئ ما نوى) يدُلُّ على الثواب والأجر، وعلى كلٍّ فالحديث متروك الظاهر بالإجماع، والذوات لا تنتفي بلا خلاف، فيحتاج إلى الإضمار، وإنما يكون الإضمار على خلاف الأصل، فالمراد بـ (الأعمال) حكمها، والحكم نوعان: نوع يتعلق بالآخرة؛ وهو الثواب أو العقاب، ونوع يتعلق بالدنيا؛ وهو الصحة أو الفساد، والنوعان مختلفان المبنى؛ فالأول: على صدق العزيمة، والثاني: على وجود الأركان والشرائط، ولما اختلف الحكمان؛ صار الإثم بعد كونه مجازًا مشتركًا، ولا يكفي في تصحيحه ما هو المتفق عليه
%ص 4%
وهو الحكم الأخروي، ولا دليل على ما اختلف فيه، فبقي الثواب أو العقاب، وانتفى الصحة أو الفساد، وهذا مذهب إمامنا الأعظم وأصحابه: أبي [1] يوسف ومحمد وزفر، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، ومالك في رواية.
وكذا الغسل، وعند الأوزاعي والحسن التيمم أيضًا، وقال عطاء ومجاهد: إن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية إلَّا أن يكون مسافرًا أو مريضًا، وقال مالك في رواية عنه وتلميذ الشافعي وتلميذه أحمد ابن حنبل: إنَّ النية في الأعمال كلِّها فرض لهذا الحديث، ولا دلالة لهم فيه لما علمت، وتمامه في شرحنا على «القدوري».
واختلف في (إنَّما) هل تفيد الحصر أم لا، وهل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم، وأصلها: (إنَّ) التوكيدية، دخلت عليها (ما) الكافة؛ وهي حرف زائد، وقيل: إنَّ (ما) نافية.
و (الباء) في (بالنيات) للمصاحبة أو للاستعانة، وقيل: للسببية، ولم يذكر سيبويه في معنى الباء إلَّا الإلصاق؛ لأنَّه معنى لا يفارقها.
و (النِّيَّات) بتشديد الياء: جمع نِيَّة؛ مِن نوى ينوي من باب ضرب، وهي لغة: القصد، وشرعًا: قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل، وإنما قال: (الأعمال)، ولم يقل الأفعال؛ لأنَّ الفعل يكون زمانه يسيرًا، ولم يتكرر، بخلاف العمل؛ فإنَّه على الاستمرار، ويتكرر.
(وإنَّما لكلِّ امرِئ): بكسر الراء، والمرء مثلث الميم: الإنسان أو الرجل، كما في «القاموس».
(ما نوى)؛ أي: الذي نواه أو نيته، وكذا لكل امرأة ما نوت؛ لأنَّ النساء شقائق الرجال، وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة، وحمله على التأسيس أولى؛ لإفادته معنى لم يكن في الأولى، وما ذكره بعض الشراح فليس بشيء؛ فافهم.
(فمن كانت هِجرته): بكسر الهاء؛ أي: خروجه من أرضٍ إلى أرض، (إلى دنيا يصيبها): جملة محلها الجر؛ صفة لدنيا؛ أي يحصِّلُها، (أو إلى امرأة) ولأبي ذر: (أو امرأة)، (ينكحها) أي: يتزوجها كما في الرواية الأخرى، (فهجرته) بالكسر؛ أي: خروجه، (إلى ما هاجر إليه): من الدنيا والمرأة، والجملة: جواب الشرط في قوله: (فمن).
وسبب هذا الحديث: قصة مُهاجر أمِّ قيس، المروية في «معجم الطبراني الكبير» بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس؛ فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر؛ فهاجر فتزوجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس.
قال في «شرح الأربعين»: ولم نر له أصلًا بإسناد يصح.
قال بعض الشراح: ولم يسم الرجل؛ فتأمل.
والمهاجرة المذمومة؛ إذا كانت على هذه الصفة، أما من هاجر من دار الكفر وتزوَّج [2] المرأة؛ فإنه لا يكون مذمومًا.
و (الدُّنيا) بضم الدال: مقصورة غير منونة للتأنيث والعلمية، وقد تكسر وتنون، قال في «القاموس»: (الدنيا ضد الآخرة، وقد تنون، وجمعها: دنى) اهـ، وإنما سميت بذلك لدنوِّها؛ أي: قربها من الزوال.
وفيه الرواية بالتحديث، والإخبار، والسماع، والعنعنة.
وأخرجه المؤلف في (الإيمان)، و (العتق)، و (الهجرة)، و (النكاح)، وستأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى، واحتج بهذا الحديث الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد: في أنَّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج؛ أنَّه لا ينعقد عمرة؛ لأنَّه لم ينوها، وخالفهم [3] الشافعي، واحتج به أيضًا الإمام الأعظم، ومالك، والثوري: أنَّ الرجل يصح حجه عن غيره ولا يصح عن نفسه، خلافًا للشافعي، وأحمد، والأوزاعي.
==========
[1] في الأصل: (أبو).
[2] في الأصل: (وتزويج).
[3] في الأصل: (خالهم).
==================
[1] في الأصل: (أبو).
[2] في الأصل: (وتزويج).
[1] في الأصل: (أبو).
[2] في الأصل: (وتزويج).
(1/13)
[حديث: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي]
2# وبالسند إلى المؤلف، قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي، المتوفى سنة ثماني [1] عشرة ومئتين، وفي (يوسف): تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه، (قال: أخبرنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، صاحب «الموطأ»، المتوفى سنة تسع وسبعين ومئة، وهو أحد مشايخ محمد ابن إدريس الشافعي.
(عن هشام بن عروة) بن الزبير بن العوام القرشي، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة ببغداد، (عن أبيه)؛ أبي عبد الله عروة، المتوفى سنة أربع وتسعين، (عن عائشة) بالهمز، وعوام المحدثين يبدلونها ياء (أم المؤمنين رضي الله عنها): قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]؛ أي: في الاحترام، والإكرام، وتحريم نكاحهن، والخلوة بهن، والمسافرة معهن، وتحريم نكاح بناتهن، والنظر إليهن، وهل يقال للنبي: أبو المؤمنين؟ فيه خلاف، فالمانع استدل بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40].
وأجاب المجيز بأن معناه: من رجالكم لصلبه. انتهى.
وهل عائشة أفضل من فاطمة؟ فيه خلاف، والأصح: أن عائشة أفضل، وجمع بأن فاطمة أفضل في الدنيا وعائشة أفضل في الآخرة، {وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} [البقرة: 105]، واختلف في وفاتها بعد الخمسين: إما سنة خمس، أو ست، أو سبع في رمضان، وعاشت خمسًا [2] وستين سنة، وتوفي عنها رسول الله وهي بنت ثماني عشرة، وأقامت عنده تسعًا [3]، وقيل: ثماني سنين، ولها في «البخاري» مئتان واثنان وأربعون حديثًا.
(أن الحرث بن هشام) بغير ألف بعد الحاء [4]: المخزومي؛ أسلم يوم الفتح، واستشهد بالشام سنة خمس عشرة، (رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القسطلاني: يحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك فيكون من مسندها، وأن يكون الحرث أخبرها بذلك فيكون من مرسل الصحابة؛ وهو محكومٌ بوصله عند الجمهور. انتهى، قلت: والظاهر الأول؛ فليحفظ.
(فقال: يا رسول الله؛ كيف يأتيك الوحي؟)؛ أي: صفة الوحي نفسه، أو صفة حامله، أو أعم، فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): ولأبوي ذر والوقت: (قال رسول الله عليه السلام): (أحيانًا)؛ أي: أوقاتًا؛ بالنصب على الظرفية، وعامله: (يأتيني) مؤخر عنه؛ أي: يأتيني الوحي إتيانًا (مثل) بالنصب: حال؛ أي: يأتيني مشابهًا صوتُه (صَلْصَلة الجرس)؛ بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة. و (الجرس)؛ بالجيم والمهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، والصلصلة: صوت حفيف أجنحة الملك؛ لما في الرواية الأخرى: (كأنه سلسلة على صفوان)، وإنما يقدمه حتى يفرغ من العمل، فيأتيه وهو خال عن الشغل (وهو أشده علي) الواو للحال، (فيَفْصِم عني) الوحي والملك، بفتح المثناة التحتية، وسكون الفاء، وكسر المهملة، كذا لأبي الوقت، من باب ضرب، والمراد: أنه ينجلي ما يغشاه من الشدة.
(وقد وعَيت) بفتح العين؛ أي: فهمت (عنه) عن الملك (ما قال)؛ أي: القول الذي قاله.
واعلم أن الصوت له جهتان؛ جهة قوة، وجهة طنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطنين وقع التنفير عنه.
وفي «الطبراني» مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي؛ أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع أهل السماء؛ صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة، كلما مرَّ بسماء؛ سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.
(وأحيانًا)؛ أي: أوقاتًا (يتمثَّل)؛ أي: يتصوَّر (لي) لأجلي (الملك) جبريل (رجلًا) كدحية أو غيره، منصوب بنزع الخافض على الصواب، وقيل: على المصدرية، وقيل: على التمييز، وقيل: على المفعولية، والملائكةُ: أجسامٌ علوية لطيفة تتشكل بأي شكل شاء.
وقالت الفلاسفة: هي جواهر قائمة بنفسها، والحق: أنَّ تمثل الملك رجلًا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلًا؛ بل معناه: أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه، والظاهر: أن القدر الزائد لا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط، انتهى.
ولأبي الوقت: (يتمثل لي الملك على مثال رجل).
(فيكلمني فأعي)؛ أي: أفهم (ما يقول)؛ أي: الذي يقوله، فالعائد محذوف، و (الفاء) في الكلمتين: للعطف المشير للتعقيب، ووقع التغاير بين قوله: (وعيت فأعي)؛ لأنَّ الوعي في الأول: حصل قبل الفصم ولا يتصور بعده، وفي الثاني: في حالة المكالمة ولا يتصور قبلها، ومن الوحي: الرؤيا الصادقة، قيل: إنَّ جبريل نزل على نبينا عليه السلام أربعة وعشرين ألف مرة، وعلى آدم: اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس: أربعًا، وعلى نوح: خمسين، وعلى إبراهيم: اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربع مئة مرة، وعلى عيسى: عشرًا، كذا في القسطلاني عن «تفسير ابن عادل».
وبالإسناد السابق: (قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته) صلى الله عليه وسلم، والواو للقسم، واللام للتأكيد؛ أي: والله لقد أبصرته، (يَنزِل): بفتح أوله وكسر ثالثه، ولأبي ذر والأصيلي: (يُنزَل) بالضم والفتح، (عليه) عليه السلام، (الوحي في اليوم الشديد البرد فيَفصِم) بفتح المثناة التحتية وكسر الصاد، ولأبوي ذر والوقت: (فيُفصِم)؛ بضمها وكسر الصاد، من أفصم الرباعي؛ وهي لغة قليلة؛ أي: ينجلي (عنه) عليه السلام.
(وإن جبينه): قيل: الجبين غير الجبهة؛ وهو ما فوق الصدغ، والصدغ: ما بين العين والأذن، والظاهر: أن الجبين هو أعلى الجبهة من جهة الرأس، (ليتفصد) بالفاء والصاد المهملة المشددة؛ أي: ليسيل (عرَقًا) بفتح الراء: رشح الجلد من كثرة التعب عند نزول الوحي؛ لأنَّه أمر طارئ زائد على الطباع البشرية.
ورواته مدنيون إلَّا شيخ المؤلف، وفيه تابعيان، والتحديث، والإخبار، والعنعنة، وأخرجه المؤلف في (بدء الخلق)، ومسلم في (الفضائل).
==========
[1] في الأصل: (ثمان).
[2] في الأصل: (خمس).
[3] في الأصل: (تسع).
[4] كذا قال، وهكذا ترسم ولكن المحدِّثين يلفظونها: «الحارث».
%ص 5%
==================
[1] في الأصل: (ثمان).
[2] في الأصل: (خمس).
[3] في الأصل: (تسع).
[1] في الأصل: (ثمان).
[2] في الأصل: (خمس).
[3] في الأصل: (تسع).
(1/14)
[حديث: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة]
3# 4# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا)، ولأبي ذر بواو العطف (يحيى) أبو زكريا بن عبد الله (ابن بُكير) بضم الموحدة؛ تصغير (بكر) المخزومي المصري، المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومئتين، ونسبه المؤلف لجده لشهرته به.
(قال: حدثنا الليث) بالمثلثة؛ ابن سعد الفهمي عالم أهل مصر، من تابع التابعين، المتوفى سنة خمس وسبعين ومئة، وكان من أتباع الإمام الأعظم على التحقيق، وما قيل: إنه مجتهد؛ تعصُّب، قال الشافعي: الليث أفقه من مالك. انتهى، إلَّا أنه كان حنفي المذهب؛ فليحفظ.
(عن عُقَيل) بضم العين المهملة وفتح القاف مصغر، ابن خالد ابن عَقيل؛ بفتح العين، الأَيْلي؛ بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، الأموي، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة، (عن ابن شهاب) أبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، تابعي صغير، ونسبه المؤلف لجده الأعلى لشهرته، المتوفى بالشام سنة ست وتسعين ومئة، (عن عروة بن الزُبير) بضم الزاي؛ مصغر ابن العوام، (عن عائشة أم المؤمنين) رضي الله عنها وعن أبيها: (أنها قالت: أول ما بُدِئ به) بضم الموحدة وكسر الدال (رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي) أي: من أقسام الوحي، من ربه إليه: (الرؤيا الصالحة في النوم)، قيل: الحديث من المراسيل، والظاهر أنها سمعت ذلك من النبي عليه السلام، وإنما كانت الرؤيا من الوحي؛ لأنَّه لا مدخل للشيطان فيها، وفي رواية: (الصادقة) بدل (الصالحة)؛ وهي التي ليس فيها ضغث، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر، واحترز بقوله: (من الوحي) عما رآه من دلائل النبوة من غير وحي؛ كتسليم الحجر عليه كما في «مسلم»، وأوله ما سمعه من بحيرا الراهب
%ص 5%
كما في «الترمذي».
(فكان) بالفاء للأصيلي، ولأبوي ذر والوقت: بالواو؛ أي: النبي عليه السلام، (لا يرى رؤيا) بدون تنوين، وروي به، (إلا جاءت) وقعت (مثل)؛ بالنصب بمصدر محذوف؛ أي: إلا جاءت مجيئًا مثل (فلق الصبح)؛ كرؤياه دخول المسجد الحرام، والمعنى: أنها شبيهة له في الضياء والوضوح، وعبر بـ (فلق الصبح)؛ لأنَّ مبادئ النبوة الرؤيا، والفلق: الصبح، وهل أوحي إليه شيء من القرآن في النوم أم لا؟ والأشبه أن القرآن كله نزل يقظة، وإنما ابتدئ عليه السلام بالرؤيا؛ لئلا يفاجئه الملك.
(ثم حبب إليه الخلاء) بالمد؛ مصدر بمعنى الخلوة؛ أي: الاختلاء؛ بالرفع، نائب فاعل، وفيه تنبيه على فضل العزلة؛ لأنَّها تريح القلب من الاشتغال بالدنيا والتفرغ لعبادة الله تعالى، (وكان) عليه السلام (يخلو بغار حِراء)؛ بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، والأصيلي: فتحها والقصر، وهو مصروفِ إنْ أريد المكان، وممنوع منه إن أريد البقعة، فهي أربعة: التذكير، والتأنيث، والمد، والقصر، وحراء: جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، والغار نقب فيه؛ وهو الكهف.
(فيتحنث فيه)؛ بالحاء المهملة وآخره مثلثة؛ أي: يتبع دين إبراهيم؛ (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) مع أيامهن، واقتصر عليهن تغليبًا، و (الليالي): نصب على الظرفية، وأقل الخلوة: ثلاثة أيام، ثم سبعة، ثم شهر؛ لما عند المؤلف: جاورت بحراء شهرًا، وعند أبي إسحاق: أنه شهر رمضان، وما قيل: إنه أكثر فلم يصح، والخلوة: أمر مرتب على الوحي، وإنما خص حراء بالتعبد؛ لأنَّه له فضلٌ؛ من حيث إنه ينظر منه الكعبة، والنظر إليها عبادة، ولم يأت التصريح بصفة تعبده، وقيل: بالتفكر، والله أعلم.
(قبل أن يَنزِع)؛ بفتح أوله وكسر الزاي؛ أي: يشتاق ويرجع (إلى أهله) عياله (ويتزود لذلك)؛ برفع الدال؛ أي: يتخذ الزاد للخلوة، (ثم يرجع إلى خديجة) رضي الله عنها (فيتزود لمثلها)؛ أي: لمثل الليالي، وخص خديجة؛ لأنَّه كان يتزود من عندها دون غيرها، وفيه: أن الانقطاع عن الأهل ليس من السنة؛ أي: بالكلية.
(حتى جاءه) الأمر (الحق) الوحي (وهو في غار حراء، فجاءه الملك) جبريل يوم الاثنين لسبع عشرة من رمضان، وهو ابن أربعين سنة؛ كما رواه ابن سعد، (فقال) له: (اقرأ) ما أتلوه عليك، (قال) عليه السلام، ولأبوي ذر والوقت: (قلت): (ما أنا بقارئ)، وفي رواية: (ما أحسن أن أقرأ)، و (ما): استفهامية على التحقيق؛ فإنَّ الأخفش جوَّز دخول الباء في خبرها، والدليل على أنَّها استفهامية الرواية الأخرى عن أبي الأسود في (المغازي): (قال: كيف اقرأ؟)، وقيل: إنَّ (ما) نافية، واسمها (أنا)، وخبرها (بقارئ).
(قال) عليه السلام: (فأخذني) جبريل (فغطني)؛ بالغين المعجمة ثم المهملة؛ أي: ضمَّني وعصرني، وفي رواية: (فغتني)؛ بالمثناة الفوقانية؛ أي: حبسني، (حتى بلغ مني الجَهدَ)؛ بفتح الجيم ونصب الدال؛ أي: غاية الوسع، مفعولٌ حُذف فاعله، وروي: بضم الدال والرفع؛ أي: بلغ مني الجهد مبلغه، فهو فاعل (بلغ)، وهي الأوجه، (ثم أرسلني)؛ أي: أطلقني.
(فقال: اقرأ، قلت) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: (فقلت): (ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية)؛ أي: مرة ثانية، (حتى بلغ مني الجهد)؛ بالفتح والنصب، والضم والرفع؛ كما مر، (ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة)؛ أي: المرة الثالثة، وهذا من خصائصه عليه السلام، واستدل به: على أن المؤدب لا يضرب صبيًا أكثر من ثلاث ضربات.
(ثم أرسلني فقال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ})؛ أي: بكلام ربك الذي أتلوه عليك، ({الَّذِي خَلَقَ}) [العلق: 1]؛ أي: الذي له الخلق، أو الذي خلق كل شيء، ولا دلالة فيه للشافعي على وجوب قراءة التسمية في ابتداء كل قراءة؛ لأنَّ المراد المقروء؛ وهو كلام الله تعالى، وعن علي: (أن أول ما نزل من القرآن: ({قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151])، والجمهور: أن أول ما نزل منه هذه الآيات؛ فليحفظ.
({خَلَقَ الإِنسَانَ}): خصه بالذكر؛ لشرفه، ({مِنْ عَلَقٍ}) [العلق: 2]؛ بتحريك اللام: الدم الغليظ، والقطعة منه علقة، ({اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}) [العلق: 3]؛ الزائد في الكرم على كل كريم، (فرجع بها)؛ أي: بالآيات (رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى أهله، والظاهر أن (رجع) مخفف؛ أي: أنَّه بمجرد سماعها وقراءتها حفظها، ويحتمل أنه مشدد؛ أي: صار يكررها حتى حفظها، فسار إلى أهله حال كونه (يرجُف)؛ بضم الجيم: يخفق ويضطرب، (فؤادُه): قلبه وحواسه؛ لما ظهر له من الأمر الخارق للعادة، (فدخل) عليه السلام (على خديجة بنت خويلد)؛ أم المؤمنين رضي الله عنها، فأعلمها بما وقع له، (فقال) عليه السلام: (زمِّلوني زمِّلوني)؛ بكسر الميم مع التكرار مرتين: من التزميل؛ وهو التلفف، (فزمَّلوه)؛ بفتح الميم، (حتى ذهب عنه الرَّوع)؛ بفتح الراء؛ أي: الخوف.
(فقال) عليه السلام (لخديجة) رضي الله عنها (وأخبرها الخبر)؛ جملة حالية: (لقد)؛ أي: والله لقد (خشيت على نفسي) الموت من شدة الخوف أو المرض، (فقالت له) عليه السلام (خديجة) رضي الله عنها، ولأبي ذر: (قالت)؛ بإسقاط الفاء: (كلا) نفي وإبعاد؛ أي: لا تقل ذلك، (والله ما يُخْزِيْك الله أبدًا)؛ بضم المثناة التحتية، وبالخاء المعجمة الساكنة، والزاي المكسورة، وبالمثناة التحتية الساكنة: من الخزي؛ أي: ما يفضحك الله، ولأبي ذر عن الكشميهني: (ما يَحزنك الله)؛ بفتح أوله وبالحاء المهملة وبالنون: من الحزن؛ ضد الفرح.
(إِنك)؛ بكسر الهمزة؛ أي: المتصف بمكارم الأخلاق، (لتصل الرحم)؛ أي: القرابة، (وتحمل الكَلِّ)؛ بفتح الكاف وتشديد اللام: الثِّقْل؛ بكسر المثلثة وإسكان القاف؛ أي: تدفعه عن الضعيف والمنقطع، (وتَكسب المعدوم)؛ بفتح المثناة الفوقية؛ أي: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، و (كسب): يتعدى لواحد واثنين، ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني: (وتكسب)؛ بضم أوله من (أكسب)؛ أي: تكسب غيرك المال المعدوم، و (المعدوم): الرجل الفقير، وإنَّما سماه معدومًا؛ لكونه كالميت؛ من حيث العجز، والعديم: الذي لا عقل له.
(وتَقري الضيف) بفتح أوله بلا همز؛ ثلاثيًا، وسمع بضمها؛ رباعيًا؛ أي: تهيئ له طعامًا، (وتعين على نوائب الحق)؛ أي: حوادثه، وإنما قالت: نوائب الحق؛ لأنَّها تكون في الحق والباطل، وفيه إشارة إلى فضل خديجة وحسن رأيها.
(فانطلقت)؛ أي: مضت (به خديجة) رضي الله عنها؛ مصاحبة له، (حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة)؛ بنصب (ابن) الأخير بدلًا من (ورقة) أو صفة، ولا يجوز جره؛ لأنَّه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، وتكتب بالألف ولا تحذف؛ لعدم وقوعه بين علمين، وراء (ورَقة) مفتوحة، وتجتمع معه خديجة في أسد؛ لأنَّها بنت خويلد بن أسد.
(وكان) ورقة امرأ (قد) ترك عبادة الأوثان، و (تنصر)، وللأربعة: (وكان امرأ تنصر) (في الجاهلية)؛ بإسقاط (قد)، فإنَّه خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأَعجب ورقة النصرانية للُقيه من لم يبدل شريعة عيسى عليه السلام، (وكان) ورقة (يكتب الكتاب العبراني)؛ أي: الكتابة العبرانية، وفي رواية: (الكتاب العربي).
(فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب)؛ أي الذي شاء الله كتابته، و (العبراني)؛ بكسر العين: نسبة إلى (العِبْر)؛ بكسر العين وإسكان الموحدة، وزيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس، قيل: سميت بذلك؛ لأنَّ إبراهيم تكلم بها لما عبر الفرات فارًا من نمرود، وقيل: إن التوراة عبرانية، والإنجيل سريانية، وقيل: ما نزل من السماء وحي إلَّا عربي، وكانت الأنبياء تترجمه لقومها.
(وكان) ورقة (شيخًا كبيرًا) حال كونه (قد عمي، فقالت له خديجة) رضي الله عنها؛ (يا بن العم؛ اسمع)؛ بهمزة وصل (من ابن أخيك)؛ تعني: النبي عليه السلام؛ لأنَّ الأب الثالث لورقة؛ هو الأخ للأب الرابع لمحمد عليه السلام.
(فقال له) عليه السلام: (ورقة يا بن أخي: ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما)، وللأصيلي وأبي ذر: (بخبر ما) (رأى فقال له ورقة: هذا الناموس)؛ بالنون والسين المهملة: وهو صاحب السر الوحي، والمراد به جبريل (الذي نزل الله على موسى)، زاد الأصيلي: (صلى الله عليه وسلم)، و (نزل)؛ بحذف الهمزة.
وإنَّما خصَّ موسى مع كون ورقة نصرانيًّا؛ لأنَّ توراة موسى مشتمل على الأحكام، بخلاف الإنجيل؛ لأنَّه مشتمل على المواعظ، ولأنَّ نزول جبريل على موسى متفق عليه عند أهل الكتابين، بخلاف عيسى؛ فإنَّ اليهود ينكرون نبوته.
وفي رواية عيسى: (يا ليتني فيها)؛ أي: في مدة النبوة أو الدعوى، (جَذَعًا)؛ بفتح الجيم والمعجمة وبالنصب: خبر كان مقدرة، أو على الحال من ضمير خبر ليت المقدر، وللأصيلي وأبي ذر: (جذع)؛ بالرفع: خبر ليت، والجذع: هو الصغير من البهائم، ثم استعير للإنسان؛ أي: شابًّا قويًّا، (ليتني)، وللأصيلي: (يا ليتني)، (أكون حيًّا) عند ظهور نبوتك.
(إذ يخرجك قومك) من مكة، وفي رواية: (حين يخرجك قومك)، وإنما تمنَّى ورقة عود الشباب مع أنه مستحيل؛ لأنَّ التمني في الخير جائز ولو كان مستحيلًا، أو أنَّ التمني ليس مقصودًا على بابه.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوَ)؛ بفتح الواو (مخرجيَّ هم)؛ بتشديد الياء مفتوحة؛ لأنَّ أصله: مخرجوني، جمع: مخرج، من الإخراج، فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت ياء المتكلم وواو علامة الرفع، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت، ثم أبدلت الضمة كسرة وفتحت ياء (مخرجي)؛ تخفيفًا، و (هم): مبتدأ، خبره: (مخرجي) مقدمًا، ولا يجوز العكس؛ لأنَّه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة؛ لأنَّ الإضافة غير محضة بل لفظية.
(قال) ورقة: (نعم؛ لم يأت رجل قَطُّ)؛ بفتح القاف وتشديد المهملة مضمومة، وقد تكسر وقد تخفف، (بمثل ما جئت به): من الوحي (إلا عودي)؛ لأنَّ الإخراج عن المألوف موجب لذلك، (وإن يدركْني)؛ بالجزم بأن الشرطية (يومُك)؛ بالرفع: فاعل (يدركني)؛ أي: يوم ظهور نبوتك؛ (أنصرْك)؛ بالجزم: جواب الشرط، (نصرًا): بالنصب على المصدرية (مُؤزَّرًا)؛ بضم الميم، وفتح الزاي المشددة، آخره راء مهملة مهموزًا؛ أي: قويًّا بليغًا؛ وهو صفة لـ (نصر)، وفيه إشارة: إلى أنه أقر بنبوته، ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام؛ فيكون مثل بحيرا، وفي «المغازي»: أنه قال: أشهد أنك نبي مرسل.
وفي آخره: قال عليه السلام: «لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنَّه آمن بي وصدقني»، وأخرجه البيهقي، ففيه إشارة إلى ثبوت صحبته، وقد ذكره ابن منده في «الصحابة»؛ فتأمل.
(ثم لم يَنشب)؛ بفتح المثناة التحتية والمعجمة: أي: لم يلبث، (ورقةُ)؛ بالرفع: فاعل ينشب، (أن توفي)؛ بفتح الهمزة وتخفيف النون: وهو بدل اشتمال من (ورقة)؛ أي: لم تتأخر وفاته عن هذه القصة، واختلف في وقت موته؛ قيل: بمكة، وقيل: قتل ببلاد لخم.
(وفتر الوحي)؛ أي: احتبس ثلاث سنين أو سنتين ونصف، وفي رواية: (حتى حزن عليه السلام حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال).
(قال ابن شهاب) الزهري: (وأخبرني) بالإفراد (أبو سَلَمة)؛ بفتحتين: عبد الله (بن عبد الرحمن) بن عوف المتوفى بالمدينة سنة أربع وتسعين، وأتى بالواو العاطفة؛ لبيان أنه مسند في (الأدب) و (التفسير) مع الإخبار عن عروة، وحينئذٍ؛ فهو من التعاليق حقيقة ومعنًى، كما ذكره الإمام الكرماني، وما قاله في «الفتح»، وتبعه القسطلاني؛ فقد ردَّه الإمام بدر الدين العيني بما يطول؛ فليحفظ: (أن جابر بن عبد الله) بن عمرو (الأنصاري)
%ص 6%
الخزرجي، المتوفى بالمدينة سنة ثمان، أو أربع، أو تسع وسبعين؛ وهو آخرهم موتًا بالمدينة، (قال وهو يحدث عن فترة الوحي)؛ أي: عن حال احتباس الوحي عن النزول: (فقال) النبي عليه السلام (في حديثه: بينا) أصله: (بين)، فأشبعت فتحة النون فصارت ألفًا؛ وهي ظرف زمان مقطوع عن الإضافة بالألف، (أنا أمشي)، وجواب (بينا) قوله: (إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري؛ فإذا الملك) جبريل (الذي جاءني بحراء جالس)؛ خبر المبتدأ، وهو الملك، ويجوز نصب (جالس) على الحال، ويكون خبر المبتدأ محذوفًا (على كرسي)؛ بضم الكاف وقد تكسر: ما يُجلس عليه من الأعواد، (بين السماء والأرض) ظرف محله الجر صفة لـ (كرسي).
(فرُعِبت)؛ بضم الراء وكسر العين المهملة: مبني للمفعول، وللأصيلي: (فرَعُبت)؛ بفتح الراء وضم العين؛ أي: فزعت (منه)؛ أي: من الملك جبريل، (فرجعت) إلى أهلي (فقلت) لهم: (زملوني زملوني) بالتكرار مرتين، ولكريمة: مرة واحدة، وفي رواية: (دثروني)، (فأنزل الله تعالى) ولأبوي ذر والوقت: (عز وجل): ({يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ}) [المدثر: 1]؛ أي: المتدثر وهو لابسُ الدثار؛ وهو الثوب الذي يلبس فوق القميص، قيل: إن التدثير والتزميل؛ بمعنى واحد، والظاهر أن بينهما فرقًا خفيفًا؛ فالتزمل: التلفف بالثوب، والتدثر: بسط الثوب عليه، فالفرق بين اللف والبسط؛ فليحفظ.
({قُمْ فَأَنذِرْ}) [المدثر: 2] حذِّر من العذاب لمن لا يؤمن، ولا شك أنَّ الإنذار يكون عقب نزول الوحي؛ فليحفظ، (إلى قوله: {وَالرُّجْزَ})؛ أي: الأوثان، ({فَاهْجُرْ}) [المدثر: 5]، وللأربعة: (الآية).
(فحَمِي)؛ بفتح الحاء المهملة وكسر الميم: أي: فكثر، (الوحي)؛ أي: نزوله، (وتتابع)، ولأبي ذر: (وتواتر)؛ وهما بمعنى واحد، قاله القسطلاني، قلت: ليس كما قال؛ فإن (التتابع): ظهور الشيء وبعده الآخر وهكذا، و (التواتر): ظهور الأشياء بعضها عقب بعض؛ بمهملة بفتح الميم؛ فليحفظ، وإنما لم يقتصر على قوله: فحمي؛ لأنَّه لا يفيد التواتر والتتابع.
(تابعه)؛ أي: تابع يحيى بن بكير في رواية الحديث عن الليث (عبد الله بن يوسف) التنيسي، (و) تابعه (أبو صالح) عبد الله كاتب الليث، أو عبد الغفار بن داود البكري الحرَّاني، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين، وكلاهما عن الليث، وروى عنهما المؤلف، قال القسطلاني: ووهم ابن حجر العسقلاني في «فتحه الباري»؛ حيث جعل القائل عبد الغفار، انتهى.
قلت: ....
(وتابعه)؛ أي: تابع عقيل بن خالد في هذا الحديث (هلال بن رداد)؛ بدالين مهملتين، الأولى مشددة الطائي، وليس له في الكتاب إلا هذا الموضع، (عن الزهري) محمد بن مسلم، (وقال يونس) بن يزيد الأَيْلي؛ بفتح الهمزة وسكون التحتية: التابعي، المتوفى سنة تسع وخمسين ومئة، (ومَعْمَر)؛ بفتح الميمين وسكون العين: أبو عروة بن أبي عمرو بن راشد الأزدي الحراني؛ مولاهم، المتوفى سنة أربع وخمسين ومئتين: (بَوادره)؛ بفتح الموحدة: جمع بادرة؛ وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فوافقا عقيلًا، إلَّا أنهما قالا بدل (يرجف فؤاده): (ترجف بوادره)؛ وهما بمعنى واحد في المعنى؛ من حيث أنَّهما دالان على الفزع، ولأبي ذر وكريمة: (تواتر)، وهذا أول موضع ذكر المتابعة؛ وهي المشاركة في الرواية، فإن اتفقت رجال السند؛ تسمى: متابعة حقيقية تامة، وإن اختلفت الرجال؛ سميت: ناقصة، وقد تسمى: شاهدًا.
==========
[1] في الأصل: (فضلًا).
[2] في حاشية الأصل: (هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أم المؤمنين، تزوجها عليه السلام وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي أم أولاده خلا إبراهيم فمن مارية، ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها، حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح.
قال آدم: مما فضل الله به ابني عليَّ أنْ زوجه خديجة كانت عونًا له على تبليغ أمر الله، وإن زوجتي كانت عونًا لي على المعصية، كذا قال الإمام بدر الدين العيني).
==================
[1] في الأصل: (فضلًا).
(1/15)
[حديث: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة]
5# وبه قال: (حدثنا) ولأبي الوقت: (أخبرنا) (موسى) أبو سلمة (بن إسماعيل) المِنْقَري؛ بكسر الميم، وإسكان النون، وفتح القاف، المتوفى في سنة ثلاث وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة والنون: الوضاح بن عبد الله اليشكُري؛ بضم الكاف، المتوفى سنة ست وتسعين ومئة، (قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة)؛ أبو الحسن الكوفي الهمداني؛ بالميم الساكنة والدال المهملة، وأبو عائشة قيل: لا يُعرف اسمه؛ فتأمل.
(قال: حدثنا سعيد بن جُبير)؛ بضم الجيم، وفتح الموحدة، وسكون المثناة التحتية: ابن هشام الكوفي الأسدي، من التابعين الكاملين، قتله الحجاج بن يوسف صبرًا في شعبان سنة ست وتسعين، ولم يَقتل بعده أحدًا، بل لم يعش بعده إلَّا أيامًا قليلة؛ بسبب دعائه عليه، ورؤي في المنام الحجاج فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني الله بكل قتيل قتلة، إلَّا سعيد بن جبير؛ فإنِّي قتلت فيه مئة قتلة، رحمه الله تعالى.
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما؛ عبدِ الله حبرِ هذه الأمة، وترجمانِ القرآن، أبي الخلفاء، وأحدِ العبادلة الأربعة، المتوفى بالطائف، سنة ثمان وستين، عن إحدى وسبعين سنة، في أيام ابن الزبير، (في قوله تعالى) وللأصيلي: (عز وجل): ({لاَ تُحَرِّكْ بِهِ})؛ أي: القرآن ({لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}) [القيامة: 16] (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل) القرآني (شدة)؛ مفعول (يعالج)، والجملة خبر (كان)، (وكان) عليه السلام (مما)؛ أي: ربما (يحرك)، زاد في رواية به: (شفتيه) بالتثنية، وكان يكثر من ذلك حتى لا ينسى، أو لحلاوة الوحي في لسانه، قال ابن جبير: (فقال ابن عباس) رضي الله عنهما: (فأنا أحركهما)؛ أي: شفتي (لك)، وفي رواية: (لكم)، (كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما)، وإنما لم يقل: (كما رأيت) الآتي؛ لأنَّ ابن عباس لم يدرك ذلك، (وقال سعيد)؛ هو ابن جبير: (أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه)، وإنما قال ابن جبير: (كما رأيت ابن عباس)؛ لأنَّه رأى ذلك منه، بخلاف ابن عباس؛ فإنَّه لم يره؛ لأنَّ نزول آية القيامة سابق على مولده؛ لأنَّه قبل الهجرة بثلاث سنين، ونزول الآية في بدء الوحي، ويحتمل أنه أخبر ممن رآه، أو أنه عليه السلام أخبره بذلك.
وورد عند الطيالسي: أنَّ ابن عباس رأى النبيَّ يحركهما، وهذا الحديث يسمى: المسلسل بتحريك الشفة، لكنه لم يتصل تسلسله.
(فأنزل الله تعالى)، ولأبوي ذر والوقت: (عز وجل): ({لاَ تُحَرِّكْ}) يا محمد ({بِهِ})؛ أي: بالقرآن ({لِسَانَكَ}) قبل أن يتم وحيه ({لِتَعْجَلَ بِهِ}) [القيامة: 16]؛ أي: لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، وفي رواية: (عجل به) من حبه إياه، ({إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}) في صدرك ({وقُرْآنَهُ}) [القيامة: 17]؛ أي: قراءته، فهو مصدر مضاف للمفعول، والفاعل محذوف، والأصل: وقراءتك إياه.
وما ذكره ابن حجر مأخوذ من «شرح الإمام الكرماني»؛ رده الإمام بدر الدين العيني، ويأتي في (التفسير): أنه كان يحرك به لسانه وشفتيه، فجمع بينهما، وبه اندفع ذلك، (قال) ابن عباس: (جمَعَه)؛ بفتح الميم والعين (لك صدرُك) بالرفع على الفاعلية، وللأربعة: (جمعه الله في صدرك)، وهذا تفسير قوله: (جمْعه)؛ بسكون الميم، ولأبوي ذر والوقت: (جمْعُه لك صدرُك)؛ بسكون الميم وضم العين مصدرًا، ورفع راء (صدرُك) فاعل به، (و) قال ابن عباس في تفسير {قُرْآنَهُ}؛ أي: (تقرأَه)؛ بفتح الهمزة، وقال القاضي: إثبات قراءته في لسانك؛ وهو تعليل للنهي.
({فَإِذَا قَرَأْنَاهُ}) بلسان جبريل عليك ({فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}) [القيامة: 18] وتفسيره، كما (قال) ابن عباس: (فاستمع له)؛ أي: لا تكون قراءتك مع قراءته، بل تابعة لها، (وأَنصت)؛ بهمزة القطع مفتوحة: من أنصت، وقد تكسر؛ من نصت إذا سكت؛ أي: تكون حال قراءتك ساكتًا.
({ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}) [القيامة: 19] فسره ابن عباس بقوله: (ثم إن علينا أن تقرأه)، وفسره غيره: ببيان ما أشكل عليك من معانيه؛ وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب؛ كما في «البيضاوي»، وإنما قال عن وقت الخطاب؛ لأنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى العمل؛ لأنَّه تكليف بما لا يطاق؛ كما في «شيخ زاده».
(فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل)؛ ملك الوحي المفضل به على سائر الملائكة: (استمع، فإذا انطلق جبريل) عليه السلام، (قرأه النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قرأ)، ولأبي ذر: (كما كان قرأ)، وفي رواية: (كما قرأه) بضمير المفعول؛ أي: القرآن، ولما كان النزول في رمضان جملة واحدة؛ شرع بذكر حديث تعاهد جبريل له في رمضان، في كل سنة فقال:
==================
(1/16)
[حديث: كان رسول الله أجود الناس]
6# (حدثنا عبدان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحدة، وفتح المهملة: لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومئتين، عن ست وسبعين سنة، (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك بن واضح الحنظلي، التميمي، مولاهم المروزي، تابع التابعين؛ وهو من أتباع الإمام الأعظم، توفي سنة إحدى وثمانين ومئة، (قال أخبرنا يونس) بن يزيد بن مشكان الأيلي، المتوفى سنة تسع وخمسين ومئة؛ كما مر، (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب.
(قال) أي: المؤلف، وفي «الفرع»: (ح) مهملة مفردة في الخط، مقصورة في النطق؛ لأجل الجمع بين الإسنادين:
(وحدثنا بِشْر بن محمد)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة: المروزي السختياني، المتوفى سنة أربعٍ وعشرين ومئتين، (قال: أخبرنا عبد الله)؛ هو ابن المبارك الحنفي، (قال: أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه)، ولأبوي ذر والوقت: (نحوه عن الزهري) يعني: أنَّ ابن المبارك حدث به عبدان عن يونس وحده، وحدث به بشر عن يونس ومعمر معًا.
(قال) أي: الزهري (أخبرني) بالإفراد، ولأبي ذر: أخبرنا (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بن عتبة؛ بضم العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، وفتح الموحدة: ابن مسعود، أحد الفقهاء السبعة، التابعي، المتوفى سنة تسع وتسعين، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس)، بنصب (أجود) خبر (كان)؛ أي: أجودهم على الإطلاق، (وكان أجود ما يكون) حال كونه (في رمضان) برفع أجود؛ اسم (كان) وخبرها محذوف وجوبًا.
وللأصيلي وأبي ذر: (أجود) بالنصب خبر (كان)، ولأبي ذر: (فكان أجود) بالفاء، وفيه إشارة إلى أن جوده عليه السلام في رمضان أكثر من جوده في غيره، (حين يلقاه جبريل) عليه السلام، (وكان) جبريل (يلقاه)؛ أي: النبي عليه السلام.
وجوز الإمام الكرماني أن يكون الضمير المرفوع لـ (النبي)، والمنصوب لـ (جبريل)، ورجح الأول: الإمام بدر الدين العيني؛ لقرينة قوله: (حين يلقاه جبريل) (في كل ليلة من رمضان)، مصدر رَمَضَ إذا احترق، ممنوع من الصرف للزيادة، (فيدارسه القرآن)، بالنصب مفعول ثان لـ (يدارسه)، والفاء عاطفة، وإنما يدارسه حتى يتقرر عنده ويرسخ؛ وهذا إنجاز وعده تعالى له في قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} [الأعلى: 6].
(فلرسول الله)؛ مبتدأ، خبره قوله: (أجود بالخير من الريح المرسلة)؛ أي: المطلقة، وعبر بـ (المرسلة)؛ إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، كما أنه عليه السلام دائم الجود، والفاء في (فلرسول): للسببية، واللام للابتداء، وزيدت على المبتدأ؛ للتأكيد.
==========
%ص 7%
==================
(1/17)
[حديث أبي سفيان: أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش]
7# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان)؛ بفتح المثناة وتخفيف الميم واسمه: (الحكم بن نافع)؛ بفتح الحاء المهملة والكاف: الحمصي البهراني، مولى امرأة بهراء، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومئتين، وللأصيلي وكريمة: (حدثنا الحكم بن نافع) (قال: حدثنا شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة؛ بالحاء المهملة والزاي: دينار القرشي، الأموي مولاهم، أبو بشر، المتوفى سنة اثنين وستين ومئة.
(عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله بن عتبة بن مسعود) رضي الله عنه، (أن)؛ بفتح الهمزة: (عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (أخبره: أن)؛ بفتح الهمزة: (أبا سفيان)؛ بتثليث السين: يكنى أبا حنظلة، واسمه: صخر بالمهملة، ثم
%ص 7%
المعجمة (بن حرب)، بالمهملة والراء ثم الموحدة ابن أمية، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة الفتح، وشهد الغزوات، وتوفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين عن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان رضي الله عنه.
(أخبره: أن)؛ أي: بأن (هِرَقل)؛ بكسر الهاء وفتح الراء: غير منصرف للعلمية والعجمة، ولقبه قيصر، وأول من ضرب الدنانير، وملك الروم إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه توفي النبي عليه السلام، والظاهر أنه الموسكوف المسمى الآن بالروسية، وقيل: إنه الفراسة، (أرسل إليه)؛ أي: إلى أبي سفيان حال كونه (في)؛ أي: مع (ركب)؛ جمع راكب كصحب وصاحب؛ وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها، كذا قيل (من قريش) صفة لـ (ركب)؛ بضم القاف بعدها راء ومثناة تحتية ساكنة: وهم ولد النضر بن كنانة، وإنما سميت قريشًا: لأنَّهم كانوا يفتشون الحاج خلَّتهم فيسدونها، وقيل: من القرش، وقيل: باسم دابة في البحر، والله أعلم، و (من) إما بيانية أو تبعيضية، وكان عدد الركب ثلاثين رجلًا.
(و) الحال أنهم (كانوا تُجَّارًا)؛ بضم المثناة الفوقية وتشديد الجيم، على وزن (كفار) وعلى وزن (كلاب): جمع تاجر (بالشام) بالهمز، وقد تترك، وقد تفتح الشين مع المد، وقد دخلها عليه السلام مرتين قبل النبوة مع عمه أبي طالب حتى بلغ بصرى حين لقيه الراهب، ومرة في تجارة لخديجة إلى سوق بصرى، ومرتين بعد النبوة ليلة الإسراء وفي غزوة تبوك، وتمامه في «شرح الإمام بدر الدين العيني»، (في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ)؛ بتشديد الدال من (مادد)، فأدغم الأول في الثاني من المثلين: وهو مدة صلح الحديبية سنة ست، التي ماد (فيها أبا سفيان) زاد الأصيلي: (ابن حرب)، (وكفار قريش)؛ أي: مع كفارهم على وضع الحرب عشر سنين، ونصب (كفار) على المفعول معه.
(فأتوه)؛ أي: أرسل إليه في طلب إتيان الركب، (وهم) بالميم؛ أي: هرقل وجماعته، ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي: (وهو) (بإيلياء)؛ بهمزة مكسورة، فمثناتين آخر الحروف، أولاهما ساكنة، بينهما لام، آخره ألف مهموزة، بوزن كبرياء، [و] بالقصر، وهو بيت المقدس، (فدعاهم) هرقل حال كونه (في مجلسه وحوله)؛ بالنصب على الظرفية: خبر المبتدأ؛ وهو (عظماء الروم)؛ وهم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وفي رواية: (وعنده بطارقته، والقسيسون، والرهبان)، (ثم دعاهم)؛ أي: أمر بإحضارهم؛ فلا تكرار، (ودعا ترجمانه) بالنصب على المفعولية، وفي رواية: (بترجمانه)، وفي رواية: (بالترجمان)؛ بفتح المثناة الفوقية وضم الجيم فيهما، وقد تضم التاء فيهما اتباعًا؛ وهو المفسر لغة بلغة، فقال له: أيكم أقرب؟ ولم يسم الترجمان.
(فقال) الترجمان: (أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل؟)، وفي رواية: (من هذا الرجل)، وفي رواية: (إلى هذا الرجل)، وفي رواية: (الذي خرج بأرض العرب)، (الذي يزعم)، وفي رواية: (يدعي) (أنه نبي، فقال) وفي رواية: (قال) (أبو سفيان: قلت) وفي رواية: (فقلت): (أنا أقربهم نسبًا) وفي رواية: (أنا أقربهم به نسبًا)؛ أي: من حيث النسب، وأقربيته أبي سفيان؛ لكونه من بني عبد مناف؛ وهو الأب الرابع للنبي عليه السلام ولأبي سفيان، وإنَّما خص هرقل الأقرب؛ لأنَّه الأعلم الأتقن.
(فقال)؛ أي: هرقل، وفي رواية: (قال): (أدنوه مني)؛ بهمزة قطع مفتوحة: من الدنو؛ وهو القرب حتى يمعن في السؤال، (وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره)؛ لئلا يستحوا أن يواجهوه بالتكذيب (إن كذب)؛ كما في رواية، (ثم قال) هرقل (لترجمانه: قل لهم)؛ أي: لأصحاب أبي سفيان (إني سائل هذا)؛ أي: أبا سفيان (عن هذا الرجل)؛ أي: النبي عليه السلام، (فإن كذبني) بالتخفيف، كذا قيل؛ (فكذِّبوه) بتشديد المعجمة المكسورة، (قال)؛ أي: أبو سفيان، وفي رواية بإسقاط لفظ: (قال).
(فوالله؛ لولا الحياء) وفي رواية: (لولا أن الحياء)، (من أن يأثروا علي) بضم المثلثة وكسرها و (عليَّ) بمعنى (عني)؛ أي: رفقتي: يرون عني (كذبًا) بالتنكير، وفي رواية: (الكذب) (لكذبت عنه)؛ أي: لأخبرت عن حاله بكذب؛ لبغضي إياه، وفي رواية: (لكذبت عليه)، (ثم كان أول ما سألني عنه) بنصب (أول) خبر (كان)، واسمها ضمير الشأن، وفي رواية: برفع (أول) اسم (كان)، وخبره قوله: (أن قال: كيف نسبه) عليه السلام (فيكم)، أهو من أشرافكم أم لا؟ قال أبو سفيان: (قلت: هو فينا ذو)؛ أي: صاحب (نسب) عظيم، فالتنوين للتعظيم، (قال) هرقل: (فهل قال هذا القول منكم) من قريش (أحد قط) بتشديد الطاء المضمومة مع فتح القاف، وقد يضمان، وقد تخفف الطاء وتفتح القاف، ولا تستعمل إلَّا في الماضي المنفي، وإنَّما استعمل هنا بغير نفي؛ لأنَّ الاستفهام حكمه حكم النفي، (قبله) بالنصب على الظرفية، وفي رواية: (مثله).
قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم يقله أحد قبله، (قال) هرقل: (فهل كان من آبائه مِن) بكسر الميم؛ حرف جر (مَلِك؟)؛ بفتح الميم وكسر اللام: صفة مشبهة، وفي رواية: (مَن) بفتح الميم؛ اسم موصول، و (مَلَك) فعل ماضي، وفي رواية: (فهل كان من آبائه ملك)، قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم يكن، (قال) هرقل: (فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟) وفي رواية: (أيتبعه أشراف الناس؟) بإثبات همزة الاستفهام، وفي أخرى: (فأشراف الناس اتبعوه؟) قال أبو سفيان: (قلت): وفي رواية: (فقلت): (بل ضعفاؤهم)؛ أي: اتبعوه.
قال ابن حجر: الأشراف هنا؛ أهل النخوة والتكبر، لا كل شريف، ليخرج مثل العمرين ممن أسلم قبل سؤال هرقل، واعترضه الإمام بدر الدين العيني؛ بأن العمرين وحمزة كانوا من أهل النخوة، فقول أبي سفيان جرى على الغالب ... إلى آخره، قلت: وهو وجيه؛ فليحفظ، وفي رواية: (تبعه منا الضعفاء والمساكين)، وأما ذوو الأنساب والشرف؛ فما تبعه منهم أحد، قال ابن حجر: وهو محمول على الأكثر الأغلب.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ هذا المحمل بعيد جدًا؛ لأنَّ كلامه لا يعطيه ولا يشير إليه، فالأولى الحمل على أنه لم يتبعه أحد في الظاهر، وفي باطن الأمر قد اتبعوه وأخفوه حتى يعلموا ما يقع؛ فافهم.
(قال) هرقل: (أيزيدون أم ينقصون؟) بهمزة الاستفهام، وفي رواية: بإسقاطها؛ وهو جائز مطلقًا على الصحيح، قال أبو سفيان: (قلت: بل يزيدون، قال) هرقل: (فهل يرتد أحد منهم سخطة)؛ بفتح السين المهملة: منصوب على المفعول لأجله، أو على الحال؛ أي: ساخطًا، وجوَّز ابن حجر: ضم السين وفتح الخاء، ورده الإمام بدر الدين العيني بما يطول، نعم في رواية بضم السين وسكون الخاء، (لدينه بعد أن يدخل فيه؟) خرج من ارتد مكرهًا أو رغبة؛ كما وقع لابن جحش.
قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم يرتد، وإنما سأل عنه؛ لأنَّ من دخل في أمر محقق لا يرجع عنه، بخلاف دخوله في الباطل.
(قال) هرقل: (فهل كنتم تتهمونه بالكذب) على الناس (قبل أن يقول ما قال؟)، قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم نتهمه، وإنما عدل عن سؤال الكذب إلى سؤال التهمة؛ تقريرًا لهم على صدقه.
(قال) هرقل: (فهل يغدر؟)؛ بدال مهملة مكسورة؛ أي: ينقض العهد، قال أبو سفيان: (قلت: لا) ينقض (ونحن منه)؛ أي: النبي عليه السلام (في مدة)؛ أي: مدة صلح الحديبية أو غيبته، (لا ندري ما هو فاعل فيها)؛ أي: في المدة، وأشار بقوله: (لا ندري) إلى عدم الجزم بغدره، (قال) أبو سفيان: (ولم يمكني)؛ بالمثناة الفوقية أو التحتية، (كلمة أدخل فيها شيئًا) أنتقصه به (غير هذه الكلمة)، قيل: النقص أمر نسبي، فإن من يقطع بعدم غدره؛ أرفع درجة ممن يجوَّز ذلك، وقد كان عليه السلام معروفًا عندهم بعدم الغدر، ولكن لما كان الأمر مغيبًا؛ أمن أبو سفيان أن يُنسَب في ذلك إلى الكذب، انتهى، و (غير) رفع صفة لـ (كلمة)، ويجوز فيها النصب؛ صفة لـ (شيئًا)، لكن الرواية على الأول.
(قال) هرقل: (فهل قاتلتموه؟) إنَّما نَسب القتال إليهم ولم ينسبه له عليه السلام؛ لما علم أنَّه لا يبدأ قومه حتى يقاتلوه، قال أبو سفيان: (قلت: نعم) قاتلناه، (قال) هرقل: (فكيف كان قتالكم إياه؟) بفصل ثاني الضميرين، والاختيار ألا يجيء بالمنفصل إذا تأتى أن يجيء المتصل؛ وهو أفصح من (قتالكموه) باتصال الضمير، فلذا فصله؛ وهو الصواب، كذا قال الإمام بدر الدين العيني.
قال أبو سفيان: (قلت) وفي رواية (قال): (الحرب بيننا وبينه سجال)؛ بكسر السين المهملة وبالجيم المخففة؛ أي: نُوَب، نوبة لنا ونوبة له؛ كما قال: (ينال منا وننال منه)؛ أي يصيب منا ونصيب منه، و (السجال)؛ بمعنى المساجلة: مرفوع خبر لـ (الحرب)، فما قاله ابن حجر غير وارد ومردود، والجملة: لا محل لها من الإعراب؛ لأنَّها مفسرة، وفي (الحرب بيننا وبينه سجال)؛ تشبيه بليغ.
(قال) هرقل: (ما) وفي رواية: (بما) وفي أخرى: (فما) (ذا يأمركم؟)؛ أي: ما الذي يأمركم به؟ قال أبو سفيان: (قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا)، وفي رواية: بحذف الواو؛ فيكون تأكيدًا لقوله وحده، والجملة من عطف الخاص على العام، (واتركوا ما يقول آباؤكم) من عبادة الأصنام، (ويأمرنا بالصلاة) المعهودة، وفي رواية بزيادة: (والزكاة)، (والصدق)؛ القول المطابق للواقع، وفي رواية: (بالصدقة)، (والعفاف)؛ بفتح العين: الكف عن المحارم، (والصلة) للأرحام، (فقال) هرقل (للترجمان: قل له)؛ أي: لأبي سفيان: (سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو) صاحب (نسب) عظيم؛ (فكذلك)، وفي رواية: بالواو (الرسل تبعث في نسب قومها)؛ لما علمه في الكتب.
(وسألتك هل قال أحد) وفي رواية: بإسقاط (هل) (منكم هذا القول) وفي رواية: (قبله)، (فذكرت أن لا، فقلت) في نفسي: (لوكان أحد قال هذا القول لقلت: رجل يأتسي)؛ بهمزة ساكنة، بعدها مثناة فوقية مفتوحة، وسين مهملة مكسورة؛ أي: يقتدي (بقول قيل قبله)، وفي رواية: (يتأسى) بتقديم المثناة الفوقية على الهمزة المفتوحة وفتح السين المشددة.
(وسألتك هل كان من آبائه مِن مَلك؟) وفي رواية: بفتح الميمين (فذكرت: أن لا، قلت) في نفسي، وفي رواية: (فقلت): (فلو) وفي رواية: (لو) (كان من آبائه من ملك؛ قلت: رجل يطلب ملك أبيه) بالإفراد، وإنما قال: (لأبيه) ولم يقل: (لآبائه)؛ بالجمع؛ لأنَّه يكون أعذر في طلب الملك، بخلاف ما لو قال: (ملك آبائه).
قال هرقل لأبي سفيان: (وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر) اللام جحودية؛ أي: لم يكن ليدع (الكذب على الناس) قبل النبوة، (ويكذب) بالنصب (على الله) بعد إظهارها، (وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه؛ وهم أتباع الرسل) غالبًا؛ كما مر.
قال هرقل لأبي سفيان: (وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون؛ وكذلك أمر الإيمان)؛ فإنَّه يزيد (حتى يتم) وحيه؛ ولهذا آخر النزول كان قوله: {اليوم أكملت} الآية [المائدة: 3]، (وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين) بالنون، وفي رواية: (حتى) بالمثناة الفوقية، (تخالط) بالمثناة الفوقية، (بَشَاشَتُه)؛
%ص 8%
بفتح الموحدة، والشين المعجمتين، وضم التاء (القلوبَ): بالنصب على المفعولية، وفي رواية: (يخالط) بالمثناة تحت (بشاشةَ) بالنصب مفعول، و (القلوبِ): بالجرِّ على الإضافة، والمراد بـ (بشاشة القلوب): انشراح الصدور.
(وسألتك هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر)؛ لأنَّها تطلب الآخرة، (وسألتك بما يأمركم؟) بإثبات الألف مع (ما) الاستفهامية، (فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان)؛ جمع (وثن) بالمثلثة؛ وهو الصنم، (ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف)؛ أي: بأداء الصلاة المعهودة، وعدم الكذب، وأن تكفُّوا عن المحارم، قال هرقل لأبي سفيان: (فإن كان ما تقول حقًّا)؛ لأنَّه خبر محتمل للصدق والكذب؛ (فسيملك) أي: النبي عليه السلام (موضع قدمي هاتين) أرض بيت المقدس، (وقد كنت أعلم أنه) أي: النبي عليه السلام (خارج)، وفي رواية: (فإن كان ما تقول حقًّا؛ فإنه نبي)، وفي رواية: (هذه صفة نبي)، وإنما علم ذلك هرقل؛ لأنَّ النبي منعوت في كتبهم، (لم) وفي رواية: (ولم) (أكن أظن أنَّه منكم) أي: من قريش، (فلو أنَّي أعلم أني) وفي رواية: (أنني) (أخلُص)؛ بضم اللام؛ أي: أصل (إليه؛ لتجشمت)؛ بالجيم والشين المعجمتين؛ أي: لتكلفت (لقاءه) على ما فيه من المشقة، والمراد بالتجشم: الهجرة، وكانت فرضًا قبل الفتح على كل مسلم، وفي رواية: (قال هرقل: ويحك! والله إنِّي لأعلم أنَّه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته)، (ولو كنت عنده) أي: النبي عليه السلام؛ (لغسلت عن قدميه)، وفي رواية: بإسقاط لفظ (عن)، وفي رواية: (لو علمت أنه هو؛ لمشيت إليه، حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه، ولقد رأيت جبهته يتحادر عرقها من كرب الصحيفة)، وفي رواية: (قدمه) بالإفراد، والمراد: المبالغة في الخدمة.
(ثم دعا) هرقل (بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ثم دعا من أتى بكتابه عليه السلام، وجاز زيادة الباء؛ أي: دعا الكتاب على سبيل المجاز، وما قاله ابن حجر؛ ففيه نظر، (الذي بعث به دَِحيةُ)؛ بكسر الدال وفتحها ورفع التاء على الفاعلية: ابن خليفة الكلبي، وفي رواية: (مع دحية)، وهو مدفون في سطح المزة؛ قرية قرب دمشق، وكان البعث في آخر سنة ست بعد الرجوع من الحديبية، (إلى عظيم) أهل (بُصرى)؛ بضم الموحدة مقصورًا: مدينة حوران؛ أي: أميرها الحارث بن أبي شمر الغساني، (فدفعه إلى هرقل)، فيه مجاز؛ لأنَّه أرسل به إليه صحبة عدي بن حاتم، وكان وصوله إليه في سنة سبع، (فقرأه) هرقل بنفسه أو الترجمان بأمره؛ وهو الثابت عند الواقدي، (فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم) وتقديم سليمان اسمه على البسملة؛ حكاية الحال، أو خاف منها أن تسب فقدَّم اسمه فإذا سبَّت يقع على اسمه، وفيه دليل على استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرًا؛ كذا قيل، وقال بعض الفضلاء: إن السنة تصدير الاسم فيقول: من فلان إلى فلان؛ وهو قول الجمهور، مستدلين بما في «أبي داود» عن العلاء وكان عامل النبي على البحرين، وكان إذا كتب إليه بدأ بنفسه؛ فليحفظ.
(من محمد عبد الله ورسوله)، وفي رواية: (من محمد بن عبد الله ورسول الله)، وإنما وصف نفسه بالعبودية؛ تعريضًا لبطلان قولهم في المسيح: إنه ابن الله؛ لأنَّ الرسل على السواء في أنهم عباده تعالى (إلى هرقل عظيم) أهل (الروم)؛ أي: المعظم عندهم، ويجوز في (عظيم) الجر بدل من سابقه، والرفع على القطع، والنصب على الاختصاص، وإنما لم يصفه بالإمرة أو الملك؛ لكونه معزولًا بحكم الإسلام، وذكر المدائني: أن القارئ لما قرأ: (من محمد رسول الله)؛ غضب أخو هرقل فاجتذب الكتاب، فقال له هرقل: ما لك؟ فقال: لأنَّه بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، قال: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله؛ إنَّه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم واللهُ مالكي ومالكه، (سلامٌ) بالتنكير، وفي رواية بالتعريف، (على من اتبع الهدى)؛ أي: الرشاد، ومعناه: سلم من عذاب الله من أسلم، فليس المراد به التحية وإن كان اللفظ يشعر به، (أما بعدُ): بالبناء على الضم؛ لقطعه عن الإضافة المنوية لفظًا، ويؤتى بها للفصل بين الكلامين، واختلف في أول من تكلم بها؛ فقيل: داود، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: كعب، وقيل: يعقوب، والأرجح: أنه يعرب أو يعقوب، والأقوال كثيرة؛ (فإني أدعوك بدِعاية الإسلام)؛ بكسر الدال المهملة، وفي رواية: بداعية الإسلام؛ أي: بالكلمة الداعية إليه؛ وهي الشهادة والباء بمعنى (إلى)، (أسلِمْ)؛ بكسر اللام؛ (تسلَمْ) بفتحها (يؤتك الله أجرك مرتين) بالجزم في الأول على الأمر، وفي الثاني جواب له، والثالث بحذف حرف العلة جواب ثان له أيضًا، أو بدل منه، وإعطاء الأجر مرتين؛ لكونه مؤمنًا بنبيه ثم آمن بمحمد عليه السلام، وفي رواية: (أسلم؛ تسلم، أسلم؛ يؤتك) بتكرار (أسلم) مع زيادة الواو، (فإن توليت)؛ أي: أعرضت عن الإسلام؛ (فإن عليك) مع إثمك (إثم اليَرِيْسِين)؛ بمثناتين تحتيتين؛ الأولى مفتوحة والثانية ساكنة بينهما راء مكسورة، ثم سين مكسورة، ثم مثناة تحتية ساكنة، ثم نون: جمع (يريس)، على وزن (كريم)، وفي رواية: (الأريسين) بقلب المثناة الأولى همزة، وفي أخرى: (اليريسيِّين) بتشديد الياء بعد السين جمع (يريسي)، وفي رواية: (الأريسيِّين)؛ بتشديد الياء بعد السين كذلك، إلَّا أنَّه بالهمزة في أوله موضع الياء، وأما قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ فمعناه: أنَّ وزر الإثم لا يتحمله غيره والفاعل يتحمل من جهتين؛ جهة فعله وجهة تسببه، والأريسيون: الأكارون؛ أي: الفلاحون، والمراد بهم هنا: أهل مملكته الشامل للفلاحين وغيرهم على الأظهر، وفيه أقوال، وكلها بعيدة؛ فليحفظ، وفي قوله: (فإن توليت) استعارة تبعية.
(و {يَا أَهْلَ الكِتَابِ}) وفي رواية: بإسقاط الواو، والمراد: أهل الكتابين، والظاهر أنه عليه السلام أراد مخاطبتهم بذلك ولم يرد التلاوة؛ فهو من باب الالتفات؛ فافهم، ({تَعَالَوْا}) بفتح اللام ({إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ})؛ أي: مستوية ({بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}) لا يختلف فيها القرآن، والتوراة، والإنجيل؛ وهي ({ألَّا نَعْبُدَ إلَّا اللهَ})؛ أي: نوحده بالعبادة، ({وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا})؛ أي: لا نجعل له شريكًا كما جعلتم، ({وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ}) فلا نقول: المسيح ابن الله، ولا: العزير ابن الله، ولا نطيع الأحبار، وروي: لمَّا نزلت: {اتَّخَذُواأَحْبَارَهُمْ} الآية [التوبة: 31]، قال عدي بن حاتم: ماكنا نعبدهم يارسول الله، قال: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون، فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم، قال: هو ذاك، ({فَإِن تَوَلَّوْا}) عن التوحيد ({فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) [آل عمران: 64]؛ أي: لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون.
وكتب ذلك عليه السلام قبل نزول الآية؛ فوافق لفظه لفظها، ونزلت في وفد نجران سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان سنة ست، وقيل: نزلت في اليهود، وقيل: نزلت مرتين، وقيل: إنَّ هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب؛ تعظيمًا، وإنهم يتوارثونه، وقيل: إن ملكهم زمن المنصور قلاوون أخرج لسيف الدين قلج صندوقًا مصفحًا بالذهب فيه الكتاب، فقال: هذا كتاب نبيكم الذي أرسله إلى جدي قيصر، وأوصانا آباؤنا: أنه مادام عندنا؛ لا يزال الملك فينا.
وفي سنة ست وسبعين ومئتين وألف وجد أحد الفرنج كتابًا في أرض مصر، وذهب به إلى الفرنج، فقالوا: إنه كتاب محمد إلى المقوقس، فاشتروه منه بستين ألف قرش، وأهدوه إلى الملك الأعظم؛ السلطان عبد المجيد خان_نصره الله تعالى_ العثماني، فتبارك فيه وعظمه، وجمع العلماء لقراءته، فما [1] أحد عرف قراءته؛ لأنَّه مكتوب بالكوفي، فرسم صفته وأرسله إلى والي ديارنا الشريفة الشامية، فأرسل الوالي إلى شيخ الحرم الأموي، وطلب منه مصحف عثمان رضي الله عنه، وأمر بعض عماله على ترجمته بالعربي، وأرسله إلى السلطان، والله تعالى أعلم.
(قال أبو سفيان: فلما قال) هرقل (ما قال)؛ أي: الذي قاله من السؤال والجواب، (وفرغ من قراءة الكتاب) النبوي؛ (كثر عنده الصَّخَب)؛ بالصاد المهملة والخاء المعجمة المفتوحتين؛ أي: اللغط، (وارتفعت الأصوات) المختلفة؛ وهذا معنى اللغط، (وأُخرِجنا)؛ بضم الهمزة وكسر الراء؛ أي: أمر بإخراجنا، (فقلت لأصحابي حين أخرجنا): وفي رواية: (حين خلوت بهم): والله (لقد أَمِرَ)؛ بفتح أوله مقصورًا وكسر ثانيه؛ أي: عظم (أمْر ابن أبي كَبْشة) بسكون الميم؛ أي: شأنه، و (كَبْشة)؛ بفتح الكاف وسكون الموحدة، اسم مرتجل، وأراد بذلك: النبي عليه السلام؛ لأنَّها كنية أبيه من الرضاعة؛ الحارث بن عبد العزى، وكانت له بنت تسمى كبشة، فكُنِّي بها، قيل: إنه أسلم، أو هو والد حليمة مرضعته، أو نسبه إلى جدِّ جدِّه وهب؛ لأنَّ أمه آمنة بنت وهب، وأم جد وهب: قيلة بنت أبي كبشة، والظاهر الأول؛ (أنه يخافه)؛ بفتح الهمزة: مفعول لأجله، وقيل: بكسر الهمزة على الاستئناف، والمعنى: عظم أمره عليه السلام لأجل أنه يخافه (ملك بني الأصفر)؛ وهم الروم؛ لأنَّ جدهم روم بن عيص بن إسحاق تزوج بنت ملك الحبشة؛ فجاء ولده بين البياض والسواد، فقيل له: الأصفر، قال أبو سفيان: (فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام) فأبرزت ذلك اليقين.
(وكان ابن الناطور) بالمهملة؛ أي: حافظ البستان، وفي رواية: بالمعجمة، وفي رواية: بزيادة ألف آخره، والواو عاطفة، والقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزهري، كذا قيل، وقوله: (صاحبَ) منصوب (إيلِياء)؛ بكسر الهمزة واللام، بينهما مثناة تحتية مع المد؛ وهي بيت المقدس؛ أي أميرها، ونصبه؛ إما على الاختصاص في رواية، أو على الحال، وفي رواية: أنَّه مرفوع صفة لابن الناطور؛ لأنَّ الإضافة معنوية؛ كذا قاله الإمام شهاب الدين الكرماني، واستظهره البرماوي، (وهرقلَ) بفتح اللام مجرور عطفًا على (إيلياء)؛ أي: صاحب هرقل أيضًا، وأطلق عليه الصحبة؛ إما بمعنى الاستقلال بالرأي، أو بمعنى التبع أو الصداقة، والظاهر الأول، (أُسقف)؛ بضم الهمزة: مبنيًّا للمفعول، وفي رواية: (أُسْقُفًا) بضم الهمزة، وسكون السين، وضم القاف، وتخفيف الفاء، وفي رواية: (أسقفًّا) بتشديد الفاء، وفيه روايات؛ أي: مقدمًا (على نصارى الشام)؛ لكونه رئيس دينهم، أو ملكهم، أو قيم شريعتهم؛ وهو البترك الكبير المسمى بالباب؛ بفتح الموحدتين بينهما ألف، وما قيل؛ فهو بعيد، (يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء) وغلبة جنوده جنود فارس وإخراجهم في سنة عمرته عليه السلام الحديبية؛ (أصبح خبيث النفس)؛ مما حل به من الهم، وفي رواية: (أصبح يومًا خبيث النفس)، (فقال) له (بعض بَطارقته)؛ بفتح الموحدة: جمع بطريق، بكسرها؛ وهو العالم بدينهم: (قد استنكرنا هيئتك)؛ لمخالفتها عادتك، (قال ابن الناطور): بالمهملة وفي رواية بالمعجمة (وكان هرقل) عالمًا وكان (حَزَّاءً)؛ بالمهملة وتشديد الزاي، آخره همزة منونة، منصوب؛ لأنَّه خبر (كان)؛ أي: كاهنًا (ينظر في النجوم) خبر ثان لـ (كان)؛ إن قلنا: إنه ينظر في الأمرين، أو تفسير لـ (حزاء)؛ لأنَّ الكهانة تؤخذ تارة من ألفاظ الشياطين وتارة من أحكام النجوم،
%ص 9%
فكان هرقل يعلم حساب النجوم أن المولد بقِرَانِ العلويين ببرج العقرب؛ وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي الثلاثة بروجها في ستين سنة، وكان ابتداء العشرين الأول للمولد، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل، وعند الثالثة فتح خيبر، وليس المراد بهذا تقوية قول الحساب؛ بل البشارة به عليه السلام، والجملة اعتراضية.
(فقال) هرقل (لهم)؛ أي: لبعض البطارقة (حين سألوه: إنِّي رأيت الليلة حين نظرت في النجوم مَلِك الختان)؛ بفتح الميم وكسر اللام، وفي رواية: بالضم ثم الإسكان (قد ظهر)؛ أي: غلب؛ لأنَّ في تلك الأيام كان ابتداء ظهوره؛ لأنَّه صالح الكفار بالحديبية عليه السلام، وأنزل الله سورة الفتح، (فمن) استفهامية (يختن من هذه الأمة؟)؛ أي: من أهل هذه الملل، وفي رواية: (الأمم) (قالوا: ليس يختن إلا اليهود)؛ لأنَّهم كانوا بإيلِياء (فلا يُهمنَّك) بضم المثناة تحت: من (أهم)؛ أي: لا يقلقنك (شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك) بالهمز وقد يترك؛ (فيقتلوا من فيهم من اليهود)، وفي رواية: (فليقتلوا)؛ باللام.
(فبينما هم) بالميم، وأصله (بين)، فأشبعت الفتحة فصار (بينا)، فزيدت الميم، وفي رواية: بغير ميم، ومعناهما واحد، و (هم)؛ مبتدأ خبره (على أمرهم) مشورتهم (أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسَّان)؛ بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة، واسم الملك الحارث ابن أبي شمر، و (غسان) اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد؛ فنسبوا إليه، ولم يسم الرجل ولا من أرسل به (يخبره عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس؛ فكانت بينهم ملاحم في مواطن وتركتهم وهم على ذلك، (فلما استخبره هرقل) وأخبره؛ (قال) لجماعته: (اذهبوا فانظروا) إلى الرجل (أمختَتِن هو) بهمزة الاستفهام وفتح المثناة الفوقية الأولى وكسر الثانية (أم لا؟ فنظروا إليه)، وفي رواية: (فجردوه؛ فإذا هو مختتن)، (فحدثوه) أي: هرقل (أنه مختَتِن)؛ بفتح الفوقية الأولى وكسر الثانية، (وسأله عن العرب)؛ هل يختتنون؟ (فقال)؛ أي: الرجل: (هم يختتنون)، وفي رواية: (مختتنون)، والأول أشمل؛ كما قاله الإمامان العيني والعسقلاني، (فقال هرقل: هذا) الذي نظرته في النجوم (مُلْك هذه الأمة)؛ أي: العرب (قد ظهر) بضم الميم وسكون اللام، وفي رواية: بالفتح ثم الكسر، واسم الإشارة للنبي عليه السلام؛ وهو مبتدأ خبره (ملك)، و (قد ظهر) حال، وفي رواية: (وحده يملك) وتمامه في «شرح الإمام بدر الدين العيني».
(ثم كتب هرقل إلى صاحب له) يسمى ضغاطر الأسقف (بروميَة) بالتخفيف، وفي رواية: (بالرومية)؛ وهي مدينة رئاسة الروم، قيل: إن دور سورها أربعة وعشرون ميلًا، (وكان نظيره)، وفي رواية: (وكان هرقل نظيره) (في العلم) الشامل للنجوم والكتب، لكن الأول أظهر.
(وسار هرقل إلى حمص) مجرور بالفتحة؛ لأنَّه غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث؛ وهي دار ملكه بالشام، وبها دفن خالد بن الوليد رضي الله عنه، (فلم يَرِم) هرقل؛ بفتح المثناة تحت وكسر الراء (حمص)؛ أي: لم يصل إليها، والظاهر أن يقال: وأراد هرقل المسير إلى حمص ولم يبرح (حتى أتاه كتاب من صاحبه) ضغاطر (يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم) أي: ظهوره (وأَنه نبي) بفتح الهمزة، وهذا يدل على أنَّ هرقل وصاحبه أقرَّا بنبوته، لكن هرقل لم يستمر على ذلك، بل رغب في الرئاسة، فأعرض عن الإسلام، وأما صاحبه؛ فأظهر الإسلام ودعاهم إليه فقتلوه.
(فأذن) بالقصر؛ من الإذن، وفي رواية: (فآذن) بالمد؛ أي: أعلم (هرقل لعظماء الروم) جمع عظيم (في دَسْكَرَة)؛ بمهملتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، وفتح الكاف والراء، كائنة (له بحمص)؛ أي: فيها، والدسكرة: القصر حوله بيوت، (ثم أمر بأبوابها)؛ أي: الدسكرة (فغلِّقت) بتشديد اللام، وكان دخلها ثم أغلقها، وفتح أبواب البيوت التي حولها، وأذن للروم في دخولها، ثم أغلقها عليهم، (ثم اطلع) عليهم من مكانه العالي؛ خوفًا منهم أن يقتلوه فخاطبهم (فقال: يامعشر الروم؛ هل لكم) رغبة (في الفلاح والرَُّشَد)؛ بضم الراء ثم السكون أو بفتحتين: خلاف الغي، (وأن يثبت)؛ بفتح الهمزة: مصدرية (ملككم، فتُبَايعوا)؛ بمثناة فوقية مضمومة، ثم موحدة، بعدها ألف ومثناة تحتية: منصوب بحذف النون بـ (أن) مقدرة في جواب الاستفهام، وفي رواية: (فبايعوا) بإسقاط المثناة قبل الموحدة، وفي رواية: (نبايع) بنون الجمع ثم موحدة، وفي أخرى: (نتابع) بنون الجمع أيضًا، ثم مثناة فوقية، فألف، فموحدة، وفي رواية: (فتتابعوا) بمثناتين فوقيتين، وبعد الألف موحدة، وفي رواية: (فنتبع) (هذا النبي) وفي رواية: باللام، وفي أخرى: (صلى الله عليه وسلم)، وإنما قال هذا؛ لما علم من الكتب: أن التمادي على الكفر سبب لذهاب الملك.
(فحاصوا) بمهملتين؛ أي: نفروا (حيصة حمر الوحش)؛ أي: كحيصتها (إلى الأبواب) المعهودة، (فوجدوها قد غُلِّقت)؛ بضم الغين المعجمة وكسر اللام مشددة، وإنما شبه نفرتهم بنفرة حمر الوحش؛ لأنَّها أشد نفرة من سائر الحيوانات، وقول ابن حجر: (شبههم بالحمر لمناسبة الجهل)؛ فيه نظر ظاهر لا يخفى على من له أدنى نظر في علمي المعاني والبيان، (فلما رأى هرقل نفرتهم) وأنهم ربما قتلوه، (وأيس)؛ بهمزة ثم مثناة تحتية، جملة حالية بتقدير: قد، وفي رواية: بتقديم الياء على الهمزة، وهما بمعنًى، والأول مقلوب من الثاني؛ أي: قنط (من الإيمان)؛ أي: من إيمانهم ومن إيمانه أيضًا؛ لكونه شح بملكه؛ (قال) هرقل لخدامه: (ردوهم عليَّ) بفتح المثناة تحت؛ أي: إلى محل الخطاب (وقال) لهم: (إنِّي قلت مقالتي آنفًا) بالمد مع كسر النون، وقد تقصر منصوب على الظرفية لا على الحال؛ كما توهم (أختبر)؛ أي: أمتحن (بها) الجملة حال (شدتكم)؛ أي: رسوخكم (على دينكم) إنَّما أضاف الدين إليهم؛ إشارة إلى أن له خاطرًا في الدخول في الإسلام ومنعه حب الرئاسة، (فقد رأيت) أي: شدتكم، فحذف المفعول؛ للعلم به، وفي رواية: (فقد رأيت منكم الذي أحببت)، (فسجدوا له)؛ حقيقة على عادتهم لملوكهم أو قبَّلوا الأرض بين يديه، (ورضوا عنه) بأن سكنت نفرتهم، (فكان ذلك آخرَ) بالنصب خبر (كان) (شأن هرقل) فيما يتعلق بهذه القصة أو فيما يتعلق في أمر الإيمان، فإنه قد وقعت له أمور من تجهيز الجيش إلى مؤتة سنة ثمان، وتبوك، ومحاربته للمسلمين؛ وهذا يدل على استمراره على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي؛ مراعاة لمملكته وخوفًا من أن يقتلوه؛ كما قتلوا ضغاطر، لكن في «مسند أحمد»: أنه كتب من تبوك إلى النبي عليه السلام: أنَّي مسلم، قال النبي عليه السلام: «كذب؛ بل هو على نصرانيته .. » الحديث، {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 4].
(رواه)؛ أي: حديث هرقل، وفي رواية بالواو، وفي رواية: (قال محمد _أي: البخاري_ رواه) (صالح بن كَيسان)؛ بفتح الكاف: أبو محمد أو أبو الحارث الغِفَاري؛ بكسر الغين المعجمة مخفف الفاء، المدني، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، عن مئة ونيف وستين سنة؛ كذا قيل، (و) رواه أيضًا (يونس) بن يزيد الأيلي (و) رواه (مَعمَر)؛ بفتح الميمين بينهما عين ساكنة: ابن راشد؛ الثلاثة عن الزهري، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
ومناسبة الحديث هنا من حيث أوصاف من يوحى إليه، ومن قصة هرقل؛ لتضمنها حال النبي عليه السلام في ابتداء الأمر، ولا يخفى مناسبة القصة؛ لما يذكره من كتاب الإيمان؛ وهو أول فرض على المكلف، فقال:
==========
[1] في الأصل: (فلم).
==================
(1/18)
((2)) [كتاب الإيمان]
(بسم الله الرحمن الرحيم)
واختلفت الروايات في تقديمها هنا على (كتاب) أو تأخيرها عنه ولكل وجه.
(كتاب الإيمان) وإنما لم يقل في الأول: (كتاب بدء الوحي)؛ لأنَّه كالمقدمة، فـ (الكتاب) مصدر بمعنى: الكتب؛ وهو الجمع والضم، فاستعمل جامعًا للأبواب والفصول، وجمعه (كُتُب) بضمتين، و (كُتْب)؛ بسكون المثناة الفوقية، والضمُّ فيه بالنسبة إلى الحروف المكتوبة حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز [1]، وسميت الكتابة كتابة؛ لأنها جمع الحروف والكلمات.
و (الإيمان) بكسر الهمزة لغةً: التصديق؛ أي: إذعان حكم المخبِر، وقبوله، وجعله صادقًا؛ (إفعال) من الأمن؛ فإن حقيقة (آمن به)؛ آمنه من التكذيب والمخالفة، وتعدَّى بـ (اللام) في قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17]؛ أي: بمصدق، وبـ (الباء) كما في قوله عليه السلام: «الإيمان أن تؤمن بالله ... » الحديث؛ أي: تصدق، وليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر عن غير إذعان وقبول؛ بل هو إذعان وقبول لذلك؛ بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرح به الغزالي، كذا قرره العلامة الثاني سعد الدين التفتازاني.
==========
[1] في الأصل: (مجازًا)، وليس بصحيح.
%ص 10%
==================
(1/19)
(1) [بابُ الإِيمَانِ، وقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»]
هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الآتي موصولًا: (بني الإسلام على خمس) وفي رواية: بإسقاط لفظ (باب)، وفي رواية: (باب الإيمان وقول النبي ... ) إلى آخره.
و (الإسلام) لغةً: الانقياد والخضوع، ولا يتحقق إلَّا بقبول الأحكام والإذعان؛ وذلك حقيقة التصديق، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا، فهما متحدان في التصديق وإن تغايرا بحسب المفهوم؛ فمفهوم الإيمان تصديق القلب، ومفهوم الإسلام إعمال الجوارح، وبالجملة: لا يصح أن يحكم على أحد أنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن؛ وهذا معنى الوحدة.
فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] صريح في تحقق الإسلام بدون الإيمان.
قلنا: المراد أن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية بمعنى الانقياد في الظاهر من غير انقياد الباطن بمنزلة المتلفظ بالشهادة من غير تصديق في باب الإيمان؛ فافهم.
(وهو)؛ أي: الإيمان عند المؤلف ومالك والثوري: (قول) باللسان؛ وهو النطق بالشهادتين (وفعل) وفي رواية: (وعمل) بدل (فعل)؛ وهو أعم من عمل القلب والجوارح؛ لتدخل الاعتقادات والعبادات؛ فهو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، والمراد أنَّ الأعمال شرط لكماله، وقالت الأئمة الماتريدية: الإيمان في الشرع هو التصديق بما جاء [به] النبي الأعظم عليه السلام من عند الله تعالى والإقرار به؛ أي: بما جاء من عند الله باللسان، إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلًا، والإقرار قد يحتمله؛ كما في حالة الإكراه.
فإن قيل: قد لا يبقى التصديق كما في حالة النوم والغفلة.
قلنا: التصديق باق في القلب، والذهول إنَّما هو عن حصوله، ولو سلم، فالشارع جعل المحقق الذي لم يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي، حتى كان المؤمن اسمًا لمن آمن في الحال أو المضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب، وهذا مذهب بعض العلماء منهم، وهو اختيار الإمامين فخر الإسلام وشمس الأئمة.
وذهب جمهور المحققين منهم إلى أنَّه هو
%ص 10%
التصديق بالقلب، وإنَّما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا؛ لما أنَّ تصديق القلب أمر باطن لا بدَّ له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقرَّ بلسانه؛ فهو مؤمن عند الله وإن لم يكن مؤمنًا في أحكام الدنيا، ومن أقرَّ بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق؛ فبالعكس، وهذا اختيار الشيخ الإمام أبي منصور رضي الله تعالى عنه، والنصوص معاضدة لذلك؛ منها: قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، وقوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، وتمامه في محله، وبهذا علم أن الإنسان إما مؤمن أو كافر، ولا واسطة بينهما عند أهل السنة، وأثبت المعتزلة واسطة، فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، والصحيح: أن المعتزلة فسقة؛ لأنَّهم على التوحيد، وبدعهم غير مكفرة بل مفسقة؛ فليحفظ.
وإذا وجد من العبد التصديق والإقرار؛ صح أن يقول: أنا مؤمن حقًّا؛ لتحقق الإيمان، ولا ينبغي أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ لأنَّه إن كان للشك؛ فهو كافر لا محالة، وإن كان للتأدب، أو للشك في العاقبة والمآل لا في الحال والآن، أو التبرك بذكره تعالى؛ فلا يضر، لكن الأولى تركه؛ لاحتمال توهم الشك، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين؛ فليحفظ.
(و) الإيمان (يزيد) بالطاعة (وينقص) بالمعصية، عند المؤلف، وهو مذهب محمد بن إدريس الشافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهم، واستدل المؤلف لهذا بثمان آيات؛ وكلها محمولة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهل هو مخلوق أم لا؟ قيل وقيل، والأحسن ما قاله الإمام أبو الليث السمرقندي الحنفي: إن الإيمان إقرار وهداية، فالإقرار صنع العبد؛ وهو مخلوق، والهداية صنع الرب؛ وهو غير مخلوق؛ فليحفظ.
(قال) وفي رواية: (وقال) (الله تعالى) بالواو في سورة (الفتح)، وفي رواية: (عز وجل): ({لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}) [الفتح: 4]، وقال في (الكهف): ({وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}) [الكهف: 13]؛ بالتوفيق، وهذه الآية ساقطة في رواية، وفي (مريم): [76] قوله: ({وَيَزِيدُ اللهُ}) وفي روايةبالواو، وفي أخرى: (وقال: {ويزيد الله}) ({الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}) بالتوفيق.
(وقال) في القتال، وفي رواية: (وقوله)، وفي أخرى: بإسقاطهما والابتداء بقوله: ({وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}) بالتوفيق ({وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}) [محمد: 17]؛ أي: بيَّن لهم ما يتقون، وقال في (المدثر): ({وَيَزْدَادَ}) وفي رواية: (وقوله: {ويزداد}) ({الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}) [المدثر: 31]؛ بتصديقهم أصحاب النار المذكورين بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} ... الآية [المدثر: 31]، (وقوله) تعالى في (براءة): ({أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ}) أي: السورة ({إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}) [براءة: 124]؛ بالعلم الحاصل بتدبرها (وقوله جل ذكره) في آل عمران: ({فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}) [آل عمران: 173]؛ لعدمِ التفاتِهم إلى من ثبَّطهم عن قتال المشركين، بل ثبت يقينهم بالله تعالى، (وقوله تعالى) في الأحزاب: ({وَمَا زَادَهُمْ})؛ أي: لما رأوا البلاء ({إِلَّا إِيمَانًا}) بالله ورسوله ({وَتَسْلِيمًا}) [الأحزاب: 22] لأوامره.
فاستدل المؤلف ومن وافقه بهذه الآيات على أن الإيمان يزيد وينقص، وقال رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وإمام الأئمة المعظم أبو حنيفة، وأصحابه؛ الإمام أبو يوسف، والإمام محمد، والإمام زفر، والإمام الحسن، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين: إنَّ حقيقة الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لما مر أنَّه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان؛ وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، حتى إن من حصل له حقيقة التصديق، فسواء أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي؛ فتصديقه باق على حاله لا تغير فيه أصلًا، وهذه الآيات السابقة التي ظاهرها يدل على زيادة الإيمان؛ محمولة على ما قاله إمامنا الإمام الأعظم: إنهم كانوا آمنوا بالجملة، ثم يأتي فرض بعد فرض، فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص.
وحاصله: أنه كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به؛ وهذا لا يتصور في غير عصر النبي الأعظم عليه السلام، وبهذا قال جمهور المتكلمين وكذا المحققون، وقيل: المراد بالزيادة: ثمرته، وإشراق نوره، وضياؤه في القلب؛ فإنَّه يزيد بالأعمال وينقص بالمعاصي باعتبار جهات هي غير ذات التصديق؛ بل بسبب تفاوت الإيمان باعتبار تلك الجهات يتفاوت المؤمنون عندنا.
ولهذا قال إمامنا الإمام الأعظم: (إيماني كإيمان جبريل لا مثل إيمانه)؛ لأنَّ المثليَّة تقتضي المساواة في كل الصفات، والشبيه لا يقتضيه، فلا أحد يسوِّي بين إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء من كل وجه بل يتفاوت، غير أن ذلك التفاوت هل هو بزيادة ونقص في نفس ذات التصديق، أو هو يتفاوت لا بزيادة ونقص في نفس الذات، بل بأمور زائدة عليها؟ فنحن معاشر الحنفية ومن وافقنا نمنع التفاوت في نفس ذات التصديق، ونقول: إنَّ ما يتخايل من أنَّ القطع يتفاوت قوة إنَّما هو راجع إلى ظهوره وانكشافه، فإذا ظهر القطع بحدوث العالم بعد ترتب مقدماته؛ كان الجزم الكائن فيه كالجزم في حكمنا: الواحد نصف الاثنين، وإنما تفاوتهما باعتبار أنه إذا لوحظ هذا خصوصًا مع عزوب النظر؛ فيخيل أن الجزم أولى وليس بقوي في ذاته، إنَّما هو أجلى عند العقل، فنحن معاشر الحنفية ومن وافقنا نمنع ثبوت ماهية المشكك، ونقول: إن الواقع على أشياء متفاوتة فيه، فيكون التفاوت عارضًا لها خارجًا عنها، لا ماهية لها ولا جزء ماهية؛ لامتناع اختلاف الماهية واختلاف جزئها، وحاصله: أن الخلاف باق، وقد قال بذلك جمهور المتكلمين وبعض الأشاعرة منهم؛ إمام الحرمين وغيره من المحققين، والله تعالى أعلم.
ثم استدل أيضًا بقوله: (والحب في الله) مبتدأ (والبغض في الله) عطف عليه وقوله: (من الإيمان) خبر، وهذا لفظ حديث رواه أبو داود من حديث أبي أمامة، فإن الحب والبغض يتفاوتان؛ باعتبار ما يعرض عليهما من الجهات الخارجة.
(وكتب عمر بن عبد العزيز) بن مروان، الأموي، أحد الخلفاء الراشدين، المتوفى في خامس وعشرين رجب، سنة إحدى ومئة، قيل: بدير سمعان بحمص، وقيل: بدمشق في القنوات، (إلى عَدِي بن عَدِي)؛ بفتح العين وكسر الدال المهملتين فيهما: ابن عَمرة بفتح العين، الكندي، التابعي، المتوفى سنة عشرين ومئة: (إن للإيمان)؛ بكسر الهمزة (فرائضَ)؛ بالنصب اسم (إن) مؤخر؛ أي: أعمالًا مفروضة (وشرائع)؛ أي: عقائد (وحدودًا)؛ أي: منهيات، (وسننًا)؛ أي: مندوبات، وفي رواية: (إن الإيمان فرائضُ) بالرفع خبر (إن)، وما بعده معطوف عليه، وفي رواية: (فرائع)؛ بالفاء في أوله والعين المهملة في آخره؛ وهو بمعنى: فرائض؛ فافهم.
(فمن استكملها)؛ أي: الفرائض وما معها؛ فقد (استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها؛ لم يستكمل الإيمان)؛ وهذا لا يدل على ما استدل له؛ بل فيه دلالة على عدم قبول الإيمان الزيادة والنقصان؛ لأنَّه جعل الإيمان غير الفرائض وما بعدها، فإن قوله: (إن للإيمان فرائض ... ) إلخ؛ مثل قولك: (إن لزيد عمامة وجبة وإنبازًا)، وجعل أيضًا الكمالَ كمالَ الإيمان لا للإيمان، والمعنى: من استكملها بأن أتى بها على وجهها؛ فقد استكمل الإيمان، بأن وجد حلاوته وأشرق نوره عليه، ومن لم يستكملها؛ لم يجد ذلك فصار كالشجرة بلا ثمر، وهذا آخر كلامه مشعر بذلك؛ فليحفظ.
(فإن أعش) لم أذق الموت؛ (فسأبينها)؛ أي: أوضحها (لكم)، والمراد: تفاريعها لا أصولها؛ لأنَّها معلومة لهم إجمالًا، وأراد بيانها تفصيلًا (حتى تعملوا بها، وإن أمت؛ فما أنا على صحبتكم بحريص) وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنَّ الحاجة لم تتحقق، أو أنه علم أنهم يعلمون مقاصدها، ولكنه استظهر في نصحهم، وعرفهم أقسام الإيمان مجملًا، وأنه سيذكرها لهم مفصلًا إذا تفرغ لهم، فقد كان مشغولًا بالأهم، وهذا من تعاليق المؤلف المجزومة؛ وهي محكوم بصحتها، ووصله أحمد وابن أبي شيبة في كتاب «الإيمان» لهما من طريق عيسى بن عاصم.
(وقال إبراهيم) الخليل، وفي رواية: (صلى الله عليه وسلم) وقد عاش مئة وخمسًا وسبعين سنة، أو مئتين، ودفن بحبرون؛ بالحاء المهملة؛ كذا قيل: ({وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}) [البقرة: 260]؛ أي: يسكن قلبه عن المنازعة إلى رؤية الكيفية المطلوب رؤيتها، أو المطلوب سكونه بحصول متمناه من المشاهدة المحصلة للعلم البديهي بعد العلم النظري، وهذا قطع منه بالقدرة على إحياء الموتى كمن قطع بوجود دمشق وما فيها من أجنة ذات ثمار وانهار جارية، فنازعته نفسه في رؤيتيها، فإنَّها لا تسكن وتطمئن، حتى يحصل مناها، وكذا شأنها في كل مطلوب لها مع العلم بوجوده، فليس تلك المنازعة والتطلب ليحصل القطع بوجود دمشق؛ إذ الغرض ثبوته، فهذا لا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا أَخَّرَ هذه الآية عن الآيات السابقة؛ فليحفظ.
(وقال مُعاذُ)؛ بضم الميم والذال المعجمة، وفي رواية: (وقال معاذ بن جبل)؛ هو ابن عمرو الخزرجي الأنصاري، المتوفى سنة ثمانية عشر للأسود بن هلال: (اجلس بنا) بهمزة وصل (نؤمنْ) بالجزم (ساعة)؛ أي: حصة من الزمان؛ أي: نتذاكر الخير، وأحكام الآخرة، وأمور الدين؛ فإن ذلك من الإيمان؛ أي: من فروعه ولا دلالة فيه على قبول الزيادة، كما لا يخفى؛ فليحفظ، وهذا التعليق وصله أحمد وابن أبي شيبة كالأول للأسود بن هلال.
(وقال ابن مسعود) عبد الله، وجده غافل؛ بالمعجمة والفاء: الهذلي؛ نسبة إلى جده هذيل بن مدركة، المتوفى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين: (اليقين الإيمان كله)؛ أي: التصديق القلبي هو نفس ذات الإيمان، وإنما أكده بـ (كل) الدالة على التبعيض؛ باعتبار فروع الإيمان، وهذا التعليق طرف من أثر رواه الطبراني، وتتمته: (والصبر نصف الإيمان)؛ أي: ثواب الصبر على المشقة يعدل ثواب نصف الثواب الحاصل من الإيمان، فلا دلالة فيه أيضًا على التجزئة؛ كما قيل؛ فليحفظ؛ فافهم.
(وقال ابن عمر) عبد الله
%ص 11%
وجدُّه الخطاب، أحد العبادلة السابقة للإسلام مع أبيه، المتوفى سنة ثلاث وسبعين (لا يبلغ العبد)؛ بالتعريف، وفي رواية: بالتنكير (حقيقة التقوى) التي أعلاها امتثال الأوامر واجتناب النواهي كلها، وأدناها وقاية الشرك (حتى يدع ما حاك) بالمهملة والكاف المخففة؛ أي: اضطرب (في الصدر) ولم ينشرح له، وفي رواية: بتشديد الكاف بدون ألف (ما حك)، وفي نسخة بالألف والتشديد من المحاكاة، وقد روى مسلم معناه من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع الناس عليه»؛ أي: من الأذى لإخوانك المؤمنين؛ والمعنى: لا يبلغ العبد التقوى الحقيقية العليا حتى يترك جميع المنهيات، حتى ما أضمره واضطرب في صدره من الأذى لإخوانه المؤمنين، فلا دالة فيه على الزيادة والنقصان، كما لا يخفى.
(وقال مجاهد) بن جَبْر بفتح الجيم وسكون الموحدة، غيرُ مصغَّر على المشهور، المخزومي مولى عبد الله بن السائب المخزومي، المتوفى سنة مئة وهو ساجد، في تفسير قوله تعالى: ({شَرَعَ لَكُم}) وفي رواية: ({مِّنَ الدِّينِ} [الشورى: 13])؛ أي: (أوصيناك يا محمد وإياه)؛ أي: نوحًا (دينًا واحدًا).
إنما خص نوحًا عليه السلام؛ لما قيل: إنه الذي جاء بتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأول من جاء بتحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، لا يقال: إن (إياه) تصحيف، وإن الصواب: وأنبياءه، وكيف يفرد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة؟ لأنا نقول: إن نوحًا أفرد في الآية، وبقية الأنبياء عطف عليه، وهم داخلون فيما وصى به نوحًا وكلهم مشتركون في ذلك، فذكر واحد يغني عن الكل، على أن نوحًا أقرب مذكور في الآية، فليس بتصحيف، وهذا التعليق أخرجه عبد بن حميد في «تفسيره» عن شبابة.
(وقال ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهمافي تفسير قوله تعالى: ({شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]: سبيلًا)؛ أي: طريقًا واضحًا (وسنةٌ)، لفٌّ ونشر مشوَّش، يعني: أن معنى {شرعة}: سنة، ومعنى {منهاجًا}: سبيلًا، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في «تفسيره».
==================
(1/20)
(2) [بابٌ: دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ]
وفي رواية: (باب) بالتنوين: (دعاؤكم إيمانكم)، وفي رواية: (لقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77])، ومعنى الدعاء في اللغة: الأمان؛ من الأمن، ضد الخوف، والمعنى: لا يعتد الله بكم لولا دعاؤكم معه آلهة؛ وهو خطاب لكفار قريش، وجواب لولا محذوف تقديره: لولا دعاؤكم لما خلقكم ولما اعتنى بشأنكم، فلا دلالة فيه على أن الإيمان عمل، وقيل: معناه الغوث، وقد دعا؛ أي: استغاث، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؛ فتأمل.
وهذا التعليق وصله ابن جرير من قول ابن عباس.
==========
%ص 12%
==================
(1/21)
[حديث: بني الإسلام على خمس]
8# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبيد الله) بالتصغير، وفي رواية: (وحدثنا) محمد بن إسماعيل؛ يعني: البخاري، حدثنا عبيد الله (بن موسى) بن باذام بالموحدة، وبالذال المعجمة، آخره ميم، العَبْسي بفتح العين وتسكين الموحدة، وكان شيعيًّا؛ وهو مقبول الرواية في غير الداعي إلى بدعتهم، المتوفى سنة ثلاث عشرة ومئتين بالإسكندرية.
(قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (حنظلة بن أبي سفيان) بن عبد الرحمن الجمحي المكي، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة، (عن عكرمة بن خالد) بن العاص، المخزومي، القرشي، المتوفى بمكة بعد عطاء؛ وهو توفي سنة أربع عشرة ومئة، (عن ابن عمر) عبد الله بن الخطابرضي الله عنهم، وكان واسع العلم، توفي سنة ثلاث وسبعين، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام) الذي تقدم أنَّه الانقياد (على خمس)؛ أي: خمس دعائم، وقيل: (على) بمعنى (من)؛ أي: بني الإسلام من خمس؛ فتأمل.
(شهادة أن لا إله إلا الله) بخفض (شهادة) بدل من (خمس)، وكذا ما بعدها، ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وهي، والنصب بتقدير: أعني، و (لا) هي النافية للجنس، و (إله) اسمها مركب معها تركيب مزج كـ (أحد عشر)، وفتحته فتحة بناء، وعند الزجاج: فتحة إعراب؛ لأنَّه عنده منصوب بها لفظًا وخبرها محذوف اتفاقًا تقديره: موجود، و (إلا) حرف استثناء، والاسم الكريم مرفوع على البدلية من الضمير المستكن في الخبر، وقيل: مرفوع على الخبرية لقوله: (لا)، وعليه جماعة، وهذا التركيب عند علماء المعاني يفيد القصر، وهو في هذه الكلمة من باب قصر الصفة على الموصوف، لا العكس؛ لأنَّ (إله) في معنى الوصف.
وإنما قدم النفي على الإثبات فقيل: لا إله، ولم يقل: الله لا إله إلا هو، بتقديم الإثبات على النفي؛ لأنَّه إذا نفى أن يكون ثَمَّ إله غيره؛ فقد فرَّغ قلبه مما سوى الله بلسانه ليواطئ القلب، وليس مشغولًا بشيء سوى الله تعالى، فيكون نفي الشريك عن الله بالجوارح الظاهرة والباطنة.
(و) شهادة (أن محمدًا رسول الله) وإنما لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة؛ لأنَّ المراد بـ (الشهادة): تصديق الرسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من الاعتقادات، (وإقام الصلاة)؛ أي: الإتيان بها على وجهها المعلوم عند الفقهاء، (وإيتاء الزكاة)؛ أي: إعطائها مستحقيها بإخراج جزء من المال على الوجه المخصوص؛ كما يأتي، (والحج) إلى بيت الله الحرام، (وصوم) شهر (رمضان).
وإنما لم يذكر الجهاد؛ لأنَّه فرض كفاية، ولا يتعيَّن إلَّا في بعض الأحوال، ووجه الحصر في الخمسة؛ أن العبادة: إما قوليَّة أو غيرها، الأولى الشهادتان، والثانية: إما تَركيَّة أو فعليَّة، الأولى الصوم، والثانية إما بدنيَّة أو ماليَّة، الأولى الصلاة، والثانية الزكاة، أو مركَّبة منهما؛ وهي الحج، وفي رواية تأخير الحج عن صوم رمضان، وفي قوله: (بني ... إلى آخره)؛ استعارة تبعية وبالكناية وتمثيلية، كما لا يخفى.
==========
%ص 12%
==================
(1/22)
(3) [باب أمور الإيمان]
هذا (باب أمور الإيمان) الإضافة بمعنى اللام؛ أي: باب الأمور الثابتة للإيمان في تحقيق ثمراته وضيائه، وقيل: إن الإضافة بيانية بناء على أن الأعمال هي الإيمان، وفي رواية: (أمر الإيمان) بالإفراد على إرادة الجنس، (وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على (أمور)، وفي رواية: (عز وجل): ({لَيْسَ البِرَّ}) الفعل الخير ({أَن تُوَلُّوا}) الخطاب لليهود والنصارى في دعوى القبلة، ({وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ}) قبلة النصارى ({وَالْمَغْرِبِ}) قبلة اليهود؛ أي: ليس البر مقصورًا على أمر القبلة، أو ليس البر ما أنتم عليه؛ فإنه منسوخ ({وَلَكِنَّ البِرَّ}) الذي يهتم به ({مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ}) القرآن أو أعم ({وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ}) تعالى أو حب المال ({ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى}) المحاويج منهم، ولم يقيده؛ لعدم الإلباس، ({وَالْمَسَاكِينَ}) جمع: مسكين؛ مَن لا شيء له، لقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]؛ أي: صاحب تراب، ({وَابْنَ السَّبِيلِ}) المسافر، وقيل: الضيف، ({وَالسَّائِلِينَ})؛ أي: الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ({وَفِي الرِّقَابِ})؛ أي: تخليصها بمعاونة المكاتبين، أو فك الأسارى، أو ابتياع الرقاق لعتقها، ({وَأَقَامَ [الصَّلاةَ] وَآتَى الزَّكَاةَ}) المفروضتين؛ أي: أداها في مصارفها، ({وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}) عطف على {مَنْ آمَنَ}، ({وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاء}) الفقر ({وَالضَّرَّاءِ}) نصب على المدح ولم يعطف؛ لفضل الصبر: المرض، هذا هو المشهور؛ فليحفظ، ({وَحِينَ البَأْسِ}) وقت الجهاد ({أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}) في الدين وطلب البر ({وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البقرة: 177]) عن الكفر وسائر الرذائل، وفي رواية بإسقاط قوله {ولكن البر ... } إلى آخر الآية، وفي رواية بإسقاط: {وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
وهذه الآية جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها، فمن عمل بها؛ فقد تحققت ثمرات الإيمان عنده، وأشرق نوره وضياؤه، وفي حديث أبي ذر عند عبد الرزاق: أنَّه عليه السلام سئل عن الإيمان فتلا عليه هذه الآيات، ولم يذكره المؤلف؛ لأنَّه ليس على شرطه.
وقال الله عزَّ وجلَّ: ({قَدْ أَفْلَحَ})؛ أي: فاز ({المُؤْمِنُونَ} ... الآية) [المؤمنون: 1] بإسقاط واو العطف؛ لعدم الإلباس، قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون ساقه تفسيرًا لقوله: ({هم المتقون} [البقرة: 177]) تقديره: هم الموصوفون بقوله: ({قد أفلح})، وفي رواية الأصيلي: (وقد أفلح) بإثبات الواو، وفي رواية ابن عساكر: (وقوله: {قد أفلح})، قلت: وهذا يرد ما قاله ابن حجر في «فتحه»: من احتمال التفسير مع ما فيه من البعد، أفاده القسطلاني، ويجوز في قوله: (الآية)؛ النصب بتقدير: اقرأ، والرفع مبتدأ خبره محذوف.
==========
%ص 12%
==================
(1/23)
[حديث: الإيمان بِضعٌ وستونَ شعبة]
9# وبالسند قال: (حدثنا عبد الله بن محمد) بن جعفر المُسْنَدي؛ بضم الميم، وسكون المهملة، وفتح النون، سمي به؛ لأنَّه كان يطلب المسندات، أو لأنَّه؛ أول من جمع مسند الصحابة على التراجم بما وراء النهر، وفي رواية: (الجعفي) المتوفى سنة تسع وعشرين ومئة، (قال: حدثنا أبو عامر) عبد الملك بن عمرو بن قيس العقدي؛ بفتح العين المهملة والقاف: نسبة إلى العقد؛ قوم من قيس؛ قبيلة من اليمن، أو بطن من الأزد، المتوفى سنة خمس ومئتين، (قال: حدثنا سليمان بن بلال) القرشي المدني، المتوفى سنة اثنين وسبعين ومئة، (عن عبد الله بن دينار) القرشي العدوي المدني، مولى ابن عمر، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئة، (عن أبي صالح) ذكوان السمان الزيات المدني، المتوفى سنة إحدى ومئة، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه تصغير (هرة): عبد الرحمن بن صخر الدوسي، المختلف في اسمه على أكثر من ثلاثين قولًا، المتوفى بالمدينة سنة تسع وخمسين، (عن النبي) الأعظم (صلى الله) تعالى (عليه وسلم): أنه (قال: الإيمان) بالرفع مبتدأ، وخبره (بضع)؛ بكسر الموحدة وقد تفتح.
قال الفراء: هو خاص
%ص 12%
بالعشرات إلى التسعين، فلا يقال: بضع ومئة ولا بضع وألف، انتهى، وفي «القاموس»: هو ما بين الثلاث إلى التسع، أو إلى الخمس، أو ما بين الواحد إلى أربع، أو من أربع إلى تسع، أو هو سبع، وإذا جاوز العشر؛ ذهب البضع، لا يقال: بضع وعشرون، أو يقال ذلك، انتهى، ويكون مع المذكر بهاء، ومع المؤنث بغير هاء، فتقول: بضعة وعشرون رجلًا، وبضع وعشرون امراة، ولا تعكس، وفي رواية: (بضعة).
(وستون شعبة) بتأنيث بضعة على تأويل الشعبة بالنوع؛ إذا فسرت الشعبة بالطائفة من الشيء، وقال الإمام شهاب الدين الكرماني: إنَّها في أكثر الأصول، قال ابن حجر: بل هي في بعضها، واعترضه الإمام بدر الدين العيني، ورجح قول الكرماني، وقال: إنه الصواب، ورجح القسطلاني قول ابن حجر؛ تعصبًا.
وقد وقع عند مسلم عن عبد الله بن دينار: (بضع وستون أو بضع وسبعون) على الشك، وعند أصحاب «السنن»: (بضع وسبعون) من غير شك، وهل المراد حقيقة العدد أم المبالغة؟ قيل: الظاهر أنه معنى التكثير، ويكون ذكر البضع؛ للترقي؛ يعني: أن شعب الإيمان أعداد مبهمة ولا نهاية لكثرتها، ولو أراد التحديد؛ لم يبهم، وقيل: المراد حقيقة العدد، ويكون النص وقع أولًا على البضع والستين؛ لكونه الواقع، ثم تجددت العشرة الزائدة، فنص عليها؛ فتأمل.
(والحياء) بالمد، وهو شرعًا: خلق يَبعث على اجتناب القبيح وفعل الحسن؛ وهو مبتدأ، خبره (شعبة)، وقوله: (من الإيمان) صفة لـ (شعبة)، وإنما خصه بالذكر؛ لأنَّه كالداعي إلى باقي الشعب؛ لأنَّه يبعث على الخوف من فضيحة الدنيا والآخرة، وانظر إلى قول الرسول الأعظم عليه السلام: «استحيوا من الله حق الحياء»، قالوا: إنا لنستحي من الله يا رسول الله والحمد لله، قال: «ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء؛ أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى، فمن يعمل ذلك؛ فقد استحى من الله حق الحياء».
لا يقال: إن الحياء من الغرائز فلا يكون من الإيمان؛ لأنَّه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقًا، إلا أن استعماله على وَفق الشرع؛ يحتاج إلى اكتساب، وعلم، ونية، فمن ثَمَّ كان من الإيمان، وقد زاد مسلم على ما هنا: (فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، واستدل بهذا القائلون: بأن الإيمان فعل الطاعات بأسرها، والقائلون: بأنه مركب من التصديق، والإقرار، والعمل جميعًا.
وأجيب بأن المراد شعب الإيمان قطعًا لا نفس الإيمان؛ فإن إماطة الأذى عن الطريق ليس داخلًا في أصل الإيمان حتى يكون فاقده غير مؤمن، فلا بد في الحديث من تقدير مضاف، فالمراد: ثمرات الإيمان؛ لأنَّ الأعمال غير داخلة في الإيمان؛ لما مر أن حقيقة الإيمان؛ هو التصديق، ولأنه قد ورد في الكتاب والسنة عطف الأعمال على الإيمان؛ كقوله تعالى: ({إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 107]) مع القطع بأن العطف يقتضي المغايرة وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه.
وورد أيضًا: جعل الإيمان شرط صحة الأعمال؛ كما في قوله تعالى: ({وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112]) مع القطع بأنَّ المشروط لا يدخل في الشرط؛ لامتناع اشتراط الشيء بنفسه، وورد إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال؛ كما في قوله تعالى: ({وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]) على ما مر؛ من أن العبد لا يخرج بالمعصية عن الإيمان مع القطع بأنَّه تحقق للشيء بدون ركنه؛ فهذا دليل على أن الأعمال غير داخلة في الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ كما علمت؛ فليحفظ.
==================
(1/24)
(4) [بابٌ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ]
(باب) بالتنوين: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وسقط لفظ (باب) للأصيلي.
==========
%ص 13%
==================
(1/25)
[حديث: المسلمُ مَنْ سلمَ المسلمونَ مِنْ لسانهِ]
10# وبه قال: (حدثنا آدم بن أبي إياس)؛ بكسر الهمزة، وتخفيف المثناة التحتية، آخره سين مهملة، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا شعبة) ولابن عساكر: (عن شعبةَ)؛ غير منصرف، ابن الحجاج بن الورد الواسطي، المتوفى بالبصرة سنة ستين ومئة، (عن عبد الله بن أبي السَّفَر) بفتح المهملة والفاء، وحُكي إسكانها؛ ابن يُحمد؛ بضم المثناة التحتية وفتح الميم أو بكسرها، الهمداني الكوفي، المتوفى في خلافة مروان بن محمد، (و) عن (إسماعيل) وفي رواية: (ابن أبي خالد)؛ أي: الأحمسي، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، كلاهما (عن الشعبي) بفتح المعجمة، وسكون المهملة، وكسر الموحدة؛ نسبة إلى (شَعب) بطن من همدان، أبي عمرو عامر بن شراحيل، الكوفي التابعي، قاضي الكوفة، المتوفى بعد المئة، (عن عبد الله بن عمرو) ابن العاصي القرشي السهمي، المتوفى بمكة، أو الطائف، أو مصر، سنة خمس وسبعين، وكان أسلم قبل أبيه، وكان بينه وبينه في السن إحدى عشرة سنة كما جزم المزي، قاله القسطلاني، ((عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: المسلم)؛ الذي وجد حلاوة الإيمان (من سلم المسلمون) وكذا المسلمات وأهل الذمة إلَّا في حدٍّ، أو تعزير، أو تأديب (من لسانه ويده)؛ وهذا من جوامع كلمه عليه السلام، والذي وجد حلاوة الإيمان؛ هو الذي وجد فيه هذه الصفة وباقي الصفات التي هي الأركان، وعبَّر باللسان دون القول؛ ليدخل فيه من أخرج لسانه استهزاءً بصاحبه، وقدَّمه على اليد؛ لأنَّ إيذاءه أكثر وقوعًا وأشد نكاية، ولله در القائل:
... ~جراحاتُ السنانِ لها التئامُ ... ولا يلتام ما جرحَ اللِّسانُ
وخص اليد مع أن الفعل قد يحصل بغيرها؛ لأنَّ سلطنة الأفعال إنَّما تظهر بها، والظاهر أنَّ المراد من الحديث؛ ما هو أعم من الجارحة، كالاستيلاء على حق الغير من غير حق؛ فإنَّه إيذاء، لكنه ليس باليد الحقيقي؛ فتأمل، (والمهاجر) معطوف على ما قبله؛ أي: المهاجر حقيقة (من هجر)؛ أي: ترك (ما نهى الله عنه) كأنَّ المهاجرين خوطبوا بذلك؛ لئلا يتَّكلوا على مجرد الانتقال من دارهم، وأوقع ذلك بعد انقطاع الهجرة؛ تطييبًا لقلوب من لم يدرك ذلك.
(قال أبو عبد الله))؛ أي: البخاري، وفي رواية: بإسقاطها: (وقال أبو معاوية) محمد بن خازم بالمعجمتين، الكوفي، قيل: كان مُرجئيًّا، المتوفى سنة خمس وتسعين ومئة في صفر، (حدثنا داود) وفي رواية: (هو ابن أبي هند)؛ أي: المتوفى سنة أربعين ومئة، (عن عامر) الشعبي السابق قريبًا، (قال: سمعت عبد الله بن عمرو) في رواية: (هو ابن عمرو [1])، وفي أخرى: (يعني: ابن عمرو) (عن النبي)) الأعظم (صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي بالمهملة، من بني سامة بن لؤي القرشي البصري، المتوفى في شعبان سنة سبع وثمانين ومئة (عن داود) بن أبي هند السابق (عن عامر)؛ أي: الشعبي، (عن عبد الله) بن عمرو بن العاص (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وهذا التعليق وصله إسحاق ابن راهويه في «مسنده».
==========
[1] في الأصل: (عمر)، وليس بصحيح.
%ص 13%
==================
(1/26)
(5) [بابٌ أيُّ الإسلامِ أفضل؟]
(باب) بالتنوين (أيُّ الإسلام أفضل؟)
==========
%ص 13%
==================
(1/27)
[حديث: يا رسولَ اللهِ أيُّ الإسلامِ أفضلُ؟]
11# وبه قال: (حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي) بجر الياء؛ صفة لـ (سعيد) الثاني المتوفى سنة سبع وأربعين ومئتين، وسقط عند الأصيلي: (ابن سعيد القرشي) (قال: حدثنا أبي) يحيى بن سعيد المتوفى سنة أربع وسبعين ومئة (قال: حدثنا أبو بُرْدة) بضم الموحدة وسكون الراء، واسمه: بُريد بالتصغير (بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بُردة)؛ بضم الموحدة؛ جدّ الذي قبله، وافقه في الكنية لا في الاسم، واسمه عامر، المتوفى بالكوفة سنة ثلاث ومئة، (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس بن سُليم؛ بضم السين، الأشعري نسبة إلى الأشعر؛ لأنَّه ولد أشعر، المتوفى بالكوفة سنة خمس وأربعين، (رضي الله عنه قال: قالوا)، وعند مسلم: (قلنا) وعند ابن منده: (قلت): (يا رسول الله؛ أي) وشرطها: أن تدخل على متعدد؛ وهو هنا مقدر: بذوي؛ أي: أيُّ أصحاب (الإسلام أفضل؟)، وعند مسلم: (أي المسلمين أفضل؟) (قال) عليه السلام: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)؛ أي: أفضل من غيره؛ لكثرة ثوابه من حيث الأعمال الخالصة لوجهه تعالى، فيضيء نورها في وجهه؛ كما قدمنا.
==========
%ص 13%
==================
(1/28)
(6) [بابٌ إطعامُ الطعام مِنَ الإسلامِ]
هذا (باب) بالتنوين، وهو ساقط عند الأصيلي (إطعام الطعام من الإسلام)، وللأصيلي: (من الإيمان)؛ أي: من خصاله.
==========
%ص 13%
==================
(1/29)
[حديث: أن رجلًا سأل النبيَّ: أي الإسلام خير؟]
12# وبه قال: (حدثنا عَمرو بن خالد)؛ بفتح العين، ابن فَرُّوخ؛ بفتح الفاء، وتشديد الراء مضمومة، آخره معجمة، الحرَّاني البصري، المتوفى بها سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا الليث) بالمثلثة؛ ابن سعد الفهمي، وفهم؛ من قيس عيلان المصري، الإمام الجليل المشهور، القلقشندي المولد، الحنفي المذهب على التحقيق، وما قاله القسطلاني: من أنَّ المشهور أنَّه كان مجتهدًا فتعصب؛ لأنَّه لم يشتهر إلَّا عنده، المتوفى في نصف شعبان، سنة خمس وسبعين ومئة، (عن يزيد) أبي رجاء بن أبي حبيب، التابعي الجليل، مفتي مصر، المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة، (عن أبي الخير) مرثَد؛ بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة: ابن عبد الله اليزني؛ نسبة إلى ذي يزن، المتوفى سنة تسعين (عن عبد الله
%ص 13%
ابن عمرو) أي: ابن العاصي (رضي الله عنهما: أن) بفتح الهمزة (رجلًا) هو أبو ذر؛ فليحفظ، (سأل النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم: أي) خصال (الإسلام خير؟ قال) وفي رواية: (فقال)؛ أي: النبي عليه السلام: (تطعم) الخلق (الطعام)، و (تطعم) محله رفع خبر مبتدأ محذوف؛ بتقدير: (أن)؛ أي: وهو أن تطعم الطعام، فـ (أن) مصدرية، والتقدير: هو إطعام الطعام، ولم يقل: تؤكِل الطعام ونحوه؛ لأنَّ لفظ الإطعام يشمل الأكل، والشرب، والإعطاء، (وتَقرأُ)؛ بفتح التاء وضم الهمزة: مضارع (قرأ)، (السلام على من عرفت ومن لم تعرف) من المسلمين، فلا تخص به أحدًا؛ تكبرًا وتجبرًا، بل عُمَّ به كل أحد؛ لأنَّ المؤمنين إخوة، وحذف العائد في الموضعين؛ للعلم به، والتقدير: على من عرفتَه ومن لم تعرفه، وإنَّما لم يقل: وتسلم؛ حتى يتناول سلام الباعث بالكتاب المتضمن للسلام.
==================
(1/30)
(7) [بابٌ من الإيمان أن يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه]
هذا (باب)؛ بالتنوين، وهو ساقط في رواية (من الإيمان أن يحب لأخيه) المسلم وكذا المسلمة مثل (ما) أي: الذي (يحب لنفسه).
==========
%ص 14%
==================
(1/31)
[حديث: لا يومنُ أحدكمْ حتَّى يحبَّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسهِ]
13# وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد)؛ بضم الميم، وفتح السين، وتشديد الدال المهملتين: ابن مُسرهد [بن مسربل] بن مرعيل [1] بن أرندل بن سرندلبن عرندل [2] بن ماسك بن مستورد [3] الأسدي البصري، المتوفى في رمضان سنة ثلاث وعشرين ومئتين.
(قال: حدثنا يحيى) بن سعيد بن فَرُّوخ؛ بفتح الفاء، وتشديد الراء مضمومة، آخره خاء معجمة، غير منصرف؛ للعجمة والعلمية، القطان التميمي البصري المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، (عن شعبة) بضم المعجمة؛ ابن الحجاج الواسطي البصري المتقدم، (عن قتادة) بن دِعامة_ بكسر الدال_ ابن قتادة السدوسي؛ نسبة لجده الأعلى، الأكمه البصري، التابعي، المتوفى بواسط سنة سبع عشرة ومئة، (عن أنس)؛ هو ابن مالك بن النضر _بالنون والضاد المعجمة_: الأنصاري النجَّاري، خادم رسول الله عليه السلام تسع سنين، آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة ثلاث وتسعين، (رضي الله عنه، عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، ثم عطف على شعبة قوله: (وعن حسين)؛ بالتنوين: ابن ذكوان (المعلم) البصري (قال: حدثنا قتادة) بن دِعامة المتقدم؛ فكأنه قال: عن شعبة وحسين، كلاهما عن قتادة، وأفردها؛ تبعًا لشيخه، وليست طريقة حسين معلَّقة؛ بلموصولة؛ كما رواها أبو نُعيم، وما قيل: إن قتادة مدلس ولم يصرح بالسماع؛ مردود، فإنَّه صرح أحمد والنسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس؛ فليحفظ.
(عن أنس) وفي رواية: (عن أنس بن مالك) (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن) وفي رواية: (أحدكم) وفي أخرى: (أحد)، وفي أخرى: (عبدٌ الإيمان الكامل) (حتى يحب لأخيه) المسلم وكذا المسلمة مثل (ما يحب لنفسه)؛ أي: الذي يحب لنفسه من الخير، وهذا وارد مورد المبالغة، وإلَّا فلا بد من بقية الأركان، ولم ينص على أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه؛ لأنَّ حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، ويدخل في عموم (أخيه) الذميُّ؛ بأن يحب له الإسلام ويبغض له الكفر، ويؤيِّده حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدَّ خمسًا قال: «اتَّق المحارم؛ تكن أعبد الناس، وارض بما قسم لك؛ تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك؛ تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك؛ تكن مسلمًا ... » الحديث، رواه الترمذي وغيره.
========
[1] في الأصل: (مرعيل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[2] في الأصل: (عزندل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[3] في الأصل: (مستودد)، والمثبت موافق لما في المصادر.
%ص 14%
==================
[1] في الأصل: (مرعيل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[2] في الأصل: (عزندل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[1] في الأصل: (مرعيل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[2] في الأصل: (عزندل)، والمثبت موافق لما في المصادر.
(1/32)
(8) [بابٌ حبُّ الرسول من الإيمان]
(بابٌ) بالتنوين: (حب الرسول) الأعظم نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم من الإيمان).
==========
%ص 14%
==================
(1/33)
[حديث: فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه]
14# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع المتقدم (قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة الحمصي، (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (أبو الزِّناد)؛ بكسر الزاي وبالنون: عبد الله بن ذكوان المدني، القرشي، التابعي، المتوفى سنة ثلاثين ومئة، (عن الأعرج) أبي داود عبد الرحمن بن هرمز التابعي المدني القرشي، المتوفى بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومئة على الأصح، (عن أبي هريرة) نقيب أهل الصُّفَّة (رضي الله عنه: أن) بفتح الهمزة (رسول الله) وفي رواية: (عن النبي) أي: الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: فو) الله (الذي) بالفاء، وفي رواية: (والذي) (نفسي) أي: روحي (بيده)؛ أي: بقدرته، أو هو من المتشابه المفوَّض علمه إلى الله تعالى، والأول أعلم، والثاني أسلم.
وروي عن إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم _وحيث أطلق لا يراد به إلَّا أبو حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنه، وأسكنه في أعلى الجنان_ يلزم من تأويلها بالقدرة عين التعطيل، فالسبيل إليه كأمثاله: الإيمان به على ما أراد سبحانه، ونكف عن الخوض في تأويله فنقول: له يد على ما أراد لا كيَد المخلوق؛ وهكذا، انتهى.
وأقسم تأكيدًا، وفيه إشارة إلى جواز القسم على الأمر المهم للتأكيد وإن لم يكن هناك مستحلِف، والمقسَم عليه هنا قوله: (لا يؤمن أحدكم)؛ أي: لا يجد حلاوة الإيمان (حتى أكون أحب إليه) (أفعل) تفضيل بمعنى المفعول، وهو هنا مع كثرته _على غير قياسٍ_ منصوب خبرًا لـ (أكون)، وفصل بينه وبين معموله بقوله: (إليه)؛ لأنَّه يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره، (من والده) أبيه؛ أي: وأمه، وإنَّما خصَّ الأب واكتفى به؛ لما أنه يعلمه طريق الحق المستقيم، والاختلاط بالأولياء، والعلماء، والصالحين، وأحكام الله تعالى، بخلاف الأم، فهو أحق بالمحبة من الأم؛ فلذا اكتفى عليه السلام به، (وولده) ذكرًا أو أنثى، وعند النسائي: قدم الولد على الوالد؛ وذلك لمزيد الشفقة والرحمة، وأنه بضعة منه، وأنه يخلفه في داره، وعرضه، وماله، ويدعوله بعد موته، فهي صدقة جارية، فلا شك في كونه محبوبًا.
==========
%ص 14%
==================
(1/34)
[حديث: لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده]
15# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (يعقوب) أبو يوسف (بن إبراهيم) بن كثير الدورقي العبدي المتوفى سنة اثنتين وخمسين ومئتين (قال: حدثنا ابن عُلَيَّة)؛ بضم العين المهملة، وفتح اللام، وتشديد المثناة تحت؛ نسبة إلى أمه، واسمه: إسماعيل بن إبراهيم بن سهم البصري الأسدي، أسد خزاعة، الكوفي الأصل، المتوفى ببغداد سنة أربع وتسعين ومئة، (عن عبد العزيز بن صُهَيْب)؛ بضم الصاد المهملة، وفتح الهاء، وسكون المثناة تحت، آخره موحدة: البُناني؛ بضم الموحدة وبالنون؛ نسبة إلى (بنانه)؛ بطن من قريش، التابعي كأبيه، (عن أنس) وفي رواية: (ابن مالك)، (عن النبي) الأعظم، وفي رواية: (عن أنس قال: قال النبي)؛ أي: الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، ولفظ متن هذا السند؛ كما رواه ابن خزيمة عن يعقوب بهذا الإسناد: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله).
(ح) علامة للتحويل: (وحدثنا آدم) بن أبي إياس بالواو، عطف على السند السابق، العاري عن المتن، الموهمة لاستواء السندين في المتن الآتي، وليس كذلك؛ فليحفظ، (قال: حدثنا شعبة) بن الحجاج، (عن قتادة) بن دِعامة، (عن أنس) أنه (قال: قال النبي) الأعظم، وفي رواية: (قال رسول الله) (صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم)؛ أي: لا يجد حلاوة الإيمان (حتى أكون أحبَّ) بالنصب (إليه من والده) أبيه وأمه أو أعم (وولده) ذكرًا أو أنثى (والناس أجمعين)؛ هذا من باب عطف العام على الخاص، وتدخل النفس في عموم الناس؛ لما يأتي في حديث عبد الله بن هشام من التنصيص على ذكر النفس، والمراد هنا: المحبة الإيمانية؛ وهي اتباع المحبوب، لا الطبيعية، ومن ثم لم يحكم بإيمان أبي طالب مع حبه له عليه السلام، على ما لا يخفى.
==================
(1/35)
(9) [بابُ حلاوةِ الإيمان]
هذا (باب حلاوة الإيمان) والمراد: أن الحلاوة من ثمراته؛ فهي أصل زائد عليه، وسقط لفظ (باب) عند الأصيلي.
==========
%ص 14%
==================
(1/36)
[حديث: ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان]
16# وبه قال: (حدثنا محمد بن المثنى) بالمثلثة ابن عبيد العنَزي؛ بفتح النون بعدها زاي؛ نسبة إلى عنَزة بن أسد؛ حي من ربيعة، البصري، المتوفى بها سنة اثنتين وخمسين ومئتين، (قال: حدثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد بن الصلت (الثقفي) بالمثلثة، بعدها قاف، ثم فاء؛ نسبة إلى ثقيف، البصري، المتوفى سنة أربع وتسعين ومئة.
(قال: حدثنا أيوب) بن أبي تميم، واسمه: كيسان السختياني؛ بفتح المهملة؛ نسبة لبيع السختيان؛ وهو الجلد، البصري، المتوفى بها سنة إحدى وثلاثين ومئة.
(عن أبي قِلابة)؛ بكسر القاف وبالموحدة: عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر، البصري المتوفى بالشام سنة أربع ومئة، (عن أنس) وفي رواية: (ابن مالك) (رضي الله عنه عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: ثلاث)؛ أي: ثلاث خصال، مبتدأ خبره جملة (من كن فيه؛ وجد)؛ أي: أصاب (حلاوة الإيمان)؛ ولذلك اكتفى بمفعول واحد، والمراد بـ (حلاوة الإيمان): استلذاذه بالطاعات وانشراح الصدر لها؛ بحيث يخالط لحمه ودمه، فيتنور وجهه، ويحصل له التوفيق الإلهي، فيترك المنهيات ويفعل المأمورات؛ (أن يكون الله) تعالى (ورسوله) عليه السلام (أحب) أفرد الضمير فيه؛ لأنَّه أفعل تفضيل، وهو إذا وُصل بـ (من) أفرد دائمًا (إليه مما) إنَّما قال: (مما) ولم يقل: (ممن)؛ ليعم العاقل وغيره، (سواهما) عبر بالتثنية؛ إشارة إلى أن المعتبر: هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما؛ فإنَّها وحدها لاغية إذا لم تربط بالأخرى، ولا يعارض تثنية الضمير هنا بقصة
%ص 14%
الخطيب؛ حيث قال:
ومن يعصهما؛ فقد غوى، فقال له عليه السلام: «بئس الخطيب أنت»، فأمره بالإفراد؛ إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزامه الغواية، وقيل: إنه من الخصائص فيمتنع من غيره عليه السلام، والمراد بـ (الحب) هنا العقلي؛ وهو إيثار ما يقتضي العقل رجحانه، ويستدعي اختياره، وإن كان على خلاف هواه؛ فتأمل.
(وأن يحب) المتلبس بها (المَرء) بفتح الميم حال كونه (لا يحبه إلا لله) عز وجل، (وأن يكره) المكروه ضد المحبوب (أن يعود)؛ أي: العود (في الكفر كما يكره أن يُقذَف)؛ بضم أوله وفتح ثالثه؛ أي: مثل كرهه القذف (في النار)؛ وهذا نتيجة حلاوة الإيمان بظهور نوره، وضياء محاسنه، وقبح الكفر وشينه، وإنما عَدَّى (العَوْد) بـ (في) ولم يُعَدِّه بـ (إلى).
أجاب الإمام شهاب الدين الكرماني: بأنه ضمِّن معنى الاستقرار؛ كأنَّه قال: أن يعود مستقرًا فيه، وارتضاه ابن حجر العسقلاني وأجاب به، واعترضه الإمام بدر الدين العيني: بأنَّ هذا تعسف، وإنما (في) هنا؛ بمعنى (إلى) كقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]؛ أي: لتصيرنَّ إلى ملتنا، قلت: وهو وجيه، كما لا يخفى على من له أدنى حظ في العلم، فرحم الله هذا الإمام ما أعلمه في المنطوق، والمفهوم، والحجة، والبرهان، وما ذاك إلا من الحنان المنان، اللهم إنِّي أسألك بسيدنا النبي الأعظم عليه السلام وبقدوتنا الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ أن يطيل عمري في طاعتك، ويرزقني العلم النافع، والرزق الواسع، ويقهر أعدائي قهرًا يمنع عنهم الراحة والقرار، ويضيِّق عليهم فسيح الأرض، وواسع الأقطار، وأن يدخلني الجنة، وأن يكثر أولادي ويجعلهم من الصالحين، آمين.
==================
(1/37)
(10) [بابٌ علامة الإيمان حب الأنصار]
ولما ذكر المؤلف حلاوة الإيمان؛ أراد أن يبين علامته؛ فقال: (باب) بالتنوين: (علامة) حلاوة (الإيمان حب الأنصار) فـ (علامة) مبتدأ، خبره (حب)، وسقط التنوين للأصيلي ونسخة، فقوله: (علامة) مجرور بالإضافة.
==================
(1/38)
[حديث: آية الإيمان حب الأنصار]
17# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي؛ نسبة لبيع الطيالسة، البصري، المتوفى سنة عشرين ومئتين، (قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الله بن عبد الله) بفتح العين فيهما (بن جَبْر) بفتح الجيم وسكون الموحدة، الأنصاري المدني (قال: سمعت أنسًا) وفي رواية: (أنس بن مالك) (رضي الله عنه عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: آية)؛ أي: علامة حلاوة (الإيمان)؛ بالهمزة الممدودة والمثناة التحتية المفتوحة (حب الأنصار)؛ الأوس والخزرج، جمع قلة على وزن (أفعال)؛ لأنَّه معرفة، فلا فرق بين القلة والكثرة؛ فليحفظ.
وإنما قدَّرنا مضافًا؛ لظهور المراد على أنَّ العلامة في الشيء غير داخلة في حقيقته، فلا دلالة فيه على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ بل فيه دلالة واضحة على أن الأعمال خارجة عن الإيمان؛ وهي من ثمراته، وأما جواب بعضهم عن هذا؛ فلا ينهض دليلًا لمدّعاه، على أنَّه قد أجيب عنه بما يطول؛ فتأمل.
(وآية) بالمد؛ أي: علامة (النفاق)؛ وهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر (بغض الأنصار)؛ من حيث إنهم أنصاره عليه السلام، وهذا من أعلام النبوة؛ حيث أنبأنا أنه سيوجد بعدَه منافقون يُبغضون أنصاره، وإنما خُصُّوا بهذه المنقبة العظيمة؛ لما فازوا به من نصره عليه السلام، والسعي في إظهاره، مع معاداتهم جميع من وجد من قبائل العرب والعجم، وإنما عبر بالنفاق ولم يعبر بالكفر؛ لأنَّه ليس بكافر في الظاهر.
==================
(1/39)
(11) [باب]
(بابٌ) بالتنوين بدون ترجمة، ولفظ الباب؛ ساقط في رواية، فالحديث التالي من جملة الترجمة السابقة، وعلى روايةٍ إثباتُه؛ فهو كالفصل عن ما قبله مع تعلقه به.
==========
%ص 15%
==================
(1/40)
[حديث: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا]
18# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي (قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة القرشي (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو إدريس عائذ الله) بالمعجمة؛ اسم علم؛ أي: ذو عياذة بالله، فهو عطف بيان لقوله: (أبو إدريس) (بن عبد الله) الصحابي، ابن عمر الخولاني، الدمشقي، الصحابي؛ لأنَّ مولده كان عام حنين، التابعي من حيث الرواية، المتوفى بالشام بقرية داريا الكبرى سنة ثمانين: (أن عُبادة) بضم العين (بن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي، المتوفى بالرملة سنة أربع وثلاثين عن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين، (رضي الله عنه وكان شهد بدرًا)؛ أي: وقعتها، فالنصب بقوله: (شهد) وليس مفعولًا فيه؛ كذا قيل؛ وهي بئرٌ سميت باسم بانيها؛ بدر من بني النضر، (وهو أحد النقباء) جمع نقيب؛ وهو الناظر على القوم، وكانوا اثني عشر رجلًا (ليلة العقبة)؛ بمنى؛ أي: فيها، و (الواو) في (وهو) كواو (وكان) هي الداخلة على الجملة الموصوف بها؛ لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت ولا ريب أنَّ كون شهودِ عُبادةَ بدرًا وكونه من النقباء صفتان من صفاته، ولا يجوز أن تكون الواو للحال ولا للعطف؛ كذا قاله شيخ الإسلام بدر الدين العيني.
قيل: إن هذا ذكره ابن هشام في «المغني» معزيًا للفاضل الزمخشري، واعترضه ابن مالك في «شرح التسهيل»، وأجاب عنه نجم الدين سعيد، واعترضه الدماميني، وأجاب عنه الإمام العلامة الشُّمُنِّي الحنفي، وقد تبع جار الله الزمخشري في ذلك أبو البقاء الحنفي العكبري وقوَّاه؛ فليحفظ.
قيل: ويَحتمل أن يكون قائل ذلك أبا إدريس؛ فيكون متصلًا، وإن حُمل على أنه سمع ذلك من عُبادة أو الزهري؛ فيكون منقطعًا، والجملة اعتراض بين (أن) وخبرها الساقط من أصل الرواية، ولعلها سقطت من ناسخ بعدَه؛ بدليل ثبوتها عند المؤلف في (باب من شهد بدرًا)، والتقدير هنا: أنَّ عُبادة أخبر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحولَه) بالنصب على الظرفية (عِصابة)؛ بكسر العين؛ ما بين العشرة إلى الأربعين، وقوله: (من أصحابه) صفة لـ (عصابة)، والجملة اسمية، و (عصابة) مبتدأ، خبرُه (حولَه) مقدمًا، وإنما قال: (وهو أحد النقباء وإنه شهد بدرًا)؛ للتقوية والترجيح: (بايعوني)؛ أي: عاقدوني (على) التوحيد (ألَّا تشركوا بالله شيئًا)؛ أي: على ترك الإشراك، وهو عام؛ لأنَّه نكرة وهي سياق النهي كالنفي تعم، وقدَّمه؛ لأنَّه الأصل (و) على أن (لا تسرقوا) فيه حذف المفعول؛ ليدل على العموم (ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم) خصهم بالذكر؛ لأنَّهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإملاق، أو لأنَّ قتلهم؛ أكبر من قتل غيرهم؛ وهو الوأد؛ وهو أشنع القتل، أو إنه قتل وقطيعة رحم، فصرف العناية إليه أكثر، (ولا تأتوا) بحذف النون، وفي رواية: بإثباتها، (ببهتان)؛ أي: بكذب يبهت سامعه؛ أي: يدهشه؛ لفظاعته كالرمي بالزنا، وقوله: (تفترونه) من الافتراء؛ أي: تختلقونه (بين أيديكم وأرجلكم)؛ أي: من قِبل أنفسكم، فكنى باليد والرجل عن الذات؛ لأنَّ معظم الأفعال بهما (ولا تعصوا في معروف) قيَّد به مع أنه عليه السلام لا (يأمر) به؛ للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وخص ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره؛ للاهتمام به، (فمن وفى)؛ أي: ثبت على العهد، و (وفى) بالتخفيف، وفي رواية: بالتشديد (منكم؛ فأجره على الله) فضلًا ووعدًا بالجنة؛ كما وقع التصريح به في «الصحيحين»، وفي رواية الصنابحي عن عبادة، وعبر بلفظ (على) وبـ (الأجر)؛ للمبالغة في تحقق وقوعه؛ لأنَّه لا يجب على الله شيء عندنا، (ومن أصاب) منكم أيها المؤمنون (من ذلك شيئًا) غير الشرك بنصب (شيئًا) مفعول (أصاب) الذي هو صلة من الموصول المتضمن معنى الشرط، والجار للتبعيض، (فعوقب)؛ أي: به كما رواه أحمد؛ أي: بسببه (في الدنيا)؛ أي: بأن أقيم عليه الحد؛ (فهو)؛ أي: العقاب مع التوبة النصوحة (كفارة له) فلا يعاقب عليه في الآخرة، أما إذا لم يتب؛ فإنَّه يعاقب في الآخرة؛ لأنَّ الحدود شرعت لنفع الكافة من صيانة الأنساب، والأعراض، والأموال، وإقامة الحدود مع عدم التوبة؛ لا يفيد المقصود، فلا يكون الحد مطهرًا من الذنب؛ بل المطهر إنَّما هو التوبة عملًا بآية قُطاع الطريق؛ حيث قال الله تعالى بعد ذكر أحكامهم: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ*إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 33 - 34].
فأخبر تعالى أن آخر فعلهم؛ عقوبة دنيوية وأخروية، إلَّا من تاب؛ فإنَّها تسقط عنه الأخروية بالإجماع؛ للإجماع على أن التوبة لا تُسقط الحد في الدنيا، ويدل لهذا حديث أبي هريرة المروي عند البزار والحاكم وصححه أنه عليه السلام قال: «لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا».
وأما حديث علي وفيه: «ومن أصاب ذنبًا فعوقب فيه في الدنيا؛ فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة»؛ محمول على أنه عند العقوبة قد تاب عن الذنب، على أن قوله: (أن يثني ... إلى آخره)؛ دليل على أنه إذا لم يتب يعاقب في الآخرة؛ فافهم.
و (شيئًا): نكرةٌ؛ وهي تفيد العموم، فيشمل إصابة الشرك وغيره، وأجيب بأن المراد بالشرك؛ الإشراك بالله؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، وما قيل: إنه الشرك الأصغر وهو الرياء؛ فممنوع؛ لأنَّ الشارع إذا أطلق الشرك إنَّما يريد به ما يقابل التوحيد؛ فليحفظ.
(ومن أصاب من ذلك) المذكور (شيئًا) غير الشرك؛ كما مر، (ثم ستره الله) وفي رواية: (عليه)؛ (فهو) مفوض (إلى الله) عز وجل (إن شاء عفا عنه) بفضله (وإن شاء عاقبه) بعدله (فبايعناه)؛ أي: عاقدناه (على ذلك) المذكور.
قيل: مفهومه يتناول من تاب ومن لم يتب، وإنه لم يتحتم دخوله النار؛ بل هو في مشيئة الله تعالى، قلت: يُعارض هذا المفهوم قولُه تعالى في آية قطاع الطريق: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، فالاستثناء راجع إلى عذاب الدنيا والآخرة؛ حتى لو تاب قبل القدرة عليه بعد ما خاف الطريق، ولم يقتل، ولم يأخذ شيئًا، سقط عنه حق
%ص 15%
الدنيا والعقاب في الآخرة، وهذا هو التحقيق؛ كذا في «النهر الفائق شرح كنز الدقائق»، قلت: لكن لا يأمن من مكر الله؛ لأنَّه لم يطلع على قبول توبته، ومن كرمه قبولها.
ونقل العلامة البيرمي في «شرحه على الأشباه» عن «الجواهر»: رجل شرب الخمر وزنى ثم تاب ولم يحد في الدنيا، هل يحد له في الآخرة؟ قال: الحدود حقوق الله تعالى إلَّا أنه تعلق بها حق الناس؛ وهو الانزجار، فإذا تاب توبة نصوحة؛ أرجو ألَّا يحد في الآخرة، فإنَّه لا يكون أكثر من الكفر والردة، وإنَّه يزول بالإسلام والتوبة، انتهى؛ أي: فإن المرتد إذا تاب، فإنه لا يعاقب في الدنيا والآخرة، أما إذا قتل على ارتداده؛ فلا يكون قتله كفارة له؛ لعدم توبته ولبقائه على الشرك، وأخبر سبحانه: بأنَّه لا يغفر أن يشرك به، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.
==================
(1/41)
(12) [بابٌ من الدِّين الفرار من الفتن]
(باب) بالتنوين: (من الدين الفرار من الفتن) إنَّما لم يقل: من الإيمان؛ لمراعاة لفظ الحديث، وليس المراد الحقيقة؛ لأنَّ الفرار ليس بدين، فالتقدير: الفرار من الفتن شعبة من شعب الإيمان، ويدل عليه أداة التبعيض.
==========
%ص 16%
==================
(1/42)
[حديث: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم]
19# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مَسلَمة)؛ بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة: ابن قعنب الحارثي البصري، ذو الدعوة المجابة، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومئتين، (عن مالك) هو ابن أنس (عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) الأنصاري المازني المدني، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئة، (عن أبيه) عبد الله، (عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري (الخُدْري)؛ بضم الخاء وسكون المهملة: نسبة إلى (خدرة) جده الأعلى أو بطن، المتوفى بالمدينة سنة أربع وستين أو أربع وسبعين، وفي رواية: (رضي الله عنه): (أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشِك)؛ بكسر المعجمة، قيل: فتحها رديء، من أفعال المقاربة؛ أي: يقرب (أن يكون خير مال المسلم غنمًا) بالنصب؛ خبر (يكون)، وفي رواية: بنصب (خيرَ) خبرًا مقدمًا، ورفع (غنمٌ) اسمًا مؤخرًا، و (الغنم): اسم مؤنث موضوع للجنس، يقع على الذكور والإناث جميعًا، وعلى الذكور وحدهم، وعلى الإناث وحدهن، فإذا صغرتها؛ ألحقتها الهاء، (يتَّبع بها)؛ بتشديد المثناة الفوقية: (افتعال) من (اتبع اتباعًا)، ويجوز إسكانها من (تَبِع) بكسر الموحدة (يتبَع) بفتحها؛ أي: يتبع بالغنم (شَعَفَ)؛ بمعجمة فمهملة مفتوحتين: جمع شَعَفة؛ بالتحريك، وهو بالنصب مفعول (يتَّبع)؛ أي: رؤوس (الجبال ومواقِعَ)؛ بكسر القاف، بالنصب عطف على (شعَفَ)؛ أي: مواضع نزول (القطر)؛ أي: المطر؛ أي: بطون الأودية والصحارى حال كونه (يفر بدينه)؛ أي: يهرب بسببه أو مع دينه (من الفتن)؛ طلبًا لسلامته لا لقصد دنيوي، فالعزلة في أيام الفتن فضيلة، إلَّا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة؛ فإنَّه يجب عليه السعي في إزالتها؛ إما فرض عين أو فرض كفاية بحسب الحال والإمكان، وأما في غير أيام الفتنة؛ فاختلف العلماء في العزلة والاختلاط؛ فقال الشيخ الإمام ركن الدين الكرماني: المختار في عصرنا تفضيل الانعزال؛ لندور خلو المحافل من المعاصي، وقال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: قلت أنا موافق فيما قال: فإن الاختلاط مع الناس في هذا الزمان لا يجلب إلَّا الشرور، انتهى، قلت: بل ينبغي أن يقال: إن العزلة في زماننا واجبة؛ لما يحصل من المعاصي، وارتكاب الآثام، وإباحة المحرمات، وسب الدين الذي يخرج به من الإيمان، وغير ذلك من المنكرات، وقال الشافعي: الأفضل الاختلاط إلا لفقيه لا يسلم دينه بالاختلاط.
==========
%ص 16%
==================
(1/43)
(13) [باب قول النبي: أنا أعلمكم بالله]
(باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) بالإضافة، وسقط في رواية لفظ (باب)، ومقول قوله عليه السلام: (أنا أعلمكم بالله) وفي رواية: (أنا أعرفكم بالله)، والفرق بينهما: أن المعرفة هي إدراك الجزئي، والعلم إدراك الكلي.
(و) باب بيان (أن المعرفة)؛ بفتح الهمزة ويجوز الكسر على الاستئناف، (فعل القلب)، فالإيمان بالقول وحده؛ لا يكون إلا بانضمام الاعتقاد إليه، خلافًا للكرَّامية، والاعتقاد؛ فعل القلب؛ (لقوله تعالى) وفي رواية: (لقوله عز وجل): ({وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}) [البقرة: 225]؛ أي: عزمت عليه، وفيه دليل للجمهور من أن أفعال القلوب إذا استقرت؛ يؤاخذون بها، ويعارضه قوله عليه السلام: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل»، وأجيب: بأنه محمول على إذا لم يستقر، وذلك معفو عنه؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، بخلاف الاستقرار.
==========
%ص 16%
==================
(1/44)
[حديث: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا]
20# وبه قال: (حدثنا محمد بن سلَام)؛ بالتخفيف والتشديد، وقيل: إن التشديد لحن، وتمامه في «شرح الشيخ الإمام بدر الدين العيني»، واسم أبيه: الفرج السلمي، زاد في رواية: (البِيْكَندِي)؛ بموحدة مكسورة، ثم مثناة تحتية ساكنة، ثم كاف مفتوحة، ثم نون ساكنة؛ نسبة إلى بيكند؛ بلدة على مرحلة من بخارى، توفي سنة خمس وعشرين ومئتين (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (عَبْدة)؛ بسكون الموحدة، قيل: هو لقبه، واسمه عبد الرحمن بن سليمان بن حاجب الكلابي الكوفي، المتوفى بها في رجب سنة ثمان وثمانين ومئة، (عن هشام) هو ابن عروة، (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم)؛ أي: أمر الناس بالعمل (أمرهم من الأعمال بما) وفي رواية: (ما) (يطيقون)؛ أي: يطيقون الدوام عليه، فخير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قلَّ، والكثرة تؤدي إلى القطع؛ وهو نقض العهد صورة، و (أمرهم) الثانية جواب أول للشرط، والثاني قوله: (قالوا: إنا لسنا كهَيئتك)؛ بفتح الهاء؛ وهي الصورة والحالة، وليس المراد نفي تشبيه ذواتهم بحالته عليه السلام، فلا بد من التأويل، فالمراد من (هيئتك): كمثلك؛ أي: كذاتك أو كنفسك، وزيد لفظ الهيئة؛ للتأكيد؛ نحو: مثلك لا يبخل، أو [حال] من (لسنا)؛ أي: ليس حالنا كحالك، فحذف الحال وأقيم المضاف إليه مقامه، فاتصل الفعل بالضمير، فقيل: لسنا كهيئتك، قاله الشيخ الإمام ركن الدين الكرماني، (يا رسول الله؛ إن الله قد غفر لك)؛ أي: عفا عنك (ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر)؛ أي: منه، والمراد: ترك الأَولى والأفضل بالعدول إلى الفاضل وترك الأفضل، كأنَّه ذنب؛ لجلالة قدر الأنبياء عليهم السلام، قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ وهو أولى مما قال القسطلاني نقلًا عن البرماوي؛ فليحفظ.
(فيغضب)؛ على صورة المضارع، والمراد منه: حكاية الحال الماضية (حتى يُعرف)؛ بصيغة المجهول، وفي أكثر الروايات؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني: (فغضب حتى عُرف) (الغضبُ) بالرفع (في وجهه) عليه السلام، وفيه دليل على جواز الغضب عند رد أمر الشرع، ونفوذ الحكم في حال الغضب والتغير، (ثم يقولُ)؛ بالرفع عطفًا على (يغضب): (إن أتقاكم)؛ أي: أكثركم تقوًى (أعلمكم بالله) عز وجل (أنا) فـ (أتقاكم) اسم (إن)، و (أعلمكم) عطف عليه، و (أنا) خبرها، والمعنى: كأنَّهم قالوا: أنت مغفور لك لا تحتاج إلى عمل ومع هذا تواظب على الأعمال، فكيف بنا مع كثرة ذنوبنا؟! فرد عليهم بقوله: أنا أولى بالعمل؛ لأنِّي أتقاكم وأعلمكم، وأشار بالأول إلى القوة العملية، وبالثاني إلى القوة العلمية، واستدل بهذا على أن أول فرض على المكلف معرفة الله سبحانه وتعالى، وفيه دليل على أن الرجل يجوز له الإخبار بفضيلة نفسه إذا دعت إلى ذلك حاجة؛ فليحفظ.
==========
%ص 16%
==================
(1/45)
(14) [باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان]
(باب) ذكر كراهة (من كره أن يعود)؛ أي: العود (في الكفر كما يكره أن يلقى)؛ أي: ككراهة الإلقاء (في النار من الإيمان)؛ أي: من شُعَبه، ولفظ (باب) ساقط في رواية، ويجوز فيه التنوين، وإضافته لتاليه، وعلى كل تقدير؛ فـ (مَن) مبتدأ و (من الإيمان) خبره و (أن) في الموضعين مصدرية، وكذا (ما) و (من) موصولة، و (كره أن يعود) صلتها، وسقط في رواية (من الإيمان).
==========
%ص 16%
==================
(1/46)
[حديث: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان]
21# وبه قال: (حدثنا سليمان بن حَرْب)؛ بفتح المهملة، وسكون الراء، آخره موحدة: ابن بَجِيْل؛ بفتح الموحدة، وكسر الجيم، وسكون المثناة التحتية، آخره لام: الأزدي الواشِحي؛ بكسر الشين المعجمة والحاء المهملة؛ نسبة إلى بطن من الأزد، البصري قاضي مكة، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج (عن قتادة) بن دِعامة (عن أنس) وفي رواية: عن أنس بن مالك (رضي الله عنه عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال): خصال (ثلاث) أو ثلاث خصال، فعلى الأول (ثلاث) صفة لمحذوف، وعلى الثاني مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به إضافته إلى الخصال، والجملة خبره؛ وهي (من كن فيه وجد)؛ أي: أصاب (حلاوة الإيمان) باستلذاذه الطاعات وتحمل المشقات في أمر الدين، وهل هذه الحلاوة محسوسة أو معنوية؟ فيه خلاف، والأرجح الأول، ويدل له قول بلال: (أحد أحد) حين عُذِّب في الله؛ إكراهًا على الكفر، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وعند موته قالوا أهله: واكرباه، وهو يقول: (واطرباه غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه)، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، (من كان الله) يجوز في إعرابه وجهان: أحدهما: أن يكون بدلًا من (ثلاث) أو بيانًا، ويجوز أن [يكون] خبرًا لقوله: (ثلاث) على تقدير كون الجملة الشرطية صفة لـ (ثلاث)، والثاني: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: الأول مِن الذين فيهم الخصال من كان الله (ورسوله أحب إليه مما سواهما) من نفسه، وولده، ووالده، وأهله، وماله، وكل شيء، ولهذا قال: (مما) ولم يقل: ممن؛ ليعم من يعقل ومن لا يعقل.
%ص 16%
(و) الثاني منها: (من أحب عبدًا) وفي الرواية السابقة: (أن يحب المرءَ) (لا يحبه إلا لله) زاد في رواية: (عز وجل) (و) الثالث منها: (من يكره أن يعود) أي: العود (في الكفر بعد إذ أنقذه الله)؛ أي: خلَّصه ونجَّاه، زاد في رواية: (منه) (كما يكره أن يلقى في النار) وفي الرواية السابقة: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف فيالنار)، ولا تكرير في سياق الحديث هنا؛ لأنَّ المبوّب له حلاوة الإيمان فيما سبق، وهنا المحبة لله وكراهة الكفر؛ فتأمل، وفيه دليل واضح لإمامنا الإمام الأعظم ومَن قال بقوله، على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإنَّما الذي يزيد وينقص ثمراته، مثال ذلك: أن المؤمن الفاسق بارتكابه المعاصي إيمانه كإيمان العالم، لكن الفاسق لا يجد حلاوته؛ بسبب ارتكابه المعاصي، وأما العالم؛ فيجد حلاوته؛ بسبب امتثاله أوامر الله تعالى، وذلك كالبيضة الفضة التي عليها الوسخ فإنَّها سوداء، فإذا جُليت مرة؛ تضيء شيئًا قليلًا، وفي المرة [الثانية] يظهر نورها أكثر من الأول ... ؛ وهكذا، فالإيمان كالفضة، وظهور نوره وحلاوته بأداء الطاعات، وعدم ذلك بارتكاب المعاصي، كما لا يخفى على من له أدنى حظٌّ في العلم؛ فليُحفظ.
==================
(1/47)
(15) [باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال]
(باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال) التي هي ثمرات الإيمان، فالتفاضل الحاصل بسبب الأعمال، وسقط لفظ (باب) عند الأصيلي.
==================
(1/48)
[حديث: يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار]
22# وبه قال: (حدَّثنا إسماعيل) بن أبي أويس بن عبد الله الأصبحي المدني، ابن أخت الإمام مالك، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئتين، وقد تُكُلِّم فيه؛ كما أوضحه الشيخ الإمام بدر الدين العيني رحمه الله، (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس، (عن عمرو بن يحيى) بن عمارة _بفتح العين عَمرو_ (المازني) المدني، المتوفى سنة أربعين ومئة، (عن أبيه) يحيى، (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخُدري) بالدال المهملة (رضي الله عنه، عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: يدخل أهل الجنة الجنة)؛ أي: فيها، وعبر بالمضارع العاري عن سين الاستقبال المتمحض للحال؛ لتحقق وقوع الإدخال، (و) يدخل (أهل النار النار)؛ أي: فيها، (ثم) بعد دخولهم فيها (يقول الله تعالى) وفي رواية: (عز وجل)، للملائكة: (أخرجوا)؛ بهمزة قطع مفتوحة: أمر من الإخراج، زاد في رواية: (من النار) (مَن) أي: الذي (كان في قلبه) زيادة على أصل التوحيد (مثقال حبة) وقد جاء في «الصحيح» بيان ذلك، ففي رواية فيه: «أخرجوا من قال: لا إله إلا الله، وعمل من الخير ما يزن كذا»، ثم بعد هذا يخرج منها من لم يعمل خيرًا قط غير التوحيد.
قال الإمام القاضي عِياض: هذا هو الصحيح؛ لأنَّ معنى الخير هنا أمر زائد على الإيمان؛ لأنَّ مجرَّده لا يتجزَّأ، وإنما ينجزئ الأمر الزائد عليه؛ وهي الأعمال الصالحة؛ من ذكر خفي، أو شفقة على مسكين، أو خوف من الله تعالى، ونية صادقة في عمل؛ كذا في «عمدة القاري»، وهذه الجملة محلها النصب مفعولَ (أخرجوا) و (مَن) موصولة، وقوله: (كان في ... ) إلى آخره صلتها، و (مثقال حبة) كلام إضافي مرفوع؛ لأنَّه اسم (كان)، وخبره قوله: (في قلبه) مقدَّمًا، ويجوز أن يكون (اخرجوا) بضم الهمزة من الخروج، وعليه يكون (مَن) منادى حذف منه حرف النداء، والتقدير: اُخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة، (من خردل من إيمان)؛ بالتنكير؛ لأنَّ المقام يقتضي التقليل، والقلة هنا: باعتبار انتفاء الزيادة على ما يكفي، لا لأنَّ الإيمان ببعض ما يحب الإيمان به كافٍ؛ لأنَّه علم من عرف الشرع أن المراد من الإيمان الحقيقة المعهودة، وفي رواية: (من الإيمان) بالتعريف.
وهذا قوله: (من خردل من إيمان)، من باب التمثيل، فيكون عيارًا في المعرفة وليس عيارًا في الوزن؛ لأنَّ الإيمان ليس بجسم يحصره الوزن أو الكيل، لكن ما يشكل من المعقول قد يُرَدُّ إلى عيار محسوس؛ ليُفهم، ويُشبَّه به؛ ليُعلم، والتحقيق فيه: أن يُجعل عمل العبد وهو عرَض في جسم على مقدار العمل عنده تعالى، ثم يُوزن، ويدلُّ عليه ما جاء مبينًا في قوله: (وكان في قلبه من الخير ما يزن برة)، أو تُمثَّل الأعمال بجواهر؛ فتُجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة، أو الموزون الخواتيم، فإن كانت خاتمة عمله حسنًا؛ جوزي بخير، وإن كانت خاتمة عمله شرًّا؛ جُوزي بشر.
وذكر القاضي عياض: أن المعنى في قوله: (من إيمان) ومن خير وما جاء منه؛ أي: من اليقين، إلَّا أنَّه قال: المراد الثواب؛ أي: ثواب الإيمان الذي هو التصديق، وبه يقع التفاضل، فإن أتبعه بالعمل؛ عظم ثوابه، وإن كان على خلاف ذلك؛ نقص ثوابه، فإن قيل: كيف تعلمون [1] ما كان في قلوبهم في الدنيا من الإيمان ومقداره؟ قلت: لعله بعلامات؛ كما يعلمون أنهم من أهل التوحيد؛ كذا في «عمدة القاري».
قال القسطلاني: قال الغزالي: من أيقن بالإيمان وحال بينه وبين النطق به الموت؛ فهو ناج مستدلًا بقوله: (أخرجوا ... ) إلى آخره، وأما من قدر على النطق ولم يفعل حتى مات مع إيقانه بالإيمان بقلبه؛ فيحتمل أن يكون امتناعه منه بمنزلة امتناعه عن الصلاة؛ فلا يخلد في النار، ويحتمل خلافه، ورجح غيره الثاني، فيحتاج إلى تأويل قوله: (في قلبه) فيقدر فيه محذوف تقديره: منضمًا إلى النطق به مع القدرة عليه.
ومنشأ الاحتمالين: الخلاف في أن النطق بالإيمان شطر، فلا يتم الإيمان إلَّا به؛ وهو مذهب جماعة من العلماء، واختاره الإمام شمس الأئمة وفخر الإسلام، أو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط؛ وهو مذهب جمهور المحققين؛ وهو اختيار الشيخ الإمام أبي منصور، والنصوص معاضدة لذلك، قاله المحقق الثاني سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى.
(فيخرجون منها)؛ أي: من النار حال كونهم (قد اسودوا)؛ أي: صاروا سودًا من تأثير النار (فيُلقون)؛ بضم المثناة التحتية: مبنيًّا للمفعول (في نهر الحيا) بالقصر، وفي رواية: بالمد، قيل: ولا معنى له؛ أي: المطر (أو الحياة) بالمثناة الفوقية آخره؛ وهو النهر الذي مَن غُمس فيه حيي، وهو غير الكوثر، كما لا يخفى، (شك مالك) وفي رواية: (يشك) بالمثناة التحتية أوله؛ أي: في أيهما الرواية، وجملة (شك) اعتراض بين قوله: (فيلقون في نهر الحياة) السابق، وبين لاحقه؛ وهو قوله: (فينبتون) ثانيًا (كما تنبت الحِبة)؛ بكسر المهملة وتشديد الموحدة؛ أي: كنبات بزر العشب، فـ (أل) للجنس أو للعهد، والمراد: البقلة الحمقاء؛ لأنها تنبت سريعًا، (في جانب السيل، ألم تر) خطابٌ لكل من يأتي منه الرؤية (أنها تخرج) حال كونها (صفراء) تسر الناظر، وحال كونها (ملتوية) متمثلة منثنية، فالتشبيه؛ من حيث الإسراع والحسن، والمعنى: من كان في قلبه مثقالُ حبة من الإيمان يخرج من ذلك الماء نضرًا متنجدًا كخروج هذه الريحانة من جانب السيل صفراء متمايلة، وحينئذٍ فيتعين كون (أل) في الحبة للجنس؛ كذا قيل؛ فتأمل.
وبه قال: (قال وُهَيب)؛ بضم أوله، وفتح ثانيه مصغَّرًا، آخره موحدة: ابن خالد بن عجلان الباهلي البصري: (حدثنا عمرو)؛ بفتح العين: ابن يحيى المازني السابق: (الحياةِ) بالجر على الحكاية؛ وهو موافق لمالك في روايته لهذا الحديث، عن عمرو بن يحيى بسنده، ولم يشك كما شك مالك أيضًا.
(وقال) وهيب أيضًا في روايته: مثقال حبة من (خردل من خير) بدل من إيمان، فخالف مالكًا في هذه اللفظة؛ وهذا من تعاليق المؤلف، أخرجه في (الرقاق)، وفيه الرد على المرجئة القائلين: بأنه لا يضر مع الإيمان معصية، فلا يدخل النار العاصي، وعلى المعتزلة القائلين بأن المعاصي موجبة للخلود في النار.
==========
[1] في الأصل: (تعملون).
%ص 17%
==================
(1/49)
[حديث: بينا أنا نايم رأيت الناس يعرضون علي]
23# وبه قال: (حدثنا محمد بن عبيد الله) مصغرًا: ابن محمد بن زيد القرشي الأموي المدني، مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد)؛ بسكون العين: ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة، التابعي، المدني، المتوفى ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومئة، (عن صالح) أبي محمد بن كيسان الغفاري المدني التابعي، المتوفى بعد أن بلغ من [العمر] مئة وستين سنة، وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسعين، (عن ابن شهاب): هو الزهري (عن أبي أُمامة)؛ بضم الهمزة: أسعد المختلَف في صحبته، ولم يصح له سماع، وإنما ذُكر في الصحابة لشرف الرؤية (بن سهل) وفي رواية: زيادة: (ابن حُنيف)؛ بضم المهملة، المتوفى سنة مئة عن نيف وتسعين سنة: (أنه سمع أبا سعيد) سعد بن مالك (الخدري) رضي الله عنه حال كونه (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا)؛ بغير ميم، أصله: (بين)؛ أشبعت الفتحة فصارت ألفًا، (أنا نائم؛ رأيت الناس) من الرؤيا الحلمية على الأظهر، أو من الرؤيا البصرية فتطلب مفعولًا واحدًا؛ وهو (الناس)، وحينئذٍ فيكون قوله: (يعرضون علي) جملة حالية، أو علميَّة من الرأي، وحينئذٍ فتطلب مفعولين؛ وهما: (الناس يعرضون علي)؛ أي: يظهرون لي، (وعليهم قُمُص)؛ بضم الأَوَّلَين جمع (قميص) والواو للحال، (منها)؛ أي: من القمص (ما)؛ أي: الذي (يبلغ الثُّدِيَّ)؛ بضم المثلثة، وكسر المهملة، وتشديد المثناة التحتية: جمع (ثدي)، يذكر ويؤنث للمرأة والرجل، والحديث يردُّ على خَصِّه بالمرأة، وهو منصوب مفعول (يبلغ)، والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو الموصول، وفي رواية: (الثَّدْي) بفتح المثلثة وإسكان الدال، (ومنها)؛ أي: من القمص (ما دون ذلك)؛ أي: لم يصل للثدي لقصره.
(وعُرِض علي)؛ بضم العين وكسر الراء: مبنيًّا للمفعول (عمر بن الخطاب) بالرفع نائب عن الفاعل، رضي الله تعالى عنه (وعليه قميص يجرُّه)؛ لطوله (قالوا)؛ أي: الصحابة، وفي رواية: قال؛ أي: عمر بن الخطاب أو غيره (فما أوَّلتَ)؛ أي: فما عبَّرت
%ص 17%
(ذلك يا رسول الله؟ قال) عليه السلام: أولت (الدينَ)؛ بالنصب: معمول (أولت).
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: (يلزم من الحديث أن يكون عمر أفضل من الصدِّيق؛ لأنَّ المراد بالأفضل الأكثر ثوابًا، والأعمال علامات الثواب، فمن كان دينه أكثر؛ فثوابه أكثر، وهو خلاف الإجماع، قال: قلت: لا يلزم ذلك؛ لأنَّ القسمة غير حاصرة لجواز قسم رابع، وعلى تقدير الحصر؛ فلم يخص الفاروق بالثالث ولم يقصره عليه، ولئن سلمنا التخصيص؛ فهو معارَض بالأحاديث الكثيرة البالغة درجة التواتر المعنوي الدالة على أفضلية الصدِّيق، فلا تعارضها الآحاد، ولئن سلمنا التساوي بين الدليلين؛ لكن إجماع أهل السنة والجماعة على أفضليته، وهو قطع، فلا يعارضه الظني، وقد أنكر ذلك الشيعة والخوارج، قلنا: لا اعتبار بمخالفة أهل الضلال، والأصل إجماع أهل السنة والجماعة) انتهى.
وفي الحديث: التشبيه البليغ؛ وهو تشبيه الدين بالقميص؛ لأنَّه يستر العورة، وكذلك الدين يستره من النار، وفيه التفاضل في أهل الإيمان بالأعمال، والله أعلم.
==================
(1/50)
(16) [باب الحياء من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين: (الحياءَ) بالمد والرفع، مبتدأ، خبره (من الإيمان)، وحديثه سبق، وفائدة سياقه هنا: أنه ذكر الحياء هناك بالتبعية وهنا بالقصد، مع فائدة تغاير الطريق، أفاده في «عمدة القاري».
==========
%ص 18%
==================
(1/51)
[حديث: دعه فإن الحياء من الإيمان]
24# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التِّنِّيسي السابق (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا) (مالك) وفي رواية: (مالك بن أنس)، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب، القرشي العدوي، التابعي، المتوفى بالمدينة سنة ست ومئة، (عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) أي: اجتاز (على رجل من الأنصار وهو) أي: حال كونه (يعظ أخاه) من الدين، والرجلان لم يسمَّيا (في) شأن (الحياء) بالمد؛ وهو تغير وانكسار يحصل عند خوفِ ما يُعاب أو يذم، وهو من خصائص الإنسان، والوعظ: النصح، والتخويف، والتذكير، ومعناه كما قال التميمي: الزجر؛ أي: يزجره ويقول له: لا تستحي؛ لأنَّه كان كثير الحياء، وذلك يمنعه من استيفاء حقه، فوعظه أخوه على ذلك، ووقع هنا كلام بين ابن حجر وإمامنا الشيخ بدر الدين العيني في الرواية؛ كما بينه القسطلاني.
(فقال) له (رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه)؛ أي: اتركه على حيائه، (فإن الحياء من الإيمان)؛ أي: شعبة من شعب الإيمان، فـ (مِن) للتبعيض؛ كما مر، فالحياء يمنع من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان، فسُمِّي إيمانًا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه.
فإن قلت: إذا كان الحياء بعض الإيمان، فإذا انتفى الحياء؛ انتفى بعض الإيمان، وإذا انتفى بعض الإيمان؛ انتفت [1] حقيقة الإيمان؛ فينتج من هذه المقدمات انتفاء الإيمان عن من لم يستح، وانتفاء الإيمان كفر.
قلت: لا نسلم صدق كون الحياء من حقيقة الإيمان؛ لأنَّ المعنى: فإنَّ الحياء من مكملات الإيمان، وفي الكمال لا يستلزم الحقيقة، نعم؛ الإشكال قائم على قول من يقول: الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وهذا لم يقل به المحققون؛ كما قدمناه، أفاده في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (انتفى).
%ص 18%
==================
(1/52)
(17) [باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}]
(باب) بالتنوين والإضافة كما في «فرع اليونينية»، قال ابن حجر: والتقدير: (بابٌ في تفسير قوله)، و (بابُ تفسير قوله)، ونظر فيه إمامنا الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن المصنف لم يضع الباب لتفسير الآية، بل غرضه بيان أمور الإيمان، وبيان أن الأعمال من الإيمان، مستدلًّا على ذلك بالآية والحديث، فـ (باب) بمفرده لا يستحق إعرابًا؛ لأنَّه كتعديد الأسماء من غير تركيب، والإعراب لا يكون إلَّا بعد العقد والتركيب، اهـ، وقد سلمه القسطلاني؛ فليحفظ.
({فَإِن تَابُوا})؛ أي: المشركون عن شركهم بالإيمان، ({وَأَقَامُوا}) أي: أدوا ({الصَّلاةَ}) على وجهها المعهود، ({وَآتَوُا الزَّكَاةَ}) أعطوها؛ ({فَخَلُّوا}) أي: أطلقوا ({سَبِيلَهُمْ}) [التوبة: 5] جواب شرط؛ أعني: {فإن تابوا}، والمعنى: كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم؛ لأنَّهم عصموا دماءهم وأموالهم بالرجوع عن الكفر إلى الإسلام وشرائعه، وفيه الرد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان غير محتاج إلى الأعمال.
==========
%ص 18%
==================
(1/53)
[حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله]
25# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد)؛ أي: ابن عبد الله، زاد في رواية: (المُسنَدي)؛ بضم الميم وفتح النون؛ وقد مر، (قال: حدثنا أبو رَوْح)؛ بفتح الراء وسكون الواو، واسمه (الحَرَمِي)؛ بفتح الحاء والراء المهملتين، وكسر الميم، وتشديد المثناة التحتية بلفظ النسبة، تثبت فيه (أل) وتحذف، وليس نسبة إلى الحرم؛ كما تُوُهِّم، (بن عُمارة)؛ بضم العين المهملة وتخفيف الميم؛ ابن أبي حفصة نابت؛ بالنون، العتكي البصري، المتوفى سنة إحدى وثمانين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن واقد بن محمد) بالقاف، زاد في رواية: (يعني: ابن زيد بن عبد الله بن عمر)، (قال: سمعت أبي) محمد بن زيد بن عبد الله (يحدث عن ابن عمر) بن الخطاب، عبد الله رضي الله عنهما، فواقد روى هنا عن أبيه عن جد أبيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُمرت)؛ بضم الهمزة، مبنيٌّ لما لم يُسم فاعله (أنْ)؛ أي: أمرني الله تعالى بأن (أقاتل الناس)؛ أي: بمقاتلة الناس؛ وهو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بـ (الناس): المشركون، ويدل له رواية النسائي بلفظ: «أمرت أن أقاتل المشركين»، أو المراد: أهل الكتاب (حتى) أي: إلى أن (يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)، والتصديق بالرسالة يتضمن التصديق بكل ما جاء به، (و) حتى (يقيموا الصلاة)؛ أي: يؤدوها بشروطها، (و) حتى (يؤتوا الزكاة)؛ أي: يعطوها لمستحقها.
وفي (الجهاد) الاقتصار على قول: (لا إله إلا الله)، قاله وقت قتاله للمشركين الذين لا يقرُّون بالتوحيد، وأما حديث الباب؛ ففي أهل الكتاب المُقرِّين به الجاحدين لنبوته، وأما في (أبواب القِبلة): «وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قِبلتَنا، وذبحوا ذبيحتنا»؛ ففي مَن دخل الإسلام ولم يعمل الصالحات؛ كترك الجمعة والجماعة؛ فيقاتَلوا حتى يرجعوا.
(فإذا فعلوا ذلك) أو أعطوا الجزية، وأطلق الفعل على القول؛ لأنَّه فعل اللسان أو من باب التغليب؛ (عصموا)؛ أي: حفظوا ومنعوا (مني دماءهم وأموالهم)، فلا تُهدر دماؤهم، ولا تستباح أموالهم بعد عصمتهم بالإسلام (إلا بحق الإسلام) مِنْ قتْلِ نفس، أو حدٍّ، أو غرامة، (وحسابهم) بعد ذلك (على الله) في أمر سرائرهم، وأما نحن؛ فإنَّما نحكم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، وأما أمور الآخرة؛ فمفوَّضٌ إلى الله، ولفظة (على) مشعرةٌ بالإيجاب؛ فظاهره غير مراد، فإما أن يكون المراد: وحسابهم إلى الله، أو لله، أو أنه يجب أن يقع، لا أنَّه تعالى يجب عليه شيء، خلافًا للمعتزلة القائلين: بوجوب الحساب عقلًا، واقتُصر على الصلاة والزكاة؛ لأنَّ الأولى بدنيَّة عماد الدين، والثانية مالية قنطرة الإسلام.
ويؤخذ من هذا الحديث: أن تارك الصلاة عمدًا معتقدًا وجوبها بترك فرض واحد؛ يُقتل حدًّا، وهو مذهب الشافعي، وفيه أنه لا يصح الاستدلال؛ لأنَّ المأمور فيه هو القتال، ولا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل؛ لأنَّ المفاعلة تستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولم يقل: مانع الزكاة، مع أن الحديث يشمله، ومذهب إمامنا الأعظم رئيس المجتهدين: أن تارك الصلاة يحبس إلى أن يحدث توبة ولا يقتل.
==================
(1/54)
(18) [باب من قال: إنَّ الإيمان هو العمل]
(باب) مضاف إلى ما بعده، ولا يجوز غيره، وارتفاعه؛ على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب (من قال: إنَّ الإيمان هو العمل) ردًّا على المرجئة القائلين: بأن الإيمان قول بلا عمل (لقوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل): ({وَتِلْكَ}) مبتدأ، خبره قوله: ({الجَنَّةُ الَتِي أُورِثْتُمُوهَا})؛ أي: صُيِّرت لكم ميراثًا، فأطلق الإرث مجازًا عن الإعطاء؛ لتحقق الاستحقاق، أو المورِّث الكافر وكان له نصيب منه؛ ولكن كفره منعه فانتقل منه إلى المؤمن، ({بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}) [الزخرف: 72]؛ أي: تؤمنون، و (ما) مصدرية؛ أي: بعملكم، أو موصولة؛ أي: بالذي كنتم تعملونه، و (الباء) للملابسة؛ أي: أورثتموها ملابسة لأعمالكم؛ أي: لثوابها، أو للمقابلة؛ نحو: أُعطيت الشاة بالدرهم، ولا تنافي بين ما في الآية وبين حديث: «لن يدخل أحد الجنة بعمله»؛ لأنَّ المثبَت في الآية: الدخول بالعمل المقبول، والمنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عنه، والقبول من رحمة الله، فرجع الأمر إلى أن الدخول برحمته تعالى.
(وقال عِدَّة)؛ بكسر العين وتشديد الدال؛ أي: عدد (من أهل العلم) كأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومجاهد، (في قوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل): ({فَوَرَبِّكَ}) يا محمد ({لَنَسْأَلَنَّهُمْ})؛ أي: المقتسمين، وجواب القسم مؤكدًا باللام ({أَجْمَعِينَ}) [الحجر: 92] تأكيد للضمير في {لَنَسْأَلنَّهُمْ} مع الشمول في إفراد المخصوصين ({عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 93]؛ عن لا إله إلا الله) وفي رواية: (عن قول: لا إله إلا الله).
قال النووي: المعنى: لنسألنَّهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف، فقول من خص بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل، اهـ.
قلت: وردَّ عليه ابن حجر في «فتحه»، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وحاصله: أن دعوى التخصيص بلا دليل خارجي لا تُقبل؛ لأنَّ الكلام عام في السؤال عن التوحيد وغيره، فإن استدل بحديث الترمذي؛ فقد ضعف من جهة ليث، وليس التعميم في قوله: (أجمعين) حتى يدخل فيه المسلم
%ص 18%
والكافر؛ لكونه مخاطبًا بالتوحيد قطعًا، وبباقي الأعمال على الخلاف.
فالمانع من الثاني يقول: إنَّما يُسألون عن التوحيد فقط للاتفاق عليه، وإنَّما التعميم هنا في قوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فتخصيص ذلك بالتوحيد تحكُّمٌ، ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39]؛ لأنَّ في القيامة مواقف مختلفة وأزمنة متطاولة، ففي موقف أو زمان يُسألون، وفي آخرَ لا يُسألون، أو لا يُسألون سؤال استخبار، بل سؤال توبيخ وتقريع، اهـ؛ فليحفظ.
(وقال) وفي رواية بدونها ({لمثل هذا})؛ أي: لنيل مثل هذا الفوز ({فليعمل العاملون}) [الصافات: 61]؛ أي: فليؤمن المؤمنون، وهذا يشير إلى أنَّ الإيمان هو العمل، لكن اللفظ عام، ودعوى التخصيص بلا دليل لا تُقبل، إلَّا أنَّ إطلاق العمل على الإيمان صحيح؛ من حيث إنَّ الإيمان هو عمل القلب، ولا يلزم أن يكون العمل من نفس الإيمان، وغرض المصنف جواز إطلاق العمل على الإيمان الذي هو عمل القلب؛ وهو التصديق؛ فليحفظ.
==================
(1/55)
[حديث: أنَّ رسولَ الله سُئِل: أيُّ العمل أفضل؟]
26# وبه (حدثنا أحمد ابن يونس) نسبة إلى جده؛ لشهرته به، واسم أبيه: عبد الله اليربوعي، التميمي، الكوفي، المتوفى في ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومئتين.
(و) كذا حدثنا (موسى بن إسماعيل) المِنْقَري؛ بكسر الميم المتقدم (قالا) بالتثنية: (حدثنا إبراهيم بن سعد)؛ بسكون العين: ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المتقدم، (قال: حدثنا ابن شهاب) محمد بن مسلم الزُّهري، (عن سعيد بن المُسيِّب)؛ بضم الميم، وكسر المثناة التحتية، والفتح فيها أشهر، وكان يكرهه، ابن حَزْن؛ بفتح المهملة وسكون الزاي، التابعي، المتوفى سنة ثلاث وتسعين، وهو زوج بنت أبي هريرة، وأبوه وجده صحابيان، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل) بالبناء للمفعول في محل رفع خبر (أن)، وأبهم السائل؛ وهو أبو ذر، وحديثه في العتق: (أي العمل أفضل؟)؛ أي: أكثر ثوابًا عند الله تعالى؛ وهو مبتدأ وخبر، (قال) وفي رواية: (فقال) عليه السلام: هو (إيمان بالله ورسوله، قيل) مجهول (قال)، أصله: (قَوِل) نقلت كسرة الواو إلى القاف بعد سلب حركتها، فصار (قِوْل)؛ بكسر القاف وسكون الواو، قلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فصار (قِيل)، والقائل هو السائل الأول: (ثم ماذا؟)؛ أي: أي شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ (قال) عليه السلام: هو (الجهاد في سبيل الله)؛ لإعلاء كلمة الله (قيل: ثم ماذا) أفضل؟ (قال) عليه السلام: هو (حج مبرور)؛ أي: مقبول؛ أي: لا يخالطه إثم ولا رياء، وعلامة قبوله: أن يكون حاله بعد الرجوع خيرًا مما كان قبله، وفي حديث أبي ذر ذكر العتق ولم يذكر الحج، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم بالبر ثم الجهاد، وفي الحديث السابق السلامة من اليد واللسان.
وقد أجيب: بأن اختلاف الأجوبة في ذلك؛ لاختلاف أحوال الأشخاص، وإنَّما قدم الجهاد على الحج؛ للاحتياج إليه أول الإسلام، وإنَّما عرَّفه دون أخويه؛ لأنَّ المعرَّف بلام الجنس كالنكرة في المعنى، أو لأنَّ الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فنُوِّنا للإفراد، والجهاد قد يتكرر فعُرِّف، والتعريف للكمال هنا.
==========
%ص 20%
==================
(1/56)
(19) [باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة]
(باب) بالتنوين يجوز فيه وجهان؛ الإضافة إلى الجملة بعده، وتكون (إذا) ظرفية محضة والتقدير: (باب حين عدم كون الإسلام ... إلى آخره)، وأن ينقطع عن الإضافة، وتكون (إذا) متضمنة معنى الشرط، والجزاء محذوف، والتقدير: باب (إذا لم يكن)؛ أي: إن لم يكن (الإسلام على الحقيقة) الشرعية (وكان على الاستسلام)؛ أي: الانقياد الظاهر فقط والدخول في السلام، (أو) كان على (الخوف من القتل) لا ينتفع به ولا ينجيه في الآخرة، وعلى كلٍّ: فارتفاع (باب) على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب إلى آخره، (لقوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل): ({قَالَتِ الأَعْرَابُ})؛ بفتح الهمزة: أهل البدو، ولا واحد له من لفظه، وسمِّيت العرب؛ لأنَّه نشأ أولاد إسماعيل عليه السلام بعربة؛ وهي من تهامة، فنسبوا إلى بلدهم، ومقول قولهم: ({آمَنَّا}) نزلت في نفر من أسد بن خزيمة قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله عليه السلام: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون الصدقة ويمنون، فقال الله لرسوله: ({قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا})؛ لأنَّ الإيمان تصديق مع طمأنينة قلب ({وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا})؛ لأنَّ الإسلام انقياد ودخول في السلم والخروج عن أن يكون حربًا للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]؟ فإنَّ كل ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب؛ فهو إسلام، وما واطأ القلب فيه اللسان؛ فهو إيمان.
والمعنى: لا تقولوا: آمنا، ولكن قولوا: أسلمنا؛ لأنَّكم لم تؤمنوا، وفيه حجة على الكرَّامية المرجئة في قولهم: الإيمان إقرار باللسان فقط ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، ولم يقل: كتب في ألسنتهم؛ وكذا الإجماع على كفر المنافقين مع كونهم أظهروا الشهادتين.
(فإذا كان) الإسلام (على الحقيقة) الشرعية المرادف للإيمان النافع عند الله؛ (فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ}) [آل عمران: 19]؛ أي: لا دين مرضي عنده سواه، وفتح الكِسائي همزة {إن} على أنه بدل من {أنه} بدل كل من كل؛ إِنْ فُسِّر الإسلام بالإيمان، وبدل اشتمال؛ إِنْ فُسِّر بالشريعة، واستدل المؤلف بهذا على أن الإسلام الحقيقي هو الدين، وعلى أن الإسلام والإيمان مترادفان، وهو قول جماعة من المحدثين، وجمهور المتكلمين، والمعتزلة، واستدلوا بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]، والأصل في الاستثناء: كون المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون الإسلام هو الإيمان.
واعتُرض بقوله تعالى: {قلْ لم تؤْمُنوا ولكِنْ قُولوا أَسْلَمنا}، وأجيب: بأنَّ الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية؛ بمعنى الانقياد في الظاهر دون الباطن، وبالجملة: لا يصح في الشرع أن يحكم على أنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا.
وظاهر كلام أئمتنا: أنهم أرادوا عدم تغايرهما؛ بمعنى: أنه لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا الاتحاد بحسب المفهوم لما ذكر في «الكفاية شرح الهداية» من أن الإيمان: هو تصديق الله فيما أخبر به من أوامره ونواهيه، والإسلام: هو الانقياد والخضوع لألوهيته، وذلك لا يتحقق إلَّا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا فلا يتغايران، ومن أثبت التغاير؛ يقال له: ما حُكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر؛ والأظهر بطلان قوله، وقدمنا ما يتعلق بهذا؛ فافهم.
واستُدِلَّ أيضًا بقوله تعالى: ({وَمَن يَبْتَغِ})؛ أي: من يطلب ({غَيْرَ الإِسْلامِ})؛ أي: غير التوحيد والانقياد لله تعالى ({دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}) [آل عمران: 85] جواب الشرط، فلو كان الإيمان غير الإسلام؛ لم يقبل قط، فتعيَّن أن يكون عينه؛ لأنَّ الإيمان هو الدين، والدين هو الإسلام لقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ}، فينتج أن الإيمان هو الإسلام، وسقط في رواية قوله: ({وَمَن يَبْتَغِ} ... إلى آخره).
==========
%ص 20%
==================
(1/57)
[حديث: أن رسول الله أعطى رهطًا وسعد جالس]
27# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة الأموي، (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال: أخبرني) بالإفراد (عامر بن سعد)؛ بسكون العين (بن أبي وقَّاص)؛ بتشديد القاف مالك القرشي، المتوفى بالمدينة سنة ثلاث ومئة، (عن) أبيه (سعد) المذكور، أحد العشرة المبشرين بالجنة، المتوفى آخرهم بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة سنة سبع وخمسين، وحُمِل إلى المدينة، ودفن بالبقيع، (رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى) شيئًا من الدنيا (رهطًا) من المؤلَّفة لما سألوه؛ ليتألَّفهم لضعف إيمانهم، و (الرهط): العدد من الرجال لا امرأة فيهم من ثلاثة إلى عشرة، لا واحد له من لفظه، وجمعه: أرهط، وأراهط، وأرهاط، وأراهيط، (وسعد جالس) جملة اسمية وقعت حالًا، ولم يقل: وأنا جالس؛ تواضعًا أو من باب الالتفات من التكلم إلى الغَيبة، قال سعد: (فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا) من الرهط؛ وهو جعيل بن سراقة الضمري المهاجري (هو أعجبهم إليَّ)؛ أي: أفضلهم أو أحبهم إليّ، والجملة نصب صفة لـ (رجلًا)، وإنما قال: (إليَّ)؛ على طريق الالتفات، (فقلت: يا رسول الله؛ مالك عن فلان؟)؛ أي: أيُّ سبب لعدولك عنه إلى غيره، و (فلان)؛ كناية عن اسمٍ أُبْهِمَ بعد أن ذكر، (فوالله؛ إنِّي لأَراه مؤمنًا) بفتح الهمزة؛ أي: أعلمه، وفي رواية: بضمها؛ بمعنى أظنه، (فقال) وفي رواية: (قال)؛ أي: عليه السلام: (أوْ مسلمًا)؛ بسكون الواو، إضرابٌ عن قول سعد، ومعناه: النهي عن القطع بإيمانه، لا إنكاره مؤمنًا، قال سعد: (فسكتُّ) سكوتًا (قليلًا ثم غلبني ما)؛ أي: الذي (أعلم منه) من المحبة (فعدت)؛ أي: فرجعت (لمقالتي) مصدر ميمي بمعنى القول؛ أي: لقولي، وفي رواية: بسقوط (لمقالتي)، (فقلت): يا رسول الله؛ (ما لك) عدلت (عن فلان؟ فوالله؛ إنِّي لَأراه)؛ أي: أعلمه وأظنه (مؤمنًا، فقال) عليه السلام: (أو مسلمًا، فسكت) سكوتًا (قليلًا)، وفي رواية: سقط لفظ (فسكت قليلًا) (ثم غلبني ما)؛ أي: الذي (أعلم منه) من الصحبة (فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لمقالته، وإنما لم يقبل قولَه؛ لأنَّه لم يخرج مخرج الشهادة؛ بل هو مدح له، وفي رواية: سقط السؤال والجواب الثاني.
(ثم قال) عليه السلام: (يا سعد؛ إنِّي لأعطي الرجل) الضعيف الإيمان العطاء أتألَّف به قلبه (وغيرُه أحب إليَّ منه) جملة حالية، وفي رواية: (أعجب إلي منه)، وفيه إشارة إلى إيمان جعيل، وقبول قول سعد فيه؛ (خشية أن يَكُبَّه الله)؛ بفتح المثناة التحتية، وضم الكاف، ونصب الموحدة بـ (أنْ)؛ أي: لأجل خشية كب الله إياه؛ أي: إلقائه منكوسًا (في النار) لكفره؛ إما بارتداده إن لم يُعْطَ أو لكونه ينسب النبي إلى البخل، وأما من قوي إيمانه؛ فهو أحب إلي، فأَكِلُه إلى الإيمان ولا أخشى عليه الكفر.
وفيه دلالة على جواز الحلف على الظن، وجواز الشفاعة إلى الولاة،
%ص 19%
ومراجعة الشفيع، وأن المشفوع إليه لا عتب عليه إذا رد الشفاعة، وأن الإمام يصرف الأموال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم، وأنه لا يقطع لأحد على التعيين بالجنة إلَّا ما نص عليه، وأن الإقرار باللسان لا ينفع إلا مع الاعتقاد بالقلب، وعليه الإجماع؛ كما قدمناه.
(ورواه)؛ أي: الحديث بالواو العاطفة، وفي رواية: بدونها (يونس) بن يزيد الأيلي (وصالح) هو ابن كيسان المدني (ومَعْمَر)؛ بفتح الميمين؛ ابن راشد البصري (وابن أخي الزهري) محمد بن عبد الله بن مسلم، المتوفى سنة اثنين وخمسين ومئة، والأربعة (عن الزهري) محمد بن مسلم بإسناده هذا.
==================
(1/58)
(20) [بابٌ إفشاءُ السلامِ من الإسلام]
(باب) بالتنوين: (السلام من الإسلام)؛ أي: هذا باب بيان أن السلام من شعب الإسلام، وفي رواية: (إفشاء السلام من الإسلام)؛ وهو بكسر الهمزة؛ أي: إذاعة السلام ونشره، (وقال عمار) أبو اليقظان بالمعجمة؛ ابن ياسر بن عامر، المقتول بصفين مع علي في صفر سنة سبع وثلاثين، ومقول قوله: (ثلاث)؛ أي: ثلاث خصال (من جمعهن؛ فقد جمع الإيمان)؛ أي: حلاوته، وأشرق نوره عليه؛ أحدها: (الإنصاف)؛ وهو العدل (من نفسك)؛ باجتنابها النواهي [1] وامتثالها الأوامر، وفي رواية بسقوط لفظ: (فقد)، (و) الثاني: (بذل السلام) بالمعجمة (للعالَم)؛ بفتح اللام؛ أي: لكل مؤمن عرفتَه أو لا، وخرج الكافر بدليل آخر، وفيه الحض على التواضع ومكارم الأخلاق، (و) الثالث: (الإنفاق من الإقتار)؛ بكسر الهمزة؛ أي: في حالة الشدة؛ الفقر، وفيه غاية الكرم؛ وهو شامل للإنفاق على العيال والأجانب.
==========
[1] في الأصل: (النواهم).
%ص 20%
==================
(1/59)
[حديث: أن رجلًا سأل رسول الله: أيُّ الإسلام خير؟]
28# وبه قال: (حدثنا قتيبة) تصغير قِتبة؛ بكسر القاف، واحدة الأقتاب؛ وهي الأمعاء، وبها سُمِّي الرجل قتيبة، وكنيته: أبو رجاء، واسمه: علي بن سعيد بن جميل البغلاني؛ نسبة إلى بغلان؛ بفتح الموحدة وسكون المعجمة؛ قرية من قرى بلخ، المتوفى سنة أربعين ومئتين (قال: حدثنا الليث) بن سعد، (عن يزيد بن أبي حبيب) بالمهملة أوله، البصري، (عن أبي الخير) مَرثد بالمثلثة وفتح الميم، (عن عبد الله بن عمرو): هو ابن العاصي رضي الله عنه: (أن رجلًا): هو أبو ذر (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي) خصال (الإسلام خير؟ قال) عليه السلام: (تطعم) الخلق (الطعام، وتَقرأُ)؛ بفتح التاء وضم الهمزة، (السلام على من عرفتَه)؛ أي: على الذي عرفته، (و) على (مَن لم تعرفه) من المسلمين، فلا تخص به أحدًا؛ تكبرًا وتجبرًا؛ لأنَّ المؤمنين إخوة، وإنَّما لم يقل: وتؤكل الطعام؛ حتى يشمل الإعطاء والشرب وغيرهما؛ وقد تقدم.
وإنما أعاده؛ لِمَا اشتمل عليه مع المغايرة بين المشايخ المغايرة الإسنادية.
==========
%ص 20%
==================
(1/60)
(21) [باب كفران العشير وكفر دون كفر]
هذا (باب) بدون تنوين؛ لإضافته لقوله: (كفران العشير)؛ وهو الزوج، وإنَّما سمي عشيرًا؛ لأنَّه معاشر؛ أي: مخالط، و (أل) فيه للجنس، والكفران من الكَفر؛ بالفتح؛ وهو الستر، ولهذا سُمي ضِدُّ الإيمان كفرًا؛ لأنَّه يستر الحق؛ أي: التوحيد، ولما كان الكفر يتفاوتمعناه؛ قال: (وكفر دون كفر)؛ أي: أقرب من كفر، فأخذُ أموال الناس بالباطل دونَ قتل النفس بغير حق، وفي رواية: (وكفر بعد كفر) والمعنى واحد، والجمهور على جر (وكفر) عطفًا على (كفران)، وفي رواية: (وكفر) بالرفع على القطع، وإنما خص كفران العشير من أنواع الذنوب؛ لقوله عليه السلام: «لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، فَقَرَنَ حق الزوج على الزوجة بحق الله تعالى، فَكُفْرُ نعمة الزوج هو كفر نعمة الله تعالى.
(فيه)؛ أي: في الباب حديث (أبو سعيد) سعد بن مالك (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ كما أخرجه المؤلف في (الحيض).
==========
%ص 20%
==================
(1/61)
[حديث: أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن]
29# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي المدني، (عن مالك): هو ابن أنس، (عن زيد بن أسلم) مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، المكنى بأبي أسامة، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومئة، (عن عطاء بن يسار)؛ بمثناة تحتية ومهملة مخففة، القاص المدني الهلالي، مولى أم المؤمنين ميمونة، المتوفى سنة ثلاث ومئة، وقيل: أربع وتسعين، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال: قال النبي) الأعظم، وفي رواية: (عن النبي) (صلى الله عليه وسلم: أُريت النار)؛ بضم الهمزة مبنيًا للمفعول من الرؤية؛ بمعنى أُبصرت، وتاء المتكلم هو المفعول الأول أقيم مقام الفاعل، (والنار [1]) مفعول ثان؛ أي: أراني الله النار، وفي رواية: (فرأيت)، وفي أخرى: (ورأيت)، والظاهر أنها في ليلة الإسراء (فإذا أكثر أهلها)؛ أي: أهل النار (النساء)؛ برفع (أكثر) و (النساء)؛ مبتدأ وخبر، وفي رواية: بنصب (أكثر) و (النساء) مفعولي (رأيت)، وفي رواية: (رأيت النار فرأيت أكثر) بالرفع، وفي رواية: (أُريت النار أكثر أهلها النساء) فـ (رأيت)؛ بمعنى أُعلمت، و (التاء) و (النار) و (النساء)؛ مفاعيله، و (أكثر) بدل من (النار).
(يكفرن)؛ بمثناة تحتية مفتوحة أوله؛ جملة مستأنفة، وفي رواية: (بكفرهن)؛ أي: بسبب كفرهن، (قيل): يا رسول الله؛ (أيكفرن بالله؟) الهمزة للاستفهام (قال) عليه السلام: لا؛ بل (يكفرن العشير)؛ أي: الزوج، فـ (أل) للعهد، أو المعاشر مطلقًا فتكون للجنس، (ويكفرن الإحسان).
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: كفران العشير ليس لذاته؛ بل الكفران له؛ هو الكفران لإحسانه، فالجملة الثانية في الحقيقة بيان للجملة الأولى، وكفران العشير والإحسان قيل: من الكبائر.
(لو) وفي رواية: (إن) (أحسنت) يا مَن يتأتى منه العلم (إلى إحداهن الدهرَ) منصوب على الظرفية، و (الدهر)؛ الزمان؛ أي: مدة عمرك، وإفادة (لو) امتناع الشيء لامتناع غيره، فلِمَ [2] صحَّ (إنْ) في الرواية الثانية؟ وأجيب: بأنَّ (لو) هنا؛ بمعنى (إنْ) في مجرد الشرطية فقط، لا بمعناها الأصلي؛ فافهم، (ثم رأت منك شيئًا) منصوب مفعول (رأت)؛ أي: شيئًا قليلًا لا يوافق مزاجها أو شيئًا حقيرًا لا يعجبها، فالتنوين فيه للتعليل أو للتحقير (قالت: ما رأيت منك خيرًا) مفعول (رأيت) (قطُّ)؛ بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة على الأشهر ظرف زمان؛ لاستغراق ما مضى.
وفيه: وعظ الرئيس المرؤوس وتحريضه على الطاعة، ومراجعة المتعلم العالم والتابع المتبوع، وجواز إطلاق الكفر على كفر النعمة وجحد الحق.
==========
[1] في الأصل: (والناس).
[2] في الأصل: (فلما).
%ص 20%
==================
[1] في الأصل: (والناس).
[1] في الأصل: (والناس).
(1/62)
(22) [باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها]
هذا (باب) بالتنوين، وهو ساقط في رواية: (المعاصي) مصدر ميمي؛ وهي مخالفة الشرع، ويجوز في (باب) الإضافة إلى ما بعده (من أمر الجاهلية)؛ وهي زمان الفترة قبل الإسلام، سُمِّيت بذلك؛ لكثرة جهالتهم، (ولا يُكْفَر)؛ بفتح المثناة تحت وسكون الكاف، وفي رواية: بضم المثناة التحتية، وفتح الكاف، وتشديد الفاء مفتوحة (صاحبها بارتكابها)؛ أي: باكتسابها والإتيان بها، فلا ينسب إلى الكفر (إلا بالشرك)؛ أي: بارتكاب الشرك بالله تعالى، خلافًا للمعتزلة القائلين: بأن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر؛ بل هو فاسق، وللخوارج القائلين: بتكفيره، والذي حققه العلماء في كتب التوحيد أن المعتزلة فسقة؛ لأنَّهم من أهل التوحيد، وقيد بـ (الارتكاب)؛ للاحتراز عن الاعتقاد، فلو اعتقد حِلّ حرام معلوم من الدين بالضرورة يكفر؛ (لقول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) لأبي ذر: (إنك امرؤ فيك جاهلية)؛ أي: فعلت فعلًا من أفعال الجاهلية بأن عيرته بأمه (وقول الله تعالى) وفي رواية: (عز وجل) وفي أخرى: (وقال الله): ({إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}) نزلت في قضية وحشي قاتل حمزة، إلى أن قال للنبي عليه السلام: إنِّي أشركت بالله، وقتلت النفس، وزنيت، فهل يقبل الله مني توبة؟ فأنزل: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ} الآية [الفرقان: 68]، فتلاها عليه، فقال: أرى شرطًا فلعلي لا أعمل صالحًا أنا في جوارك [1] حتى أسمع كلام الله، فنزلت هذه الآية، والمراد بـ (الشرك): الكفر؛ لأنَّ من جحد نبوة نبينا عليه السلام كان كافرًا ولو لم يجعل مع الله إلهًا آخر، والمغفرة منتفية عنه بالإجماع، ({وَيَغْفِرُ}) الله ({مَا دُونَ ذَلِكَ}) أي: الشرك ({لِمَن يَشَاءُ}) [النساء: 48] الغفران له، فكل من مات على التوحيد؛ غير مخلد في النار، وإن ارتكب جميع المعاصي غير الشرك.
وهذا أعظم دليل على بطلان قول مَن قال: إنَّ المغفرة لأهل بيت النبوة محقَّقةٌ لهم وإنَّ ذنوبهم صورية لا معنوية، وإنَّ ذنوبهم مغفورة لهم بدون توبة، وإنَّه لا أحد منهم يدخل النار، وألَّف في ذلك رسالة، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33]، والمراد بـ {الرِّجْسَ}: الزكاة؛ كما بُيِّن في محلِّه، ولم يلتفت إلى قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا [العَذَابُ] ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]، قال القرطبي: فتُحَدُّ حدَّين، وقال تعالى لنوح: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] فأخرجه من نسبه؛ لأنَّه أشرك بالله تعالى، وقد ردَّيتُ عليه بكلام آخر أوضحته في «شرحي على مختصر القدوري»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (جورك).
%ص 20%
==================
(1/63)
[حديث: يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية]
30# وبه قال: (حدثنا سليمان بن حرب)؛ بالموحدة الأزدي البصري (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (عن واصل) بن حَيَّان بالمهملة المفتوحة والمثناة التحتية المشددة، وفي رواية: (عن واصل الأحدب)، وفي رواية: (هو الأحدب)؛ أي: الأسدي الكوفي، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئة، (عن المعرور)؛ بعين مهملة ورائين مهملتين بينهما واو، وفي رواية زيادة: (ابن سويد) بضم السين؛ أبو أمية الأسدي الكوفي (قال) وفي رواية: (وقال): (لقيت أبا ذر) بالذال المعجمة المفتوحة وتشديد الراء؛ جندب_ بضم الجيم والدال المهملة وقد تفتح_ ابن جُنادة_ بضم الجيم_ الغفاري؛ نسبة إلى قبيلة من كنانة، القائل: يحرم على الإنسان ما زاد على حاجته من المال، المتوفى (بالرَّبَذَة) سنة اثنتين وثلاثين؛ وهي بفتح الموحدة والراء المشددة، والذال المعجمة؛ موضع بينه وبين المدينة ثلاث مراحل، قريبة من ذات عرق، (وعليه)؛ أي: لقيته حال كونه عليه (حُلَّة)؛ بضم المهملة واللام المشددة؛ وهي إزار ورداء، ولا يسمى حُلَّة حتى يكون ثوبين، وسميت بذلك؛ لحلول أحد الثوبين على الآخر، (وعلى غلامه) قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: واسم هذا الغلام لم يبين في الروايات، ويحتمل أن يكون أبا مرواح مولى أبي ذر (حُلَّة)؛ أي: وحال كون غلامه عليه حُلَّة؛ فهي ثلاثة أحوال، (فسألته عن ذلك)؛ أي: عن تساويهما في لبس الحُلَّة، وإنما سأله عن ذلك؛ لأنَّ عادة العرب وغيرهم أن يكون ثياب المملوك دون ثياب سيده، والذي فعله أبو ذر؛ كان خلاف المألوف، (فقال) أبو ذر: (إني ساببت)؛ بموحدتين؛ أي: شاتمت (رجلًا)؛ هو بلال المؤذن مولى أبي بكر رضي الله عنهما (فعيرته) بالعين
%ص 20%
المهملة؛ أي: نسبْته إلى العار (بأمه)، وفي (الأدب): (وكانت أمه أعجمية؛ فنلت منها)، وفي رواية: (فقلت له: يا ابن السوداء)، (فقال لي النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر؛ أعيرته بأمه؟!)؛ بالاستفهام الإنكاري التوبيخي، وهذا كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريم ذلك، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية فيه، ولذا قال له عليه السلام: (إنك امرؤٌ)؛ بالرفع خبر (إنَّ)، وحركةُ عينِ كلمتِه تابعةٌ للامها في الأحوال الثلاث؛ كما وضحه الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ فراجعه (فيك جاهلية)؛ بالرفع مبتدأٌ قُدِّم خبرُه؛ وهو (فيك).
وروي: أنه لمَّا شكاه بلال؛ قال له عليه السلام: «شتمت بلالًا وعيرته بسواد أمه؟!» قال: نعم، قال: «حسبت أنه بقي فيك شيء من كبر الجاهلية»، فألقى أبو ذر خده على التراب، ثم قال: لا أرفع خدي حتى يطأ بلال خدي بقدمه؛ فوطئ خده؛ كذا في «القسطلاني».
(إخوانكم) في الإسلام (خَوَلكم)؛ بفتح أوله المعجمة والواو؛ أي: خدمكم أو عبيدكم، وقدم الخبر على المبتدأ؛ للاهتمام بشأن الأخوة، ويجوز أن يكونا خبرين؛ أي: هم إخوانكم هم خولكم، وأعربه الزركشي بالنصب؛ أي: احفظوا، قال: وقال الإمام أبو البقاء العكبري [1] الحنفي: إنَّه أجود، اهـ.
ورواه المؤلف في (حسن الخلق): «هم إخوانكم»، قلت: وهو لا يرجِّح تقدير الرفع كما قيل؛ لأنَّ هذا الحديث هنا لم يصرح بقوله: هم إخوانكم، وهذه الاحتمالات مبنية على هذه الرواية المذكورة هنا، وفيما يأتي يتعيَّن الرفع ويرتفع الاحتمال؛ فافهم.
(جعلهم الله تحت أيديكم)؛ مجاز عن القدرة أو الملك، (فمَن) موصولة مبتدأ (كان أخوه): اسم (كان) (تحت يده): منصوب خبر (كان)، والجملة صلة الموصول، وقوله: (فليطعمه)؛ بضم المثناة التحتية: خبر المبتدأ، والفاء لتضمنه معنى الشرط، و (الفاء) في (فمَن)؛ فإنها عاطفة على مقدَّر؛ تقديره: وأنتم مالكون إياهم فمن ... إلخ، (مما يأكل) يجوز أن تكون (ما) موصولة والعائد محذوف؛ تقديره: مِن الذي تأكله، وأن تكون مصدرية؛ أي: مِن أكله، وإنما لم يقل: مما يطعم؛ رعاية للمطابقة؛ لأنَّ الطعم يجيء بمعنى الذوق، (وليُلبسه)؛ بضم المثناة التحتية (مما) أي: من الذي (يلبس)؛ أي: يلبسه؛ بفتح المثناة التحتية، ويجوز في (الفاء) في (فمَن) أن تكون سببية؛ كما في {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، و (مِن) للتبعيض، فإذا أطعمه مما يقتاته؛ كان قد أطعمه مما يأكله، ولا يلزمه أن يطعمه من كل مأكوله [2] على العموم، لكن يستحب له ذلك.
(ولا تكلفوهم ما) أي: الذي (يغلبهم)؛ أي: تعجز قدرتهم عنه، والنهي فيه للتحريم، (فإن كلفتموهم)؛ أي: ما يغلبهم؛ (فأعينوهم) عليه، ولا يخفى أنه يلحق بالعبد الدابة، والخادم، والأجير، والضيف، ويستفاد من الحديث: النهي عن سب العبيد وتعييرهم، والحث إلى الإحسان إليهم والرفق بهم، قال القسطلاني: وإن التفاضل الحقيقي بين المسلمين إنَّما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريفَ النَّسبِ نسبُه إذا لم يكن من أهل التقوى، ويفيد الوضيعَ النَّسبِ التقوى [3]، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، اهـ.
قلت: وهذا موافق لما قدمته لك، وهو يدل على بطلان قول هذا المتعصِّب الذي قد أحدث في الشريعة أمرًا يوصل إلى هتك الشريعة في حق أهل البيت، والله الموفق، وفيه الحث على التواضع وعدم الترفع على المسلم وإن كان عبدًا، وفيه جواز إطلاق الأخ على الرقيق، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (العبكري).
[2] في الأصل: (مالوله).
[3] في الأصل: (بالتقوى).
==================
[1] في الأصل: (العبكري).
[2] في الأصل: (مالوله).
[1] في الأصل: (العبكري).
[2] في الأصل: (مالوله).
(1/64)
(22) [باب: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}]
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط في رواية ({وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا})؛ أي: تقاتلوا، والجمع باعتبار المعنى، فإن كل طائفة جمع؛ ({فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) [الحجرات: 9] بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى، وفي رواية: ({اقتتلوا ... }؛ الآية)، (فسماهم المؤمنين)، وفي رواية: (مؤمنين مع تقاتلهم)، فعُلِمَ أنَّ صاحب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، ولا يخلد في النار، وفيه: دلالة على وجوب قتال الفئة الباغية على إمام الحق بغير حق؛ وهو مذهب إمامنا الأعظم رئيس المجتهدين رضي الله عنه.
==========
%ص 21%
==================
(1/65)
[حديث: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار]
31# وبه قال: (حدثنا عبد الرحمن بن المبارك) بن عبد الله العَيْشي؛ بفتح العين المهملة، وسكون المثناة التحتية، وبالشين المعجمة، البصري، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا حماد بن زيد) بن درهم أبو إسماعيل، الأزرقي، الأزدي، البصري، المتوفى سنة تسع وسبعين ومئة (قال: حدثنا أيوب)؛ هو السختياني، (ويونس) بن عبيد بن دينار، البصري، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئة؛ كلاهما (عن الحسن) أبي سعيد بن أبي الحسن الأنصاري، المتوفى سنة ست عشرة ومئة، (عن الأحنف)، من الحنف_وهو الاعوجاج في الرجل_ بالمهملة والنون: أبي بحر الضحاك، (بن قيس) بن معاوية المخضرم، المتوفى بالكوفة سنة سبع وستين في إمارة ابن الزبير، (قال: ذهبت لأنصُر) أي: لأجل أن أنصر (هذا الرجل): هو علي بن أبي طالب؛ كما في «مسلم»، وللمؤلف في (الفتن): أريد نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك يوم وقعة الجمل، (فلقيني أبو بَكْرة) نُفَيع_بضم النون وفتح الفاء_ ابن الحارث بن كَلَدة؛ بالكاف واللام المفتوحتين، المتوفى بالبصرة سنة اثنتين وخمسين، (فقال) لي: (أين تريد؟ قلت)، وفي رواية: (فقلت): أريد مكانًا؛ لأنَّ السؤال عن المكان والجواب بالفعل؛ فيؤوَّل بذلك، (أنصر) أي: لكي أنصر (هذا الرجل، قال: ارجع) وكان منعه اجتهادًا منه، فهو مثاب عليه، (فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما)، وفي رواية: (إذا توجه المسلمان بسيفيهما) فضرب كل واحد منهما الآخر؛ (فالقاتل والمقتول في النار)؛ أي: يستحقَّانها، وأمرهما مفوض إليه تعالى؛ كما في حديث عبادة: «فإن شاء؛ عفا عنهما، وإن شاء؛ عاقبهما، ثم أخرجهما من النار، فأدخلهما الجنة»؛ كما ثبت في حديث أبي سعيد، وفيه إشارة إلى مذهب المعتزلة القائلين بوجوب العقاب، وأجيب بالمنع؛ لما علمت.
وهذا الحديث ليس عامًا، فإن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة؛ لأنَّ قتالهم عن اجتهاد وظنِّ صلاح، فهما مأجوران، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد [1]، والحق الذي عليه أهل السنة والجماعة: الإمساك عما صدر بين الصحابة وحسن الظن بهم، فإنَّهم مجتهدون، وقد رفع الله الحرج عن المجتهد المخطئ في الفروع، وتوقف الطبري وغيره في تعيين المحق منهم، والجمهور على أن عليًّا رضي الله عنه وأشياعه كانوا مصيبين؛ لأنَّه كان أحقَّ الناس بها وأفضل من على وجه الأرض حينئذٍ؛ فتأمل، وقد رجع الأحنف عن رأي أبي بَكْرة في ذلك، وشهد مع عليٍّ باقي حروبه، والله أعلم.
قال أبو بكرة: (فقلت) وفي رواية: (قلت): (يا رسول الله؛ هذا القاتل) يستحق النار؛ لكونه ظالمًا (فما بال المقتول)؛ وهو مظلوم؟ (قال) عليه السلام: (إنه كان حريصًا)؛ أي: شجيعًا (على قتل صاحبه)، وإنما أدخل الحرص على القتل وهو صغيرة، في سلك القتل وهو كبيرة؛ لمجرد كونهما في النار فقط، وإن تفاوتا صغرًا وكبرًا، وفيه دلالة على أن من عزم على المعصية بقلبه ووطَّن في نفسه عليها؛ أَثِمَ في اعتقاده وعزمه، ولهذا جاء بلفظ (الحرص).
ويُحمل قوله عليه السلام: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلموا أو تعملوا به»، والحديث الآخر: «إذا هم عبدي بسيئة؛ فلا تكتبوها عليه» على أن ذلك فيما لم يوطِّن نفسه عليها، وإنما مرَّ ذلك من غير استقرار، ويُسمَّى هذا: همًّا، وبه يفرَّق بين الهمِّ والعزم، وإن عزم؛ تكتب سيئة، فإذا عملها؛ كتبت معصية ثانية؛ كذا حققه الشيخ الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه.
==========
[1] في الأصل: (من أصاب له أجران ومن أخطأ له أجر واحد) والوجه اقتران الجواب بالفاء.
%ص 21%
==================
(1/66)
(23) [باب ظلم دون ظلم]
هذا (باب) بالتنوين: (ظلم دون ظلم)؛ أي: بعضه أخف من بعض، وهذه الترجمة لفظ رواية حديث رواه أحمد ابنحنبل من (كتاب الإيمان) من حديث عطاء بن أبي رباح.
==========
%ص 21%
==================
(1/67)
[حديث: لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}]
32# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي، الباهلي، البصري السابق، (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج.
(ح) مهملة؛ للتحويل، وأكثر الروايات بدونها، وعليه شرح الشيخ الإمام بدر الدين العيني (قال) يعني: المؤلف: (وحدثني) بالإفراد (بِشْر)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة، وفي رواية: (ابن خالد) أبو محمد العسكري، المتوفى سنة ثلاث وخمسين ومئتين، (قال: حدثنا محمد)، وفي رواية: (محمد بن جعفر)؛ أي: الهذلي البصري المعروف بغُنْدر، المتوفى سنة ثلاث وتسعين ومئة، (عن شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (عن سليمان) بن مهران الأعمش، الأسدي الكاهلي، الكوفي، ولد يوم قتل الحسين؛ يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين، وعند المؤلف: سنة ستين، المتوفى سنة ثمان ومئة، (عن إبراهيم) بن يزيد بن قيس النَّخَعي أبي عمران الكوفي، الفقيه الثقة، المتوفى وهو مختف من الحجاج سنة ست وتسعين، (عن علقمة) بن قيس بن عبد الله، المتوفى سنة اثنتين وستين، وقيل: وسبعين، (عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه: (لما نزلت) وفي رواية: قال: لما نزلت هذه الآية: ({الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}) [الأنعام: 82] واللبس: الخلط؛ أي: لا تخلطوا إيمانكم بظلم؛ أي: عظيم؛ وهو الشرك؛ إذ لا أعظم منه، وورد التصريح به عند المؤلف: قلنا: يا رسول الله؛ أيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، بل {لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} بشرك،
%ص 21%
ألم تسمعوا إلى قول لقمان ... ؛ فذكر الآية الآتية.
ونقل القسطلاني عن التميمي: أنَّه منع تصور خلط الإيمان بالشرك، وحمله على عدم حصول الصفتين لهم، كفر متأخر عن إيمان متقدم؛ أي: لم يرتدوا، أو المراد: أنَّهم لم يجمعوا بينهما ظاهرًا وباطنًا؛ أي: لم ينافقوا، قال: وهذا أوجه؛ فتأمل.
(قال أصحاب رسول الله) وفي رواية: (النبي صلى الله عليه وسلم): (أيُّنا لم يظلم؟)؛ أي: نفسه؛ كما في الرواية السابقة مبتدأ وخبره، والجملة مقول القول، (فأنزل الله)، وفي رواية زيادة: (عز وجل) عقب ذلك: ({إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13])، وإنما حملوه على العموم؛ لأنَّ قوله: {لَظُلْمٌ} نكرة، وهي في سياق النفي فتعُم، لكن عمومها هنا بحسب الظاهر، كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من هذه الآية، فبين لهم النبي عليه السلام: أن ظاهره غير مراد؛ بل هو من العام الذي أريد به الخاص.
والمراد بالظلم: الشرك، ومعنى الظلم في الأصل: وضع الشيء في غير موضعه، وإنما فهموا حصر الأمن والاهتداء فيمن لم يلبس إيمانه حتى ينتفيا عمن لبس؛ مِن تقديم {لَهُمُ} على {الأَمْنُ} في قوله: {لَهُمُ الأَمْنُ}؛ أي: لهم لا لغيرهم، ومِن تقديم {وَهُم} على {مُهْتَدُونَ}.
وفي الحديث: أنَّ المعاصي لا تسمى شركًا، وأنَّ من لم يشرك بالله شيئًا؛ فله الأمن وهو مهتد، وإن عُذِّبَ؛ فإنَّ مآله إلى الجنة، وأن درجات الظلم تتفاوت، وأن العام يطلق ويراد به الخاص [1]، والمفسر يقضي على المجمل، وأن النكرة في سياق النفي تعُم، وأن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره.
==========
[1] في الأصل: (العام)، وليس بصحيح.
==================
(1/68)
(24) [باب علامة المنافق]
هذا (باب علامات المنافق) وسقط لفظ (باب) عند الأصيلي، وإنما لم يعبر بآيات الموافق للحديث؛ إشارة إلى أنه ورد بلفظ علامات؛ كما في «صحيح أبي عوانة»؛ فافهم، والعلامات: جمع علامة؛ وهي ما يستدل به على الشيء، والنفاق: مخالفة الظاهر للباطن، فإن كان في اعتقاد الإيمان؛ فهو نفاق الكفر، وإلَّا؛ فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك، وتتفاوت مراتبه؛ كما أوضحه في «عمدة القاري»، و (المنافق) من باب المفاعلة للاثنين؛ لكنها هنا من باب (خادع) و (طارق)؛ فليحفظ.
==========
%ص 22%
==================
(1/69)
[حديث: آية المنافق ثلاث]
33# وبه قال: (حدثنا سليمان أبو الربيع) بن داود الزهراني العتكي، المتوفى بالبصرة سنة أربع وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير الأنصاري الزرقي مولاهم، المدني، المتوفى ببغداد سنة ثمانين ومئة (قال: حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل) الأصبحي التميمي المدني، المتوفى بعد الأربعين، (عن أبيه) مالك جد مالك الإمام، المتوفى سنة ثنتي عشرة ومئة.
ومعنى قولهم في مالك: (إمام الأئمة)؛ أي: أئمة مذهبه والآخذين عنه كالشافعي، وأما إمام الأئمة على الإطلاق الذي إذا قيل: الإمام الأعظم؛ انصرف إليه؛ رئيس المجتهدين بلا نزاع الإمام المقدم التابعي الجليل أبو حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنه، وأسكنه في أعلى الجنان، فإنَّ الإمام مالك أخذ عنه الفقه، والإمام الشافعي أخذ عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام الأعظم، والإمام أحمد أخذ عن الشافعي، فهو البحر، وكلهم اغترفوا منه، قدس الله روحه ونوَّر ضريحه.
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: آية المنافق)؛ أي: علامته، واللام للجنس، و (آية) مبتدأ، وقوله: (ثلاث) خبره؛ لأنَّه اسم جمع، ولفظه مفرد، والتقدير: آية المنافق معدودة بالثلاث.
قال ابن حجر العسقلاني: (وإنما أفرد إما على إرادة الجنس أو أن العلامة إنَّما تحصل باجتماع الثلاث، والأول أليق) انتهى، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني فقال: (كيف يراد الجنس والتاء فيها تمنع ذلك؟ لأنَّ التاء فيها كالتاء في «تمرة»، والآية والآي؛ كالتمرة والتمر، قال: وقوله: «إنما تحصل ... » إلى آخره؛ يُشعر بأنه إذا وجد واحد فيه من الثلاث لا يطلق عليه منافق، وليس كذلك؛ بل يطلق عليه اسم المنافق، غير أنه إذا وجد فيه الثلاث كلها؛ يكون منافقًا كاملًا) انتهى.
أحدها: (إذا حدَّث) غيرَه في كلِّ شيء؛ (كذب) _بتخفيف الذال الممعجمة_ عليه وأخبره بخلاف الواقع.
الثانية منها: (وإذا أوعد) غيرَه بشيء في المستقبل؛ (أخلف) في وعده فلم يف به، وهو من عطف الخاص على العام؛ لأنَّ الوعد نوع من التحديث؛ لكنه أفرده؛ لزيادة قبحه، وخلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنًا للوعد، أما لو كان عازمًا ثم عَرَض له مانع أو بدا له رأي؛ فهذا لم يوجد منه صورة النفاق، ويدل لذلك ما في «أبي داود»: «إذا أوعد الرجل أخاه ومِن نيَّته أن يفي له، فلم يف؛ فلا إثم عليه»، ولا يخفى أنَّ هذا في الوعد بالخير، أما في الشر أو الإيذاء؛ فيجب؛ أي: يفترض إخلافه؛ فليحفظ.
(و) الثالثة منها: (إذا اؤتمن) _بصيغة المجهول، من الائتمان_ أمانة؛ (خان) بأن تصرف فيها من غير إذنه.
وإنما اقتصر على هذه الثلاث؛ أنَّ الديانة ثلاثة: قول، وفعل، ونية، ففساد القول بالكذب، وفساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف، وحينئذ لا تعارض بين ما يأتي بلفظ: «أربع من كن فيه ... »، والرابعة: إذا عاهد غدر؛ لأنَّ معنى الغدر: الخيانة، فإذا وجدت هذه الخصال في مسلم؛ فهل يكون منافقًا؟ أجيب: بأنها خصالُ نفاقٍ لا نفاقٌ، إما على المجاز، أو أنَّ المراد: نفاق العمل لا نفاق الكفر، أو المراد: مَن اتصف بها وصارت عادة له، يدل له التعبير بـ (إذا) المفيدة لتكرار الفعل، أو المراد: الإنذار والتحذير عن ارتكابها، أو أنه ورد في رجل معين وكان منافقًا، أو المراد: المنافقون في زمنه عليه السلام.
==========
%ص 22%
==================
(1/70)
[حديث: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا]
34# (تابعه)؛ أي: تابع سفيانَ الثوري (شعبةُ) بن الحجاج في روايته (عن الأعمش)، وقد وصله في (المظالم)، وفائدة هذه المتابعة؛ كون الحديث مرويًّا من طريق آخر.
==========
%ص 22%
==================
(1/71)
(25) [بابٌ قيامُ ليلة القدرِ من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين، وهو ساقط في رواية (قيام ليلة القدر من الإيمان)؛ أي: شعبه.
==========
%ص 22%
==================
(1/72)
[حديث: من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا]
35# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع البَهراني؛ بفتح الموحدة، الحمصي، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين (قال: أخبرنا شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة (قال: حدثنا أبو الزناد)؛ بالنون عبد الله بن ذكوان القرشي، (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدني، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن يَقم ليلة القدر) للطاعة، و (يَقم)؛ بفتح المثناة تحت: من (قام يقوم)، وقع هنا متعديًا، ويدل له حديث الشيخين: «من قامه ... » إلى آخره، (إيمانًا) أي: تصديقًا (واحتسابًا) لوجهه تعالى لا للرياء، منصوبان على المفعول له، والأوجه أن يكونا على الحال، مصدرًا؛ بمعنى الوصف؛ أي: مؤمنًا محتسبًا؛ (غفر له ما تقدم من ذنبه) إلا حقوق العباد؛ فإنَّها لا تسقط إلَّا بالأداء أو الرضا بالإجماع، وفيه دلالة على جعل الأعمال إيمانًا؛ أي: من ثمراته، و (ليلة) منصوب مفعول به لا فيه؛ كذا قيل، وجملة (غفر له) جواب الشرط، وقد وقع ماضيًا وفعل الشرط مضارعًا؛ وهو جائز على قول البعض، على حدِّ قوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم [مِّنَ السَّمَاءِ] آيَةً فَظَلَّتْ} [الشعراء: 4]، وإنما عبر بالمضارع هنا وفي قيام رمضان بالماضي؛ لأنَّ قيام رمضان وصيامه محقَّقَا الوقوع، بخلاف ليلة القدر؛ لعدم تعيُّنها، وقيل: استعمل لفظ الماضي في الجزاء مع أن المغفرة في زمن الاستقبال؛ إشارة إلى تحقق وقوعه على حدِّ قوله: {أَتَى أَمْرُ اللهِ} [النحل: 1].
==========
%ص 22%
==================
(1/73)
(26) [باب الجهاد من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين: (الجهاد) قتال الكفار؛ لإعلاء كلمته تعالى، شعبة (من) شعب (الإيمان)؛ أي: ثمرة من ثمراته، ولفظ (باب) ساقط عند الأصيلي كعادته.
==========
%ص 22%
==================
(1/74)
[حديث: انتدب الله لمن خرج في سبيله]
36# وبه قال: (حدثنا حرمي بن حفص) بن عمر العَتَكي؛ بفتح المهملة والمثناة الفوقية؛ نسبة إلى العتيك بن الأسد، القَسْمَلي؛ بفتح القاف، وسكون المهملة، وفتح الميم؛ نسبة إلى قَسْمَلة؛ قبيلة من الأزد، البصري، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عبد الواحد) بن زياد العبدي؛ نسبة إلى عبد القيس، البصري، الثقفي؛ نسبة إلى ثقيف، المتوفى سنة سبع وسبعين ومئة [1] (قال: حدثنا عُمارة)؛ بضم العين المهملة: ابن القعقاع بن شبرمة، الكوفي الضبي؛ نسبة إلى ضبة بن أد بنِ طابخة (قال: حدثنا أبو زرعة) هرم أو عبد الرحمن أو عمرو أو عبد الله (بن عمرو) وفي رواية زيادة: (ابن جرير) البَجَلي؛ بفتح الموحدة والجيم؛ نسبة [إلى] بجيلة بنت صعب (قال: سمعت أبا هريرة) رضي الله عنه (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: انْتَدب الله)؛ بنون ساكنة، ومثناة فوقية مفتوحة، ودال مهملة، من ندبت فلانًا؛ فانتدب؛ أي: أجاب إليه، وفي «القاموس»: ندبه إلى الأمر؛ دعاه وحثَّه، أو معناه: تكفَّل؛ كما رواه المؤلف، وفي رواية زيادة: (عز وجل) (لمن خرج في سبيله) حال كونه (لا يُخرجه إلا إيمانٌ) وفي رواية: (إلا الإيمان)، وفي رواية: (إلا إيمانًا)، (بي وتصديقٌ برسلي) بالرفع فيهما؛ فاعل (لا يخرجه)، وبالنصب فيهما مفعول له؛ أي: لا يخرجه المخرجُ، فالاستثناءُ مفرَّغٌ، وإنما قال: (بي) ولم يقل: به؛ للالتفات من الغَيبة إلى التكلم، وذكر ركن الدين الكرماني أن في رواية: (أو تصديق) بدل الواو، فهي بمعناها، وأن الإيمان بالله مستلزم لتصديق رسله، وهو مستلزم للإيمان بالله، واعترضه ابن حجر: بأنه لم يثبت في شيء من الروايات بلفظ (أو)، انتهى.
قلت: بل هو ثابت في «أصل فرع اليونينية» كهي (أو) بالألف قبل الواو، وعلى الألف (لا س) علامة سقوط الألف عند من رقم له
%ص 22%
بالسين؛ وهو ابن عساكر الدمشقي؛ فليحفظ.
(أن أَرجعه)؛ بفتح الهمزة من (رجع)، و (أنْ) مصدرية، والأصل: بأن أرجعه؛ أي: برجوعه إلى بلده، وفي رواية: بضم الهمزة (بما نال)؛ أي: بالذي أصابه من النيل وهو العطاء، (من أجر) فقط إن لم يغنموا، (أو) أجر مع (غنيمة) إن غنموا، أو أنَّ (أو) بمعنى الواو، وعبَّر بالماضي موضع المضارع؛ لتحقق وعده تعالى، (أو) أنْ (أدخله الجنة) مع المقربين بلا حساب ولا عقاب؛ لأنَّ الشهادة تكفرها، أو عند موته لقوله: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
(ولولا أن أشق) أي: لولا المشقة (على أمتي ما قعدت خلفَ) بالنصب على الظرفية؛ أي: ما قعدت بعد (سرية)؛ بل كنت أخرج معها بنفسي؛ لعظم أجرها، وسبب المشقة: صعوبة تخلفهم بعده، ولا قدرة لهم على المسير معه، وشفقة عليهم، و (لولا) امتناعية، و (أنْ) مصدرية في موضع رفع بالابتداء، و (ما) وقعت جواب (لولا)، وأصله (لما) فحُذِفت اللام، (ولوددت)؛ أي: والله لوددت؛ أي: أحببت (أني أُقتل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا، ثم أُقتل)؛ بضم الهمزة في الكل، وفي رواية: بالفاء.
وإنما ختم بقوله: (ثم أُقتل) والقرار إنَّما هو على حالة الحياة؛ لأنَّ المراد الشهادة، فختم الحال عليها أو الإحياء للجزاء من المعلوم، و (ثم) للتراخي في الرتبة أو الزمان، وتمنِّيه عليه السلام المراد به: حصول ثواب الشهادة، لا تمني المعصية للقاتل، وفيه استحباب طلب القتل في سبيل الله، وفضل الجهاد، ويعارضه قوله عليه السلام: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية»، إلا أن يُحمل الأول على طلب الثواب، والثاني على هجوم العدو مع عدم قدرة الدفع؛ فتأمل.
==========
[1] في الأصل: (سبع وسبعين ومئتين وألف)، وليس بصحيح.
==================
(1/75)
(27) [بابٌ تطوع قيام رمضان من الإيمان]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (تطوُّعُ) (تفعُّل)، ومعناه: التكليف بالطاعة، والمراد به هنا: التنفل؛ وهو رفعٌ بالابتداء، وقوله: (قيامِ رمضان) مضاف إليه، و (رمضان) ممنوع من الصرف؛ للعلمية والألف والنون، وفي رواية: بدون التنوين في (باب) مضافًا لما بعده، وفي رواية: زيادة لفظ (شهر)، وفي رواية: سقوط لفظ (باب) (من الإيمان)؛ أي: من ثمراته.
==========
%ص 23%
==================
(1/76)
[حديث: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا]
37# وبه قال: ([حدثنا] إسماعيل) بن أبي أويس المدني الأصبحي (قال: حدثني) بالإفراد (مالك): هو ابن أنس وهو خاله، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن حميد بن عبد الرحمن) بن عوف، أبو إبراهيم، القرشي المدني الزهري، وأمه أم كلثوم بنت عقبة أخت عثمان بن عفان لأمه، المتوفى بالمدينة سنة خمس ومئة، قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ وهو الصحيح، قاله ابن حجر العسقلاني، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَن قام) بالطاعة صلاة التراويح وغيرها في ليالي (رمضان) حال كون قيامه (إيمانًا)؛ أي: مؤمنًا مصدقًا بالله، (و) حال كونه (احتسابًا)؛ أي: محتسبًا له تعالى لا للرياء؛ (غُفِر له ما تقدم من ذنبه) إلا حقوق العباد، فالمغفورة؛ الذنوب الصغائر، وأما الكبائر؛ فلا تسقط إلا بالتوبة أو الحد، وما ورد من الغفران في قيام رمضان، وفي صومه، وليلة القدر، وكفارة صوم يوم عاشوراء سنة، ويوم عرفة سنتين، وما بين الرمضانين للذنوب بواحد، فما الذي يكفره الآخر؟ فإن كل واحد يكفر الصغائر، فإن لم توجد؛ فإنَّه يرفع له درجات، ويكتب له حسنات، ويخفف عنه في الموقف، ويسهل عليه الصعود على الصراط، وفضل واسع.
==========
%ص 23%
==================
(1/77)
(28) [باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط عند الأصيلي كعادته: (صوم رمضان) حال كونه (احتسابًا) أي: محتسبًا (من الإيمان)؛ أي: من ثمراته، ولم يقل: (وإيمانًا)؛ اختصارًا أو لاستلزام الاحتساب الإيمان.
==========
%ص 23%
==================
(1/78)
[حديث: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا]
38# وبه قال: (حدثنا ابن سلَام)؛ بتخفيف اللام، وفي رواية: (البيكندي)، وفي أخرى: (محمد بن سلام) (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (محمد بن فُضَيل)؛ بضم الفاء وفتح المعجمة: ابن غزوان الضبي مولاهم، الكوفي، المتوفى سنة تسع وخمسين ومئة (قال: حدثنا يحيى بن سعيد) الأنصاري قاضي المدينة، (عن أبي سلمة) عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن صام رمضان) كله عند قدرته عليه، أو بعضه عند مرضه ونيِّته إكماله حال كون صيامه (إيمانًا و) حال كونه (احتسابًا)؛ أي: مؤمنًا محتسبًا مصدقًا به مخلصًا به؛ (غُفِر له ما تقدم من ذنبه) الصغائر، والكبائر بالتوبة والحدِّ، ونصب (رمضان) على الظرفية، وأتى بـ (احتسابًا) بعد (إيمانًا)؛ للتوكيد.
==========
%ص 23%
==================
(1/79)
(29) [بابٌ الدين يسر]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط عند الأصيلي: (الدينُ) مبتدأ؛ أي: الإسلام، فـ (أل) للعهد، وقوله: (يسرٌ) خبر؛ أي: عينه ذو يسُْرة؛ بضم السين وسكونها؛ ضد العسر، ومعناه التخفيف، (وقولِ) بالجر معطوف على ما أضيف إليه الباب، وفي رواية: بالرفع (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: أحبُّ الدينِ) مبتدأ؛ بمعنى المحبوب؛ أي: أحب خصال دين الإسلام (إلى الله) تعالى الملةُ (الحنيفيةُ) خبر؛ أي: المائلة عن الباطل إلى الحق، والمراد بالحنيفية: الإبراهيمية (السمحةُ)؛ أي: السهلة المخالفة لأديان الأمم السالفة، بالرفع صفة (الحنيفية).
وهذا التعليق وصله المؤلف في «الأدب»، وأحمد، والطبراني، وإنما ذكره ترجمة؛ لأنَّه ليس على شرطه.
==================
(1/80)
[حديث: إنَّ الدين يسر]
39# وبه قال: (حدثنا عبد السلام بن مُطَهَّر)؛ بضم الميم وفتح الطاء المهملة، والهاء المشددة: ابن حسام الأزدي البصري، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عمر بن علي) بن عطاء المقدمي البصري المتوفى سنة تسعين ومئة، (عن مَعْن بن محمد)؛ بفتح الميم وسكون العين المهملة: ابن معن (الغِفاري)؛ بكسر الغين المعجمة؛ نسبة إلى غِفار الحجاز، فإن قيل: ما حكم حديث رواية عمر بن علي المدلِّس بالعنعنة عن معن؟ أجيب: بأنها محمولة على ثبوت سماعه من جهة أخرى كجميع ما في «الصحيحين» عن المدلسين؛ كما أوضحه الشيخ الإمام بدر الدين العيني، (عن سعيد بن أبي سعيد) واسمه كيسان (المَقْبُري)؛ بفتح الميم، وسكون القاف، وضم الموحدة؛ نسبة إلى مقبرة بالمدينة، المدني، أبي سعْد؛ بسكون العين، المتوفى بعد اختلاطه بأربع سنينسنة خمس وعشرين ومئة، وكان سماع معن عن سعيد قبل اختلاطه، (عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: إن الدين يسر).
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: أي: ذو يسر، وذلك لأنَّ الالتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلَّا بالتأويل، أو الدين يسر؛ أي: عينه، على المبالغة، فكأنَّه لشدة اليسر وكثرته نفس اليسر؛ كما يقال الإمام الأعظم فقه [1]؛ لأنَّه صار عين الفقه، ومنه رجل عَدْل، و (اليسر)؛ بالضم والفتح؛ نقيض العسر، ومعناه: التخفيف، إما بالنسبة إلى ذاته، أو بالنسبة إلى سائر الأديان؛ وهو الظاهر؛ لأنَّ الله تعالى رفع عن هذه الأمة الأضر الذي كان على من قبلهم، كعدم جواز الصلاة إلَّا في المسجد، وعدم الطهارة بالتراب، وقطع الثوب الذي يصيبه النجاسة، وقبول التوبة بقتل أنفسهم، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، انتهى؛ فليحفظ.
والتأكيد بـ (إنَّ)؛ ردًّا على منكرِ يُسرِ هذا الدين على تقدير كون المخاطب منكِرًا، وإلَّا؛ فعلى تقديره تنزيله منزلة المنكِر، وإلَّا؛ فعلى تقدير: المنكرين غير المخاطب، وإلَّا؛ فلكون القضية ممَّا يهتم بها، انتهى.
(ولن يشادَّ هذا الدينَ أحد) وفي رواية: بإسقاط لفظ (هذا)؛ بالشين المعجمة وإدغام سابق المثلين في لاحقه؛ من المشاددة؛ وهي المغالبة؛ أي: لا يتعمق أحد في الدين ويترك الرفق (إلا غلبه) الدينُ، وعجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه، و (يشاد) منصوب بـ (لن)، و (الدين) نُصب بإضمار الفاعل؛ أي: لن يشادَّ الدينَ أحدٌ، وفي رواية: برفع (الدين) على أنَّ (يُشادَّ) مبني لما لم يسم فاعله، واعترض بأن أكثر الروايات بالنصب، وجمع بينهما بالنسبة إلى روايات المشارقة والمغاربة.
(فسددوا) بالمهملة من السَّداد؛ وهو التوسط بالعمل؛ أي: الزموا السداد من غير إفراط ولا تفريط، (وقاربوا) بالموحدة؛ أي: في العبادة، إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل؛ فاعملوا بما يقرب منه، (وأبشروا)؛ بقطع الهمزة من الإبشار، وفي لغة: بضم الشين من البشرى؛ بمعنى الإبشار؛ أي: أبشروا بالثواب على العمل، وأبهم المبشَّر به؛ للتنبيه على تعظيمه، وسقط (وأبشروا) في رواية، (واستعينوا)؛ أي: اطلبوا الإعانة (بالغدوة): سير أول النهار إلى الزوال أو ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، كالغداة والغدية (والروحة): اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل، وضبطهما الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ بفتح الراء في (الرَّوحة) وضم الغين المعجمة في (الغُدوة)، قال: وهو الصحيح، وتبعه على ذلك ابن الأثير في «النهاية»، وضبطهما الشيخ ركن الدين الكرماني وتبعه ابن حجر؛ بفتح أولهما، قلت: والمشهور الأول، كما لا يخفى؛ فافهم، (وشيءٍ)؛ أي: واستعينوا بشيء (من الدُّلْجة)؛ بضم الدال المهملة وإسكان اللام: سير آخر الليل أو الليل كله، ومن ثَم عبر بـ (مِن) التبعيضية، وقد أوضحه في «عمدة القاري»؛ ولأن عمل الليل أشرف من عمل النهار، وفي هذا استعارة الغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (فقيه)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 23%
==================
(1/81)
(30) [باب الصلاة من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين وترْكِه بإضافته إلى الجملة بعده؛ لأنَّ قوله: (الصلاة) مرفوع بالابتداء، وخبره قوله: (من الإيمان)؛ أي: الصلاة شعبة من شعب الإيمان، ولفظ (باب) ساقط عند الأصيلي كعادته، (وقول الله تعالى) وفي رواية: (عزَّ وجلَّ)، ويجوز فيه الجر عطفًا على المضاف إليه، والرفع عطفًا على لفظ (الصلاة): ({وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]) بالخطاب؛ لأنَّ المقام يقتضي الغَيبة؛ لكنه قصد تعميم الحكم للأمة الأحياء والأموات،
%ص 23%
فذكر الأحياء المخاطبين؛ تغليبًا لهم على غيرهم (يعني: صلاتكم) بمكة (عند البيت) المراد به: الكعبة؛ لأنَّها المرادة عند الإطلاق.
وقال ابن عباس: كان يصلي عليه السلام إلى بيت المقدس؛ لكنه لا يستدبر الكعبة؛ بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس، وأطلق آخرون: أنه كان إلى بيت المقدس، وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة فلما تحول إلى المدينة؛ استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنَّه يجمع بين القولين.
==================
(1/82)
[حديث: أن النبي كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده]
40# وبه قال: (حدثنا عمرو بن خالد)؛ بفتح العين: ابن فروخ الحنظلي الحراني، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا زُهَير)؛ بضم أوله وفتح ثانيه مصغرًا: ابن معاوية بن حُديج بضم الحاء المهملة، وفتح الدال المهملة، آخره جيم، الجُعفي الكوفي، المتوفى سنة اثنتين وسبعين ومئة (قال: حدثنا أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي التابعي، المتوفى سنة ست وعشرين ومئة، (عن البرَاء)؛ بتخفيف الراء والمد على المشهور، وفي رواية: (عن البراء بن عازب) بن الحارث الأنصاري الأوسي، المتوفى بالكوفة سنة اثنتين وسبعين: (أن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم كان أولَ ما قدِم)؛ بكسر الدال ونصب (أول) على الظرفية، لا خبر (كان)، كما وهم الزركشي؛ فإنَّ خبر (كان) قوله: (نزل) في أول قدومه (المدينة)؛ أي: مدينة النبي الأعظم عليه السلام، فـ (أل) للعهد، وتسمى طيبة؛ أي: في هجرته من مكة (نزل على أجداده أو قال)؛ أي: أبو إسحاق (أخواله من الأنصار): (مِن) للبيان، وهذا شكٌّ من أبي إسحاق.
والمراد بالأجداد: هم من جهة الأمومية، وإطلاق الجد والخال هنا مجاز؛ لأنَّ هاشمًا جدَّ أب النبي الأعظم عليه السلام زوِّج من الأنصار، ونزوله عليه السلام كان في بيت جدِّي الصحابي الجليل أبي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه، وأقام عنده سبعة أشهر، وبعث وهو عنده، وهذه فضيلة عظيمة؛ حيث اختار النبي النزول في بيت جدي رضي الله عنه.
(وأنه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (صلَّى قِبَل)؛ بكسر القاف وفتح الموحدة، والجملة رفع خبر (أنَّ) (بيت المقدس) مصدر ميمي كـ (المرجع)، منصوب على الحال؛ أي: حال كونه متوجهًا إليه (ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا) على الشك في رواية زهير هنا، وجزم مسلم بالأولى، فيتعيَّن اعتمادها؛ وهي الصحيحة، قبل بدر بشهرين، وجزم القاضي ومالك بن أنس بصحة الثانية، والجمع بينهما: أنَّ من جزم بالأولى؛ أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، والمعنى: الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بالثانية؛ عدَّهما معًا، ومن شكَّ؛ تردد في ذلك وكان القدوم في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف رجب في السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، وسقط في روايةٍ قوله: (شهرًا) الأول.
(وكان) النبي الأعظم عليه السلام (يعجبه) خبر (كان) (أن تكون قبلتُه قِبَل)؛ بكسر القاف وفتح الموحدة؛ أي: كون قبلته جهةَ (البيت) الحرام؛ أي: كان يحب ذلك فـ (أن تكون) في محل رفع فاعل (يعجبه)، و (أنْ) مصدرية، والتقدير كما علمته، (وأنَّه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، عطفًا على (أنه) السابقة (صلى أول صلاة صلاها)؛ متوجِّهًا إلى الكعبة، وجملة (صلى) من الفعل والفاعل محلُّها رفع خبر (أنَّ)، وبنصب (أولَ) مفعول (صلى) (صلاة العصر) بدل منه، وأعربه ابن مالك: بالرفع، وسقط لفظ (صلى) في رواية.
وجاء في «الترمذي»، و «النسائي»، و «الشيخين» في (الصلاة): عن ابن عمر قال: (بينا الناس في صلاة الصبح)، وفي «مسلم» عن أنس: (أنها الصبح)، والجمع بين الروايتين: أنَّ التي صلاها مع النبي العصر، مر على قوم من الأنصار في تلك الصلاة؛ وهي العصر، فهذا رواية البراء، وأما رواية ابن عمر وأنس: أنَّها الصبح؛ فهي صلاة أهل قباء ثاني يوم، ومال بعض المتأخِّرين إلى ترجيح رواية الصبح؛ لأنَّها جاءت عن صحابيَّين، لكن الصواب أنَّها العصر؛ كما أوضحه في «عمدة القاري».
(وصلى معه)؛ أي: مع النبي الأعظم عليه السلام (قومٌ) مرفوع فاعل؛ وهو موضوع للرجال دون النساء، ولا واحد له من لفظه، وقد تدخلن النساءُ فيه على سبيل التبَع، (فخرج رجل ممن صلى معه)؛ وهو عبَّاد بن بشر بن قيظي، أو عباد بن نَهِيك_بفتح النون وكسر الهاء_ ابن أساف الخطمي، أو عباد بن وهب؛ وهي أقوالٌ ثلاثةٌ، أصحها أوسطها، (فمر على أهل مسجد) من بني سلمة، ويعرف الآن بمسجد القبلتين في صلاة العصر (وهم راكعون) يَحتمل أن يراد حقيقة الركوع، وأن يراد به الصلاة؛ من إطلاق الجزء وإرادة الكل، قلت: والظاهر الأول، (فقال) لهم: (أشهد) أي: أحلف (بالله؛ لقد صليت مع رسول الله) وفي رواية: (مع النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة)؛ أي: حال كونه متوجِّهًا إليها، واللام: للتأكيد، و (قد) للتحقيق، وجملة (أشهد) اعتراض بين القول ومقوله، (فداروا)؛ أي: سمعوا كلامه فداروا، فالفاء فصيحة (كما هم) عليه (قِبَل البيت) الحرام، ولم يقطعوا الصلاة؛ بل أتموها إلى جهة الكعبة، فصلوا صلاة واحدة إلى جهتين.
وهذه الكاف تحتمل وجهين؛ الأول: أن تكون للاستعلاء؛ كما في نحو: كن كما أنت، والتقدير هنا: فداروا على ما هم عليه، وفي إعرابه أوجه؛ الأول: أن تكون (ما) موصولة، و (هم) مبتدأ، وخبره محذوف؛ وهو (عليه)، الثاني: أن تكون (ما) زائدة ملغاة، والكاف زائدة، و (هم) ضمير مرفوع أنيب عن المجرور؛ كما [في] قولك: ما أنا كأنت، والمعنى: فداروا في الحال مماثلين لأنفسهم في الماضي، الثالث: أن تكون (ما) كافة، و (هم) مبتدأ، وحذف خبره؛ وهو (عليه) أو (كائنون)، الرابع: أن تكون (ما) كافة أيضًا، و (هم) فاعل، والأصل: كما كانوا، ثم حذفت (كان)؛ فانفصل الضمير، الوجه الثاني: أن تكون الكاف كاف المبادرة، والمعنى: فداروا مبادرين في حالهم التي هم عليها، والوجه الأول هو الأحسن، أفاده في «عمدة القاري»؛ وهو في غاية التحقيق،
وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب؛ أي: القرآن، وبه قال إمامنا الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور، وللشافعي فيه قولان، وكذا أحمد، وأجازه مالك.
وفيه دليل على جواز الاجتهاد بالقبلة؛ وهو مذهب الإمام الأعظم، وجواز الاجتهاد بحضرة الرسول، وفيه خلاف.
وفيه دليل على أنَّ من صلَّى بالاجتهاد إلى غير القبلة ثم تبين له الخطأ بعدما فرغ؛ لا يلزمه الإعادة؛ لأنَّه فعل ما عليه؛ لأنَّ أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظنِّهم بقاء الأمر؛ فلم يؤمروا بالإعادة؛ وهو مذهب الإمام الأعظم.
وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين؛ بل إلى أربع جهات، كمن صلى إلى جهة باجتهاد ثم تبدل اجتهاده إلى أخرى؛ يستدير ... وهكذا حتى لو صلى أربع ركعات كل ركعة إلى جهة؛ فإنه جائز؛ وهو مذهب الإمام الأعظم، وبه قال الشافعي.
(وكانت اليهود قد أعجبهم) أي: النبي الأعظم عليه السلام و (هم) منصوب على المفعولية؛ (إذ كان) عليه السلام (يصلي قِبَل بيت المقدس)؛ أي: حال كونه متوجِّهًا إليه، و (إذ) ظرف بمعنى: حين)، والمعنى: أعجب اليهود حين كان يصلي عليه السلام قِبَل بيت المقدس، و (إذ) إنَّما تقع بدلًا عن المفعول؛ كما في قوله: {إذ انتبذت} [مريم: 16]، وهنا المفعول هو الضمير المنصوب؛ فلا يصح أن يكون بدلًا منه؛ لفساد المعنى، والضمير المستتر في (أَعجب)؛ ضمير الفاعل؛ فافهم، والإضافة في (بيت المقدس)؛ من إضافة الموصوف إلى صفته كـ (صلاة الأولى)، والمشهور فيه الإضافة، وقد جاء على الصفة: (البيت المقدس)، قال أبو علي: تقديره: بيت مكان الطهارة، (وأهلُ الكتاب) بالرفع عطفًا على اليهود؛ وهو من عطف العام على الخاص، وقال ركن الدين الكرماني: أو المراد بهم النصارى فقط، خاص عطف على خاص، قال ابن حجر: وفيه نظر؛ لأنَّ النصارى لا يصلُّون لبيت المقدس، فكيف يعجبهم؟ واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأن الكرماني لما قال: المراد به: النصارى فقط؛ قال: وجعلوا تابعة؛ لأنَّهم لم يكن قبلتهم، بل إعجابهم كان بالتبعية لليهود، على أن نفس الحديث يشهد بإعجاب النصارى أيضًا؛ لأنَّ قوله: (وأهل الكتاب) إذا كان عطفًا على (اليهود)؛ يكونون داخلين فيما وصف به اليهود، فالنصارى من جملة أهل الكتاب، فهم أيضًا داخلون فيه، والأظهر أن يكون (وأهلَ الكتاب)؛ بالنصب على أن الواو فيه بمعنى (مع)؛ أي: كان يصلي قِبَل بيت المقدس مع أهل الكتاب، وهذا وجه صحيح، ولكن يحتاج إلى تصحيح الرواية بالنصب، وفي هذا الوجه أيضًا يدخل فيه النصارى؛ لأنَّهم من أهل الكتاب، انتهى؛ وهو في غاية التحقيق؛ فليحفظ.
(فلما ولَّى) عليه السلام (وجهَه قِبَل البيت)؛ أي: أقبل عليه السلام وجهَه نحو الكعبة؛ (أنكروا ذلك)؛ أي: أنكر أهل الكتاب توجيهه إليها، فعند ذلك نزلت: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} ... الآية [البقرة: 142]؛ كما صرح به المؤلف في رواية من طريق إسرائيل.
(قال زهير) بالتصغير؛ يعني: ابن معاوية: (حدثنا أبو إسحاق) يعني: الهمداني السبيعي، (عن البراء) بن عازب (في حديثه هذا) وفي رواية: (أبو إسحاق في حديثه عن البراء): (أنه مات على القبلة) أي: المنسوخة (قبل أن تحوَّل) أي: قبل التحويل إلى الكعبة (رجالٌ) عشرة؛ منهم: عبد الله بن شهاب الزهري القرشي مات بمكة، والبراء بن معرور الأنصاري بالمدينة (وقُتِلوا)؛ بضم أوله وكسر ثانيه.
وفائدة ذِكر القتل: بيان كيفية موتهم؛ إشعارًا بشرفهم، واستبعادًا لضياع طاعتهم، أو أن الواو بمعنى (أو)؛ فيكون شكًّا؛ لكن القتل فيه نظر؛ فإن تحويل القبلة كان قبل نزول القتال، على أنَّ هذه اللفظة لا توجد في غير رواية زهير بن معاوية، وإنما يوجد في باقي الروايات ذكر الموت فقط، أفاده القسطلاني، قلت: احتمال الشك بعيد، ومراده أنه مات رجال وسبب موتهم كان القتل.
%ص 24%
وقوله: إن التحويل كان قبل نزول القتال؛ لا ينافي ذكر القتال؛ لأنَّ القتال كان في جميع الأمم الماضية، وليس المعنى أنهم قُتلوا قصاصًا؛ بل في وقعة من الوقعات، وجُلُّ سؤال زهير عن هذا؛ فتأمل.
(فلم ندر ما نقول فيهم؛ فأنزل الله تعالى) وفي رواية: (عز وجل): ({وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]) بالقبلة المنسوخة أو صلاتكم إليها، وقال الكرماني: يَحتمل أن يكون المؤلف ذكر قول زهير معلقًا، واعترضه ابن حجر بأن المؤلف ساقه في (التفسير) موصولًا مع جملة الحديث، وردَّه الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأنَّ صورته صورة تعليق، وأنَّه لا يلزم من سوقه في (التفسير) جملة واحدة أن يكون هذا موصولًا غير معلق، انتهى؛ فليحفظ.
وفي الحديث دليل على صحة نسخ الأحكام؛ وهو مجمع عليه، خلافًا لليهود، ووجوب الصلاة إلى القبلة، والإجماع على أنَّها الكعبة، وعلى شرف النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وكرامتِه على ربه؛ حيث يعطي له ما يحبه من غير سؤال.
==================
(1/83)
(31) [باب حسن إسلام المرء]
هذا (باب حسن إسلام المرء) بإضافة (باب) لما بعده، وهو ساقط عند الأصيلي.
==================
(1/84)
[حديث: إذا أسلم العبد فحسُنَ إسلامه]
41# وبه قال: (قال مالك) وفي رواية: (وقال)، وفي أخرى: (قال: وقال مالك) هو ابن أنس: (أخبرني) بالإفراد (زيد بن أسلم) أبو أسامة القرشي المكي، مولى عمر بن الخطاب: (أن عطاء بن يسار)؛ بفتح المثناة تحت والسين المهملة: أبا محمد المدني، مولى أم المؤمنين ميمونة (أخبره أن أبا سعيد) سعد بن مالك (الخدري)؛ بالدال المهملة رضي الله عنه (أخبره: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يقول) بالمضارع حكاية حالٍ ماضية: (إذا أسلم العبد) وكذا الأَمة، وخصَّ الذكر؛ تغليبًا، (فحسن إسلامه) أو إسلامها بالدخول فيه ظاهرًا وباطنًا، أو المراد: المبالغة في الإخلاص لله تعالى بالطاعة والمراقبة؛ (يُكَفِّر)؛ بضم المثناة تحت، وفتح الكاف، مع تشديد الفاء المكسور،: من التكفير؛ وهو التغطية، وهو في المعاصي كالإحباط في الطاعات، وقال الفاضل جار الله الزمخشري: التكفير إماطة المستحق من العقاب بثواب زائد أو بتوبة، انتهى (الله عنه) وعنها، جزاء الشرط؛ أعني: (إذا)، ويجوز فيه الرفع والجزم، وذلك إذا كان فعل الشرط ماضيًا والجواب مضارعًا، وعند الجزم يلتقي الساكنان، فتحرك بالكسر؛ لأنَّه الأصل، ولكن الرواية هنا بالرفع، وفي روايةٍ: (كَفَّر الله) بصيغة الماضي، فوافق فعل الشرط؛ فليحفظ، (كلَّ سيئة) منصوب مفعول (يُكَفِّر) (كان زلَفها) بتخفيف اللام المفتوحة، وفي رواية: بتشديد اللام، وفي أخرى: (أَزْلَفها) بزيادة همزة مفتوحة؛ وهما بمعنًى واحد؛ أي: أسلفها وقدمها، (وكان بعد ذلك)؛ أي: بعد حسن الإسلام (القصاصُ) بالرفع اسم (كان) على أنَّها ناقصة، أو فاعل على أنَّها تامة، وعبر بالماضي؛ لتحقق الوقوع؛ (الحسنةُ) بالرفع مبتدأ، خبره (بعشر)؛ أي: تُكتب أو تُثبت في الصحف أو في الميزان بعشر (أمثالها) حال كونها منتهية (إلى سبع مئة ضِعف)؛ بكسر الضاد: المثل إلى ما زاد، يقال: لك ضعفه؛ يريدون: مثليه وثلاثة أمثاله؛ لأنَّه زيادة غير مخصوصة؛ كذا في «القاموس».
وزعم بعض الشافعية أنَّ التضعيف لا يتجاوز سبع مئة، وأجيب: بأنه أخرج المؤلف في (الرقاق) من حديث ابن عباس: «كتب الله له عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة»، وهو يرد عليه.
وأما قوله تعالى: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: 261]؛ فالمراد: أنه يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء؛ بأن يجعلها سبع مئة، أو أنه يضاعف السبع مئة بأن يتجاوزها بأضعاف، لما في «أبي عاصم» عن أبي هريرة أنه قال: (إن الله يعطي بالحسنة ألفي ألف حسنة).
وفي حديث مالك مما أسقطه المؤلف: أن الكافر إذا حَسُن إسلامه، يُكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك، فالله من فضله إذا كتب الحسنات المتقدمة قبل الإسلام؛ فبالأَولى أن يتفضَّل على عبده المسلم بما شاء من غير حساب، وإنما أسقط المؤلف هذه الزيادة؛ لأنَّ القاعدة: أنَّ الكافر لا يُثاب على طاعته في شركه، وردَّه النووي بأن الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم الإجماع: أن الكافر إذا فعل أفعالًا جميلة على جهة القربى؛ كصدقة، وصلة رحم، وإعتاق، ثم أسلم ومات على الإسلام؛ أنَّ ثواب ذلك يُكتب له، والحديث الآتي يدل عليه، فدعوى أنه مخالف للقواعد غير مسلَّمة.
وأما قول الفقهاء: لا تصح عبادةٌ من كافر، ولو أسلم؛ لم يعتدَّ بها؛ فمرادهم: لا يعتد بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرُّض لثواب الآخرة، فإن أقدم قائل: بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة؛ فهو مجازف، فيرَدُّ قوله بهذه السنة الصحيحة.
(والسيئةُ) بالرفع مبتدأ خبره (بمثلها) أي: لا يُزاد عليها (إلَّا أن يتجاوز الله) سبحانه (عنها)؛ أي: عن السيئة فيعفو عنها، وفيه دليل ظاهر لأهل السنة: أنَّ العبد تحت المشيئة إن شاء الله تجاوز عنه وإن شاء أخذه، وهو يردُّ قول القائل: إن ذنوب أهل البيت مغفورة لهم بدون توبة، وفيه ردٌّ على المعتزلة القائلين: أن مرتكب الكبيرة في النار، وقال ابن حجر: أول الحديث يردُّ على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان؛ لأنَّ الحُسن تتفاوت درجاته.
قلت: هذا كلام ساقط؛ لأنَّ الحُسن من أوصاف الإيمان، ولا يلزم من قابلية الوصف الزيادة والنقصان قابلية الذات إياهما؛ لأنَّ الذات من حيث هو هو لا يقبل ذلك؛ كما عرف في موضعه، أفاده الشيخ الإمام بدر الدين العيني قُدِّس سرُّه، قلت: وقدمنا ما يتعلق بذلك أول الكتاب؛ فيراجع.
==========
%ص 25%
==================
(1/85)
[حديث: إذا أحسن أحدكم إسلامه]
42# وبه قال: (حدثنا) بالجمع، وفي رواية: (حدثني) (إسحاق بن منصور) بن أبي بَهرام؛ بفتح الموحدة على المشهور، أبو يعقوب الكَوسج، من أهل مرو، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (عبد الرزاق) بن همَّام بن نافع اليماني الصنعاني، المتوفى سنة إحدى عشرة ومئتين، وكان شيعيًّا (قال: أخبرنا مَعْمَر)؛ بميمين مفتوحتين: ابن راشد، أبو عروة البصري، وتقدم، (عن همَّام)؛ بتشديد الميم، وفي رواية: (عن همَّام بن مُنَبِّه)؛ بضم الميم، وفتح النون، وتشديد [1] الموحدة، بن كامل أبي عقبة اليماني الذماري الأبناوي [2]، التابعي، المتوفى بصنعاء سنة إحدى عشرة ومئة، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحسن أحدكم إسلامه) باعتقاده، وإخلاصه، وبدخوله فيه بالباطن والظاهر، وفي رواية: (إذا أحسن إسلام أحدكم)، والخطاب فيه بحسب اللفظ، وإن كان للحاضرين من الصحابة؛ لكن الحكم عام؛ لما علم أن حكمه عليه السلام على الواحد حكم على الجماعة إلَّا بدليل منفصل، وكذا حكم تناوله النساء، وكذا فيما إذا قال: إذا أسلم المرء أو العبد؛ فإن المراد منه: الرجال والنساء جميعًا بالاتفاق، بقي كيفية التناول أهي حقيقة شرعية أم عرفية أو مجاز أو غير ذلك؟ أفاده في «عمدة القاري»، قلت: والظاهر الأول، والله أعلم.
(فكلُّ) الفاء في جواب (إذا) (حسنة يعملها) مبتدأ، خبره قوله: (تُكتب له بعشر أمثالها) حال كونها منتهية (إلى سبع مئة ضِعف)؛ بكسر الضاد المعجمة؛ أي: مثل، وأتى هنا بـ (كل)، وفي الحديث السابق بـ (أل)، ولا فرق بينهما في المعنى؛ لأنَّ (أل) هناك للاستغراق، و (كل) أيضًا للاستغراق.
(وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها) زاد مسلم: (حتى يلقى الله)، ولا فرق في إطلاق الحسنة والسيئة بالحديث السابق، والتقييد هنا بقوله: (يعملها)؛ لأنَّ المطلق محمول على المقيد، وزاد هنا لفظ (تُكتب)، وأسقطها في الحديث السابق، فهي مقدرة؛ لأنَّ الجارَّ لا بُدَّ له مِن متعلق؛ وهو (تُكتب) أو نحوها، والباء في (بمثلها) للمقابلة، أفاده في «عمدة القاري».
==================
[1] في الأصل: (وسكون)، وليس بصحيح.
(1/86)
(32) [بابٌ أحب الدين إلى الله أدومه]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (أحبُّ الدين إلى الله) زاد في رواية: (عز وجل) (أدومُه) خبر عن (أحبُّ)، ومحبة الله للدين: إيصال الثواب عليه، و (أحب) و (أدوم) كل منهما (أَفعل) تفضيل من الدوام؛ وهو شمول الأزمنة؛ أي: التأبيد، والمراد: الدوام العرفي؛ وذلك قابل للكثرة والقلة.
==================
(1/87)
[حديث: مه، عليكم بما تطيقون فوالله لا يملُّ الله حتى تملوا]
43# وبه قال: ([حدثنا] محمد بن المثنَّى)؛ بالمثلثة والنون المفتوحة المشددة: أبو موسى البصري المعروف بالزَّمِن؛ مرَّ، (قال: حدثنا يحيى)؛ هو ابن سعيد القطان الأحول؛ كما مرَّ، (عن هشام) هو ابن عروة (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير بن العوَّام؛ وقد مرَّ، (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم دخل عليها): جملة محلها الرفع خبر (أنَّ)، (و) الحال (عندها امرأة، فقال) بالفاء وفي رواية: بحذفها، فيكون جملة اسمية استئنافية؛ أعني: جواب سؤال مقدر، كأنه يقول: ماذا قال حين دخل؟ قالت: قال: (مَن هذه؟) مبتدأ وخبر؛ أي: المرأة (قالت) أي: عائشة: هي (فلانةُ) خبر لمبتدأ محذوف، غير منصرف للعلمية والتأنيث؛ لأنَّه كناية عن كل علم مؤنث [1]؛ وهي الحولاء _بالحاء المهملة والمد_ بنت تويت؛ بمثناتين مصغرًا، من بني أسد، وكانت صالحة عابدة مهاجرة رضي الله عنها.
(تَذكر)؛ بفتح المثناة الفوقية؛ أي: عائشة، وفي رواية: بالمثناة التحتية المضمومة، مبنيٌّ لما لم يُسمَّ فاعله، وقوله: (من صلاتها) في محل رفع مفعول نائب عن الفاعل، والمعنى: يذكرون أن صلاتها كثيرة، وفي رواية زيادة: (لا تنام بالليل)، وعلى الأول: هي محلها النصب على المفعولية، ولعل عائشة أَمِنت عليها الفتنة فمدحتها في وجهها، لكن في «مسند الحسن بن سفيان»: كانت عندي امرأة، فلما قامت؛ قال عليه السلام: «من هذه يا عائشة؟» قالت: يا رسول الله؛ هذه فلانة، وهي أعبد أهل المدينة، فظاهر هذه الرواية أنَّ مدحها كان في غيبتها بعد أن خرجت
%ص 25%
المرأة.
(قال) عليه السلام: (مَهْ)؛ بفتح الميم وسكون الهاء؛ اسم للزجر؛ بمعنى: (اكفف)، فإنْ وصلتَ [2]؛ نَوَّنتَه كان نكرة، وإذا حُذف؛ كان معرفة.
فنهاها عليه السلام عن مدح المرأة بما ذكرته أو عن تكلف عمل ما لا يطاق.
وعند مالك: وفيه: (فقيل له: هذه الحولاء لا تنام الليل، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرفتِ الكراهة في وجهه)، فهذا يدل للاحتمال الثاني.
ولذا قال: (عليكم) من العمل (بما) بموحدة، وفي رواية بدونها (تطيقون)؛ أي: بالذي تطيقون المداومة عليه، وحذف العائد للعلم به، ويفهم منه النهي عن تكليف ما لا يطاق، وسبب وروده خاص بالصلاة، لكن اللفظ عام فيشمل جميع الأعمال، وعدل عن خطاب النساء إلى خطاب الرجال؛ طلبًا لتعميم الحكم، فغلَّب الذكور على الإناث في الذِّكْر، أفاده في «عمدة القاري»، (فوالله لا يمَل الله) من الملالة؛ وهي السآمة والضجر (حتى) أنْ (تَمَلُّوا)؛ بفتح الميم في الموضعين؛ وهو من باب المشاكلة والازدواج؛ وهو أن يكون إحدى اللفظين موافقة للأخرى وإن خالفت معناها، والملال: ترك الشيء استثقالًا وكراهية له بعد حرص ومحبة فيه، وهذا من صفات المخلوق لا الخالق عز وجل، فيحتاج إلى التأويل، فقال المحققون: هو على سبيل المجاز؛ لأنَّه تعالى لمَّا كان يقطع ثوابه عمن قطع العمل مَلالًا؛ عبَّر عن ذلك بالمَلال من باب تسمية الشيء باسم سببه، أو معناه: لا يقطع عنكم فضله حتى تمَلُّوا سؤاله.
(وكان أحبَّ الدين)؛ أي: الطاعة، ومنه الحديث في صفة الخوارج: «يمرقون من الدين»؛ أي: من طاعة الأئمة، ويجوز أن يكون فيه حذفًا؛ تقديره: أحب الأعمال الدين (إليه)؛ أي: إلى النبي الأعظم عليه السلام، وفي رواية: (إلى الله)، وليس بين الروايتين تخالف؛ لأنَّ ما كان أحب إلى الله؛ كان أحب إلى رسوله، وفي رواية: (وكان أحبُّ) بالرفع اسم (كان)، (ما داوم) من المداومة؛ وهي المحافظة؛ أي: حافظ وواظب (عليه صاحبه) وإن قَلَّ، فبالمداومة على القليل تستمر الطاعة، بخلاف الكثير الشاق، وربما يزيد القليل الدائم على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة، والمجرور محله نصب خبر (كان)، و (صاحبه) مرفوع بـ (داوم)، وكلمة (ما) للمدة، والتقدير: مدة دوام صاحبه عليه، وفي الحديث دلالة على استعمال المجاز؛ وهو إطلاق المَلل عليه تعالى، وجواز الحلف من غير استحلاف، وأنه لا كراهة فيه وهو مذهب الإمام الأعظم، وقال الشافعي: يكره، وفيه بيان شفقته عليه السلام ورأفته بأمته، وفيه دليل على أن صلاة الليل كلِّه مكروهة، ونفاها مالك ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح، والله تعالى أعلم.
==================
[1] (كل علم مؤنث): ضرب عليها في الأصل.
(1/88)
(33) [باب زيادة الإيمان ونقصانه]
(بابُ زيادةِ الإيمان ونقصانه) بإضافة (باب) لتاليه قطعًا، (وقولِ الله تعالى) بالجرِّ عطفًا على ما قبله، وفي رواية: (عز وجل): ({وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]) هو الدلالة الموصلة إلى البغية، أو الدلالة مطلقًا؛ لقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى: 52]؛ أي: لتدل، والمعنى: زدناهم دلالة على ما أنزلناه من امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقوله: ({وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا} [المدثر: 31]) قال البيضاوي: بالإيمان به، انتهى، فيكون المراد بالازدياد: الازدياد بحسب الكمية لازدياد متعلَّقه، فإنَّ الإيمان قد كان يزداد به يومًا فيومًا في زمان الوحي بحسب ازدياد ما يجب الإيمان به؛ فإنَّ مَن آمن بجميع ما جاء من عند الله قبل نزول ما يدل على عدد الزبانية إذا نزل عليهم قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] فآمنوا به أيضًا؛ فلا شك أنه يزداد إيمانهم بحسب الكمية لازدياد متعلقه؛ كذا قرره شيخ زاده.
(وقال) بلفظ الماضي، ولم يقل: (وقوله) موافقة لأخويه؛ لبيان غرضه: ({اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3])؛ أي: أكملت لكم شرائع دينكم؛ لأنَّها نزلت يوم كملت الفرائض، والسنن، واستقرار الدين، ولم يقل أحد: إن الدين كان ناقصًا إلى وقت نزول هذه الآية حتى أكمله في هذا اليوم، وإنما المراد: إكمال شرائع الدين في هذا اليوم؛ لأنَّ الشرائع نزلت شيئًا فشيئًا طول مدة النبوة، فلما كملت الشرائع؛ قبض الله نبيه عليه السلام، وليس المراد: التوحيد؛ لوجوده قبل نزول الآية، فإنِ ادَّعى أحدٌ أن الأعمال من الإيمان؛ فليس يتصور؛ لأنَّه يلزم أن يكون كمال الإيمان في هذا اليوم، وقبله كان ناقصًا؛ لأنَّ الشرائع التي هي الأعمال ما كملت إلا في هذا اليوم؛ كذا في «عمدة القاري».
وقال الفاضل الزمخشري: أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام، والتوقيف على الشرائع، وقوانين القياس، وأصول الاجتهاد، انتهى، ومثله ذكر البيضاوي.
فإن قلت: إذا كان تفسير الآية ما ذكر، فما وجه استدلال المؤلف بها على زيادة الإيمان ونقصانه؟ أجيب: بأن الكمال مستلزم للنقص وهو يستدعي قبوله الزيادة.
ومن ثَم قال: (فإذا ترك) وفي رواية: (فإذا تركت) (شيئًا من الكمال؛ فهو نقص)، فيلزم من هذا أن يكون إيمان من مات من الصحابة قبل نزول الفرائض أو بعضها ناقصًا، ولا قائل به؛ لأنَّ الإيمان لم يزل تامًّا، وأجاب القسطلاني: بأنَّ النقص بالنسبة إلى الذين ماتوا قبل نزول الفرائض من الصحابة صوريٌّ نسبيٌّ، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى، فالأكمليَّة أمر نسبيٌّ، انتهى.
قلت: لا نسلِّم أنَّ إيمانهم ناقص؛ لأنَّ من مات قبل نزول الفرائض على صحبته؛ فهو كامل الإيمان؛ لأنَّ الواجب عليه الإيمان بالله وبرسوله وما جاء به إجمالًا، وقد حصل منه ذلك، فلا يكون إيمانه ناقصًا؛ بل هو تامٌّ، كمن مات بعد نزول الفرائض على صحبته، وقوله: (صوريٌّ نسبيٌّ)؛ أي: بحسب الصورة والنسبة، ولا شكَّ أنَّ من نسب إلى النقص؛ فهو ناقص لا محالة، فإن قيل: مَن نسب إلى النقص لا يلزم أن يكون ناقصًا؛ قلنا: بل هو ناقص؛ إمَّا على النقص التام، أو نقص في بعض الجهات، فرجع الأمر إلى نقص إيمانهم، ولا قائل به، فتحصَّل من هذا: أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن مَن مات قبل نزول الفرائض من الصحابة؛ فهو كامل الإيمان، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 26%
==================
(1/89)
[حديث: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله]
44# وبه قال: (حدثنا مُسلِم) بضم الميم وكسر اللام مخففًا (بن إبراهيم) أبو عمرو البصري الأزدي الفَرَاهِيدي؛ بفتح الفاء والراء، وبالهاء المكسورة، والمثناة التحتية، والدال المهملة وقيل: معجمة؛ بطن من الأزد مولاهم، القصاب أو الشحام، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين (قال: حدثنا هِشام)؛ بكسر الهاء: ابن أبي عبد الله سندر، الرَّبَعي بفتح الراء والموحدة؛ نسبة إلى ربيعة بن نزار بن معَدِّ بن عدنان، البصري، الدَّسْتَُوائي؛ بفتح الدال وسكون السين المهملتين، بعدهما مثناة فوقية مفتوحة أو مضمومة، مهموز من غير نون، نسبة إلى كورة من كور الأهواز؛ لبيعه الثياب المجلوبة منها، المتوفى سنة أربع وخمسين ومئة، وكان يُرمى بالقدر؛ لكنه لم يكن داعية، (قال: حدثنا قتادة) هو ابن دِعامة، (عن أنس) هو ابن مالك رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: يَخرج من النار)؛ بفتح المثناة تحت: من الخروج، وفي رواية: بضم المثناة؛ من الإخراج في جميع الحديث، فقوله: (مَن قال) محلُّه رفع على الوجهين، فالرفع على الأول على الفاعلية، وعلى الثاني على النيابة عن الفاعل، و (مَن) موصولة، وما بعدَها جملة صلتها، ومقول القول: (لا إله إلا الله)؛ أي: مع قول: محمد رسول الله، فالمراد المجموع، وصار الجزء الأول منه علمًا للكل؛ كما يقال: قرأت {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}؛ أي: قرأت السورة، أو كان هذا قبل مشروعية ضمِّها إليه؛ كذا ذكر الاحتمالين الشيخ الإمام بدر الدين العيني.
قلت: الظاهر هو الاحتمال الأول، ولذا نظر القسطلاني في الاحتمال الثاني، ولم يذكر وجهه، ولعل وجهه: أن الإيمان لا يكون إلَّا بتصديق التوحيد بالله وبرسوله معًا، وأنَّ ذلك هو الذي يطلق عليه الإيمان، وقد يجاب: بأنَّ قوله: (قبل المشروعية)؛ أي: حال قيام النبوة؛ فإنَّ النبي أولًا شرع لهم التوحيد لله؛ ردًّا عليهم من عبادة الأوثان، ثم بين لهم: أنِّي نبي مرسل إليكم، على أن المصدق بالله تعالى يلزمه التصديق برسوله؛ لأنَّه جاء من عند الله، فالإيمان بها إيمان إجمالًا، وهو كافٍ؛ كما قدمناه؛ فليحفظ.
(وفي قلبه وزن شعيرة) واحدة الشعير (من خيرٍ)؛ أي: من إيمان؛ كما في الرواية الأخرى، والتنوين فيه للقليل؛ ترغيبًا في تحصيله، والمراد به: الإيمان بجميع ما جاء به الرسول عليه السلام، والجملة اسميَّةٌ حالٌ، وفيه استعارة بالكناية؛ لأنَّ الوزن إنَّما يُتصوَّر في الأجسام دون المعاني، والإيمان معنى، ولكنه شبه الإيمان بالجسم، فأضيف إليه ما هو من لوازم الجسم؛ وهو الوزن.
(ويخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله) محمد رسول الله (وفي قلبه وزن بُرَّة)؛ بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة: واحدة البُرِّ؛ وهي القمحة، (من خيرٍ، ويخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله) محمد رسول الله (وفي قلبه وزن ذَرَّة)؛ بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء المفتوحة: واحدة الذَّرِّ؛ وهو كما في «القاموس»: صغار النمل، ومئة منها زنة حبة شعير، انتهى.
وقيل: إنَّ الذر: الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤوس الإبر، وعن ابن عباس: إذا وضعت كفَّك على التراب ثم نفضتها، فما سقط من التراب؛ فهو ذرة.
%ص 26%
وإنما قدَّم الشعيرة على البُرَّة؛ لأنَّها أكبر جرمًا منها، وأخَّر الذرة؛ لصغرها، فهو من باب الترقِّي في الحكم وإنْ كان من باب التنزُّل في الصورة.
وقوله: (من خير) المراد به: الثمرات، وكذا في روايةِ: (من إيمان)؛ أي: أنَّ ثمرات الإيمان لا نزاع في أنَّها تزيد وتنقص، والمراد بالثمرات: مراتب العلوم الحاصلة المستلزمة للتصديق لكلِّ واحد من جزئيات الشرع، وأمَّا حقيقة التصديق؛ فشيء واحد لا يقبل الزيادة ولا النقصان.
قال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: إن كان المراد من الإيمان: التصديق؛ فلا يقبل الزيادة والنقصان، وإن كان الطاعات؛ فيقبلهما، والأصل هو التصديق والقول بلا إله إلا الله؛ لإجراء الأحكام في الدنيا، والناس إنَّما يتفاضلون في التصديق التفصيلي، لا في مطلق التصديق، وقوله تعالى: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] حكاية عن إبراهيم، وكيف يمكن أن يقال في حقه: زاد تصديقه بالمعاينة؟ لأنَّ القول بهذا يستلزم القول بنقصان تصديقه قبل ذلك؛ وذا لا يجوز في حقه عليه السلام، وإنما مراده من هذا: أن يضم إلى علمه الضروري العلمَ الاستدلالي؛ ليزيد سكونًا؛ لأنَّ تضافر [1] الأدلة أسكن للقلب؛ فليحفظ.
ويستفاد من الحديث: أنَّ صاحب الكبيرة من الموحِّدِين لا يَكفر بفعلها ولا يخلد بالنار، وفيه دخول عصاة الموحِّدين النار وأنَّ مآلهم إلى الجنة، وأنَّه لا يكفي في الإيمان معرفة القلب دون الكلمة ولا الكلمة من غير اعتقاد، والله تعالى أعلم.
اللهم إنِّي أسألك بنبينا محمد عليه السلام وبقدوتنا الإمام الأعظم؛ أن ترزقني علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبَّلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، ودخول الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله وصحبه.
(قال أبو عبد الله) يعني: المؤلِّف، وفي رواية: بإسقاطها: (قال أَبَان)؛ بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة: ابن يزيد العطار البصري، ووزنه: (فَعَال) كـ (غَزَال)، منصرفٌ، والهمزة فاء الكلمة أصليةٌ، والألف زائدة، وهو المشهور وقول الأكثرين والصحيح، وقيل: إنه غير منصرف؛ لأنَّه على وزن (أَفْعَل) منقول من (أبان يبين)، ولو لم يكن منقولًا؛ لوجب أن يقال فيه: (أَبْيَن) بالتصحيح، وهو قول ابن مالك؛ فافهم.
(حدثنا قتادة) هو ابن دِعامة قال: (حدثنا أنس) هو ابن مالك، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: «من إيمان» مكان «خير») وفي رواية: (من خير)، وهذا من تعليقات المؤلِّف، وقد وصله الحاكم، وإنما ذكره المؤلِّف؛ للتنبيه على تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس؛ لأنَّ قتادة مدلس لا يحتج بعنعنته إلَّا إذا ثبت سماعه للذي عنعن عنه، وعلى تفسير المتن بقوله: (من إيمان) بدل قوله: (من خير).
==========
[1] في الأصل: (تظاهر)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/90)
[حديث: أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم]
45# وبه قال: (حدثنا الحسن بن الصَّبَّاح)؛ بتشديد الموحدة: ابن محمد، وللأصيلي: (البزار) بالزاي بعدها راء، الواسطي، المتوفى ببغداد سنة ستين ومئتين: أنه (سمع جعفر بن عون) بن أبي جعفر المخزومي، المتوفى بالكوفة سنة سبع ومئتين قال: (حدثنا أبو العُميْس)؛ بضم العين المهملة، وسكون المثناة التحتية، آخره سين مهملة، الهذلي المسعودي الكوفي، المتوفى سنة خمسين [1] ومئة (قال: أخبرنا قيس بن مُسلِم)؛ بضم الميم وكسر اللام مخفَّفًا، الكوفي العابد، المتوفى سنة عشرين ومئة، (عن طارق بن شهاب)؛ أي: ابن عبد شمس الصحابي، المتوفى سنة ثلاث وثمانين [2]، (عن عمر بن الخطاب) رضي الله عنه: (أنَّ رجلًا من اليهود)؛ هو كعب الأحبار قبل أن يُسلم، كما قاله الطبراني، واليهودُ: علم [على] قوم موسى؛ من (هادوا)؛ أي: مالوا، أو من (هاد)؛ إذا رجع؛ لأنَّهم يتهودون؛ أي: يتحركون عند قراءة التوراة وغير ذلك، كما بسطه في «عمدة القاري».
(قال له) أي: لعمر: (يا أمير المؤمنين) فيه دلالة على أن ذلك كان بعد موت الصديق الأكبر؛ (آيةٌ) مبتدأٌ، وساغ مع كونه نكرة؛ لتخصصه بالصفة؛ وهي (في كتابكم) القرآن (تقرؤونها) جملة محلها رفع صفةٍ أخرى، والخبرُ قولُه: (لو علينا معشر اليهود نزلت)؛ أي: لو نزلت علينا؛ لأنَّ (لو) لا تدخل إلا على الفعل، فحذف الفعل؛ لدلالة الفعل المذكور عليه، كذا قاله الشرَّاح، ويمكن أن يجعل الجارُّ والمجرور متعلقًا بالفعل المذكور، وتكون (لو) فقط كأنها داخلة عليه، ويتوفر عليها صفتها من اختصاصها بالفعل، والظاهر الاقتصار عليه، قاله الشيخ إسماعيل العجلوني؛ فتأمل، و (معشر) منصوب على الاختصاص، أو أعني معشر اليهود، والمعشر: الجماعة الذين شأنهم واحد، ويجمع على معاشر؛ (لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا) أصله: (عودًا) من العود، سُمي به؛ لأنَّه في كل عام يعود، والمعنى: نعظِّمه في كل سنة ونُسَرُّ فيه؛ لعظم ما حصل فيه من كمال الشريعة المطهرة، (قال) أي: عمر: (أي آية) هي؟ فالخبر محذوف (قال) أي: كعب: ({اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}) قال البيضاوي: بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، ({وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}) بالهداية والتوفيق، أو بفتح مكة وهدم منارات الجاهلية، ({وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ})؛ أي: اخترته لكم ({دِيناً} [المائدة: 3]) من بين الأديان؛ وهو الدين عند الله تعالى.
(قال) وفي رواية: (فقال) (عمر) رضي الله عنه: (قد عرفنا ذلك اليوم والمكان) وكان ذلك في حجة الوداع، وعاش بعدها عليه السلام ثلاثة أشهر، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه (الذي نزلت) وفي رواية: (أنزلت) (فيه على النبي) الأعظم، وفي رواية: (على رسول الله) (صلى الله عليه وسلم، وهو قائم)؛ أي: والحال أنَّه قائم (بعرفةَ) الباء: ظرفية، غير منصرف؛ للعلميَّة والتأنيث، والباء متعلقة بـ (قائم) أو بـ (نزلت) (يومَ جمعةٍ) وفي رواية: (يومَ الجمعة)، وإنَّما لم تمنع من الصرف؛ لأنَّها صفة أو غير صفة وليست علمًا، ولو كانت علمًا؛ لامتنع صرفها؛ وهي بفتح الميم، وضمها، وإسكانها، فالساكن بمعنى المفعول، والمتحرك بمعنى الفاعل، وهذه قاعدة كلية، والمعنى: إما جامع للناس أو مجموع له، وإنما لم يقل عمر: جعلناه عيدًا؛ ليطابق جوابه السؤال؛ لأنَّه جاء في «الصحيح»: أن النزول كان بعد العصر، ولا يتحقق العيد إلَّا من أول النهار، ولهذا قال الفقهاء: إن رؤية الهلال بالنهار لليلة المستقبَلة، ولا شك أن اليوم التالي ليوم عرفة عيد للمسلمين، فكأنه قال: جعلناه عيدًا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتعبد فيه.
ويظهر من هذه الرواية ورواية إسحاق ولفظه: (يوم جمعة يوم عرفة)، وللطبراني: (وهما لنا عيد): أنَّ الجواب تضمَّن أنَّهم اتخذوا ذلك اليوم عيدًا؛ وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدًا؛ لأنَّه ليلة العيد، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني رحمه [الله] تعالى.
==========
[1] في الأصل: (عشرين)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
[2] في الأصل: (ثلاث وعشرين ومئة)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
%ص 27%
==================
[1] في الأصل: (عشرين)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
[1] في الأصل: (عشرين)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
(1/91)
(34) [باب الزكاة من الإسلام]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (الزكاة من الإسلام)؛ أي: من شعبه؛ مبتدأ وخبر، ويجوز بالإضافة إلى الجملة بعده، (وقولُِه) بالرفع والجر، وللأصيلي: (عز وجل) ولابن عساكر: (سبحانه): ({وَمَا أُمِرُوا})؛ أي: وما أُمِر أهل الكتاب في التوراة والإنجيل ({إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ})؛ أي: ليوحِّدوه، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيدخل فيه جميع الناس ({مُخْلِصِينَ}) حال من ضمير (يعبدوا) ({لَهُ الدِّينَ}) منصوب به، والإخلاص: ما صفا عن الكدر وخلص من الشوائب، والرياء: آفة عظيمة تقلب الطاعة معصية، فالإخلاص رأس جميع العبادات، ({حُنَفَاءَ}) حال ثانية؛ جمع حنيف؛ وهو المائل عن الضلال إلى الهدى، ({وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ}) عطف خاص على عام؛ أي: يؤدوها على وجهها ({وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ})؛ أي: يعطوها إلى مصارفها، ولكنهم خالفوا حكمه، فقال بعضهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} [التوبة: 30]، وقال بعضهم: عيسى ابن الله، وقال بعضهم: عيسى هو الله، وقال بعضهم: {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، وعامَّة اليهود مشبِّهة، انتهى؛ فليحفظ، ({وَذَلِكَ})؛ المذكور من هذه الأشياء هو ({دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: 5])؛ أي: دين الملة القيمة؛ أي: المستقيمة التي لا اعوجاج فيها.
==========
%ص 27%
==================
(1/92)
[حديث: خمس صلوات في اليوم والليلة]
46# وبه قال: (حدثنا إسماعيل) بن أبي أويس الأصبحي المدني، ابن أخت مالك الإمام، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين (قال: حدثني) بالإفراد، وللأصيلي: (حدثنا) (مالك بن أنس) الإمام، وسقط في روايةٍ قوله: (بن أنس)، (عن عمه أبي سُهيل)؛ بضم السين نافع (بن مالك) بن أبي عامر المدني، (عن أبيه) مالك بن أبي عامر، المتوفى سنة اثنتي عشرة ومئة: (أنه سمع طلحة بن عبيد الله) بن عثمان القرشي التيمي، أحد العشرة المبشرة بالجنة، المقتول يوم الجمل لعشرٍ خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة بعد أن استُخرج طريًّا كما مات من قنطرة القرة بأمر ابنته بعد ثلاثين سنة؛ بسبب رؤيتها له في المنام، وأنه يشكو إليها النداوة رضي الله عنه (يقول: جاء رجل) هو ضِمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نَجْد)؛ بفتح النون وسكون الجيم، قال الجوهري: نجد من بلاد العرب، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق؛ فهو نجد، وهو مذكَّر، كذا في «عمدة القاري» وتمامه فيه، وفي رواية: (جاء رجل من أهل نجد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) (ثائر) بالمثلثة؛ أي: منتفش ومنتشر شعر (الرأس) من عدم الرفاهية، أطلق اسم الرأس على الشعر؛ لأنَّ الشعر منه ينبت، كما يطلق اسم السماء على المطر؛ لأنَّه من السماء ينزل، أو لأنَّه جعل نفس الأمر ذا ثوران على طريق المبالغة، وفي (ثائر) يجوز الرفع والنصب، أما الرفع؛ فعلى أنه صفة لـ (رجل)، والنصب على أنه حال، ولا يضر إضافته؛ لأنَّها لفظية؛ فليحفظ.
(نسمع) بنون الجمع (دَوِيَّ صوتِه)؛ بفتح الدال، وكسر الواو، وتشديد الياء، منصوبٌ مفعولًا به (ولا نفقه)؛ أي: لا نفهم، بنون الجمع كذلك (ما يقول)؛ أي: الذي يقوله، في محل نصب على المفعولية، وفي رواية: (يُسمَع ولا يُفقَه)؛ بضم المثناة التحتية فيهما؛ مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله، و (دوي) و (ما يقول) نائبان
%ص 27%
عنه، والأولى هي المشهورة وعليها الاعتماد، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وقال: الدَّوِيُّ: بُعْدُ الصوت في الهواء وعلوه، ومعناه: صوت شديد لا يفهم منه شيء كدَوِيِّ النحل، انتهى.
(حتى دنا) أي: إلى أن قرُب فهمناه؛ (فإذا) للمفاجأة (هو) مبتدأ (يسأل عن الإسلام) خبره؛ أي: عن أركانه وشرائعه بعد التوحيد والتصديق، أو عن حقيقته؛ واستبعده في «عمدة القاري»؛ من حيث إنَّ الجواب يكون غير مطابق للسؤال وهو قوله: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): هو (خمسُ صلوات في اليوم والليلة)، أو خذْ خمسَ صلوات، ويجوز الجرُّ بدلًا من (الإسلام)، وفيه حذف أيضًا؛ تقديره: إقامة خمس صلوات؛ لأنَّ عين الصلوات الخمس ليست عين الإسلام، بل إقامتها من شرائع الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة؛ لأنَّه علم أنه يعلمها، أو علم أنه إنَّما يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكرها فلم ينقلها الراوي؛ لشهرتها، وذكر هذا الأخير الكرماني، ومشى عليه القسطلاني، واستبعده الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ لأنَّه يلزم نسبة الراوي الصحابي إلى التقصير في إبلاغ كلام الرسول وقد نَدب النبيُّ الأعظم عليه السلام إلى ضبط كلامه، وحفظه، وإبلاغه مثل ما سمعه منه في حديثه المشهور، قلت: وهو وجيه؛ فليحفظ.
(فقال) الرجل المذكور، وفي رواية: (قال): (هل عليَّ غيرُها؟) بالرفع مبتدأ مؤخر، خبره (عليَّ)، (قال) عليه السلام: (لا) شيء عليك غيرها.
وفيه دليل على أن الوتر سنة؛ وهو قول الإمام أبي يوسف، والإمام محمد الشيباني، والإمام الشافعي، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: إن الوتر واجب؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى} [البقرة: 238]، و {الوُسْطَى} هي: الوتر، ولقوله عليه السلام: «اجعلوا آخر صلاتكم وترًا» رواه الشيخان، ولقوله عليه السلام: «إن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر»، وعن عبد الله بنبريدة عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوتر حق، فمن لم يوتر؛ فليس مني»، قاله ثلاثًا، وقال عليه السلام: «من نام عن وتر أو نسيه؛ فليقضه [1] إذا ذكره» رواها أبو داود وغيره، والحاكم وصححها، والأمرُ وكلمةُ (عَلَى) و (حق) للوجوب، ووجوب القضاء فرعُ وجوب الأداء.
وفي الحديث أيضًا دلالة على أن صلاة العيدين سنة؛ وهو قول الإمام أبي يوسف، والإمام محمد، والإمام الشافعي، وقال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم: إنَّها واجبة؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، والمراد بها: صلاة العيد، كما قاله المفسرون، ولقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، وقد واظب عليها النبي الأعظم عليه السلام من غير ترك؛ وهذا دليل الوجوب، بل والفرضية، ولهذا قال الإمام أبو موسى الضرير: إنَّها فرض كفاية، وهو قول الإصطخري من الشافعية، وقول حماد بن زيد من أصحاب إمامنا الأعظم أيضًا.
والجواب عن الحديث: أنه إنَّما لم يذكر الوتر للأعرابي؛ لأنَّه لم يكن واجبًا يومئذٍ بدليل أنه لم يذكر الحج؛ لأنَّه لم يُفرض، فالوتر مثلُه، فلا حجة في الحديث، وإنما لم يذكر له صلاة العيدين؛ لأنَّه كان من أهل البادية، وهي لا تجب عليهم ولا على أهل القرى، فلا حجة فيه أيضًا.
(إلا أن تطوع) استثناء متصل، وهو الأصل في الاستثناء، فيُستَدل به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم نفل؛ وجب عليه إتمامه، وبقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}، وإبطال العمل: نقض العهد، وبالاتفاق على أن حج التطوع يلزم بالشروع فيه صحيحًا كان الحج أم فاسدًا، فلا يمتاز عن غيره.
والمعنى: أي: إلَّا أن تَشرع في التطوع؛ فيصير واجبًا كما يصير واجبًا بالنذر، فإذا أفسده؛ وجب عليه قضاؤه، وقد روى أحمد في «مسنده» عن عائشة قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين، فأُهديت لنا شاة؛ فأكلنا، فدخل علينا النبي عليه السلام، فأخبرناه، فقال: «صوما يومًا مكانه»، وفي لفظ آخر: «أبدلا يومًا مكانه»، وروى الدارقطني عن أم سلمة: أنها صامت يومًا تطوعًا، فأفطرت، فأمرها النبي عليه السلام أن تقضيَ يومًا مكانه، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، ولولا الإطالة لأوردناها، وبالجملة: فالأمر بالقضاء أمرٌ للوجوب، فدل على أن الشروع ملزِم، وأن القضاء بالإفساد واجب، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه.
وقال الشافعي: لا تلزم النوافل بالشروع فيها، بل يستحب إتمامها؛ لما روى النسائي: أن النبي الأعظم عليه السلام كان أحيانًا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي «البخاري»: أنه أمر جويرية [2] بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل بظاهره على أن الشروع في النفل لا يستلزم الإتمام، فهذا النص في الصوم، والباقي بالقياس.
قلنا معشر الحنفية: لا دلالة له على ما ذكر؛ فإن حديث النسائي لا يدل على أنه عليه السلام ترك القضاء بعد الإفطار، وإفطاره كان عن عذر، وحديث جويرية إنَّما أمرها بالفطر؛ لما تحقق عنده من العذر الموجب للإفطار؛ كضعف بنيتها أو لأجل الضيافة أو غير ذلك، وأنه أمرها بالقضاء، والأمر بالقضاء مستفاد من غير هذا الحديث كالذي شاهده لنا من حمل المطلق على المقيد، وإذا وقع تعارض بين الأخبار؛ فالترجيح معنا لثلاثة أوجه؛ أحدها: إجماع الصحابة، والثاني: أن أحاديثنا مثبتة وأحاديثه نافية، والقاعدة: أن المُثبِت مقدَّم على النافي، والثالث: أنه الاحتياط في العبادة لله تعالى؛ حيث قال: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فإن إبطال العمل نقض العهد واستهزاء وسخرية، ألا ترى أن المخلوق لو أمرك بأمر وشرعت فيه ولم تتمه؛ هل يرضى منك أم يسخط؟ فإذا تممته ثم أفسدته وضيعت ماله؛ هل يفرح أم يغضب؟ هذا في المخلوق، فما بالك في الخالق جل وعلا سبحانه.
واعلم أن الواجب عندنا دون الفرض وأعلى من السنة، والفرق بينها ظاهر في كتب الفروع، وعند الشافعي: الفرض والواجب سيان إلا في الحج؛ فوافقنا فجعل فيه فرضًا وواجبًا وسنة؛ فافهم.
(قال) وفي رواية: (فقال) (رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصيام رمضان) كلام إضافي مرفوع عطفًا على قوله: (خمس صلوات)، وفي رواية: (وصوم)، (قال) الرجل: (هل عليَّ غيره؟ قال) عليه السلام: (لا)؛ أي: ليس عليك غيره (إلا أن تطوع)؛ أي: إلا إذا تطوعت؛ فيلزمك إتمامه، وإذا أفسدته؛ يلزمك قضاؤه، وما قيل: إن في استدلالنا نظر؛ لأنَّا لا نقول بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع؛ لتباينهما، وأن الاستثناء عندنا من النفي ليس للإثبات، بل مسكوت عنه؛ ممنوع؛ لما علمت من ثبوت النص في الصوم أنه يجب قضاؤه بالإفساد، وإتمامه بالشروع، والباقي بالقياس عليه، على أن الاستثناء هنا متصل لا منقطع، فإنَّ الواجب عندنا فرض أيضًا، لكن يفرق بينهما من حيث الاعتقاد والتكفير، فإنَّ الوتر واجب وهو فرض عملي لا اعتقادي ولا يكفر جاحده، وإنَّ الصبح فرض علمي اعتقادي يكفر جاحده، فصار بينهما موافقة لا مباينة، فكان الاستثناء متصلًا، كما لا يخفى.
وأما قوله: فالاستثناء من النفي مسكوت عنه؛ فمعناه هنا: أنَّه لما ذكر النبيُّ للرجل الصلاة والصوم، وكان لم يصل ولم يصم، وفي عقله أنهما ثابتان، فما سيق له لنفي ما عداهما؛ فيلزمه الصلاة والصوم، وهذا بطريق الإشارة، أو أنهما يثبتان بطريق الضرورة؛ لأنَّ وجودهما لما كانا ثابتين في عقله يلزم من نفيهما ثبوتهما ضرورة، والتقدير: لا صلاة ولا صوم غير الخمس ورمضان ثابت، فيكون كالتخصيص بالوصف، وليس له دلالة على نفي الحكم عما عداه عندنا، فلا دلالة للكلام على ثبوتهما منطوقًا ولا مفهومًا، بل بالإشارة أو بالضرورة لا بالعبارة عندنا، وتمامه في كتب الأصول؛ فليحفظ.
(قال) الراوي طلحة بن عبيد الله: (وذكر له)؛ أي: للرجل (رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزكاة)، وإنما قال ذلك الراوي؛ لأنَّه إمَّا نسي نص النبي عليه السلام أو التبس عليه، وفي رواية: (الصدقة)، والمراد بها: الزكاة، (قال) وفي رواية: (فقال)؛ أي: الرجل المذكور: (هل عليَّ غيرها؟) خبر ومبتدأ (قال) عليه السلام: (لا) ليس عليك غيرها (إلا أن تطوع)، ولم يذكر الحج، وقدمنا في الجواب: أنه لم يكن فُرِض، أو أنه علم حاله أنه لم يجب عليه الحج؛ لعدم استطاعته، (قال) الراوي: (فأدبر الرجل) الأعرابي، من الإدبار؛ أي: تولى (وهو يقول)؛ أي: والحال أنه يقول: (والله لا أزيد) في التصديق والقبول (على هذا) المذكور (ولا أنقص) منه
%ص 28%
شيئًا، وفي رواية: (والذي أكرمك إنِّي لا أزيد على ما ذكرت ولا أنقص منه شيئًا)؛ أي: قبلت كلامك قبولًا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول، أو لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص منه عند الإبلاغ؛ لأنَّه كان وافد قومه؛ ليتعلم ويعلمهم، وقيل غير ذلك.
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) حين سمعه: (أفلح)؛ أي: الرجل؛ أي: فاز (إن صدق) في كلامه، وعند مسلم: «أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق»، وإنَّما أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر مع أنه لم يذكر له المنهيات، والمندوبات، والواجبات؛ لأنَّه جاء في رواية المؤلف في (الصيام) قال: (فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام)؛ فهي داخلة في عمومه، لكن يعكر عليه قوله في آخره: (فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئًا)؛ فيقتصر على الفرائض والمنهيات، وأما النوافل؛ فيحتمل أنه كان قبل شرعها، والفلاح راجع إلى الزيادة والنقصان؛ يعني: أنه إذا لم يزد ولم ينقص؛ كان مفلحًا؛ لأنَّه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه؛ كان مفلحًا، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك أنه لا يكون مفلحًا؛ لأنَّ هذا مما يعرف بالضرورة، فإنَّه إذا أفلح بالفرض؛ ففلاحه بالمندوب مع الفرض أولى، وفي الحديث دلالة على عدم فرض صوم عاشوراء وغيره سوى رمضان، وهو بالإجماع.
واختلف في صوم يوم عاشوراء، هل كان فرضًا قبل رمضان؟ فعند إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم: أنه كان فرضًا، والأظهر عند الشافعي: أنه لم يكن فرضًا، وأن السفر من بلد إلى أخرى لأجل تعلم العلم مندوب، وأن الحلف بالله من غير استحلاف ولا ضرورة يجوز؛ لأنَّه لم ينكر عليه النبي عليه السلام، وفيه استعمال الصدق في الخبر المستقبل، واستعمال (رمضان) من غير (شهر)، وفيه دلالة على جواز الحلف بالآباء مع ورود النهي عنه، ولعله كان قبل ورود النهي، أو بأنها جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرى على لسانهم: (عَقرى حَلقى) و (تربت يمينك)، والنهي إنَّما ورد في القاصد بحقيقة الحلف؛ لما فيه من تعظيم المحلوف به، وهذا هو الراجح عند العلماء، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (فليقضيه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (جويرة)، وكذا في الموضع اللاحق.
==================
[1] في الأصل: (فليقضيه)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فليقضيه)، وليس بصحيح.
(1/93)
(35) [باب اتباع الجنائز من الإيمان]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (اتباع الجنائز من الإيمان)؛ أي: شعبة من شعبه، مبتدأ وخبر، ويجوز في (باب) الإضافة للجملة بعده، و (اتِّباع)؛ بتشديد التاء مصدر (اتبع) من باب الافتعال، و (الجنائز): جمع جَِنازة؛ بالجيم المفتوحة والمكسورة، والكسر أفصح، وقيل: بالفتح للميت، وبالكسر للنعش وعليه الميت، وقيل: عكسه، مشتقة من (جنز)؛ إذا ستر.
==========
%ص 29%
==================
(1/94)
[حديث: من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا]
47# وبه قال: (حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي المَنْجُوفي) نسبة لجدِّ أبيه مَنْجُوف؛ بفتح الميم، وسكون النون، وضم الجيم، آخره فاء، ومعناه: الموسع، وكنيته أبو بكر السدوسي البصري، المتوفى سنة اثنتين وخمسين ومئتين (قال: حدثنا رَوح)؛ بفتح الراء وبالحاء المهملتين: ابن عبادة بن العلاء البصري، المتوفى سنة خمس ومئتين (قال: حدثنا عوف)؛ بالفاء: ابن أبي جميلة بَنْدُوْيَه؛ بفتح الموحدة، وبالنون الساكنة، والدال المهملة المضمومة، وواو ساكنة، ومثناة تحتية مفتوحة، العبدي الهجري البصري، المتوفى سنة ست وأربعين ومئة، ونسب إلى التشيع، (عن الحسن) هو البصري (ومحمدٍ) بالجر عطفًا على (الحسن)، وللأصيلي: (ومحمدٌ) بالرفع، هو ابن سيرين أبو بكر الأنصاري، مولاهم البصري التابعي الجليل، المتوفى سنة عشر ومئة، بعد الحسن بمئة وعشرين يومًا؛ كلاهما (عن أبي هريرة) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اتَّبع)؛ بتشديد التاء المثناة فوق، وفي رواية: (تَبِع) بدون ألف وكسر الموحدة؛ أي: لحق، قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس: 90]؛ أي: لحقهم، وقال: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175]؛ أي: لحقه، وفي «العباب»: تَبِعت القوم بالكسر: أتبَعهم تَبَعًا وتبَاعة؛ بالفتح؛ إذا مشيت خلفهم، أو مرُّوا بك فمضَيت معهم، واتَّبعت القوم؛ مثل تبعتهم؛ إذا كانوا سبقوك فلحقتهم، انتهى.
(جنازةَ مسلم) (من) موصولة مبتدأ، و (اتبع) جملة من الفعل والفاعل، و (جنازة مسلم) كلام إضافي مفعوله، والجملة صلة الموصول، وفيه حجة ظاهرة لإمامنا الإمام الأعظم في أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، وهو مذهب الأوزاعي وقول علي بن أبي طالب، وهو حجة على الشافعية في زعمهم أن المشي أمامها أفضل من خلفها، والركوب وراء الجنازة لا بأس به، لكن المشي أفضل عندنا، وقالت الشافعية: لا فرق بين الراكب والماشي، والحديث حجة عليهم؛ لأنَّه بسياق المشي لا الركوب؛ فهو حجة لنا أيضًا، حال كون ذلك (إيمانًا واحتسابًا)؛ أي: مؤمنًا محتسبًا، لا مكافأة ولا مخافة، (وكان معه)؛ أي: مع المسلم، وفي رواية: (كان معها)؛ أي: مع الجنازة (حتى) أن (يُصلِّي عليها) على صيغة المعلوم؛ بكسر اللام، والضمير يرجع إلى (من)، وفي (عليها) إلى (الجنازة)، وفي رواية: بفتح اللام على صيغة المجهول، والجار والمجرور في (عليها) نائب عن الفاعل، و (حتى) للغاية، و (أن) الناصبة بعدها و (يصلى) (ويفرغ) منصوبان بها بالبناء للفاعل أو للمفعول، وقوله: (من دفنها) نائب عن الفاعل، وللأصيلي: (يصلِّ) بحذف الياء وكسر اللام، وخبر المبتدأ _أعني: (مَن) الموصولة_ قولُه: (فإنه يرجع من الأجر بقيراطين)، ودخلت الفاء؛ لتضمنه معنى الشرط، و (مِن) بيانية، ومجرورها حال، مثنى (قيراط)؛ اسم لمقدار من الثواب يقع على القليل والكثير، بيَّنه بقوله: (كل قيراط مثل) جبل (أُحُد) مبتدأ وخبر؛ بضمتين: بالمدينة، سمِّي به؛ لتوحُّده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، وهو في جانب المدينة من جهة الشمال على نحو ميلين منها، وفي الحديث: «أُحد يحبُّنا ونحبُّه، وهو على باب الجنة، وغيره يبغضنا ونبغضه، وهو على باب النار»، وفيه قبر هارون عليه السلام، وفيه قبض وواراه أخوه موسى عليهما السلام، وكانا قد مرَّا به حاجَّين أو معتمرَين؛ فليحفظ.
وأصل (قيراط): قرَّاط؛ بتشديد الراء، بدليل جمعه على قراريط، فأبدل من إحدى الراءين؛ كما في الدينار؛ وهو في اللغة: نصف دانق، والدانق: سدس درهم، وهو يختلف باختلاف البلدان، فأهل الشام يجعلون القيراط جزءًا من أربعة وعشرين جزءًا، وعند الفقهاء: القيراط جزء من عشرين جزءًا من الدينار، وكل قيراط ثلاث حبات، فيكون الدينار ستين حبة، وكل حبة أربع أرزات، فيكون مئتين وأربعين أرزة.
والحاصل: أن القيراط مقدار من الثواب معلوم عند الله تعالى، وهذا الحديث يدل على عظم مقداره هنا، ولا يلزم منه أن يكون هذا هو القيراط المذكور في «من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد، أو زرع، أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراط»، بل يجوز أن يكون أقل منه، بل الظاهر أن القيراط في الأجر أعظم من القيراط المذكور في نقص الأجر؛ لأنَّه من قبيل المطلوب تركه، والأول من قبيل المطلوب فعله، وعادة الشرع تعظيم الحسنات وتضعفها دون السيئات؛ كرمًا منه تعالى، ورحمة، ولطفًا، فحصول القيراطين مقيد بالصلاة، والاتباع، وحضور الدفن، فلو اتبع حتى دفنت ولم يصل عليها؛ لم يحصل القيراطان؛ جمعًا بين الروايتين، وحملًا للمطلق على المقيد، والظاهر أنه يكفي الاتباع في أكثر الطريق لا في جميعه مع ما يجده من المشقة من الازدحام، واختلاط النساء بالرجال، وصياحهن، وغيره من المنكرات، فلو تباعد عن الجنازة؛ هل يكون متبعًا أم لا؟ والظاهر أنه إن كان بحال لا تخفى الجنازة عن بصره؛ يكون متبعًا، أو إن يعدُّه العرف متبعًا؛ فيكون محصلًا لهذين القيراطين.
قال في «البحر الرائق»: (وإن كان مع الجنازة نائحة أو صائحة؛ زجرت، فإن لم تنزجر؛ فلا بأس بأن تتبع الجنازة، ولا يمتنع لأجلها؛ لأنَّ الاتباع سنة فلا يترك ببدعة من غيره، فإن النبي عليه السلام استمع بواكي حمزة رضي الله عنه؛ كما في «المجتبى»)، فأفاد بقوله: (لا بأس) أن تركه أولى، لكن لا يُترك أصلًا، بل يتبع إما أكثر الطريق، كما قلنا، أو يتباعد، كما قلنا، والله تعالى أعلم.
(ومن صلى عليها)؛ أي: على الجنازة، مبتدأ، (ثم رجع) إلى منزله أو اشتغل بعمل ينافيها (قبلَ أن تدفن) بنصب (قبل) على الظرفية، و (أن) مصدرية؛ أي: قبل الدفن؛ (فإنه يرجع) خبر المبتدأ (بقيراط) واحد من الأجر، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ثم حضر الدفن؛ لم يحصل له القيراط الثاني، وكذا لو حضر الدفن ولم يصلِّ أو اتبعها ولم يصلِّ؛ فليس في الحديث حصول القيراط له، وإنما يحصل القيراط لمن تبعها بعد الصلاة، لكن له أجر في الجملة، وعن أشهب: أنه كره اتباع الجنائز والرجوع قبل الصلاة، وإطلاق الحديث يخالفه، وفي رواية مسلم: «من صلى على جنازة ولم يتبعها؛ فله قيراط، ولو تبعها ولم يصل ولم يحضر الدفن؛ فلا شيء له»، والله أعلم.
(تابعه)؛ أي: تابع رَوحًا في الرواية عن عوف (عثمانُ) بن الهيثم بن جهم البصري (المؤذن) بمسجدها، المتوفى لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة عشرين ومئتين، وفي رواية: (قال أبو عبد الله: تابعه عثمان المؤذن) (قال: حدثنا عوف) الأعرابي (عن محمد) بن سيرين ولم يروه عن الحسن، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم نحوَه) بالنصب؛ أي: بمعنى ما سيق، لا بلفظه.
وهذه المتابعة وصلها أبو نعيم في «مستخرجه»، وإنما ذكر المؤلف رواية المنجوفي أولًا مع أنها أنزل من رواية عثمان؛ لأنَّ رواية المنجوفي موصولة وهي أشد اتفاقًا من رواية عثمان، وإنما ذكر المتابعة؛ للتنبيه بروايته على أن الاعتماد في هذا
%ص 29%
السند على محمد بن سيرين؛ لأنَّ عوفًا ربما كان ذكره، وربما كان حذفه مرة فأثبت الحسن.
==================
(1/95)
(36) [باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر]
هذا (باب خوف المؤمن من أن يحْبَط) على صيغة المعلوم، من باب (عَلِم يعْلَم)؛ وهو البطلان، وقال النووي: المراد بالحبط: نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر، فإن الإنسان لا يكفر إلا بما يعتقده أو يفعل عالمًا بأنه يوجب الكفر، قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: وفيه نظر؛ لأنَّ الجمهور على أن الإنسان يكفر بكلمة الكفر وبالفعل الموجب للكفر وإن لم يعلم أنه كفر، انتهى، قلت: وهو ظاهر؛ فليحفظ.
(عمله)؛ أي: مِن حبط عمله، فـ (أن) مصدرية، و (مِن) في رواية ساقطة، و (أن) توجد، لكنها مقدرة؛ لأنَّ المعنى عليها، المراد: ثواب عمله، فالمضاف محذوف (وهو لا يشْعُر) به، جملة اسمية وقعت حالًا من باب (نَصَر ينْصُر)؛ أي: لا يعلم ولا يفطن به.
لا يقال: إن ما قاله المؤلف يقوِّي مذهب الإحباطية؛ لأنَّ مذهبهم إحباط الأعمال بالسيئات وإذهابُها جملةً، فحكموا على العاصي بحكم الكافر؛ لأنَّ مراد المؤلف: إحباط ثواب ذلك العمل فقط؛ لأنَّه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه، قاله القسطلاني.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ إحباط ثواب العمل يكون غالبًا بسبب الرياء، وقد نص أئمتنا الأعلام على أن الرياء لا يدخل في الفرائض والواجبات؛ بمعنى: أنه لا يحبط ثوابها، وإنما يحبط الثواب في النوافل والطاعات المندوبة، فإن أخلص فيها؛ يبقى ثوابه الموعود به، وإن لم يخلص؛ حبط ثوابه، والمراد: أنه ينقص عن قدره المعلوم، لا يذهب بالكلية؛ لأنَّه تعالى وعد بعدم إضاعة ثواب الأعمال، والله أعلم.
ومراد المصنف هنا: الرد على المرجئة القائلين: بأن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط المطلقين الإيمان الكامل مع وجود المعصية.
(وقال إبراهيم) بن يزيد بن شريك (التيمي)؛ تيم الرِّباب؛ بكسر الراء، الكوفي، المتوفى سنة اثنتين وتسعين شهيدًا، قتله الحجاج بن يوسف، وقيل: مات في سجنه: (ما عرضت قولي على [1] عملي إلا خشيت أن أكون مكذَّبًا)؛ بفتح الذال المعجمة؛ أي: أن يكذبني من رأى عملي مخالفًا لقولي، وإنما قال ذلك؛ لأنَّه كان يعظ الناس، وفي رواية: بكسر الذال؛ وهي رواية الأكثر؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، ومعناه: أنه لم يبلغ غاية العمل مع وعظه للناس، وقد ذم الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقصَّر في العمل، فقال: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، فخشي أن يكون مكذِّبًا؛ أي: مشابهًا لهم، وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟ [البقرة: 44].
وهذا التعليق وصله المؤلف في «تاريخه» عن أبي نعيم، وأحمد ابن حنبل في «الزهد»، عن ابن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي حيان التيمي، عن إبراهيم المذكور.
(وقال ابن أبي مُليكة)؛ بضم الميم: عبد الله_بفتح العين_ ابن عبيد الله؛ بضمها، واسم أبي مليكة: زهير القرشي التيمي، المكي، الأحول، المؤذن، القاضي لابن الزبير، المتوفى سنة سبع عشرة ومئة: (أدركت ثلاثين) صحابيًّا (من أصحاب النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) أجلَّهم السيدة عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، وعقبة بن الحارث، والمِسور بن مَخرمة (كلهم يخاف) أي: يخشى (النفاق) في الأعمال (على نفسه)؛ لأنَّ أعمارهم طالت حتى رأَوا من التغيير ما لم يعهدوه، مع عجزهم عن إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت، أو لأنَّه قد يَعرِض للمؤمن في عمله ما يشق به مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم ذلك وقوعه منهم، وإنما ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوىرضي الله عنهم (ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل) عليهما السلام؛ لأنَّهما معصومان لا يطرأ عليهما ما يطرأ على غيرهما من البشر، وقد روى الطبراني في «الأوسط» مرفوعًا من حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد ضعيف: «من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ كان مؤمنًا كإيمان جبريل عليه السلام»، ونقل هذا عن إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل أنه قال: (إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول: إيماني مثل إيمان جبريل)؛ لأنَّ المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضي ذلك، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعض الصفات، لا يقال: إن الحديث ضعيف؛ لأنا نقول: اتصافه بالضعف حين وصوله إلينا، وحين وصوله للإمام الأعظم لا شك أنه صحيح يُعتمد عليه؛ لأنَّ الضعف لا يكون إلا بعد التابعين؛ لأنَّ النبي عليه السلام قد أثبت لهم الخيرية بقوله: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»؛ وهم التابعون رضي الله عنهم أجمعين.
وما قيل: إن في هذا الأثر إشارة إلى أنهم كانوا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه؛ ممنوع؛ لأنَّه لا يفهم ذلك من حالهم، وإنما المفهوم من حالهم: أنهم كانوا خائفين سوء الخاتمة؛ لعدم العصمة، ويؤيده ما روي عن عائشة: أنها سألت النبي الأعظم عليه السلام عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، فقال: «هم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ويخافون ألَّا يُتقبل منهم»، وقول بعض السلف في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]: أعمال كانوا يحتسبونها حسنات بُدِّلت سيئات، والله أعلم.
(ويُذكَر) على صيغة المجهول، لا يقال: إن هذه الصيغة تدل على الضعف؛ لأنَّها بصيغة التمريض؛ لأنَّ عادة المؤلف أن صيغة التمريض لا تدل على الضعف، بل يأتي بها إذا وقع تغيير من حيث النقل بالمعنى أو من حيث الاختصار، على أن هذا الأثر صحيح، (عن الحسن) البصري، وقد وصله جعفر الفريابي في كتاب «صفة المنافق» له من طرق متعددة: (ما خافه)؛ أي: النفاق، وفي رواية: (عن الحسن أنه قال)، وفي أخرى: (وما خافه) (إلا مؤمن ولا أَمِنه)؛ بفتح الهمزة وكسر الميم (إلا منافق)، وجعل النووي الضمير في (خافه) و (أَمِنه) لله تعالى، وتبعه الكرماني، قلت: وهو بعيد جدًّا؛ لأنَّ سياق الحسن البصري المروي عند الفريابي؛ حيث قال: (حدثنا قتيبة: حدثنا جعفر بن سليمان، عن المعلى بن زياد: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو؛ ما مضى مؤمن قط وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن)، وهو عند أحمد بلفظ: (والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، ولا أمنه إلا منافق)؛ يعيِّنُ إرادة المؤلف الأول؛ أعني: النفاق، وإليه أشار الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وتبعه القسطلاني؛ فليحفظ.
(وما يُحذَر) على صيغة المجهول؛ بتخفيف الذال المعجمة وتشديدها؛ كذا في «عمدة القاري»، و (ما) مصدرية، والجملة محلها الجرُّ عطفًا على حذف المؤمن؛ أي: وباب ما يحذر (من الإصرار على القتال والعصيان من غير توبة)، وفي رواية: (على النفاق) بدل (القتال)، وعليها شرح الإمام البدر العيني؛ وهي المناسِبة لما قدَّمه المؤلف، وفي الأولى مناسبة للحديث الآتي، وما قاله في «الفتح» من (الرواية الثانية لم تثبت)، فقد رده القسطلاني بأنها ثبتت عن أبي ذر والسميساطي؛ كما رقم له بـ «فرع اليونينية»، وما بين الترجمتين من الأثار اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفصل بها بينهما؛ لتعلقها بالأولى فقط، وأما الحديثان الآتيان؛ فالأول للثانية، والثاني للأولى؛ فهو لف ونشر مشوش؛ أي: غير مرتب، ومراد المؤلف: الرد على المرجئة؛ حيث قال: (لقول الله تعالى) وفي رواية: (عز وجل)، وفي أخرى: (لقوله عز وجل): ({وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}) ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين؛ لقوله عليه السلام فيما رواه الترمذي من حديث الصديق الأكبر رضي الله عنه: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» ({وَهُمْ يَعْلَمُونَ}) [آل عمران: 135] حال مِن {يُصِرُّوا}؛ أي: ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به، وروى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعًا: «ويل للمصرين؛ الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون»؛ أي: يعلمون أن من تاب؛ تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره.
==========
[1] ضرب على (على) في الأصل، ولعل الصواب ثبوتها.
%ص 30%
==================
(1/96)
[حديث: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر]
48# وبه قال: (حدثنا محمد بن عرعرة)؛ بالعينين والراءين المهملات، غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث، ابن البَرِنْد؛ بكسر الموحدة والراء وبفتحهما وبسكون النون، البصري، المتوفى سنة ثلاث عشرة ومئتين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن زُبَيد)؛ بضم الزاي، وفتح الموحدة، وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة: ابن الحارث بن عبد الكريم اليامِي؛ بالمثناة تحت، وميم مخففة مكسورة، الكوفي، المتوفى سنة اثنين وعشرين ومئة (قال: سألت أبا وائل)؛ بالهمزة بعد الألف: شقيق بن سلمة الأسدي؛ أسد خزيمة، الكوفي، التابعي، المتوفى سنة تسع وتسعين أو اثنين وثمانين (عن) قول (المُرجِئة)؛ بضم الميم، وكسر الجيم، ثم همزة؛ نسبة إلى الإرجاء؛ وهو التأخير؛ لأنَّهم أخروا الأعمال عن الإيمان؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق، هل هم مصيبون فيه أم مخطئون؟ (فقال) أبو وائل في جوابه لزُبَيد: (حدثني) بالإفراد (عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه: (أن) أي: بأن (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: سِبَاب)؛ بكسر السين المهملة وتخفيف الموحدة، مصدر مضاف للمفعول؛ أي: شتم (المسلم) والتكلم في عِرضه بما يَعيبه ويؤلمه (فسوق)؛ أي: فجور وخروج عن الحق، ويَحتمل أن يكون على بابه من المفاعلة؛ أي: تشاتمهما فسوق، قلت: وهذا هو الظاهر لما في «المطالع»: (السباب: المشاتمة؛ وهي من السب؛ وهو القطع، وقال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب؛ وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه) انتهى، وهذا صريح بأن السباب ليس بمصدر؛ فافهم.
(وقتاله) أي: مقاتلته
%ص 30%
(كفر)؛ أي: فكيف يحكم بتصويب قولهم: إن مرتكب الكبيرة غير فاسق مع حكم النبي الأعظم عليه السلام على من سب المسلم بالفسق ومن قاتله بالكفر، وقد عُلِم بهذا خطؤهم ومطابقة جواب أبي وائل لسؤال زُبَيد عنهم، وليس المراد بالكفر هنا حقيقته التي هي الخروج عن الملة، وإنما أطلق عليه الكفر؛ مبالغة في التحذير، معتمدًا على ما تقرَّر في القواعد على عدم كفره بمثل ذلك، أو أطلقه عليه؛ لشبهه به؛ لأنَّ قتال المسلم من شأن الكافر، أو المراد: الكفر اللغوي؛ وهو الستر؛ لأنَّه بقتاله له ستر ما له عليه من حق الإعانة والنصرة وكف الأذى، ولا نعني بهذا إلا هذا، فقد قال أئمتنا الأعلام: لا يُفتى بتكفير مسلم مهما أمكن، ولو وُجِدَ مئة قول بتكفيره وقولٌ واحد بعدم تكفيره؛ فالمفتى به عدم التكفير؛ لأنَّ تكفير المسلم أمر صعب، وهذا في غاية الاحتياط؛ فليحفظ.
==================
(1/97)
[حديث: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر]
49# وبه قال: (أخبرنا قتيبة بن سعيد) السابق، وفي رواية: بإسقاط (ابن سعيد)، وفي أخرى: (هو ابن سعيد) قال: (حدثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المدني، وقد مر، (عن حُميد)؛ بضم الحاء المهملة: ابن أبي حُميد، واسم أبي حُميد تِيْر؛ بكسر المثناة الفوقية، وسكون المثناة التحتية، آخره راء مهملة؛ أي: السهم، الخزاعي البصري، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومئة، (عن أنس) وفي رواية: (ابن مالك)، وفي أخرى: (حدثنا أنس)، وفي أخرى: (حدثني أنس)، وبهذا يحصل الأمن من تدليس حُميد (قال: أخبرني) بالإفراد (عبادة بن الصامت) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج)؛ أي: من الحجرة، والجملة خبر (أنَّ) (يخبر) جملة مستأنفة، والأولى أن يكون حالًا مقدرة؛ لأنَّ الخبر بعد الخروج على حدِّ: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 7]؛ أي: مقدرين الخلود؛ كما حققه في «عمدة القاري»، (بليلة القدر) أي: بتعينها (فتلاحَى)؛ بفتح الحاء المهملة: من التلاحِي؛ بكسرها؛ أي: تنازع (رجلان من المسلمين)؛ هما عبد الله بن أبي حَدْرَد؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الدال المهملة، وفتح الراء، آخره دال أخرى، وكعب بن مالك؛ كان على عبد الله دين لكعب يطلبه، فتنازعا فيه ورفعا صوتيهما في المسجد (فقال) عليه السلام: (إني خرجت لأخبرَكم) بنصب الراء بـ (أن) المقدرة بعد لام التعليل، وهذا مقول القول، والضمير مفعول (أخبر) أول، وقوله: (بليلة القدر) سد مسد الثاني والثالث؛ لأنَّ التقدير: أخبركم بأن ليلة القدر هي الليلة الفلانية، (وإنه)؛ بكسر الهمزة؛ أي: الشأْن (تلاحى) تنازع (فلان) ابن أبي حدرد (وفلان) كعب بن مالك في المسجد وشهر رمضان، وزادت منازعتهما على القدر المباح في المسجد، فكانت لغوًا، وهو ليس بمحلٍّ للغو، مع ما كان في الزيادة من رفع الصوت بحضرة النبي الأعظم عليه السلام؛ فافهم.
(فرُفعت)؛ أي: رُفع بيانها أو علمها من قلبي؛ بمعنى: نسيتها، يدل عليه ما في رواية مسلم من حديث أبي سعيد: «فجاء رجلان يحتقَّان _بتشديد القاف؛ أي: يدعي كل منهما أنه محق_ معهما الشيطان، فنسيتها»، فيعلم من هذا الحديث: أن سبب الرفع: النسيان، ومن حديث الباب: التلاحي، ويَحتمل أن يكون من كل منهما، والله أعلم، (وعسى أن يكون) رفعها (خيرًا لكم)؛ لتزيدوا في الاجتهاد في طلبها، وشذَّ قوم فقالوا برفعها، وهو غلط، ويدل عليه قوله: (التمسوها)؛ أي: اطلبوها؛ لأنَّ لو كان المراد رفع وجودها؛ لم يأمرهم بالتماسها، وفي رواية: (فالتمسوها) (في) ليلة (السبع) _بتقديم السين على الموحدة_ والعشرين من رمضان، (والتسع) _بتقديم المثناة فوق على السين المهملة_ والعشرين منه، (والخمس) والعشرين منه، والتقييد بالعشرين وبرمضان استفيد من الأحاديث الأُخَر الدالة عليهما، لا يقال: كيف يأمر [1] بطلب ما رفع علمه؟ لأنَّا نقول: المراد طلب التعبد في مظانها، وربما يقع العمل مصادفًا لها؛ لا أنَّه مأمور بطلب العلم بعينها، وفيه ذم الملاحاة والخصومة، وأنها سبب العقوبة للعامة بذنب الخاصة، والحث على طلب ليلة القدر.
==========
[1] في الأصل: (يؤمر)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 31%
==================
(1/98)
(37) [بابُ سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة]
هذا (بابُ) بدون تنوين؛ لإضافته إلى قوله: (سؤالِ جبريلَ النبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان) بإضافة (سؤال) لـ (جبريل) من إضافة المصدر إلى فاعله، و (جبريل) لا ينصرف؛ للعلمية والعجمة، و (النبي) منصوب مفعول المصدر، و (عن الإيمان) متعلق بالسؤال، (و) عن (علمِ) وقت (الساعة) قُدِّر بالوقت؛ لأنَّ السؤال لم يقع عن نفس الساعة، بل عن وقتها بقرينة ذِكْر: (متى الساعة؟) (وبيانِ) بالجر عطفًا على (سؤال جبريل) (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم له)؛ أي: لجبريل أكثر المسؤول عنه؛ لأنَّه لم يبين وقت الساعة؛ لأنَّ حكم معظم الشيء حكم كله، أو أن قوله عن الساعة: «لا يعلمها إلا الله» بيانٌ له؛ كما حققه في «عمدة القاري».
(ثم قال) عليه السلام، وعطف الفعلية على الاسمية؛ لأنَّ الأسلوب يتغير بتغير المقصود؛ فإنَّ المقصود من الكلام الأول: الترجمة، ومن الثاني: كيفية الاستدلال، فلتغايرهما تغاير الأسلوبان، وفيه خلاف عند النحاة: (جاء جبريل) عليه السلام (يعلمكم دينكم، فجعل) عليه السلام (ذلك كله دينًا)، ويدخل فيه اعتقاد وجود الساعة وعدم العلم بوقتها لغير الله تعالى؛ لأنَّهما من الدين، (وما بيَّن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان)؛ أي: مع ما بيَّن للوفد أن الإيمان هو الإسلام؛ حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام، (وقوله تعالى) وفي رواية: (وقول الله تعالى)، وفي أخرى: (عز وجل): ({وَمَن يَبْتَغِ}) أي: يطلب ({غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً}) من الأديان ({فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}) [آل عمران: 85]؛ أي: مع ما دلت عليه هذه الآية أن الإسلام هو الدين؛ لأنَّه لو كان غيره لم يقبل، فاقتضى ذلك أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وهو اختيار المؤلف وجماعة من المحدثين، وهو مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وهو المنصوص عن الشافعي، وقال أحمد ابن حنبل بتغايرهما؛ وقدمنا الكلام فيه.
==========
%ص 31%
==================
(1/99)
[حديث: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله]
50# وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم) بن سهم المشهور بابن عُلَيَّة؛ بضم العين المهملة، وفتح اللام، وتشديد المثناة التحتية؛ وهي أمه (قال: أخبرنا أبو حَيَّان)؛ بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية، يحيى بن سعيد بن حيان (التيمي)؛ نسبة إلى تيم الرباب، الكوفي، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، و (حيان)؛ إما مشتق من الحياة فلا ينصرف، أو من الحين فينصرف؛ كما مر، (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير البجلي، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: كان النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم بارزًا) أي: ظاهرًا (يومًا للناس) غير محتجب عنهم، و (يومًا) نصب على الظرفية، وفي رواية أبي داود عن أبي فروة: (كان عليه السلام يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله عليه السلام أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانًا من طين يجلس عليه، وكنا نجلس بجنبيه) (فأتاه رجل)؛ أي: مَلَك في صورة رجل، وفي رواية: (جبريل)، وفي «النسائي»: عن أبي فروة: (فإنا لجلوس عنده؛ إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأنَّ ثيابه لم يمسها دنس)، وفي رواية مسلم من حديث عمر: (بينما نحن ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر _وفي رواية ابن حبان [1]: شديد سواد اللحية_ لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي عليه السلام، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه)، ولسليمان التيمي: (ليس عليه سحناء؛ أي: هيئة سفر، وليس من البلد، فتخطى حتى برك بين يدي النبي عليه السلام كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النبي عليه السلام) (فقال) بعد أن سلم: (يا محمد)، كما في «مسلم»، وإنما ناداه باسمه كما يناديه الأعراب؛ تعمية بحاله، أو لأنَّ له حالة المعلم، وللمؤلف في (التفسير): (فقال: يا رسول الله)؛ (ما الإيمان؟)؛ أي: ما متعلقاته؟ وقد وقع السؤال بـ (ما) ولا يُسأل بها إلَّا عن الماهية، (قال) عليه السلام: (الإيمان) كرره؛ للاعتناء بشأنه (أن تؤمن بالله)؛ أي: تصدق بوجوده وبصفاته الواجبة له تعالى والمستحيلة عليه تعالى، والظاهر أنه عليه السلام علم أنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن حقيقته، وإلَّا فكان الجواب: الإيمان التصديق، وإنما فسر الإيمان بذلك؛ لأنَّ المراد من المحدود: الإيمان الشرعي، ومن الحد: اللغوي، حتى لا يلزم تفسير الشيء بنفسه.
فإن قلت: لو كان حدًّا؛ لم يقل جبريل في جوابه: (صدقت)؛ كما في «مسلم»؛ لأنَّ الحد لا يقبل التصديق، أجيب: بأن قوله: (صدقت) تسليم، والحد يقبل التسليم ولا يقبل المنع؛ لأنَّ المنع طلب الدليل، والدليل إنَّما يتوجه للخبر، والحد تفسير لا خبر، وتمامه في «القسطلاني».
(وملائكته) جمع ملك، وأصله: ملائك (مفعل) من الألوكة؛ بمعنى: الرسالة، زيدت فيه التاء؛ لتأكيد معنى الجمع أو لتأنيث الجمع، وهم أجسام علوية نورانية مشكَّلة بما شاءت من الأشكال، والإيمان بهم: هو التصديق بوجودهم تفصيلًا فيما عُلم تعيينه كجبريل، أو إجمالًا فيما لم يعلم؛ كالأنبياء عليهم السلام، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]؛ أي: وأن تؤمن بملائكته، (و) أن تؤمن (بلقائه)؛ أي: برؤيته تعالى في الآخرة، قاله الخطابي، واعترضه
%ص 31%
النووي: بأن أحدًا لا يقطع لنفسه بها إنَّما هي مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بم يختم له، وأجاب الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأن المراد أنها حق في نفس الأمر، أو المراد: الانتقال من دار الدنيا، انتهى.
(و) أن تؤمن (برسله) عليهم السلام، وفي رواية: (ورسله) بإسقاط الموحدة؛ أي: التصديق بأنهم صادقون فيما أَخبروا به عن الله تعالى، وتأخيرهم في الذكر؛ لتأخير إيجادهم لا لأفضلية الملائكة، وفي رواية زيادة: (وكتبه)؛ أي: تصدق بأنها كلام الله، وأنَّ ما اشتملت عليه حقٌّ، (و) أن (تؤمن)؛ أي: تصدق (بالبعث) من القبور وما بعده؛ كالصراط، والميزان، والجنة، والنار، أو المراد بعثة الأنبياء، قال في «عمدة القاري»: والأول أظهر، وقيل: إن قوله: (بلقائه) مكرر؛ لأنَّها داخلة في الإيمان بالبعث، وتغاير تفسيرهما يحقق أنَّها ليست مكررة، وإنما أعاد (تؤمن)؛ لأنَّه إيمان بما سيوجد، وما سبق إيمان بالموجود في الحال؛ فهما نوعان.
ثم (قال) أي: جبريل: يا رسول الله؛ (ما الإسلام؟ قال) عليه السلام: (الإسلام) أعاده تفخيمًا لأمره: (أن تعبدَ الله)؛ أي: تطيعه فيما أمر ونهى، أو تنطق بالشهادتين، قلت: والأول أظهر، (ولا تشركَ به)؛ بالفتح، وفي رواية: بالضم، زاد الأصيلي: (شيئًا)، (و) أن (تقيم) أي: تديم أداء (الصلاة) المكتوبة؛ كما صرح به مسلم، أو تأتي بها على ما ينبغي، وهو وتاليه من عطف الخاص على العام، (و) أن (تؤدي) أي: تعطي (الزكاة المفروضة) قيَّد بها؛ احترازًا من صدقة النافلة؛ فإنَّها زكاة لغوية، أو من المعجَّلة، أو لأنَّ العرب كانت تدفع المال للسخاء والجود، فنبَّه بالفرض على رفض ما كانوا عليه، قال الزركشي: والظاهر أنها للتأكيد، (و) أن (تصوم رمضان) ولم يذكر الحج، إما ذهولًا أو نسيانًا من الراوي، ويدل له مجيئه في رواية كهمس: (وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا)، وقيل: لأنَّه لم يكن فرض، ورُدَّ بأن في رواية ابن منده بسندٍ على شرط مسلم: أن الرجل جاء في آخر عمره عليه السلام، ولم يذكر الصوم في رواية عطاء الخراساني، واقتصر في حديث أبي عامر على الصلاة والزكاة، ولم يزد في حديث ابن عباس على الشهادتين، وزاد سليمان التيمي بعد ذكر الجميع: الحج، والاعتمار، والاغتسال من الجنابة، وإتمام الوضوء، وقد حصل هنا الفرق بين الإسلام والإيمان، فجعل الإسلام عمل الجوارح، والإيمان عمل القلب.
فالإيمان لغة: التصديق مطلقًا، وفي الشرع: التصديق والنطق معًا، فأحدهما ليس بإيمان، أما التصديق؛ فإنه لا ينجي وحده من النار، وأما النطق؛ فهو وحده نفاق، فتفسيره في الحديث: الإيمان بالتصديق والإسلام بالعمل، إنَّما فسر به إيمان القلب والإسلام في الظاهر، لا الإيمان الشرعي والإسلام الشرعي، والمؤلف يرى أنهما والدين عبارات عن واحد، والمتَّضح: أن محلَّ الخلاف إذا أُفرد لفظ أحدهما، فإن اجتمعا؛ تغايرا كما وقع هنا، كذا قرره القسطلاني، قلت: فيه نظر؛ فإنَّ الإسلام هو الخضوع والانقياد؛ بمعنى: قبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق، ويؤيده قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36].
وبالجملة: لا يصح في الشرع أن يحكم على واحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا، والمراد بعدم تغايرهما: أنَّه لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا الاتحاد بحسب المفهوم؛ لما في ذكره في الكفاية من [أنَّ] الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر به من أوامره ونواهيه، والإسلام هو الانقياد والخضوع لألوهيَّتِه، وذلك لا يتحقق إلَّا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا، فلا يتغايران، ومن أثبت حدَّ التغاير يقال له: ما حُكْم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا؛ فهو ليس بثابت للآخر، والأظهر بطلان قوله؛ وقدمنا بقية الكلام؛ فافهم.
ثم (قال) جبريل: يا رسول الله؛ (ما الإحسان؟) (ما) استفهامية مبتدأ، والإحسان خبره، و (أل) فيه للعهد؛ أي: ما الإحسان المتكرر في القرآن المترتب عليه الثواب؟ (قال) عليه السلام مجيبًا له: الإحسان (أن تعبد الله)؛ أي: عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك له (كأنك تراه)؛ أي: مثل حال كونك رائيًا له، (فإن لم تكن تراه) سبحانه؛ فاستمر على إحسان العبادة، (فإنه) تعالى (يراك) دائمًا، والإحسان: الإخلاص أو إجادة العمل، وهذا من جوامع كلمه عليه السلام؛ لأنَّه شامل لمقام المشاهدة ومقام المراقبة.
ثم (قال) جبريل: يا رسول الله؛ (متى) تقوم (الساعة؟) (أل) للعهد، والمراد يوم القيامة (قال) عليه السلام: (ما) أي: ليس (المسؤول) زاد في رواية: (عنها) (بأعلم من السائل)؛ بزيادة الموحدة في (أعلم)؛ لتأكيد معنى النفي، والمراد: نفي علم وقتها؛ لأنَّ علم مجيئها مقطوع به، فهو علم مشترك، وهذا وإن أشعر بالتساوي في العلم إلا أن المراد التساوي في العلم بأن الله استأثر بعلم وقت مجيئها؛ لقوله بعدُ: «خمسٌ لا يعلمهنَّ إلَّا الله»، وليس السؤال عنها ليعلم الحاضرون كالأسئلة السابقة، بل لينزجروا عن السؤال عنها، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب: 63]، فلما وقع الجواب بأنه لا يعلمها إلَّا الله؛ كفُّوا، وهذا السؤال والجواب وقعا بين عيسى وجبريل؛ كما في «نوادر الحميدي» عن الشعبي قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، (وسأخبرك عن أَشراطها)؛ بفتح الهمزة، جمع شرط؛ بالتحريك؛ أي: علامتها السابقة عليها أو مقدماتها، لا المقارنة لها؛ وهي (إذا ولدت الأمة) أي: وقت ولادة الأمة (ربَّها)؛ أي: مالكها وسيدها، وهو هنا كناية عن كثرة أولاد السراري حتى تصير الأم كأنها أمة لابنها؛ من حيث إنَّها ملك لأبيه، أو أن الإماء تلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعايا، والملك سيد رعيته، أو كناية عن فساد الحال؛ لكثرة بيع أمهات الأولاد، فيتداولهن المُلَّاك، فيشتري الرجل أمه وهو لا يشعر، أو كناية عن كثرة العقوق بأن يعامل الولد أمه معاملة السيدِ أمتَه في الإعانة بالسب، والضرب، والاستخدام، فأطلق عليه (ربها)؛ مجازًا لذلك.
وعورض بأنَّه لا وجه لتخصيص ذلك بولد الأمة إلَّا أن يقال: إنَّه أقرب إلى العقوق، وعند المؤلف في (التفسير): (ربَّتها) بتاء التأنيث على معنى النسمة؛ ليشمل الذكر والأنثى، وقيل: كراهة أن يقول: (ربَّها)؛ تعظيمًا للفظ (الرب)، وعبر بـ (إذا) الدالة على الجزم؛ لأنَّ الشرط محقَّق الوقوع، ولم يعبر بـ (إنْ)؛ لأنَّه لا يصح أن يقال: إنْ قامت القيامة؛ كان كذا، بل يرتكب قائله محظورًا؛ لأنَّه يشعر بالشك فيه؛ كذا حققه في «عمدة القاري»، وتمامه فيه.
قلت: وهذه الاحتمالات كلها واقعة الآن في زماننا، نعوذ بالله من الجهل والغفلة، اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، والتوفيق لما تحبه وترضاه.
(و) من أشراط الساعة (إذا تطاول رُعاةُ الإبل) بضم الراء جمع راع (البُهمُ)؛ بالرفع؛ صفة للرعاة، وبالجر؛ صفة للإبل، ففيه روايتان، وهو بضم الباء الموحدة، جمع (بهيم) على الأولى، وجمع (بهماء) على الثانية، وفي رواية: بفتح الباء الموحدة، فلا وجه له هنا، جمع (بهيمة)؛ صغار الضأن والمعز، والمراد بالبهم: الأسود الذي لا يخالطه لون غيره؛ وهو شر الإبل.
والمعنى؛ أي: وقت تفاخر أهل البادية بإطالة البنيان وتكاثرهم باستيلائهم على الأمر، وتملكهم البلاد بالقهر المقتضي لتبسطهم بالدنيا، فهو عبارة عن ارتفاع الأسافل كالعبيد والسفلة من الجمَّالين والزراعين وغيرهم، وقد عَدَّ في الحديث من الأشراط علامتين، والجمع يقتضي ثلاثة، فإما أن يكون على أنَّ أقل الجمع اثنان، أو أنَّه اكتفى باثنين لحصول المقصود بهما في علم أشراط الساعة.
وعلمُ وقتها داخل (في) جملة (خمس) من الغيب (لا يعلمهنَّ إلَّا الله، ثم تلا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34])؛ أي: علم وقتها، وفي رواية: ({وَيُنَزِّلُ} .. الآيةَ)؛ بالنصب بتقدير: اقرأ، وبالرفع مبتدأ خبره محذوف؛ أي: الآيةُ مقروءةٌ إلى آخر السورة، ولمسلم: (إلى قوله: {خَبِيرٌ})، والجار والمجرور متعلق بمحذوف كما قدرناه، فهو على حد قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]؛ أي: اذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات، وتمام الآية: {وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ}؛ أي: في أيامه المقدَّر له والمحل المعيَّن له، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} أذكرًا أم أنثى؟ تامًا أم ناقصًا؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}؟ من خير أو شر، وربما يعزم على شيء ويفعل خلافه، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}؟ أي: كما لا تدري في أي وقت تموت؟
قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة؛ لهذا الحديث، فمن ادَّعى علم شيء منها غير مستند إلى الرسول عليه السلام؛ كان كاذبًا في دعواه، انتهى.
(ثم أدبر) من الإدبار؛ أي: رجع الرجل السائل، (فقال) عليه السلام: (ردوه)، وفي رواية: (فأخذوا ليردوه) (فلم يروا شيئًا) لا عينه ولا أثره، ولعل قوله: (ردوه) على إيقاظ للصحابة؛ ليتفطنوا إلى أنه ملَك لا بشر، (فقال) عليه السلام: (هذا) ولكريمة: (إن هذا) (جبريل) عليه السلام (جاء يُعلِّم الناس دينهم)؛
%ص 32%
أي: قواعد دينهم، وهي جملة وقعت حالًا مقدرة؛ لأنَّه لم يكن معلمًا وقت المجيء، وأسند التعليم إليه وإن كان سائلًا؛ لأنَّه لما كان السبب فيه أسنده إليه، أو أنه كان من غرضه.
وللإسماعيلي: «أراد أن تعلموا؛ إذ لم تسألوا»، وفي حديث أبي عامر: «والذي نفس محمد بيده؛ ما جاءني قط إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة»، وفي رواية سليمان التيمي: «ما شُبِّه عليَّ منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى ولَّى».
(قال أبو عبد الله) المؤلف: (جعل)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (ذلك) المذكور (كله من الإيمان)؛ أي: من ثمرات الإيمان، وفي الحديث بيان عظم الإخلاص والمراقبة، وفيه أن العالم إذا سئل عما لا يعلمه؛ يقول: لا أدري، ولا ينقص ذلك من جلالته، بل يدل على ورعه، وتقواه، ووفور علمه؛ فإنَّ النبي الأعظم ورد عنه أنه قال: «لا أدري حتى أسأل جبريل»، وجبريل قال: «لا أدري حتى أسأل ميكائيل ... » وهكذا إلى رب العزة جل جلاله، ونُقل قول: (لا أدري) عن إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، وعن الإمام مالك، وعن الإمام الشافعي، وعن الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنهم، وقال مالك: قول: لا أدري؛ نصف العلم، وتوقف إمامنا الإمام الأعظم في اثنتي عشر مسألة، والإمام مالك في ثماني عشرة مسألة، وهذا من ورعهما وتقواهما، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]، وفيه: أن الملائكة تَمثَّل بأي صورة شاؤوا من صور بني آدم، كقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، وقد كان جبريل يتمثل بصورة دحية، ولم يره النبي عليه السلام في صورته التي خلق عليها غير مرتين، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (حيان)، وهو تصحيف.
==================
(1/100)
(38) [باب منه]
هذا (بابٌ) بالتنوين بدون ترجمة؛ لتعلقه بالترجمة السابقة؛ من حيث اشتراكهما في جعل الإيمان دِينًا.
==========
%ص 33%
==================
(1/101)
[حديث أبي سفيان مع هرقل]
51# وبه قال: (حدثنا إبراهيم بن حمزة)؛ بالزاي: ابن محمد بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي المدني، المتوفى بالمدينة سنة ثلاثين ومئتين (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، (عن صالح) هو ابن كيسان الغفاري، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله)؛ بفتحها، ابن عتبة، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة: (أن عبد الله بن عباس أخبره قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سفيان)؛ بتثليث أوله، وللأصيلي: (ابن حرب): (أن هرقل) عظيم الروم (قال له) أي: لأبي سفيان في قصته المذكورة سابقًا: (سألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟)، وفي الرواية السابقة: الاستفهام بالهمزة؛ وهو القياس؛ لأنَّ (أَم) المتصلة مستلزمة للهمزة، وأجيب بأن (أم) هنا منقطعة؛ أي: بل ينقصون، فيكون إضرابًا عن سؤال الزيادة واستفهامًا عن النقصان، على أن جار الله الزمخشري أطلق أنَّها لا تقع إلا بعد الاستفهام؛ فهو أعم من الهمزة؛ فافهم.
(فزعمت) وفي السابقة: (فذكرت) (أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم)؛ أي: أمر الإيمان؛ كما في الرواية السابقة، (وسألتك هل يرتد) وفي السابقة: (أيرتد) بالهمزة (أحد سَخطة)؛ بفتح السين، وفي رواية: (أحد منهم سَخطة)؛ أي: ساخطًا؛ أي: كراهة، منصوب على الحال أو على المفعول لأجله، (لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت) في السابقة: (فذكرت) (أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يَسخَطه أحد)؛ بفتح المثناة التحتية والخاء، ولم يذكر هذه اللفظة وتاليها في الرواية السابقة.
واقتصر هنا على هذه القطعة؛ لبيان غرضه منها هنا؛ وهي تسمية الدين إيمانًا، ونحو هذا الحذف يسمونه خرمًا، والصحيح جوازه من العالم إذا كان ما تركه غير متعلِّق بما رواه؛ بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة، والظاهر أنَّ الخرم وقع من الزهري لا من المؤلف؛ كما قاله القسطلاني تبعًا للكرماني، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأنه كيف يكون الخرم من الزهري وقد أخرجه البخاري بتمامه بهذا الإسناد في (كتاب الجهاد)؟ وليس الخرم إلَّا من البخاري، انتهى.
قلت: وهو ظاهر؛ لأنَّ عادة البخاري الخرم في بعض الأحاديث؛ لبيان غرضه واستدلاله كما وقع هنا، فلا شكَّ أن الخرم وقع هنا من المؤلف؛ لأنَّ سياقه في (الجهاد) بتمامه بهذا الإسناد؛ دليل واضح على ذلك، والله أعلم.
==========
%ص 33%
==================
(1/102)
(39) [باب فضل من استبرأ لدينه]
هذا (باب فضل من استبرأ لدينه)؛ أي: الذي طلب البراءة؛ لأجل دينه من الذم الشرعي أو من الإثم، وإنما قال: (لدينه) ولم يقل: لعرضه؛ لأنَّه لازمٌ له، والاستبراء للدين من الإيمان.
==========
%ص 33%
==================
(1/103)
[حديث: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات]
52# وبه قال: (حدثنا أبو نعيم)؛ بضم النون: الفضل بن دُكَين؛ بضم الدال المهملة وفتح الكاف؛ وهو لقبه، واسمه عمرو بن حماد، القرشي التيمي الطلحي، المتوفى بالكوفة سنة ثمان أو تسع عشرة ومئتين (قال: حدثنا زكريا) بن أبي زائدة، واسمه خالد بن ميمون، الهمداني الوادعي الكوفي، المتوفى سنة سبع أو تسع وأربعين ومئة (عن عامر) هو الشعبي، وفي «فوائد أبي الهيثم» من طريق يزيد بن هارون عن زكريا قال: (حدثنا الشعبي)، وبهذا حصل الأمن من تدليس زكريا؛ كذا في «عمدة القاري»: أنه (قال: سمعت النعمان بن بشير)؛ بفتح الموحدة وكسر المعجمة: ابن سعْد؛ بسكون العين، الأنصاري الخزرجي، وأمه عمرة بنت رواحة، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة، المقتول سنة خمس وستين، وقول القابسي وابن معين عن أهل المدينة: لا يصح للنعمان سماع من النبي عليه السلام؛ يرده قوله هنا: (سمعت النعمان بن بشير) (يقول: سمعت رسول الله) وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وعند مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه (يقول: الحلالُ بيِّنٌ) مبتدأ وخبر؛ أي: ظاهرٌ بالنظر إلى ما دل عليه بلا شبهة، (والحرامُ بيِّنٌ) مبتدأ وخبره؛ أي: ظاهرٌ بالنظر إلى ما دل عليه بلا شبهة، (وبينهما) خبر، أمورٌ (مشبَّهاتٌ) مبتدؤه؛ بتشديد الموحدة المفتوحة؛ أي: شُبِّهت بغيرها ممَّا لم يتبيَّن به حكمها على التعيين، وفي رواية: (مشتَبِهات)؛ بمثناة فوقية مفتوحة وموحدة مكسورة؛ أي: اكتسبت الشبهة من وجهين متعارضين، بقي ثلاث روايات فيها مذكورة مع معانيها بغاية الإيضاح في «عمدة القاري»؛ فيراجع، (لا يعلمها)؛ أي: لا يعلم حكمها (كثير من الناس) وفي رواية الترمذي: (لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام؟) وقليل من الناس يعلم حكمها؛ وهم العلماء، إما بنص، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن نصٌّ ولا إجماع؛ اجتهد فيه المجتهد وألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به؛ صار حلالًا أو حرامًا، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه؛ فهل يؤخذ بالحل أو الحرمة أم بالتوقف؟ فيه ثلاثة مذاهب؛ وهي مخرَّجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب:
أحدها: أنه لا يحكم بتحليل ولا تحريم ولا غيرها؛ لأنَّ التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، وهو الأصح؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وفي «البدائع»: وهو المختار، وهو قول الشافعية.
الثاني: أن الحكم الحل والإباحة، وهو قول بعض أئمتنا، وهو قول الإمام الكرخي، ومشى عليه الإمام المرغيناني في «الهداية»، والإمام الجليل قاضيخان في «الفتاوى».
الثالث: المنع، وهو قول بعض أصحاب الحديث.
الرابع: الوقف؛ بمعنى: أنه لا بدَّ لها من حكم، لكنا لم نقف عليه بالعقل، وهو قول بعض أئمتنا.
وقد يكون الدليل غير خال عن الاحتمال، فالورع تركه لا سيما على القول: بأن المصيب واحد، وهو المشهور في مذهب إمامنا الإمام الأعظم والإمام مالك، ومنه ثار القول في مذهبهما بمراعاة الخلاف أيضًا، وكذا روي عن الشافعي: أنه كان يراعي الخلاف؛ حيث لا يفوت به سنة عندهم.
فعلى هذا: ساغ لنا إذا سُئِلنا عن مذهبنا أن نقول: مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب؛ بناء على أن الحق واحد، وقال الشافعي: إن الحق متعدد، فلا يجوز له أن يقول ذلك، والله تعالى أعلم.
(فمَن) موصولة مبتدأ (اتقى) أي: حَذِرَ (المشبَّهات)؛ بالميم وتشديد الموحدة، وفي رواية: (المشْتَبِهات)؛ بالميم والمثناة الفوقية بعد الشين الساكنة، وفي أخرى: (الشُّبهات) بإسقاط الميم، وضم الشين، وبالموحدة: جمع شبهة؛ وهي الالتباس، وأصل (اتقى): اوتقى؛ من وقى وقاية، قلبت الواو تاء، وأدغمت التاء في التاء، صلة الموصول، وقوله: (استبرأ) خبره، وفي رواية: (فقد استبرأ) بالهمز بوزن (استفعل) (لدينه) المتعلق بخالقه، (وعرضه) المتعلق بالخلق؛ أي: حصل البراءة لدينه من الالتباس، ولعرضه من طعن الناس، وفي رواية: (لعرضه ودينه)، (ومَن) شرطية، وفعل الشرط قوله: (وقع في الشُّبهات) التي أشبهت الحرام من وجه والحلال من آخر؛ بمعنى: التبس أمرها، وفي رواية: (المشْتَبِهات)؛ بالميم، وسكون الشين، وفوقية قبل الموحدة، وفي أخرى: (المشبَّهات)؛ بالميم والموحدة المشددة، وجواب [من] محذوف في جميع النسخ، وثبت
%ص 33%
في رواية الدارمي عن أبي نُعيم شيخ المؤلف فيه، ولفظه قال: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) (كراعٍ)؛ أي: مثله مثل راع، وفي رواية: (كراعي بالياء)، (يرعى): جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل؛ للتنبيه بالشاهد على الغائب، أو أن تكون (مَن) موصولة لا شرطية مبتدأ، والخبر (كراع يرعى)، وحينئذٍ لا حذف، والتقدير: الذي وقع في الشبهات كراع يرعى مواشيه.
(حول الحمى)؛ بكسر الحاء المهملة وفتح الميم: المحمي، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، والمراد: موضع الكلأ الذي مُنع منه الغير وتُوعِّد على من رعى فيه، (يوشك)؛ بكسر المعجمة؛ أي: يقرب، (أن يواقعه)؛ أي: يقع فيه، وعند ابن حبان: اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك؛ استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه؛ كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه.
(ألا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام: حرف تنبيه أن الأمر كما تقدم، (وإن لكل ملِك)؛ بكسر اللام من ملوك العرب (حمى)؛ مكانًا مخصبًا حظره لرعي مواشيه وتوعَّد من رعى فيه بغير إذنه بالعقوبة، وسقط قوله: (ألا وإن) في رواية (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام، (إنَّ) وفي رواية: (وإن)، (حمى الله) تعالى، وفي رواية زيادة: (في أرضه)، (محارمه) وفي رواية: (معاصيه) بدل (محارمه)؛ أي: المعاصي التي حرمها؛ كالزنا ونحوه، فهو من باب التمثيل والتشبيه بالشاهد عن الغائب، فشبه المكلفَ بالراعي، والنفسَ بالبهيمة؛ بالأنعام، والمشبهات بما حول الحمى، والمحارم بالحمى، وتناول المشبهات بالرتع حول الحمى، ووجه التشبيه: حصول العقاب بعدم الاحتراز عن ذلك.
(ألا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام، إن الأمر كما ذكر، (وإن في الجسد مضغة) بالنصب اسم (إن) مؤخر؛ أي: قطعة من اللحم، وسميت بذلك؛ لأنها تُمضَغ في الفم لصغرها، أو لأنَّ أول نقطة تكون من النطفة، (إذا صلحت)؛ بفتح اللام وضمها، والفتح أفصح؛ أي: المضغة، (صلح الجسد كله)؛ لأنَّه مركب عليها، وسقط لفظ (كله) في رواية، (وإذا فسدت)؛ أي: المضغة (فسد الجسد كله)؛ لأنَّه مركب عليها.
(ألا)؛ بالفتح والتخفيف، (وهي)؛ أي: المضغة (القلب)؛ أي: الفؤاد، وقيل: القلب أخص من الفؤاد، وإنما سمي به؛ لتقلبه في الأمور، وقيل: لأنَّه خالص ما في الإنسان، وخالص كل شيء قلبه، وأصله مصدر ثم نُقل وسمي به هذا العضو؛ لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
... ~ما سمِّي القلبُ إلَّا من تقلُّبه ... فاحذرْ على القلبِ من قلبٍ وتحويلِ
قيل: إن القلب محل العقل، وهو قول بعض المتكلمين، والشافعية، والفلاسفة، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم: إن العقل في الدماغ، وهو قول جمهور المتكلمين والأطباء.
وقال الإمام النووي: ليس في الحديث دلالة على أن العقل في القلب، واستدل به أيضًا على أن من حلف لا يأكل لحمًا فأكل قلبًا؛ حنث، قلت: ولأصحاب الشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه يحنث، وإليه مالَ الصيدلاني المروزي، والأصح: أنه لا يحنث؛ لأنَّه لا يسمى لحمًا اهـ.
فعُلِم منه: أن بعض الشافعية قالوا: العقل في القلب، وبعضهم قالوا: إنه في الدماغ، وظاهر عبارة أئمتنا الأعلام: أن العقل مقره في القلب، وسلطانه ونوره وشعاعه في الدماغ، وبهذا يحصل التوفيق بين القولين؛ فليحفظ.
==================
(1/104)
(40) [باب أداء الخمس من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين (أداء الخُمُس)؛ بضم المعجمة والميم، (من الإيمان) مبتدأ وخبره؛ أي: من شعبه، ويجوز إضافة الباب لما بعده.
==========
%ص 34%
==================
(1/105)
[حديث: مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامى]
53# وبه قال: (حدثنا علي بن الجَعْد)؛ بفتح الجيم وسكون العين، أبو الحسن ابن عُبيد؛ بضم العين، الجوهري، الهاشمي، البغدادي، المتوفى فيها سنة ثلاثين ومئتين، (قال: أخبرنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (عن أبي جمرة)؛ بالجيم والراء، واسمه نصر بن عمران بالصاد المهملة، الضُّبَعي؛ بضم الضاد المعجمة، بعدها موحدة مفتوحة، بعدها عين مهملة، البصري المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة، والضُّبَعي: نسبة لبطن من عبد القيس.
(قال: كنت أقعد) بلفظ المضارع حكاية حالٍ ماضية؛ استحضارًا لتلك الصورة للحاضرين، (مع ابن عباس) رضي الله عنهما؛ أي: عنده زمن ولايته بالبصرة من قِبَل علي بن أبي طالب، (يُجلسني)؛ بضم أوله من غير فاء، مِن أجلس، وفي رواية: بالفاء؛ أي: يرفعني بعد أن أقعد.
(على سريره) عطف على (أقعد)؛ لأنَّ الجلوس على السرير بعد القعود، وروى المؤلف في (العلم) السبب في إكرام ابن عباس له، ولفظه: (كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس)، والترجمة: التعبير بلغة عن لغة لمن لا يفهم، فقيل: كان يتكلم بالفارسية، وكان يترجم لابن عباس عن من تكلم بها، وفيه دليل على جواز الترجمة والعمل بها، وجواز المترجم الواحد؛ كما قاله القاضي.
قلت: قال أئمتنا الأعلام: والواحد يكفي للتزكية والرسالة والترجمة؛ لأنَّها خبر وليست بشهادة حقيقية، ولهذا لا يشترط لفظة الشهادة؛ فليحفظ.
(فقال: أقم)؛ أي: توطن (عندي)؛ لتساعدني بتبليغ كلامي إلى من خفي عليه من السائلين، (حتى) أن (أجعل لك سهمًا)؛ أي: نصيبًا (من مالي)، سبب الجعل الرؤيا التي رآها في العمرة؛ كما سيأتي في الحج، قال أبو جمرة: (فأقمت معه)؛ أي: عنده مدة (شهرين) بمكة، وإنما عبر بـ (مع) المقتضية للمصاحبة دون (عند) المقتضية لمطابقة (أقم عندي)؛ للمبالغة.
وفي رواية مسلم بعد قوله (وبين الناس): (فأتت امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فنهى عنه، فقلت: يا بن عباس: إنِّي انتبذت [1] في جرة خضراء نبيذًا حلوًا فأشرب منه فيقرقر بطني، قال: لا تشربْ منه وإن كان أحلى من العسل).
(ثم قال: إنَّوَفْد)؛ أي: جماعة (عبد القيس) أبو القبيلة، وهو ابن أَفْصَى؛ بهمزة مفتوحة، وفاء ساكنة، وصاد مهملة مفتوحة، ابن دُعْمي؛ بضم الدال المهملة، وسكون العين المهملة، وبياء النسبة، ابن جَديلة؛ بفتح الجيم، ابن أسد بن ربيعة بن نزار، كانوا ينزلون البحرين وحوالي القطيف، وكانوا أربعة عشر رجلًا بالأشج، ويُروى أنهم أربعون، فيحتمل أن يكون لهم وفادتان، أو أن الأشراف أربعة عشر والباقي تبع، وأسماؤهم وبيانهم موضح في «عمدة القاري» غاية الإيضاح.
(لما أتوا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) عام الفتح قبل خروجه من مكة، وكان سبب وفودهم كما في «عمدة القاري» إسلام منقذ بن حبان، وتعلمه الفاتحة وسورة اقرأ، وكتابته عليه السلام لجماعة عبد القيس كتابًا، فلما رحل إلى قومه؛ كتمه أيامًا، وكان يصلي، فقالت زوجته لأبيها المنذر بن عائذ وهو الأشج: إنِّي أنكرت فعل بعلي منذ قدم مِن يثرب؛ إنه ليغسل أطرافه، ثم يستقبل الجهة، يعني: الكعبة، فيحني ظهره مرة ويقع أخرى، فاجتمعا فتحادثا في [2] ذلك، فوقع الإسلام في قلبه، وقرأ عليهم الكتاب، وأسلموا وأجمعوا المسير إلى رسول الله عليه السلام، فلما قدموا؛ (قال) عليه السلام (مَن القوم؟ أو) قال (مَن الوفد؟) شك شعبة أو أبو جمرة، (قالوا) نحن (ربيعة)؛ أي: ابن نزار بن معَدِّ بن عدنان، وإنما قالوا: ربيعة؛ لأنَّ عبد القيس من أولاده، وعبر عن البعض بالكل؛ لأنَّهم بعض ربيعة، ويدل له ما في المؤلف في (الصلاة)، فقالوا: إنا هذا الحي من ربيعة.
(قال) عليه السلام: (مرحبًا بالقوم أو) قال (بالوفد)، وأول من قال: مرحبًا: سيف بن ذي يزن، وانتصابه على المصدرية بفعل مضمر؛ أي: صادفوا رُحبًا؛ بالضم؛ أي: سعة، حال كونهم (غير خزايا) جمع خزيان على القياس؛ أي: غير أذلاء أو غير مستحيين لقدومكم مبادرين دون حرب يوجب استحياءكم، و (غير) بالنصب حال، ويروى: بالخفض صفة لـ (القوم).
(ولا ندامى) جمع نادم على غير قياس، وإنما جُمع كذلك؛ اتباعًا لـ (خزايا) للمشاكلة والتحسين، وذكر القزاز: أن (ندمان) لغة في (نادم)، فجمعه المذكور على هذا قياس، (فقالوا)، وللأصيلي: (قالوا): (يا رسول الله؛ إنا لا نستطيع أن نأتيك)؛ أي: الإتيان إليك، (إلا في الشهر الحرام) سُمي الشهر شهرًا؛ لشهرته وظهوره، وحرامًا؛ لحرمة القتال فيه عندهم، والمراد الجنس، فيشمل الأربعة الحُرُم، والمراد شهر رجب، كما صُرِّح به في رواية البيهقي.
وفي رواية: (إلا في شهر الحرام)، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع، والبصريون يمنعونها ويؤولون ذلك على حذف مضاف؛ أي: ومسجد الوقت الجامع، وشهر الوقت الحرام.
وقول ابن حجر: هذا من إضافة الشيء إلى نفسه، رده الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز؛ كما عُرِف في موضعه؛ فليحفظ، وفي رواية: (إلا في أشهر الحُرُم)، تقديره: في أشهر الأوقات الحُرُم، و (الحُرُم)؛ بضمتين جمع حرام، وفي رواية: (إلا في كل شهر حرام).
(و) الحال (بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَرَ)؛ بضم الميم وفتح المعجمة، مخفوض بالمضاف بالفتحة؛ للعلمية والتأنيث، وهذا مع قولهم: (يا رسول الله)، يدل على تقدم إسلامهم على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق.
(فمرنا بأمرٍ فصْلٍ)؛ بالصاد المهملة وبالتنوين في الكلمتين على الوصفية، لا بالإضافة؛ أي: يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى: المفصَّل المبين، وأصل (مرنا): أأمرنا؛ بهمزتين؛ من أمر يأمر،
%ص 34%
فحذفت الهمزة الأصلية؛ للاستثقال، فصار (أمرنا)، فاستغني عن همزة الوصل فحذفت، فبقي (مُر) على وزن (عُل)؛ لأنَّ المحذوف فاء الفعل.
(نخبر به مَن)؛ أي: الذي استقرَّ، (وراءَنا)؛ أي: خلفنا مِن قومنا الذين خلَفناهم في بلادنا، و (نخبر) بالجزم جوابًا للأمر، وبالرفع لخلوِّه من ناصبٍ وجازم، والجملة في محلِّ جرِّ صفة لـ (أمر)، (وندخل به الجنة) إذا قُبِل بفضله تعالى، ويجوز الجزم والرفع في (ندخل) كـ (نخبر)؛ عطفًا عليها، لكن يتعيَّن الرفع في هذه على رواية إسقاط الواو، وتكون الجملة مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب.
(وسألوه) عليه السلام (عن الأشربة)؛ أي: عن ظروفها، أو سألوه عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة، فعلى الأول: المحذوف المضاف، وعلى الثاني: الصفة.
(فأمرهم) عليه السلام (بأربع)؛ أي: بأربع جمل أو خصال، (ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده) تفسيرٌ لقوله: (فأمرهم بأربع)، ومن ثَم حذف العاطف، (قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال) عليه السلام: هو (شهادة أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله)؛ برفع شهادة خبر مبتدأ محذوف، ويجوز الجرُّ على البدلية، (وإقام الصلاة)؛ أي: أدائها بأوقاتها على الوجه المعلوم.
(وإيتاء الزكاة)؛ أي: إعطاؤها في مصارفها، (وصيام رمضان) فيه دليلٌ على عدم كراهة قول رمضان من غير تقييد بالشهر، (و) الخامس (أن تعطوا من المغنم الخُمُس)؛ بضم الخاء المعجمة والميم، وإنما أمرهم بأربع وذكر لهم خمسًا؛ لأنَّهم كانوا مجاورين كفَّارَ مُضر وكانوا أهلَ جهاد وغنائم، فزاد الخامس لذلك، ولم يذكر لهم الحجَّ؛ لكونه على التراخي لا يمنع من الأمر به، وفيه خلاف، فعند الإمام أبي يوسف؛ وهو رواية عن إمامنا الإمام الأعظم: وجوبه على الفور، وعليه الفتوى، وهو مذهب مالك، وعند الإمام محمَّد الشيباني؛ وهو رواية أيضًا عن الإمام الأعظم: أنَّه على التراخي، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل؛ لأنَّ فرض الحج كان بعد الهجرة، وأنَّه عليه السلام كان قادرًا على الحج في سنة ثمان وفي سنة تسع ولم يحجَّ إلَّا في سنة عشر.
وأجيبَ: بأنَّه عليه السلام كان عالمًا بإدراكه فلذلك أخَّره، بخلاف غيره مع ورود الوعيد في تأخيره بعد الوجوب، أو لشهرته عندهم، أو لكونه لم يكن فُرِض؛ لأنَّ قدومهم كان في سنة ثمان قبل فتح مكَّة، وهو فُرِض في سنة تسع على قول، والأصحُّ: أنَّه فُرِض سنة ست كما سيأتي، أو لكونه لم يكن سبيل لهم إليه من أجل كفَّار مُضر.
ثم عطف المؤلف على قوله: (وأمرهم) قوله: (ونهاهم عن أربع: عن الحَنْتَم)؛ أي: عن الانتباذ فيه؛ وهو بفتح المهملة، وسكون النون، وفتح المثناة الفوقية، وهي الجرَّة أو الجِرار الخُضر أو الحمر، أعناقها على جنوبها، أو متخذَة من طين، وشعر، ودم، أو (الحنتم): ما طُلي من الفخار بالحنتم المعمول بالزجاج وغيره، وسقطت (عن) الثانية لكريمة.
(و) عن الانتباذ في (الدُّباء)؛ بضمِّ المهملة، وتشديد الموحدة، والمدِّ؛ اليقطينُ الكبير الأبيض، (و) عن الانتباذ في (المزفَّت)؛ بالزاي والفاء: ما طلي بالزِّفت، (وربما قال: المقيَّر)؛ بالقاف والمثناة التحتية المشددة المفتوحة؛ وهو ما طلي بالقار، ويقال له: القير؛ وهو نبت يحرق إذا يبس، تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت.
(وقال: احفظوهن وأخبروا بهن)؛ بفتح الهمزة، (مَن وراءَكم)؛ أي: الذين كانوا أو استقروا، فـ (مَن) موصولة مبتدأ، و (وراءكم) خبره، ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها؛ لأنَّه يُسرع إليها الإسكار، فربَّما شرب منها مَن لم يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كلِّ وعاء، مع النهي عن شرب كلِّ مُسكر، ففي «مسلم»: «كنتُ نهيتُكم عن الانتباذ إلَّا في الأسقية فانتبذوا في كلِّ وعاء، ولا تشربوا مُسكرًا»، وهو مذهب إمامنا الإمام الأعظم والجمهور، وهو قول الشافعي، وذهب مالك، وأحمد، وإسحاق إلى أن النهي باقٍ، والصواب الجزم بالإباحة؛ لتصريح النسخ؛ كما علمت، والله أعلم.
وفي الحديث استعانة العالم في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم، وفيه استحباب قول: مرحبًا للزائرين، وندب العالم إلى إكرام الفاضل، وفي قوله: (أجعل لك سهمًا من مالي) دليل على جواز أخذ الأجرة على التعليم؛ كما قاله ابن التين، قلت: مذهب إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل ومَن قال بقوله: أنَّ الاستئجار على الطاعات لا يصح، واستثنى المتأخرون تعليم القرآن، فجوَّزوا الاستئجار عليه؛ لخوف الضياع، والأذان والإمامة؛ للعلة المذكورة؛ لأنَّهما من شعائر الدين، فهذه الثلاثة مستثناة للضرورة.
قال في «الهداية»: الأصل أنَّ كل طاعة يختصُّ بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها عندنا؛ لقوله عليه السلام: «اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به ... » الحديث، فالاستئجار على الطاعات مطلقًا لا يصح عند أئمتنا الأعلام، اهـ.
فالمُفتَى به: جواز أخذ الأجرة؛ استحسانًا، على تعليم القرآن، لا على القراءة المجرَّدة كما صرح به أئمَّة المذهب، وهو قول أحمد، وعطاء، والضحَّاك، والزهري، والحسن، وابن سيرين، وطاووس، والشعبي، والنخلي، فقارئ القرآن بالأجرة لا يستحق الثواب لا للميت ولا للقارئ؛ لأنَّ الاستئجار على قراءة القرآن باطلة، ولم يفعلها أحد من الخلفاء، وكذا الوصية بذلك باطلة.
وهذا كله مع قطع النظر عما يحصل في زماننا من المنكرات التي يتوصَّلون إليها بحيلة قراءة القرآن والتهاليل؛ من الغناء، والرقص، واللهو، واللعب في بيوت الأيتام، ودق الطبول، وإقلاق الجيران، والاجتماع بحسان المردان، فكل من له معشوق لا يتيسر له الاجتماع به إلَّا في ذلك المكان فيجلس كلٌّ منهم بجنب معشوقه بعد إلقاء العمائم وثقيل الثياب، ويظهرون أنواع الخلاعات والرقص بما يسمونه الحربية، ويهيج بهم الهيام بسماع الغناء بأصوات حسان، وتخلع الولدان، فعند ذلك تذهل العقول ولا يدري شيخهم ما يقول، وتجتمع النسوان من كل مكان، ثم يأكلون الطعام الحرام في بيوت الأيتام، ثم يهبون ما تحصّل منهم في تلك الأوقات الخاسرات إلى روح مَن كان سببًا في اجتماعهم على هذه المنكرات، نعوذ من الجهل العظيم بالله الكريم، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم الحليم.
==========
[1] في الأصل: (أنتبذ).
[2] في الأصل من دون (في) والسياق يقتضيها.
==================
[1] في الأصل: (أنتبذ).
[1] في الأصل: (أنتبذ).
(1/106)
(41) [باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى]
هذا (باب ما جاء)؛ أي: الذي جاء في الحديث (أن الأعمال)؛ بفتح الهمزة: فاعل (جاء)، وفي رواية: بكسرها، وفي أخرى: (أن العمل)، (بالنية)؛ بالتشديد المثناة التحتية، (والحِسْبة)؛ بكسر الحاء وسكون السين المهملتين: اسم من الاحتساب؛ وهو الأجر والثواب، (ولكل امرئ ما نوى)؛ أي: الذي نواه، ولفظ (الحسبة) من حديث أبي مسعود الآتي، وأدخلها بين الجملتين تنبيهًا على أنَّ التبويب شامل لثلاث تراجم: الأعمال بالنية، والحِسبة، ولكل امرئ ما نوى، وفي رواية: (قال أبو عبد الله البخاري)، وفي أخرى إسقاطها.
(فدخل فيه)؛ أي: في الكلام السابق، (الإيمان) بناء على ما اختاره المؤلف من أن الإيمان؛ عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية؛ لأنَّ الشارع قال: (الأعمال بالنية) وهي حركات البدن ولا دخل للقلب فيه، وأما الإيمان بمعنى معرفة الله؛ فكذلك لا تحتاج إلى نية؛ لأنَّ المعرفة لو توقفت على النية؛ لزم أن يكون عارفًا بالله قبل معرفته، وهو محال وكذا التسبيح وسائر الأذكار والتلاوة لا يحتاج شيء منها إلى نية التقرب.
(و) كذا (الوضوء) بناء على ما ذهب إليه المؤلف، ومالك، والشافعي، وأحمد، وعند إمامنا الإمام الأعظم، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، لا يدخل.
وقالوا: الوضوء ليس عبادة مستقلة، وإنما هو وسيلة إلى الصلاة، والنبي الأعظم عليه السلام حين علَّم الأعرابي الجاهل الوضوء لم يعلِّمه النية، ولو كانت فرضًا؛ لعلَّمه، وقال الخصم: ونوقضوا بالتيمم، فإنَّه وسيلة وقد اشترط فيه النية عندنا.
قلنا: هذا التعليل ينتقض بتطهير الثوب والبدن عن الخبث؛ فإنَّه طهارة ولم يشترط فيها النية، فإن قالوا: الوضوء تطهير حكمي يثبت شرعًا، غير معقول؛ لأنَّه لا يعقل في المحل نجاسة تزول بالغسل؛ لأنَّ الأعضاء طاهرة حقيقةً وحُكمًا، أما حقيقة فظاهرٌ، وأما حكمًا فلأنه لو صلى إنسان وهو حاملُ مُحدِثٍ؛ جازت صلاته، وإذا ثبت أنه تعبُّدي وحكم الشرع بالنجاسة في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة، كان مثل التيمم؛ حيث جعل الشارع ما ليس بمطهر حقيقة مطهرًا حكمًا، فيشترط فيه النية كالتيمم؛ تحقيقًا لمعنى التعبد؛ لأنَّ العبادة لا تتأدّى بدون النية، بخلاف غسل الخبث؛ فإنَّه معقول؛ لما فيه من إزالة عين النجاسة عن البدن أو الثوب، فلا تتوقف على النية.
قلنا: الماء مطهر بطبعه؛ لأنَّه خلق مطهرًا، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، كما أنه مزيل للنجاسة ومطهر بطبعه، وإذا كان كذلك؛ تحصل الطهارة باستعماله، سواء نوى أو لم ينوِ، كالنار يحصل بها الإحراق وإن لم يقصد، والحدث يعم البدن؛ لأنَّه غير متجزئ، فيسري إلى جميع الأعضاء، ولهذا يوصف به كله، فيقال: فلان محدث لسائر الصفات؛ لأنَّه ليس بعضُ الأعضاء أولى بالسراية من بعض؛ لأنَّه لو خصص بعض الأعضاء بالحدث؛ لخص موضع خروج النجاسة بذلك؛ لأنَّه
%ص 35%
أولى المواضع به لخروج النجاسة منه، لكنه لم يخص، فإنَّه لا يقال: مخرجه محدث، فإذا لم يخص المخرج بذلك؛ فغيره أولى، وإذا ثبت أنَّ البدن كله موصوف بالحدث؛ كان القياس غسل كله، إلَّا أنَّ الشارع اقتصر على غسل الأعضاء الأربعة التي هي الأمهات للأعضاء؛ تيسيرًا، وأسقط غسل الباقي فيما يكثر وقوعه كالحدث الأصغر؛ دفعًا للحرج، وفيما عداه؛ وهو الذي لا يكثر وجوده كالحدث الأكبر مثل الجنابة، والحيض، والنفاس، أقرَّ على الأصل؛ حيث أوجب غسل البدن فيها.
فثبت بما ذكرنا: أنَّ ما لا يعقل معناه وصف كل البدن بالنجاسة مع كونه طاهرًا حقيقة وحكمًا دون تخصيص المخرج، وكذا الاقتصار على غسل بعض البدن؛ وهو الأعضاء الأربعة بعد سراية الحدث إلى جميع البدن غير معقول، وكونهما مما لا يعقل لا يوجب تغيير صفة المطهر، فبقي الماء مطهرًا كما كان، فيطهر مطلقًا، والنية لو اشترطت إنَّما تشترط للفعل القائم بالماء؛ وهو التطهير، لا الوصف القائم بالمحل؛ وهو الحدث؛ لأنَّه ثابت بدون النية، وقد بينّا أنَّ الماء فيما يقوم به من صفة التطهير لا يحتاج إلى النية؛ لأنَّه مطهر طبعًا، بخلاف التراب؛ لكونه ملوِّثًا بالطبع، وإنما صار مطهرًا شرعًا حال إرادة الصلاة بشرط فقد الماء، فإذا وجدت نية إرادة الصلاة؛ صار مطهرًا، وبعد إرادة الصلاة وصيرورته مطهرًا شرعًا مستغنى عن النية كما استغنى الماء عنها بلا فرق بينهما، والله أعلم.
(و) كذا (الصلاة) فلا خلاف في أنَّها لا تصحُّ إلَّا بالنية، ووقتها أول العبادات، ولكن الأول حقيقي وحُكمي، أما الحقيقي؛ ففي «الخلاصة» أجمع أصحابنا: أن الأفضل أن تكون مقارنة للشروع، ولا يكون شارعًا بمتأخرة عنها؛ لأنَّ ما مضى لا يقع عبادة؛ لعدم النية، فكذا الباقي؛ لعدم التجزُّئ.
وأما الحكمي؛ ففي «الأشباه» قالوا: لو نوى عند الوضوء أن يصلي الظهر مثلًا مع الإمام، ولم يشتغل بعد النية بما ليس من جنس الصلاة، إلَّا أنه لما انتهى إلى مكان الصلاة لم تحضره النية، وشرع في الصلاة؛ جازت صلاته بتلك النية، هكذا روي عن أئمتنا الثلاثة الأعلام.
وفي «التجنيس والمزيد»: إذا توضأ في منزله ليصلي العصر، ثم حضر المسجد، وافتتح الصلاة بتلك النية؛ فإن لم يشتغل بعمل آخر؛ تكفيه، هكذا قال الإمام محمد؛ لأنَّ النية المتقدمة تكفيها إلى وقت الشروع حكمًا، انتهى.
والمراد بما ليس من جنسها كل ما يدل على الإعراض عنها؛ كأكل وكلام مباح وغيرهما، وأما المشي إلى مقام الصلاة، فإنَّه مغتفر؛ لأنَّه من أفعالها حكمًا، فإنَّه غير قاطع لها، كما في «فتح القدير»، ولا تشترط بقاء النية مع كل ركن؛ للحرج، كذا في «البناية»، وكذا في بقية العبادات، وفي «القنية» لا يلزم نيته العبادة في كل جزء، إنَّما يلزمه في جملة ما يفعله في كل حال، انتهى، وفي «العناية»: افتتح المكتوبة ثم ظن أنَّها تطوع فأتمها على نية التطوع؛ أجزأته عن المكتوبة، انتهى.
والحاصل أن المذهب المعتمد: أن العبادة ذات أفعال تكتفي بالنية في أولها، ولا يحتاج في كل فعل اكتفاءً بانسحابها عليها، كذا في «الأشباه والنظائر» للإمام العلامة زين بن نجيم رضي الله عنه، وأما محلها؛ فالقلب في كل موضع، ولا يكفي التلفظ بها باللسان دون القلب، وفي «القنية» و «المجتبى»: ومن لا يقدر أن يُحضِر قلبه لينوي بقلبه أو يشك في النية؛ يكفيه التكلُّم بلسانه، {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، انتهى، ثم قال فيها: ولا يؤاخذ بالنية حال سهوه؛ لأنَّ ما يفعله من الصلاة فيما يسهو معفوٌ عنه، وصلاته مُجْزئة وإن لم يستحق بها ثوابًا، اهـ.
وهل يستحب التلَفُّظ بها ليكون مقررًا لما في القلب، أو يسن، أو يكره؟ فيه أقوال: فاختار في «الهداية» الأول لمن لم تجتمع عزيمته، قال في «فتح القدير»: ولم ينقل عن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه التلفظ بالنية لا في حديث صحيح ولا ضعيف، وزاد في «الحلية»: (ولم ينقل عن الأئمة الأربعة).
وفي «المفيد»: وكره بعض مشايخنا النطق باللسان، ورآه الآخرون سنة، وفي «المحيط»: الذكر باللسان سنة، فينبغي أن يقول: اللهم إنِّي أريد صلاة كذا فيسرها لي وتقبلها مني، ونقلوا في كتاب الحج: أن طلب التيسير لم ينقل إلا في الحج، بخلاف بقية العبادات، وفي «المجتبى» و «المختار»: أنه مستحب، انتهى.
(و) كذا (الزكاة) لكن فيها تفصيل؛ وهو أن صاحب النصاب الحولي إذا دفع زكاته إلى مستحقها؛ لا يجوز له ذلك إلا بنية مقارنة للأداء، أو عند عزل ما وجب منها؛ تيسيرًا له، وأما إذا كان له دين على فقير فأبراه عنه؛ سقط زكاته عنه نوى الزكاة أو لا، ولو وهب دينه من فقير ونوى عن زكاةِ دينٍ آخر أو نوى زكاة عين له؛ لا يصح، ولو غلب الخوارج على بلدة فأخذوا الزكاة؛ سقطت عن أرباب الأموال، بخلاف العشر؛ فإنَّ للإمام أن يأخذه ثانيًا؛ لأنَّ التقصير هنا من جهة رب المال؛ حيث مر بهم، وهناك التقصير في الإمام؛ حيث قصر فيهم، وقال الشافعي: السلطان إذا أخذ الزكاة فإنَّها تسقط ولو لم ينو رب المال؛ لأنَّ السلطان قائم مقامه.
قلت: وكان ينبغي على أصله ألَّا تسقط إلَّا بالنية منه؛ لأنَّ السلطان قائم مقامه في دفعها إلى المستحقين، لا في النية، ولا حرج في اشتراط النية عند أخذ السلطان، انتهى.
(و) كذا (الحج) ولا خلاف فيه أنه لا يصح إلا بالنية؛ لأنَّه داخل في عموم الحديث، والنية فيه سابقة على الأداء عند الإحرام؛ وهو النية مع التلبية، أو ما يقوم مقامها من سَوق الهدي، فلا يمكن فيه القران والتأخير؛ لأنَّه لا يصح أفعاله إلا إذا تقدم الإحرام؛ وهي ركن فيه أو شرط على قولين لأئمتنا الأعلام، ولو طاف طالبًا لغريم؛ لا يجزئه، ولو وقف بعرفات كذلك؛ أجزأه، والفرق: أن الطواف عُهِدَ قربة مستقلة، بخلاف الوقوف.
ولو طاف بنية التطوع في أيام النحر؛ وقع عن الفرض عندنا، وقال الشافعي: إذا نوى الحج عن الغير؛ ينصرف إلى حج نفسه ويجزئه عن فرضه، واستدل بحديث شبرمة المروي في «أبي داود»، عن ابن عباس: أن النبي الأعظم عليه السلام سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: «من شبرمة؟»، قال: أخ له أو قريب له، قال: «حججت عن نفسك؟»، قال: لا، قال: «حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة».
وقال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: ويجوز حج الصَّرَورة؛ بالصاد المهملة، وتخفيف الراء؛ وهو الذي لم يحج عن نفسه حجة الإسلام يحج عن غيره؛ لعموم هذا الحديث، ولما رواه الشيخان: أن امرأة من خَثْعم قالت: يا رسول الله؛ إن أبي أدركته فريضة الحج، وإنه شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم حجي عن أبيك»، من غير استفسار هل حججت أم لا، وهذا الحديث أصح من حديث شبرمة، على أن الدارقطني قال: الصحيح من الرواية: «اجعلها عن نفسك ثم حج عن شبرمة»، قالوا: كيف يأمره بالحج والإحرامُ وقع عن الأول؟
قلنا: يحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام، حين لم يكن الإحرام لازمًا، على ما روي عن بعض الصحابة: أنه تحلل في حجة الوداع من الحج بأفعال العمرة، فكان يمكنه فسخ الأول وتقديم حج نفسه، والزيادات التي رواها البيهقي لم تثبت، اهـ؛ فليحفظ.
(و) كذا (الصوم) وفيه خلاف، فمذهب إمامنا الأعظم: أنه لا يصح الصوم إلا بالنية، وهو لا يخلو إما أن يكون فرضًا أو نفلًا، فإن كان فرضًا فلا يخلو إما أن يكون أداء رمضان أو غيره، فإن كان أداء رمضان؛ فإنَّه يصح بنية متقدمة من غروب الشمس، وبمقارنة، وهو الأصل، وبمتأخرة عن الشروع إلى ما قبل نصف النهار الشرعي، وإن كان غير أداء رمضان من قضاء، أو نذر، أو كفارة؛ فتصح بنية متقدمة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وتصح بنية مقارنة لطلوع الفجر؛ لأنَّ الأصل القِران، كما في «فتاوى الخانية»، وإن كان نفلًا؛ فحكمه حكم أداء رمضان، وتصح نية عبادة في ضمن عبادة أخرى.
قال في «القنية»: نوى في الصلاة المكتوبة أو النافلة الصوم تصح نيته ولا تفسد صلاته، انتهى، وعن إمامنا زفر رحمه الله روايتان: أحدهما: أن أداء رمضان لا يحتاج إلى نية أصلًا، وهو قول عطاء ومجاهد، والثانية: أنه لا بد فيه من النية، وتكفيه النية من أول الشهر فقط، ولا يحتاج أن ينوي كل ليلة.
ونصّ أئمتنا الأعلام على أنَّ قول زفر ضعيف لا يعوَّل عليه، وأنه لا بد في كل يوم من نية؛ كما ذكرنا، غير أنه لا يشترط تعيين الرمضانية في الأداء، حتى لو صام رمضان بنية قضاء، أو نذر عليه، أو تطوع؛ يجزئه عن فرض رمضان أداء؛ لأنَّه معيار لا يسع غير المؤدَّى، بخلاف قضاء رمضان؛ فإنَّه يشترط فيه التعيين.
وقال مالك، والشافعي، وأحمد: لا بد فيه من النية، ويشترط تبييتها من الليل، وتعيين الرمضانية.
(و) كذا (الأحكام) جمع حكم، والمراد بها المعاملات؛ كالبيع، والشراء، والهبة، والوديعة، واللقيط، واللقطة،
%ص 36%
والمناكحات؛ كالنكاح، والطلاق، والعدة، والإجارات، والمخاصمات، والدعاوى، وغيرها، فإنه لا يشترط في جميع ذلك النية، لكن إن نوى؛ يثاب على ذلك العمل، وإن لم ينو [1]؛ لا يثاب ومضى فعله على الصحة.
فنحن لا ندعي أن النية لا توجد في مثل هذه الأشياء، وإنما ندعي عدم اشتراطها، ومؤدي الدين إذا قصد براءة الذمة وذلك عبادة؛ برئت ذمته، وحصل له الثواب، ولا نزاع فيه، وإذا أدى من غير براءة الذمة؛ هل يقول أحد: إن ذمته لم تبرأ؟
(وقال) وفي رواية: (وقال الله تعالى)، وفي رواية: (عز وجل) [2]: ({قُلْ كُلٌّ}) أي: كل أحد، ({يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84])، قال الليث: (الشاكلة من الأمور ما وافق فاعله)، والمعنى: أن كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعمة، واليأس عند الشدة، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، ويدل عليه قوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84]، وقال الزجاج ومجاهد: أي: مذهبه وطريقته، وفسره المؤلف بقوله: (على نيته) وهو مروي عن الحسن البصري، ومعاوية بن قرة المزني، وقتادة، فيما أخرجه عبد بن حميد والطبري عنهم.
(ونفقة الرجل على أهله)؛ زوجته، وأولاده، وكل من تلزمه النفقة عليه، (يحتسبها صدقة) حال كونه مريدًا بها وجه الله تعالى، فـ (يحتسبها) حال متوسطة بين المبتدأ والخبر، وفي رواية: بحذف الواو، وجملة (نفقة ... ) إلخ ساقطة في رواية.
(وقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) في حديث ابن عباس المروي عند المؤلف، ولفظه: «لا هجرة بعد الفتح» (ولكن) طلب الخير (جهاد ونية) «وإذا استُنفرتم؛ فانفروا»، أخرجه هنا معلقًا، وأخرجه مسندًا في (الحج)، و (الجهاد)، و (الجزية).
==========
[1] في الأصل: (ينوي).
[2] في الأصل تأخر قوله: (وفي رواية عز وجل) عن قوله الآتي: ({قُلْ كُلٌّ}).
==================
[1] في الأصل: (ينوي).
[1] في الأصل: (ينوي).
(1/107)
[حديث: الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى]
54# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميمين واللام، (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا)، (مالك)؛ هو ابن أنس، (عن يحيى بن سعيد)؛ هو الأنصاري، (عن محمد بن إبراهيم)؛ هو ابن الحارث التيمي، (عن علقمة بن وقَّاص)؛ بتشديد القاف: الليثي، (عن عمر)؛ هو ابن الخطاب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأعمال) الصادرة من المكلفين تكمُل ويثاب عليها، (بالنية) بالإفراد وحذف (إنما)، فإن لم ينو [1] فيها؛ تكون غير كاملة ولا يثاب عليها؛ لأنَّ الكمال والثواب منوط بالنية، وتقدير الكمال والثواب هو المطَّرد، ولأنه متفق عليه، وهذه الصيغة لا تفيد الحصر؛ لأنها غير محصورة بـ (إنما)، على أن الصيغة المصدرة بـ (إنما) اختلف فيها هل تفيد الحصر أم لا؟ فهذه عدم إفادتها الحصر بالأَولى، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: كاملة ومثاب عليها.
وما قيل: إن الأحسن تقدير صحيحة أو مجزئة؛ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل عليه، ولو سُلِّم فيلزم منه نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو لا يجوز، فتقدير الكمال أحسن وأولى؛ فافهم.
(ولكل امرئ ما نوى)؛ أي: الذي نواه إذا كان المحل قابلًا؛ كما تقدم، (فمن كانت هجرته)؛ بكسر الهاء: خروجه من أرض إلى أخرى (إلى الله ورسوله) نية وعقدًا (فهجرته إلى الله ورسوله) حكمًا وشرعًا، وإنَّما أبرز الضمير؛ لقصد الاستلذاذ بذكره تعالى ورسوله عليه السلام، (ومن كانت هجرته لدنيا) وفي رواية: (إلى دنيا) (يصيبها) يحصِّلها (أو امرأة يتزوَّجها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه)؛ أي: إلى ما ذكر.
فإن قلت: قد استعمل (دنيا) بالتأنيث مع كونه منكَّرًا، وأجيب: بأن (دنيا) جعلت عن الوصفية غالبًا، وأجريت مجرى ما لم يكن قط وصفًا مما وزنه: (فُعْلى) كرجعى وبهمى، فلهذا ساغ فيها ذلك، ومراد المؤلف بهذا الحديث الرد على المرجئة؛ حيث قالوا: إن الإيمان قول باللسان دون عقد القلب، والجملة الأولى سقطت عند المؤلف من رواية الحميدي أول الكتاب، فذكر في كل باب ما يناسبه.
==================
(1/108)
[حديث: إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة]
55# وبه قال: (حدثنا حجاج بن مِنهال)؛ بكسر الميم، وفي رواية: بالتصريف فيهما، وفي أخرى: بتنكير الأول وتعريف الثاني، أبو محمد الأَنْماطي؛ بفتح الهمزة وسكون النون، نسبة إلى الأنماط؛ ضرب من البسط، السُّلَمي؛ بضم المهملة وفتح اللام، المتوفى بالبصرة سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومئتين.
(قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (قال: أخبرني) بالإفراد (عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي، المتوفى سنة ست عشرة ومئة، (قال: سمعت عبد الله بن يزيد) بن حصين الأنصاري الخَطْمي؛ بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة، المتوفى زمن ابن الزبير، (عن ابن مسعود) عقبة بن عمرو؛ بفتح العين وسكون الميم، ابن ثعلبة الأنصاري، الخزرجي، البدري، المتوفى بالكوفة قبل الأربعين، سنة إحدى وثلاثين، أو اثنين وأربعين.
(عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنفق الرجل) ومثله المرأة نفقة من دراهم أو غيرها، (على أهله)؛ زوجته، وولده، ومَن تجب نفقته عليه حال كون الرجل والمرأة (يحتسبها)؛ أي: يريد بها وجه الله (فهو)؛ أي: الإنفاق، وفي رواية: (فهي)؛ أي: النفقة، (له صدقة)؛ أي: كالصدقة في الثواب، لا حقيقة، وإلا حرمت على الهاشمي والمطلبي، والصارف له عن الحقيقة الإجماع، وإطلاق الصدقة على النفقة مجاز، أو المراد بها الثواب، كما علمت.
فالتشبيه واقع على أصل الثواب لا في الكمية ولا في الكيفية، وأفاد أن الثواب في الإنفاق إنَّما يحصل بقصد القربة، سواء كانت واجبة أم مباحة، وأنَّ مَن لم يقصد القربة؛ لم يحصّل الثواب الكامل، وأنَّ براءة ذمته من النفقة الواجبة عليه، وحذف المعمول؛ ليفيد العموم؛ أي: أيَّ نفقة كانت كثيرة أم قليلة؛ كذا قرره في «عمدة القاري».
==========
%ص 37%
==================
(1/109)
[حديث: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها]
56# وبه قال: (حدثنا الحَكَم)؛ بفتح الكاف، هو أبو اليمان، (ابن نافع قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة القرشي، (عن الزهري) أبي بكر محمد بن شهاب، (قال: حدثني) بالإفراد، (عامر بن سعْد)؛ بسكون العين، (عن سعد بن أبي وقَّاص)؛ بتشديد القاف: المدني أحد العشرة، (أنه أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) مخاطبًا لكلِّ مَن يصحُّ منه الإنفاق: (إنك) ظاهره الخطاب لسعد، (لن تنفق نفقة) قليلة أو كثيرة، (تبتغي)؛ أي: تطلب، (بها وجه الله) تعالى؛ أي: ذاته بإخلاص وطيب نفس من غير رياء، ولا سمعة، ولا مَنٍّ، و (الباء) في (بها) للمقابلة، أو بمعنى (على)، ووقع في بعض النسخ: (عليها) بدل (بها)، أو للسببية؛ أي: لن تنفق نفقة تبتغي بسببها وجه الله تعالى (إلا) نفقة (أُجرت عليها)؛ بضمِّ الهمزة وكسر الجيم، وفي رواية: (إلَّا أجرت بها).
(حتى) ابتدائية (ما تجعل)؛ أي: الذي تجعله، مبتدأ، (في فم امرأتك) والخبر محذوف تقديره: فأنت مأجور فيه، وما ذكره ابن حجر: من أنَّ (حتى) هنا عاطفة، وما بعدها منصوب المحل، ردَّه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، وفي رواية: (في فِي امرأتك) وهي رواية الأكثرين؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني.
وقال القاضي عياض: حذف الميم هو الصواب، وبالميم لغة قليلة، والمستثنى محذوف؛ كما علمت؛ لأنَّ الفعل لا يقع مستثنى، والتقدير: لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلَّا نفقة أُجرت عليها، ويكون (أُجرت عليها) صفة للمستثنى، والمعنى على هذا؛ لأنَّ النفقة التي يثاب عليها؛ التي تكون ابتغاء وجه الله تعالى، وإلَّا لا يثاب عليها الثواب الكامل.
والاستثناء متَّصل؛ لأنَّه من الجنس، والتنكير في (نفقة) في سياق النفي، فيعم القليل والكثير، والخطاب للعموم، كذا قرره في «عمدة القاري».
والمرائي بعمل الواجب غير مثاب وإن سقط عقابه بفعله، كذا قاله البرماوي كالكرماني، واعترضهما الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن سقوط العقاب مطلقًا غير صحيح؛ بل الصحيح التفصيل فيه؛ وهو أن العقاب الذي يترتب على ترك الواجب يسقط؛ لأنَّه أتى بعين الواجب، ولكنه كان مأمورًا أن يأتي بما عليه بالإخلاص وترك الرياء، فينبغي أن يعاقب على ترك الإخلاص؛ لأنَّه مأمور به، وتارك المأمور به يعاقب.
قلت: وهو وجيه، وإنما خص المرأة بالذكر؛ لأنَّ عود منفعتها إلى المنفق الزوج، ومع ذلك فله الثواب، فغيرها يثاب عليه من باب أولى، هذا الحديث قطعة من حديث طويل، أخرجه المؤلف في (الجنائز) وغيرها، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
==========
%ص 37%
==================
(1/110)
(42) [باب قول النبي: الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين]
هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) مبتدأ، وخبر، ومضاف، (الدين النصيحة)؛ أي: عماد الدين أن يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، (لله) تعالى ظاهرًا وباطنًا، لا خوفًا من ناره ولا طمعًا في جنته، مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، و (اللام) في (لله) صلة؛ لأنَّ الفصيح أن يقال: نصح له، (و) النصيحة (لرسوله) عليه السلام بأن يصدِّق برسالته، ويؤمن بجميع ما جاء به، ويمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نَهى عنه.
(و) النصيحة (لأئمَّة المسلمين) بإعانتهم على الحقِّ وكفِّهم عن الباطل، وأمَّا أئمَّة الاجتهاد؛ فتقليدهم في الأحكام، وإظهار علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم، (و) نصيحة (عامتهم) بإرشادهم في آخرتهم ودنياهم، وكفَّ الأذى عنهم، وتعليم ما جهلوا فيه، وإنَّما ترك اللام فيه؛ لأنَّهم كالاتباع للأئمَّة لا استقلال لهم، وإعادة اللام تدل على الاستقلال.
وهذا الحديث وصله مسلم عن تميم الداري، وزاد فيه: (النصيحة لكتاب الله)، وذلك بتعلُّمِه وتعليمه، وإقامة حروفه، والإيمان بأنه كلام الله، وتنزيهه، والتصديق بما فيه، والتسليم لمشابهه، وإقامة حدوده.
وإنَّما لم يذكره المؤلف مسندًا وذكره ترجمة؛ لكونه ليس على شرطه؛ لأنَّ راويه تميم، وأشهر طرقه فيه سُهيل بن أبي صالح؛ وهو منسوب إلى النسيان وسوء الحفظ، والله أعلم.
%ص 37%
(وقوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل)، وفي أخرى: (وقول الله في سورة براءة): ({إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}) [التوبة: 91] بالإيمان بهما وإطاعتهما في السر والعلانية.
==================
(1/111)
[حديث: بايعت رسول الله على إقام الصلاة]
57# وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد): هو ابن مُسرهِد، (قال: حدثنا يحيى): هو ابن سعيد القطان، (عن إسماعيل) بن أبي خالد البَجَلي التابعي، (قال: حدثني) بالإفراد (قيس بن أبي حازم)؛ بالحاء المهملة والزاي المعجمة، البَجَلي؛ بفتح الموحدة والجيم، نسبة إلى بَجيلة بنت صعب، الكوفي التابعي المخضرم، المتوفى سنة أربع وثمانين أو ثمان وتسعين، (عن جرير بن عبد الله) بن جابر البَجَلي الأحمسي؛ بالحاء والسين المهملتين، المتوفى سنة إحدى وخمسين، (قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عاهدته وعاقدته، وكان قُدُومه عليه سنة عشر في رمضان، وأسلم، وبايعه (على إقام الصلاة)؛ أي: أدائها على وجهها، (وإيتاء)؛ أي: إعطاء (الزكاة و) على (النصح لكل مسلم) ومسلمة.
وفيه تسمية النصح دينًا وإسلامًا؛ لأنَّ الدين يقع على العمل كما يقع على القول، وهو فرض كفاية على قدر الطاقة إذا علم أنه يقبل نصحه ويأمن على نفسه المكروه، فإن خشي؛ فهو في سعة، فيجب على من علم بالمبيع عيبًا أن يُبيِّنه بائعًا كان أو أجنبيًا، وعلى أن ينصح نفسه بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وحذف التاء من (إقامة)؛ تعويضًا عنها بالمضاف إليه، ولم يذكر الصوم وغيره؛ لدخوله في السمع والطاعة في الرواية الأخرى؛ فافهم.
==================
(1/112)
[حديث: أما بعد أتيت النبي قلت أبايعك على الإسلام]
58# وبه قال: (حدثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السَّدوسي؛ بفتح السين الأولى، نسبة إلى سدوس بن شيبان البصري، المعروف بعارم؛ بمهملتين، المختلط بأخرة، المتوفى بالبصرة سنة أربع عشرة ومئتين، والعارم: الشرير المفسد، فهو لقب رديء (قال: حدثنا أبو عوانة)؛ بفتح العين والنون: الوضاح اليشكري، (عن زياد بن عِلاقة)؛ بكسر العين المهملة وبالقاف: ابن مالك الثعلبي؛ بالمثلثة والمهملة، الكوفي، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئة (قال: سمعت جرير بن عبد الله) البَجَلي الأحمسي السابق آنفًا رضي الله عنه؛ أي: سمعت كلامه؛ فالمسموع هو الصوت والحروف، فلما حذف هذا؛ وقع ما بعده تفسيرًا له، وهو قوله: (يقول يومَ)؛ بالنصب على الظرفية، أضيف إلى الجملة؛ أعني: قوله: (مات المغيرة بن شعبة) سنة خمسين من الهجرة، وكان واليًا على الكوفة في خلافة معاويةَ كاتبِ الوحي، واستناب عند موته ولده عروة، وقيل: استناب جريرًا ولذا خطب، وقد (قام) على المنبر (فحمِد الله)؛ أي: أثنى عليه بالجميل، وجملة (قام) استئنافية لا محل لها، (وأثنى عليه)؛ أي: ذكره بالخير، ويَحتمل أن يُراد بـ (الحمد) وصفه متحليًا بالكمالات، وبـ (الثناء) وصفه متخليًا عن النقائص، فالأول إشارة إلى الصفات الوجودية، والثاني إلى الصفات العدمية؛ أي: التنزيهات؛ كذا في «عمدة القاري»، (وقال: عليكم باتقاء الله) اسم فعل؛ بمعنى: الزموا اتقاء الله (وحده)؛ أي: حال كونه منفردًا (لا شريك له) في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، (والوَقارِ)؛ أي: الرزانة؛ بفتح الواو: مجرور بالعطف على (اتقاء)؛ أي: وعليكم بالوقار (والسكينة)؛ أي: السكون، وإنَّما أمرهم بذلك؛ لأنَّ الغالب أنَّ وفاة الأمراء يؤدي إلى الفتنة، والهرج، والاضطراب، والمرج (حتى يأتيكم أمير) بدل أميركم المغيرة المتوفى، (فإنما يأتيكم الآنَ)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: المدة القريبة من الآن، فيكون الأمير زيادًا؛ إذ ولَّاه معاوية بعد وفاة المغيرة بالكوفة، أو المراد: الآن حقيقةً، فيكون الأمير جريرًا بنفسه؛ لما روي: أنَّ المغيرة استخلف جريرًا على الكوفة عند موته؛ على ما ذكرنا، كذا في «عمدة القاري»، و (حتى) للغاية، والفعل بعدها منصوب بـ (أن) مقدرة بعد (حتى)، ومفهوم الغاية من (حتى) هنا _وهو أنَّ المأمور به وهو الاتقاء_ ينتهي بمجيء الأمير ليس مرادًا؛ بل يلزم عند مجيء الأمير بالطريق الأولى، وشرط اعتبار مفهوم المخالفة ألَّا يعارضه مفهوم الموافقة، انتهى، «قسطلاني» بزيادة.
(ثم قال) جرير: (استعفوا)؛ بالعين المهملة؛ أي: اطلبوا العفو (لأميركم) المتوفى من الله تعالى، (فإنه)؛ أي: الأمير، و (الفاء) للتعليل (كان يحب العفو) عن ذنوب الناس، فالجزاء من جنس العمل، وفي رواية: (استغفروا لأميركم)؛ بغين معجمة؛ أي: اطلبوا الغفران له من الله، (ثم قال: أما بعدُ)؛ بالبناء على الضم: ظرف زمان حذف منه المضاف إليه ونوي معناه، وفيه معنى الشرط، تلزم الفاء في تاليه، والتقدير: أمَّا بعد كلامي هذا؛ (فإنِّي أتيت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قلت) وإنما لم يأت بأداة العطف؛ لأنَّ الجملة من الفعل والفاعل بدل من (أتيت) أو هي استئناف، وفي رواية: (فقلت له): (يا رسول الله؛ أبايعك على الإسلام، فشَرَطَ) عليه السلام (عليَّ)؛ بتشديد المثناة؛ أي: الإسلام (والنصحِ)؛ بالجرِّ عطفًا على قوله: (الإسلام)، وبالنصب عطفًا على المقدر؛ أي: شَرَطَ عليَّ الإسلام وشَرَطَ النصح (لكل مسلم) ومسلمة، وذمي؛ بدُعائه إلى الإسلام وإرشاده إلى الصواب إذا استشار، فالتقييد بـ (المسلم) أغلبي، (فبايعته على هذا) المذكور من الإسلام والنصح، (ورب هذا المسجد)؛ أي: مسجد الكوفة إن كانت خطبته ثَمَّ، أو أشار به إلى المسجد الحرام، ويؤيِّده ما في «الطبراني» بلفظ: (ورب الكعبة)؛ تنبيهًا على شرف المقسم به؛ ليكون أقرب إلى المطلوب، كذا في «عمدة القاري»، قلت: لكن ظاهر السياق يدل على أنه كان في مسجد الكوفة؛ فتأمل، (إني لناصح لكم) فيه إشارة إلى أنَّه وفَّى بما بايع به النبي عليه السلام، وأنَّ كلامه عارٍ عن الأغراض النفسانية، والجملة جواب القسم مؤكد بـ (أن) واللام، والجملة اسمية.
(ثم استغفر) الله تعالى (ونزل) عن المنبر، أو معناه: قعد؛ لأنَّه في مقابلة قام، كذا في «عمدة القاري»، قلت: والظاهر الأول؛ لأنَّ النزول لا يستعمل بمعنى القعود وإن كان يطلق عليه لغة؛ فافهم، والله أعلم.
اللهم إنِّي أسألك بجاه حبيبك ونبينا محمد وبقدوتنا الإمام الأعظم عليهما الصلاة والسلام أن تمُنَّ علينا بالعلم والعمل، اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، ودخول الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين.
==========
%ص 38%
==================
(1/113)
((3)) [كتاب العلم]
هذا (كتاب العلم)؛ أي: في بيان ما يتعلق به، وقدَّمه على غيره؛ لأنَّ مدار تلك الكتب كلِّها على العلم، وهو مصدر (علمت وأعلم علمًا)؛ نقيض الجهل، وهو إدراك الكليات، والمعرفة: إدراك الجزئيات، فلا يجوز أن يقال: الله عارف كما يقال: عالم، واختُلف في حدِّه؛ فقيل: إنه لا يُحدُّ؛ لعسر تحديده، وقيل: لا يُحدُّ؛ لأنَّه ضروري؛ إذ لو لم يكن ضروريًّا؛ لزم الدور، واللازم باطل، فالملزوم مثله، وقيل: إنه يُحدُّ؛ واختُلف في حدِّه؛ والأصحُّ: أنَّه صفة من صفات النفس توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض في الأمور المعنوية، فقوله: (صفة) جنس؛ لتناوله لجميع صفات [1] النفس، وقوله: (يوجب تمييزًا) احتراز عما لا يوجب تمييزًا كالحياة، وقوله: (لا يحتمل النقيض) احتراز عن مثل الظن، وقوله: (في الأمور المعنوية) يخرج إدراك الحواس؛ لأنَّ إدراكها في الأمور الظاهرة المحسوسة، كذا قرره في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل (الصفات)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 38%
==================
(1/114)
(1) [باب فضل العلم]
(بسم الله الرحمن الرحيم) وفي رواية: ثبوتها قبل (كتاب).
(باب فضل العلم) وإنما قال: (فضل العلم)، ولم يقل: فضل العلماء؛ لأنَّ بيان فضل العلم يستلزم بيان فضل العلماء؛ لأنَّ العلم صفة قائمة بالعالم، فذِكْر بيان فضل الصفة يستلزم بيان فضل من هي قائمة به.
(وقول الله تعالى)؛ بالجرِّ عطفًا على المضاف إليه، إمَّا (فضل العلم) أو على (العلم) في (كتاب العلم) بناء على إثبات الباب وحذفه، وقال ابن حجر: ضبطناه في الأصول بالرفع على الاستئناف، قلت: هذا ليس بشيء، كما لا يخفى على أنه قد رده الشيخ الإمام بدر الدين العيني بما يطول، إلى أن قال: فتعين بطلان دعوى الرفع؛ فليحفظ: ({يَرْفَعِ})؛ بالكسر في الفرع والتلاوة؛ للساكنين ({اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}) بالنصر وعلوِّ الكلمة، ودخول الجنة في الآخرة ({وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ})؛ منصوب بالكسرة، مفعول {يَرْفَعِ}؛ أي: ويرفع العلماء منكم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل، قال ابن عباس: درجات العلماء فوق المؤمنين بسبع مئة درجة، ما بين الدرجتين خمس مئة عام، ({وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}) [المجادلة: 11] تهديد لمن لم يمتثل الأمر أو استكرهه.
(وقوله) عز وجل: ({رَّبِّ}) وللأصيلي: {وقل رب}، ({زِدْنِي عِلْمًا}) [طه: 114]؛ أي: سَلْهُ الزيادة منه؛ أي: بالقرآن؛ لأنَّه عليه السلام كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد به علمًا، وإنما اقتصر على هاتين [1] الآيتين في الاستدلال لما ترجم له؛ إمَّا لأنَّ القرآن العظيم أعظم الأدلة، أو لأنَّه لم يقع له حديث من هذا النوع على شرطه؛ لأنَّه أوَّلًا كان يكتب الأبواب والتراجم ثم يلحق فيها ما يناسبها من الأحاديث التي على شرطه، ولو لم يكن من فضيلة العلم وأهله إلَّا آية {شَهِدَ اللهُ} [آل عمران: 18] فبدأ الله
%ص 38%
تعالى بنفسه، ثم ثنَّى بملائكته، وثلَّث بأهل العلم؛ لكفى.
وفي الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء»، وغاية العلم العمل، والعالم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر، فمن عمل به سَعِدَ في الدنيا والآخرة.
==========
[1] في الأصل (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/115)
(2) [باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه]
هذا (باب) مضاف إلى (مَن) الموصولة (سُئِل) على صيغة المجهول؛ بضم السين وكسر الهمزة: جملة من الفعل والمفعول النائب عن الفاعل، صلةٌ لها (عِلمًا) بالنصب مفعولٌ ثان، (وهو مشتغلٌ في حديثه) جملة وقعت حالًا من الضمير، (فأتمَّ الحديثَ، ثُمَّ أجاب السائل) عطفه بـ (ثم)؛ لأنَّ السؤال حصل عقيب الاشتغال بالحديث، والجوابُ بعد الفراغ منه.
==========
%ص 39%
==================
(1/116)
[حديث: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة]
59# وبه قال: (حدثنا محمد بن سِنان)؛ بكسر السين المهملة وبالنونين: أبو بكر الباهلي البصري، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومئتين (قال: حدثنا فُلَيح)؛ بضم الفاء، وفتح اللام، وسكون المثناة التحتية، آخره حاء مهملة، وهو لقبه، واسمه عبد الملك، وكنيته أبو يحيى، ابن سليمان الخزاعي المدني، المتوفى سنة ثمان وستين ومئة.
(ح) للتحويل، قال المؤلف: (وحدثني) بالإفراد، وفي رواية: (قال: وحدثنا) (إبراهيم بن المنذر) القرشي الحزامي المدني، أبو إسحاق، المتوفى سنة ست أو خمس وثلاثين بالمدينة (قال: حدثنا محمد بن فليح) المذكور، المتوفى سنة سبع وتسعين ومئة (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: (حدثنا) (أبي) هو فُليح المذكور (قال: حدثني) بالإفراد (هلال بن علي) ويقال له: هلال بن أبي ميمون، وهلال بن أبي هلال، وهلال ابن أسامة؛ نسبة إلى جده، وقد يُظَنُّ أنَّهم أربعة، والكلُّ واحدٌ، الفهري القرشي المدني، المتوفى في آخر خلافة هشام، كذا في «عمدة القاري»، (عن عطاء بن يسار) مولى ميمونة بنت الحارث، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه أنه (قال: بينما) أصله (بين) فزيدت عليه (ما)، وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في مجلس) حال كونه (يحدِّث القوم) الجملة من الفعل والفاعل والمفعول خبر عن المبتدأ؛ وهو (النبي)، و (القوم): الرجال دون النساء وتدخلن تَبَعًا، وجمعه: أقوام، وجمع الجمع: أقاوم، والمفعول الثاني محذوف؛ أي: الحديث؛ (جاءه)؛ أي: النبي عليه السلام (أعرابي) منسوب إلى الأعراب؛ بفتح الهمزة: سكَّان البادية، لا واحد له من لفظه، قال في «عمدة القاري»: ولم يُعرف اسم هذا الأعرابي، قلت: قيل: إنَّ اسمه رُفيع؛ فتأمَّل، وفيه استعمال (بينما) بدون (إذ) و (إذا)؛ وهو فصيح، انتهى، (فقال: متى الساعة؟) استفهام عن الوقت التي تقوم فيه القيامة، وسميت بذلك؛ لأنَّها تَفْجَأ الناس في ساعة، فيموت [1] الخلق كلهم بصيحة واحدة، و (الساعة): القيامة، وأصلها (سوعة)، قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها.
(فمضى) أي: اشتغل (رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث)؛ أي: القوم، وفي رواية: (يحدثه) بالهاء؛ أي: يحدث القوم الحديث الذي كان فيه، فلا يعود الضمير المنصوب على الأعرابي، وفي رواية: (بحديثه)، (فقال بعض القوم: سمع) عليه السلام (ما) أي: الذي (قال)؛ أي: قاله الأعرابي، (فكره) عليه السلام (ما) أي: الذي (قال)؛ أي: قاله الأعرابي، فحذف العائد، والجملة مفعول (سمع)، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية؛ أي: سمع قوله، (وقال بعضهم: بل لم يسمع) النبي عليه السلام قوله، و (بل) حرف للإضراب، وَلِيَها هنا جملة؛ أعني قوله: (لم يسمع)؛ فكان الإضراب بمعنى الإبطال، والجملة اعتراض بين (فمضى) وبين قوله: (حتى إذا قضى)؛ أي: كمَّل وتمَّم عليه السلام (حديثَه)، وقوله: (حتى إذا) يتعلَّق بقوله: (فمضى يحدِّث) لا بقوله: (لم يسمع)، وإنَّما لم يجبه عليه السلام؛ لأنَّه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها، أو كان ينتظر الوحي، أو كان مشغولًا بجواب سائل آخر، ويؤخذ منه أنه ينبغي للعالم، أو القاضي، أو المفتي رعاية تقدم الأسبق فالأسبق في السؤال.
(قال) عليه السلام: (أين أُراه)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: أظن أنَّه قال: أين (السائل)؛ بالرفع مبتدأ مؤخر، خبره (أين) مقدمًا، و (أُراه) معترضة بين المبتدأ وخبره، وقول ابن حجر: إنَّه مرفوع على الحكاية، خطَّأه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (عن الساعة)؛ أي: عن زمانها، والشكُّ من محمد بن فُليح، و (أين) سؤال عن المكان، بُنِيَ؛ لتضمُّنه حرف الاستفهام، (قال) الأعرابي: (ها أنا) السائل (يا رسول الله)، فالسائل المقدر خبر المبتدأ الذي هو (أنا)، و (ها) بالمد: حرف تنبيه، (قال) عليه السلام: (إذا ضُيِّعت الأمانة) (إذا) تتضمن معنى الشرط، ولذا جاء جوابها بالفاء وهو قوله: (فانتظر الساعة، قال) الأعرابي: (كيف إضاعتُها)؛ أي: الأمانة يا رسول الله؟ (قال) عليه السلام مجيبًا له: (إذا وُسِّد)؛ بضم الواو مع تشديد السين؛ أي: فُوِّض وأُسْنِد (الأمرُ) المتعلِّق بالدين كالخلافة، والقضاء، والإفتاء (إلى غير أهله)؛ أي: بولاية غير أهل الدين والأمانات؛ لغلبة الجهل وضعف أهل الحق عن القيام به؛ (فانتظر الساعة) (الفاء) للتفريع أو جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كان الأمر كذلك؛ فانتظر الساعة، وليست هي جواب (إذا) التي في قوله: (إذا وُسِّد)؛ لأنَّها لا تتضمَّن ههنا معنى الشرط، وإنَّما قال: (إلى غير أهله) ولم يقل: لغير أهله؛ ليدل على معنى تضمين الإسناد.
وفيه أنَّ الأئمة إذا قَلَّدوا الأمر لغير أهل الدين؛ فقد ضيَّعوا الأمانات؛ لأنَّ الله ائتمنهم على عباده وفرض عليهم النصح، وفيه أنَّ الساعة لا تقوم حتى يؤتمن الخائن، وفيه وجوب تعليم السائل ومراجعة العالم عند عدم فهم السائل، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل (فتموت)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 39%
==================
(1/117)
(3) [باب من رفع صوته بالعلم]
هذا (باب) مضاف إلى (مَن) الموصولة (رَفَعَ صوتَه بالعلم) جملة، صلتها؛ أي: من رفع صوته بكلام يدل على العلم، فهو من باب إطلاق اسم المدلول على الدال، وإلَّا فالعلم صفة معنوية لا يتصور رفع الصوت به، أفاده في «عمدة القاري»؛ فافهم.
==========
%ص 39%
==================
(1/118)
[حديث: تخلف عنَّا النبي في سفرة سافرناها فأدركنا]
60# وبه قال: (حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل) واسمه محمد، وعارم لقبه، السدوسي البصري، المتوفى سنة ثلاث أو أربع وعشرين ومئتين، وسقط في رواية: (عارم بن الفضل)، وعليها شَرَحَ إمامُنا الشيخ بدر الدين العيني (قال: حدثنا أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة: الوضاح اليشكري، (عن أبي بِشْر)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة: جعفر بن إياس اليشكري المعروف بابن أبي وحشية، الواسطي، وقيل: البصري، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئة، (عن يوسف)؛ بتثليث السين المهملة مع الهمز وتركه، (بن ماهَك)؛ بفتح الهاء، غير منصرف؛ للعلمية والعجمة، لأنَّه بالفارسية تصغير (ماه)؛ وهو القمر بالعربي، وقاعدتهم إذا صغروا الاسم؛ جعلوا في آخره الكاف، وفي رواية بالصرف، فلوحظ فيه معنى الصفة؛ لأنَّ التصغير من الصفات، فيصير الاسم بعلَّة واحدة؛ وهي غير مانعة، ورُوي بكسر الهاء مصروفًا، اسم فاعل من (مهكتَ الشيء مهكًا)؛ إذا بالغتَ في سحقه، وعلى قول الدارقطني: إن ماهك اسم أمه، يتعيَّن عدم صرفه؛ للعلمية والتأنيث، لكن الأكثرون على خلافه، وأنَّ اسمها مُسيكة ابنة بُهْز؛ بضم الموحدة، وسكون الهاء، وبالزاي، الفارسي المكي، المتوفى سنة ثلاث عشرة ومئة، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(عن عبد الله بن عَمرو)؛ بفتح العين؛ هو ابن العاصي رضي الله عنهما (قال: تخلَّف)؛ بتشديد اللام؛ أي: تأخَّر خلفنا (النبي) الأعظم، وفي رواية: (تخلَّف عنا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في سَفرة) بفتح السين المهملة (سافرناها) من مكة إلى المدينة؛ كما في «مسلم»، (فأدركَنا)؛ بفتح الكاف؛ أي: لحق بنا النبي عليه السلام، (وقد أرهقتنا) بتأنيث الفعل؛ أي: غشيتنا (الصلاةُ) وقتها، أو حملتنا الصلاة أدائها، أو أعجلتنا لضيق وقتها، و (الصلاة) بالرفع فاعل، وروي: (أَرْهَقْنا) بالتذكير وسكون القاف؛ لأنَّ تأنيث (الصلاة) غير حقيقي، و (الصلاةَ) بالنصب مفعول؛ أي: أخرناها، و (نا) ضمير رفع، وفي الرواية الأولى: ضمير نصب، وهذه الصلاة هي صلاة العصر؛ كما في «مسلم»،ى (ونحن نتوضأ) جملة اسمية وقعت حالًا، (فجعلنا) من أفعال المقاربة، ويستعمل استعمال (كاد)؛ أي: كِدْنا (نمسح)؛ أي: نغسل غسلًا خفيفًا؛ أي: مبقعًا حتى يُرى كأنَّه مسح؛ كذا حققه في «عمدة القاري»، (على أرجلنا) جمع رِجل؛ لمقابلة الجمع، وإلَّا فليس لكلٍّ إلَّا رجلان، لا يقال: إنَّه يلزم أن يكون لكلِّ واحدٍ رجلٌ واحدة؛ لأنَّ المراد جنس الرِّجْل سواء كانت واحدة أو ثنتين، (فنادى) عليه السلام (بأعلى صوته: ويلٌ) بالرفع على الابتداء؛ وهي كلمة عذاب وهلاك، وقيل: إنه اسمُ وادٍ في جهنم، وقيل: صديد أهل النار، والتحقيق الأول؛ فليحفظ (للأعقاب) جمع عقب؛ وهو المستأخر الذي يُمسك شِراكَ النعل؛ أي: ويل لأصحاب الأعقاب المقصِّرين في غسلها، أو العقب هي المخصوصة بالعقوبة، وتمامه في «عمدة القاري» (من النار) قالها (مرتين أو ثلاثًا) شكٌّ من ابن عَمرو، و (أل) للعهد، والمراد: الأعقاب التي رآها لم ينلها المطهر، أو للجنس، فيكون المراد: كلَّ عقب لم يعمها الماء.
وإنَّما أخَّرت الصحابة الصلاة عن الوقت المستحب؛ محافظةً وطمعًا أن يصلُّوها مع النبي عليه السلام، وفيه دليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وفيه وجوب تعميم الأعضاء بالمطهر، وأن الجسد يعذب، وجواز رفع الصوت في المناظرة بالعلم، وفيه أن العالم ينكر ما يرى من التضييع للفرائض والسنن ويغلظ القول في ذلك، ويرفع صوته للإنكار، وغير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وأولادًا كثيرة، يا أرحم الراحمين.
%ص 39%
==================
(1/119)
(4) [باب قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا]
هذا (باب قول المحدِّث) اللغوي؛ وهو الذي يحدِّث غيرَه، لا الاصطلاحي؛ وهو الذي يشتغل بالحديث النبوي: (حدثنا أو أخبرنا) وفي رواية: (وأخبرنا)، (وأنبأنا)، هل فيه فرقٌ أم الكلُّ واحد؟ وفي رواية: إسقاط (وأنبأنا)، وفي أخرى: إسقاط (وأخبرنا).
(وقال) لنا (الحُمَيْدِي)؛ بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، فياءُ تصغير، وياء نسبة: أبو بكر عبد الله بن الزبير، القرشي الأسدي المكي: (كان ابن عُيَيْنَة)؛ بضم العين المهملة، ومثناتين تحتيتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، وفتحِ النون: سفيان، وفي رواية: (وقال لنا الحميدي): («حدثنا» و «أخبرنا» و «أنبأنا» و «سمعتُ» واحدًا)؛ أي: بمعنًى واحد، لا فرقَ بين هذه الألفاظ الأربعة عند المؤلف، زاد القاضي عِياض: (وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان، وأنه لا خلاف [في] ذلك) وإليه مال الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي، وصححه ابن الحاجب، وقال الحاكم: إنه مذهب الأئمة الأربعة، والزهري، ويحيى القطان وغيرهم، وقيل: بالمنع في القراءة على الشيخ إلَّا مقيَّدًا؛ مثل: حدثنا فلان قراءةً عليه، وأخبرنا قراءةً عليه، وقيل: بالمنع في (حدثنا)، وبالجواز في (أخبرنا)، وبه قال الشافعي، ومسلم، وابن جريج، والأوزاعي، والنسائي، وهذا اصطلاح بينهم أرادوا به التمييز بين النوعين، وخصُّوا قراءةَ الشيخ بـ (حدثنا).
وفصَّل المتأخِّرون أنَّه متى سمع وحدَه من الشيخ؛ أفرد فقال: حدثني، أو أخبرني، أو سمعتُ، ومتى سمع مع غيره؛ جَمَعَ فقال: حدثنا أو أخبرنا، ومتى قرأ بنفسه على الشيخ؛ أفرد فقال: أخبرني، وخصُّوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ مَن يخبره، وكله مستحسن، وليس بواجبٍ عندَهم، وتمامه في «عمدة القاري».
(وقال ابن مسعود) عبد الله رضي الله عنه: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق) في نفس الأمر (المصدوق) بالنسبة إلى الله تعالى، أو إلى الناس، أو بالنسبة إلى ما قاله غيره _أي: جبريل_ له، وهذا طرف من حديث وصله المؤلف في (القدر).
(وقال شَقيق)؛ بفتح المعجمة: أبو وائل بن مسلمة الأسدي الكوفي التابعي، (عن عبد الله)؛ أي: ابن مسعود، وإذا أُطلق كان هو المراد من بين العبادلة، كما أنه إذا أُطلق الإمام الأعظم؛ كان المراد به أبا حنيفة النعمان التابعي الجليل، وكذا إذا أُطلق إمام الأئمة كان هو المراد أيضًا، رضي الله عنه؛ فليحفظ.
وقيل لمالك: إمام الأئمة؛ أي: أئمة مذهبه لا إمام المجتهدين؛ لأنَّ إمام المجتهدين على الإطلاق ورئيسهم بلا نزاع إمامنا الأعظم، التابعي الجليل؛ لأنَّه شيخ مالك، ومالك شيخ الشافعي، والشافعي شيخ أحمد ابن حنبل؛ فليحفظ، ولا تغترَّ بقول بعض الناس؛ فإنَّه ناشئ عن تعصبهم وتعنتهم، وإنَّما هذا هو التحقيق؛ فليحفظ.
(سمعتُ النبي) الأعظم، وفي رواية: (سمعت من النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم كلمة) وهذا وصله المؤلف في (الجنائز).
(وقال حذيفة) بن اليمان صاحب سِرِّ رسول الله عليه السلام في المنافقين، العبسي الأنصاري، واسم اليمان حِسْل؛ بكسر الحاء وسكون السين المهملتين، المتوفى بالمدائن سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان رضي الله عنه بأربعين ليلة، ومقول قوله: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين)، وهذا وصله المؤلف في (الرقاق).
فاستدل المؤلف بهذه التعاليق الثلاثة؛ حيث إن الصحابي تارة يقول: حدثنا، وتارة يقول: سمعت، على عدم الفرق بينهما، ثم عطف عليها ثلاثة أخرى فقال: (وقال أبو العالية)؛ بالمهملة والمثناة التحتية: رُفيع؛ بضم الراء وفتح الفاء: ابن مهران؛ بكسر الميم، الرياحي؛ بالمثناة التحتية والحاء المهملة، أسلم بعد موت النبي الأعظم عليه السلام بسنتين، وتوفي سنة تسعين، كذا قاله الكرماني، وتبعه ابن حجر والقسطلاني، وردَّه الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وقال: إنه البرَّاء؛ بتشديد الراء، واسمه زياد بن فيروز البصري القرشي، المتوفى سنة تسعين؛ فافهم، (عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل)، وهذا وصله المؤلف في (التوحيد).
(وقال أنس) بن مالك رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل)، وفي رواية: (فيما يرويه عن ربه)، وفي أخرى: (تبارك وتعالى) بدلًا عن قوله: (عز وجل)، وهذا وصله المؤلف في (التوحيد) أيضًا.
(وقال أبو هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم عز وجل)؛ بكاف الخطاب مع ميم الجمع، وهذا وصله المؤلف في (التوحيد) أيضًا.
واستدل المؤلف بهذه التعاليق الثلاثة على حكم المعنعن، وأن حكمه الوصل عند ثبوت السلامة واللُّقِي، وهو مذهب جمهور المحدِّثين وغيرهم، وردَّه مسلمٌ ولم يشترط ذلك، وعلى أنَّ رواية النبي الأعظم عليه السلام إنَّما هي عن ربه سواء صرح بذلك الصحابي أم لا؛ لأنَّ ابن عباس روى عنه حديثه المذكور في موضع آخر، ولم يذكر فيه عن ربه، ولفظُ الرواية شاملٌ لجميع الأقسام المذكورة، وكذا لفظ العنعنة؛ لاحتماله كلًّا من هذه الألفاظ الثلاثة.
==========
%ص 40%
==================
(1/120)
[حديث: إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها]
61# وبه قال: (حدثنا قتيبة)، وفي رواية: (ابن سعيد) (قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر) هو ابن أبي كثير الأنصاري، (عن عبد الله بن دينار) القرشي العدوي المدني مولى ابن عمر، (عن ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (قال: قال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِنَ الشَّجر)؛ بفتح المعجمة؛ وهو ما كان على ساق من نبات الأرض، والمراد: مِن جنسه (شجرةً) بالنصب اسم (إنَّ)، وخبرها الجار والمجرور، و (مِن) للتبعيض، وقوله: (لا يسقط ورقها) في محل نصب صفة لـ (شجرة)، وهي صفة سلبية تبين أن موصوفها مختصٌّ بها دون غيرها، (وإنَّها)؛ بكسر الهمزة عطف على (إنَّ) الأولى (مَثَلُ المسلم)؛ بفتح الميم والثاء المثلثة معًا، وفي رواية: بكسر الميم وسكون الثاء؛ كـ (شَبَه) و (شِبْه) لفظًا ومعنًى، واستعير (المثل) هنا كاستعارة (الأسد) لـ (المقدام) للحال العجيبة أو الصفة الغريبة، كأنَّه قال: حال المسلم العجيب الشأن كحال النخلة، أو صفته الغريبة كصفتها، فـ (المسلم) هو المشبَّه و (النخلة) هي المشبَّه بها، وقوله: (فحدِّثوني) فعل أمر؛ أي: إنْ عرفتموها؛ فحدِّثوني (ما هي) مبتدأ وخبر، والجملة سدتْ مسدَّ مفعولي التحديث، (فوقع الناس في شجر البوادي) جمع بادية؛ خلاف الحاضرة؛ أي: ذهبت أفكارهم إلى شجر البوادي، وجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع، وذهلوا عن النخلة، وفي رواية: (البواد) بحذف المثناة التحتية، وهي لغة.
(قال عبد الله) بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (ووقع في نفسي) أي: فكري (أنَّها) أي: الشجرة المسؤول عنها (النخلةُ)؛ بالرفع خبر (أن)، وبفتح الهمزة؛ لأنَّها فاعل (وقع)؛ (فاستحييت)، زاد في رواية: (فأردتُ أن أقول: هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم)، وفي أخرى: (فإذا أنا عاشرُ عشرة أنا أحدثهم)، وفي أخرى: (ورأيتُ أبا بكر وعمرَ لا يتكلَّمان، فكرهت أن أتكلم)، وفي أخرى: (قال عبد الله: فحدثتُ أبي بما وقع في نفسي فقال: لإنْ كنتَ قلتَها؛ أحبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا)، زاد في أخرى: (أحسبه قال: حمر النعم).
(ثم قالوا: حدِّثْنا) بكسر الدال المهملة وسكون المثلثة (ما هي يا رسول الله، قال) عليه السلام: (هي النخلة) مبتدأ وخبر، والجملة وقعت مقول القول؛ واحدة النخل، والنخل والنخيل بمعنى واحد، الواحدة: نخلة.
وفي (التفسير): (قال عبد الله: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها، ولا ولا ولا)، ذكر النفي ثلاث مرات على الاكتفاء، وتفسيرُه؛ أي: ولا ينقطع ثمرها، ولا يعدم فيؤها، ولا يبطل نفعها.
وأما وجه الشبه؛ فقد اختلف فيه: فقيل: وجه الشبه: أن النخلة إذا قَطَعتَ رأسها؛ ماتت، بخلاف باقي الشجر، وقيل: لأنها لا تحمل حتى تلقح، وقيل: لأنَّها تموت إذا غرقت أو فسد ما هو كالقلب لها، وقيل: لأنَّ لطلعها رائحة المني، وقيل: لأنَّها تعشق كالإنسان، والصحيح: هو كثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجودها على الدوام، فإنَّه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس، وبعد اليُبس يتخذ منها منافع كثيرة من خشبها، وورقها، وأغصانها، فيستعمل جذوعًا، وحطبًا، وعصيًّا، وحصرًا، وحبالًا، وأواني، وغير ذلك، ثم آخرها نواها ينتفع به علفًا للإبل، ثم جمال ثباتها وحسن ثمرتها، وكلها منافع، وكذلك المؤمن خيرٌ كله؛ من كثرة الطاعات، ومكارم الأخلاق، ومواظبته على صلاته، وصيامه، وذكره، والصدقة، وسائر الطاعات، وإنما كان هذا هو الصحيح؛ لأنَّ التشبيه إنَّما وقع بالمسلم، والأقوال السابقة تشمل المسلم والكافر؛ فهي ضعيفة، والمعتمد هذا، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
%ص 40%
==================
(1/121)
(5) [باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم]
هذا (باب طرحِ)؛ بالجر للإضافة؛ أي: إلقاء (الإمام المسألةَ) بالنصب مفعول المصدر (على أصحابه؛ ليختبر) أي: ليمتحن (ما) أي: الذي (عندهم) من الاختبار؛ وهو الامتحان (من العلم) (من) بيانية.
==================
(1/122)
[حديث: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها]
62# وبالسند إليه قال:
%ص 40%
(حدثنا خالد بن مَخْلد)؛ بفتح الميم وسكون الخاء: أبو الهيثم القَطَواني؛ بفتح القاف والطاء؛ نسبة لموضع بالكوفة، البجلي مولاهم، الكوفي، تُكُلِّم فيه، وقال ابن عدي: لا بأس به، المتوفى في المحرم سنة ثلاث عشرة ومئتينقال: (حدثنا سليمان) بن بلال أبو محمد التيمي القرشي المدني، الفقيه المشهور، وكان بربريًا حسنَ الهيئة، توفي سنة اثنتين وسبعين ومئة في خلافة هارون الرشيد بالمدينةقال: (حدثنا عبد الله بن دينار) القرشي العدوي المدني، (عن) عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن من الشجر) أي: من جنسه (شجرةً) بالنصب، وزاد المؤلف: (قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال: كنا عند النبي عليه السلام فأُتي بجمارة، فقال: إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها) صفة لـ (شجرة) مختصَّة بها دون غيرها، وفي رواية زيادة: (ولا يتحات)، (وإنَّها)؛ بكسر الهمزة، (مِثْل)؛ بكسر الأول وسكون الثاني، وبفتحهما؛ على ما مرَّ؛ أي: شِبْه (المسلم)، وفي رواية: «مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء لا يسقط ورقها ولا يتحات» (حدِّثوني) بدون فاء؛ أي: إن عرفتموها؛ حدثوني (ما هي؟) مبتدأ وخبر (فوقع الناس في شجر البوادي)؛ أي: ذهبت أفكارهم إليها دون النخلة، (قال) عبد الله بن عمر: (فوقع في نفسي)؛ بالفاء، وفي السابقة بالواو، وفي رواية: (فألقى الله في روعي) (أنها النخلة)، وفي رواية: (بينا نحن عند النبي عليه السلام جلوس؛ إذ أُتي بجمار نخلة، فقال عليه السلام: «إنَّ مِنَ الشجر لَمَا بركتُه كبركة المسلم»، فظننتُ أنَّه يعني النخلة، فأردت أن أقول: هي النخلة يا رسول الله، ثم التفت فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم، فسكتُّ)، وفي رواية: (فاستحييت).
(ثم قالوا: حدِّثنا) المراد منه الطلب والسؤال (ما هي يا رسول الله؟)، وفي رواية: (قال: كنا عند رسول الله عليه السلام ذات يوم، فقال: «إنَّ مثل المؤمن كمثل شجرة لا يسقط لها أنملة [1] أتدرون ما هي؟» قالوا: لا. قال: هي النخلة)، زاد في هذه الرواية: «لا يسقط لها أنملة ولا يسقط لمؤمن دعوة»، ووجه الشبه بين النخلة والمسلم؛ من حيث عدم سقوط الورق وعدم سقوط الدعوة، والبركة في كل منهما في جميع الأجزاء.
وفي الحديث استحباب إلقاء العالم المسألة على أصحابه؛ ليختبر أفهامهم، وفيه توقير الكبار وترك التكلم عندهم، واستحباب الحياء ما لم يؤدي إلى تفويت المصلحة، وفيه جواز اللغز مع بيانه، وما رواه أبو داود عن النبي عليه السلام: أنه نهى عن الأغلوطات
_أي: صعاب المسائل_ محمول على ما إذا خرج على سبيل تعنت المسؤول، أو تعجيزه، أو تخجيله، وفيه جواز طلب الأمثال، وفيه أن التشبيه لا عموم له، وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه مَن هو دونه.
وفيه دلالة على فضيلة النخل، قال المفسرون: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} لا إله إلا الله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} هي النخلة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في الأرض {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}؛ أي: رأسها {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ [حِينٍ]} [إبراهيم: 24 - 25]
وقت، فشبه الله الإيمان بالنخلة؛ لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها، وشبه ارتفاع عمله بارتفاع فروعها، وما يكتسبه المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وزمان بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها من الرطب والثمر، وقد ورد ذلك صريحًا فيما رواه البزار عن ابن عمر قال: قرأ رسول الله عليه السلام فذكر هذه الآية، فقال: «أتدرون ما هي؟» قال ابن عمر: لم يَخْفَ عليَّ أنَّها النخلة، فمنعني أن أتكلَّم؛ لمكان سِنِّي، فقال عليه السلام: «هي النخلة»، وروي في حديث مرفوع لكنه لم يثبت: أنَّ النخلة خلقت من بقية طينة آدم عليه السلام، فهي كالعمَّة للأناسيِّ، والله تعالى أعلم.
(1/123)
(6) [باب ما جاء في العلم وقوله تعالى {وقل رب زدنى علمًا}]
(باب ما جاء في العلم وقول الله تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}) [طه: 114]؛ أي: سل الله زيادة، وهذا ساقط في أكثر الروايات، ثابت في رواية.
هذا (باب) في بيان حكم (القراءة والعرض على المحدِّث) متعلِّق بهما على التنازع؛ أي: بأن يقرأ عليه الطالب من حفظه أو كتاب، أو يسمعه عليه بقراءة غيره من كتابٍ أو حفظٍ، والمحدِّثُ حافظٌ للمقروء أو غيرُ حافظ مع تتبُّع أصلِه بنفسه أو ثقة ضابط غيره، واحترز به عن عرض المناولة؛ وهو العاري عن القراءة، وذلك بأنْ يعرض الطالب مرويَّ شيخه اليقظ العارف عليه، فيتأمَّله الشيخ، ثم يعيده عليه ويأذن له في روايته عنه.
(ورأى الحسن) البصري (وسفيان) الثوري (ومالك) بن أنس الإمام (القراءة) على المحدِّث (جائزة) في صحة النقل عنه، وادَّعى القاضي عياض عدم الخلاف في صحة الرواية بها، وروى الحاكم من طريق مطرِّف قال: صحبت مالكًا سبع عشرة سنة، فما رأيتُه قرأ «الموطأ» على أحد؛ بل يقرؤون عليه، وسمعتُه يأبى أشدَّ الإباء على مَن يقول: لا يجزئه إلَّا السماع من لفظ الشيخ، ويقول: كيف لا يجزئك هذا في الحديث ويجزئك في القرآن، والقرآن أعظم؟!
(قال أبو عبد الله) أي: المؤلف: (سمعت أبا عاصم) النبيل (يذكر عن سفيان) الثوري (ومالك) الإمام (أنهما كانا يريان القراءة والسماع جائزًا)، وفي رواية: (جائزة)؛ أي: القراءة؛ لأنَّ السماع لا نزاع فيه، وفي رواية: (حدثنا عُبيد الله بن موسى)؛ بضم العين، (عن سفيان) الثوري (قال: إذا قُرئ) على المحدِّث؛ (فلا بأس أن يقول: حدَّثَني) بالإفراد (وسمعتُ) منه، فالقراءة والسماع سواء.
(واحتجَّ بعضُهم)؛ هو الحميدي شيخ المؤلف (في القراءة على العالم)؛ أي: في صحة النقل عنه (بحديث ضِمام بن ثعلبة)؛ بكسر الضاد المعجمة، وثعلبة؛ بالمثلثة، ثم المهملة، وبعدَ اللام موحدة، وفي رواية: أنَّه (قال للنبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: آللهُ)؛ بهمزة الاستفهام مبتدأ خبره قوله: (أمرك أن)؛ أي: بأنْ (تصلي) بالمثناة الفوقية، وفي رواية: بنون الجمع (الصلوات؟)، وفي رواية: بالإفراد، (قال) عليه السلام: (نعم) أمرنا أن نصلي، (قال) الحميدي: (فهذه قراءة على النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (فهذه قراءة على العالم)؛ (أخبر ضِمام قومه بذلك، فأجازوه)؛ أي: قبلوه منه، وليس المراد الإجازة المصطلحة عليها بين أهل الحديث، لا يقال: إجازة قومه لا حجة فيه؛ لأنَّهم كفرة؛ لأنا نقول: المراد الإجازة بعد الإسلام، أو لأنَّ فيهم مسلمون يومئذ.
فإن قلتَ: قولُه: (أخبر قومه بذلك) ليس في الحديث الذي ساقه المؤلف هنا، فكيف يحتجُّ به؟ قلت: لم يقع في هذا الطريق، وإنما وقع في طريق آخر ذكرها أحمد وغيره من طريق أبي إسحاق قال: حدثني محمد بن الوليد، عن كُريب، عن ابن عباس قال: بعث [بنو] سعد بن بكر [1] ضِمامَ بن ثعلبة ... فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: [أنَّ] ضِمامًا قال لقومه عندما رجع إليهم: إنَّ الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى في ذلك اليوم وفي حاضريهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا.
(واحتج مالك) الإمام (بالصَّكِّ)؛ بفتح المهملة وتشديد الكاف: الكتاب، فارسي معرب، جمعه: أصك وصكاك، والمراد به: المكتوب الذي يكتب فيه إقرار المقر (يُقرأ على القوم)؛ بضم المثناة التحتية مبنيًّا للمفعول، (فيقولون)؛ أي: الشاهدون لا القوم؛ لأنَّ المراد منهم من يعطي الصك؛ وهم المقرُّون بالديون أو غيرها، فلا يصح لهم أن يقولوا. قسطلاني: (أشهدَنَا فلانٌ) بالتنوين (ويقرأ ذلك قراءة عليهم)، وفي رواية: (وإنما ذلك قراءة عليهم)، فتسوغ الشهادة عليهم بقولهم: نعم، بعد قراءة المكتوب عليهم، مع عدم تلفظهم بما هو مكتوب، وهذه حجة؛ لأنَّ الإشهاد أقوى حالات الإخبار، (ويُقرَأ) بضم أوله مبنيًّا للمفعول أيضًا (على المقرئ) المعلم للقرآن، (فيقول القارئ) عليه: (أقرأني فلانٌ) بالتنوين.
وقاس مالك قراءة الحديث على قراءة القرآن، فروى الخطيب البغدادي من طريق ابن وهب قال: سمعت مالكًا، وسئل عن الكتب التي تعرض عليه: أيقول الرجل: حدثني؟ قال: نعم، كذلك القرآن، أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول: أقرأني فلان، فكذلك إذا قرأ على العالم؛ صح أن يروي عنه، كذا في «عمدة القاري».
وبه قال: (حدثنا محمد بن سلَام)؛ بتخفيف اللام، البيكندي (قال: حدثنا محمد بن الحسن)؛ بفتح الحاء المهملة، ابن عمران (الواسطي) قاضي واسط، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة، وليس له في «البخاري» غير هذا، (عن عَوف)؛ بفتح العين آخره فاء، هو ابن أبي جميلة المعروف بالأعرابي، (عن الحسن) هو البصري (قال: لا بأس)؛ أي: في صحة النقل عن المحدث (بالقراءة على العالم)؛ أي: الشيخ، متعلق بالقراءة، لا خبر لقوله: (لا بأس)؛ فليحفظ.
وهذا الأثر رواه الخطيب بأتمَّ سياقًا منه من طريق أحمد ابن حنبل، عن محمد بن الحسن الواسطي، عن عوف الأعرابي: أن رجلًا سأل الحسن فقال: يا أبا سعيد؛ منزلي بعيد والاختلافُ يشقُّ عليَّ، فإن لم تكن ترى بأسًا؛ قرأت عليك، قال: ما أبالي قرأتُ عليك أو قرأتَ عليَّ، قال: فأقول: حدَّثني الحسن؟ قال: نعم؛ حدَّثني الحسن، كذا في «عمدة القاري».
وبه قال: (حدثنا عُبيد الله)؛ بضم العين، وفتح الموحدة، مصغرًا (ابن موسى) بن باذام العبسي؛ بالمهملتين، (عن سفيان) الثوري أنَّه (قال: إذا قُرِئ)؛ بضم القاف، وكسر الراء، وفي رواية: (إذا قرأت)، وفي أخرى: (إذا قرأ) (على المحدِّث؛ فلا بأس) على القارئ (أن يقول: حدَّثني) كما جاز أن يقول: أخبرني، فهو مشعرٌ بأنَّه لا تفاوت عنده بين (حدثني) و (أخبرني)، وبين أن يقرأ على الشيخ أو يقرأ الشيخ عليه، كذا في «عمدة القاري».
(قال) أي: المؤلف: (وسمعت)، وفي رواية: (قال أبو عبد الله: سمعت) بغير واو (أبا عاصم)؛ هو الضحَّاك بن مَخْلد؛ بفتح الميم، الشيباني البصري، المشهور بالنَّبِيل؛ بفتح النون، وكسر الموحدة، وسكون المثناة التحتية، آخره لام، لقب به؛ لأنَّه كان يلازم الإمام زفر، وكان حسنَ الحال في كسوته، فجاء النبيل يومًا إلى بابه، فقال الخادم
%ص 41%
للإمام زفر: أبو عاصم بالباب، فقال له: أيهما؟ فقال: ذاك النبيل. أو لكبر أنفه، توفي في ذي الحجة، سنة تسع ومئتين، عن تسعين سنة وستة أشهر، (يقول عن مالك) الإمام (و) عن (سفيان) الثوري: (القراءة على العالم)؛ أي: الشيخ، (وقراءته)؛ أي: الشيخ (سواء)؛ أي: متساوية في الرتبة في صحة النقل وجواز الرواية.
وقال إمامنا الإمام الأعظم: قراءة الطالب على الشيخ أرجح من قراءته بنفسه؛ لأنَّه أضبط، وهو قول ابن أبي ذئب والإمام مالك، كما ذكره الدارقطني عنه، وقيل: إن قراءة الشيخ بنفسه أرجح
==========
[1] زيد في الأصل: (بن)، ولا يصح.
==================
(1/124)
[حديث: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي]
63# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التِّنِّيسي (قال: حدثنا الليث) بن سعد الفهمي، وهو من أتباع إمامنا الإمام الأعظم، (عن سعيد) بن أبي سعيد؛ بكسر العين فيهما، (هو المقبُري)؛ بضم الموحدة، ولفظ (هو) سقط في رواية.
(عن شريك)؛ بفتح المعجمة، (ابن عبد الله بن أبي نَمِر)؛ بفتح النون وكسر الميم، القرشي المدني، المتوفى سنة أربعين ومئة، (أنه سمع أنس بن مالك) رضي الله عنه؛ أي: كلامه حال كونه، (يقول: بينما) أصله: (بين) زيدت عليها (ما) ظرف زمان، وفي رواية: (بينا)؛ بغير ميم (نحن) مبتدأ خبره قوله: (جلوس)؛ جمع جالس، (مع النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في المسجد)؛ أي: مسجد رسول الله عليه السلام، فـ (أل) للعهد، (دخل رجل) جواب (بينما)، وفي رواية: (إذ دخل رجل)، لكن الأصمعي لا يستفصح (إذ) و (إذا) في جواب (بينا) و (بينما).
(على جَمَل) صفة لـ (رجل)، زوج الناقة؛ بفتح الجيم والميم، [و] تسكين الميم لغة، وبه قرأ ابن السماك: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمْلُ}؛ بسكون الميم، جمعه جمال، وجمالة، وجمالات، وجمائل، وأجمال.
(فأناخه)؛ أي: أبركه على ركبتيه، أصله: فأنْوَخه، قلبت الواو ألفًا بعد نقل حركتها إلى ما قبلَها، (في) رحبة (المسجد) أو ساحته، (ثم عَقَلَه)؛ بفتح العين المهملة والقاف المخففة؛ أي: شدَّ على ساقه مع ذراعه حبلًا بعد أن ثنى ركبتيه، وفيه جواز إدخال البعير في المسجد، وهو دليل على طهارة أبوال الإبل وأرواثها، وهو قول الإمام محمد الشيباني شيخ الإمام الشافعي.
وقال إمامنا الإمام الأعظم والإمام أبو يوسف: إنَّ أبوالها نجسة نجاسةً مخففة، ولا دليل في الحديث على الطهارة؛ لأنَّه روى أبو نُعيم: (أقبل على بعير له حتى أتى المسجد فأناخه، ثم عَقَله فدخل المسجد)، وفي رواية أحمد والحاكم عن ابن عباس: (فأناخ بعيره على باب المسجد فعَقَله، ثم دخل)، وهذا يدل على أنَّه لم يدخل المسجد؛ فتأمل.
(ثم قال لهم: أيُّكم) استفهام مرفوع على الابتداء، خبره (محمد؟ والنبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئٌ)؛ بضم الميم آخره همزة اسم فاعل، أصله: موتكئ، قُلبت الواو تاء، وأُدغمت التاء في التاء؛ أي: استوى على وِطاء، والجملة اسمية وقعت حالًا.
(بين ظهرانيهم)؛ بفتح الظاء المعجمة والنون؛ أي: بين أصحابه، وزيد لفظ (الظهر)؛ ليدل على أنَّ ظهرًا منهم قُدَّامَه وظهرًا منهم وراءَه، فهو محفوفٌ بهم من جانبيه، والألف والنون للتأكيد، وقيل: زيدت الألف والنون على (ظهر) عند التثنية، ثم كثر حتى استُعمل في الإقامة بين القوم مطلقًا؛ أي: فهو ممَّا أُريد بلفظ التثنية فيه معنى الجمع، واستُشكل ثبوت النون مع الإضافة، ودُفع بأنَّه ملحق بالمثنى لا أنَّه مثنًى حقيقةً، وحذفت منه نون التثنية فصار (ظهرانيهم).
(فقلنا: هذا الرجل) مبتدأ وخبر، (الأبيض) صفة لـ (رجل)، وقوله: (المتكئ) بالرفع صفة لـ (رجل) أيضًا، والمراد بـ (الأبيض): هو البياض المشرب بحمرة، كما دل عليه رواية الحارث ابن عمير قال: (الأمغر)، فُسِّر بالحمرة مع بياضٍ صافٍ، ولا تنافي بين وصفه هنا بالبياض وبين ما ورد أنَّه ليس بأبيض، ولا آدم؛ لأنَّ المنفي البياض الخالص كلون الجصِّ كريه المنظر، كلون [البرص] [1]،كذا في «عمدة القاري».
(فقال له) عليه السلام (الرجل) المذكور: (أَبنَ عبد المطلب)؛ بفتح الهمزة والنون: منادى مضاف، أصله: يا ابن عبد المطلب، فحذف حرف النداء، وفي رواية: (يا ابن عبد المطلب)، وفي رواية: بكسر الهمزة وفتح النون.
(فقال له النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك)؛ أي: سمعتك، أو المراد إنشاء الإجابة أو نزل تقريره للصحابة في الإعلام عنه منزلة النطق، وإنَّما لم يجبه بنعم؛ لأنَّه أخلَّ بما يجب من رعاية التعظيم والأدب؛ حيث قال: (أيُّكم محمد؟)، وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} [النور: 63]، فحقُّه أن يخاطبه بالرسالة أو بالنبوة، فلما قال: (أيُّكم محمد؟)؛ علم عليه السلام أنَّه باقٍ على جفاء الجاهلية، فلم ينكر عليه ولم يرد عليه، أو أنَّه لم يكن آمَنَ، أو كان ذلك قبل النهي عن مخاطبته عليه السلام بذلك، أو لم يبلغه.
وقال أيضًا: (ابن عبد المطلب) وكان عليه السلام يكره الانتساب إلى الكفار، لعله أراد تطابق الجواب للسؤال بقوله: أيُّكم بابن عبد المطلب؟ فأجابه عليه السلام: أنا ابن عبد المطلب، وإنَّما كره هنا ذلك وقال يوم حنين: أنا ابن عبد المطلب؛ للإشارة إلى رؤيا رآها عبد المطلب مشهورة كانت إحدى دلائل نبوته فذكرهم بها، وبخروج الأمر على الصدق.
(فقال الرجل) المذكور (للنبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وسقط في رواية قوله: (الرجل ... ) إلخ، وفي أخرى: لفظ (الرجل) فقط، (إني سائلُك) جملة اسمية مؤكدة بـ (إن) مقول القول، (فمشدِّدٌ عليك في المسألة)؛ بكسر الدال الأولى المثقلة، والفاء عاطفة على (سائلك)، (فلا تجِدْ)؛ بكسر الجيم والجزم على النهي، وهي من الوجدة؛ أي: لا تغضب، (عليَّ في نفسك، فقال) عليه السلام له: (سل عمَّا بدا) من البُدُوِّ؛ أي: ظهر، (لك، فقال) الرجل المذكور: (أسألك بربك)؛ أي: بحقِّ ربِّك، الباء للقسم، (ورب من قبلك، آللهُ)؛ بهمزة الاستفهام الممدودة والرفع على الابتداء، وقوله: (أرسلك) خبره، وعند مسلم: (فبالذي خلق الأرض ونصب هذه الجبال، آللهُ أرسلك)، (إلى الناس كلهم) الإنس والجن، (فقال) عليه السلام، وفي رواية: (قال).
(اللَّهُمَّ)؛ أي: يا الله، (نعم) الميم بدل عن حرف النداء، وذكر ذلك؛ ليدل على تيقن المجيب في الجواب المقترن به؛ كأنه ينادي تعالى متشهدًا على ما قاله في الجواب، وهذه الأيمان المذكورة إنَّما ذكرت للتأكيد وتقرير الأمر.
(قال) وفي رواية: (فقال الرجل المذكور)، (أَنْشُدُك)؛ بفتح الهمزة، وإسكان النون، وضم المعجمة؛ أي: أسألك، (بالله) الباء للقسم، (آللهُ أمرك)؛ بمدِّ الهمزة، وفيه همزتان الأولى للاستفهام والثانية للجلالة، (أن نصلي الصلوات الخمس)؛ بنون الجمع، وفي رواية: بتاء الخطاب، وفي رواية: الصلاة بالإفراد؛ أي: جنس الصلاة، وكلُّ ما وجب عليه فهو واجب على أمته حتى يقوم دليل الخصوصية، وفي رواية ثابت عن أنس بلفظ: (أن علينا خمس صلوات يومَنا وليلتَنا)؛ فافهم.
(في اليوم والليلة، قال) عليه السلام: (اللَّهُمَّ)؛ أي: يا الله، (نعم، قال) الرجل المذكور: (أنشدك)؛ أي: أسألك (بالله) باؤه للقسم، (آللهُ) بالمدِّ، (أمرك أن تصوم)؛ بتاء الخطاب، وفي رواية: بالنون، (هذا الشهر من السنة)؛ أي: رمضان من كلِّ سنة، فـ (اللام) فيهما للعهد، والإشارة لنوعه لا لعينه.
(قال) عليه السلام: (اللهمَّ)؛ أي: يا الله، (نعم، قال) الرجل المذكور: (أَنشدك) أسألك (بالله، آللهُ)؛ بالمدِّ، (أمرك أن تأخذ)؛ بتاء المخاطب؛ أي: بأن تأخذ، (هذه الصدقة) المعهودة؛ وهي الزكاة، (من أغنيائنا فتقسمَها)؛ بتاء المخاطب المفتوحة، والنصب عطفًا على (أن تأخذ)، (على فقرائنا) من تغليب الاسم للكل بمقابلة الأغنياء؛ إذ خرج مخرج الأغلب؛ لأنَّهم الأغلب من الأصناف الثمانية.
(فقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) له: (اللَّهُمَّ)؛ أي: يا الله، (نعم)؛ أي: اشهد على ما قلت في الجواب، قال أكثر الشُّرَّاح: ولم يتعرَّض للحجِّ؛ لأنَّه كان معلومًا عندهم في شريعة إبراهيم.
قال في «عمدة القاري»: وهو مذكور في «صحيح مسلم بن الحجاج القشيري»، فقد وقع فيه ذكر الحجِّ ثابتًا عن أنس ابن مالك، وكذا في حديث أبي هريرة وابن عباس أيضًا عند مسلم، وقيل: إنَّما لم يذكره؛ لأنَّه لم يكن فُرِضَ، أو لأنَّه لم يكن من أهل الاستطاعة.
(فقال الرجل) المذكور لرسول الله عليه السلام: (آمنتُ بما)؛ أي: بالذي، (جئتَ به) من الوحي، واختُلف هل كان مسلمًا عند قدومه أم [لا]؛ فقال جماعة: إنَّه كان مسلمًا قبل وفوده، وإليه ذهب المؤلف وبوَّب له: باب القراءة والعرض على المحدِّث، مستدلًا بقوله: (آمنت بما جئت به)، وبقوله: (وأنا رسول من) مبتدأ وخبر مضاف إلى (مَن) بفتح الميم (ورائي)؛ أي: مَن خلفي، (مِن)؛ بكسر الميم، (قومي)، وإنَّ هذا إخبارٌ، ورجَّحَه القاضي عياض، وقال جماعة: إنَّه لم يكن مسلمًا وقت قدومه، وإنَّما كان إسلامه بعدَه؛ لأنَّه كان متثبتًا، ويدل عليه ما في حديث ابن عباس رواه ابن إسحاق: (أنَّ بني سعد بن بكر بعثوا ضِمام بن ثعلبة ... ) الحديث، وفي آخره: (حتى إذا فرغ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله).
وأجابوا عن قوله: (آمنت): بأنَّه إنشاء وابتداء الإيمان، لا إخبار بإيمانٍ تقدم، وكذلك قوله: (وأنا رسول مَن ورائي)، وبأنَّه لا يلزم مِن تبويب المؤلف له أنَّه كان مسلمًا؛ لأنَّ العرض على المحدث هو القراءة عليه أعمّ من أن يكون تقدمت له أو ابتدأها.
وقالوا: قد بوَّب أبو داود عليه: باب المشرك يدخل المسجد، وهو يدل على أنَّه لم يكن مسلمًا قبل قدومه، والظاهر: أنَّه قبل قدومه لم يكن
%ص 42%
الإيمان محققًا عنده، فلمَّا سأل النبيَّ عليه السلام؛ تحقَّق عنده وجدَّد إيمانه؛ فليحفظ.
(وأنا ضِمام بن ثعلبة)؛ بكسر الضاد المعجمة، وبالثاء المثلثة، والباء الموحدة المفتوحة، (أخو بني سعد بن بكر) بن هوازن، وهم أخوال رسول الله عليه السلام، قدم على النبي الأعظم عليه السلام، بعثه إليه بنو سعد، فسأل عن الإسلام، ثم رجع إليهم فأخبرهم به فأسلموا.
وقال ابن عباس: ما سمعنا بوافد قط أفضل من ضِمام، وكان قدومه سنة تسع، قاله ابن إسحاق والطبري، وقال الواقدي: كان سنة خمس، وفيه نظر لما في «مسلم»: أنَّ قدومه كان بعد نزول النهي عن السؤال في القرآن، وهو في (المائدة)، ونزولها متأخِّرٌ جدًّا، وبما قد عُلِمَ أنَّ إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإسلام إنَّما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه كان بعد فتح مكة.
وبما في حديث ابن عباس: أنَّ قومه أطاعوه ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد في الإسلام إلا بعد وقعة خيبر، وكان في شوال سنة ثمان، فالمعتمد: أنَّ قدوم ضِمام كان في سنة تسع، وبه جزم أبو عبيدة وغيره؛ فافهم.
وفي الحديث دليل لما ذهب إليه العلماء من أنَّ العوام المقلِّدين مؤمنون، وقبول خبر الواحد، وجواز تسمية الأدنى للأعلى دون أنْ يُكنِّيه إلَّا أنَّه نُسخ في حقِّه عليه السلام، وجواز الاتِّكاء بين الناس في المجالس، وجواز تعريف الرجل بصِفته من البياض والحمرة، والطول والقصر، والاستحلاف على الخبر؛ ليُعلم اليقين، وفيه التعريف بالشخص، وفيه النسبة إلى الأجداد.
فائدة: هل النجدي السائل في حديث طلحة بن عبيد الله السابق هو ضِمام بن ثعلبة أو غيره، قال جماعة: إنَّه هو إيَّاه، والنجدي هو ضِمام بن ثعلبة، وإليه مال ابن عبد البر والقاضي عياض، وقيل: غيره، والله أعلم.
(رواه)؛ أي: هذا الحديث، وفي رواية: (ورواه) بالواو (موسى) بن إسماعيل، كما في رواية أبو سلمة المنقري التَّبُوذَكِي، (و) رواه أيضًا (علي بن الحُميد)؛ بضم الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية، بن مصعب المَعْنِي؛ بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وكسر النون، بعدها ياء؛ نسبة إلى مَعَن بن مالك، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين؛ كلاهما (عن سليمان) زاد في رواية: (ابن المغيرة) أبي سعيد القيسي البصري، المتوفى سنة خمسين أو خمس وستين ومئة، وفي رواية: (أخبرنا سليمان)، (عن ثابت) هو البُنانيُّ؛ بضم الموحدة وبالنونين؛ نسبة إلى (بنانة) بطن من قريش، أو اسم أمه (بنانة)، واسم أبيه: أسلم، العابد البصريُّ، المتوفَّى سنة ثلاث وعشرين ومئة.
(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم بهذا)؛ أي: بمعناه، وفي رواية: (مثله)، وحديث موسى بن إسماعيل موصولٌ في «صحيح أبي عَوانة»، وحديث علي بن الحُميد موصولٌ عند الترمذي أخرجه عن المؤلف.
(1/125)
(7) [باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان]
هذا (باب ما يُذكَر)؛ بضم المثناة التحتية وفتح الكاف، (في المناولة) من النوال وهو العطاء، وهي نوعان:
أحدهما: المقرونة بالإجازة؛ وهي أن يرفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه مثلًا ويقول: هذا سماعي وأجزت لك روايته عني، وهذه حالة محل السماع عند مالك والزهري وغيرهما، فيجوز إطلاق (حدثنا) و (أخبرنا) فيها، والصحيح: أنَّه منحطٌّ عن درجته، وعليه الأكثر.
والآخر: المناولة المجرَّدة عن الإجازة، وهي بأنْ يُناوله أصل السماع كما علمت، ولا يقول له: أجزت لك الرواية عني، وهذه لا تجوز الرواية بها على الصحيح، ومراد المؤلف القسم الأول، وهو غير العرض السابق؛ فافهم.
(وكتابِ أهل العلم بالعلم) بجرِّ (كتاب) عطفًا على قوله: (في المناولة)، (إلى) أهل (البُلْدان)؛ بضمِّ الموحدة وسكون اللام، جمع بلد، وأهل القرى وغيرهما، وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب شيئًا من حديثه، وهي نوعان؛ أحدهما: المقرونة بالإجازة، وثانيهما: الخالية عنها، والصحيح في الثانية: أنَّه يجوز الرواية بها؛ بأن يقول: كتب إليَّ فلان قال: حدثنا بكذا.
وقد سوَّى المؤلف الكتابة المقرونة بالإجازة بالمناولة، ورجَّح قوم المناولة عليها؛ لحصول المشافهة بها بالإذن دون المكاتبة، وجوَّز جماعة الإخبار فيهما، والأَولى ما عليه المحقِّقون من اشتراط بيان ذلك.
(وقال أنس) وفي رواية: (أنس بن مالك)، كما وصله المؤلف في (فضائل القرآن): (نسخ عثمان) وفي رواية: (عثمان بن عفان) أحد الخلفاء والعشرة، المتوفى شهيد الدار يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة، سنة خمس وثلاثين، عن تسعين سنة، ومدَّةُ خلافته ثنتي عشرة سنة رضي الله عنه (المصاحف)؛ بفتح الميم جمع مصحف، ويجوز في ميمه الحركات الثلاث، مأخوذة من أصحف؛ أي: جمعت فيه الصُّحُف؛ بضمتين جمع صحيفة؛ وهي الكتابة، قال المؤلف في (فضائل القرآن): إنَّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية، وفيه: ففزع [1] حذيفةُ من اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدركْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلافَ اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر رضي الله عنهماأنْ أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وفيه: حتى إذا نسخوها ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة (فبعث بها)؛ أي: أرسل عثمان بالمصاحف (إلى الآفاق)؛ بمدِّ الهمزة، جمع أفق؛ أي: أرسل إلى كلِّ أُفق بمصحف ممَّا نسخوا، وفي غير «البخاري»: أنَّ عثمان أرسل مصحفًا إلى الشام، ومصحفًا إلى الحجاز، ومصحفًا إلى اليمن، ومصحفًا إلى البحرين، وأبقى عنده مصحفًا؛ لتجتمع الناس على قراءة ما يُعلم ويُتقن.
وقيل: هي أربعة، بعث واحدًا إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى الشام، وحبس عنده آخر، وعليه الأكثر، وقيل: إنها سبعة، ودلالة هذا على تجويز الرواية بالمكاتبة ظاهرة، فإنَّ عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف ومخالفة ما عداها، والمستفاد من بعثه المصاحف إنَّما هو قبول إسنادِ صورة المكتوب بها، لا أصل ثبوت القرآن؛ فإنَّه متواتر عندهم؛ فافهم.
(ورأى عبد الله بن عمر) هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن القرشي العدوي المدني، المتوفى سنة إحدى وسبعين ومئة، وقال ابن حجر العسقلاني: عبد الله هذا هو ابن عَمرو ابن العاص، مستدلًا بكلامٍ أوهنَ من العنكبوت، ولا يقوله من سكن البيوت، فلا يعول عليه، وقد ردَّه الشيخ الإمام بدر الدين العيني بما يطول، ونقله عنه القسطلاني وأقرَّه، والصواب: ما قلناه، وبه جزم الكرماني وقطب الدين وغيرهما؛ فليحفظ.
(و) كذا رأى (يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني (ومالك)، وللأصيلي: (مالك بن أنس) الإمام، (ذلك جائزًا) إشارة إلى كل واحد من المناولة والكتابة باعتبار ووردت الإشارة بذلك إلى المثنى كما في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]؛ أي: ما ذكر من الفارض والبكر، فأشار بذلك إلى المثنى، أفاده في «عمدة القاري»، وفيه كلام يتعلَّق بالمناولة، وأنَّها ثمانية أقسام؛ فراجِعْها فإنَّها مفيدة، ولولا الإطالة لذكرتها؛ فافهم.
(واحتج بعض أهل الحجاز) هو الحُميدي شيخ المؤلف، وإنَّما سُمِّيتْ بذلك؛ لأنَّها حجزت بين نجد والغور، وقيل: هي مكة والمدينة ويمامة وقراها (في) صحة (المناولة بحديث النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم؛ حيث كتب)؛ أي: أمر بالكتابة (لأمير) وفي رواية: (إلى أمير)، (السَّرِيَّة)؛ بفتح السين المهملة وتشديد المثناة التحتية؛ قطعة من الجيش، وهو عبد الله بن جحش المجدع، أخ زينب أم المؤمنين (كتابًا وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا) وفي رواية عروة: أنه قال: (إذا سرت يومين فافتح الكتاب)، وفي أخرى: (لا نقرأ) بنون الجمع مع حذف الضمير، ويلزم منه كون (نبلغ) بالنون أيضًا؛ كذا قيل.
(فلما بلغ ذلك المكان) وهو نخلة بين مكة والطائف، (قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، ولم يذكره المؤلف موصولًا في كتابه هذا، لكن وصله الطبراني بإسنادٍ حسن، وذكره ابن إسحاق في «المغازي» مرسلًا، وساقه إمامنا بدر الدين العيني في «شرحه»؛ فيراجع، والدلالة منه ظاهرة، فإنه جاز له الإخبار بما في الكتاب بمجرد المناولة، ففيه المناولة ومعنى الكتابة.
==================
(1/126)
[حديث: أن رسول الله بعث بكتابه رجلًا وأمره أن يدفعه إلى]
64# وبه قال: (حدثنا إسماعيل بن عبد الله) هو ابن أبي أويس المدني، (قال: حدثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعْد)؛ بإسكان العين؛ سبط عبد الرحمن بن عوف، (عن صالح) هو ابن كَيسان الغِفاري المدني، (عن ابن شهاب) محمد ابن مسلم الزُّهري، (عن عُبيد الله)؛ بالتصغير، (ابن عبد الله)؛ بالتكبير، (ابن عُتْبَة)؛ بضم المهملة، وإسكان المثناة الفوقية، وفتح الموحدة، (ابن مسعود: أنَّ عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (أخبره: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلًا)؛ أي: بعث رجلًا متلبِّسًا بكتابه مصاحبًا له، و (رجلًا) منصوب على المفعولية؛ وهو عبد الله بن حُذافة السَّهْميِّ، كما صرح به المؤلف في (المغازي)؛ بضم الحاء المهملة وبالذال المعجمة، وبعدَ الألف فاء، ابن قيس القرشي، أخ خنيس بن حذافة، زوج حفصة، المتوفى في خلافة عثمان، رضي الله عنهما.
(وأمره) عليه السلام (أن يدفعه)؛ أي: بأن يدفعه، و (أنْ) مصدريَّة؛ أي: يدفعه، (إلى عظيم البحرين) هو المنذر بن ساوَى؛ بالسين المهملة وفتح الواو، والبحرين؛ بلد بين البصرة وعمان، وهي بلفظ التثنية، وإنَّما ثنَّوها؛ لأنَّ في ناحية قراها بحيرة على باب الإحياء وقرى هجر، بينهما وبين البحر الأخضر
%ص 43%
عشرة فراسخ، وقدر البحيرة ثلاثة أميال في مثلها.
وقد صالح النبي عليه السلام أهل البحرين، وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث العلاء إلى المنذر بن ساوَى، فصدَّق وأسلم، وإنَّما قال: (عظيم البحرين) ولم يقل: ملك البحرين؛ لأنَّه لا ملك ولا سلطنة للكفار، فإنَّ الكل لرسول الله عليه السلام ولمن ولَّاه.
(فدفعه) معطوف على مقدر؛ أي: فذهب به إلى عظيم البحرين فدفعه إليه ثم دفعه (عظيم البحرين إلى كسرى)؛ بفتح الكاف وكسرها، والكسر أفصح، فارسي معرب (خسرو)، جمعه أكاسرة على غير قياس، وهو لقب لكلِّ مَن مَلَك الفرس، كما أنَّ (قيصر) لقب لكلِّ مَن مَلَك الروم؛ وهو أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وليس هو أنوشروان.
(فلمَّا قرأه) وفي رواية: بحذف الهاء؛ أي: قرأ كسرى الكتاب، (مزَّقَه) جواب (لمَّا)؛ أي: قطعه شقفًا، قال ابن شهاب الزُّهري: (فحسبتُ)؛ أي: ظننت، (أنَّ ابن المسيب)؛ بفتح المثناة التحتية وكسرها، قيل: الرواية بالفتح، (قال:) ولما مزقه وبلغ النبي عليه السلام ذلك غضب، (فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ)؛ أي: بأن (يُمزَّقوا)؛ أي: بالتمزيق، فـ (أنْ) مصدريَّة، (كلَّ مُمَزَّق)؛ بفتح الزاي في الكلمتين؛ أي: يُمزَّقوا غايةَ التمزيق، فسلَّطَ الله على كسرى ابنه شيرويه، فقتله بأنْ مزَّقَ بطنه سنة سبع، فتمزق ملكه كلَّ ممزق، وزال من جميع الأرض، واضمحل بدعوته عليه السلام، وقال عليه السلام: «إذا مات كسرى فلا كسرى بعدَه»، وكان ملكه سبعًا وأربعين سنة وسبعة أشهر، وكتب كسرى إلى باذان عامله في اليمن: إنَّه بلغني أنَّ رجلًا من قريش يزعم أنَّه نبيٌّ، فسِرْ إليه فاستتبه، فإن تاب، وإلَّا فابعث إليَّ برأسه، فبعث باذان بكتابه إلى النبي عليه السلام، فكتب إليه عليه السلام: إنَّ الله وعدني بقتل كسرى في هذه الليلة لسبع ساعات مضت منها، وهي ليلة الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الأولى سنة سبع، فلمَّا أتى باذان الكتاب قال: إنْ كان نبيًّا سيكون كما قال، فسلَّط الله عليه ابنه شيرويه، فقتله في اليوم الذي قال رسول الله عليه السلام، فلمَّا بلغ باذان بعث بإسلامه وإسلام مَن معه من الفرس، وتمامه في «عمدة القاري».
وفي الحديث جواز الكتابة بالعلم إلى البلدان، وجواز الدعاء على الكفار، ووجه الدلالة من الحديث: أنَّه عليه السلام لم يقرأ الكتاب على رسوله، ولكن ناوله إيَّاه، وأجاز له أنْ يُسند ما فيه عنه.
==================
(1/127)
[حديث: كتب النبي كتابًا فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا]
65# وبه قال: (حدثنا محمد بن مُقاتل) بصيغة الفاعل من المقاتلة بالقاف والمثناة الفوقية، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين، وفي رواية: (أبو الحسن المروزي)، (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا)، (عبد الله)؛ أي: ابن المبارك؛ لأنَّه إذا أُطلق (عبد الله) فيمَن بعدَ الصحابة؛ فالمراد هو، كما أنَّه إذا أُطلق الإمام الأعظم؛ فالمراد به أبو حنيفة، التابعي الجليل، رئيس المجتهدين رضي الله عنه.
(قال: أخبرنا شُعبة)؛ هو ابن الحَجَّاج، (عن قَتادة) بن دِعامة السدوسي، (عن أنس بن مالك)، وسقط (ابن مالك) في رواية، رضي الله عنه، (قال: كتب النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: كتب الكاتب بأمره، وقيل: إنَّه عليه السلام كتب بيده الشريفة، وسيأتي تحقيقه، (كتابًا) مفعول (كتب)؛ لأنَّه اسم لا مصدر؛ أي: إلى العجم أو إلى الروم، كما صرح بهما المؤلف في (كتاب اللباس)، (أو أراد أن يكتب) شكٌّ من الراوي أنس؛ أي: أراد الكتابة، فـ (أنْ) مصدريَّة، (فقيل له) عليه السلام (إنَّهم)؛ أي: الروم أو العجم (لا يقرؤون كتابًا إلَّا مختومًا)؛ خوفًا من كشف أسرارهم، و (مختومًا) نُصب على الاستثناء؛ لأنَّه من كلام غير موجب، (فاتخذ) عليه السلام (خاتمًا مِن فِضَّة) مفعول (اتخذ)، و (مِن)؛ بكسر الميم؛ بيانيَّة، و (الفاء) مكسورة، (نقْشُه)؛ بسكون القاف: مبتدأ، (محمَّدٌ رسولُ الله) جملة اسمية من المبتدأ والخبر؛ خبر المبتدأ الأول، والرابط كون الخبر عين المبتدأ، كأنَّه قيل: نقْشُه هذا المذكور.
ونقل الشيخ الإمام علاء الدين في «شرحي التنوير والملتقى»: أنَّ نقش خاتمه عليه السلام كان ثلاثة أسطر، لفظ الجلالة أعلاه، وتحتها (محمد)، وتحته (رسول)، اهـ؛ فليحفظ، وانظر الهامش.
الله
محمد
رسول
(كأني أنظر إلى بياضه) وأصل (كأنَّ) للتشبيه، ولكنها هنا للتحقيق، ذكره الكوفيون والزجاج، ومع هذا لا تخلو عن معنى التشبيه، والجملة محلها رفع خبر (كأنَّ)، حال كونه (في يده) الشريفة، وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، فإنَّ الخاتم ليس في اليد؛ بل في إصبعها، وفيه القلب؛ لأنَّ الإصبع في الخاتم، لا الخاتم في الإصبع، كذا قرره في «عمدة القاري».
قال شعبة (فقلت لقَتادة) بن دِعامة: (مَن قال) جملة اسمية، و (من) استفهامية، (نقشه محمد رسول الله) مقول القول، (قال: أنسٌ) قاله.
وفي الحديث جواز كتابة العلم إلى البلدان، وجواز الكتاب إلى الكفار، وختم الكتاب للسلطان، والقضاة، والحكام، والنُّظَّار، وفيه جواز استعمال خاتم الفِضَّة للرجال، قال القاضي عياض: وهو بالإجماع، وأجمعوا على تحريم لبس خاتم الذهب للرجال، وشَذَّ قول ابن حزم؛ حيث أباحه، وبعضهم كرهه، قال النووي: هذان القولان باطلان.
وفيه جواز نقش الخاتم، ونقش اسم صاحبه، ونقش اسم الله فيه؛ بل فيه كونه مندوبًا، وهو قول أئمتنا الأعلام ومالك وغيرهم، ولكن يجعله في كمه أو بيمينه إذا دخل الخلاء أو استنجى.
وكان نقشُ خاتم الصديق الأكبر: نعم القادر الله، وعمر: كفى بالموت واعظًا، وعثمان: ليصبرن أو لتندم، والصديق الأصغر: الملك لله، وخاتم إمامنا الإمام الأعظم: قل الخير وإلَّا فاسكت، مقتبس من قوله عليه السلام: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيرًا وإلَّا فيسكت»، وخاتم الإمام أبي يوسف: مَن عمل برأيه؛ فقد ندم، والإمام محمد: من صبر ظَفِر؛ بفتح الظاء المعجمة وكسر الفاء، كذا في «شرح الملتقى» للإمام الشيخ علاء الدين المفتي بدمشق الشام، والإمام والخطيب بجامعها جامع بني أمية، جعله عمارًا إلى قيام الساعة.
==========
%ص 44%
==================
(1/128)
(8) [باب من قعد حيث ينتهي به المجلس]
هذا (باب) حكم (مَن) موصولة، وجملة (قعد) صلتها، (حيث) بالبناء على الضم منصوب على الظرفية المكانية، (ينتهي به المجلس) فاعل، (ومَن رأى فرجة) عطف على (مَن قعد)؛ بضم الفاء وفتحها لغتان، وهي الخلل بين الشيئين، وفُرِّق بينهما: فالضم: اسم للخلل بين الشيئين، والفتح: للتفصي من الهمِّ.
(في الحلقة)؛ بسكون اللام وفتحها، والأول أشهر، والثاني استعمال العوام، وهي كلُّ مستدير خالي الوسط، والجمع حَلَق؛ بفتح الحاء واللام، (فجلس فيها)؛ أي: في الفرجة، وفي رواية: (إليها)، وإنَّما قال: (في الحلقة) ولم يقل: في المجلس؛ ليطابق لفظ الحديث، وقال في الأول: (به المجلس)؛ لأنَّ الحكم فيهما واحد.
==========
%ص 44%
==================
(1/129)
[حديث: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة]
66# وبه قال: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس المدني، (قال: حدثني) بالإفراد، (مالك) الإمام، (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري البخاري، ابن أخ أنس لأمه، التابعي المتوفى سنة اثنتين وثلاثين ومئة.
(أن أبا مُرَّة)؛ بضم الميم وتشديد الراء، اسمه: يزيد، (مولى عقيل)؛ بفتح العين، (بن أبي طالب)، وقيل: مولى أخيه علي، وقيل: مولى أختهما أم هانئ، (أخبره عن أبي واقد)؛ بالقاف المكسورة والدال المهملة، اسمه: الحارث بن عوف أو الحارث بن مالك، أو عوف بن الحارث والأول أصح، الصحابي (الليثي)؛ بالمثلثة، البدري في قول، المتوفى بمكة سنة ثمان وستين، وصرَّح أبو مُرَّة عند النسائي فقال: (عن أبي مُرَّة: أنَّ أبا العالية واقد حدَّثه) (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما) أصله: (بين) زيدت فيه لفظة (ما)، وهو من الظروف التي لزمت إضافتها إلى الجملة، وفي رواية: (بينا) بدون (ما) وأصلها: (بين)، فأشبعت فتحة النون بالألف، والعامل فيه معنى المفاجأة (هو) مبتدأ، خبره (جالس) حال كونه (في المسجد) النبوي، (والناس معه) جملة حالية، (إذ أقبل) جواب (بينما)، وقدَّمنا: أنَّ الأصمعيَّ لا يستفصح مجيء (إذ) و (إذا) في جواب (بين)، (ثلاثة) فاعل (أقبل)، (نفر) بالتحريك؛ عدة رجال، من الثلاثة إلى العشرة، والمراد: ثلاثة رجال من الطريق، فدخلوا المسجد كما في حديث أنس: (فإذا ثلاثةُ نفرٍ مارين)، ولم يتعرف أسماؤهم ولا واحدًا.
(فأقبل اثنان) منهم (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد) منهم، (قال: فوقفا على) مجلس (رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: اشترفا عليه، وقال ابن حجر: (على) بمعنى (عند)، وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّها لم تجئ بمعناها؛ فليحفظ، وفي رواية: (فلما وقفا سلما).
(فأمَّا)؛ بفتح الهمزة وتشديد الميم: تفصيليَّة، (أحدهما) بالرفع مبتدأ، خبره قوله: (فرأى فُرجة)؛ بضم الفاء، (في الحلقة فجلس فيها) وأتى بالفاء في (فرأى)؛ لتضمُّن (أمَّا) معنى الشرط، وفي رواية: (فَرجة)؛ بفتح الفاء، كما مرَّ.
(وأمَّا الآخَر)؛ بفتح الخاء؛ أي: الثاني، (فجلس خلفَهم) بالنصب على الظرفية، لعلَّه لم يجد فرجة؛ فتأمَّل، (وأمَّا الثالث؛ فأدبر) من الإدبار؛ أي: التولِّي، حال كونه (ذاهبًا)؛ أي: أدبر مستمرًا في ذهابه ولم يرجع.
(فلمَّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم) مِن حديثه، (قال: ألَا)؛ بالتخفيف حرف تنبيه، ويَحتمل أنْ تكون (الهمزة) للاستفهام و (لا) للنفي، (أُخبِرُكم عنِ النفر الثلاثة)، فقالوا: أخبرنا عنهم يا رسول الله، فقال: (أمَّا)؛ بالتشديد للتفصيل، (أحدُهم فآوى) بهمزة مقصورة؛ أي: لجأ، (إلى الله تعالى)، أو دخل مجلس رسول الله عليه السلام (فآواه)؛ بالمد، (الله إليه)؛ أي: جازاه بنظير فِعْله، بأنْ جعله في رحمته ورضوانه، أو يؤويه يوم القيامة إلى ظِلِّ عرشه، فنسبة الإيواء إلى الله
%ص 44%
تعالى مجازٌ؛ لاستحالته في حقِّه تعالى، فالمراد لازِمُه، وهو إرادة إيصال الخير، ويسمَّى هذا المجاز: مشاكلةٌ ومقابلةٌ.
(وأمَّا الآخَر)؛ بفتح الخاء، (فاستحى)؛ أي ترك المزاحمة؛ حياءً من رسول الله عليه السلام ومن أصحابه، وعند الحاكم: ومضى الثاني قليلًا ثم جاء فجلس، قال في «عمدة القاري»: معناه: استحى مِنَ الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث، اهـ؛ فليحفظ.
(فاستحيى اللهُ منه)؛ أي: جازاه بمثل فعله؛ بأنْ رحمه ولم يعاقبه، وهذا أيضًا من قبيل المشاكلة؛ لأنَّ الحياء تغيُّرٌ وانكسارٌ يَعتري الإنسان مِن خوفِ ما يُذَمُّ به، وهذا محالٌ على الخالق تبارك وتعالى، فيكون مَجازًا عن ترك العقاب للاستحياء، فيكون هذا من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، كما في «عمدة القاري».
(وأمَّا الآخَر)؛ أي: الثالث، (فأعرض) عن مجلس النبي الأعظم عليه السلام ولم يلتفت إليه؛ بل ولَّى مُدبرًا، (فأعرض الله عنه)؛ أي: جازاه؛ بأنْ سخط عليه، وهذا أيضًا من باب المشاكلة؛ لأنَّ الإعراض: هو التفات إلى جهة أخرى، وذاك لا يليق في حقِّ الله تعالى، فيكون مَجازًا عن السُّخط والغضب، المجاز عن إرادة الانتقام.
والمراد في مثل هذه الإطلاقات: غاياتها ولوازمها، والعلاقة بين الحقيقي والمجازي اللزوم، والقرينة الصارفة هو العقل، وفي رواية: («وأمَّا الآخَر؛ فاستغنى فاستغنى الله عنه»)، ويَحتمل أنَّه كان منافقًا، فاطلع النبي الأعظم عليه السلام عليه وعلى حاله وأمْره، وتمامُه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
وفي الحديث الثناءُ على مَن زاحم في طلب الخير، وجوازُ التخطِّي لسَدِّ الخلل ما لم يؤذ [1]، وأنَّ مَن سبق إلى موضع من المسجد فهو أحقُّ به، وأنَّ من الأدب أن يجلس حيث ينتهي به المجلس، وأنَّ الإنسان إذا فعل قبيحًا؛ جاز أن يُنسب إليه، وأنَّ مَن أعرض عن مجالسة العلماء؛ فإنَّ اللهَ يُعرض عنه، وفيه استحبابُ التحلُّقِ للعلم والذِّكر وغير ذلك، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يؤذي).
==================
(1/130)
(9) [باب قول النبي: رب مبلغ أوعى من سامع]
هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: رُبَّ مُبَلَّغٍ) _بفتح اللام فقط_ إليه عني يكونُ (أوعى)؛ أي: أفهم لما أقوله، (مِن سامعٍ) منِّي، و (قَوْلِ) مجرورٌ بالإضافة، و (رُبَّ) حرفُ جرٍّ يُفيد التقليل، لكنَّه كثُر استعماله في التكثير؛ بحيث غلب حتى صارت كأنَّها حقيقة فيه.
وقال الكوفيُّون: إنَّها اسم، وتنفرد (رُبَّ) عن أحرف الجرِّ بوجوب تصديرها وتنكير مجرورها ونعته إن كان ظاهرًا، وغلبةِ حذف معدَّاها ومضيه، وبزيادتها في الإعراب دون المعنى، ومحلُّ مجرورها رفعٌ على الابتداء، نحو قوله هنا: (رُبَّ مُبَلَّغٍ)، فإنَّه وإنْ كان مجرورًا بالإضافة لكنَّه مرفوعُ المحل على الابتداء، وخبره (يكون) المقدَّر، و (أوعى) صفة للمجرور، وأمَّا نحو: رُبَّ رجلٍ لقيت؛ فنصب على المفعولية، وفي نحو: رُبَّ رجل صالح لقيت؛ رفع أو نصب، وعلى مذهب الكوفيِّين: أنَّ (رُبَّ مُبَلَّغٍ)؛ كلامٌ إضافي مبتدأٌ، وقوله: (أوعى مِنْ سامعٍ) خبرُه.
وفي (رُبَّ) ستةَ عشَرَ لغةً: ضمُّ الراء وفتحُها وكلاهما مع التشديد والتخفيف، وهذه الأربعة مع تاء التأنيث الساكنة، أو محرَّكة، ومع التجرُّد منها، فهذه اثنتي عشرة، والضمُّ والفتحُ مع إسكان الباء، وضمُّ الحرفين مع التشديد ومع التخفيف، أفاده في «عمدة القاري».
==========
%ص 45%
==================
(1/131)
[حديث: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام]
67# وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد) هو ابن مُسرهِد، (قال: حدثنا بِشْر)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة، ابن الفضل بن لاحق الرقاشي البصري، أبو إسماعيل الذي كان يصلي كل يوم أربعمئة ركعة، ويصوم يومًا ويفطر يومًا، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة.
(قال: حدثنا ابن عون)؛ بالنون: عبد الله بن أرطبان البصري، مولى عبد الله بن مغفل الصحابي الذي قال في حقِّه خارجة: (صحبت ابن عون أربعًا وعشرين سنة، فما أعلم أنَّ الملائكة كتبت عليه خطيئة)، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة، وقيل: سنة خمسين ومئة.
(عن ابن سيرين)؛ هو محمد، (عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة) نُفَيع؛ بضم النون وفتح الفاء، ابن الحارث، أبو عمرو الثقفي البصري، أول مولود ولد في الإسلام بالبصرة، المتوفى سنة ست وتسعين، (عن أبيه) أبي بَكْرة نُفَيع بن الحارث، (ذَكَرَ)؛ أي: أبو بَكْرة؛ أي: أنَّه كان يُحدِّثهم فذكر، (النبيَّ) الأعظم، بالنصب مفعول (ذكر)، (صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم)، وفي أخرى: (ذُكِر_ بضمِّ أوله وكسر ثانيه_ النبيُّ صلى الله عليه وسلم) بالرفع نائبٌ عن الفاعل؛ أي: قال أبو بَكْرة حال كونه قد ذكر النبي عليه السلام، وفي «النسائي» قال: (وذكر) بالواو، إمَّا للحال أو للعطف، على أن يكون المعطوف عليه محذوفًا، أفاده في «عمدة القاري».
(قعد) عليه السلام (على بعيره) بمِنى يوم النَّحْر في حجة الوداع، وإنَّما قعد عليه وورد النهي عن اتخاذ ظهورها منابر؛ لأجل الحاجة إلى إسماع الناس، والنهي محمول على ما إذا لم تدعُ الحاجة إليه، على أنَّه عليه السلام هو المشرِّع، فلا يبعد أن يكون فعله ناسخًا للنهي؛ فليحفظ.
(وأمسك إنسان بخطامه)؛ بكسر الخاء، (أو بزمامه) وهما بمعنى واحد، وهو الخيط الذي يُشد فيه البُرَة؛ بضم الموحدة وفتح الراء؛ حلقة من صفر تُجعل في لحم أنف البعير، وقال الأصمعي: يُجعل في أحد جانبي المنخرين، والشكُّ من الراوي، قيل: الممسك هنا أبو بَكْرة؛ لرواية الإسماعيلي عنه: (وأمسكت أنا بخطامها [1] أو زمامها)، وقيل: بلال؛ لرواية النسائي عن أم الحصين قالت: (حججتُ فرأيتُ بلالًا يقود بخطام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم)، وقيل: عمرو بن خارجة؛ لما في السنن عنه قال: (كنتُ آخذُ بزمام ناقته عليه السلام).
قلت: ورجَّح الشيخ الإمام بدر الدين العيني أنَّ الممسك هو عمرو بن خارجة؛ لأنَّه أخبر عن نفسه، قلت: ويَحتمل تعدُّد الإمساك بأنْ مسك هذا حصة، وهذا أخرى، وهذا أخرى، وكلُّ مَن رأى الممسك أخبر عنه، وإنَّما أمسك؛ لصون البعير عن الاضطراب والتشويش على راكبه عليه السلام.
(ثم قال) عليه السلام، وفي رواية: (فقال)، (أيُّ يوم هذا؟) برفع (أيُّ)، والجملة وقعت مقول القول، (فسكتنا) عطف على (قال)، (حتى) بمعنى (إلى)، (ظنَّنا أنَّه سيسميه سوى اسمه)؛ بفتح همزة (أنَّه) في محلِّ نصب على المفعوليَّة.
(قال: أليس) فالهمزة ليست للاستفهام الحقيقي؛ بل لنفي ما بعدها، وما بعدها منفي، فيكون إثباتًا؛ لأنَّ نفي النفي إثبات، فيكون المعنى: هو (يوم النحر) كما في قوله: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؛ أي: الله كاف عبده.
(قلنا) وفي رواية: (فقلنا)، (بلى) حرف يختصُّ بالنفي ويفيد إبطالَه، وهو هنا مقول القول أُقيم مُقام الجملة التي هي مقول القول، (قال) عليه السلام (فأيُّ شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظنَّنا أنَّه)؛ بفتح الهمزة، (سيسمِّيه) أتى بالسين؛ للتوكيد، (بغير اسمه) المعلوم، (فقال) عليه السلام، وفي رواية: (قال): (أليس بذي الحجة؟)؛ بكسر الحاء المهملة وفتحها والكسر أفصح، وكذا ذو القعدة؛ بكسر القاف.
(قلنا: بلى)، وسقط في رواية السؤال عن الشهر والجواب الذي قبله، فقال: (أيُّ يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظنَّنا أنَّه سيسميه سوى اسمه، قال: أليس بذي الحجة؟)، فهو من إطلاق الكلِّ على البعض، وفي رواية: (فأيُّ بلد هذا؟ فسكتنا حتى ظنَّنا أنَّه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بمكَّة؟)، وفي رواية بالسؤال عن الشهر والجواب الذي قبله مع السؤال عن البلد، وهذه الثلاثة ثابتةٌ عند المؤلف في (الأضاحي) و (الحج)، كما بسطه هنا في «عمدة القاري».
(قال) عليه السلام (فإنَّ دماءكم)؛ أي: سفك دمائكم بغير حق، (وأموالكم)؛ أي: أخذها بغير حق، (وأعراضَكم) جمع عِرْض؛ بكسر العين: موضعُ المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه، أو أصله، أو فرعه؛ أي: ثلب أعراضكم بغير حق (بينكم حرام) خبر (إنَّ) مرفوع، (كحرمة يومكم هذا)؛ هو يوم النحر، (في شهركم هذا)؛ هو ذو الحجة، (في بلدكم هذا)؛ هي مكة المكرمة، وإنَّما شبه الثلاثة بالثلاثة؛ لاشتهار الحرمة فيها عندهم، بخلاف الأموال، والدماء، والأعراض؛ فإنَّهم في الجاهلية كانوا يستبيحونها، وما قاله ابن حجر ردَّه في «عمدة القاري».
(ليبلغِ)؛ بكسر الغين المعجمة؛ لأنَّه أمرٌ، ولكنَّه لما وصل بما بعده حرك بالكسر؛ لأنَّه الأصل، (الشاهد)؛ أي: الحاضر في المجلس، (الغائب) عنه، والمراد: إمَّا تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام.
(فإن الشاهد عسى أن يبلِّغَ) في محلِّ رفع خبر (إنَّ)، (مَنْ)؛ أي: الذي، (هو أوعى)؛ أي: أفهم، (له)؛ أي: للحديث، (منه) صلة لأفعل التفضيل، أعني قوله: (أوعى)، وإنَّما فصل بينهما بقوله: (له)؛ لأنَّ الظروف يُتوسَّع فيها ما لا يُتوسَّع في غيرها.
ويؤخذ من الحديث وجوبُ تبليغ العلم على العالم، وأنَّ حامل الحديث يجوز الأخذ عنه وإن كان جاهلًا بمعناه، وجوازُ القعود على ظهر الدواب، كما مرَّ، وأنَّ الخطبة تكون على موضع عالٍ، ومساواةُ المال والدموالعرض في الحرمة، وفيه الحث على التأدُّب مع الكبير؛ حيث يسألهم فيقولون: اللهُ ورسولُه أعلم، رضي الله عنهم أجمعين.
%ص 45%
==========
[1] في الأصل: (بخضامها).
==================
(1/132)
(10) [باب العلم قبل القول والعمل]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط في رواية، (العلم قبل القول والعمل) يعني: أنَّ الشيء يُعلم أولًا ثم يُقال ويُعمل به، فالعلم مقدَّم عليهما بالذات وبالشرف؛ لأنَّه عمل القلب، وهو أشرف أعضاء البدن، (لقول الله تعالى)، وللأصيلي: (عزَّ وجلَّ): ({فَاعْلَمْ})؛ أي: يا محمد، ({أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} [محمد: 19] فبدأ) الله تعالى (بالعلم) أولًا ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، وهو قول وعمل، والخطاب وإن كان للنبي الأعظم عليه السلام، لكنَّه عامٌّ متناولٌ لأمَّته، والأمر للدوام، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} [الأحزاب: 1]؛ أي: دُمْ على التقوى.
(وأنَّ العلماء) يجوز في (أنَّ) فتح همزتها عطفًا على سابقه وكسرُها على الحكاية، (هم ورثة الأنبياء) عليهم السلام؛ أي: مسميين بذلك، لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا [1] مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]؛ أي: وهم العلماء (وَرَّثوا)؛ بفتح الواو مع تشديد الراء المفتوحة؛ أي: الأنبياء، أو بفتح الواو مع كسر الراء المخففة؛ أي: العلماء، ويجوز ضم الواو وتشديد الراء المكسورة أيضًا؛ أي: العلماء، وما قاله ابن حجر فليس بصحيح، كما نبَّه عليه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(العلم، مَن أخذه أخذ) من ميراث النبوة (بحظ)؛ أي: نصيبٍ (وافر)؛ أي: كثير كامل، وهذا قطعة من حديث أخرجه الترمذي، وابن حبان، والحاكم من حديث أبي الدرداء: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا؛ سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضًىلطالب العلم، وإنَّ العالم تستغفر له مَن في السماوات ومَن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنَّما ورثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافر» اهـ، وتُكُلِّم في سنده كما هو مبسوطٌ في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(ومن سلك طريقًا) حال كونه (يطلب به)؛ أي: السالك، على حدِّ {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، (علمًا) نكَّره؛ ليتناول العلوم الدينية، وليشمل الكثير والقليل، (سهَّل الله له طريقًا)؛ أي: في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفِّقَه للأعمال الصالحة الموصلة (إلى الجنة)، أو هو بشارة بتسهيل العلم على طالبه؛ لأنَّ طلبه موصل إلى الجنة.
وفي «مسند الفردوس» بسنده إلى سعيد بن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا طالب العلم؛ فإنَّه متعوب البدن، لولا أنَّه يأخذ بالعجب؛ لصافحته الملائكة معاينة، ولكن يأخذ بالعجب ويريد أن يقهر مَن هو أعلم منه).
وهذه الجملة التي ساقها المؤلف أخرجها مسلم من حديث الأعمش، عن أبي صالح، والترمذي، وقال: حسن، ولم يقل: صحيح؛ لتدليس الأعمش، لكن في رواية مسلم عن الأعمش: (حدثنا أبو صالح)، فانتفت تهَمة تدليسه، كما بسطه في «عمدة القاري».
(وقال) الله (جلَّ ذكره)، وفي رواية: (جلَّ وعزَّ): ({إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ})؛ أي: يخافه، ({مِنْ عِبَادِهِ})؛ أي: من علم قدرته وسلطانه، ({العُلَمَاءُ} [فاطر: 28])، قاله ابن عباس، وقرئ: برفع الجلالة ونصب {العُلَمَاءُ}، وهي قراءة الإمام الأعظم وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما؛ لأنَّ الخشية فيها تكون استعارة، والمعنى: إنَّما يُجِلُّهم ويعظِّمُهم.
ومن لوازم الخشية التعظيم، فيكون من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، فإن قلت: خشية الله مقصورة على العلماء بقضية كلام هذه الآية، وقد ذكر الله أيضًا: أنَّ الجنة لمن يخشى وهو: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]، فيلزم من ذلك ألَّا تكون الجنةُ إلَّا للعلماء خاصَّةً.
أجاب شيخ الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأنَّ المراد من العلماء الموحِّدون، وأنَّ الجنة ليست إلَّا للموحدين الذين يخشون الله تعالى؛ أي: يخافونه [2]، ومَنِ ازداد علمًا؛ ازدادَ مِنَ الله خوفًا، وفي الحديث: «أعلمُكم بالله أشدُّكم له خشيةً»، وقال عليه السلام أيضًا: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له».
(وقال) الله تعالى: ({وَمَا يَعْقِلُهَا})؛ أي: الأمثال المضروبة، ({إِلَّا العَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]) الذين يعقلون عن الله تعالى، وروى جابر: أنَّ النبي الأعظم قرأ هذه الآية قال: «العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه»، ({وَقَالُوا})؛ أي: الكفَّار حين دخولهم النار: ({لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ}) الإنذار سماع قبول للحق، وإنَّما حذف المفعول؛ لأنَّه كالفعل اللازم، ({أَوْ نَعْقِلُ}) كلامَ الرسل عقلَ متأملين، ({مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11])؛ أي: في جملتهم في النار، والمراد من (العقل) هنا: العلم؛ لأنَّهم تمنَّوا أن لو كان لهم عقل؛ لما دخلوا النار، وروى أبو سعيد الخدري مرفوعًا: «أنَّ لكل شيء دِعامة، ودِعامة المؤمن عقلُه، فبقدر ما يعقل يعبد ربَّه، ولقد ندم الفجار يوم القيامة فقالوا: {لَوْ كُنَّا ... }؛ الآية».
وروى أنس مرفوعًا: «أنَّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنَّما يرتفع العباد غدًا في الدرجات وينالون الزلفى من ربِّهم على قدر عقولهم».
(وقال) الله تعالى: {قُلْ} ({هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]) نفى المساواة بين العلم والجهل، فيقتضي نفي المساواة أيضًا بين العالم والجاهل، وفيه مدح للعلم وذم الجهل.
(وقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) فيما أخرجه ابن أبي عاصم بهذا اللفظ في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن أبيه مرفوعًا بإسناد حسن، ووصله المؤلف بعد بابين (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)، وفي رواية: (يفهِّمه)؛ بالهاء المشددة المكسورة بعدها ميم، فالفقه لغة: الفهم، قال تعالى: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 28]؛ أي: يفهموا، ثم خص به علم الشريعة، والعالم به يسمى فقيهًا، («وإنما العلم بالتعَلُّم»)؛ بفتح العين وتشديد اللام المضمومة، وفي رواية: (بالتعلِيم) بكسر اللام وبالمثناة التحتية.
وليس هذا من كلام المؤلف، كما قاله الكرماني؛ بل هو حديث أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية، ولفظه: «يا أيها الناس؛ تعلموا العلم، إنَّما العلم بالتعلُّم، والفقه بالتفقه، ومَنْ يردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين» إسناده حسن، ورواه أبو نعيم من حديث أبي الدرداء، ولفظه: «إنَّما العلم بالتعلُّم، وإنَّما الحلم بالتحلُّم، ومَن يتحرَّ الخير؛ يعطَه»؛ فافهم.
(وقال أبو ذر) جندب بن جنادة الغفاري فيما وصله الدارمي في «مسنده» وغيره من حديث أبي مرثد، كما بسطه في «عمدة القاري»، وذلك لما قال له رجل والناس مجتمعون عليه عند الجمرة الوسطى يستفتونه: ألم تُنهَ عن الفُتيا؟ وكان الذي منعه عثمان؛ لاختلافٍ حصل بينه وبين معاوية بالشام في تأويل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصَّةً، وقال أبو ذرٍّ: نزلت فينا وفيهم، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذرٍّ، وحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذرٍّ عن المدينة إلى الرَّبَذَة؛ بفتح الراء المهملة، والباء الموحدة، والذال المعجمة، إلى أن مات: (أرقيبٌ أنت عليَّ؟) (لو وضعتم الصمصامة)؛ بالمهملتين، الأولى مفتوحة؛ أي: السيف الصارم الذي لا ينثني، أو الذي له حدٌّ واحد، (على هذه، وأشار) بقوله: (هذه) (إلى قفاه)، وفي رواية: (إلى القفا) وهو مقصور: مؤخَّرُ العنق، يُذَكَّر ويؤنَّث، (ثم ظننت أنَّي أُنْفِذ)؛ بضم الهمزة، وكسر الفاء، آخره معجمة؛ أي: أقدر على إنفاذ، (كلمة)؛ أي: تبليغها، (سمعتها من النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم قبل أن تُجِيزوا)؛ بضم المثناة فوق، وكسر الجيم، وبعد التحتية زاي معجمة، الصمصامة (عليَّ)؛ أي: على قفاي؛ أي: قبل أن تقطعوا رأسي، (لأنفذتها)؛ بفتح الهمزة والفاء وإسكان الذال المعجمة، وإنَّما فعل أبو ذرٍّ هذا؛ حرصًا على تعليم العلم لطلب الثواب، ولأمر النبي عليه السلام بالتبليغ عنه، وللوعيد في حقِّ الكتمان.
وزاد في رواية: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد الغائب») وتقدم قريبًا، وفيه دليل على أنَّ أبا ذرٍّ كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا، و (لو) هنا لمجرَّد الشرط كـ (إن) من غير ملاحظة الامتناع، أو المراد: أنَّ الإنفاذ حاصل على تقدير الوضع، فعلى تقدير عدم الوضع حصولُه أولى، كقوله: نِعْمَ العبد صهيب لو لم يخفِ الله؛ لم يعصه.
وفيه جواز الشِّدَّة وتحمُّل الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويباح له أن يسكت إذا خاف الأذى، كما قال أبو هريرة: (لو حدثتكم بكل ما في جوفي؛ لرميتموني بالبعر)، قال الحسن: صدق، وأراد بذلك ما يتعلَّق بالفتن ممَّا لا يتعلَّق بذكره مصلحةٌ شرعية، وإلَّا لما كتمه، وسيأتي في محلِّه، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
(وقال ابن عباس) رضي الله عنهمافيما وصله ابن أبي عاصم والخطيب بإسناد حسن، ({كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 89])؛ أي (حلماء) جمع حليم؛ باللام وضم الحاء المهملة؛ وهو الطمأنينة عند الغضب، (فقهاء) جمع فقيه؛ وهو العالم بالأحكام الشرعيَّة العلميَّة من أدلتها التفصيليَّة، وفي رواية: (حكماء) جمع حكيم، وهي الفقه في الدين، وقيل: صحة القول، والعقد، والفعل، (علماء) جمع عالم، وهذا تفسيره.
وقال في «عمدة القاري»: (الرباني
%ص 46%
منسوب إلى الرب، وأصله: «ربي»، فزيدت فيه الألف والنون؛ للتأكيد والمبالغة في النسبة، العالي الدرجة في العلم بأن يكون عالمًا ومعلمًا، وإنَّما سمِّي العلماء ربانيين؛ لأنَّهم يربون العلم؛ أي: يقومون به)، وتمامه فيه.
وقال المؤلف حكاية عن بعضهم: (ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره)؛ أي: بجزئيات العلم قبل كلياته، أو بفروعه قبل أصوله، أو بمقدماته قبل مقاصده، وإنَّما لم يذكرِ المؤلف حديثًا موصولًا في هذا الباب؛ إمَّا أنه لم يثبت عنده بشرطه أو اكتفى بما ذكره تعليقًا؛ لأنَّ المقصود من الباب بيان فضيلة العلم، ويُعلم ذلك من المذكور آية، وحديثًا، وإجماعًا سكوتيًا من الصحابةرضي الله عنه، وتمامه في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (اصطفيانهم).
[2] في الأصل: (يخافوه).
==================
[1] في الأصل: (اصطفيانهم).
[1] في الأصل: (اصطفيانهم).
(1/133)
(11) [باب ما كان النبي يتخولهم بالموعظة]
هذا (باب ما كان)؛ أي: باب كون، (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) فـ (الباب) مضاف إلى الجملة بعدَه، و (ما) مصدريَّة، (يتخولهم)؛ بالخاء المعجمة واللام؛ أي: يتعهدهم، والمراد: أصحابهرضي الله عنهم، (بالموعظة) بالنصح والتذكر بالعواقب، (والعلم) من عطف العام على الخاص، وذكره الموعظة؛ لكونها مذكورة في الحديث، وأمَّا العلم؛ فاستنباطًا، (كي لا يَنفِروا)؛ أي: لئلا يملُّوا عنه ويتباعدوا منه؛ بفتح المثناة التحتية وكسر الفاء.
==========
%ص 47%
==================
(1/134)
[حديث: كان النبي يتخولنا بالموعظة في الأيام]
68# وبه قال: (حدثنا محمد بن يوسف) بن واقد الفِريابي؛ بكسر الفاء، وسكون الراء بعدها مثناة تحتية وبعد الألف موحدة، نسبة إلى فِرياب؛ مدينة من نواحي بلْخ، أبو عبد الله الضَّبِّيُّ؛ بفتح الضاد المعجمة وتشديد الموحدة، المتوفى في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومئتين.
وقال الكرماني: هو محمد بن يوسف البيكنديُّ، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه وهم؛ لأنَّ المؤلف حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلَّا الفِريابي وإن كان يروي عنِ البيكندي؛ فليحفظ.
(قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا)، (سفيان) هو الثوري، (عن الأعمش) سليمان بن مهران، (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة الكوفي، وفي رواية: (أحمد عن الأعمش قال: سمعت شقيقًا)، وعند المؤلف في (الدعوات): (قال الأعمش: حدثنا شقيق)، فانتفت تهَمة تدليس الأعمش؛ فليحفظ.
(عن ابن مسعود) عبد الله رضي الله عنه أنَّه (قال: كان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا) جملة محلُّها النصب خبر (كان)؛ بالخاء المعجمة واللام؛ أي: يتعهدنا؛ أي: يراعي الأوقات في التذكير ولا يفعله كل يوم، وفي رواية: (يتخوننا) بالنون موضع اللام؛ أي: يتعهدنا، وفي رواية: (يتحولهم)؛ بالحاء المهملة؛ أي: يطلب أحوالهم التي ينشَطون فيها للموعظة، وصوَّبها أبو عمرو الشيباني، وتمامه في «عمدة القاري».
(بالموعظة في الأيام) صفة لـ (الموعظة)؛ أي: أنَّه يعظهم في أوقات معلومة، ولم يكن يستغرق الأوقات، (كراهةَ) بالنصب مفعول له؛ أي: لأجل كراهة (السآمة) بالمدِّ؛ أي: الملالة من الموعظة، (علينا)، وفي رواية: (كراهية) بزيادة مثناة تحتية، والجارُّ والمجرور إمَّا متعلِّق بـ (السآمة) على تضمين (السآمة) معنى المشقَّة؛ أي: كراهة المشقَّة علينا، وإمَّا صفة؛ أي: كراهة السآمة الطارئة علينا، وإمَّا حالٌ [1]؛ أي: كراهة السآمة حال كونها طارئة علينا، وإمَّا يتعلَّق بمحذوف؛ أي: كراهة السآمة شفقةً علينا، أفاده في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (حالًا)، وليس بصحيح.
%ص 47%
==================
(1/135)
[حديث: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا]
69# وبه قال: (حدثنا محمد بن بَشَّار)؛ بفتح الموحدة وتشديد المعجمة: ابن عثمان بن داود، أبو بكر الملقب ببُنْدار؛ بضم الموحدة، وإسكان النون، وبالدال المهملة: العبدي نسبة إلى عبد مضر بن كِلاب البصري، المتوفى في رجب سنة اثنتين وخمسين ومئتين عن خمس وثمانين سنة.
(قال: حدثنا يحيى) وفي رواية: (ابن سعيد)؛ أي: القطَّان الأحول، (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (قال: حدثني) بالإفراد، (أبو التَّيَّاح)؛ بفتح المثناة الفوقية، وتشديد المثناة التحتية، آخره مهملة: يزيد بن حُميد؛ بالتصغير، الضُّبَعي؛ بضم المعجمة وفتح الموحدة، نسبةً إلى ضُبَعة بن يزيد، المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة.
(عن أنس)؛ أي: ابن مالك، كما في رواية، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنَّه (قال: يسِّروا) أمرٌ من اليسر نقيض العسر؛ أي: سهل، والجملة مقول القول، (ولا تعسِّروا) نهيٌ، من عسَّر تعسيرًا، لا يقال: الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده؛ لأنَّ المقصود التصريح بما لزم ضمنًا للتأكيد، ولو اقتصر على (يسِّروا) وهو نكرة؛ لصدق ذلك على مَن يسَّرَ مرَّةً وعسَّرَ في معظم الحالات، فإذا قال: ولا تعسِّروا؛ انتفى التعسير في جميع الحالات من جميع الوجوه.
(وبشِّروا) أمرٌ مِن البشارة؛ وهي: الإخبار بالخير، نقيض النذارة؛ وهي: الإخبار بالشَّرِّ، (ولا تُنَفِّروا) نهيٌ مِن نفَّر بالتشديد؛ أي: بشِّروا المؤمنين أو الناس بفضل الله وسَعَة رحمته، ولا تُنَفِّروهم بذكر عِقابه وعذابه الأليم.
لا يقال: كان المناسبُ أن يقال بدل (ولا تُنَفِّروا): (ولا تُنْذِروا)؛ لأنَّ الإنذار نقيض التبشير لا التنفير؛ لأنَّا نقول: المقصود من الإنذار التنفير، فصرح بما هو المقصود منه.
لا يقال: إنَّه كان يقتصر على قوله: (ولا تعسِّروا ولا تُنفِّروا)؛ لأنَّا نقول بعموم [1] النكرة في سياق النفي؛ لأنَّه لا يلزم من عدم التعسير ثبوت التيسير، ولا من عدم التنفير ثبوت التبشير [2]، فجمع بين هذه الألفاظ؛ لثبوت هذه المعاني، ولأنَّ المحلَّ محلُ إطناب لا اختصار.
وبين (يسِّروا) وبين (بشِّروا) الجناس الخطي، والجناس بين اللفظين تشابههما في اللفظ، وهذا من الجناس التام المتشابه، وهو باب من أنواع البديع الذي يزيد في الكلام البليغ حُسْنًا وطلاقة، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (لعموم).
[2] في الأصل: (ولا من عدم التعسير ثبوت التيسير).
%ص 47%
==================
[1] في الأصل: (لعموم).
[1] في الأصل: (لعموم).
(1/136)
(12) [باب من جعل لأهل العلم أيامًا]
هذا (باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة) بالجمع في الأول والإفراد في الثاني، وفي رواية: بالجمع فيهما، وفي آخر: بالإفراد فيهما، و (باب) خبرٌ لمبتدأ محذوف ومضافٌ لما بعده.
==========
%ص 47%
==================
(1/137)
[حديث: كان عبد الله يذكر الناس كل خميس]
70# وبه قال: (حدثنا عثمان بن أبي شيبة) هو عثمان بن محمد بن إبراهيم ابن أبي شيبة بن خواستي؛ بضم المعجمة، وبعد الألف سين مهملة، ثم تاء مثناة فوقية: أبو الحسن العبسي الكوفي، المتوفى لثلاث بقين من المحرم سنة تسع وثلاثين ومئتين.
(قال: حدثنا جرير) بن عبد الحميد بن قرط بن هلال الضبي الكوفي، المتوفى سنة ثمان وثمانين ومئة، وقيل: سبع، (عن المنصور) بن المعتمر بن عبد الله، الممتنع من تولي القضاء، الصائم أربعين سنة مع قيام ليلها، المتوفى سنة ثلاث أو اثنين وثلاثين ومئة، وعمش من البكاء.
(عن أبي وائل) شقيق بن سلمة أنه (قال: كان عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، (يُذَكِّر الناس) جملةٌ محلها النصب خبر (كان)، (في كل) يوم (خميس، فقال له)؛ أي: لابن مسعود (رجل)، قال في «عمدة القاري»: إنَّه يزيد بن عبد الله النخعي: (يا أبا عبد الرحمن) هو كنية عبد الله بن مسعود، (لَوددتُ) اللام: جواب قسم محذوف؛ أي: والله لَأحببتُ، (أنَّك)؛ بفتح الهمزة؛ لأنَّه مفعول، (ذكَّرتنا) بتشديد الكاف، محلُّه الرفع خبر (أنَّ)، (كل يوم) منصوبٌ على الظرفية؛ أي: في كلِّ يوم، (قال) عبد الله: (أَمَا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف الميم: حرفُ استفتاح بمنزلة (أَلَا)، وتكثر قبل القسم، أو بمعنى: حقًّا، وما قاله الكرماني أنَّها حرف تنبيه ردَّه في «عمدة القاري»، (إنَّه)؛ بكسر الهمزة، والضمير فيه للشأن، أو بفتحها على أنَّ (أَمَا) بمعنى: حقًّا، (يمنعني) فعل ومفعول، (من ذلك)؛ أي: الذكر كل يوم، (أنِّي)؛ بفتح الهمزة: فاعل (يمنعني)، (أكره) جملةٌ محلها الرفع خبر (أنَّ)، (أنْ أُمِلَّكم)؛ بضم الهمزة، وكسر الميم، وتشديد اللام المفتوحة، و (أنْ) مصدريَّة؛ أي: أكره إملالكم وضجركم، (وإنِّي)؛ بكسر الهمزة، (أتخوَّلُكم)؛ بالخاء المعجمة، جملةٌ محلها الرفع خبر (إنَّ)؛ أي: أتعهدكم، (بالموعظة كما) الكاف: للتشبيه و (ما) مصدريَّة، (كان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا)؛ أي: يتعهدنا (بها)؛ أي: بالموعظة، (مخافةَ السآمة علينا) يتعلَّق بـ (المخافة) أو يتعلَّق بـ (السآمة)، وفيه من الاقتداء بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم والمحافظة على سنته.
==========
%ص 47%
==================
(1/138)
(13) [باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين]
هذا (باب) بالتنوين (مَن) موصولة؛ أي: الذي (يُرِدِ الله به خيرًا) بالنصب مفعول (يُرِد) المجزوم؛ لأنَّه فعل الشرط؛ لأنَّ الموصول متضمِّنٌ معنى الشرط، وكُسِرَ؛ لالتقاء الساكنين، وجواب الشرط (يفقهْه)؛ بسكون الهاء، (في الدين)، وفي رواية: سقط قوله: (في الدين).
والفقه لغةً: الفَهْم، يقال: فُقِه الرجل بالكسر: إذا فهم، وبالضم: إذا صار فقيهًا، ثم خُصَّ بعلم الشريعة؛ لأنَّه مستنبط من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، فيقال فيه اصطلاحًا: العلمُ بالأحكام الشرعيَّة العمليَّة من أدلتها التفصيليَّة.
==========
%ص 47%
==================
(1/139)
[حديث: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين]
71# وبه قال: (حدثنا سعيد بن عُفَير)؛ بضم
%ص 47%
العين المهملة، وفتح الفاء، وسكون المثناة التحتية، آخره راء، ابن كثير المصري، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا ابن وهب)؛ بسكون الهاء، واسمه عبد الله بن وهب بن مسلم المصري أبو محمد القرشي الفهري، المتوفى بمصر سنة سبع وتسعين ومئة، لأربع بقين من شعبان.
(عن يونس) بن يزيد الأيلي، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (قال: قال حُميد بن عبد الرحمن) بن عوف، وحاء (حُميد) مضمومة، وفي رواية: (حدثني_ بالإفراد_ حُميد بن عبد الرحمن قال): (سمعت معاوية) بن أبي سفيان، صخر بن حرب الأموي كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقبه كثيرة جمَّة، توفي في رجب سنة ستين عن ثمان وسبعين سنة؛ أي: سمعت قولَه حالَ كونِه (خطيبًا) حالَ كونِه (يقول: سمعت النبي) الأعظم، وفي رواية: (سمعت رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: كلامَه حالَ كونِه (يقول: مَن يُرِدِ الله) عزَّ وجلَّ؛ بضمِّ المثناة التحتية وكسر الراء، من الإرادة وهي صفة مخصِّصةٌ لأحد طرفي المقدور بالوقوع، (به خيرًا)؛ أي: جميع الخيرات، أو خيرًا عظيمًا، و (مَن) موصولة تتضمَّن معنى الشرط، و (يُرِد) فعل الشرط، وجزاؤه [1] قوله: (يفقهْه)؛ بسكون الهاء؛ أي: يجعله فقيهًا (في الدين) والفقه [2] لغةً: الفَهْم، ولا يناسب هنا إلَّا المعنى اللغوي؛ ليتناول فهم كلِّ علم من علوم الدين، وإنَّما نكَّر (خيرًا)؛ لفائدة التعميم؛ لأنَّ النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي فتعمُّ، والتنوين فيه للتعظيم، أو التنكير للتعظيم.
(وإنَّما أنا قاسم)؛ أي: أقسم بينكم بتبليغ الوحي، و (إنَّما) أداة حصر، و (أنا) مبتدأ، و (قاسم) خبرُه، وقوله: (والله يعطي) مبتدأ وخبره، والجملة: حال؛ أي: يعطي كل واحد منكم من الفهم على قدر ما تعلقت به إرادته تعالى، فالتفاوت في أفهامكم منه تعالى، وهنا كلام طويل يُطلب من «شرح الشيخ الإمام بدر الدين العيني» رحمه الله تعالى.
فإن قلت: الحصر بـ (إنَّما) مع أنَّه عليه السلام له صفات أخرى سوى قاسم.
أُجيب: بأنَّ هذا ورد ردًّا على مَن يعتقد أنَّه عليه السلام يعطي ويقسم، فلا ينفي إلَّا ما اعتقده السامع، لا كل صفة من الصفات، وفيه حذف المفعول.
(ولن تزال هذه الأمة قائمة) (لن): ناصبة للنفي، و (تزال): من الأفعال الناقصة، و (هذه الأمة) جملة اسمية: اسمُها، و (قائمة) بالنصب: خبرُها، (على أمر الله)؛ أي: على الدين الحق، (لا يضرهم من)؛ أي: الذي، (خالفهم حتى يأتي أمر الله) والجملة حال، و (حتى) غاية لقوله: (لن تزال).
أراد بهذا أنَّ أمَّتَه آخرُ الأمم وأنَّ عليها تقوم الساعة وإنْ ظهرتْ أشراطُها وضعف الدين، فلا بُدَّ أن يبقى من أُمَّتِه مَن يقوم به، وقوله عليه السلام: «لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحدٌ: الله الله»، وقوله: «لا تقوم الساعة إلَّا على أشرار الخلق» إنَّما ذلك عند القيامة، وبيانه ما جاء في حديث أبي أمامة أنَّه عليه السلام قال: «لن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم»، قيل: وأين هم يا رسول الله؟ قال: «ببيت المقدس أو أكناف بيت المقدس»، قال إمامنا الإمام الأعظم والإمام المؤلف: هم أهل العلم.
وفي الحديث: دلالة على حجة الإجماع، وفيه: فضل الفقه في الدين على سائر العلوم؛ لأنَّ عليه مدار الأحكام، وفيه: فضل العلماء على سائر الناس، وفيه: إخباره عليه السلام بالمغيَّبات، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (جزاءه).
[2] في الأصل: (والفهم).
==================
[1] في الأصل: (جزاءه).
[1] في الأصل: (جزاءه).
(1/140)
(14) [باب الفهم في العلم]
هذا (باب الفهم)؛ بسكون الهاء وفتحها لغتان، (في العلم)؛ أي: العقل والمعرفة، كذا فسَّره الليث، وفسَّر (الفهم) بالعلم ابن حجر والبِرماوي تبعًا للكرماني، وهو غير صحيح، كما بسطه الشيخ الإمام بدر الدين العيني رحمه الله تعالى؛ فليحفظ.
==========
%ص 48%
==================
(1/141)
[حديث: إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم]
72# وبه قال: (حدثنا علي) وفي رواية: (ابن عبد الله)؛ أي: المديني، المتوفى في ذي القعدة سنة أربع وثلاثين ومئتين، (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عُيينة، (قال: قال لي ابن أبي نَجيح)؛ بفتح النون: هو عبد الله بن يسار المكي، قيل: يُرمَى بالقدر، لكن وثَّقه أبو زرعة وغيره، المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومئة، وفي «مسند الحميدي»: (عن سفيان حدثني ابن أبي نَجيح)، (عن مجاهد) هو ابن جَبْر؛ بفتح الجيم وسكون الموحدة، وقيل: جُبير؛ بالتصغير، المخزومي الإمام المتفق على جلالته وتوثيقه، المتوفى سنة مئة، (قال: صحبت ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (إلى المدينة)؛ أي: مدينة النبي الأعظم عليه السلام، (فلم أسمعه) حال كونه (يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا حديثًا واحدًا) أراد به الحديث الذي بعده متصلًا به، (قال: كنا)، وفي رواية: بإسقاط لفظ (قال)، (عند النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) في مجلسٍ، (فأُتي)؛ بضم الهمزة، (بجُمَّار)؛ بضمِّ الجيم وتشديد الميم، وهو شحم النخيل.
(فقال) عليه السلام: (إنَّ من الشجر) كل ما له ساق من نبات الأرض، (شجرةً) بالنصب اسم (إنَّ)، وخبرُها الجار والمجرور، و (مِن) للتبعيض، (مَثَلها كمَثَل)؛ بفتح الميم والمثلثة فيهما؛ أي: صفُتها العجيبة كصفة (المسلم) في النفع، قال ابن عمر: (فأردتُ أن أقول) في جواب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حدثوني ما هي؟»، كما صرّح به في رواية، (هي النخلة) مبتدأٌ وخبرُه، والجملة مقول القول، (فإذا أنا أصغر القوم)، (ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان)، كما في رواية، (فسكتُّ)؛ بضمِّ التاء على صيغة المتكلِّم؛ تعظيمًا لهما.
(قال)، وفي رواية: (فقال)، (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) مبتدأ وخبره، والجملة مقول القول، ووجه المناسبة في الحديث للترجمة من كون ابن عمر لما ذَكر النبيُّ عليه السلام المسألة عند إحضار الجُمَّار إليه؛ فَهِم أنَّ المسؤول عنه النخلة، بقرينة الإتيان بجُمَّارها، وبقية [1] مباحثه تقدمت مرارًا؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (وبقيته).
%ص 48%
==================
(1/142)
(15) [باب الاغتباط في العلم والحكمة]
هذا (باب الاغتباط في العلم والحكمة) الاغتباط: افتعال من الغبطة، وهي: أن يتمنى مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها عنه، والحسد: أن يتمنى زوال ما فيه، والحكمة: معرفة الأشياء على ما هي عليه، فهي مرادفة للعلم، فالعطف عليه من باب العطف التفسيري.
(وقال عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه) فيما أخرجه أبو عمرو بإسناد صحيح من حديث ابن سيرين عن الأحنف عنه، وأخرجه الخوزي، وابن أبي شيبة، والبيهقي، كما بسطه في «عمدة القاري»: (تفقهوا قبل أن تُسَوَّدوا)؛ بضمِّ المثناة الفوقيَّة، وفتح السين المهملة، وتشديد الواو؛ أي: قبل أن تصيروا [1] سادة، وتعلموا العلم ما دُمتُم صغارًا قبل السيادة والرئاسة؛ لأنَّ مَن سوَّده الناس يستحي أن يَقعُد مقعد المتعلِّم؛ خوفًا على رئاسته عند العامة، فيبقى على جهله، وقيل: معناه: قبل أن تتزوَّجوا، وقيل: معناه: قبل أن تَسْوَدَّ لحيتكم، والمعنى الأول أعم، وتمامه في «عمدة القاري».
وفي رواية الكشميهني زاد قوله: (قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، وفي رواية: (قال محمد بن إسماعيل)؛ أي: المؤلف: (وبعد أن تُسَوَّدوا)؛ بضمِّ المثناة الفوقيَّة، وفتح السين المهملة، وتشديد الواو، عطف على قول عمر رضي الله عنه؛ أي: تفقهوا قبل أن تُسَوَّدوا وتفقهوا بعد أن تُسَوَّدوا؛ أي: بعد أن تصيروا سادةً كبارًا؛ لأنَّه لا يجوز ترك التفقه بعد السيادة إذا فاته قبلَها حتى يمضي عمره باشتغاله في العلم لينال الشهادة الواردة في الأحاديث الجمَّة.
ويدل لذلك أيضًا: أنَّ المؤلف أكَّد ذلك بقوله: (وقد تعلَّم أصحاب النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) العلم (في كبر سنهم)؛ لأنَّ الناس الذين آمنوا بالنبي عليه السلام وهم كبارٌ ما تفقَّهوا إلَّا في كبر سنهم، وما ذكره الكرماني وتبعه القسطلاني كلُّه تعسُّفٌ وخروجٌ عن مقصود المؤلف، مع ما فيه من التكلف الذي لا حاجة إليه، كما نبَّه عليه الشيخ الإمام بدر الدين العيني رضي الله تعالى عنه ونفعنا به في الدارين؛ فليحفظ.
==================
(1/143)
[حديث: لا حسد إلا في اثنتين]
73# وبه قال: (حدثنا الحُميدي)؛ بضم الحاء المهملة: أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عبس المكي، المتوفى سنة تسع عشرة ومئتين، (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عُيينة، (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع، (إسماعيل بن أبي خالد على غير ما)؛ أي: على غير اللفظ الذي، (حدَّثَناهُ الزهريُّ) محمد بن مسلم بن شهاب، المسوق روايته عند المؤلف في (التوحيد)، يعني: أنَّ ابن عُيينة ذكر أنَّ الزهريَّ حدَّثه بهذا الحديث بلفظ غير اللفظ الذي حدَّثه به إسماعيل، [و] (الزهريُّ) بالرفع فاعلُ (حدَّث)، و (نا) مفعولُه، والضمير يرجع إلى الحديث.
والغرض من هذا: الإشعارُ بأنَّه سمع ذلك من إسماعيل على وجهٍ غير الوجه الذي سمع من الزهري، إمَّا مغايرةً في اللفظ أو في الإسناد أو غير ذلك، وفائدته: التقوية والترجيح بتعداد الطرق، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الروايتين وما بينهما من التخالف
%ص 48%
في اللفظ.
(قال)؛ أي: إسماعيل بن [أبي] خالد، (سمعت قيس بن أبي حازم)؛ بالحاء المهملة والزاي، (قال: سمعت عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه؛ أي: كلامَه حالَ كونِه (قال: قال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: لا حسدَ)، فـ (لا) لنفي الجنس، و (حسد) اسمه مبني على الفتح، وخبرُه محذوف؛ أي: جائز، (إلَّا في اثنتين) بتاء التأنيث؛ أي: خصلتين، وللمؤلف: (اثنين) بغير تاء؛ أي: شيئين (رجلٌ) بالرفع على تقدير: إحدى الاثنتين خصلةُ رجلٍ، فلمَّا حذف المضاف اكتسب المضاف إليه إعرابَه، والنصب على إضمار (أعني رجلًا)، وهي رواية ابن ماجه، والجرُّ على أنَّه بدل من (اثنين) [1]، وعلى رواية (اثنتين) بالتاء؛ فهو بدل أيضًا على تقدير حذف المضاف؛ أي: خصلةُ رجلٍ؛ لأنَّ (اثنتين) معناه: خصلتين، كما مر، (آتاه الله) بالمدِّ؛ أي: أعطاه (مالًا) من الحلال (فسُلِّط) بضمِّ السين، وفي رواية: (فسلَّطه) بالهاء، وعبَّر بـ (سلَّط)؛ ليدُلَّ على قهر النفس المجبولة على الشُّحِّ (على هلَكَته) بفتح اللام والكاف؛ أي: إهلاكه (في الحق) لا في التبذير.
(ورجلٌ) بالأوجه الثلاثة (آتاه الله) بالمدِّ أيضًا؛ أي: أعطاه، (الحكمة)؛ أي: القرآن، كما في حديث أبي هريرة: «لا حسد إلَّا في اثنتين؛ رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو يهلكه_ وفي رواية: ينفقه_ في الحق»، (فهو يقضي بها) بين الناس، (ويعلمها) لهم، أطلق الحسد وأراد الغبطة، من باب إطلاق اسم المسبب على السبب، ومعنى الحسد هنا: شدة الحرص والرغبة، كنَّى بالحسد عنهما؛ لأنَّهما سببه والداعي إليه، ولهذا سماه المؤلف اغتباطًا، ويدُلُّ له ما ذكره المؤلف في (فضائل القرآن) من حديث أبي هريرة ولفظه: «فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل»، فلم يتمنَّ السلب، وإنَّما تمنَّى أن يكون مثلَه، وقد تمنَّى ذلك الصالحون والأخيار.
وفيه قول بأنَّه تخصيصٌ لإباحة نوع من الحسد، وإخراجٌ له عن جملة ما حُظر منه، كما رُخِّص في نوع من الكذب وإن كانت جملتُه محظورة، فالمعنى: لا إباحة في شيء من الحسد إلَّا فيما كان هذا سبيله؛ أي: لا حسد محمودٌ إلَّا هذا، وقيل: إنَّه استثناء منقطع بمعنى: لكن في اثنين، وإذا أنعم الله على أخيك نعمةً فكرهتها وأحببتَ زوالَها فهو حرام، إلَّا نعمة أصابها كافر، أو فاجر، أو مَن يستعين بها على فتنة أو فساد، ويُستدَلُّ بهذا الحديث على أنَّ الغنيَّ الشاكر الذي قام بشروط المال أفضلُ من الفقير الصابر، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (اثنتين)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/144)
(16) [باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر]
هذا (باب ما ذَكر في ذهاب)؛ بالفتح (موسى) وفي رواية زاد: (صلى الله عليه وسلم) هو ابن عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قيل: عاش مئة وعشرين [1] سنة، وقيل: مئة وستين [2] سنة، وكانت وفاته في التيْه في سابع آذار لمضيِّ ألف سنة وست مئة وعشرين سنة من الطُّوفان، وموسى: معرَّب موشى؛ بالشين المعجمة، سمَّته به آسية بنت مُزاحم امرأة فرعون لمَّا وجدوه في التابوت، وهو اسم اقتضاه حاله؛ لأنَّه وجد بين الماء والشجر، فـ (مو) بلغة القبط: الماء، و (شى): الشجر، فعُرِّب فقيل: موسى.
(في البحر) خلاف البَرِّ، سُمِّي به؛ لعمقه واتِّساعه، وهو ملتقى بحر فارس والروم، وقيل: بحر المغرب وبحر الزُّقاق، فبحر فارس ينبعث من بحر الهند شمالًا، وبحر الروم: هو بحر إفريقية والشام يمتد من البحر الأخضر إلى المشرق، وبحر إفريقية: هو بحر طرابلس الغرب، وبحر الغرب: هو البحر الأخضر الذي لا يُعرف منه إلَّا ما يلي الغرب؛ لأنَّ المراكب لا تجري فيه، وبحر الزُّقاق بين طَنجة وبرِّ الأندلس.
(إلى الخَضِر عليهما السلام)؛ بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، وقد تسكَّن الضاد مع كسر الخاء وفتحها، واسمه بَلْيا؛ بفتح الموحدة، وسكون اللام، آخره مثناة تحتية، ويقال: إبَلْيا بزيادة الهمزة، وقيل: اسمه خضر، وقيل: أرميا، وقيل: اليسع، وقيل: عامر، والمشهور الأول، وهو ابن مَلْكان؛ بفتح الميم وإسكان اللام، ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وقيل: خضرون بن عمائيل بن الغنز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وقيل: هو ابن حلفياء، وقيل: ابن قابيل ابن آدم، وقيل: ابن آدم لصلبه.
وكان في زمن ذي القرنين الأكبر الذي كان في زمن إبراهيم، وكان وزيره، وإنَّه شرب من ماء الحياة، والصحيح: أنَّه كان متقدِّمًا على زمن ذي القرنين.
وهو نبيٌّ على الصحيح، وقيل: إنَّه وليٌّ، وقيل: إنَّه من الملائكة، وهو غريب، وقيل: إنَّه مرسَل، فهو نبيٌّ معمَّر محجوبٌ عن الأبصار على الصحيح، وأنَّه باق إلى يوم القيامة، قيل: لأنَّه دَفن آدم بعد خروجهم من الطوفان، فنالتْه دعوة أبيه آدم بطول الحياة، وقيل: لأنَّه شرب من عين الحياة، والقول بحياته قولُ جمهور العلماء، والصالحين، والعامة، وأنكر حياته المؤلف وغيرُه من المحدِّثين، وقيل: لا يموت إلَّا في آخر الزمان حتى يرتفع القرآن، وفي «مسلم»: (أنَّ الدجَّال يقتل رجلًا) قال الراوي: إنَّه الخَضِر.
(فإن قلت): إنَّ الترجمة تُفيد أنَّ موسى ركب البحر لمَّا توجَّه في طلب الخَضِر، مع أنَّه ثبت عند المؤلف أنَّه خرج إلى البحر وإنَّما ركب في السفينة هو والخَضِر بعد أن التقيا.
(أجيب): بما روى عبدُ بن حُميد عن أبي العالية: (أنَّ موسى التقى بالخَضِر في جزيرة من جزائر البحر) اهـ، والتوصُّل إلى جزيرة في البحر لا يقع إلَّا بسلوك البحر، وبما رواه أيضًا من طريق الرَّبيع بن أنس قال: (انجابَ الماء عن مسلك الحوت فصار طاقة مفتوحة فدخلها موسى على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخَضِر)، فهذان الأثران الموقوفان برجال ثقات يوضِّحان أنَّه ركب البحر إليه، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(و) باب (قوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ}) حكايةً عن خطاب موسى الخَضِر عليهما السلام، سأله أن يعلِّمَه من العلم الذي عنده ممَّا لم يقف عليه موسى، وكان له ابتلاءً؛ حيث لم يَكِل العلم إلى الله تعالى، وهو لا ينافي نبوَّتَه وكونَه صاحبَ شريعةٍ؛ لأنَّه راعى الأدب والتَّواضع فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعًا له.
({عَلَى أن تُعَلِّمَنِ ... })؛ أي: على شرط أن تعلمني، وهو في موضع الحال من الكاف، (الآية [الكهف: 66]) بالنصب على تقدير: اذكر الآية، وبالرفع على أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: الآية بتمامها، وزاد الأصيلي باقي الآية؛ وهو قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]؛ أي: علمًا ذا رُشْد، وهو إصابة الخير، وقرأ يعقوب وأبو عمرو وغيرُهما: بفتحهما [1]، وهما لغتان، وهو مفعول {تُعَلِّمَنِ}، ومفعول {عُلِّمْتَ} العائد محذوف، وكلاهما منقول من (عَلِمَ) الذي له مفعول واحد، ويجوز أن يكون علة لـ {أَتَّبِعُكَ}، أو مصدرًا بإضمار فعله.
==========
[1] في الأصل: (عشرون).
[2] في الأصل: (ستون).
[3] أي: فتح الراء والشين؛ أي: (رَشَدًا).
%ص 49%
==================
[1] في الأصل: (عشرون).
[2] في الأصل: (ستون).
[1] في الأصل: (عشرون).
[1] في الأصل: (عشرون).
[2] في الأصل: (ستون).
(1/145)
[حديث: بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل]
74# وبه قال: (حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع، (محمد بن غُرَير)؛ بغين معجمة مضمومة، وراء مكررة، الأولى منهما مفتوحة، بينهما مثناة تحتية ساكنة، ابن الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو عبد الله القرشي (الزهريِّ) المدني، نزيل سمرقند.
(قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم) بن سعد، أبو يوسف القرشي المدني الزهري، المتوفى ببغداد، سنة ثمان ومئتين في شوال، (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع، (أبي): إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو يعقوب القرشي المدني الزهري، شيخ محمد بن إدريس الشافعي (عن صالح) بن كَيسان؛ بفتح الكاف، التابعي، المتوفى وهو ابن مئة ونيف وستين سنة، ابتدأ بالتعليم وهو ابن تسعين سنة، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (حدَّث)، وفي رواية: (حدثه)، (أنَّ عُبيد الله)؛ بالتصغير، (ابن عبد الله)؛ بالتكبير، ابن عُتبة (أخبره عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنه، (أنَّه تمارى)؛ أي: تجادل وتنازع، (هو)؛ أي: ابنُ عباس، (والحُرُّ)؛ بضم الحاء المهملة وتشديد الراء، (ابن قَيْس)؛ بفتح القاف، وسكون التحتية، آخره مهملة، (ابن حِصْن)؛ بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين، الصحابي (الفَزاري)؛ بفتح الفاء، والزاي، ثم الراء، نسبةً إلى فزارة بن شيبان (في صاحب موسى) عليه السلام، هل هو الخَضِر أم غيره؟ (فقال ابن عباس) رضي الله عنهما: (هو خضر)؛ بفتح أوله وكسر ثانيه، أو بكسر أوله وإسكان ثانيه،
%ص 49%
وإنَّما لم يُدخل على (خضر) آلة التعريف وفي الترجمة ذكره معرَّفًا مع أنَّه عَلَمٌ؛ لأنَّ بعض الأعلام دخول التعريف عليه لازم؛ نحو: النجم والثريا، وبعضها غير لازم؛ نحو: الحارث، والخضر من هذا القسم، والعَلَم إذا لُوحظ فيه معنى الوصف؛ يجوز إدخال التعريف عليه؛ كالعباس والحسن وغيرهما، ولم يذكر مقالة الحُرِّ بن قيس، قال بعضهم: لم أقف على شيءٍ من طرق هذا الحديث، قلت: مقالته قد تمت، وما بعدها إنَّما كان قول أُبيٍّ بحضور الحُرِّ بن قيس وعبد الله بن عباس، فالحديث مقالة الجميع؛ فافهم.
(فمر بهما)؛ أي: بابن عباس والحُرِّ بن قيس (أُبيُّ بن كعب)؛ أي: ابن المنذر الأنصاري، أقرأ هذه الأمة، المتوفى سنة تسع عشرة، وقيل: عشرين، وقيل: ثلاثين بالمدينة، كذا في «عمدة القاري»، وفي خارج باب الشرقي [في] ديارنا الشامية قبةٌ مُهابةٌ وتحتَها قبرٌ جليلٌ عظيمٌ، المشهور عند العامَّة أنَّه أُبيُّ بن كعب، يُقصد بالزيارة، والدعاءُ عنده لا يُرَدُّ؛ فتأمَّل، (فدعاه) أي: ناداه (ابن عباس) رضي الله عنهما، وروي: (فمرَّ بهما أُبيُّ بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: يا أبا الطُّفيل؛ هلمَّ إلينا)، (فقال: إنِّي تماريت) أي: اختلفتُ (أنا وصاحبي هذا) الحُرُّ بن قيس، وأتى بتأكيد المعطوف عليه بالضمير المنفصل؛ لتحسين العطف، ويجوز أن ينتصب على المفعول معه، (في صاحب موسى) عليه السلام (الذي سأل موسى) ربَّه، وزاد في رواية: (صلى الله عليه وسلم) (السبيل)؛ أي: الطريق الموصل (إلى لُقِيِّه)؛ بضم اللام، وكسر القاف، وتشديد المثناة التحتية؛ أي: إلى الاجتماع معه؛ حيث قال: (ادللني اللَّهُمَّ عليه)، (هل سمعت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟) جملة حالية، (قال) أُبيُّ بن كعب: (نعم؛ سمعت رسول الله)، وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، زاد في رواية: (يَذكر شأنَه) حالَ كونِه (يقول: بينما) بالميم (موسى) عليه السلام (في ملأ) بالقصر: الجماعة أو الأشراف (من بني إسرائيل) هم أولاد يعقوب عليه السلام؛ لأنَّ إسرائيل هو اسم يعقوب، وأولاده اثنا عشر؛ وهم: يوسف، وبنيامين، وداني، ويفتالي، وزابلون، وجاد، ويساخر، وأشير، وروبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، وهم الذين سماهم {الأسباط} [البقرة: 136]، وسمُّوا بذلك؛ لأنَّ كلَّ واحد منهم وَلد قبيلة، والأسباط في كلام العرب: الشجر الملتف [1] الكثير الأغصان، والأسباط من بني إسرائيل؛ كالشعوب من العجم والقبائل من العرب، وجميع بني إسرائيل من هؤلاء المذكورين؛ (جاءه رجل) جواب (بينما)، وفي رواية: (إذ جاءه رجل)، والفصيح في جوابه ترك (إذ) و (إذا)، قال بعضهم: لم أقف على تسمية الرجل، قلت: لعلَّه جبريل جاءه بصفة رجل، كما جاء لنبينا عليه السلام بصفة أعرابي؛ كما تقدَّم؛ فافهم، (فقال) لموسى عليه السلام: (هل تعلم أحدًا أعلم) بالنصب صفة لـ (أحد) (منك؟ قال)، وفي رواية: (فقال)، (موسى: لا) أعلم أحدًا أعلم مني، وجاء في (التفسير): «فسأل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يَرُدَّ العلمَ إليه»؛ أي: عتب مخصوص، s) زاد الأصيلي: (عزَّ وجلَّ) (إلى موسى) عليه السلام: (بلَى)؛ بفتح اللام، وفي رواية: (بل)، وهي للإضراب؛ أي: أوحى الله إليه: لا تقل: لا؛ بل (عبدنا خضر) أعلم منك؛ أي: قل: الأعلم عبد خضر، وعلى هذه الرواية فالمناسب أن يقول: عبد الله أو عبدك، وأجيب: بأنَّه ورد على سبيل الحكاية عن الله تعالى، فموسى أعلم على الجملة، والعموم ممَّا لا يمكن جهل الأنبياء بشيء منه، والخضر أعلم على الخصوص ممَّا أُعلم من الغيوب وحوادث القدر ممَّا لا يعلمُ الأنبياءُ منه إلَّا ما أُعلموا من غيبه، ولهذا قال له الخضر: «إنَّك على علم من علم الله علَّمك لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علَّمنيه لا تعلمه»، وهذا مثلُ قول نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لا أعلم إلَّا ما علَّمني ربي»، وإنما أُلجئ موسى للخضر؛ للتأديب لا للتعليم.
(فسأل موسى) عليه السلام (السبيل) أي: الطريق الموصل (إليه)؛ أي: إلى الخضر، فقال: اللَّهُمَّ ادللني عليه، (فجعل الله له) أي: لأجله (الحوتَ) بالنصب مفعول (جعل) أول، والحوت: السمكة (آيةً)؛ أي: علامة، بالنصب مفعول ثان، (وقيل له): يا موسى؛ (إذا فقَدت)؛ بفتح القاف؛ أي: لم تجد (الحوت؛ فارجع، فإنك ستلقاه)، وذلك لمَّا قال موسى: أين أطلُبُه؟ قال تعالى له: على الساحل عند الصخرة، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتًا في مكتل، فحيث فقدتَه؛ فهو هناك، فقيل: أخذَ سمكةً مملوحة، وقال لفتاه: إذا فقدت الحوت؛ فأخبرني.
(وكان) وفي رواية: (فكان) (يتَّبع)؛ بتشديد المثناة الفوقية (أثر الحوت في البحر)؛ أي: ينتظر فقدانه، فرقد موسى عليه السلام، فاضطرب الحوت ووقع في البحر، قيل: إنَّ يوشع حمل الخبز والحوت في المكتل فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة، فلمَّا أصاب السمكة روح الماء وبرده؛ عاشت، وقيل: توضأ يوشع من تلك العين، فانتضح الماء على الحوت، فعاش ووقع في الماء، فاستيقظ موسى وطلب من يوشع الخبز والحوت؛ ليأكل منه.
(فقال لموسى فتاه) يوشع بن نون بن إليشامع بن عميهوذ بن بارص بن بعدان بن تاجن بن تالخ بن راشف بن رافح بن بريعا بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب عليه السلام، و (يُوشَع)؛ بضم المثناة التحتية وفتح الشين المعجمة، و (نون) مصروف كنوح، وإنَّما قال: فتاه)؛ أي: صاحبه؛ لأنَّه كان يخدمه ويتبعه، وقيل: كان يأخذ عنه العلم: ({أرأيت})؛ أي: أخبرني، وهو مقول القول ({إذ}) بمعنى حين، وفيه حذفٌ؛ تقديره: أرأيت ما دهاني إذ ({أوينا}) أي: رقدنا ({إلى الصخرة})؛ الحجر الكبير، وهي التي دون نهر الزيت بالمغرب، ({فإنِّي}) الفاء تفسيرية ({نسيت الحوت})؛ أي: نسيت تفقده وما يكون منه، مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة من لقاء الخضر، ({وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره})؛ أي: وما أنساني ذكرَه إلَّا الشيطان، وإنَّما نسبه له؛ هضمًا لنفسه، فهو اعتذارٌ عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه، أو دهش لمَّا رأى من الآيات الباهرة، ({قال}) أي: موسى: ({ذلك}) مبتدأ؛ أي: فقدان الحوت، وقوله: ({ما كنا نبغي}) خبره، و {ما} موصولة، و {كنا نبغي} صلتها؛ أي: ذلك الذي كنا نطلبه علامة على المقصود، ({فارتدا}) رجعا ({على آثارهما})؛ أي: من الطريق الذي سلكاه، يقصَّان ({قَصصًا}) بالنصب على المصدرية؛ أي: يتبعان آثارهما اتِّباعًا، ({فوجدا}) [الكهف: 63 - 64] (خضرًا) عليه السلام (فكان من شأنهما) أي: موسى والخضر (الذي قصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ في كتابه)، وفي رواية: (ما قصَّ الله ... ) إلى آخره، من قوله: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} إلى قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ} [الكهف: 66 - 83].
وفي الحديث: جواز التماري في العلم من غير تعنُّت، وفيه: الرجوع إلى أهل العلم عند التنازع، وفيه: طلب العالم الزيادة من العلم، وفيه: ندب التواضع، وفيه: حمل الزاد وإعداده في السفر، وهو لا ينافي التوكل، خلافًا لمن نفاه، وفيه: قبول خبر الواحد الصدوق، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الملتفت)، وهو تحريف.
==================
(1/146)
(17) [باب قول النبي: اللهم علمه الكتاب]
هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: اللهم علمه)؛ أي: فهِّمْه أو حفِّظْه (الكتاب)؛ أي: القرآن، والضميرُ يرجع لابن عباس؛ لتقدُّمِ ذكرِه مِن غلبته للحُرِّ بن قيس بدعائه عليه السلام، وهذا لفظ حديث وضعه ترجمةً على صورة التعليق، ثم ساقه مُسندًا، وهل يُقال لمثله: مرسلًا أم لا؟ فيه خلاف.
==========
%ص 50%
==================
(1/147)
[حديث: اللهم علمه الكتاب]
75# وبه قال: (حدثنا أبو مَعْمَر)؛ بميمين مفتوحتين بينهما عين ساكنة مهملة، آخره راء، عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج البصري المُقْعَد _بضم الميم، وسكون القاف، وفتح العين_ المنقري القدري، الموثق من ابن معين، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري، أبو عبيدة البصري، المتوفى بها في المحرَّم سنة ثمانين ومئة (قال: حدثنا خالد) بن مهران الحذَّاء، أبو المَنازل؛ بفتح الميم، ولم يكن بحذَّاء وإنَّما كان يجلس إليهم ينظر شغلهم في النعل، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة (عن عِكرمة)؛ بكسر العين، مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدني، البربري الأصل، المتوفى بالمدينة سنة خمس أو ست أو سبع أو خمس عشرة ومئة عن ثمانين سنة، (عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنه (قال: ضمَّني رسولُ الله) وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) إلى نفسه أو إلى صدره، كما في رواية مُسَدَّد عن عبد الوارث، (وقال) عطف على (ضمَّ): (اللَّهُمَّ) أصله: يا اللهُ، فحذف حرف النداء وعوض
%ص 50%
الميم، ولا يجوز الجمع بينهما، وما ورد مؤول، (عَلِّمْه) بمعنى: عرِّفْه، لا يقتضي إلَّا مفعولين: الأول: الضمير، والثاني: قوله: (الكتابَ) بالنصب؛ أي: القرآن، فـ (أل) للعهد؛ أي: اللفظ باعتبار دلالته على معانيه.
وفي «الترمذي» و «النسائي»: أنَّه عليه السلام دعا له أن يؤتى الحكمة مرَّتين، وفي «معجم الصحابة»: مسح على رأسه وقال: «اللَّهُمَّ فقِّهْه في الدين، وعلِّمْه التأويل»)، وفي رواية: قال: «اللَّهُمَّ علِّمْه الحكمة وتأويل الكتاب»، فقيل: المراد بـ (الحكمة): القرآن والسنة، وقيل: المراد بها: السنة، ويدُلُّ له هذه الروايات؛ لقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]؛ أي: القرآن والسنة، وإنَّما دعا له لما يأتي عند المؤلف عنه قال: (دخل النبي عليه السلام الخلاء فوضعتُ له وَضوءًا)، زاد مسلم: (فلما خرج قال: «مَن وضع هذا؟»، فأخبر)؛ أي: أخبرتْه ميمونةُ؛ لأنَّ ذلك في بيتها، وحقَّقَ الله إجابة دعوة نبيه عليه السلام، فكان حبْر هذه الأمة وترجُمان القرآن، وفي الحديث دلالة على استحباب ضم الطفل وهو بالإجماع، وأما معانقة الرجل الرجل القادم من سفرٍ وغيره؛ فقال في «ملتقى الأبحر»: ويكره للرجل أن يقبِّل الرجل أو يعانقَه في إزار بلا قميص، وهو قول الإمام الأعظم والإمام محمد، وعند الإمام أبي يوسف لا يكره، انتهى.
قلت: والخلاف فيما إذا لم يكن عليهما غير الإزار، أما إذا كان عليهما قميص أو جُبَّة؛ فلا كراهة بالإجماع، وقال الشيخ الإمام أبو منصور: المكروه من المعانقة ما كان على وجه الشهوة، وأمَّا على وجه البِرِّ والكرامة؛ فلا كراهة عندهم، كذا في شرحه المشهور بـ «دامات أفندي»، قلت: والإزار: هو ما يَستر العورة من السُّرَّة إلى الرُّكبة، والقميص: ما يَستُر البدن، وحَدُّ الشهوة من الشيخ: تحرُّكُ قلبِه، ومن الشابِّ: تحرُّكُ آلتِه، والله أعلم.
==================
(1/148)
(18) [بابٌ متى يصح سماع الصغير]
هذا (باب) بالتنوين: (متى) استفهاميَّة (يصح سماع الصغير)، وللكشميهني: (الصبي الصغير)، ومراد المؤلف: الاستدلال على أنَّ البلوغ ليس بشرط في التحمُّل، واختُلف في السِّنِّ؛ فقال ابن هارون: إذا فَرَّق بين البقرة والدابة، وقال ابن حنبل: إذا عقل وضبط، وقال ابن معين: أقله خمس عشرة سنة، وقال عياض: أقله خمس، والذي يعتمد عليه التمييز، فإن فَهِمَ الخطاب ورَدَّ الجواب؛ كان مميِّزًا صحيحَ السماع وإن كان دون خمس، وإن لم يكن كذلك؛ لم يصحَّ سماعُه وإن كان ابنَ خمسين، وتمامُه في «عمدة القاري».
==========
%ص 51%
==================
(1/149)
[حديث: أقبلت راكبًا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام]
76# وبه قال: (حدثنا إسماعيل) هو ابن عبد الله المشهور بابن أبي أويس، كما في رواية (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الإمام، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله)؛ بالتكبير، (بن عُتْبَة)؛ بضم العين، وسكون المثناة الفوقية، وفتح الموحدة، (عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما، (قال: أقبلت) حال كوني (راكبًا على حمارٍأَتَانٍ)؛ بفتح الهمزة، وبالمثناة الفوقية، آخره نون؛ وهي الأنثى من الحمر، وإنما لم يقل: حمارة؛ لأنَّ الحمارة قد تطلق على الفرس الهجين، كما قاله الصاغاني، فلو قال: على حمارة؛ لربما كان يُفهم أنَّه أقبل على فرس هجين، وليس كذلك، على أنَّ الجوهريَّ حكى أنَّ الحمارة في الأنثى شاذَّة، و (أتانٍ) بالجر والتنوين كسابقه على النعت، أو بدل الغلط، أو بدل البعض من كلٍّ؛ لأنَّ الحمار يطلق على الجنس فيشمل الذكر والأنثى، أو بدل كل من كل، نحو: {شَجَرَةٍ ... زَيْتُونَةٍ} [النور: 35]، وفي رواية: بإضافة (حمار) إلى (أتان)؛ أي: حمار هذا النوع وهو الأتان، كذا في «عمدة القاري»، وهذا أوجه وأحسن مما ذكره الكرماني، والدماميني، والبِرماوي؛ لأنَّه مخالف لما قاله أهل اللغة، كما لا يخفى على مَن تتبع.
(وأنا يومئذ) الواو: للحال، و (أنا) مبتدأ، وخبرُه قوله: (قد ناهزت)؛ أي: قاربت، (الاحتلام) وهو يسمى مراهق، و (الاحتلام): البلوغ الشرعي، مشتق من الحلُم؛ بالضم: ما يراه النائم، (ورسول الله صلى الله عليه وسلم) الواو: للحال، مبتدأ، خبرُه قوله: (يصلي)، وفي رواية البزار: (المكتوبة)، ولم أقف على تعيين هذه الصلاة (بمنًى) منصوب على الظرفية بالصرف وعدمه، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأحسن صرفها وكتابتها بالألف، سمِّيت بها؛ لما يمنى بها من الدماء؛ أي: تراق، وهو موضع بمكة يذبح فيه الهدايا وترمى فيه الجمرات، (إلى غير جدار) في محل نصب على الحال، وفيه حذفٌ؛ تقديره: يصلِّي غير متوجِّهٍ إلى جدار؛ بكسر الجيم: الحائط، والمراد به: السترة؛ يعني: إلى غير سترة أصلًا، ويدل له ما في رواية البزار بلفظ: (والنبي عليه السلام يصلي المكتوبة ليس شيء يستره)، (فمررت بين يدي) أي: قُدَّام (بعض الصف) فالتعبير بـ (اليد)؛ مجاز؛ لأنَّ الصف لا يد له، والمراد بـ (بعض الصف): صف من الصفوف أو بعض من الصف الواحد، (وأرسلتُ)؛ بضم التاء: فعل وفاعل، ومفعوله قوله: (الأتانَ تَرتَعُ)؛ بتاءين مثناتين فوقيَّتين مفتوحتين، وضم العين المهملة؛ أي: تأكل ما تشاء، أو تسرع في المشي، والأول أصوب، و (ترتعُ) مرفوع، والجملة محلُّها النصب على الحال من الأحوال المقدَّرة؛ أي: مقدار رتعها، (ودخلت الصف) وفي رواية: (فدخلت _بالفاء_ في الصف) (فلم ينكِر)؛ بكسر [1] الكاف على صيغة المعلوم (ذلك عليَّ)؛ أي: فلم ينكر النبي الأعظم عليه السلام عليَّ ذلك ولا غيره، وفي رواية: بلفظ المجهول،؛ أي: لم ينكر أحد لا رسول الله عليه السلام ولا غيره ممن كانوا معه.
واستدل المؤلف بهذا على أنَّ التحمُّل لا يُشترط فيه كمال الأهليَّة، وإنَّما يُشترط عند الأداء، ويلحق بالصبي في ذلك العبد، والفاسق، والكافر، وفيه دليل على جواز مَن عَلِمَ الشيءَ صغيرًا وأدَّاه كبيرًا بالإجماع، وكذا الفاسق والكافر إذا أدَّيا حالَ الكمال.
وفيه جواز الركوب لصلاة الجماعة، وأنَّ مرور الحمار غير قاطع للصلاة، وعليه بوَّب أبو داود، وما ورد محمولٌ على قطع الخشوع، وفيه صحة صلاة الصبي، وأنَّه إذا فُعِل بين يدي النبي عليه [السلام] شيء ولم ينكره؛ فهو حجة، وأنَّ سُترة الإمام سُترةٌ لمن خلفه، وعليه بوَّب المؤلِّف وهو بالإجماع، والمرور بين يدي المصلي مكروه إذا كان إمامًا أو منفردًا وصليا إلى سُترة، وأمَّا المأموم؛ فلا يضرُّه؛ لأنَّه خلف الإمام وهو سُترة لمن خلفه، وسيأتي بقيَّة مباحثه إن شاء [الله تعالى].
==========
[1] في الأصل: (بفتح)، ولا يستقيم مع قوله: (على صيغة المعلوم).
%ص 51%
==================
(1/150)
[حديث: عقلت من النبي مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين]
77# وبه قال: (حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (محمد بن يوسف) هو البيكندي أبو أحمد، وما قيل: إنَّه الفِريابي؛ فمردودٌ بعدم الرواية عن أبي مُسْهِر الآتي، (قال: حدثنا أبو مُسْهِر)؛ بضم الميم، وإسكان السين المهملة، وكسر الهاء، آخرُه راء، عبد الأعلى بن مُسْهِر الغسَّاني الدمشقي، المتوفى ببغداد سنة ثمان عشرة ومئتين (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (محمد بن حَرْب)؛ بفتح الحاء وإسكان الراء المهملتين، آخره موحدة، هو الأبرش؛ أي: الذي فيه نكت صغار تخالف لونه، الخولاني الحمصي، أبو عبد الله قاضي دمشق، المتوفى سنة أربع وسبعين ومئة، وما قيل: إنَّه تفرَّد أبو مُسْهِر برواية هذا الحديث عن ابن حرب؛ مردودٌ، فقد رواه ثلاثةٌ غير أبي مُسْهِر كما عند النَّسائي والبيهقي (قال: حدثني) بالإفراد (الزُّبَيدي)؛ بضم الزاي وفتح الموحدة: أبو الهذيل محمد بن الوليد بن عامر الشامي، قاضي حمص، المتوفى بالشام سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة عن سبعين سنة، (عن الزهري) محمد بن مسلم ابن شهاب، (عن محمود بن الرَّبيْع)؛ بفتح الراء وكسر الموحدة، ابن سراقة الأنصاري الخزرجي، أبو نعيم وأبو محمد، المدني، المتوفى ببيت المقدس سنة تسع وتسعين، عن ثلاث وتسعين سنة (قال: عَقَلت)؛ بفتح العين المهملة، بابه (ضرب)؛ أي: عرفت أو حفظت (من النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم مَجَّةً) بالنصب على المفعولية؛ بفتح الميم والتنوين (مجَّها) من فيه؛ أي: رمى بها حال كونها (في وجهي)، وقيل: المَجُّ: إرسال الماء من الفم مع نفخ، (وأنا ابن خمس سنين) مبتدأ وخبره، والجملة معترضة وقعت حالًا، إمَّا من التاء في (عَقَلتُ) أو من الياء في (وجهي)، (من) ماء (دَلْو)؛ بفتح الدال المهملة وإسكان اللام، وفي رواية النَّسائي: (من دلو معلق)، وفي (الرِّقاق) عن معمر: (من دلو كانت في دارهم)، وفي (الصلاة): (من بئر)، ولا تعارض بين هذه الروايات؛ لحمل ذلك على أنَّه أخذ بالدلو من البئر وتناوله عليه السلام من الدلو؛ وهو وعاء يتخذ من جلد يستسقى فيه الماء في الآبار، وفي الحديث بركة النبي الأعظم عليه السلام وسماع الصغير وضبطه بالسنن، وجواز ملاعبة الصبيان.
==========
%ص 51%
==================
(1/151)
(19) [باب: الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ.]
هذا (باب الخروج) أي: السفر (في طلب العلم)؛ أي: لأجل طلبه برًّا وبحرًا، (ورحل) بالحاء المهملة (جابر بن عبد الله) الأنصاري الصحابي المشهور رضي الله عنه، (مسيرةَ شهر إلى عبد الله بن أُنيس)؛ بضم الهمزة، مصغر أنس، ابن سعد الجُهَني؛ بضم الجيم وفتح الهاء، المتوفى بالشام سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنهما (في)؛ أي: لأجل (حديث واحد) فلفظ
%ص 51%
(في) للتعليل، كما في قوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، والحديث ذكره المؤلف في (المظالم) بلفظ: ويذكر عن جابر عن عبد [الله] ابن أنيس سمعت النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: «يَحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُد كما يسمعه مَن قَرُب: أنا الملك أنا الديان».
زاد أحمد وأبو يعلى: (لا ينبغي لأهل الجنة أن تدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى يقتصه منه حتى اللطمة، قال: وكيف وإنَّما يأتي عراة غرلًا بهمًا، قال: بالحسنات والسيئات)، والعراة: جمع عار، والغرل: بضم الغين المعجمة وإسكان الراء جمع أغر، وهو الأقلف، وبهمًا: بضم الموحدة؛ أي: ليس معهم شيء، أو أصحاء ليس فيهم عاهات كالعمى والعور وغيرهما، وإنَّما هي أجساد صحيحة للخلود إمَّا في الجنة وإمَّا في النار، وقوله: (فيناديهم) المعنى: يجعل ملكًا يناديهم أو يخلق صوتًا ليسمعه الناس، وأمَّا كلام الله؛ فليس بحرف ولا صوت.
(فإن قلت): إنَّ المؤلف نقض قاعدته؛ حيث عبر هنا بقوله: (ورحل) بصيغة الجزم المقتضية للتصحيح، وفي المظالم بقوله: (ويذكر) بصيغة التمريض.
(قلت): لأنَّ عند المؤلف (يذكر) معناه الجزم أيضًا لا التمريض، ولعله ذكره هناك؛ لأنَّ الصوت ممَّا يُحتاج إلى تأويله في نسبته إلى الربِّ جلَّ وعزَّ؛ فافهم.
==================
(1/152)
[حديث: في رحلة سيدنا موسى إلى سيدنا الخضر]
78# وبه قال: (حدثنا أبو القاسم خالد بن خَلِيٍّ)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام مخففةً، بعدَها مثناة تحتيَّة مشدَّدة، الكلاعي، قاضي حمص، كما في رواية، (قال: حدثنا محمد بن حرب)؛ بفتح الحاء المهملة وسكون الراء آخره موحدة، الخولاني الحمصي.
(قال: حدثنا الأوزاعي)، وسقط (حدثنا) في رواية، بفتح الهمزة، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد، أحد أتباع التابعين، نسبة إلى (أوزاع) قرية بدمشق خارج باب الفراديس، أو بطن من حمير، أو من همْدان؛ بسكون الميم، المتوفى فجأة في الحمام، سنة سبع وخمسين ومئة، عن تسع وستين، ولد ببعلبك ودفن ببيروت، وكان أهل الشام والمغرب على مذهبه.
قال: (أخبرنا الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب، (عن عبيد الله)؛ بالتصغير، (بن عبد الله)؛ بالتكبير، (ابن عتبة)؛ بضم العين، (ابن مسعود عن) عبد الله (بن عباس) رضي الله عنهما، (أنَّه تمارى) من التماري؛ وهو التنازع والتجادل، (هو)؛ أي: عبد الله بن عباس، (والحُرُّ بن قيس بن حصن الفزاري) نسبة إلى فزارة بن شيبان (في صاحب موسى) بن عمران عليه السلام، هل هو الخضر أم غيره، زاد في الرواية السابقة: (قال ابن عباس: هو خضر)، ولفظ (هو) ساقط، في رواية: (وإنِّي) بضمير الفصل؛ لأنَّه لا يُعطف على الضمير المرفوع المتَّصل إلَّا بعد تأكيده بالمنفصل، وعلى روايةٍ إسقاط (هو)، فعطْفُه على المرفوع المتَّصل بغير تأكيد ولا فصل جائز عند الكوفيِّين.
(فمرَّ بهما أُبَيُّ بن كعب) هو الأنصاري، (فدعاه ابن عباس)؛ أي: ناداه فجاء، (فقال) له: (إنِّي تماريتُ)؛ أي: اختلفت، (أنا وصاحبي هذا)؛ أي: الحُرُّ بن قيس، (في صاحب موسى الذي سأل) موسى ربه، (السبيل إلى لُقِيِّه)؛ بضم اللام، وكسر القاف، وتشديد المثناة التحتية، مصدر بمعنى اللقاء، يقال: لَقِيتُه لِقاءً بالمدِّ، ولِقًا بالقصر، ولُقِيًّا بالتشديد؛ حيث قال: اللهم ادللني عليه.
(هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه)؛ أي: قصته، (فقال أُبَيٌّ) بن كعب: (نعم سمعت النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه) قصته لأصحابه، (يقول: بينما)؛ بالميم، (موسى) عليه السلام، (في ملأ) جماعة، (من بني)؛ أي: ذرية، (إسرائيل) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وعند مسلم: «بينما موسى في قومه يُذَكِّرُهم أيامَ الله».
(إذ جاءه رجل) قيل: لم يسمَّ، قلت: ولعله جبريل، (فقال)، وفي رواية: (قال): (أتعلم) بهمزة الاستفهام، وفي رواية: بحذفها، وفي أخرى: (هل تعلم)، (أحدًا أعلمَ) بنصبهما مفعولًا وصفة، وفي رواية: (أن أحدًا أعلمُ)، (منك، قال موسى: لا) لما في اعتقاده من دلائل النبوة.
(فأوحى الله تعالى إلى موسى: بلى)، وفي رواية: (بل)، وهي للإضراب؛ أي: أوحى إليه: لا تقل: لا؛ بل (عبدنا خضر)؛ أي: قل الأعلم عبدنا خضر، على سبيل الحكاية عن قوله تعالى، وعلمُ الخضر في شيء خاص، وعلمُ موسى في العموم.
(فسأل) موسى ربه (السبيل إلى لُقِيِّه) وفي السابقة: (إليه) بدل (لُقِيِّه)، وزيادة (موسى)، (فجعل الله له)؛ أي: لأجله، (الحوت) دابة، منصوبان على أنَّهما مفعولا جعل، (آية) علامة دالة له على مكانه، (وقيل له: إذا فقَدت الحوت)؛ بفتح القاف، (فارجع فإنك ستلقاه)؛ أي: الخضر، (فكان موسى يتَّبع)؛ بتشديد المثناة الفوقية، (أثر الحوت في البحر)، وفي رواية: في الماء؛ أي: ينتظر فقدانه، إلى أن قعد موسى عند الصخرة ورقد ثم انتبه.
(فقال فتى موسى) يوشع بن نون، (لموسى) بعد أن توضأ يوشع من ماء عين الحياة ووقع منه على الحوت فصار حيًّا، فانسل من المكتل وذهب في البحر: (أرأيت) أخبرني، (إذ أوينا)؛ أي: حين نزلنا، (إلى الصخرة) ونمت عندها، (فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلَّا الشيطان أن أذكره)؛ أي: وما أنساني ذكرَه إلَّا الشيطان، قاله اعتذارًا لموسى.
(قال موسى: ذلك)؛ أي: فقدان الحوت، (ما كنا نبغي)؛ أي: نطلب من العلامة الدالة على اجتماعي بالخضر، (فارتدا) رجعا، (على آثارهما)؛ أي: على الطريق الذي سلكاه يقصَّان، (قَصصًا، فوجدا خضرًا) على طِنفسة على وجه الماء أو نائمًا مسجى بثوب، وإنَّما سُمِّيَ خضرًا [1] قيل: لأنَّه كلَّما قعد على شيء اخضرَّ بعد أن كان يابسًا، أو لحُسْنه وإشراق وجهه، أو لأنَّه كلَّما صلَّى في مكان اخضرَّ ما حولَه، وكنيته أبو العبَّاس.
(فكان من شأنهما)؛ أي: من قصة موسى والخضر، (ما)؛ أي: الذي، (قصَّ الله في كتابه) بسورة الكهف ومطابقته للترجمة من حيث إنَّ موسى خرج إلى طلب الخضر، وهو ظاهر؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (خضر).
%ص 52%
==================
(1/153)
(20) [باب فضل من عَلِمَ وعلَّم]
هذا (باب فضل من علِم)؛ بتخفيف اللام المكسورة؛ أي: مَن صار عالمًا، (وعلَّم) غيرَه؛ بفتحها مشدَّدة.
==========
%ص 52%
==================
(1/154)
[حديث: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم]
79# وبه قال: (حدثنا محمد بن العلاء)؛ بالمهملة والمدِّ، المكنى بأبي كُريب؛ بضم الكاف، مصغَّر (كرب) بالموحدة، الهمداني؛ بسكون الميم والدال المهملة، وشهرته بكنيته أكثر من اسمه، المتوفى سنة ثمان وأربعين ومئتين، (قال: حدثنا حماد بن أُسامة)؛ بضم الهمزة: ابن يزيد الهاشمي القرشي الكوفي، المتوفى سنة إحدى ومئتين عن ثمانين سنة، (عن بُرَيد بن عبد الله)؛ بضم الموحدة، وفتح الراء، وسكون المثناة التحتية، آخره دال مهملة، ابن أبي بُرْدة ابن أبي موسى الأشعري.
(عن أبي بُرْدة)؛ بضمِّ الموحدة وإسكان الراء، ابن أبي موسى الأشعري، (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري، وإنَّما لم يقل: عن أبيه؛ لأجل التفنن في الإسناد، (عنِ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: مَثَل)؛ بفتح الميم والثاء المثلثة؛ أي: الصفة العجيبة، (ما بعثني الله به من الهدى) الرشاد والدلالة يذكَّر ويؤنَّث، وهو لغة: المعرفة، واصطلاحًا: الدلالة الموصلة إلى البُغية، (والعلم)؛ بالجر عطفًا على (الهدى)، وهو صفة توجب تمييزًا لا يَحتمل النقيض، والمراد به هنا الأدلة الشرعيَّة، (كمَثَل)؛ بفتح الميم والمثلثة: خبر للمبتدأ الذي هو لفظ (مَثَل)، (الغيث)؛ المطر، (الكثير أصاب) الغيث، (أرضًا)، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول محلها نصب على الحال بتقدير (قد)، (فكان منها)؛ أي: من الأرض أرض (نَقِيَّة)؛ بفتح النون، وكسر القاف، وبالمثناة التحتية المشددة؛ أي: طيبة، كما في رواية في «مسلم».
(قَبِلت الماء)؛ بفتح القاف وكسر الموحدة، من القبول، ولا خلاف في هذا، خلافًا لمن وهم، (فأنبتت الكَلَأ)؛ بفتح الكاف واللام آخره مهموز مقصور: النبات يابسًا ورطبًا، (والعشب) النبات الرطب، وهو بالنصب عطفًا على المفعول، (الكثير) بالنصب صفة للعشب، وهو من ذكر الخاصِّ بعد العام، (وكانت)، وفي رواية: (وكان) عطف على (فكان)، وقوله: (منها) خبر (كان) مقدَّمًا، وقوله: (أجادب) بالرفع اسم (كان) مؤخرًا، وهو بالدال المهملة جمع جدب؛ بفتح الدال المهملة على غير قياس، وفي رواية (أجاذب)؛ بالذال المعجمة، قال الأصيلي: والصواب: بالمهملة، وفي رواية: (إخاذات)؛ بكسر الهمزة، ومعجمة مخففة، ومعجمة، وفي أخرى: (أحارب)؛ بحاء مهملة وراء مهملة، والمراد بها الأرض التي لا تشرب لصلابتها فلا تُنبت شيئًا.
(أمسكت الماء) جملة محلُّها الرفع صفة (أجادب)، (فنفع الله بها)؛ أي: بالأجادب، وللأصيلي: (به)، (الناس) فيكون الضمير المذكور للماء، (فشربوا) من الماء، (وسَقَوا) دوابَّهم؛ بفتح السين والقاف وسكون الواو، (وزرعوا) ما يصلح للزرع، وعند مسلم والنسائي: (ورعَوا من الرعي).
(وأصاب منها)؛ أي: الغيث، (طائفةً) بالنصب مفعوله، (أخرى) صفة (طائفة)؛ أي: قطعة أخرى من الأرض، وفي رواية: (وأصابت)؛ أي: أصابت طائفة أخرى، كما صرح به النسائي، (إنَّما هي قِيعان)؛ أي: ما هي إلَّا قِيعان؛ بكسر القاف، جمع قاع: وهو الأرض المتسعة، وقيل: اللمساء، وقيل: التي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في الحديث، وأصل قِيعان: قوعان، قلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار
%ص 52%
ما قبلها.
(لا تُمسك ماء) في محل رفع صفة (قِيعان)، (ولا تُنبت كلأ) صفة أيضًا؛ بضم المثناة الفوقية فيهما، (فذلك)؛ أي ما ذكر من الأقسام الثلاثة محله رفع مبتدأ، (مَثَل) خبره؛ بفتح الميم والمثلثة، (مَن) موصولة محلُّها [1] الجرُّ بالإضافة، (فقُه)؛ بضم القاف وقد تكسر؛ أي صار فقيهًا، (في دين الله) تعالى، (ونفعه ما)، وفي رواية: (بما)؛ أي: بالذي، (بعثني الله) سبحانه، (به، فعلِم) ما جئتُ به، (وعلَّم) غيرَه.
وهذا على قسمين؛ الأول: العالم العامل المعلِّم، كالأرض الطيبة شربت فانتفعت بنفسها وأنبتت فنفعت غيرها.
والثاني: الجامع للعلم، المستغرق لأوقاته فيه، المعلِّم غيرَه، لكنه لم يعمل بنوافله، كالأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وتمام تحقيقه في «عمدة القاري».
(ومَثَل)؛ بفتح الميم والمثلثة، (مَن) موصولة، (لم يرفع بذلك رأسًا) يعني: تكبر ولم يلتفت إليه من غاية تكبره؛ بأن دخل الدين ولم يسمع العلم، أو سمعه ولم يعمل به ولم يعلِّمه، كالأرض السبخة التي لا تقبل الماء وتفسده على غيرها.
(ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)؛ أي: مَن لم يدخل في الدين أصلًا؛ بل بلغه فكفر به، كالأرض الصمَّاء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا تنتفع به، شبَّه عليه السلام ما جاء به من الدين بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم، وكذا حال الناس قبل مبعثه عليه السلام، فكما أنَّ الغيث يحيي البلد الميت كذلك علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبَّه السامعين له بالأراضي المختلفة التي ينزل بها الغيث، وتمامه في «عمدة القاري».
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلِّف، وهو ساقط في رواية، (قال إسحاق) بن إبراهيم بن مَخْلَد، بفتح الميم، وإسكان الخاء المعجمة، وفتح اللام: أبو يعقوب الحنظلي المِروزي المشهور بابن راهَوَيه؛ بالهاء والواو المفتوحتين آخره تحتية ساكنة، وقيل: بضم الهاء وفتح التحتية، المتوفى سنة ثمان وثلاثين ومئتين، أو هو إسحاق ابن إبراهيم بن نصر السعدي البخاري نزيل المدينة، المتوفى سنة اثنين وثلاثين ومئتين، أو هو إسحاق بن منصور بن بَهْرام الكوسج المِروزي، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين، والظاهر الأول؛ لأنَّه أطلق، فالمراد هو كذا قيل.
(وكان منها طائفة)؛ أي: قطعة من الأرض، (قيَّلت الماء)؛ بالمثناة التحتية المشدَّدة، بدل قوله: (قبلت)؛ بالموحدة، وجزم الأصيلي أنَّها تصحيف من إسحاق، وصوَّبها غيرُه، و (قيلت) من القيلولة؛ أي: شربت نصف النهار، وزاد في رواية هنا: (قاع)؛ أي: قِيعان المذكور في الحديث، جمع قاع؛ أرض (يعلوه الماء) ولا يستقرُّ فيه.
(والصفصف المستوي من الأرض) هذا ليس في الحديث، وإنَّما ذكره جريًا على عادته في الاعتناء في تفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن العظيم، ووقع فيه: {قاعًا صفصفًا} [طه: 106]، وما فسَّره المؤلف هو قول أكثر أهل اللغة، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (محله)، وليس بصحيح.
==================
(1/155)
(21) [باب رفع العلم وظهور الجهل]
هذا (باب رفع العلم وظهور الجهل) الأول مستلزم للثاني، وأتى به للإيضاح، (وقال ربيعة) الرأْي؛ بإسكان الهمزة، ابن عبد الرحمن فرُّوخ؛ بالراء المشدَّدة المضمومة والخاء المعجمة، المدني الربعي، قتل بالأنبار في دولة بني العباس، (لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم)؛ أي: الفهم، (أن يضيِّعَ نفسه) بترك الاشتغال أو بعدم إفادته لأهله؛ لئلَّا يموت العلم، وفي رواية: بحذف (أنْ)، وهذا الأثر وصله البيهقي في «المدخل» والخطيب في «الجامع»، و (ينبغي) تُستعمل بمعنى الوجوب وبمعنى الندب.
==================
(1/156)
[حديث: إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم]
80# وبه قال: (حدثنا عِمران بن مَيسرة)؛ بكسر العين وفتح ميم ميسرة: ضد الميمنة، أبو الحسن المنقري البصري، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان التيمي البصري، (عن أبي التَّيَّاح)؛ بفتح الفوقية، وتشديد التحتية، آخره مهملة، يزيد بن حُميد الضبعي، المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة.
(عن أنس)، زاد في رواية: (ابن مالك)، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ) للتوكيد؛ بكسر الهمزة، (من أشراط)؛ بفتح الهمزة، (الساعة)؛ أي: القيامة؛ أي: علامتها، والجار والمجرور خبر مقدم، (أنْ) مصدريَّة (يُرفعَ العلم)؛ بضم المثناة التحتية في محل نصب اسمها مؤخَّرًا [1]؛ أي: رفع العلم بموت حملته وقبض العلماء، وليس المراد محوه من صدور الحفاظ وقلوب العلماء، وعند النسائي: بحذف (أنْ) فيكون محل (أن يرفع العلم) رفعًا على الابتداء، وخبره (من أشراط الساعة) مقدم.
(و) أن (يَثبت الجهل)؛ بفتح المثناة التحتية، من الثبوت؛ بالمثلثة ضد النفي، وعند مسلم: (ويبث) من البث؛ بموحدة فمثلثة: وهو الظهور والفشو، (و) أن (يُشرب)؛ بضم المثناة التحتية، (الخمر) قيل: المراد كثرة شربه؛ لما عند المؤلِّف في (النكاح): «ويكثر شرب الخمر»، قلت: هذا غير مراد، وإنَّما المراد شربُه مطلقًا هو جزء العلة من الأشراط، وما عند المؤلِّف في (النكاح) لا يستلزم نفي مطلق الشرب أن يكون من أشراطها؛ لأنَّ المقيَّد بحكمٍ لا يستلزم نفي الحكم المطلق، والأصل إجراء كلِّ لفظٍ على مقتضاه، ولا تنافيَ بين حكمٍ يمكن حصوله معلقًا بشرطٍ تارة وبغيره أخرى؛ كالملك فإنَّه يوجد بالشراء والهبة وغيرهما.
وما قيل: إنَّ المطلق محمولٌ على المقيَّد لأنَّ المقام مقام الاحتياط والحمل على الكثرة أولى، ممنوعٌ؛ لأنَّ حمل المطلق على المقيَّد مسلَّم في غير هذا المحلِّ؛ لأنَّ الشارع أمرنا باجتنابه بالكلِّيَّة، ولم يفصل بين قليله وكثيره، وحمل المطلق على المقيد غيرُ جائز هنا، وقوله: لأنَّ المقام مقام الاحتياط، هذا شاهد ودليل عليه؛ لأنَّه إذا كان المقام مقام الاحتياط؛ فالمنع منه بالكُلِّيَّة فرضٌ، فيجب الحمل على الشرب مطلقًا؛ فافهم؛ وليحفظ.
(و) أن (يظهر الزنا) بالقصر لغة حجازيَّة وبالمدِّ لغة نَجْدِيَّة، والنسبة إلى الأول: زنوي، وإلى الآخر: زناوي؛ أي: يفشو وينتشر، وصرَّح في رواية مسلم: (ويفشو الزنا).
فوجود هذه الأربعة هو العلامة لوقوع الساعة؛ أي: القيامة: وهي واقعةٌ في هذا الزمان، اللَّهُمَّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها، وأعذنا من خِزْيِ الدنيا وعذاب الآخرة.
==========
[1] في الأصل (مؤخر).
%ص 53%
==================
(1/157)
[حديث: من أشراط الساعة أن يقل العلم]
81# وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد)؛ بضم الميم، وفتح السين والدال المهملتين: ابن مُسَرْهِد، (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان، (عن شعبة) هو ابن الحجاج، (عن قتادة)؛ بفتح القاف والمثناة الفوقية: ابن دِعامة، (عن أنس)، زاد الأصيلي: (ابن مالك)، (قال: لَأُحدِّثَنَّكم)؛ بفتح اللام؛ أي: والله لَأحدِّثَنَّكم، فلذا أكد بالنون، وبه صرَّح أبو عَوانة، عن هشام، عن قتادة، (حديثًا لا يحدِّثكم أحدٌ بعدي)، وعند مسلم: بحذف الكاف والميم، وعند المؤلِّف من طريق هشام: بحذف لفظ (أحد)، ومن أين عَرَف أنَّ أحدًا لا يحدِّث بعدَه، ولعلَّه عرفه بإخبار النبي الأعظم عليه السلام له، أو قال بناءً على ظنِّه أنَّه لم يسمع الحديثَ غيرُه من النبي الأعظم عليه السلام، ويَحتمل أنَّه قال ذلك لأهل البصرة خاصَّةً؛ لأنَّه آخر مَن مات مِن الصحابة عندهم.
(سمعت رسول الله)، وفي رواية: (النبي الأعظم)، (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: كلامَه حالَ كونه (يقول: مِن)، وفي رواية: (إنَّ مِن)، (أشراط)؛ بفتح الهمزة، جمع شرط بالتحريك؛ أي: علامات، (الساعة) القيامة، (أن يقِلَّ)؛ بكسر القاف، من القلة، (العلم) والجملة رفع على الابتداء، و (أن) مصدريَّة، و (مِن أشراط الساعة) خبر مقدم، والتقدير: (من أشراط الساعة قِلَّةُ العلم)؛ أي: بموت أهله، وعند المؤلِّف: أن يرفع العلم، ولا تنافيَ بينهما؛ لأنَّ القِلَّة قد تطلق ويراد بها العدم، أو كان ذلك باعتبار زمانين؛ كأن يقال: القِلَّة في ابتداء أمر الأشراط، والعدم انتهاؤه، كذا قال في «عمدة القاري»، وتمامه فيه.
(و) أن (يظهر الجهل) وقِلَّةُ العلم مستلزمة لظهور الجهل، (و) أن (يظهر الزنا)؛ بالقصر والمدِّ؛ أي: يفشو، (و) أن (تكثر النساء و) أن (يقل الرجال)؛ لكثرة القتل، فبموت الرجال فتكثر النساء وبقلَّتهم يكثر الفساد والجهل، وأشار بهذا إلى كثرة الفتوح فتكثر السبايا، فيتخذ الرجل عدة موطوءات، أو أنَّه تكثر ولادة الإناث، وتقل ولادة الذكور؛ لأنَّ النساء حبائل الشيطان، وهن ناقصات عقل ودين.
(حتى)؛ أي: إلى أن (يكون لخمسين امرأة القَيِّمُ) بالرفع اسم (يكون)، وقوله: (الواحدُ) صفتُه، مَن يقوم بأمرهِنَّ، وهل المراد حقيقةُ العدد أو مجازٌ عن الكثرة والمبالغة بأنَّ الأربعة كمال النصاب فاعتبر الكمال، وزيادة واحدة مبالغة، أو لأنَّ الأربعة تنسحب إلى عشرة وهي إلى خمسين إلى
%ص 53%
مئة إلى ألف تأكيدًا للكثرة ومبالغة فيها، ويَحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي لا يبقى فيه مَن يقول: الله الله، فيتزوَّج الرجلُ الواحدُ بغير عدد جهلًا بالحكم الشرعي.
قلت: لا يلزم ذلك أن يكون في ذلك [1] الزمان؛ لأنَّ ذاك هو زمان يوم القيامة، وكلامُنا في علاماتها، فالظاهرُ أن يكون ذلك بكثرة الشيعة والروافض وغيرهم من الفِرَق الضَّالَّة، ومِن عقائدهم: أنَّهم لا ينكحون؛ بل يتمتَّعون، فيأخذ الخنزير الواحد منهم هذا العدد بحكم المتعة، ويظنُّون أنفسَهم أنَّهم على الحقِّ جهلًا، وزيفًا، وخروجًا عن السُّنَّة المطهَّرة؛ فتأمَّل.
وإنَّما قال: (القَيِّم) بالتعريف؛ إشعارًا بما هو المعهود من كون الرجال قوَّامين [2] على النساء، وإنَّما كان اختلال هذه الأمور من علاماتها؛ لأنَّ الخلائق لا يُتركون سُدى، ولا نبي بعد هذا الزمان، فيتعيَّن خراب العالم وهو قرب القيامة.
==========
[1] في الأصل (تلك).
[2] في الأصل (قوامون).
==================
[1] في الأصل (تلك).
[1] في الأصل (تلك).
(1/158)
(22) [باب فضل العلمِ]
هذا (باب فضل العلم) لا يقال: تقدم هذا الباب بعينه في أول (كتاب العلم) فذِكره هنا تَكرار؛ لأنَّا نقول: الذي قدَّمه هناك في بيان فضل العلماء، وهنا على فضل العلم، وما قيل: إنَّ المراد هنا الزيادة، ممنوع، كما نبَّه عليه وردَّه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
%ص 54%
==================
(1/159)
[حديث: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن]
82# وبه قال: (حدثنا سعيد بن عُفَير)؛ بضم العين المهملة، وفتح الفاء، وإسكان المثناة التحتية، آخره راء، (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية بالجمع، (الليث) بن سعد الحنفي، من أتباع إمامنا الإمام الأعظم التابعي الجليل المعظم، (قال: حدثني) بالإفراد، (عُقَيل)؛ بضم العين المهملة، وفتح القاف، وسكون المثناة التحتيَّة: ابن خالد الأَيْلي؛ بفتح الهمزة وسكون التحتية، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن حمزة)؛ بالمهملة والزاي، (ابن عبد الله)؛ بالتكبير، (بن عمر) بن الخطاب، المكنى بأبي عُمارة؛ بضم العين المهملة، القرشي العدوي المدني التابعي، (أنَّ ابن عمر) رضي الله عنهما، (قال: سمعت رسول الله)؛ أي: كلامَه، (صلى الله عليه وسلم) حالَ كونه (قال)، وفي رواية: (يقول)، (بينا) أصله: (بين)، فأشبعت الفتحة فصارت ألفًا، وقد تدخل عليها (ما)، فيقال: (بينما)، وهنا بغير ميم.
(أنا) مبتدأ، وقوله: (نائم) خبرُه، (أُتيت)؛ بضم الهمزة على صيغة المجهول، وهو جواب (بينا) وعامل فيه، (بقَدَح)؛ بفتحتين: وعاءٌ يشرب فيه، (لبنٍ) متعلِّقٌ بـ (أُتيت)، (فشربت)؛ أي: من اللبن، (حتى إنِّي)؛ بكسر الهمزة على كون (حتى) ابتدائيَّة، وبفتحها على كونها جارَّة، وياء المتكلِّم اسم (إنَّ)، وخبرُها قوله: (لَأَرى)؛ بفتح الهمزة من الرؤية.
(الرِّيّ)؛ بكسر الراء المهملة، وتشديد المثناة التحتية، كذا في الرواية، وحكى الجوهري الفتح أيضًا، وقيل: بالكسر الفعل، وبالفتح المصدر، كما أوضحه في «عمدة القاري»، وأصله: الروي اجتمعت الواو مع الياء وسُبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.
(يخرج في أظفاري) وفي رواية: (من أظفاري)، وفي أخرى: (من أطرافي)، والجارُّ والمجرور محلُّه نصب مفعول ثان لـ (أرى)، إن قدرت الرؤية بمعنى العلم، أو حال إن قدرت بمعنى الإبصار، ولفظ (في) [في] المتن يجوز أن تكون بمعنى (على)؛ أي: على أظفاري، ويكون بمعنى يظهر عليها، و (الظفر) إمَّا منشأ الخروج أو ظرفه.
(ثم أَعطيت)؛ بفتح الهمزة، (فضلي)؛ أي: الفضل الذي بقي بعد شُربي من اللبن، (عمرَ بن الخطاب) رضي الله عنه، بالنصب مفعول ثان لـ (أَعطيت)، (قالوا)؛ أي: الصحابة، (فما أوَّلتَه) (الفاء) زائدة؛ أي: عبَّرتَه، (يا رسول الله) منادى منصوب، (قال): أوَّلتُه، (العلم)؛ بالنصب والرفع روايتان، أمَّا النصب؛ فعلى المفعولية تقديره: أوَّلتُه العلم، وأمَّا الرفع؛ فعلى أنَّه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: المؤوَّل به العلم.
والمراد بـ (اللبن) هو الحليب في عرفنا، ووجه تفسيره بالعلم؛ الاشتراك في كثرة النفع بهما وكونهما سببًا للصلاح، ذاك في الأشباح، والآخر في الأرواح، وهل كان هذا الشرب وما يتعلَّق به واقعًا حقيقة؟
أجاب الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأنَّه واقع حقيقة ولا محذور فيه إذ هو ممكن، ورؤيا الأنبياء حق، وفيه فضيلة عمر رضي الله عنه وجواز تعبير الرؤيا؛ لأنَّها جزء من أجزاء النبوَّة، والله أعلم.
==================
(1/160)
(23) [باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها]
هذا (باب الفتيا)؛ بضم الفاء: اسم، وكذا الفتوى، وهو الجواب في الحادثة، (وهو)؛ أي: المفتي، (واقف)؛ أي: راكب، (على ظهر الدابَّة)؛ وهي كلُّ ما دَبَّ على وجه الأرض، والمراد بها ما تُركب عادة، ولفظ (ظهر) ساقط في رواية.
(وغيرها)؛ أي: غير الدابة من الوقوف على الأرض أو ماشيًا عليها، وفي رواية: (أو غيرها)، وهذا وجه المناسبة بين الترجمة والحديث خلافًا لما زعمه بعضهم؛ فافهم.
==========
%ص 54%
==================
(1/161)
[حديث: أن رسول الله وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه]
83# وبه قال: (حدثنا إسماعيل) بن أبي أويس ابن أخت مالك، (قال: حدثني) بالإفراد، (مالك) بن أنس الإمام، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن عيسى بن طلحة بن عُبيد الله)؛ بالتصغير؛ بضم العين: القرشي التيمي التابعي، المتوفى سنة مئة.
(عن عبد الله بن عمرو بن العاصي) الجمهورُ على كتابته بالمثناة آخره، وهو الفصيح، والأعياص جمع عِيص؛ بكسر العين المهملة: الشجر الكثير الملتفُّ، والأعياص مِن قريش أولاد أُميَّة بن عبد شمس الأكبر؛ وهم أربعة: العاصي، وأبو العاصي، والعيص، وأبو العيص، والعيصان من معادن بلاد العرب.
(أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف) جملةٌ محلُّها الرفع خبر (أنَّ)، (في حِجة)؛ بكسر الحاء المهملة وفتحها، والمعروف من الرواية الفتح، (الوَداع)؛ بفتح الواو، اسم: التوديع، ولا يجوز الكسر، خلافًا لما زعمه بعضهم، (بمنى) في محلِّ نصب على الحال، وهي قرية قرب مكة، يُذبح فيها الهدايا، وتُرمى فيها الجمرات، وهو مقصور بالصرف وعدمه، والأول أحسن كما تقدم.
(للناس) حال كونهم، (يسألونه) عليه السلام، فهو حال من ضمير وقف، ويَحتمل أن يكون من الناس؛ أي: وقف لهم حال كونهم سائلين منه، ويجوز أن يكون استئنافًا بيانيًا لعِلَّة الوقوف، كذا قرَّره في «عمدة القاري».
(فجاءه رجل) قيل: لم يُعرف اسمه، وفي رواية: (فجاء رجل)، (فقال): يا رسول الله، (لم أشعُر)؛ بضم العين؛ أي: لم أعلم؛ أي: لم أفطنه، (فحلقت) رأسي، و (الفاء) سببية، (قبل أن أذبح)؛ أي: الهدي، (فقال) رسول الله عليه السلام، (اذبح) هديك، (ولا حرج)؛ أي: ولا إثم عليك.
(فجاء آخر)؛ أي: رجل غير الأول، (فقال): يا رسول الله، (لم أشعُر)؛ بضم العين؛ أي: لم أفطن، (فنحرت) هديي، من النحر في اللبة، مثل الذبح في الحلق، والفاء سببية أيضًا، كأنَّه جعل الحلق والنحر كلًّا منهما سببًا عن عدم شعوره، وكأنَّه يعتذر لتقصيره، (قبل أن أرمي) الجمرة، (أنْ) مصدريَّة: أي: قبل الرمي. (قال) عليه السلام، وفي رواية: (فقال): (ارمِ) الجمرة، (ولا حرج)، فـ (لا) لنفي الجنس، و (حرج) اسمُها مبنيٌّ على الفتح، وخبرُها محذوف تقديرُه: لا حرج عليك.
(فما سُئل)؛ بصيغة المجهول، (النبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عن شيء) من أعمال يوم العيد؛ من الرمي، والنحر، والحلق، والطواف، (قُدِّمَ ولا أُخِّر)؛ بضم أوَّلهما على صيغة المجهول، وفي الأول حذف؛ أي: لا قُدِّم ولا أُخِّر؛ لأنَّها لا تكون في الماضي إلَّا مكررة على الفصيح، وحسُن ذلك هنا؛ لأنَّه وقع في سياق النفي، وتمامه في «عمدة القاري».
(إلَّا قال) عليه السلام للسائل: (افعل) ذلك كما فعلتَه قبلُ أو متى شئت، (ولا حرج) عليك، ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذا؛ لأنَّكم فعلتموه على الجهل منكم لا على القصد منكم خلاف السُّنَّة، وكانت السُّنَّة خلاف هذا، وأسقط عنهم الحرج وأعذرهم؛ لأجل النسيان وعدم العلم، والدليل عليه قول السائل: (فلم أشعر).
وجاء ذلك مصرَّحًا في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه الحافظ الطحاوي بإسناد صحيح: أنَّ رسول الله عليه السلام سأله رجل في حجته فقال: إنِّي رميت وأفضت ونسيت فلم أحلق، قال: «فاحلق ولا حرج»، ثم جاء رجل آخر فقال: إنِّي رميت وحلقت ونسيت أن أنحر، فقال: «انحر ولا حرج»، فدلَّ ذلك أنَّ الحرج الذي رفعه الله عنهم إنَّما كان لأجل النسيان والجهل بأمر المناسك؛ لأنَّ السائلين كانوا ناسًا أعرابًا لا عِلم لهم بالمناسك، فأجابهم عليه السلام بقوله: «لا حرج»؛ يعني: فيما فعلتم بالنسيان وبالجهل، فإنَّه أباح لهم ذلك فيما بعدُ.
وممَّا يؤيِّد هذا قولُ حبْر الأُمَّة ابن عباس رضي الله عنهما: مَن قدَّم شيئًا من حجه أو أخَّره؛ فليُهرق لذلك دمًا، والحال أنَّه أحد رواة الحديث المذكور، فلو لم يكن معنى الحديث عنده على ما ذكرنا؛ لما قال بخلافه، والدليل على هذا ما رواه أبو سعيد الخدري كما أخرجه الحافظ الطحاوي، قال: سُئل رسول الله عليه السلام وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرميَ، قال: «لا حرج»،
%ص 54%
وعن رجل ذبح قبل أن يرميَ، قال: «لا حرج»، ثم قال: «عباد الله؛ وضع الله عنكم الحرج والضيق، فتعلَّموا مناسككم؛ فإنَّها من دينكم».
قال الحافظ الطحاوي: أفلا يرى إلى أنَّه أمرهم بتعلُّم مناسكهم؛ لأنَّهم كانوا لا يُحسنونها، فدل ذلك على أنَّ الحرج الذي رفعه الله عنهم هو لجهلهم بأمر المناسك لا لغير ذلك، فعلم ما قرَّرناه: أنَّ الترتيب في أعمال الحج واجبٌ يتعلَّق الدمُ بتركه، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، والإمام مالك، وابن جُبير، والحسن، والنَّخَعي، وقتادة وغيرهم، فلو حلق قبل أن يذبح؛ فعليه دمٌ، وإن كان قارنًا؛ فعليه دمان عندنا.
وقال الإمام زفر: إذا حلق قبل أن ينحر؛ فعليه ثلاثة دماء؛ دمان [1] للقِران، ودم للحلق قبل النحر، وقال الإمام أبو يوسف والإمام محمد: عليه دمٌ واحد، وقال الإمام الشافعي وأحمد ابن حنبل: الترتيب في الأعمال المذكورة في الحديث سُنَّة، فلا شيء بتركه، واستدلا بالحديث المذكور، وقالا: معنى قوله: «لا حرج»؛ أي: لا شيء عليك مطلقًا من الإثم، لا في الترتيب، ولا في ترك الفدية، ولا حجة لهما في الحديث؛ لما علمتَ أنَّه أسقط الحرج للنسيان وعدم العلم، ولعله لم يبلغهما الأحاديث الواردة في ذلك؛ فتأمَّل.
وفي الحديث جواز سؤال العالم راكبًا، وماشيًا، وواقفًا، وجواز الجلوس على الدابة وهي واقفة للحاجة، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل (دمين) والصواب أنها بدل من (ثلاثة) المبتدأ.
==================
(1/162)
(24) [باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس]
هذا (باب من أجاب الفتيا)؛ أي: باب في بيان المفتي الذي أجاب المستفتي في فتياه، (بإشارة اليد والرأس)، والمناسبة بين البابين ظاهرة، ولفظ (باب) ساقط عند الأصيلي كعادته.
==========
%ص 55%
==================
(1/163)
[حديث: أن النبي سئل في حجته فقال: ذبحت قبل أن أرمي]
84# وبه قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) أبو سلَمة؛ بفتح اللام: التبوذكي البصري، (قال: حدثنا وُهَيب)؛ بضم الواو، وفتح الهاء، وسكون التحتية، آخره موحَّدة: ابن خالد الباهلي البصري، المتوفى سنة خمس أو تسع وستين، (قال: حدثنا أيوب) السختياني البصري، (عن عكرمة)؛ بكسر العين وإسكان الكاف: مولى ابن عباس، (عن ابن عباس) عبد الله، رضي الله تعالى عنهما، (أنَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم سُئل)؛ بضم السين المهملة، (في حجته)؛ بفتح الحاء المهملة وكسرها؛ أي: الوداع، (فقال)؛ أي: السائل: (ذبحت) هديي، (قبل أن أرمي) الجمرة هل علي حرج؟ (فأومأ)؛ أي: أشار عليه السلام، وفي رواية: (قال: فأوما) (بيده) الكريمة حال كونه قد (قال)، وفي رواية: (فقال): (لا حرج) عليك، وللأصيلي: (ولا حرج) بالواو؛ أي: امض [1] في فعلك لا حرج عليك؛ لأنَّك جاهل ناسي، و (على) حالية، قال: يكون جمع بين الإشارة والنطق، ويَحتمل أن يكون (قال) بيانًا لقوله: (فأومأ)، ويكون من إطلاق القول على الفعل، كذا في «عمدة القاري».
(وقال) ذلك السائل أو غيره: (حلقت) رأسي، (قبل أن أذبح) هديي؛ أي: قبل ذبحه، فـ (أن) مصدريَّة، (فأومأ)؛ أي: أشار عليه السلام، (بيده) الشريفة، (ولا حرج)؛ أي: امض في فعلك ولا إثم عليك؛ لأنَّك لا تعلم المناسك وأحكامَها.
وهذه الأحاديث مطلقة، وما رويناه مقيَّد، فيُحمل المطلق على المقيَّد، على أنَّ الأحاديث التي استدل بها إمامنا الأعظم مثبتة، وغيرَها نافية، ومن القواعد المقرَّرة عند المحقِّقين: أنَّ المثبت مقدَّم ومرجَّح على النافي؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل (امضي).
%ص 55%
==================
(1/164)
[حديث: يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن]
85# وبه قال: (حدثنا المكي بن إبراهيم) بن بَشِير؛ بفتح الموحدة، وكسر المعجمة، آخره راء: ابن فرقد، أبو السكن البلخي، المتوفى سنة أربع عشرة ومئتين ببلخ عن ثمان وثمانين سنة، (قال: أخبرنا حنظلة) زاد الأصيلي: (بن أبي سفيان)؛ أي: ابن عبد الملك.
(عن سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (قال: سمعت أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر؛ أي: كلامَه، (عنِ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: يُقبَض)؛ بضمِّ أوَّله على صيغة المجهول، (العلمُ)؛ أي: بموت العلماء، وهو تفسير لقوله في الرواية المارَّة: (يُرفع العلم).
(ويَظهر)؛ بفتح أوَّله على صيغة المعلوم، (الجهل)، وظهوره لازمُ قبضِ العلم، فذِكره تأكيدٌ وإيضاح، (والفتنُ) بالرفع عطفًا على الجهل، وفي رواية: بإسقاط لفظ (الجهل)، (ويَكثر)؛ بفتح أوَّله بصيغة المعلوم، (الهَرْج)؛ بفتح الهاء، وسكون الراء، آخره جيم: الفتنة والاختلاط والقتال.
(قيل: يا رسول الله؛ وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرَّفها) بتشديد الراء، (كأنَّه يريد القتل)، فكأن الراوي فهم من تحريف يده وحركتها كالضارب أنَّه يريد القتل، والظاهر أنَّ هذا زيادة من الراوي عن حنظلة، وفيه إطلاق القول على الفعل، و (الفاء) في (فحركها) تفسيريَّة، مفسِّرة لقوله: (هكذا)، وتمامه في «عمدة القاري».
==================
(1/165)
[حديث: ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته]
86# وبه قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي، (قال: حدثنا وُهيب) هو ابن خالد الباهلي، (قال: حدثنا هشام) هو ابن عروة بن الزبير بن العوَّام، (عن فاطمة) بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي زوجة هشام بن عروة وبنت عمِّه.
(عن أسماء) بنت أبي بكر الصديق زوجة الزبير، وكان عبد الله بن أبي بكر شقيقها، وعائشة وعبد الرحمن أخواها لأبيها، وهي ذات النطاقين، المتوفاة في مكة في جماد الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير، وقد بلغت المئة ولم يسقط لها سِنٌّ ولم يتغيَّر لها عقل، أنَّها (قال: أتيت عائشة) بالنصب مفعول، ومنع التنوين منه؛ لأنَّه غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث، أم المؤمنين رضي الله عنها.
(وهي تصلي) جملة اسمية وقعت حالًا من عائشة، (فقلتُ) لها: (ما شأن الناس) قائمين فزعين، (فأشارت) عائشة (إلى السماء) تعني: انكسفت الشمس، (فإذا الناس)؛ أي: بعضهم، (قيام) لصلاة الكسوف، و (إذا) للمفاجأة، وما بعده مبتدأ وخبر، (فقالت)؛ أي: عائشة: (سبحان الله) مفعول مطلق التُزِمَ إضمارُ فعله، تقديره: أُسَبِّحُ الله سبحان؛ أي: تسبيحًا، معناه: أنزِّهُه.
(قلت: آية؟) بهمزة الاستفهام وحذفها، خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: أهي آية؛ أي: علامة لعذاب الناس كأنَّها مقدمة له، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، أو علامة لقرب زمان القيامة، (فأشارت) عائشة (برأسها؛ أي: نعم) تفسير لقوله: (إشارة).
وقال أهل الهيئة: إنَّ الكسوف سببه حيلولة القمر بينها وبين الأرض، فلا يرى حينئذٍ إلَّا لون القمر، وهو كَمِدٌ لا نورَ له، وذاك لا يكون إلَّا في آخر الشهر عند كون النيِّرين في إحدى عقدتي الرأس والذنب، وله آثار في الأرض، وهذا إن كان غرضهم أنَّ الله تعالى أجرى سُنَنَه بذلك كما أَجرى باحتراق الحطب اليابس عند مساس النار، فلا بأس به، وإن كان غرضهم أنَّه واجب عقلًا وله تأثيرٌ بحسب ذاته؛ فهو باطل؛ لما عُلم أنَّ جميع الحوادث مسندَةٌ إلى إرادة الله ولا مؤثِّر في الوجود إلَّا الله تعالى.
قالت أسماء: (فقمت) في الصلاة، (حتى) إلى أن (علاني)؛ بالعين المهملة وتخفيف اللام، من علوت الرجل غلبتُه، وفي رواية: (تجلَّاني)؛ بالفوقية والجيم وتشديد اللام؛ أي: علاني؛ أي: غلبني، (الغَشي)؛ بفتح المعجمة الأولى وسكون الثانية، آخره مثناة خفيفة، وبكسر الشين المعجمة وتشديد الياء أيضًا، بمعنى: الغشاوة، وهي الغطاء.
وفي الأصل: تحرك الخلط الصفراوي يصعد بخاره للدماغ بسبب الحركة، وهنا بطول القيام، والمراد به هنا الحالة الغريبة القريبة منه، فأطلقت (الغشي) عليها مجازًا، ولهذا قالت: (فجعلتُ) من الأفعال الناقصة، و (التاء) اسمه، وقوله: (أصبُّ على رأسي الماء) جملة من الفعل والفاعل المستتر والمفعول: محلُّها النصب خبر (جعل)، وإنَّما صبَّتْ في تلك الحالة الماء البارد؛ لأنَّه يُطفئ حرارة البخار، ويُسكِن تهيُّج الصفراء، ويجلو البصر.
(فحمِد الله) عزَّ وجلَّ (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: قال: الحمد لله، (وأثنى عليه) بأن شكره وذكره بصفات الكمال، فهو من عطف العام على الخاص، (ثم قال) عليه السلام، (ما) نافية، (مِن) زائدة للتأكيد، (شيء) اسم (ما)، (لم أكن) جملةٌ محلُّها رفع صفة لـ (شيء)، (أُريته)؛ بضم الهمزة، جملةٌ محلُّها النصب خبر (لم أكن)، ولا يصحُّ جعلها حالًا خلافًا لمن زعمه.
(إلَّا رأيتُه) استثناء مفرَّغ، فتُلغى فيه (إلَّا) من حيث العمل لا من حيث المعنى؛ أي: رؤيته عين حقيقة؛ بأنْ كُشف له وأُزيلت الحجب عنه، فرأى ربَّه عزَّ وجلَّ بلا كيف ولا كيفيَّة؛ لأنَّه ممَّا لم يمنعه العقل، وكذا كلُّ شيء يصحُّ شرعًا رؤيته، حال كوني، (في مَقامي)؛ بفتح الميم الأولى وكسر الثانية؛ أي: مكاني، زاد في رواية: (هذا) خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو هذا، ويؤوَّل بالمشار إليه.
(حتى الجنة والنار) يجوزُ فيهما الرفع، والنصب، والجرُّ، أمَّا الرفع؛ فعلى أنَّ (حتى) ابتدائية، و (الجنة) مبتدأ محذوف الخبر، و (النار) عطفٌ عليه؛ أي: حتى الجنة مرئية، وأمَّا النصب؛ فعلى أن تكون (حتى) عاطفة عطفت (الجنة) على الضمير المنصوب في (رأيته)، وأمَّا الجر؛ فعلى أن تكون (حتى) جارَّة فرآهما حقيقةً أو صُوِّرتا له في الحائط كما يتمثَّل المرئيات في المرآة، ويدلُّ له ما في المؤلف في (الكسوف): فقال عليه السلام: «الجنة والنار ممثلين في قبلة هذا الجدار»، وفي «مسلم»: «إنِّي صُوِّرتْ لي الجنة والنار، فرأيتُهما دون [1] هذا الحائط»، وتمامه في «عمدةالقاري».
%ص 55%
(فأُوحي)؛ بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول (إليَّ: أنَّكم)؛ بفتح الهمزة: مفعول (أوحي) نائب عن الفاعل (تُفتنون) جملة محلُّها الرفع خبر (أنَّ)؛ أي: تُمتحنون وتُختبرون (في قبوركم) وهو دليل على ثبوت عذاب القبر، (مثلَ أو قريبًا)؛ بحذف التنوين في الأول وإثباته في الثاني، وفي رواية: بحذفه فيهما مع حذف الألف، وفي أخرى: بإثباته فيهما مع ثبوت الألف.
(لا أدري أيُّ ذلك) لفظ (مثل أو قريبًا)، (قالت أسماء؟)، و (أيُّ) مرفوع على الابتداء، خبرُه قوله: (قالت أسماء)، وضميرُ المفعول محذوف؛ أي: قالته، ويجوز أن تكون (أي) استفهاميَّة وموصولة، فإن كانت استفهاميَّة؛ يكون فعل الدراية معلقًا بالاستفهام؛ لأنَّه من أفعال القلوب، ويجوز أن تكون (أي) مبنيَّة على الضم مبتدأ حذف صدر صلتها؛ تقديره: لا أدري أي ذلك هو قالته، وإن كانت موصولة؛ تكون (أي) منصوبة إمَّا مفعول لـ (أدري) أو بـ (قالت) سواء كانت موصولة أو استفهاميَّة، وتمامه في «عمدة القاري».
(من فتنة المسيح)؛ بالحاء المهملة، إنَّما سُمِّي مسيحًا؛ لأنَّه يمسح الأرض، أو لأنَّه ممسوح إحدى العينين، وفرَّق بعضهم بينه وبين عيسى ابن مريم بأن يقال فيه: المسِّيح كـ (سكِّيت)؛ بتشديد السين المهملة؛ لأنَّه مُسح خلقه؛ أي: شوِّه، ويقال لعيسى: مسيح؛ بالتخفيف، وقال آخرون: يقال له: بالخاء المعجمة؛ لأنَّه خلق خلقًا ملعونًا، وبالمهملة لعيسى؛ لأنَّه خلق خلقًا حسنًا.
(الدَّجَّال)؛ بتشديد المعجمة، (فَعَّال) من الدَّجَل؛ وهو الكذب وخلط الحقِّ بالباطل، وتقدير الرواية الأولى: مثل فتنة الدجال أو قريبًا من فتنة الدجال، فحذف ما كان (مثل) مضافًا إليه وترك على هيئته قبل الحذف، وجاز الحذف؛ لدلالة ما بعدَه.
وأمَّا وجه الثانية: فهو أن يكون (مثل) أو (قريب) كلاهما مضافان إلى (فتنة المسيح)، ويكون قوله: (لا أدري أيُّ ذلك قالت أسماء؟) معترضة بين المضاف والمضاف إليه، مؤكِّدة لمعنى الشك المستفاد من كلمة (أو).
وأمَّا وجه الثالثة: فهو أن يكون (مِثلًا) منصوبًا على أنه صفة لمصدر محذوف، و (أو قريبًا) عطفًا عليه، والتقدير: تُفتنون في قبوركم فتنةً مِثلًا _أي: مماثلًا_ من فتنة المسيح الدجَّال أو فتنةً قريبًا من فتنة المسيح الدجال، وتمامه في «عمدة القاري».
(يقال) للمفتون: (ما علمك) مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، وإنَّما عُدِل عن خطاب الجمع إلى المفرد؛ لأنَّ السؤال عن العلم يكون لكلِّ واحد بانفراده واستقلاله، وتمامه في «عمدة القاري».
(بهذا الرجل) عليه السلام، ولم يقل: بي؛ لأنَّه حكاية عن قول الملكين السائلين المسمِّيَيْن بمنكر ونكير، ولم يقولا [2] له: رسول الله؛ لئلَّا يلقَّنَ منهما إكرامَ الرسول، فيُعظِّمُه تقليدًا لهما لا اعتقادًا، (فأمَّا) للتفصيل وفيه معنى الشرط فلذا دخلت الفاء في جوابها، (المؤمن أو الموقن)؛ أي: المصدِّق بنبوة النبي الأعظم عليه السلام، (لا أدري بأيهما)، وفي رواية: (أيُّهما المؤمن أو الموقن)، (قالت أسماء) الشك من فاطمة بنت المنذر، (فيقول) جواب (أمَّا)؛ أي: المقبور المفتون: (هو محمَّد) مبتدأٌ وخبر، (هو رسول الله) مبتدأٌ وخبر، هو (جاءنا) جملة من الفعل والفاعل والمفعول، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو جاءنا (بالبينات)؛ أي: المعجزات الدالة على نبوته (والهدى)؛ أي: الدلالة الموصلة إلى البغية، (فأجبنا)؛ أي: قبلنا نبوَّته معتقدين حقيتها معترفين بها، (واتَّبعنا) فيما جاء به إلينا، أو الإجابة تتعلق بالعلم والاتباع بالعمل، وفي رواية: زيادة الهاء في آخرهما، وحذف ضمير المفعول من الأولى للعلم به، (هو محمد)، وفي رواية: (وهو محمد صلى الله عليه وسلم).
(ثلاثًا) منصوب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: يقول المؤمن: هو محمَّد قولًا ثلاثًا؛ أي: ثلاث مرات، ولفظ (ثلاثًا) ذُكر للتأكيد، فلا يكون المقول إلَّا ثلاث مرات، فاندفع أن يقال: يلزم أن يكون (هو محمد) مقولًا تسع مرَّات؛ فافهم.
(فيقال) له: (نَمْ) فعل أمر، حال كونك، (صالحًا)؛ أي: منتفِعًا بإيمانك وعملك، (قد علمنا إنْ)؛ بكسر الهمزة؛ أي: الشأن، (كنت لموقنًا به)؛ أي: إنَّك موقنٌ به، و (اللام) هي الفارقة بين المخففة والنافية عند البصريين، وقال الكوفيُّون: (إنْ) بمعنى (ما)، و (اللام) بمعنى (إلَّا)، كقوله تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4]؛ أي: ما كل نفس إلَّا عليها حافظ، ويكون التقدير هنا: ما كنت إلَّا موقنًا، وحكى السفاقسي بفتح الهمزة على جعلها مصدريَّة؛ أي: علمنا كونك موقنًا به، بناءً على أنَّ (اللام) اجتُلبتْ للفرق، لا للابتداء.
(وأمَّا المنافق)؛ أي: غير المصدق بقلبه لنبوَّته، (أو المرتاب)؛ أي: الشاكُّ، وأصله: مرتيب؛ بفتح المثناة التحتية في المفعول وكسرها في الفاعل من الريب، قالت فاطمة: (لا أدري أيُّ ذلك قالت أسماء) رضي الله عنها، (فيقول) (الفاء) في جواب (أمَّا)؛ أي: المفتون: (لا أدري، سمعتُ الناسَ) حالَ كونهم (يقولون شيئًا فقلتُه)؛ أي: قلت ما كان الناس يقولونه، وفي رواية: وذكر الحديث بتمامه؛ وهو أنَّه يقال له: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين، نسأل الله العافية.
وفي الحديث دليل على أنَّ الجنة والنار مخلوقتان، وسأل اليهود عمر عن قوله تعالى [3]: {جَنَّةٍ عَرْضُهَا} الآية [آل عمران: 133]: وأين تكون النار، فقال لهم عمر: أرأيتُم إذا جاء الليل فأين يكون النهار، فقالوا له: لقد نزعت ممَّا في التوراة، وفيه سؤال منكر ونكير، وخروج الدجَّال، وسُنِّيَّة صلاة الكسوف، وحضور النساء الجماعات، وجواز السؤال من المصلي.
وفيه دليل على امتناع الكلام في الصلاة ولو كلمة، وهو مذهب إمامنا الإمام الأعظم وأتباعهرضي الله عنه، وفيه جواز الإشارة ولا كراهة فيها إذا كانت لحاجة، وهو مذهبنا أيضًا، وجواز العمل اليسير في الصلاة وأنَّه لا يبطلها، وهو مذهبنا، وأنَّ الغشي لا ينقض الوضوء ما دام العقل والفهم باقيًا، وهو مذهبنا، وأمَّا صبُّ الماء؛ فالمراد به بعمل قليل؛ بحيث لا يعدُّه الناظر كثيرًا، وإلَّا لفسدت الصلاة، والله أعلم.
==================
[1] في الأصل: (بدور) تبعًا لـ «عمدة القاري».
[2] في الأصل: (يقولان).
(1/166)
(25) [باب تحريض النبي وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان ... ]
هذا (باب تحريض) وهو بالضاد المعجمة وكذا بالمهملة، بمعنًى واحد، وهو الحث على الشيء، خلافًا لمن زعم أنَّ المهملة تصحيف؛ فافهم، (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم وفد) جماعة، (عبد القيس) القبيلة المشهورة، (أنْ يحفظوا الإيمان والعلم) عطف خاص على عام، (ويخبروا به مَن وراءَهم) من الناس.
(وقال مالك بن الحُويرث)؛ مصغَّر الحارث؛ بالمثلثة، ابن حشيش؛ بفتح المهملة وبالشين المعجمة المكررة، وقيل: بضم المهملة، ابن عوف بن جندع الليثي، أبو سليمان، المتوفى بالبصرة سنة أربع وتسعين، ممَّا وصله المؤلف في (الصلاة)، ومسلم كذلك.
(قال لنا النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لمَّا قدم عليه في ستةٍ مِن قومه، وأسلم، وأقام عنده أيامًا، وأذن له بالرجوع: (ارجعوا إلى أهليكم) جمع الأهل، وهو يُجمع مكسَّرًا على (الأهال) و (الأهالي)، ومُصَحَّحًا بالواو والنون نحو: (الأهلون)، وبالألف والتاء نحو: (الأهلات)، (فعلِّموهم) أمر دينهم، وفي رواية: (فعِظوهم)؛ أي: ذكِّروهم.
==========
%ص 56%
==================
(1/167)
[حديث: مرحبًا بالقوم _أو: بالوفد_ غير خزايا ولا ندامى]
87# وبه قال: (حدثنا محمد بن بَشَّار)؛ بفتح الموحدة والشين المعجمة، ابن عثمان البصري، (قال: حدثنا غُندَر)؛ بضم الغين المعجمة وفتح الدال المهملة، محمد بن جعفر الهذلي البصري، (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجَّاج، (عن أبي جمرة)؛ بالجيم والراء، نصر بن عمران البصري، أنَّه (قال: كنت أترجم)؛ أي: أعبِّر، (بين ابن عباس) زمن ولايته بالبصرة مِن قِبَل علي بن أبي طالب (وبين الناس) فأعبِّرُ لهم ما يقول ابن عباس، وله ما يقولونه، (فقال) ابن عباس: (إنَّ وفدَ) جماعة، (عبد القيس) بن أَفْصَى؛ بفتح الهمزة، وسكون الفاء، وفتح الصاد المهملة، أربعة عشر رجلًا، والوفد: اسمٌ جمع، لا جمعٌ لـ (وافد)، وهم القوم يأتون رُكبانًا، (أتَوا النبي) الأعظم عام الفتح، وفي الرواية السابقة: (لما أتَوا [رسول] الله)، (صلى الله عليه وسلم قال) لهم: (مَنِ الوافد أو) قال لهم:
%ص 56%
(مَنِ القوم؟) بالشكِّ مِن شعبة أو شيخه (قالوا) نحن (ربيعة) بن نزار بن مَعَد بن عدنان؛ لأنَّ عبد القيس من أولاده، (فقال) عليه السلام، وفي رواية: (قال): (مرحبًا بالقوم أو بالوفد) على الشك أيضًا، وفي رواية بحذفهما، وانتصابُه على المصدريَّة بفعلٍ مضمر (غير) بالنصب حال، وبالجرِّ صفة (خزايا)؛ أي: مذَلِّين ولا مهانِين بالقتل والسَّبِي (ولا ندامى) جمع نادم على القياس؛ كما قدَّمناه، وعند النسائيِّ قال: «مرحبًا بالوفد ليس الخزايا النادمين».
(قالوا): يا رسول الله؛ (إنا نأتيك من شُقَّة)؛ بضمِّ الشين المعجمة؛ أي: سفرة، (بعيدة) وكانوا ينزلون البحرين، (وبيننا وبينك هذا الحي من كفَّار مُضر)؛ بضمِّ الميم ممنوعٌ من الصرف؛ للعلمية والتأنيث، وأصل الحي: منزل القبيلة، ثم سُمِّيت به؛ اتِّساعًا، (ولا نستطيع أن نأتيك)؛ أي: الإتيان إليك (إلَّا في شهرٍ حرامٍ)؛ بتنكيرها؛ أي: رجب، كما صرَّح به البيهقي، وفي رواية: (في شهر الحرام)؛ بتعريف الثاني، (فمرنا بأمر) زاد في (الإيمان): (فصل) (نخبر به) بالرفع على الصفة لقوله: (أمر)، وبالجزم جوابًا للأمر (مَن وراءَنا)؛ أي: الذي استقرَّ خلفنا من قومنا، (ندخل به الجنة)؛ بإسقاط واو العطف الثابتة في (كتاب الإيمان) مع الرفع على الحال المقدَّرة؛ أي: نخبر مقدِّرين دخول الجنة، أو على الاستئناف، أو البدلية، أو الصفة بعد الصفة، والجزم جوابًا للأمر بعد جواب، وفي رواية: (وندخل) بإثبات الواو كالأولى، وعليها؛ فلا يتأتَّى الجزم في الثاني مع رفع الأول، كذا قرَّره في «عمدة القاري».
(فأمرهم) عليه السلام (بأربع) جمل أو خصال، (ونهاهم عن أربع، أمرهم: بالإيمان بالله عز وجل وحده، قال: هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)؛ برفع (شهادة): خبر لمبتدأ محذوف، ويجوز الجرُّ على البدليَّة، (وإقام الصلاة) المفروضة؛ أي: أداؤها، (وإيتاء الزكاة)؛ أي: إعطاؤها، (وصوم رمضان، و) زاد الخامس: أن (تعطوا الخُمُس مِنَ المغنم)، وصرَّح بـ (أن) أحمدُ؛ لكونهم كانوا مجاورين كفَّار مضر وكانوا أهل جهاد وغنائم، فزاد الخامس لذلك، (ونهاهم عن الدُّبَّاء)؛ بضم الدال المهملة وتشديد الموحَّدة والمدِّ: القرع؛ أي: عن الانتباذ بهذه الأشياء، ثم ثبتت الرخصة بما في «مسلم»: «كنت نهيتكم عنِ الانتباذ إلَّا في الأسقية، فانتبذوا في كلِّ وعاءٍ، ولا تشربوا مسكرًا»، (و) عن (الحَنْتم)؛ بفتح الحاء المهملة وسكون النون: جِرار متخذةٌ من طين، ودم، وشعر، أو مطلية بما يسدُّ الخَرْق، (و) عن (المُزَفَّت)؛ أي: المطليِّ بالزفت، (قال شعبة: ربما)، وفي رواية: (وربما) (قال) أبو جمرة: عن (النَّقِير)؛ بفتح النون وكسر القاف؛ أي: الجذع المنقور، (وربما قال): عن (المقيَّر)؛ أي: المطليِّ بالقار، وليس المراد أنَّه كان يتردَّد في هاتين اللفظتين؛ ليثبت إحداهما دون الأخرى؛ لأنَّه على هذا التقدير يلزم التَكرار؛ بلِ المراد أنَّه كان جازمًا بذكر الألفاظ الثلاثة الأُوَل، شاكًّا في الرابع؛ وهو النقير، فكان تارة يذكره وتارة لا يذكره، وكان أيضًا شاكًّا في التلفُّظ بالثالث؛ أعني المزفَّت، فكان تارة يقول: المزفت، وتارة يقول: المقيَّر، والدليل عليه: أنَّه جزم بالنقير في الباب السابق، ولم يتردَّد إلَّا في المزفَّت والمقيَّر فقط، كذا قرره في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(قال: احفظوه)؛ أي: المذكور، (وأخبروه)؛ بفتح الهمزة وكسر الموحَّدة، وفي رواية: بحذف الضمير، وفي أخرى: (وأخبروا به) (مَن وراءَكم) من قومكم، وتمامه قدَّمناه.
==================
(1/168)
(26) [باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله]
هذا (باب الرحلة)؛ بكسر الراء؛ أي: الارتحال، وبالضم: جودة الشيء (في المسألة النازلة) بالمرء، (وتعليمِ أهله) بالجرِّ عطفًا على الرحلة، قال في «عمدة القاري»: والصواب حذف هذه الجملة؛ لأنَّه يأتي آخر الباب.
==========
%ص 57%
==================
(1/169)
[حديث عقبة: أنه تزوج ابنة لأبي إهاب]
88# وبه قال: (حدثنا محمد بن مقاتل) المروزي، وفي رواية: (ابن مقاتل أبو الحسن) (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي (قال: أخبرنا عُمر بن سعِيد)؛ بضم العين في الأول وكسرها في الثاني (بن أبي حُسَين)؛ بضم الحاء وفتح السين المهملتين؛ مصغرًا، النوفلي المكي (قال: حدثني) بالإفراد (عَبْد الله)؛ بفتح العين وسكون الموحدة (ابن أبي مُليكة)؛ بضم الميم: زهير التيمي القرشي الأحول المكي، ونسبه لجده؛ لشهرته به، وإلَّا فأبوه عُبيد الله؛ بضم العين، (عن عُقْبَة)؛ بضم العين، وسكون القاف، وفتح الموحدة (بن الحارث) بن عامر القرشي المكي، أبو سِروعة؛ بكسر السين المهملة، وحكي فتحها، قال أبو عمران: ابن أبي مليكة لم يسمع من عقبة، وهو سهوٌ؛ لما سيأتي عند المؤلف في (النكاح): أنَّ ابن أبي مليكة قال: حدثنا عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث قال: وسمعته من عقبة، فهذا صريح في سماعه من عقبة: (أنَّه)؛ أي: عقبة بن الحارث (تزوَّج ابنةً) وللأصيلي: (بنتًا) (لأبي إِهاب بن عَزِيز)؛ بكسر الهمزة، وفتح العين المهملة، وكسر الزاي، وسكون التحتية: ابن قيس بن سويد التيمي الدارمي، واسم ابنته: غَنِيَّة؛ بفتح المعجمة، وكسر النون، وتشديد التحتية، وكنيتها: أم يحيى، (فأتته امرأة) قال في «عمدة القاري»: لم أقف على اسمها، (فقالت: إنِّي أرضعت عقبة) بن الحارث (والتي تزوَّج بها)؛ أي: غَنِيَّة، وفي رواية: بحذف (بها)، (فقال لها عقبة: ما أعلم أنكِ) بكسر الكاف (أرضعتني)، وفي رواية: (أرضعتيني)؛ بزيادة تحتية قبل النون، (ولا أخبرتني) وفي رواية: (ولا أخبرتيني)؛ بزيادة تحتية قبل النون [1]، (فركب) عقبة (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال كونه (بالمدينة)؛ أي: فيها، وكان ركوبه من مكة، (فسأله)؛ أي: سأل عقبة النبيَّ الأعظم عليه السلام عن الحكم، (فقال) وفي رواية: (قال) (رسول الله) وفي رواية: (قال النبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: كيف) تباشرها (وقد قيل): إنك أخوها من الرضاعة؟! (ففارقها عقبة) بن الحارث؛ أي: طلقها احتياطًا وورعًا، لا حكمًا بثبوت الرضاع وفساد النكاح؛ لأنَّه ليس قول المرأة الواحدة شهادةً يجوز الحكم بها في أصل من الأصول، وإنَّما يثبت الرضاع بما يثبت به المال؛ وهو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وهذا مذهب إمامنا الإمام الأعظم رضي الله عنه.
(ونَكحت) غَنِيَّة بعد فراق عقبة، ومُضِيِّ عِدتها (زوجًا غيره) هو ظُرَيب؛ بضم المعجمة، وفتح الراء، آخره موحدة: ابن الحارث، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الفوقية)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 57%
==================
(1/170)
(27) [باب التناوب في العلم]
هذا (باب التناوب) بالجرِّ؛ للإضافة (في العلم)، والتناوب (تفاعل) من ناب؛ أي: قام مقامي؛ بأن يأخذ هذا مرة ويذكره لهذا، والآخر مرة ويذكره له.
==========
%ص 57%
==================
(1/171)
[حديث عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار]
89# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) هو الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة؛ بالمهملة والزاي، (عن الزهري) محمد بن مسلم ابن شهاب،
(ح) مهملة للتحويل: (قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، وهو ساقط في رواية، (وقال ابن وهب) عبد الله المصري فيما وصله ابن حبَّان في «صحيحه» عن ابن قتيبة، عن حرملة، عن عبد الله بن وهب: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي، (عن ابن شهاب) الزهري المذكور في الموصول، فغاير بين اللفظين؛ تنبيهًا على قوَّة محافظته على ما سمعه من شيخه، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (ابن أبي ثور)؛ بالمثلثة، القرشي النوفلي التابعي، (عن عبد الله بن عباس، عن عمر) بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه (قال: كنت أنا وجارٌ)؛ بالرفع عطفًا على الضمير المنفصل المرفوع، أعني: أنا، وإنَّما أظهره؛ لصِحَّة العطف حتى لا يلزم عطف الاسم على الفعل، هذا قول البصريين، وعند الكوفيين: يجوز من غير إعادة الضمير، ويجوز فيه النصب على معنى المعية، واسمه: عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري الخزرجي، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (لي) جارٌ ومجرور في محل رفع أو نصب صفة لـ (جار)، (مِن) بيانية (الأنصار) جمع ناصر أو نصير، عبارة عن الصحابة الذين آووا ونصروا رسول الله عليه السلام من أهل المدينة، وهو اسم إسلامي سمَّى الله به الأوس والخزرج (في بني) في محل نصب خبر (كان)؛ أي: مستقرِّين، أو نازلين، أو كائنين فيها، وفي رواية: (من بني) (أمية بن زيد)؛ أي: في هذه القبيلة ومواضعهم؛ يعني: في ناحية بني أمية، سُمِّيت البقعة باسم مَن نزلها، (وهي)؛ أي: القبيلة، وفي رواية: (وهو)؛ أي: الموضع (من عوالي) خبر (هي) (المدينة) جمع عالية، وهي عبارة عن قرًى بقرب المدينة من فوقها في جهة الشرق، وأقرب العوالي إلى المدينة على ميلين، أو ثلاثة، أو أربعة، وأبعدها ثمانية، وتمامه في «عمدة القاري» (وكنا نتناوب) جملة محلها النصب خبر كان (النزول) بالنصب مفعوله (على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل) جملة محلها الرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: جاري (يومًا) بالنصب على الظرفية، (وأنزل يومًا) من العوالي إلى رسول الله عليه السلام؛ لتعلُّم العلم، (فإذا نزلت) أنا؛ (جئته) جواب (فإذا)؛ لما فيها من معنى الشرط (بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره) من الشرائع، (وإذا نزل) جاري؛ (فعل) معي (مثل ذلك) فيأتيني بخبر يومه من الوحي وغيره، (فنزل صاحبي الأنصاريُّ) بالرفع صفة لـ (صاحبي) المرفوع،
%ص 57%
(يوم نوبته)؛ أي: يومًا من أيام نوبته، فسمع أنَّ النبيَّ الأعظم عليه السلام اعتزل نساءه، فرجع إلى العوالي فجاء، (فضرب بابي) فالفاء تسمَّى فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن شرط مقدر (ضربًا شديدًا، فقال: أثَمَّ هو)؛ بفتح المثلثة وتشديد الميم: اسم يُشار به إلى المكان البعيد، وهو ظرف لا ينصرف، (ففزِعت)؛ بكسر الزاي؛ أي: خِفت لأجل الضرب الشديد؛ لأنَّه كان على خلاف عادته، فـ (الفاء) تعليلية، وللمؤلف في (التفسير): (قال عمر: كنا نتخوَّف مَلِكًا من ملوك غسان ذُكر لنا أنَّه يريد أن يسير إلينا وقد امتلأت صدورنا منه، فتوهَّمت لعلَّه جاء إلى المدينة، فخفته لذلك)، (فخرجت إليه فقال: قد حدث أمر عظيم) أراد به اعتزاله عليه السلام عن أزواجه الطاهرات، وإنَّما وصفه بالعظمة؛ لكونه مَظِنَّة الطلاق وهو عظيم، لا سيما بالنسبة إلى عمر؛ فإنَّ بنته إحدى زوجاته، وفي أصل الحديث بعد قوله: (أمر عظيم): (طلق رسول الله عليه السلام نساءه، قلت: قد كنتُ أظنُّ أنَّ هذا كائنٌ حتى إذا صليت الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نزلت)، (فدخلت على حفصة) أمِّ المؤمنين، فالداخل أبوها عمر، لا الأنصاري، و (الفاء) تفصيحية أفصحت عن المقدر؛ أي: نزلت من العوالي فجئت إلى المدينة فدخلت على حفصة؛ (فإذا هي تبكي) مبتدأ وخبره، (فقلت) لها: (طلقكُنَّ) وفي رواية: (أطلقكُنَّ) (رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت)؛ أي: حفصة: (لا أدري)؛ أي: لا أعلم، ومفعوله محذوف؛ أي: أنَّه طلق، (ثمَّ دخلتُ على النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فخرجت من عندها ودخلت عليه، (فقلت وأنا قائم): يا رسول الله؛ (أَطلقتَ نساءك؟)؛ بهمزة الاستفهام مفتوحة، (قال) عليه السلام: (لا، فقلت) وللأصيلي: (قلت): (الله أكبر!) وقع موقع التعجُّب من كون الأنصاري ظنَّ أنَّ اعتزالَه عليه السلام عن نسائه طلاقٌ أو ناشئٌ عنه، فلمَّا رأى عمرُ أنَّ صاحبه لم يصب في ظنِّه؛ تعجَّب منه بلفظ: (الله أكبر).
وإيراد هذا الحديث هنا للتناوب [1] في العلم، وفيه: جواز دخول الآباء على البنات بغير إذن أزواجهنَّ، وفيه: أنَّ لطالب العلم أن ينظر في معيشته وما يستعين به، وفيه: قبول خبر الواحد، وفيه: توقيت يوم للعلم ويوم للمعيشة، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (التناوب)، وليس بصحيح.
==================
(1/172)
(28) [باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره]
هذا (باب الغضب) بالإضافة، وهو انفعال يحصُل من غليان الدم لشيءٍ دخل في القلب (في) حالة (الموعظة)؛ أي: الوعظ (و) في حالة (التعليم إذا رأى) الواعظ أو المعلِّم (ما يكره)؛ أي: الذي يكرهه، فحذف العائد.
أراد المؤلف الفرق بين قضاء القاضي وهو غضبان، وبين تعليم العلم أو تذكير الوعظ؛ فإنَّه بالغضب أجدر وخصوصًا بالموعظة، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وتبعه ابن المُنَيِّر والبِرماوي، واعترضه الدَّماميني؛ حيث قال: أمَّا الوعظ؛ فمُسَلَّم، وأمَّا تعليم العلم؛ فلا نُسَلِّم أنَّه أجدر بالغضب؛ لأنَّه ممَّا يدهش الفكر، فقد يفضي التعليم به إلى خلل، والمطلوبُ كمالُ الضبط.
قلت: وهو مردودٌ؛ فإنَّ الغضب يقوِّي القلب ويحسِّنه، ويخرج الجواب منه سريعًا على الصواب، ويتفتَّح الفكر به، ويزول عن العقل جميع العوارض المخلَّة للتعليم، فيصير جوهره مضيئًا بسبب غليان الدم، فيحصل به كمال الضبط، ولا يفضي إلى خلل؛ فليحفظ.
==========
%ص 58%
==================
(1/173)
[حديث: أيُّها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف]
90# وبه قال: (حدثنا محمد بن كَثير)؛ بفتح الكاف وبالمثلثة، العبْدي؛ بسكون الموحدة، البصري، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومئتين (قال: أخبرنا) ولأبي ذر: (أخبرني) (سفيان) هو الثوري، (عن ابن أبي خالد): هو إسماعيل البجلي الكوفي الأحمسي التابعي الطحان، (عن قيس بن أبي حازم)؛ بالمهملة والزاي: أبو عبد الله الأحمسي الكوفي البجلي المخضرم، (عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (الأنصاري) الخزرجي البدري أنَّه (قال: قال رجل) قيل: هو حزم بن أبي كعب: (يا رسول الله؛ لا أكاد أدرك الصلاة) قال ابن الحاجب: إذا دخل النفي على (كاد)؛ فهو كالأفعال على الأصح، (مما يطول بنا) (مِن) للتعليل، و (ما): مصدريَّة، وفي رواية: (ممَّا يطول لنا)، وفي أخرى: (ممَّا يطيل)، فالأُولى من التطويل، وهذه من الإطالة (فلان) فاعله، كناية عن اسم سمَّى به المحدث عنه، ويقال لغير الآدمي: الفلان، بالتعريف، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفي رواية المؤلف عن الفِريابي: (لأتأخَّر عن الصلاة)، وجاء عند المؤلف أيضًا: (إنِّي لأدع الصلاة)، فهاتان الروايتان يُنبئان أنَّ المعنى: أنِّي أتأخَّر عن الصلاة مع الجماعة، ولا أكاد أُدركها لأجل تطويل فلان، (فما رأيت النبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في موعظة أشدَّ غضبًا) بالنصب على التمييز (من يومئذٍ) وفي رواية: (منه من يومئذٍ)، ولفظ (من) صلة (أشد)، والضمير راجع إليه عليه السلام، فيلزم أن يكون المفضَّل والمفضَّل عليه شيئًا واحدًا، أُجيب: إنَّما جاز ذلك باعتبارين؛ فهو مفضَّل باعتبار يومئذٍ، ومفضَّل عليه باعتبار سائر الأيام، كذا في «عمدة القاري».
(فقال) عليه السلام: (يا أيها الناس؛ إنَّكم منفِّرون) عن الجماعات، وفي رواية بإسقاط حرف النداء، وفي أخرى: (إنَّ منكم منفِّرين)، وإنَّما خاطب الكلَّ ولم يُعيِّن المطوِّل؛ كرمًا ولطفًا به حتى لا يحصُل له الخجل، وكانت هذه عادته عليه السلام، (فمَن صلَّى بالناس)؛ أي: ملتبسًا بهم إمامًا لهم؛ (فليخفف) جواب (مَن) الشرطيَّة، بأن يقتصر على الفاتحة وسورة من قصار المفصَّل، وهذا أدنى التخفيف، ويزيد على ذلك برضا القوم، (فإنَّ فيهم المريض) (الفاء) للتعليل، و (المريض) منصوب؛ لأنَّه اسم (إنَّ) وما بعده عطف عليه، وخبرها قوله: (فيهم) مقدَّمًا؛ وهو الذي ليس بصحيح، (والضعيف)؛ أي: النحيف أو المسنُّ (وذا) بالنصب؛ أي: صاحب (الحاجة) وفي رواية: (وذو الحاجة) بالرفع: مبتدأٌ خبرُه محذوف، والجملة عطف على الجملة المتقدِّمة، أي: وذو الحاجة كذلك، وإنَّما غضب عليه السلام؛ لأنَّه كره التطويل في الصلاة من أجل أنَّ فيهم المريض ونحوه، فأراد الرِّفق والتيسير بأُمَّتِه، ولم يكن نهُيهه عن التطويل لحرمته؛ لأنَّه كان يصلِّي في مسجده ويقرأ بالطِّوال كـ (يوسف)، وكان يقصر فيقرأ بالفجر المعوذتين لما سمع بكاء الصبي ونحوه.
فالمراد الإرشاد بأن يكون الإمام حكيمًا ينظر في القوم، فإن كان مرادُهم التخفيف؛ خفَّف، وإن كان مرادُهم التطويل؛ طوَّل، وإنَّما اقتصر على هذه الثلاثة؛ لأنَّه متناول لجميع الأنواع المقتضية للتخفيف؛ لأنَّه المقتضى له إما في نفسه أو لا، والأوَّل إمَّا بحسب ذاته وهو الضعيف، أو بحسب العارض وهو المريض، أو لا في نفسه؛ وهو ذو الحاجة.
وفي الحديث جواز التأخير عن صلاة الجماعة الأولى، وذكر الإنسان بفلان، والغضب لأمر منكر، والإنكار على مَن ارتكب منهيًّا، والتعزير على إطالة الصلاة إذا لم يرض القوم.
==========
%ص 58%
==================
(1/174)
[حديث: أن النبي سأله رجل عن اللُّقَطَة]
91# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد) أبو جعفر المسنَدي؛ بفتح النون (قال: حدثنا أبو عامر) عبد الملك بن عمرو العقدي، كما في رواية (قال: حدثنا سليمان بن بلال المديني) وفي رواية: (المدني)، فالأوَّل: منسوب إلى مدينة المنصور، والثاني: إلى مدينة الرسول، ويقال: (مدائني) إلى مدائن كسرى، (عن ربيعة) المشهور بالرأي؛ بالتشديد والتخفيف، منسوب إلى الرأي (بن أبي عبد الرحمن) شيخ مالك الإمام، (عن يزيد) من الزيادة (مولى المنبعث)؛ بالنون، والموحدة، والمهملة، والمثلثة، المدني، (عن زيد بن خالد الجُهَني)؛ بضم الجيم وفتح الهاء وبالنون، نزيل الكوفة المتوفَّى بها، أو المدينة، أو مصر، سنة ثمان وسبعين عن خمس وثمانين، والظاهر الأول، منسوب إلى جهينة، وكنيته: أبو طلحة، أو أبو عبد الرحمن، أو أبو زرعة، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم سأله رجل) هو عُمير والد مالك، كذا في «عمدة القاري»، وقيل: بلال المؤذِّن، وقيل غيرهما، وهو بعيد، (عن اللُّقَطة)؛ بضم اللام وفتح القاف وقد تسكن: الشيء الملقوط، (فقال له) عليه السلام، ولكريمة: (قال): (اعرف)؛ بكسر الهمزة: من المعرفة (وِكاءَها) بالنصب مفعول (اعرف)؛ بكسر الواو ممدودًا: ما يُشَدُّ به رأس الصرَّة والكيس، أو الخيط الذي يُشَدُّ به الوعاء، (أو قال: وِعاءَها)؛ بكسر الواو: الظرف، والشك إمَّا مِن زيد أو ممَّن دونه من الرواة، (وعِفاصَها)؛ بكسر العين المهملة وبالفاء؛ الوعاء الذي يكون فيه النفقة من جلد أو خِرقة أو نحوهما، وهذا دليل على أنَّ لقطةَ الحلِّ والحرم سواءٌ، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور، خلافًا للشافعي، وإنَّما أمره بذلك؛ ليعرف صدق مدعيها أو كذبه،
%ص 58%
وهذا يفيد الأمر بالتقاط اللقطة.
قال في «فتاوي الولوالجي»: اختُلف في رفعها؛ فقال بعضهم: رفعُها أفضل من تركها، وقال بعضهم: يحِلُّ رفعُها وتركها أفضل، وفي «شرح الحافظ الطحاوي»: إذا وجد لقطة؛ فالأفضل له أن يرفعها إذا كان يأمن على نفسه، وإذا لم يأمن على نفسه؛ لا يرفعها، ولو رفعها ووضعها في مكانه وهلكت؛ فلا ضمان عليه في ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم.
وقال بعض مشايخنا: هذا إذا لم يبرح من ذلك المكان، فإن ذهب عن مكانه، ثم أعادها ووضعها فيه فهلكت؛ فإنَّه يضمن، وقال بعضهم: يضمن مطلقًا، وهو خلاف ظاهر الرواية، وفي «شرح الأقطع»: يستحب أخذ اللقطة ولا يجب، وفي «الخلاصة»: إن خاف ضياعها؛ يفترض الرفع، وإن لم يخف؛ يباح رفعُها، أجمع العلماء عليه، والأفضل الرفع في ظاهر المذهب عن الإمام الأعظم، انتهى.
وعند مالك: قيل: يكره أخذها، وقيل: هو الأفضل، وعند الشافعي: قيل: يستحب الأخذ، وقيل: يجب، وقيل: إن خاف عليها؛ وجب، وإن أمن؛ استُحب، وعن أحمد: يُندب تركها.
(ثم عَرِّفها) للناس بذكر بعض صفاتها في المحافل (سَنَةً) منصوبٌ بنزع الخافض؛ أي: مدة سنة، وفي حديث أُبيٍّ ثلاث سنين، وفي بعض طرقه بالشك في سنة أو ثلاث، ويُحمل إمَّا بطرح الشك والزيادة، أو هي قصتان؛ الأولى للأعراب، والثانية لأُبيٍّ، وهذا يختلف بقِلَّة الشيء الملقوط وكَثرته، قال أصحابنا: يعرِّفها إلى أن يغلب على ظنِّه أنَّ ربَّها لا يطلبُها، وهو الصحيح؛ لأنَّ ذلك يختلف بقِلة المال وكَثرته، وروى الإمام محمد عن الإمام الأعظم: أنَّه إن كانت أقل من عشرة دراهم؛ عرَّفها أيامًا، وإن كانت عشرة فصاعدًا؛ عرَّفها حولًا؛ أي: سنةً، وهو قول مالك والشافعي، وروى الإمام الحسن عن الإمام الأعظم: أنَّها إن كانت مئتي درهم فصاعدًا؛ عرَّفها حولًا، وفيما فوق العشرة إلى مئتين شهرًا، وفي العشرة جمعة، وفي ثلاثة دراهم ثلاثة أيام، وفي درهم يومًا.
وإن كانت ثمرة ونحوها؛ يتصدَّق بها مكانها، وإن كان محتاجًا؛ أكلها مكانها، وفي «الهداية»: إذا كانت اللقطة شيئًا يعلم أنَّ صاحبَها لا يطلبُها؛ كالنواة وقشور الرُّمَّان؛ يكون إلقاؤُه مباحًا، فيجوز الانتفاع به من غير تعريف، لكنَّه باق على ملك مالكه؛ لأنَّ التمليك من المجهول لا يصحُّ، وفي «الواقعات»: المختار في قشور الرُّمَّان والنواة أنَّه يملكها، وفي الصيد: لا يملكه.
وإن جمع سنبلًا بعد الحصاد؛ فهو له لإجماع الناس على ذلك، وإن سلخ شاة ميتة؛ فهو له ولصاحبها أن يأخذه منه، وكذا الحكم في صوفها.
فإن وصف اللقطة وبيَّنها مالكها؛ قال أئمتنا: حلَّ للملتقط أن يدفعها إليه من غير أن يُجبر عليه في القضاء، وقال مالك والشافعي: يُجبر على دفعها؛ لما في «مسلم»: «فإن جاء صاحبها فعرَّف عِفاصها وعددها؛ فأَعْطِها إيَّاه».
قلنا: هذا مدَّعٍ وعليه البيِّنة؛ لقوله عليه السلام: «البيَّنة على المدَّعي»، والعلامة لا تدُلُّ على المِلك ولا على اليد؛ لأنَّ الإنسان قد يقف على مال غيره ويخفى عليه مال نفسه، فلا عبرة بهذا، والحديث محمول على الجواز لا الوجوب؛ توفيقًا بين الأخبار؛ لأنَّ الأمر قد يراد به الإباحة، وبه نقول.
(ثم استمتِعْ بها)؛ بكسر التاء الثانية وتسكين العين؛ أي: إن كان فقيرًا، وإن كان غنيًّا؛ يتصدَّق بها على فقير أجنبي أو قريب منه، هذا قول إمامنا الإمام الأعظم، وبه قال سعيد بن المسيِّب والثوري، ورُوي ذلك عن عليٍّ وابن عباس؛ لقوله عليه السلام: «فليتصدَّق به»،ومحلُّ الصدقة الفقراء، وقال مالك: يستحب أن يتصدق بها، وأباح الشافعي للغني الواجد؛ لحديث أُبَيِّ بن كعب وبظاهر حديث الباب، قلنا: بأنَّ هذا وأمثاله حكايةُ حال، فيجوز أنَّه عليه السلام عَرَفَ فقرَه إمَّا لديون عليه، أو قِلَّة مالِه، أو يكون إذنًا منه عليه السلام بالانتفاع، وهو جائز من الإمام على سبيل القرض، أو أنَّه عَرَفَ أنَّه كان في مال كافر حربيٍّ، (فإن جاء ربها)؛ أي: مالكُها، ولا يُطلق الرَّبُّ على غير الله إلَّا مضافًا مقيَّدًا؛ (فأَدِّها) جواب الشرط؛ أي: أعْطِها (إليه) وهذا حُجَّةٌ على الكرابيسي من الشافعيَّة؛ حيث قال: لا يلزمُه ردُّها بعد التعريف ولا ردُّ بدلها، وهو قول داود ومالك في الشاة.
والحديث دليل ظاهر على أنَّ صاحب اللُّقَطة إذا جاء؛ فهو أحقُّ بها من مُلتقطها إذا أَثبت أنَّه صاحبُها، فإنْ وجدها قد أكلها الملتقط بعد التعريف وأراد أن يُضَمِّنَه قيمتَها؛ كان له ذلك، وإن كان قد تصدَّق بها؛ فصاحبُها مُخَيَّرٌ بين التضمين وبين أن يتركَ على أجرها، رُوي ذلك عن عمر، وعليٍّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وقول إمامنا الأعظم، وطاووس، وعِكرمة، وسفيان الثوري، والحسن ابن حيٍّ؛ فليحفظ.
(قال): يا رسول الله؛ (فضالَّةُ الإبل؟) مبتدأٌ مضاف خبرُه محذوف؛ أي: ما حكمُها؟ أكذلك أم لا؟ فهو من إضافة الصفة للموصوف، والضالَّةُ لا يقع إلَّا على الحيوان، يقال: ضلَّ الإنسان والبعير، وأمَّا الأمتعة ما سوى الحيوان؛ فيقال له: لُقَطَة، (فغضب) عليه السلام (حتى احمرَّت وجنتاه) تثنية وَُِجْنَة؛ وهي ما ارتفع من الخَدِّ؛ بفتح الواو، وكسرها، وضمها، وأُجنة؛ بضمِّ الهمزة، (أو قال: احمرَّ وجهُه) شكٌّ من الراوي، وإنَّما غضب؛ لسوء فهم السائل؛ حيث قاسَ الشيءَ على غيرِ نظيره؛ لأنَّ اللُّقَطة شيءٌ سقط من صاحبه، وأمَّا الإبل؛ فمخالِفةٌ للُّقَطَة اسمًا وصفةً، (فقال) عليه السلام: (ومالَكَ ولها؟) وفي رواية: بإسقاط الواو، وفي أخرى: (فمالَكَ ولها؟) بـ (الفاء) عِوضًا عن (الواو)؛ أي: ما تصنع بها؛ أي: لِمَ تأخذُها ولم تتناولها؟ وإنَّها مستقلة بأسباب تعيُّشها، ففيه نهيٌ عن أخذها (معها سِقاؤها)؛ بكسر السين المهملة؛ مبتدأ، وخبرُه مقدَّم؛ أي: أجوافها؛ فإنَّها تشرب فتكتفي بها أيامًا، والمراد: اللبن والماء (وحِذاؤُها)؛ بكسر الحاء المهملة والمدِّ؛ أي: خِفُّها التي تمشي عليه؛ (ترد الماء) جملة بيانيَّة لا محلَّ لها من الإعراب، أو محلُّها الرفع خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: هي ترد الماء، (وترعى الشجر؛ فذرها)؛ أي: دعها، فـ (الفاء) جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كان الأمر كذلك؛ فدعها (حتى يلقاها ربُّها): مالكُها، استدلَّ به مالك، والشافعي، وأحمد على أنَّه لا يجوز التقاط الإبل إذا استغنت بقوتها عن حفظها، وقال الإمام الأعظم: يجوزُ التقاط البهيمة مطلقًا من أيِّ جنسٍ كان؛ لأنَّها مالٌ يُتَوَهَّم ضياعُه، والحديث محمول على أنَّه كان في ديارهم؛ لأنَّه كان لا يُخاف عليها من شيء، ونحن نقول في مثله: يتركها، وهذا لأنَّ بعض البلاد الدوابُّ يسيِّبها أهلها في البراري حتى يحتاجوا إليها، فيمسكوها وقت الحاجة، ولا فائدة في التقاطها حينئذٍ، ويدُلُّ على ما قلناه: ما رواه مالك في «الموطأ» عن ابن شهاب قال: كان ضوالُّ الإبل في زمن عمر إبلًا مؤبلةً تَناتَج [1] لا يمسها أحد، حتى إذا كان عثمان؛ أمر بمعرفتها، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها؛ أُعطي ثمنَها؛ فليحفظ.
(قال): يا رسول الله؛ (فضالَّة الغنم): اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعًا، مبتدأ مضاف، وخبره محذوف؛ أي: ما حكمُها؟ أهي مثل ضالَّة الإبل أم لا؟ (قال) عليه السلام: ليست كضالَّة الإبل؛ بل هي (لك) إن أخذتَها، ففيه حذف، (أو لأخيك) من اللاقطين إن لم تأخذْها، أو المراد من الأخ: صاحبُها؛ أي: أو هي لأخيك الذي هو صاحبها إن ظهر، (أو للذئب)؛ بالهمز، وقد تخفَّف بقلبها مثناة، والأنثى: ذئبة؛ أي: فيأكلها إن لم تأخذْها، فيكون محلُّ (لكَ) رفعٌ؛ لأنَّه خبرُ مبتدأ محذوف، وكذا (لأخيك) و (للذئب)، وفيه إشارة إلى الإذن بأخذها، فاستدل به المازريُّ لعدم الغرامة؛ لأنَّ قوله: (هي لك) ظاهرُه التمليك، والمالك لا يغرم، وأجيب للإمام الأعظم والإمام الشافعي: بأنَّ اللام للاختصاص؛ أي: إنَّك تختص بها، ويجوز لك أكلُها وأخذُها، وليس فيه تعرُّض للغرم ولا لعدمه؛ بل بدليل آخر؛ وهو قوله: فإنْ جاء ربُّها يومًا؛ فأدِّها إليه؛ فليحفظ، وفي الحديث إبطال قول مدَّعي علم الغيب.
==========
[1] في الأصل (تنتاج)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/175)
[حديث: سئل النبي عن أشياء كرهها]
92# وبه قال: (حدثنا) بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (محمد بن العلاء) أبو كُريب الكوفي (قال: حدثنا أبو أسامة) حمَّاد بن أسامة الكوفي، (عن بُرَيد)؛ بضم الموحدة وفتح الراء، (عن أبي بُرْدة)؛ بضم الموحدة وسكون الراء، عامر بن أبي موسى الأشعري، (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (قال: سُئل)؛ بضم السين المهملة وكسر الهمزة، (النبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ) ممنوعٌ مِنَ الصرف؛ لأنَّه أشبه (فعلاء)، (كَرِهَها [1])؛ لأنَّه رُبَّما كان فيها شيء سبب [2] لتحريمه على المسلمين، فيلحقهم به المشقَّة، أو رُبَّما كان في الجواب ما يكره السائل؛ كقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
%ص 59%
(فلما أُكثر)؛ بضم الهمزة على صيغة المجهول؛ أي: فلما أكثر الناس السؤال (عليه) عليه السلام؛ (غضب) جواب (لما) وسبب غضبه تعنُّتهم في السؤال وتكلُّفهم فيما لا حاجة إليه، ولهذا قال عليه السلام: «إن أعظم المسلمين جرمًا [3] من سأل عن شيء، فحرم من أجل مسألته»، أخرجه المؤلف، (ثم قال) عليه السلام (للناس: سلوني) وسقط (للناس) في رواية، (عما شئتم)؛ بالألف: وللأصيلي: بحذفها؛ لأنَّه يجب حذف ألف (ما) الاستفهامية إذا جُرَّت وإبقاء الفتحة؛ دليلًا عليها؛ للفرق بين الاستفهام والخبر، وهذا كان منه عليه السلام بوحي من ربه تعالى، (قال رجل) هو عبد الله بن حذافة الرسول إلى كسرى: (من أبي) يا رسول الله؟ (قال) عليه السلام: (أبوك حُذَافَة)؛ بضم الحاء [4]، والذال المعجمة وفاء مفتوحتين، القرشي السهمي، المتوفى في خلافة عثمان رضي الله عنه، وإنما سأله؛ لأنَّه كان ينسب إلى غير أبيه، وإنما عرف عليه السلام أنَّه ابنه إما بالوحي، أو بحكم الفراسة، أو بالقياس، أو الاستحقاق، والظاهر الأول، (فقام) رجل (آخر) هو سعد بن سالم، (فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال) وفي رواية: (قال عليه السلام): (أبوك سالم مولى شيبة) بن ربيعة، وهو صحابيٌّ، وإنَّما سأله؛ لأنَّه قيل في نسبه لغير أبيه، وجوابه عليه السلام بوحي من ربه تعالى، (فلما رأى) أي: أبصر (عمر) بن الخطاب (ما [في] وجهه) عليه السلام من أثر الغضب، و (ما) موصولة، والجملة محلها النصب مفعول (رأى)؛ (قال: يا رسول الله؛ إنا نتوب إلى الله عز وجل) من الأسئلة المكروهة مما لا يرضاه رسول الله عليه السلام، وفيه: فَهْم عمر رضي الله عنه وفضل علمه، وفيه: كراهة السؤال للتعنُّت، وفيه: معجزة النبيِّ الأعظم عليه السلام.
==========
[1] في الأصل: (كرها)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (سببًا)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (حرمانًا)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
[4] في الأصل: (الهمزة)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (كرها)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (سببًا)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (حرمانًا)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
[1] في الأصل: (كرها)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (سببًا)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (حرمانًا)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
(1/176)
(29) [باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث]
هذا (باب من بَرَك)؛ بفتحتين وتخفيف الراء (على ركبتيه عند الإمام أو المحدث) وإسناد البرك للإنسان مجاز؛ لأنَّ (برك) حقيقة في البعير.
==========
%ص 60%
==================
(1/177)
[حديث: أن رسول الله خرج فقام عبد الله بن حذافة]
93# وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (شعيب) بن أبي حمزة؛ بالمهملة والزاي، (عن الزهري) محمد بن مسلم ابن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (أنس بن مالك) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج) من حجرته، فسئل، فأكثروا عليه، فغضب فقال: (سلوني)، (فقام عبد الله بن حذافة) السهمي المهاجري (فقال): يا رسول الله؛ (من أبي) حتى ألحق به؟ (فقال) عليه السلام، وفي رواية: (قال: من أبي؟ فقال): (أبوك حذافة) وفي مسلم: أنه كان يدعى لغير أبيه، ولما سمعت أمه سؤاله؛ قالت: ما سمعت بابن أعقَّ منك، أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهليَّة فتفضحها على أعين الناس؟ فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به، انتهى، قلت: وجوابه عليه السلام له بوحي من ربه تعالى، (ثم أكثر أن يقول) عليه السلام: (سلوني)؛ لأنَّه أوحي إليه به؛ إذ لا يعلم كل ما يسئل عنه من المغيَّبات إلَّا بإعلام الله تعالى له، (فبَرَك)؛ بفتحتين وتخفيف الراء (عمر) رضي الله عنه (على ركبتيه) يقال: برك البعير إذا استناخ، واستعمل في الإنسان؛ مجازًا، (فقال) عمر: (رضينا بالله ربًّا)؛ أي: رضينا بما عندنا من كتاب الله، (وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا)؛ أي: رضينا بما عندنا من سنة نبيِّنا واكتفينا بها عن السؤال أبلغ كفاية، وإنما قال ذلك عمر؛ أدبًا وإكرامًا للنبيِّ الأعظم عليه السلام وشفقة للمسلمين؛ لئلَّا يؤذوا النبيَّالأعظم، فيدخلوا تحت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57]، وانتصاب (ربًّا) و (دينًا) و (نبيًّا) على التمييز، ويجوز على المفعولية؛ لأنَّ (رضي) إذا عُدِّي بالباء؛ يتعدَّى لمفعول واحد، والمراد بالدين: التوحيد، (فسكت) النبيُّ الأعظم عليه السلام حين سمع مقالة عمر، وفي رواية: (فسكن غضبه)، وإنما قال: (بالإسلام) ولم يقل: بالإيمان؛ لأنَّ الإسلام والإيمان واحد لا تغاير بينهما؛ كما قدمناه.
==========
%ص 60%
==================
(1/178)
(30) [باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه]
هذا (باب من أعاد الحديث) في أمور الدين (ثلاثًا؛ ليُفهَم)؛ بضم التحتية وفتح الهاء (عنه) وفي رواية: حذف (عنه) وكسر الهاء، وفي أخرى: كذلك مع فتحها، (فقال: ألا)؛ بالتخفيف: حرف تنبيه، وفي رواية: (فقال النبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: ألا) (وقولُ) مرفوع هنا على الحكاية (الزُّور)؛ بضم الزاي: الكذب؛ أي: الشهادة بالكذب؛ فلذا أنَّث الضمير بقوله: (فما زال يكررها)؛ أي: فما دام يكررها في مجلسه لا مدة عمره، وهذا طرف من حديث وصله بتمامه في (الشهادات)، (وقال ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (قال النبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: هل بلغت؟ ثلاثًا)؛ أي: قال: (هل بلغت؟) ثلاث مرَّات، وهذا التعليق وصله في (خطبة الوداع).
==========
%ص 60%
==================
(1/179)
[حديث: كان إذا سلم سلم ثلاثًا وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا]
94# وبه قال: (حدثنا عَبْدة)؛ بفتح المهملة وسكون الموحدة، ابن عبد الله الخزاعي البصري أبو سهل الكوفي الأصل، المتوفى سنة ثمان وخمسين ومئتين (قال: حدثنا عبد الصمد) بن عبد الوارث التيمي العنبري البِصري أبو سهل، المتوفى سنة سبع ومئتين، (قال: حدثنا عبد الله بن المُثَنَّى)؛ بضم الميم، وفتح المثلثة، وتشديد النون المفتوحة، ابن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري القاضي بالبصرة (قال: حدثنا ثُمامة)؛ بضم المثلثة وتخفيف الميمين، زاد في رواية: (ابن عبد الله)؛ أي: ابن أنس بن مالك الأنصاري البصري، (عن) جده (أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلَّم)؛ بتشديد اللام، على الناس، وهذا يشعر بالاستمرار؛ لأنَّ (كان) تدل على الثبوت والدوام واسمها مستتر فيه، والجملة بعدها خبرها (سلم ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، ومعناه: أنه إذا أتى على قوم؛ سلَّم عليهم للاستئذان، وإذا دخل؛ سلَّم للتحية، وإذا قام؛ سلَّم للوداع، وكلها مسنونة، هكذا يجب أن يفهم، كما أوضحه إمامنا الشيخ بدر الدين العيني، (وإذا تكلم) عليه السلام (بكلمة)؛ أي: بكلام من إطلاق البعض على الكل؛ (أعادها ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرَّات، وإعادته إما لأنَّ [في] الحاضرين من يقصر فهمه عن وعيه، فيكرره ليفهم، وإما أن يكون القول فيه بعض إشكال، فيتظاهر بالبيان، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
%ص 60%
==================
(1/180)
[حديث: كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه]
95# وبه قال: (حدثنا عبدة بن عبد الله) زاد في رواية (الصفَّار)، وسقط (ابن عبد الله) في رواية؛ أي: السابق (قال: حدثنا عبد الله بن المثنى) هو الأنصاري (قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله) بن أنس، وفي رواية: ثمامة ابن أنس، فنسبه لجدِّه، (عن أنس) بن مالك رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تكلم بكلمة)؛ أي: كلام، وعبر بـ (كان)؛ لدلالتها على الثبوت والدوام بخلاف (صار)؛ فإنها تدل على الانتقال، (أعادها)؛ أي: الكلمة المفسَّرة بالكلام (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات (حتى تُفهَم منه)؛ أي: حتى تُعقل منه، كما في رواية الترمذي، وهو على صيغة المجهول، و (حتى) هنا مرادفة لكي التعليلية، (و) كان عليه السلام (إذا أتى على قوم فسلم عليهم) هذا ليس جواب (إذا) وإنما هو عطف على قوله: (أتى) من تتمة الشرط، والجواب هو قوله: (سلم عليهم ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات: الأولى: للاستئذان، والثانية: للتحية، والثالثة [1]: للوداع، وهذا الحديث سقط في رواية، ولا يخفى الاستغناء عنه بالثاني،؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (والثالث)، وليس بصحيح.
%ص 60%
==================
(1/181)
[حديث: تخلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه]
96# وبه قال: (حدثنا مسدَّد) بن مسرهد (قال: حدثنا أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة، الوضَّاح اليشكري، (عن أبي بشر)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة، جعفر بن إياس، (عن يوسف بن ماهَِك)؛ بكسر الهاء وفتحها ممنوع من الصرف؛ للعلمية والعجمة، وللأصيلي: بالصرف؛ لأجل الصفة، (عن عبد الله بن عمرو)؛ أي: ابن العاص رضي الله عنه (قال: تخلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: تأخر خلفنا (في سفر سافرناه) وفي السابقة: (في سفرة سافرناها) كما في رواية هنا، وهو من مكة إلى المدينة، كما في «مسلم»، (فأدركَنا)؛ بفتح الكاف؛ أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام (وقد أرهقْنا)؛ بإسكان القاف (الصلاةَ) بالنصب على المفعولية؛ أي: ضاق وقتها، وفي رواية: (أرهقتنا) بزيادة مثناة للتأنيث وفتح القاف، و (الصلاةُ): بالرفع على الفاعلية (صلاةَُ العصر) بالنصب أو الرفع على البدلية من (الصلاة) (ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا)؛
%ص 60%
أي: نغسل غسلًا خفيفًا للاستعجال، (فنادى) عليه السلام حين رآنا (بأعلى صوته: ويلٌ) بالرفع على الابتداء: كلمة عذاب أو وادٍ في جهنم (للأعقاب من النار)؛ أي: لأصحابها المقصِّرين في غسلها (مرتين أو ثلاثًا) شك من الراوي، وتقدم في باب (من رفع صوته بالعلم)؛ فليحفظ.
==================
(1/182)
(31) [باب تعليم الرجل أمته وأهله]
هذا (باب تعليم الرجل أمته وأهله) من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ أمة الرجل من أهل بيته وخصَّها بالذكر؛ لأنَّها على الجهل المحض.
==========
%ص 61%
==================
(1/183)
[حديث: ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه]
97# وبه قال: (أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (محمد) هو ابن سلام، كما في رواية، بتخفيف اللام، وفي رواية: إسقاط (هو)، وفي أخرى: (حدثني محمد بن سلام) (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (المُحارِبيُّ)؛ بضم الميم والمهملة وكسر الراء: عبد الرحمن بن محمد بن زياد، الكوفي، المتوفى سنة خمس وتسعين ومئة (قال: حدثنا صالح ابن حَيَّان)؛ بفتح المهملة وتشديد التحتية، ونسبه لجدِّه الأعلى؛ لشهرته به، وإلَّا؛ فهو صالح بن صالح بن مسلم بن حيان، ولقبه حيٌّ، الهمداني الكوفي، المتوفى سنة ثلاث وخمسين ومئة (قال)؛ أي: صالح: (قال عامر) بن شراحيل (الشَّعْبي)؛ بفتح المعجمة وإسكان المهملة وبالموحدة: (حدثني) بالإفراد (أبو بُردة)؛ بضم الموحدة، عامر الأشعري قاضي الكوفة، (عن أبيه) هو أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري (قال) أبو موسى: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثةٌ) مبتدأ؛ أي: ثلاثة رجال أو رجال ثلاثة (لهم) مبتدأ (أجران) خبر، والجملة خبر الأول؛ (رجل) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أولهم أو الأول رجل وكذا امرأة (من أهل الكتاب) صفة (رجل)، (أل) فيه للعهد؛ أي: التوراة والإنجيل، أو الإنجيل، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص: 52 - 54]، فالآية: موافقة لهذا الحديث وهي نزلت في طائفة آمنوا منهم؛ كعبد الله بن سلام وغيره حال كونه قد (آمن بنبيه) موسى أو عيسى عليهما [السلام]، (وآمن بمحمد) النبيِّ الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أنهم بقوا على ما بعث به نبيهم من غير تبديل ولا تحريف حتى بُعِث نبينا عليه السلام، فآمنوا به أو الأمر على عمومه؛ أي: وإن كانوا محرِّفين مبدِّلين؛ لأنَّه عليه السلام كتب إلى هرقل: «أسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين»، وهو: كان ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وببعثته عليه السلام انقطعت دعوة عيسى عليه السلام، فدخل جميع الكفار أهل الكتاب وغيرهم تحت دعوة النبيِّ الأعظم عليه السلام، سواء بلغتهم الدعوة أو لا، ولهذا يقال لهم: أهل الدعوة، وأما من لم تبلغه الدعوة؛ فلا تطلق عليهم بالفعل، وأما بالقوَّة؛ فليسوا خارجين عنها، فهذا مختص بمن آمن منهم في عهد البعثة غير شامل لمن آمن منهم في زماننا؛ لأنَّ عيسى عليه السلام ليس نبيهم بعد البعثة؛ بل نبيهم النبيُّ الأعظم عليه السلام، فلا يحصل لهم به [1] إلَّا أجر واحد، وأما الآخران؛ فهو باق إلى يوم القيامة، وتمام تحقيقه في «عمدة القاري».
(و) الثاني (العبد المملوك)؛ أي: جنسه: وإنما وصفه بالمملوك؛ لأنَّ كل الناس عباد الله، فأراد تمييزه بكونه مملوكًا للناس، (إذا أدى حقَّ)؛ بالنصب: مفعول (أدى) (الله تعالى)؛ أي: امتثل أوامره ففعلها، واجتنب نواهيه فتركها، (و) أدى (حق مواليْه)؛ بإسكان التحتية، جمع مولى، وإنما جمعه؛ لأنَّه لما كان المراد من العبد: جنس العبد؛ فجمع حتى يكون التوزيع لكل عبد مولى؛ لأنَّ مقابلة الجمع بالجمع مفيدة للتوزيع، أو أراد: أن استحقاق الأجرين إنَّما هو عند أداء حق مواليه لو كان مشتركًا بين جماعة، والمراد من حقِّهم: خدمتهم.
فإن قلت: أجر المماليك ضعف أجر السادات؛ قلت: المراد: ترجيح العبد المؤدِّي للحقَّين على العبد المؤدي لأحدهما.
فإن قلت: يلزم على هذا أن يكون الصحابيُّ الذي كان كتابيًّا راجحًا على أكابر الصحابة، وهو خلاف الإجماع.
قلت: الإجماع خصصهم وأخرجهم من هذا الحكم، ويلتزم ذلك في كل صحابي لا يدل دليل على زيادة أجره على من كان كتابيًّا، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(و) الثالث (رجل كانت عنده أمة) زاد في رواية: (يطؤها)؛ بالهمزة، و (أمة)؛ بالرفع: اسم (كانت)، وإذا لم يطأها؛ هل له أجران؟ قلت: نعم؛ إذ المراد من قوله: (يطؤها) محل وطئها سواء صارت موطوءة أو لا؛ فافهم.
(فأدَّبها) لتُحسِن الأحوال والأخلاق (فأحسن تأديبها) من غير عنف وضرب؛ بل بالرفق واللطف، (وعلَّمها) الأمور الشرعيات (فأحسن تعليمها) فالأول: دنيوي، والثاني: ديني، (ثم أعتقها فتزوجها) زاد في رواية: (أصدقها)؛ أي: أعطاها صداقها، (فله) أي: الرجل الأخير (أجران) وإنما لم يقتصر على قوله: (لهم أجران) مع كونه داخلًا في الثلاثة بحكم العطف؛ لأنَّ الجهة متعددة وهي: التأديب، والتعليم، والعتق، والتزوُّج، وكانت مظنَّة أن يستحق الأجر أكثر من ذلك، فأعاده إشارة إلى أن المعتبَر من الجهات أمران، وإنما لم يعتبر إلَّا الأمرين ولم يعتبر الكل؛ لأنَّ التأديب والتعليم يوجبان الأجر في الأجنبي، والأولاد، وجميع الناس، فلم يكن مختصًّا بالإماء، فلم يبق إلا اعتبار الجهتين؛ العتق والتزوج، وإذا كان المعتبَر أمرين؛ فما فائدة ذكر الأخيرين؟ لأنَّ التأديب والتعليم أكمل للأجر؛ لأنَّ تزوُّج المرأة المؤدبة المعلَّمة أكثر بركة وأقرب إلى أن تعين زوجها على دينه، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
وإنما عرَّف (العبد) ونكَّر (رجل)؛ لأنَّ المعرَّف بلام الجنس كالنكرة في المعنى، وكذا الإتيان في العبد بـ (إذا) دون القسم الأول؛ لأنَّها ظرف، و (آمن) حال وهي في حكم الظرف، وتمامه في القسطلاني معزوًّا [2] للكرماني، واعترضه ابن حجر، ورده الشيخ الإمام بدر الدين العيني بما يطول؛ فليحفظ.
(ثم قال عامر) الشعبيُّ لراويه صالح المذكور: (أعطيناكها)؛ أي: أعطينا المسألة أو المقالة إياك (بغير شيء)؛ أي: بغير أخذ مال منك على جهة الأجرة عليه، وإلَّا؛ فلا شيء أعظم من الأجر الأخروي الذي هو ثواب التبليغ والتعليم، كذا قاله في «عمدة القاري»، وتبعه في الفتح، قال القسطلاني: وهو الراجح، والخطاب لرجل من أهل خراسان، سأل الشعبي عمن يعتق أمته، ثم يتزوجها، فأجابه بهذا الحديث، كما بسطه في «عمدة القاري»، وسيأتي عند المؤلف في باب {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم: 16].
(قد) وللأصيلي: (وقد) بالواو، ولغيره كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني: (فقد) (كان يُركَب) على صيغة المجهول؛ بضم التحتية؛ أي: يرحل (فيما دونها)؛ أي: فيما دون هذه المسألة (إلى المدينة): (أل) للعهد،؛ أي: مدينة النبيِّ الأعظم عليه السلام، وسؤال الخراسانيمن الشعبيِّ ليس للتعليم؛ بل كان لما قاله أهل خراسان: من أنه إذا أعتق أمته، ثم تزوجها؛ فهو كالراكب بدنة أو كالراكب هدية، فأجابه بالحديث، كما بسطه في «عمدة القاري» معزوًّا لرواية مسلم.
والتخصيص لهذه الثلاثة لا ينفي ما عداه؛ لأنَّ الصحيح أن التنصيص باسم الشيء لا يدل على نفي الحكم عما عداه، وهو مذهب الجمهور ومال الإمام صدر الدين المرغيناني إلى أن التنصيص بعدد محصور يدل على نفي الحكم عن غيره مستدلًّا بقوله عليه السلام: «خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم»، قلت: هذا قول، والصحيح من المذهب: أنه لا يدل على النفي فيما عداه وإن كان في عدد محصور، والحكم في غير المذكور إنَّما يثبت بدلالة النص، فلا يوجب إبطال العدد المنصوص، كذا في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (في)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (معزيًّا)، وكذا في الموضع اللاحق.
%ص 61%
==================
[1] في الأصل: (في)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (في)، وهو تحريف.
(1/184)
(32) [باب عظة الإمام النساء وتعليمهن]
هذا (باب عِظة)؛ بكسر العين المهملة؛ بمعنى: الوعظ؛ لأنَّه مصدر (وعظ) حذفت الواو فعوضت عنها الهاء (الإمام)؛ أي: الأعظم وهو السلطان أو نائبه (النساءَ) فيذكرهنَّ العواقب (وتعليمهنَّ) أمور الدين.
==================
(1/185)
[حديث: أشهد على النبي خرج ومعه بلال فظن أنه لم يسمع]
98# وبه قال: (حدثنا سليمان بن حرب) الأزدي البصري (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجَّاج، (عن أيوب) السختياني (قال: سمعت عطاء)؛ أي: ابن أبي رباح سلمان المكي القرشي الحبشي، الحاج سبعين حجة، القائل: (إن وافق يوم عيد يوم جمعة؛ يصلى العيد فقط، ولا ظهر ولا جمعة في ذلك اليوم)، المتوفى سنة خمس أو أربع عشرة ومئة عن ثمانين سنة (قال: سمعت) عبد الله (ابن عباس) رضي الله عنهما (قال: أشهد على النبيِّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم، أو قال عطاء: أشهد على ابن عباس) يعني: أنَّ الراوي تردَّد في لفظ (أشهد) هل هو من قول ابن عباس أو من قول عطاء؟ وأخرجه أحمد جازمًا بلفظ (أشهد) عن كلِّ منهما، وعبر بلفظ الشهادة؛ تأكيدًا لتحققه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج) جملة محلها الرفع خبر (أن)؛ أي: من بين صفوف الرجال إلى صف النساء (ومعه بلال) جملة اسمية وقعت حالًا، وفي رواية: بإسقاط الواو؛ كقوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]، وبلال هو ابن أبي رَبَاح؛ بفتح الراء وتخفيف الموحدة، الحبشي القرشي، واشتهر باسم أمه حمامة؛ بفتح المهملة، (فظن) عليه السلام (أنه لم يسمع النساء) حين أسمع الرجال، وسقط في رواية لفظة (النساء)، و (أن) مع اسمها وخبرها سدت مسد مفعولي (ظن)، (فوعظهنَّ) بقوله: «إني رأيتكنَّ أكثر أهل النار؛ لأنكنَّ تكثرن اللَّعن وتكفرن العشير»، فيه: دليل على جواز حضورهنَّ المساجد ومجالس الوعظ، لكن بشرط أمن الفتنة وعدم المفسدة، (وأمرهنَّ بالصدقة) (أل) للعهد الخارجي، وهي صدقة التطوُّع، وإنما أمرهنَّ؛ لما رآهنَّ أكثر أهل النار على ما جاء في «الصحيح»: «تصدقن يا معشر النساء إنِّي رأيتكنَّ أكثر أهل النار»،
%ص 61%
أو لأنَّه وقت حاجة والصدقة كانت يومئذٍ أفضل وجوه البر، (فجعلت) من أفعال المقاربة؛ مثل كاد، وقوله: (المرأة)؛ بالرفع: اسمها، وقوله: (تلقي) خبرها بغير (أن) متأوَّل باسم الفاعل (القُرْط)؛ بالنصب مفعول (تلقي) من الإلقاء؛ بضم القاف، وإسكان الراء، آخره مهملة: ما يعلق بشحمة الأذن (والخاتمَ)؛ بالنصب عطفًا على المفعول (وبلال) مبتدأ (يأخذ في طرف) وفي رواية: (أطراف) (ثوبه) خبره، والجملة حالية، والمفعول محذوف؛ أي: ما يلقينه؛ ليصرفه عليه السلام مصارفه؛ لأنَّه يحرم عليه الصدقة.
(وقال إسماعيل) وفي رواية: (قال أبو عبد الله _أي: المؤلف_: وقال إسماعيل) هو ابن عليَّة، (عن أيوب) السختياني، (عن عطاء)؛ أي: ابن أبي رباح، (وقال: عن ابن عباس) وفي رواية: (قال ابن عباس): (أشهد على النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) فجزم بأن لفظ (أشهد) من كلام ابن عباس فقط، وهذا من تعاليقه؛ لأنَّه لم يدرك إسماعيل ابن علية؛ لأنَّه مات في عام ولادة المؤلف سنة أربع وتسعين ومئة، ووصله المؤلف في (الزكاة)، وفيه: دليل على أن الصدقة تنجي من النار، وجواز الصدقة من المرأة من مالها بغير إذن زوجها، ولا يتوقف ذلك على ثلث مالها، وهو مذهب إمامنا الإمام الأعظم، وقال مالك: لا يجوز الزيادة على الثلث إلَّا برضا الزوج، وتمامه في «عمدة القاري».
==================
(1/186)
(33) [باب الحرص على الحديث]
هذا (باب الحرص على) تحصيل (الحديث) النبوي.
==========
%ص 62%
==================
(1/187)
[حديث: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد]
99# وبه قال: (حدثنا عبد العزيز بن عبد الله) بن يحيى بن عمرو القرشي العامري الأويسي المديني (قال: حدثني) بالإفراد (سليمان) بن بلال أبو محمد التيمي القرشي المدني، (عن عَمرو بن أبي عَمرو)؛ بفتح العين فيهما، ميسرة مولى المطلب المخزومي القرشي المدني، المتوفى في خلافة المنصور سنة ست وثلاثين ومئة، (عن سعيد بن أبي سعيد المقبَُري)؛ بضم الموحدة وفتحها، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه: (أنه)؛ بفتح الهمزة (قال) جملة محلها الرفع خبر (أن): (قيل: يا رسول الله) كذا في رواية أبي ذر وكريمة، وليس في رواية الباقين لفظة (قيل)، وإنما هو: (أنه قال يا رسول الله) قال عياض: و (قيل): وهم، والصواب سقوطها كما عند الأصيلي والقابسي؛ لأنَّ السائل هو أبو هريرة نفسه، واعتمده الشيخ الإمام بدر الدين العيني وأيَّده بما عند المؤلف في (الرقاق): (أنه قال: قلت: يا رسول الله)، فهذا يدل على أن لفظة (قلت) تصحفت بـ (قيل)، وفي رواية: (أنه سأل)، وفي أخرى: (أن أبا هريرة قال: يا رسول الله): (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟) بنصب (يوم) على الظرفية، و (من) استفهامية مبتدأ، وما بعده خبره؛ أي: الذين يدخلون الجنة بغير حساب أو برفع الدرجات فيها، فالاشتراك إنَّما هو في مطلق السعادة بالشفاعة، وأن أسعدهم بها المؤمن المخلص، فالتفضيل بحسب المراتب، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد) (اللام) فيه جواب قسم محذوف؛ أي: والله، والأولى أن تكون لام التأكيد (ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألَُني)؛ بضم اللام وفتحها على حد قوله: {وَحَسِبُوا أَلَّاتَكُونَ} [المائدة: 71]؛ بالرفع والنصب لوقوع (أن) بعد الظن (عن هذا الحديث أحدٌ)؛ بالرفع فاعل (يسألني) (أولُ منك)؛ برفع (أولُ) على أنه صفة لـ (أحد) أو بدل منه، وبالنصب على الظرفية، وقال القاضي: على المفعول الثاني لـ (ظننت)، قال في «المصابيح»: ولا وجه له، وقال الشيخ أبو البقاء: على الحال؛ أي: لا يسألني أحد سابقًا لك، ولا يضر كونه نكرة؛ لأنَّها في سياق النفي فتكون عامة، وتمامه في «عمدة القاري»؛ (لِما رأيت)؛ بكسر اللام؛ أي: الذي رأيته (من حرصكَ)؛ بفتح الكاف (على الحديث) متعلق بالحرص، و (ما) موصولة، والعائد محذوف، و (من) بيانية؛ أي: للذي رأيته من حرصك، أو تكون (ما) مصدرية، و (من) تبعيضية ويكون مفعول (رأيت)؛ أي: لرؤيتي بعض حرصك (أسعد الناس) التقييد به لا ينفي السعادة عن الجن والملك؛ لأنَّ مفهوم اللقب ليس بحجة عند الجمهور (بشفاعتي يوم القيامة) مبتدأ مضاف، والجار والمجرور متعلق بـ (أسعد)، و (يوم) منصوب على الظرف، وقوله: (من قال) محله رفع خبر المبتدأ، و (من) موصولة؛ أي: الذي قال: (لا إله إلا الله)؛ أي: مع محمد رسول الله، فالمراد: الكلمة بتمامها، والإيمان: التصديق القلبي على الأصح، وقول الكلمة لإجراء الأحكام عليه، فلو صدق بالقلب ولم يقل الكلمة؛ يكون سعيدًا بشفاعته إذا لم يكن مع التصديق مناف، فالمعتبر في الشرع: القول اللساني، والمعتبر عند الله: القول النفساني (خالصًا) وفي رواية: (مخلصًا) من الإخلاص: وهو في الإيمان ترك الشرك، وفي الطاعة ترك الرياء (من قلبه أو نفسه) الشك من أبي هريرة قاله الكرماني، وقال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: التعيين غير لازم؛ لأنَّه يحتمل أن يكون من أحد الرواة ممن هم دونه؛ فليحفظ.
فإن قلت: الإخلاص محلُّه القلب فما فائدة قوله: (من قلبه)؟ أجيب: بأنَّه ذكر؛ للتأكيد، وفي الحديث: دليل على أن الشفاعة مختصة بأهل الإخلاص، وورد أنَّها لأهل الكبائر، فالمراد: أنها أقسام؛ لأنَّها تكون للإراحة من هول الموقف وإدخال قوم الجنة بغير حساب، وفي قوم استوجبوا النار، فيشفع بهم، فلا يدخلوها، وفي قوم دخلوا النار، فيشفع بهم، فيخرجون منها، وتكون لزيادة الدرجات في الجنة، ومذهب أهل السنة: جواز الشفاعة ووجوبها بصريح الآيات والأخبار المتواترة لمذنبي [1] المؤمنين، وأنكرها المعتزلة والخوارج؛ لقوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، قلنا: هي واردة في الكفار، وأما الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة؛ فأثبتها المعتزلة وسيأتي تمامه، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (لمذنبين)، وليس بصحيح.
%ص 62%
==================
(1/188)
(34) [باب كيف يقبض العلم]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وتركه مضافًا لقوله: (كيف يقبض العلم؟!) أخرج مخرج التعجب، والقبض نقيض البسط، والمراد منه: الرفع؛ أي: كيفية رفع العلم، و (كيف) استفهامية وهو الغالب فيها، وتكون شرطًا فتقتضي فعلين.
(وكتب) زاد في رواية: (قال _أي: المؤلف_: وكتب) (عمر بن عبد العزيز) أحد الخلفاء الراشدين (إلى) نائبه في الإمرة والقضاء على المدينة (أبي بكر) بن محمد بن عمرو (ابن حَزْم)؛ بفتح المهملة وإسكان الزاي، الأنصاري المدني، المتوفى سنة اثنتين ومئة، في خلافة هشام بن عبد الملك، عن أربع وثمانين سنة، ونسبه المؤلف لجده؛ لشهرته به، ولجدِّه عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية: (انظر ما كان)؛ أي: اجمع الذي تجده، وفي رواية: (انظر ما كان عندك)؛ أي: في بلدك، فـ (كان) على الأولى تامة، وعلى الثانية ناقصة، و (عندك): الخبر (من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإنِّي خفت دُروس)؛ بضم الدال (العلم)؛ أي: تركه، (وذهاب العلماء) بالموت، وفيه: إشارة إلى أن تدوين الحديث النبوي ابتدأ في أيام عمر بن عبد العزيز، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر _وكان على رأس المئة الأولى_ ذهاب العلم بموت العلماء؛ رأى أن في تدوينه ضبطًا له وإبقاء، فأمر بذلك، (ولا يُقبلْ)؛ بضم التحتية وإسكان اللام، وفي رواية: بالرفع على أنَّ (لا) نافية، وفي أخرى: بمثناة فوقية على الخطاب مع الجزم (إلا حديث النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بعد القرآن العظيم، (وليُفشوا)؛ بضم التحتية على صيغة الأمر، من الإفشاء؛ وهو الإشاعة، ويجوز تسكين اللام كما في روايةٍ (العلمَ)؛ بالنصب مفعوله، (وليَجلسوا)؛ بفتح التحتية، من الجلوس لا من الإجلاس، مع سكون اللام وكسرها معًا فيهما، وفي رواية: (واجلسوا)؛ بصيغة الأمر، وفي أخرى: (ولتفشوا ولتجلسوا)؛ بالمثناة الفوقية فيهما (حتى يُعلَّم)؛ بضم التحتية وتشديد اللام على صيغة المجهول من التعليم، وفي رواية: (حتى يَعلَم)؛ بفتح التحتية واللام، من العلم (من لا يَعلم)؛ بصيغة المعلوم من العلم، و (من): موصولة محلها رفع فاعله، وبصيغة المجهول من التعليم، فتكون (من): مفعولًا ناب عن الفاعل؛ (فإنَّ العلم لا يَهلِك)؛ بفتح أوله وكسر اللام؛ أي: لا يضيع، وفتح اللام لغة (حتى يكون سرًّا)؛ أي: خفية، وأراد به كتمان العلم، ووقع هذا التعليق موصولًا عقبه هنا، ولفظه: (حدثنا)، وفي رواية: (قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف: (حدثنا العلاء بن عبد الجبار): أبو الحسن البصري العطار الأنصاري، المتوفى سنة اثنتي عشرة ومئتين (قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي)، المتوفى سنة سبع وستين ومئة [1]، (عن عبد الله بن دينار): القرشي المدني، مولى ابن عمر رضي الله عنهما (بذلك)؛ يعني: حديث عمر بن عبد العزيز إلى قوله: (ذهاب العلماء).
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: يحتمل أن يكون من كلام عمر، ولكنه لم يدخل في هذه الرواية، ويحتمل
%ص 62%
ألَّا يكون من كلامه، وهو الأظهر، وبه صرح أبو نعيم في «المستخرج»، فإذا كان كذلك؛ يكون من كلام المؤلف، أورده عقيب كلام عمر بعد انتهائه، انتهى، ثم قال: وإنما أخَّر إسناد عمر عن كلامه وعادته تقديم الإسناد؛ لأنَّه قد ظفر بإسناده بعد وضع هذا الكلام، فألحقه بالأخير، على أنَّا قلنا: إنَّ هذا الإسناد ليس بموجود عند جماعة، أو للفرق بين إسناد الأثر وإسناد الخبر؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (ومئتين)، وليس بصحيح.
==================
(1/189)
[حديث: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا]
100# وبه قال: (حدثنا إسماعيل بن أبي أُويس) بضم الهمزة والسين المهملة (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) الإمام، (عن هشام بن عروة، عن أبيه) عروة، (عن عبد الله بن عمرو بن العاصي) رضي الله عنهما: أنَّه (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: كلامه حال كونه (يقول): عبَّر بالمضارع حكاية لحال الماضي، وذلك في حجة الوداع كما عند أحمد والطبراني: (إنَّ الله لا يقبض العلم): جملة محلها الرفع خبر (إنَّ)؛ أي: من الناس (انتزاعًا)؛ بالنصب على الحال أو المفعولية المطلقة (ينتزعه) _وفي رواية: (ينزعه) [1]_ بزيادة مثناة فوقية بين النون والزاي (من العباد) بأن يمحوه من صدورهم أو يرفعه إلى السماء، والمحو من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه، (ولكن يقبض العلم بقبض) أرواح (العلماء) وموت حملته، وهذا من قبيل إقامة الظاهر موضع المضمر؛ لزيادة التعظيم كما في قوله: {اللهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] بعد قوله: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وكان مقتضى الظاهر: أن يقال: هو الصمد، ولكن يقبضه، (حتى) ابتدائية (إذا لم يُبقِ)؛ بضم التحتية وكسر القاف: من الإبقاء، وفيه ضمير يرجع إلى الله تعالى؛ أي: حتى إذا لم يُبقِ الله تعالى (عالمًا)؛ بالنصب على المفعولية، وفي رواية: (يَبق)؛ بفتح التحتية، من البقاء، و (عالمٌ)؛ بالرفع على الفاعلية، وفي رواية مسلم: (حتى إذا لم يترك عالمًا).
فإن قلت: (إذا) للاستقبال، و (لم) لقلب المضارع ماضيًا، فكيف يجتمعان؟!
قلت: لما تعارضا؛ تساقطا فبقي على أصله، وهو المضارع، أو تعادلا، فيفيد الاستمرار.
(اتخذ الناسُ)؛ بالرفع على الفاعلية (رُؤُوسًا)؛ بضم الراء والهمزة، والتنوين، جمع: رأس، ولأبي ذر كما في «عمدة القاري»: (رُؤَسَاء)؛ بفتح الهمزة، وفي آخره همزة آخر مفتوحة، جمع: رئيس، والأول: أشهر؛ فليحفظ (جُهَّالًا)؛ بضم الجيم وتشديد الهاء، جمع: جاهل؛ بالنصب صفة لـ (رؤوسًا)، (فسُئلوا)؛ بضم السين المهملة، والضمير مفعول ناب عن الفاعل؛ أي: فسألهم السائلون، (فأفتوا) لهم (بغير علم) وعند المؤلف في (الاعتصام): (فأفتوا برأيهم) (فضلُّوا) من الضلال؛ أي: في أنفسهم، (وأضلُّوا) من الإضلال؛ أي: أضلُّوا السائلين.
فإن قلت: الإضلال ظاهر، وأما الضلال؛ فإنما يلزم أن لو عُمل بما أُفتيَ وقد لا يعمل به؟
قلت: إن إضلاله للغير ضلال له، عمل بما أفتى به أو لم يعمل، والمراد بالجهل: القدر المشترك بين المركب؛ وهو عدم العلم بالشيء مع اعتقاد العلم به، وبين البسيط؛ وهو عدم العلم بالشيء لا مع اعتقاد العلم به المتناول لهما، وهو عامٌّ يتناول القضاة والنوَّاب؛ لأنَّ الحكم بالشيء مستلزم للفتوى به.
(قال الفرَبْري)؛ بكسر الفاء وفتحها، مع فتح الراء وإسكان الموحدة، نسبة إلى فربر: قرية من قرى بخارى على طرق جيحون، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر، المتوفى سنة عشرين وثلاثمئة، عن تسع وثمانين سنة، فسمع من المؤلف مرتين: مرة بفربر، وأخرى ببخارى، وسمع من قتيبة، فشارك المؤلف في الرواية عنه: (حدثنا عباس)؛ بالموحدة والمهملة، وفي رواية: بإسقاط (قال: الفربري): (قال: حدثنا قتيبة): ابن سعيد أحد مشايخ المؤلف: (قال: حدثنا جَرير) بفتح الجيم، ابن عبد الحميد الضبي، أبو عبد الله الرازي الكوفي، (عن هشام): ابن عروة بن الزبير بن العوام (نحوه)؛ أي: نحو حديث مالك، ورواية الفربري هذه أخرجها مسلم عن قتيبة، عن جرير، عن هشام به، واستدل به بجواز خلوِّ الزمان عن المجتهد، وهو مذهب الجمهور خلافًا للحنابلة، وأن الرئاسة الحقيقية هو الفتوى، وهذا الحديث خرج مخرج العموم، والمراد به الخصوص؛ لقول النبيِّ الأعظم عليه السلام: «لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله»، وتمامه في «عمدة القاري».
==================
(1/190)
(35) [باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (هل) للاستفهام (يُجعَل) بصيغة المجهول (للنساء يومٌ) بالرفع مفعوله ناب عن الفاعل (على حِدَة)؛ بكسر الحاء المهملة وتخفيف الدال؛ أي: على انفراده (في العلم) وفي رواية: (يَجعَل)؛ بصيغة المعلوم؛ أي: يجعل الإمام، و (يومًا)؛بالنصب مفعوله.
==========
%ص 63%
==================
(1/191)
[حديث: قالت النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال]
101# وبه قال: (حدثنا آدمُ): ممنوع من الصرف؛ للعلمية والعجمة أو وزن الفعل، وهو ابن أبي إياس (قال: حدثناشعبة): هو ابن الحجاج (قال: حدثني) بالإفراد (ابن الأَصبهاني)؛ بفتح الهمزة، وقد تكسر، وقد تبدل باؤها فاء، عبد الرحمن بن عبد الله الكوفي وأصبهان: مدينة بعراق العجم (قال: سمعت أبا صالح ذَكْوان)؛ بفتح الذال وسكون الكاف، غير منصرف، حال كونه (يحدِّث عن أبي سعيد الخدري): سعد بن مالك رضي الله عنه (قال)؛ أي: أبو سعيد: (قال النساء) وفي رواية: بإسقاط (قال) الأولى، وفي آخر: (قالتْ النساء)؛ بتاء التأنيث، وكلاهما جائز في فعل اسم الجمع (للنبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: غلبَنا)؛ بفتح الموحدة (عليك الرجالُ)؛ بالرفع فاعله؛ أي: بملازمتهم لك كل الأيام يتعلمون أمور الدين ونحن نساء ضعفة لا نقدر على مزاحمتهم، (فاجعل) عطف على محذوف، تقديره: انظر لنا؛ أي: عيِّن (لنا يومًا) من الأيام تعلمنا فيه يكون منشؤه (من نفسك)؛ أي: من اختيارك لا من اختيارنا، أطلق الجعل والمراد لازمه؛ وهو التعيين.
فإن قلت: عطف الجملة الخبرية وهي (فوعدهنَّ) على الإنشائية وهي (فاجعل لنا)؛ ممنوع عند جماعة.
أجيب: بأن العطف ليس على قوله: (فاجعل لنا يومًا)، بل العطف على جميع الجملة من قوله: (غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك)، كذا قرره في «عمدة القاري».
(فوعدهنَّ) عليه السلام (يومًا) مفعول ثانٍ لـ (وعد)؛ أي: ليعلمهن فيه (لقيهنَّ فيه)؛ أي: في اليوم الموعود به، واللقاء إما بمعنى الرؤية، وإما بمعنى الوصول، والجملة محلها النصب صفة لـ (يومًا)، ويجوز أن يكون استئنافًا، (فوعظهن)؛ أي: فوفى عليه السلام بوعده ولقيهن ووعظهن بمواعظ، فالفاء فصيحة، (وأمرهنَّ) بأوامر دينية؛ (فكان): الفاء فصيحة (فيما قال لهن)؛ أي: الذي قاله لهن، خبر (كان)، وقوله: (ما منكن امرأة): اسم (كان)، وفي رواية: (ما منكن من امرأة)، و (من): زائدة لفظًا، و (امرأة): مبتدأ، و (منكن): حال منها مقدم عليها، وخبر المبتدأ الجملةُ التي بعد أداة الاستثناء المفرَّغ [1]، إعرابه على حسب العوامل (تقدم ثلاثة من وُلْدها)؛ بضم الواو وسكون اللام، جمع ولد، وهو يقع على الذكر والأنثى، وفي رواية: (ثلاثًا)؛ بدون هاء؛ أي: ثلاث نسمة، وهي تطلق على الذكر والأنثى أيضًا (إلا كان) التقديم (لها حجابًا)؛ بالنصب خبر (كان)، وفي رواية: (حجابٌ)؛ بالرفع، على أنَّ (كان) تامة؛ أي: وُجِد لها حجابٌ (من النار) وعند المؤلف في (الجنائز): (إلا كن لها حجابًا)، على تقدير الأنفس، وفي (الاعتصام): (إلا كانوا لها حجابًا)؛ أي: الأولاد.
فإن قلت: كيف يقع الفعل مستثنًى؟
قلت: على تقدير الاسم؛ أي: ما امرأة مقدمة إلا كائنًا لها حجاب، كذا في «عمدة القاري».
(فقالت امرأة) هي أم سليم كما عند أحمد والطبراني، أو أم أيمن كما عند الطبراني في «الأوسط»، أو أم بشر كما بيَّنه المؤلف.
قلت: وهو محمول على تعدُّد القصة، والظاهر الأول.
(و) من قدم (اثنين) ولكريمة: (واثنتين)؛ بالتأنيث، (فقال) عليه السلام: (و) من قدم (اثنين) ولكريمة: (واثنتين) أيضًا؛ يعني: أن حكم الاثنين حكم الثلاثة؛ لاحتمال أنه أوحي إليه في الحين بأن يجيب بذلك وهو غير ممتنع، والرجل كالمرأة؛ لأنَّ حكم المكلفين على السواء، إلا إذا دل دليل على الخصوص، وعند المؤلف في (الرقاق) من حديث أبي هريرة ما يدل على أن الواحد كالاثنين، وهو قوله عليه السلام: «يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة»، وأي صفي أعظم من الولد؛ فتأمل.
102# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية: بالإفراد (محمد بن بشار) الملقب ببندار (قال: حدثنا غُندر)؛ بضم الغين المعجمة: محمد بن جعفر البصري (قال: حدثنا شعبة): ابن الحجاج، (عن عبد الرحمن ابن الأصبهاني، عن) أبي صالح (ذكوان) فأفاد المؤلف هنا تسمية ابن الأصبهاني المبهم في الرواية المارة، (عن أبي سعيد)؛ أي: الخدري، كما في رواية، (عن النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم بهذا)؛ أي: بالحديث السابق.
(وعن عبد الرحمن ابن الأصبهاني) الواو عاطفة على قوله: (عن عبد الرحمن)، فالحاصل: أن شعبة يرويه عن عبد الرحمن بإسنادين، فهو موصول، وزعم الكرماني أنه معلق، قال القسطلاني: وهو وهم، وإليه أشار في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(قال: سمعت أبا حازم)؛ بالمهملة والزاي: سلمان الأشجعي الكوفي، المتوفى في خلافة عمر بن عبد العزيز، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (قال) وفي رواية: بالواو عطفًا على محذوف؛ تقديره: مثله؛ أي: مثل حديث أبي سعيد، وقال: (ثلاثة لم يبلغوا الحِنث)؛ بكسر المهملة وبالمثلثة؛ أي: الإثم؛ والمعنى: أنهم ماتوا قبل بلوغهم التكليف، فلم تكتب عليهم الآثام، وإنما خص الحكم بالذين لم يبلغوا وهم الصغار؛ لأنَّ قلب الوالدين على الصغير أرحم وأشفق دون الكبير؛ لأنَّ الغالب على الكبير عدم السلامة من مخالفة والديه وعقوقهم، وفي «الترمذي» و «ابن ماجه» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قدم ثلاثة من الولد
%ص 63%
لم يبلغوا الحنث؛ كانوا له حصنًا حصينًا من النار»، فقال أبو ذر: قدمت اثنين، قال: «واثنين»، قال أُبيُّ بن كعب: قدمت واحدًا، قال: «وواحدًا»، قال الترمذي: غريب، فهذا يدل صريحًا على أن الواحد كالاثنين والثلاثة.
وفي الحديث: دليل على أن أولاد المؤمنين في الجنة، وهو قول الجمهور، وأمَّا أطفال الأنبياء؛ ففي الجنة بالإجماع، وسيأتي تمامه.
==================
(1/192)
(36) [باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه]
هذا (باب من سمع شيئًا) فلم يفهمه كما في روايةٍ (فراجع) الذي سمعه منه، وللأصيلي: (فراجع فيه)، وفي رواية: (فراجعه) (حتى يعرفه)؛ أي: يعرف ما سمعه كما هو في حقه.
==========
%ص 64%
==================
(1/193)
[حديث: أنَّ عائشة كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه]
103# وبه قال: (حدثنا سعيد ابن أبي مريم): الجمحي البصري، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين، ونسبه لجدِّ أبيه، فإن أباه الحكم بن محمد بن أبي مريم (قال: أخبرنا نافع بن عمر) وفي رواية: (ابن عمر الجمحي): وهو ابن عبد الله القرشي المكي، المتوفى سنة تسع وستين ومئة بمكة (قال: حدثني) بالإفراد (ابن أبي مُليكة)؛ بضم الميم: عبد الله _بالتكبير_ ابن عبيد الله _بالتصغير_: (أنَّ عائشة) بفتح الهمزة، وأصله: بأنَّ عائشة (زوج النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ورضي عنها (كانت) محله الرفع خبر (أنَّ) (لا تسمع) وفي رواية: (لا تستمع)؛ بمثناتين فوقيتين، بينهما مهملة (شيئًا) مجهولًا موصوفًا بصفة (لا تعرفه إلَّا راجعت فيه) النبيِّ الأعظم عليه السلام (حتى) أي: إلى أن (تعرفه) وإنما جمع بين (كانت) الماضي وبين (لا تسمع) المضارع؛ استحضارًا للصورة الماضية وحكاية عنها، (وأنَّ النبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم): عطف على قوله: (أنَّ عائشة) (قال): جملة محلها الرفع خبر (أنَّ) (مَن): موصولة مبتدأ، و (حوسب): جملة صلتها و (عذب): خبر المبتدأ؛ أي: استحق العذاب، (قالت عائشة) رضي الله عنها: (فقلت): عطف على (قال) ... إلخ: (أ) كان كذلك (وليس يقول الله تعالى) وإنما قدر؛ لأنَّ همزة الاستفهام تقتضي الصدارة، وحرف العطف يقتضي تقدم الصدارة، و (يقول): خبر (ليس)، واسمها ضمير الشأن، أو أن (ليس) بمعنى (لا)؛ أي: أولا يقول الله تعالى: ({فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا}) مفعول مطلق ({يَسِيرًا}) [الانشقاق: 8]: صفته؛ أي: سهلًا لا يناقش فيه، (قالت)؛ أي: عائشة: (فقال) أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام: (إنما ذلكِ)؛ بكسر الكاف خطاب للمؤنث، والأصل فيه (ذا): وهو اسم يشار به إلى المذكر، فإن خاطبت؛ جئت بالكاف، فقلت: ذاك وذلك، فاللام زائدة، والكاف للخطاب، وفيها أن ما يومئ إليه بعيد، ولا موضع لها من الإعراب، وهو ههنا مبتدأ، وخبره قوله: (العَرض)؛ بفتح العين، من عرضت عليه كذا؛ أي: أظهرته وأبرزته، (ولكن) للاستدراك (من) موصولة متضمن معنى الشرط، وقوله: (نوقش) فعل الشرط (الحسابَ)؛ بالنصب مفعول (ناقش) ثانٍ، والأول الضمير في (نوقش) ناب عن الفاعل؛ أي: من ناقشه الله الحساب، والمناقشة: الاستقصاء في الحساب حتى لا يترك منه شيء؛ أي: من استقصي حسابه؛ (يهلِكْ)؛ بكسر اللام وإسكان الكاف، جواب الشرط، ويجوز رفع الكاف؛ لأنَّ الشرط إذا كان ماضيًا؛ جاز في الجواب الوجهان، والحديث عام في تعذيب من حوسب، والآية تدل على عدم تعذيب بعضهم وهم أصحاب اليمين، فالمراد من الحساب في الآية: العَرض؛ يعني: الإبراز والإظهار، وهو أن يعرف ذنوبه، ثم يتجاوز عنه.
وفي الحديث: فضل عائشة، وأنه عليه السلام لم يتضجر من المراجعة.
وفيه: إثبات الحساب والعرض، وإثبات العذاب يوم القيامة، وتفاوت الناس في الحساب، وظاهر قول ابن أبي مُليكة _أنَّ عائشة كانت لا تسمع شيئًا إلَّا راجعت فيه_: الإرسال؛ لأنَّ ابن أبي مليكة تابعيُّ لم يدرك مراجعتها النبيَّ الأعظم عليه السلام، لكن قولها: (فقلت: أوليس) يدل على أنه موصول، كذا حققه في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
==================
(1/194)
(37) [باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (ليبلِّغِ العلمَ)؛ بالنصب (الشاهدُ)؛ بالرفع (الغائبَ)؛ بالنصب؛ أي: ليبلغ الحاضر الغائب العلم، فـ (الشاهد): فاعل، و (الغائب): مفعول أول له وإن تأخر في الذكر، و (العلم): مفعول ثان، واللام في (ليبلغ): لام الأمر، وفي الغين الكسر على الأصل في حركة التقاء الساكنين، والفتح لخفته (قاله)؛ أي: رواه عبد الله (ابن عباس) رضي الله عنهما، فما وصله المؤلف في (الحج)، (عن النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ولفظه كما في «عمدة القاري»: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: «أيها الناس؛ أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام، وفي آخره: «اللهم؛ هل بلَّغت»، قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده؛ إنها لوصية إلى أمته، فليبلغِ الشاهد الغائب)؛ أي: العلم، فالعلم مقدر في الحديث، وليس هو رواية بالمعنى، كما زعمه بعضهم؛ لأنَّ العلم المأمور بتبليغه مقدر في الحديث، ومعلوم علمًا بديهيًّا، والقرينة تعيِّنه؛ فافهم.
==================
(1/195)
[حديث: إن مكة حرَّمها الله ولم يحرِّمها الناس]
104# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (الليث): ابن سعد المصري (قال: حدثني) بالإفراد (سعِيد)؛ بكسر العين: المقبري، وفي رواية: (سعيد بن أبي سعيد)، وفي أخرى: (هو ابن أبي سعيد)، (عن أبي شُرَيح) بضم المعجمة، وفتح الراء، وبالمهملة، اسمه خويلد بن عمرو بن صخر على الأصح_كما في «عمدة القاري» _ الخزاعي العدوي الكعبي، المتوفى سنة ثمان وستين، الصحابي رضي الله عنه: (أنَّه قال لعَمرو بن سعِيد)؛ بفتح العين في الأول، وكسرها في الثاني: ابن العاصي بن أمية القرشي الأموي، المعروف بالأشدق، قتله عبد الملك بن مروان بعد أن أمَّنه سنة سبعين من الهجرة، قال في «عمدة القاري»: (وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان، ووالده مختلف في صحبته) انتهى (وهو يبعث البُعوث)؛ بضم الموحدة، جمع البعث؛ بمعنى المبعوث، والجملة اسمية وقعت حالًا؛ والمعنى: يرسل الجيوش (إلى مكة)؛ لقتال عبد الله بن الزبير، وذلك أنَّه لمَّا توفي معاوية؛ وجه يزيد إلى عبد الله بن الزبير يستدعي منه بيعته، فخرج من مكة ممتنعًا من بيعته، فغضب يزيد وأرسل إلى مكة يأمر واليها يحيى بن حكيم يأخذ ببيعة عبد الله، فبايعه، وأرسل إلى يزيد ببيعته، فقال: لا أقبل حتى يؤتى به موثَّقًا في وثاق، فأتى ابن الزبير إلى الحرم، وقال: إنِّي عائذ بالبيت، فأبى يزيد وكتب إلى عمرو بن سعيد أن يوجه إليه جندًا، فبعث إليه هذه البعوث.
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: وابن الزبير عند علماء السنة أولى بالخلافة من يزيد وعبد الملك؛ لأنَّه بويع لابن الزبير قبل هؤلاء، وهو صاحب النبيِّ الأعظم عليه السلام، ونقل ذلك عن مالك، وكان امتناعه سنة إحدى وستين من الهجرة.
(ائذن لي) أمر من (أذن يأذن)، وأصله: اأْذن، قلبت الهمزة الثانية ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، يا (أيها الأمير) حذف منه حرف النداء (أحدثْك)؛ بالجزم؛ لأنَّه جواب الأمر (قولًا)؛ بالنصب مفعول ثان لـ (أحدث) (قام به النبيُّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم): جملة محلها النصب صفة (قولًا) (الغدَ)؛ بالنصب على الظرفية؛ وهو اليوم الثاني (من يوم الفتح)؛ يعني: فتح مكة، وكان في عشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة (سمعته أذناي): فاعله، وأصله: أذنان لي، فلما أضيف إلى ياء المتكلم؛ سقطت نون التثنية، والجملة محلها النصب صفة أخرى لـ (القول)، (ووعاه قلبي)؛ أي: حفظه وتحقق فهمه، وتثبت في تعقُّل معناه، وفي قوله: (سمعته أذناي): إشارة منه إلى مبالغته في حفظه ونفي عن أن يكون سمعه من غيره، كما جاء في حديث النعمان بن بشير: (وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه)، (وأبصرته عيناي): أصله: عينان لي، فلما أضيف إلى ياء المتكلم؛ سقطت نون التثنية، وهذا زيادة في تحقُّق السماع والفهم عنه بالقرب منه والرؤية، وأنَّ سماعه ليس اعتمادًا على الصوت بل بالرؤية، وكل ما في الإنسان من الأعضاء اثنان؛ كالأذن والعين؛ فهو مؤنث، بخلاف الأنف ونحوه، كما في «عمدة القاري» (حين تكلَّم) النبيُّ الأعظم عليه السلام، و (حين): منصوب على الظرفية، وهو ظرف لـ (قام) و (سمعت) و (وعاه) و (أبصرت) (به) أي: بالقول الذي أحدثك؛ (حمد الله) تعالى: جملة وقعت بيانًا لـ (تكلم)، (وأثنى عليه) عطف على (حمد) من عطف العام على الخاصِّ، (ثم قال) عليه السلام: (إنَّ مكة حرمها الله) عزَّ وجلَّ: جملة محلها الرفع خبر (إنَّ)؛ أي: من يوم خلق الله السماوات والأرض، ولا تنافي بين هذا وبين ما روي: أنَّ إبراهيم عليه
%ص 64%
السلام حرمها؛ لأنَّ المراد أنه بلَّغ تحريم الله وأظهره بعد أن رفع البيت وقت الطوفان واندرست حرمتها، وتمامه في «عمدة القاري»، (ولم يحرمها الناس) من قبل أنفسهم، فتحريمها ابتدائي من غير سبب يعزى لأحد لا مدخل فيه لا لنبي ولا لغيره، بل بوحي منه تعالى، ثم بيَّن التحريم بقوله: (فلا يحل لامرئ): الفاء في جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كان كذلك؛ فلا يحل لامرِئ؛ بكسر الراء والهمزة؛ لأنَّ عينه دائمًا تابعة للامه في الحركة.
(يؤمن بالله واليوم الآخر): يوم القيامة؛ لأنَّ من آمن بالله؛ لزمته طاعته، ومن آمن باليوم الآخر؛ لزمه القيام بما وجب عليه واجتناب ما نهي عنه (أن يسفِك)؛ بكسر الفاء وضمها، و (أن) مصدرية، وهو فاعل (لا يحل)؛ والتقدير: فلا يحل سفك دم (بها)؛ أي: بمكة، والباء بمعنى (في)؛ أي: فيها، كما في رواية، وقوله: (دمًا): مفعول (يسفِك)، والسفك: صب الدم، والمراد به القتل، وهذا دليل واضح لإمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم على أن الملتجئ إلى الحرم لا يقتل؛ لأنَّه عام يدخل فيه هذه الصورة، ولو أنشأ القتل في الحرم؛ يقتل فيه، ولو قتل في البيت؛ لا يقتل فيه، هذا مذهبنا، وبه قال أحمد، وعطاء، والشعبي، وابن عباس، وغيرهم، فيُضيَّق [1] عليه حتى يخرج منه.
وقال مالك والشافعي فيمن جنى خارجه ثم لجأ إليه: أنه يقام عليه فيه، ونقل ابن حزم عن جماعة من الصحابة المنع، ثم قال: ولا مخالف لهم من الصحابة، ثم نقل عن جماعة من التابعين موافقتهم، ثم شنع على مالك والشافعي، فقال: قد خالفا في هذا هؤلاء الصحابة، والكتاب، والسنة.
(و) أن (لا يَعْضِدَ)؛ بفتح التحتية، وإسكان العين المهملة، وكسر الضاد المعجمة، آخره دال مفتوحة؛ وهو القطع، والمِعضد؛ بكسر الميم: الآلة؛ كالسيف والفأس؛ أي: لا يقطع، (بها)؛ أي: فيها، كما في رواية، أي: في مكة، فهو منصوب عطفًا على (أن يسفِك)، و (لا) زيدت لتأكيد معنى النفي؛ فمعناه: لا يحل أن يعضد بها، (شجرةً)؛ بالنصب مفعول (يعضد)؛ أي: من جنس من له ساق من النبات، وفي رواية: (لا يعضد شوكه)، وفي أخرى: (لا يخيط شوكها).
ففيه: دليل على حرمة قطع شجر الحرم، قال أئمتنا الأعلام: ومن قطع حشيش الحرم أو شجره غير مملوك ولا من جنس ما ينبته الناس مملوكًا أو غير مملوك؛ ضمن قيمته، قيد بغير المملوك؛ لأنَّه إذا كان مملوكًا؛ فعليه قيمتان: قيمة للمالك، وقيمة للشرع، وبعض أصلها في الحرم ككلها، نعم؛ يعتبر أغصانها في حق صيد عليها، فلو كان رأسه في الحل وقوائمه في الحرم فضربه في رأسه؛ ضمن، وبعكسه لا يضمن، كذا في «الدر المنتقى» عن «الشرنبلالية» عن «البرهان»، إلَّا إذا جف وانكسر؛ فلا يضمن؛ لعدم النماء، وكذا يحرم رعي حشيشه عند الإمام الأعظم والإمام محمد.
وقال أبو يوسف: لا يحرم؛ لضرورة الزائرين، ويحرم قطعه إلا الإذخر معروف، ولا بأس بكمأة الحرم؛ لأنَّها ليست بنبات، بل هي شيء مودوع في الأرض، فهي كحجره، كذا في «الدر» عن «المحيط»، هذا مذهب الإمام الأعظم.
وقال مالك: يجوز قطع شجره، ولا يأثم، ولا فدية عليه، وقال الشافعي: الواجب في الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، ويجوز عند الشافعي رعي البهائم في كلاء الحرم، وبه قال أحمد.
(فإن) ترخص (أحدٌ)؛ بالرفع بفعل محذوف مقدر يفسره قوله: (ترخص): وإنما حذف؛ لئلا يجمع بين المفسر والمفسر (لقتال): اللام للتعليل؛ أي: لأجل قتال (رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها)؛ أي: في مكة؛ والمعنى: إن قال أحد بأن ترك القتال عزيمة والقتال رخصة؛ تتعاطى عند الحاجة، مستدلًا بقتاله عليه السلام فيها.
(فقولوا) له: ليس الأمر كذلك، وفي هذا دليل لإمامنا الإمام الأعظم: على أن مكة فتحت عنوة، وهو مذهب الجمهور، وبه قال مالك والأوزاعي، وأنه عليه السلام منَّ على أهلها وسوغهم أموالهم ودورهم، ولم يقسمها ولا جعلها فيئًا، وقال الشافعي وأحمد: فتحت صلحًا [2]، والحديث حجة عليهما (إنَّ الله) تعالى (قد أذن): خبر (إنَّ) (لرسوله) عليه السلام؛ خصوصية له (ولم يأذن لكم): عطف على ما قبله، (وإنما أذن): روي بصيغة المجهول والمعلوم؛ أي: أذن الله (لي) في القتال فقط (فيها)؛ أي: في مكة (ساعةً)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: في ساعة (من نهار): وهي من طلوع الشمس إلى العصر، كما في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أحمد، فأحلت له عليه السلام في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد، وقطع الشجر، وسائر ما حَرَّم الناس، كذا في «عمدة القاري».
(ثم عادت حرمتُها)؛ بالرفع فاعله (اليومَ)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: الحكم الذي في مقابلة الإباحة، وهو الحرمة المستفاد من لفظ الإذن في اليوم المعهود وهو يوم الفتح، فإنَّ عود حرمتها كان في يوم صدور هذا القول لا في غيره (كحرمتها بالأمس): اليوم الذي قبل يوم الفتح، (وليبلِغ)؛ بكسر اللام وتسكينها (الشاهدُ)؛ بالرفع فاعله؛ أي: الحاضر (الغائبَ)؛ بالنصب مفعوله، فالتبليغ عن النبي الأعظم عليه السلام فرض كفاية، إذا قام به البعض؛ سقط عن الكل، والإصغاء فرض عين، والوعي والحفظ يتركبان على ما يستمع، فإن كان ما يخصه؛ تعين عليه، وإن كان يتعلق به أو بغيره؛ كان العمل فرض عين.
(فقيل لأبي شُريح) المذكور: (ما قال عمرو؟)؛ أي: ابن سعيد المذكور في جوابك، فقال: (قال) عمرو: (أنا أعلم منك يا أبا شُريح إنَّ مكة)؛ يعني: صح سماعك وحفظك، لكن لم تفهم المعنى، فإن مكة (لا تُعيذ)؛ بضم الفوقية من الإعاذة؛ أي: لا تعصم (عاصيًا) من إقامة الحدود عليه، وفي رواية: (إنَّ الحرم لا يُعيذ)؛ بالتحتية المضمومة، عاصيًا (ولا فارًّا)؛ بالفاء و تشديد الراء (بدم): الباء للمصاحبة؛ أي: مصاحبًا ومتلبسًا به؛ أي: ملتجئًا إلى الحرم بسبب خوفه من إقامة الحد عليه، والفرار: الهروب، (ولا فارًّا)؛ بالفاء والراء المشددة أيضًا (بخَرْبة)؛ بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة؛ وهي السرقة، كما في رواية المستملي، حيث قال: (ولا فارًا بخربة)؛ يعني: السرقة، وفي رواية: (بخُربة)؛ بضم المعجمة؛ أي: الفساد، وأصل الخربة: سرقة الإبل، وتطلق على كل خيانة، والباء للسببية؛ أي: بسبب الخربة، وما قاله عمرو ليس بجواب؛ لأنَّه لم يختلف معه في أن من أصاب حدًا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقام عليه.
وإنما أنكر عليه أبو شُريح بعثه الخيل إلى مكة واستباحته حرمتها بنصب الحرب عليهما، فحاد عمرو عن الجواب، واحتج أبو شريح بعموم الحديث، وذهب إلى أن مثله لا يجوز أن يستباح نفسه، ولا ينصب الحرب عليهما بقتال بعدما حرمها النبي الأعظم عليه السلام.
واختلف العلماء في الصحابي إذا روى الحديث، هل يكون أولى بتأويله مما يأتي بعده أم لا؛ فقيل: تأويل الصحابي أولى؛ لأنَّه الراوي، وقيل: لا يلزم تأويله إذا لم يصب التأويل، ومذهب إمامنا الإمام الأعظم اتباع عمله لا روايته، فإن كان الحديث عامًا فعمل بخصوصه، أو مشتركًا فعمل بأحد معنييه؛ لا يمنع العمل به؛ لأنَّه تأويل؛ كحديث ابن عمر: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا»، يحتمل التفريق بالأقوال والأبدان، فحمله ابن عمر على الأبدان ولم يأخذ به، والامتناع عن العمل به كالعمل بخلافه؛ كحديث ابن عمر في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، قال مجاهد: صحبت ابن عمر عشر سنين فلم أره فعله، فدل على نسخه، وحديث أبي هريرة في ولوغ الكلب سبعًا، فحمله أبو هريرة على الثلاث؛ لثبوت نسخه عنده، فالحمل عليه تحسين الظن في حق الصحابي، ومذهب الشافعي اتباع رواية الصحابي لا عمله؛ كحديث ابن عمر وأبي هريرة، فإنه أخذ بالرواية وترك عملهم، ولا ريب أن الصحابي الراوي للحديث أولى بتأويله، وأعلم بمخرجه وسببه وناسخه وغير ذلك، والله تعالى أعلم.
وفي الحديث: جواز القياس، وخص [3] النبي الأعظم عليه السلام بخصائص، وجواز النسخ وغير ذلك، كما في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل (فيضق).
[2] في الأصل: (صحلها).
[3] في الأصل: (وخصائص).
==================
[1] في الأصل (فيضق).
[2] في الأصل: (صحلها).
[1] في الأصل (فيضق).
[2] في الأصل: (صحلها)
================== الجزء الثاني. ======
مجلد 2. تفسير أصل الرازي أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)




[حديث: فإن دماءكم وأموالكم عليكم]
105# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب): أبو محمد الحَجَبي _بفتح الحاء المهملة والجيم المعجمة آخره باء موحدة_ البصري، المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئتين، قال: (حدثنا حَمَّاد)؛ بفتح الحاء وتشديد الميم: ابن زيد البصري، (عن أيوب): السختياني، (عن محمد): بن سيرين، (عن ابن أبي بَكرة)؛ بفتح الموحدة: عبد الرحمن، (عن) أبيه (أبي بَكرة): نُفيع؛ بضم النون، قال أبو بَكرة حال كونه (ذُكر النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ بضم الذال المعجمة مبنيًا للمفعول، وروي: للفاعل، وليس هذا من الذكر بعد النسيان.
(قال): وللأصيلي: (فقال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام في حجة الوداع؛ أي: يوم الحديث السابق في باب (رُبَّ
%ص 65%
مبلغ أوعى من سامع)، واقتصر منه هنا على التبليغ؛ لأنَّه المقصود، فقال: (فإنَّ): الفاء عاطفة على محذوف من الحديث السابق (دماءكم وأموالكم، قال محمد)؛ أي: ابن سيرين أحد الرواة: (وأحسبه)؛ أي: وأظن ابن أبي بكرة (قال: وأعراضَكم)؛ بالنصب عطفًا على (أموالكم)، وهو جمع عِرْض؛ بكسر العين وسكون الراء، محل المدح والذم (عليكم حرام)؛ أي: فإن سفك دمائكم بغير حق، وأخذ أموالكم بغير حق، وثلب أعراضكم بغير حق عليكم حرام، وفي رواية: (بينكم حرام).
(كحرمة يومكم هذا): وهو يوم النحر، (في شهركم هذا): وهو ذو الحجة، (أَلا)؛ بالتخفيف (ليبلِغِ)؛ بكسر الغين، أمر (الشاهدُ)؛ أي: الحاضر منكم (الغائبَ)؛ بالنصب على المفعولية، وكسر لام لـ (يبلغ) الثانية؛ للساكنين، (وكان محمد)؛ يعني: ابن سيرين (يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك)؛ أي: وقع ذلك التبليغ المأمور به من الشاهد إلى الغائب، (أَلا)؛ بتخفيف اللام؛ أي: يا قوم (هل بلَّغت، مرتين)؛ أي: قال هل بلغت مرتين، لا أنه قال الجميع مرتين؛ لأنَّه لم يثبت.

(38) [باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم]
هذا (باب إثم من كَذب)؛ بفتح الكاف وتخفيف الذال المعجمة (على النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم): والكذب: الإخبار عن الأمر على خلاف ما هو عليه عمدًا أو سهوًا، هذا مذهب الأشعرية، وقالت المعتزلة: يشترط تعمده، فإذا أخبر ساهيًا؛ فليس بكذب عندهم.
==========
%ص 66%

==================

(1/198)


[حديث: لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار]
106# وبه قال: (حدثنا علي بن الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وإسكان العين، آخره دال مهملتين: الجوهري البغدادي (قال: أخبرنا شعبة): ابن الحجاج (قال: أخبرني)؛ بالإفراد (منصور): ابن المعتمر (قال: سمعت رِبْعِيَّ)؛ بكسر الراء، وإسكان الموحدة، وكسر المهملة، وتشديد التحتية (ابن حِراش)؛ بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالشين المعجمة: ابن جحش _بفتح الجيم، وإسكان المهملة، آخره معجمة_ ابن عمرو الغطفاني العبسي _بالموحدة_ الكوفي، الذي لم يكذب قط، الحالف أنه لا يضحك حتى يعلم أين مصيره إلى الجنة أو النار، فما ضحك إلا بعد موته، المتوفى في خلافة عمر بن عبد العزيز أو سنة أربع ومئة.
(يقول: سمعت عليًّا): ابن أبي طالب الصديق الأصغر، أحد الخلفاء الراشدين، تولى الخلافة خمس سنين، وتوفي بالكوفة ليلة الأحد تاسع عشر رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين سنة، وكان ضربه عبد الرحمن بن ملجم بسيف مسموم على دماغه ليلة الجمعة، وأخفي قبره؛ خوفًا من الخوارج، الهاشمي المكي ابن عم رسول الله عليه السلام وختنه على بنته فاطمة الزهراء، واسم أبي طالب: عبد مناف على المشهور، وأم علي: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وكنيته: أبو الحسن، وكناه عليه السلام: أبا تراب.
وفي سفح جبل قاسيون في ديارنا الشريفة الشامية مدفن منور فيه قبور، عليها مهابة وجلالة، وبينهم قبر محجر، وعليه شاهدة مكتوب عليها أسطر، وفيها اسم علي، والله أعلم هل هو أم من أولاده؟ لكن قد أتى سيدنا العارف الكبير الشيخ عبد الغني النابلسي ذلك الموضع، واعتمد أنه قبره وصور على حجرته صورة الكأس المعلوم، وقال: إنِّي شممت رائحة النبوة من هنا، وهذا المدفن تجاه مدفن أبي بكر بن قوام الولي الكبير.
وأخبرني رجل ثقة: أن قبره في أعالي سفح الجبل فوق المدفن بخطوات، فذهبت إلى هناك ورأيت قبرًا واحدًا عليه حجر واحد، وإني رأيت عليه مهابة وجلالة، وأظنه أنه هو، والله أعلم.
أي: سمعت عليًّا حال كونه (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكذبوا عليَّ): نهي بصيغة الجمع، وهو عام في كل كذب مطلق في كل نوع منه في أحكام الدين وغيرها، سواء كان عليه أو له.
والكذب على الله تعالى داخل تحت الكذب على رسوله.
فإن قلت: الكذب من حيث هو معصية، فما فائدة لفظة: (عليَّ)، فإن الحكم عام في كل من كذب على أحد؟
أجيب: بأنه لا شك أن الكذب عليه عليه السلام أشد من الكذب على غيره؛ لكونه مقتضيًا شرعًا عامًا باقيًا إلى يوم القيامة، فخصص بالذكر لذلك، أو الكذب عليه كبيرة، وعلى غيره صغيرة، والصغائر مكفرة عند الاجتناب عن الكبائر، وما قيل إنه لا يتصور أن يكذب له؛ لأنَّه عليه السلام نهى عن مطلق الكذب، ففيه نظر؛ لأنَّ الكذب عليه: هو ما يذكر من أحواله وصفاته؛ من نومه، ومأكله، وملبسه، وغير ذلك على خلافها فيه، والكذب له: هو ما يقال: إنه قال في حق كذا وكذا، وأمر لكذا كذا، وغير ذلك مما لم يعهد له فافترقا؛ فافهم.
(فإنَّه)؛ أي: الشأن (من كذب)؛ بالتخفيف (عليَّ) أو لي؛ (فليلج النار): جواب النهي، ولذا دخلته الفاء، والضمير في (إنَّه) للشأن، وهو اسم (إنَّ)، وقوله: (من كذب عليَّ): محله رفع خبر (إنَّ)، و (من): موصولة تتضمن معنى الشرط، وقوله: (فليلج النار): جواب الشرط، فلذا دخلته الفاء؛ أي: ليدخل النار، و (النار): منصوب؛ بتقدير: (في)؛ لأنَّ أصله لازم؛ أي: ليدخل في النار، هذا جزاؤه وقد يجازى به.
وقد يعفو الله عنه، ولا يقطع عليه بدخول النار، وكذا كلما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر، فإن جوزي وأدخل النار؛ فلا يخلد فيها، بل يخرج بفضله تعالى ولو بعد مدة طويلة، وأتى بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم: «من يكذب عليَّ؛ يلج النار»، ولابن ماجه: «فإنَّ الكذب عليَّ يولج النار»، وقيل: دعاء عليه، ثم أخرج مخرج الذم، كذا قيل.
وفي الحديث: دليل على تعظيم حرمة الكذب على النبي الأعظم عليه السلام وأنه كبيرة، والمشهور أن فاعله لا يكفر إلا إذا استحله، ولا فرق في تحريم الكذب على النبي الأعظم بين ما كان في الأحكام وغيره كالترهيب والترغيب؛ فكله حرام بإجماع المسلمين، خلافًا للكرامية في زعمهم أنه يجوز الوضع عليه في الترغيب والترهيب، وتابعه كثير من الجهلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد، ومنهم من زعم أنه جاء في رواية: (من كذب عليَّ متعمدًا؛ ليضل به)، وتمسكوا بهذه الزيادة أنَّه كذب له لا عليه، وهذا فاسد.
وإنَّ من روى حديثًا وعلم أو ظن أنه موضوع؛ فهو داخل في هذا الوعيد، وإن من روى حديثًا ضعيفًا لا يذكره بصيغة الجزم، بل يقول: روي، وجاء، ونقل، وإن مما يظن دخوله في النهي اللَّحنُ وشبهه، ولهذا قالوا: ينبغي للراوي أن يعرف من النحو، واللغة، والأسماء ما يسلم من قول ما لم يقل، فإذا صح في الرواية ما هو خطأ ما حكمه؟، والجمهور على روايته على الصواب ولا يغيِّره في الكتاب، بل يكتب في الهامش: كذا وقع، وصوابه: كذا، وهو الصواب، وقيل: يغيِّره ويصلحه.
والواضعون قسمان: أحدهما: قوم زنادقة؛ كالمغيرة بن سعيد الكوفي وغيره، وضعوا: أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي إن شاء الله، والثاني: قوم تعصبوا لعلي، فوضعوا فيه أحاديث، وقوم تعصبوا لمعاوية، وقوم تعصبوا لإمامنا الأعظم.
قال ابن الصلاح قال: رويت عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة الإمام الأعظم، فوضعت هذا الحديث، قال يحيى: نوح هذا ليس بشيء، لا يكتب حديثه، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
%ص 66%

==================

(1/199)


[حديث: من كذب علي فليتبوَّأ مقعده من النار]
107# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد): هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري (قال: حدثنا شعبة): بن الحجاج، (عن جامع بن شداد): المحاربي أبو صخر الكوفي، المتوفى سنة ثماني عشرة ومئة، (عن عامر بن عبد الله بن الزبير): بن العوَّام الأسدي القرشي أبو الحارث المدني، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئة، (عن أبيه): عبد الله بن الزبير بن العوَّام أبو بكر، الصحابي بن الصحابي، أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة، ولدته أمه أسماء بنت الصديق الأكبر بقباء، وأتت به النبي الأعظم عليه السلام فوضعه في حجره، ودعا بثمرة فمضغها ثم تفل في فيه وحنَّكه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريق النبي الأعظم عليه السلام، ثم دعا [1] له، وكان أطلس لا لحية له، بويع بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، واجتمع على طاعته أهل الحجاز، واليمن، والعراق، وخراسان [2] ما عدا الشام، وجدد عمارة الكعبة، وجعل لها بابين وحج بالناس ثماني حجج، وبقي في الخلافة إلى [أن] حصره الحجاج بمكة أول ليلة من ذي الحجة سنة اثنين وسبعين، ولم يزل يحاصره [3] إلى أن أصابته رمية الحجر، فمات وصلبَ جثته وحمل رأسه إلى خراسان [4] رضي الله عنه.
أنَّه (قال: قلت للزُّبير)؛ بضم الزاي: بن العوَّام _بتشديد الواو_، القرشي أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى وحواري النبي الأعظم عليه السلام، وكان يوم الجمل قد ترك القتال وانصرف عنه فلحقه جماعة من الغزاة فقتلوه بوادي السباع بناحية البصرة، ودفن سنة ست وثلاثين، ثم حول إلى البصرة، وقبره
%ص 66%
مشهور بها، وكان له أربع نسوة، ودفع الثلث فأصاب كل امرأة منهن ألف ألف ومئتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومئة ألف.
(إنِّي لأسمعك تحدث)؛ أي: لأسمع تحديثك، وحذف مفعوله، وفي رواية إسقاط: (إنِّي)، (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث): الكاف للتشبيه، و (ما): مصدرية؛ أي: كتحديث (فلان وفلان): سمَّى منهما في رواية ابن ماجه: عبد الله بن مسعود، (قال)؛ أي: الزبير: (أَمَا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف الميم، حرف تنبيه (إِنِّي)؛ بكسر الهمزة (لم أفارقه) عليه السلام، جملة من الفعل والفاعل والمفعول، محلها الرفع خبر: (إنَّ)، زاد في رواية: (منذ أسلمت)، وأراد به عدم المفارقة الصرفية؛ أي: ما فارقته سفرًا وحضرًا، وهجرته إلى الحبشة كانت قبل ظهور شوكة الإسلام؛ أي: ما فارقته عند ظهوره، أو المراد في أكثر الأحوال.
(ولكني): وفي رواية: (لكنني)؛ بنونين، ويجوز في (أن) وأخواتها إلحاق نون الوقاية بها وعدم الإلحاق، وهي للاستدراك، وشرطه التوسط بين كلامين متغايرين، وهما هنا لازم عدم المفارقة السماع، ولازم السماع التحديث عادة، ولازم الحديث الذي ذكره في الجواب عدم التحديث، والمناسب لـ (سمعت) (قال)؛ ليوافقا ماضيًا لكن عدل [5] إلى المضارع؛ استحضارًا لصورة القول للحاضرين والحكاية عنها كأنه يريهم أنه قائل به الآن.
(سمعته) عليه السلام (يقول: من): موصولة تتضمن معنى الشرط، وقوله: (كَذب)؛ بفتح الكاف وتخفيف الذال (عليَّ)؛ بفتح التحتية، أو لي صلة الموصول، وقوله: (فليتبوأ): جواب الشرط، فلذا دخلته الفاء بكسر اللام هو الأصل، وبالسكون هو المشهور، وهو أمر من التبوُّء؛ وهو اتخاذ المباءة [6]؛ أي: المنزل؛ أي: فليتخذ.
(مقعدَه)؛ بالنصب مفعول لـ (يتبوأ) (من): هي بمعنى (في)؛ كما في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]؛ أي: في (النار): والأمر هنا معناه الخبر، يريد: أن الله يبوِّئه مقعده من النار، وقيل: الأمر بالتبوء تهكم وتغليظ، وقيل: الأمر على حقيقته؛ أي: من كذب فليأمر نفسه بالتبوء، والظاهر والأولى أن يكون الأمر أمر تهديد، أو يكون دعاء على معنى بوأه الله مكانًا في النار.
واختلف في الكذب؛ فقيل: معناه الخصوص؛ أي: الكذب في الدين، كأن ينسب إليه تحريم حلال أو تحليل حرام، وقيل: كان ذلك في رجل بعينه كذب عليه عليه السلام، واحتجاج الزبير ينفي التخصيص، فهو عام في كل كذب في الدين والدنيا، ومن قصد الكذب على النبي الأعظم عليه السلام ولم يكن في الواقع كذبًا؛ فإنَّه يأثم بسبب قصده للكذب لا بسبب الكذب؛ لأنَّ قصد المعصية معصية، وإنما توقف الزبير في الرواية والإكثار منها؛ لأجل خوفه الغلط والنسيان، والغالط والناسي وإن كان لا إثم عليه فقد ينسب إلى تفريط؛ لتساهله، وأمَّا من أكثر منهم؛ فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت وإطالة أعمارهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان.
والحديث بعمومه يتناول العامد، والساهي، والناسي في إطلاق اسم الكذب عليهم، غير أن الإجماع انعقد على أن الناسي لا إثم عليه، كذا قرره الشيخ الإمام بدر الدين العيني في «عمدة القاري» قدس سره.
==========
[1] في الأصل: (دعى).
[2] في الأصل: (وخرسان).
[3] في الأصل: (يحاصله).
[4] في الأصل: (خرسان).
[5] في الأصل: (عدم).
[6] في الأصل: (المناءة).

==================
[1] في الأصل: (دعى).
[2] في الأصل: (وخرسان).
[3] في الأصل: (يحاصله).
[4] في الأصل: (خرسان).
[5] في الأصل: (عدم).
[1] في الأصل: (دعى).
[2] في الأصل: (وخرسان).
[3] في الأصل: (يحاصله).
[4] في الأصل: (خرسان).
[5] في الأصل: (عدم).

(1/200)


[حديث: من تعمد علي كذبًا فليتبوأ مقعده من النار]
108# وبه قال: (حدثنا أبو مَعْمَر)؛ بفتح الميمين وسكون العين: عبد الله بن عمرو، المشهور بالمقعد المنقري البصري (قال: حدثنا عبد الوارث): بن سعيد التميمي البصري، (عن عبد العزيز): بن صهيب البصري (قال: قال أنس): هو ابن مالك رضي الله عنه، وفي رواية: بإسقاط (قال) الأولى.
(إنَّه)؛ بكسر الهمزة والتشديد؛ أي: الشأن (ليمنعني): اللام للتأكيد، والجملة محلها الرفع خبر (إنَّ) (أَنْ)؛ بفتح الهمزة وتخفيف النون (أحدثكم): فهي ومعمولها في محل نصب مفعول أول (ليمنعني)؛ لأنَّ منع يتعدى لمفعولين، و (أن): مصدرية؛ والتقدير: ليمنعني تحديثكم (حديثًا)؛ بالنصب مفعول مطلق، والمراد به الجنس (كثيرًا): صفة له (أنَّ)؛ بفتح الهمزة وتشديد النون (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال): فـ (أن) واسمها وخبرها في محل رفع فاعل (يمنعني) (من تعمد عليَّ كذبًا) عام في جميع أنواع الكذب؛ لأنَّ النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي تعم، فـ (من): موصولة تتضمن معنى الشرط، وقوله: (تعمد عليَّ كذبًا): صلته، والمراد من قوله: (أحدثكم حديثًا): هو حديث النبي الأعظم عليه السلام؛ لأنَّه هو المراد في عرف الشرع عند الإطلاق، كما أنه إذا أطلق الإمام الأعظم؛ فالمراد به هو أبو حنيفة النعمان التابعي الجليل رأس المجتهدين.
وقوله: (فليتبوأ): جواب الشرط؛ أي: فليتخذ (مقعدَه)؛ بالنصب مفعوله (من)؛ أي: في (النار): أمر تهديد أو دعاء كما مر، وكثرة الحديث وإن كان صادقًا فيه ينجر إلى الكذب غالبًا عادة، ومن حام حول الحمى؛ أوشك أن يقع فيه، فالتعليل للاحتراز عن الانجرار إليه، ولو كان وقوعه على سبيل الندرة، فأفاد أنس أن توقيه من التحديث لم يكن للامتناع من أصل التحديث للأمر بالتبليغ، وإنما هو لخوف الإكثار المفضي إلى الخطأ.
==========
%ص 67%

==================

(1/201)


[حديث: من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار]
109# وبه قال: (حدثنا المكي): وفي رواية: بالإفراد والتنكير (بن إبراهيم): البلخي (قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد)؛ بالتصغير: أبو خالد الأسلمي مولى سلمة بن الأكوع، المتوفى سنة ست أو سبع وأربعين ومئة، (عن سَلَمَة)؛ بفتح المهملات (ابن الأكوع): سنان بن عبد الله الأسلمي المدني، المتوفى سنة أربع وسبعين عن ثمانين سنة، المدفون بالمدينة، الذي كلَّمه الذئب، قال سلمة: رأيت الذئب قد أخذ ظبيًا فطلبته حتى نزعته منه، فقال: ويحك ما لي وما لك، عمدت إلى رزق رزقنيه الله ليس من مالك فنزعته مني، قال: قلت: أيا عباد الله إن هذا لعجب ذئب يتكلم، فقال الذئب: أعجب منه أن رسول الله عليه السلام في أصول الحل يدعوكم إلى عبادة الله وتأبون إلا عبادة الأوثان، قال: فلحقت برسول الله عليه السلام فأسلمت.
(قال سمعت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: كلامه حال كونه (يقول: من): موصولة تتضمن معنى الشرط (يقل): أصله: يقول، حذفت الواو؛ للجزم لأجل الشرط، (ما لم أقل)؛ أي: الذي لم أقله، وهذا اللفظ خاص بالقول، لكن لا شك أن الفعل في معناه؛ لاشتراكهما في علة الامتناع وهو الجسارة على الشريعة، ومشرعها عليه السلام.
(فليتبوَّأ): جواب الشرط؛ أي: فليتخذ (مقعدَه): مفعوله (من) في (النار): واحتج بظاهره من منع رواية الحديث بالمعنى، والجمهور على عدم المنع؛ لأنَّ المراد من النهي الإتيان بلفظ يوجب تغيير الحكم، على أن الإتيان باللفظ أولى بلا شك.
==========
%ص 67%

==================

(1/202)


[حديث: تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي]
110# وبه قال: (حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (موسى): هو ابن إسماعيل المنقري التبوذكي البصري (قال: حدثنا أبو عَوانة)؛ بفتح العين: الوضاح اليشكري، (عن أبي حَصِين)؛ بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين: عثمان بن عاصم الكوفي، المتوفى سنة سبع أو ثمان وعشرين ومئة، (عن أبي صالح): ذكوان السمان الزيات المدني، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: تَسَمُّوا)؛ بفتح التاء والسين وتشديد الميم، أمر بصيغة الجمع من باب التفعل (باسمي): محمد وأحمد، (ولا تَكْتَنوا)؛ بفتح التائين، بينهما كاف ساكنة، وفي رواية الأربعة: (ولا تكَنُّوا)؛ بفتح الكاف وتشديد النون بدون تاء ثانية، من باب التفعل، وأصله: لا تتكنوا، فحذفت أحد التائين، أو بضم التاء، وفتح الكاف، وضم النون المشددة، من باب التفعيل، أو بفتح التاء وإسكان الكاف، والكل من الكناية، وهي في الأصل: أن يتكلم بشيء ويريد [1] به غيره.
والاسم العلم إما أن يكون مشعرًا بمدح أو ذم، وهو اللقب، وإما ألَّا يكون، فإما أن يصدر؛ بنحو الأب أو الأم وهو الكنية، أو لا وهو الاسم، فاسم النبي الأعظم عليه السلام: محمد، وكنيته: أبو القاسم، ولقبه: رسول الله وسيد المرسلين مثلًا عليه السلام.
(بكنيتي): وهو من عطف المنفي على المثبت، واستدل بهذا أهل الظاهر على منع التكني بكنيته عليه السلام مطلقًا، قال الشافعي: ليس لأحد أن يكتني بأبي القاسم، سواء كان اسمه محمدًا أم لا، ومنع قوم تسمية الولد بالقاسم كيلا يكون سببًا للتكنية، وقال قوم: يجوز التكني بأبي القاسم لغير من اسمه محمد أو أحمد، ويجوز التسمية بأحمد ومحمد ما لم يكن له كنية بأبي القاسم.
وقال إمامنا الإمام الأعظم والجمهور: إن النهي منسوخ في الإباحة، وبه قال مالك لما في «أبي داود» من حديث محمد بن الحنفية قال: قال علي: قلت: يارسول الله؛ إنْ وُلِدَ لي وَلَدٌ من بعدك أنسميه باسمك ونكنيه بكنيتك؟ قال: «نعم».
وقال أحمد بن عبد الله: ثلاثة تكنوا بأبي القاسم محمد بن الحنفية، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، وقال ابن جرير: النهي في الحديث للتنزيه والأدب لا للتحريم، وقيل: النهي مقصور على حياة النبي الأعظم؛ لأنَّه ذكر أن سبب الحديث أن رجلًا نادى: يا أبا القاسم، فالتفت النبي الأعظم، فقال: لم أعنك وإنما دعوت فلانًا، وقيل:
%ص 67%
إن سبب النهي أن اليهود تكنوا به وكانوا ينادون: يا أبا القاسم، فإذا التفت النبي الأعظم؛ قالوا: لم نعنك؛ إظهارًا للإيذاء، وقد زال ذلك المعنى.
(ومن): موصولة تتضمن معنى الشرط (رآني في المنام): وهو ثلاثة أقسام: رؤيا من الله تعالى، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا مما حدث به المرء نفسه، والأحاديث في هذا الباب نفت القسم الثاني، وكذا لا يجوز أن تكون رؤيته عليه السلام من القسم الثالث؛ لأنَّ الاجتماع بين الشخصين يقظة ومنامًا؛ لحصول الاتحاد إما في الذات، أو في الصفة، أو في الأحوال، أو في الأفعال، أو في المراتب، فمن حصل له هذه؛ ثبتت المناسبة بينه وبين الأرواح الماضية فيجتمع بهم، ولا كذلك النبي الأعظم؛ لأنَّ حديث المرء نفسه ليس مما يقدر أن يحصل مناسبة بينه وبين النبي الأعظم عليه السلام، فثبتت أن رؤياه عليه السلام من الله تعالى.
وقوله: (فقد رآني): جواب الشرط، وفي رواية: (فقد رأى الحق)، وفي أخرى: (فسيراني في اليقظة)، وفي أخرى: (فكأنما رآني في اليقظة)، وحقيقة الرؤيا: إدراكات يخلقها الله في قلب العبد على يد الملك أو الشيطان، ونظيره في اليقظة: الخواطر، وقيل: هي اعتقادات فما يريه الملك الموكل بها يطلعه على قصص بني آدم من اللوح، فهو ينسخ منها ويضرب لكل على قصته مثلًا، فإذا نام؛ تمثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة؛ ليكون له بشارة، أو نذارة، أو معاينة؛ ليكون على بصيرة من الأمر.
(فإنَّ الشيطان): الفاء للتعليل، و (الشيطان): اسم (إنَّ)، وخبرها قوله: (لا يتمثل في صورتي): وفي رواية: (فإنَّه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي)، وهذا تفسير للأول؛ لأنَّ معنى قوله: (فقد رآني)؛ أي: رأى الحق، ورؤياه ليست بأضغاث أحلام ولا من تشبيه الشيطان، فرؤياه حق صحيحة.
الحديث على ظاهره، والمراد: أن من رآه؛ فقد أدركه عليه السلام ولا مانع منه، وقيل: إن رآه بصفته المعلومة؛ فهو إدراك الحقيقة، وإن رآه على غير صفته؛ فهو إدراك المثال، فتكون رؤيا تأويل، والصحيح الثاني.
فمعنى قوله: (فقد رآني)؛ أي: فقد رأى مثالي في الحقيقة؛ لأنَّ المرئي في المنام مثاله، وليس المراد أنه رأى جسمي وبدني، بل رأى مثالًا [2]، صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى، فالملك الموكل يمثل بالموجود ما في اللوح المحفوظ من المناسبة، ومعنى قوله: (فسيراني في اليقظة): وكأنما رآني في اليقظة سيرى تفسير ما رأى؛ لأنَّه حق، وقيل: سيراه في القيامة، وقيل: أهل عصره بمن لم يهاجر، فتكون الرؤية في المنام علمًا له على رؤيته في اليقظة.
وقوله: (فإنَّ الشيطان لا يتمثل بصورتي)؛ أي: في صفتي، وهي صفة الهداية، وقيل: هي على الحقيقة، وهي التخطيط [3] المعلوم المشاهد له عليه السلام، وهذا ظاهر، فقالوا: رؤيته عليه السلام هي أن يراه الرائي بصورة شبيهة لصورته الثابتة حليتها بالنقل الصحيح، حتى لو رآه في صورة مخالفة لصورته التي كان عليها في الحسن؛ لم يكن رآه عليه السلام، كأن يراه طويلًا، أو قصيرًا، أو أشقر، أو شيخًا، أو شديد السمرة، ونحو ذلك.
ومثله عليه السلام بقية الأنبياء والملائكة؛ فإنَّها حق لا يتمثل الشيطان بهم، وقد منَّ الله علي في رؤيتي له عليه السلام، ورؤيتي لموسى عليه السلام، ورؤيتي لعلي بن أبي طالب، والحمد [لله] تعالى على ذلك.
(ومن كذب عليَّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار): ومقتضى الحديث استواء تحريم الكذب عليه في كل حال، سواء كان في اليقظة أو في النوم، وإذا كانت رؤياه حقًا فهل يطلق [عليه] الصحابي؟
أجيب: بأنه لا يطلق عليه ذلك؛ لأنَّ المراد من الرؤية المعهودة الجارية على العادة أو الرؤية في حياته في الدنيا فلا يصدق عليه الصحابي إلا وهو مسلم رآه عليه السلام، وأما الحديث المسموع في المنام؛ فهو ليس بحجة؛ لأنَّه يشترط في الاستدلال به أن يكون الراوي ضابطًا عند السماع، والنوم ليس حاله الضبط، وحديث: (من كذب عليَّ) في غاية الصحة حتى أطلق عليه جماعة: أنه متواتر، ونوزع بأن شرط التواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة وليست موجودة في كل طريق بمفردها.
أجيب: بأن المراد من إطلاق كونه متواترًا رواية المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (وتريد).
[2] في الأصل: (مثال).
[3] في الأصل: (التخلطيط).

==================
[1] في الأصل: (وتريد).
[2] في الأصل: (مثال).
[1] في الأصل: (وتريد).
[2] في الأصل: (مثال).

(1/203)


(39) [باب كتابة العلم]
هذا (باب كتابة العلم): ولا يخفى أنه مستحب، بل واجب في زماننا؛ لقلة اهتمام الناس بالحفظ، كما في «عمدة القاري».
==========
%ص 68%

==================

(1/204)


[حديث أبي جحيفة: قلت لعلي: هل عندكم كتاب]
111# وبه قال: (حدثنا ابن سلَام): محمد أبو عبد الله البيكندي، وهو بتخفيف اللام، وقد تشدد، وفي رواية: (محمد بن سلام) (قال: أخبرنا وكيع): بن الجراح بن مليح الكوفي المفتي على مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، قال حماد بن زيد: إنَّه أرجح من سفيان، المتوفى يوم عاشوراء سنة تسع وتسعين ومئة عن إحدى وسبعين سنة، (عن سفيان): ابن عُيينة _بضم العين_ أو الثوري، وجزم بالأول في «عمدة القاري»، وجزم بالثاني ابن حجر؛ لشهرة وكيع بالرواية عنه، وردَّ بأن وكيعًا مشهور بالرواية عن السفيانين كليهما، ونص في «الأطراف» على أنَّه ابن عيينة؛ فليحفظ.
(عن مُطَرِّف)؛ بضم الميم، وفتح الطاء، وكسر الراء المشددة، آخره فاء: ابن طَريف _بطاء مهملة مفتوحة_، أبو بكر الكوفي الحارثي، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومئة، (عن الشَّعْبي): عامر؛ بفتح المعجمة وسكون المهملة، (عن أبي جُحَيْفة)؛ بضم الجيم، وفتح المهملة، وسكون التحتية، واسمه وهب بن عبد الله السُّوائي _بضم السين المهملة، وتخفيف الواو وبالمد_، الكوفي، وكان علي رضي الله عنه يكرمه ويحبه، وجعله على بيت المال، وهو من صغار الصحابة، المتوفى سنة اثنين وسبعين، (قال: قلت لعلي): الصديق الأصغر، زاد الأصيلي: (ابن أبي طالب رضي الله عنه).
(هل): للاستفهام (عندكم): الخطاب لعلي إما للتعظيم، أو لإرادته مع سائر أهل البيت النبوي، أو للالتفات من خطاب المفرد إلى خطاب الجمع (كتاب)؛ بالرفع مبتدأ، وخبره: (عندكم) مقدمًا؛ أي: مكتوب أخذتموه عن النبي الأعظم عليه السلام مما أوحي إليه، ويدل لهذا ما عند المؤلف في (الجهاد): (هل عندكم شيء من الوحي)، وإنما سأله أبو جحيفة؛ لأنَّ الشيعة كانوا يزعمون أن النبي عليه السلام خص أهل البيت، لا سيما علي بأسرار من علم الوحي لم يذكرها لغيره.
(قال) علي: (لا) كتاب عندنا (إلا كتاب الله)؛ بالرفع بدل من المستثنى منه، وهو استثناء متصل؛ لأنَّ المفهوم من الكتاب كتاب أيضًا؛ لأنَّه من جنسه، وما زعمه ابن حجر من أنه منقطع؛ رده في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(أو فهم)؛ بالرفع عطفًا على (كتاب)، ولو كان الاستثناء منقطعًا كما زعمه؛ لكان قوله: (أو فهم) منصوبًا، والرواية بالرفع؛ فليحفظ، والفهم: جودة الذهن بمعنى العلم (أعطيَه)؛ بفتح التحتية على صيغة المجهول، أسند إلى قوله: (رجل): مفعول أول نائب عن الفاعل، والضمير المنصوب مفعول ثان (مسلم)؛ بالرفع صفة لـ (رجل) من فحوى الكلام ويدركه من بواطن المعاني التي هي غير الظاهر من نصه، كوجوه الأقيسة والمفاهيم وسائر الاستنباطات، وما قاله ابن المنير رده في «عمدة القاري».
ويدل لهذا قوله: (أو ما): عطف على (كتاب الله)، و (ما): موصولة مبتدأ بمعنى الذي، وقوله: (في هذه الصحيفة): خبره؛ وهي الورقة المكتوبة، وكانت معلقة بقبضة سيفه إما احتياطًا أو استحضارًا، وإما لكونه منفردًا بسماع ذلك، وفي «النسائي»: (فأخرج كتابًا من قراب سيفه)، واقتران الصحيفة بالسيف الإشعار بأن مصالح الدين ليست بالسيف وحده؛ بل بالقتل تارة، وبالدية أخرى، وبالعفو تارة أخرى.
(قال) أبو جحيفة: (قلت: وما): وفي رواية: (فما)، وكلاهما للعطف استفهام مبتدأ؛ أي: أي شيء (في هذه الصحيفة): خبر المبتدأ (قال) الصديق الأصغر: (العقل)؛ بالرفع مبتدأ حذف خبره؛ أي: فيها العقل، والمضاف فيه محذوف أيضًا؛ أي: حكم العقل؛ أي: الدية، وإنما سميت به؛ لأنَّهم كانوا يعطون فيها الإبل ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال؛ وهو الحبل، والمراد أحكامها، ومقاديرها، وأصنافها، وأسنانها، كما في «عمدة القاري».
وفي رواية «الصحيحين» من طريق يزيد التيمي: فإذا فيها: «المدينة حرام ... »؛ الحديث، ولمسلم عن أبي الطفيل: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: «لعن الله من ذبح لغير الله ... »؛ الحديث، وللنسائي من طريق الأشتر: فإذا فيها: «المؤمنون يتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ... »؛ الحديث، ولأحمد من طريق ابن شهاب: فإذا فيها: (فرائض الصدقة)، والجمع بين هذه الأحاديث أنَّ الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوبًا فيها فنقل كل من
%ص 68%
الرواة ما حفظه.
(وفكاكُ)؛ بالرفع عطف على (العقل)، وهو بفتح الفاء وكسرها؛ هو ما يفتك ويخلص به (الأسير): فعيل بمعنى المأسور من أسره؛ إذا شده بالأسارى؛ وهو القِد؛ بكسر القاف وبالمهملة، ويقال: القيد، والمراد حكمه والتَّرغيب في تخليصه، وأنَّه من أنواع البر فينبغي الاهتمام به.
(ولا يقتلُ)؛ بضم اللام (مسلم بكافر): وفي رواية: (وأن لا يقتل)؛ بزيادة (أن) الناصبة، وهي مصدرية في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف؛ تقديره: وفيها أن لا يقتل؛ أي: وفيها عدم قتل مسلم بكافر؛ يعني: حرمة قصاص المسلم بالكافر، وعلى الرواية الأولى بحذف (أن)، فإنَّه جملة فعلية معطوفة على جملة اسمية؛ أعني: قوله: (العقل)؛ لأنَّ تقديره: وفيها العقل؛ والتقدير: وفيها العقل وفيها حرمة قصاص المسلم بالكافر، فهو عطف جملة على جملة.
استدل بظاهر الحديث مالك، والشافعي، وأحمد على أن المسلم لا يقتل بالكافر قصاصًا، وبه قال الأوزاعي، والليث، والثوري، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل والإمام أبو يوسف في رواية، والإمام محمد، والإمام زفر، والإمام الحسن بن زياد: يقتل المسلم بالكافر، وبه قال النخعي، والشعبي، وسعيد بن المسيب، وابن أبي ليلى، وعثمان البتِّي، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز.
وقالوا: ولا يقتل بالمستأمن والمعاهد لهم عمومات قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وقوله جل ذكره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ} [البقرة: 178]، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]، فإنَّ هذه الآيات تدل صريحًا على أن المسلم يقتل بالكافر؛ لأنَّ ذلك عام في شريعة من قبلنا وفي شريعتنا؛ لأنَّ الله تعالى قد قصه علينا وقرره النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم من غير إنكار ولا تخصيص، فلزمنا العمل به.
والمراد بالسلطان: القصاص في العمد، والدية في الخطأ، واتفق الإمام الأعظم، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد، كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب، والنخعي، وقتادة، والحكم؛ لما رواه الحسن بن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل عبده؛ قتلناه»، أخرجه أبو داود والنسائي، وهو حجة على منع ذلك، ولا دليل لهم في قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا ... }؛ الآية؛ لأنَّ المراد بالسلطان: القصاص، كما مر؛ فافهم.
وقول النبي الأعظم عليه السلام: «العمد قود»، وما رواه الدارقطني عن ابن عمر: أن رسول الله عليه السلام أتي برجل من المسلمين قد قتل معاهدًا من أهل الذمة، فأمر به فقتل، وقال: «أنا أولى من وفَّى بذمته»، واعترض بأن الدارقطني قال: لم يسنده إلَّا إبراهيم بن يحيى، وهو متروك، والصواب إرساله، وبأن المقتول كان عمرو بن أمية الضمري، وأنه عاش بعد النبي عليه السلام.
وأجيب: بأن الحديث رواه مالك في «الموطأ»، واحتج به محمد، والمرسل حجة عندنا، وأمَّا المقتول؛ فيحتمل أنهما اثنان، قتل أحدهما، وعاش الآخر بعد النبي عليه السلام.
والمراد من قوله: (ولا يقتل مسلم بكافر): الكافر: الحربي؛ لأنَّ الحديث لم يكن مفردًا لكنه كان موصولًا بغيره، وهو الذي رواه قيس بن عباد والأشتر، فإن في روايتهما: (لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)، وهذا لا يدل على ما قالوه؛ لأنَّ ذا العهد كافر، فدل على أن الكافر الذي منع النبي عليه السلام أن يقتل به مؤمن في الحديث المذكور هو الكافر الحربي الذي لا عهد له، وهذا لا خلاف فيه لأحد أن المؤمن لا يقتل بالكافر الحربي.
ويدل لذلك أن أصل الحديث كان في خطبته عليه السلام يوم فتح مكة، وكان رجل من خزاعة قتل رجلًا من هذيل في الجاهلية، فقال عليه السلام: «ألا كل دم كان لفي الجاهلية؛ فهو موضوع تحت قدميَّ هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده»، وعهد الذمة كان بعد فتح مكة، كما قاله أهل المغازي فكأنَّ قوله يوم الفتح: «لا يقتل مؤمن بكافر»؛ منصرفًا إلى الكفار والمعاهدين؛ لأنَّه لم يكن هناك ذمي ينصرف إليه الكلام، ويدل لذلك: (ولا ذو عهد في عهده»، نعطف (ذو العهد) وهو الذمي على (المسلم)؛ وتقديره: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد بكافر حربي؛ لأنَّ الذمي إذا قتل ذميًا؛ يقتل به.
فعلم بهذا أن المراد به الحربي؛ إذ هو لا يقتل به مسلم ولا ذمي، ووقع الإجماع على أن المسلم تقطع يده إذا سرق من مال الذمي فكذا يقتل إذا قتله، وأن قوله: (ولا ذو عهد في عهده) من باب عطف الخاص على العام، وأنه يقتضي تخصيص العام؛ لأنَّ الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي دون المساوي له، والأعلى وهو الذمي، فلا يبقى أحد يقتل به المعاهد إلَّا الحربي، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه.
واعترض بأن الواو ليست للعطف، بل للاستئناف، وما بعده جملة مستأنفة، وردَّ بأن الأصل في الواو العطف، ودعوى الاستئناف تحتاج إلى دليل ولا دليل، وأن ذو العهد مفرد وقد عطف على الجملة فيأخذ الحكم منها؛ لأنَّ المعطوف الناقص يأخذ الحكم من المعطوف عليه التام، وأنَّ المعنى يأبى ذلك فإنَّ المراد بسوق الكلام الأول نفي القتل قصاصًا لا نفي القتل مطلقًا، فكذا الثاني تحقيقًا للعطف؛ لأنَّه لا يجوز ذلك في المفرد، لا يقال: معناه: لا يقتل مسلم بكافر ولا بذي عهد؛ أي: لا يقتل بكافر حربي ولا بذي عهد؛ لأنَّا نقول: لو أريد ذلك المعنى؛ كان لحنًا، إذ لا يجوز عطف المرفوع على المجرور فلا يجوز نسبة الرسول عليه السلام إليه؛ لأنَّه أفصح العرب، ولا يقال: روي: (ذي عهد)؛ بالجر في بعض طرقه، فيكون معطوفًا على الكافر؛ لأنَّا نقول: إن صح ذلك؛ فهو جر بالمجاورة لا بالعطف، ومثله جائز؛ كقوله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]؛ بالجر للمجاورة، فحملناه عليه توفيقًا بين الروايتين، والله تعالى أعلم، وتمامه في «عمدة القاري».

==================

(1/205)


[حديث: إن الله حبس عن مكة القتل]
112# وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النون (الفضل بن دُكَين)؛ بضم الدال المهملة وفتح الكاف (قال: حدثنا شَيْبان)؛ بفتح المعجمة، وسكون التحتية، بعدها موحدة: ابن عبد الرحمن أبو معاوية النحوي البصري الثقة، المتوفى ببغداد سنة أربع وستين ومئة في خلافة المهدي، (عن يحيى): بن أبي كثير صالح بن المتوكل الطائي مولاهم، المتوفى سنة تسع وعشرين، أو اثنين وثلاثين ومئة، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر، وللمؤلف في (الديات): (حدثنا أبو سلمة قال: حدثنا أبو هريرة): (أنَّ)؛ بفتح الهمزة وتشديد النون (خُزاعة)؛ بضم الخاء المعجمة بعدها زاي: حي من الأزد، منصوب اسم (أنَ)، ممنوع من الصرف؛ للعلمية والتأنيث.
وقوله: (قتلوا رجلًا): جملة من الفعل والفاعل والمفعول، محلها الرفع خبر (أنَّ) (من بني ليث): قبيلة (عامَ)؛ بالنصب على الظرفية (فتح مكة): ممنوعة من الصرف؛ للعلمية والتأنيث (بقتيل): الباء للسببية؛ أي: بسبب قتيل (منهم): من خزاعة (قتلوه)؛ أي: قتل بنو ليث ذلك الخزاعي، وفي «السيرة» لابن إسحاق: أن خراش بن أمية من خزاعة قتل ابن الأقرع الهذلي وهو مشرك بقتيل قتل في الجاهلية يقال له: أحمر، فقال عليه السلام: «يا معشر خزاعة؛ ارفعوا أيديكم عن القتل، فمن قتل بعد مقامي هذا؛ فأهله بخير النظرين»، وذكر الحديث، قال بعضهم: فعلى هذا يكون قوله: (أن خزاعة قتلوا)؛ أي: واحدًا منهم، فأطلق عليه اسم الحي مجازًا؛ فتأمل.
(فأُخبِر)؛ بضم الهمزة وكسر الموحدة على صيغة المجهول (بذلك النبي) الأعظم؛ بالرفع مفعول نائب عن الفاعل (صلى الله عليه وسلم فركب راحلته)؛ أي: الناقة التي تصلح لأن يرحل عليها، والهاء فيه للمبالغة، (فخطب)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، (فقال) في خطبته، والفاء للتفسير: (إنَّ الله) عز وجل، اسم (إن) (حبس)؛ أي: منع (عن مكة القَتلَ)؛ بالقاف المفتوحة والمثناة الفوقية، بالنصب مفعول (حبس) (أو الفِيْل)؛ بالفاء المكسورة وسكون التحتية: الحيوان المشهور الذي ذكره الله تعالى بقوله: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1] السورة، فأرسل الله على أصحابه {طَيْرًاأَبَابِيلَ*تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} [الفيل: 3 - 4] حين وصلوا إلى بطن الوادي بالقرب من مكة، فالمراد من حبس الفيل: أهل الفيل.
وأشار بذلك إلى القصَّة للحبشة في غزوهم مكة ومعهم الفيل فمنعها الله منهم، وسلَّط عليهم الأبابيل مع أنَّ أهل مكة إذ ذاك كانوا كفَّارًا، فحرمة أهلها بعد الإسلام آكد، لكن غزو النبي الأعظم عليه السلام إيَّاها مخصوص به على ظاهر هذا الحديث وغيره، كما في «عمدة القاري».
(شكَّ أبو عبد الله): المؤلف، وفي رواية: هي ساقطة، وفي أخرى: (قال أبو عبد الله: كذا قال أبو نعيم)، وأراد أن الشكَّ فيه من شيخه، (واجعلوا)؛ بصيغة الأمر، وللأصيلي: (واجعلوه)؛ بضمير النصب؛ أي: اجعلوا اللفظ على الشكِّ، (الفيل)؛ بالفاء، أو (القتل)؛ بالقاف، وفي (الديات) عند المؤلف: (الفيل)؛ بالفاء من غير شكٍّ، وقال الكرماني: (الفتك) بدل (القتل) بالفاء المثناة فوق أي سفك الدم على غفلة قال في «عمدة القاري» (ووجهه ظاهر، لكن لا أعلم أنه روي كذلك) اهـ.
(وسُلِّط عليهم)؛ بضم السين على صيغة المجهول (رسول الله): مفعول ناب عن الفاعل (صلى الله عليه وسلم والمؤمنون): رفع بالواو عطف عليه، وفي رواية: (وسَلَّط)؛ بفتح السين بصيغة المعلوم، وفيه ضمير يرجع إلى الله وهو فاعله، و (رسول الله): مفعوله، و (المؤمنين): منصوب بالياء عطف عليه.
(أَلا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام، للتنبيه، فيدل على تحقق ما بعدها أن الله حبس عنها، (وإنَّها): ولأبي ذر: (فإنَّها)؛ بالفاء عطف على مقدر؛ لأنَّ (أَلا) لها صدر الكلام، والمقتضى أن يقال: أَلا إنَّها؛ بدون الواو، كما في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ} [البقرة: 12]؛ والتقدير: أَلا
%ص 69%
إنَّ الله حبس عنها، وإنَّها (لم تَحِل) بفتح أوله وكسر ثانيه (لأحد قبلي، ولا تحلُّ)؛ بضم اللام، وفي رواية: (ولم تحل)، وفي أخرى: (ولن تحل)، وهي أليق بالمستقبل (لأحد بعدي) ومعنى حلال مكة: حلال القتال فيها، ومن القواعد: أَنَّ (لم) تقلب المضارع ماضيًا، ولفظ (بعدي) للاستقبال، فكيف يجتمعان؟
أجاب في «عمدة القاري»: بأن معناه: لم يحكم الله في الماضي بالحل في المستقبل.
(ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام؛ للتنبيه (وإنَّها) عطف على مقدر كما سبق (أحلت لي ساعة) أي: في ساعة (من نهار): من طلوع الشمس إلى العصر، كما مر عند أحمد، (أَلا)؛ بالفتح والتخفيف (وإنَّها)؛ بالعطف على مقدر؛ كالسابقة (ساعتي) أي: في ساعتي (هذه)؛ أي: التي أتكلم فيها بعد الفتح.
قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: الذي أُحلَّ له عليه السلام وخصَّ به دخوله مكة بغير إحرام، ولا يجوز لأحد يدخله بعده عليه السلام بغير إحرام، وهو قول ابن عباس، والقاسم، والحسن البصري، وهو قول الإمام الأعظم، وصاحبيه، ومالك، والشافعي، وقال الطبري: الذي أُحلَّ له عليه السلام قتال أهلها ومحاربتهم، ولا يحلُّ لأحد بعده عليه السلام.
(حرام) مرفوع؛ لأنَّه خبر لقوله: (إنَّها)، لا يقال: إنَّه ليس بمطابق للمبتدأ، والمطابقة شرط؛ لأنَّا نقول: إنه مصدر في الأصل، فيستوي فيه التذكير والتأنيث، والإفراد والجمع، أو هو صفة مشبهة، ولكن وصفيَّته زالت؛ لغلبة الاسمية عليه، فتساوى فيه التذكير والتأنيث، كذا في «عمدة القاري».
(لا يُختلى) بضم أوله بصيغة المجهول؛ أي: لا يُجزُّ ولا يُقطع، وفي رواية: (لا يعضد)، وفي أخرى: (لا يخبط) (شوكها) وفي رواية: (خلاها)، والخلى؛ بالقصر: الرطب من الحشيش، ومعنى الجميع متقارب، وهذا دالٌّ على منع قطع الأشجار بالأولى.
ويستثنى من الشوك المؤذي؛ كالعوسج؛ فلا بأس بقطعه؛ كالحيوان المؤذي، وكذا لا بأس بقطع اليابس؛ كما في الصيد الميت؛ لأنَّه حطب، فيجوز الانتفاع به، وكذا المنكسر؛ لعدم النماء، أو ذهب بحفر كانون، أو ضرب فسطاط؛ لعدم إمكان الاحتراز عنه، وكذا ما لو ذهب بمشيه أو مشي دوابِّه؛ لعدم الاحتراز عنه.
(ولا يُعضَد)؛ بضم أوله وفتح الضاد المعجمة بصيغة المجهول؛ أي: لا يقطع (شجرها) وهو اسم للقائم الذي بحيث ينمو، فإذا جفَّ؛ فهو حطب، وأشار بالقطع إلى أنه ليس في المقلوع ضمان، وإلى أنه يملكه بأداء الضمان كما في حقوق العباد، ويكره الانتفاع به بيعًا وغيره، ولا يكره للمشتري، والمراد بالحشيش والشجر الغيرُ المملوك؛ يعني: النابت بنفسه سواء كان مملوكًا [1] أو لا، حتى قالوا: لو نبت في ملكه أم غيلان فقطعها إنسان؛ فعليه قيمة لمالكها، وأخرى لحق الشرع، وكذا ليس من جنس ما ينبته الناس، فلو كان من جنسه؛ فلا شيء عليه؛ كالمقلوع والورق الذي لم يضر بالشجر، ولهذا حل قطع الشجر المثمر؛ لأنَّ إثماره أقيم مقام الإنبات، وقدمناه وسوف يأتي.
(ولا تُلتقط) بضم أوله مبنيٌّ للمجهول (ساقطتها [2]))؛ أي: ما سقط فيها بغفلة المالك، وأراد بها: اللقطة، وفي رواية: (ولا يحل لقطتها)، والالتقاط: الأخذ من الأرض (إلا لمنشد)؛ أي: لمعرِّف، وفي رواية: (ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها)، وأصل الإنشاد: رفع الصوت، فالمنشد: المعرِّف، وأمَّا الطالب؛ فيقال له: ناشد، فاللقطة: أمانة إن أشهد أنه أخذها؛ ليردها على صاحبها وإن لم يضمن، ويكفي في الإشهاد قوله: [من] سمعتموه ينشد لقطة؛ فدلوه عليَّ، ويعرفها في مكان أخذها، وفي مجامع الناس مدة يغلب على ظنه عدم طلب صاحبها بعدها، وهو الصحيح، وعليه الفتوى.
وقال شمس الأئمة الحلواني: يكتفى عن التعريف بالإشهاد وبعد التعريف يتصدق بها إن شاء، فإن جاء ربها؛ فهو بالخيار إن شاء أجازه وثوابه له، وإن شاء ضمن الملتقط وضمن الفقير، وهذا كله إن كانت هالكة، فلو كانت قائمة؛ أخذها منه، وأيُّهما ضمن؛ لا يرجع على الآخر.
ولقطة الحل والحرم عندنا سواء، فلا فرق بين مكان ومكان، ولقطة ولقطة، وهذا مذهب إمامنا الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والجمهور؛ لإطلاق قوله عليه السلام: «اعرف عفاصها ووكاءها، وعرِّفها سنة»، كما قدمناه في باب (الغضب) في (الموعظة)، وما في الباب لا يعارضه؛ لأنَّ معناه: أنَّه لا يحل إلَّا لمن يعرِّف ولا يحلِّ لنفسه، وتخصيص مكة حينئذ؛ لدفع توهم سقوط التعريف بها بسبب أن الظاهر أن ما وجد بها من لقطة؛ فالظاهر أنه للغرباء، وقد تفرَّقوا، فلا يفيد التعريف فيسقط، وتمامه في «فتح القدير».
وللملتقط أن ينتفع باللقطة بعد التعريف إن كان فقيرًا، وإن كان غنيًّا؛ تصدق بها على فقير، وكذا على أبويه أو ولده أو زوجته لو كانوا [3] فقراء، فإن كانت اللقطة حقيرة؛ كالنوى وقشور الرمان والسنبل بعد الحصاد؛ فينتفع بها بدون تعريف؛ لأنَّ تركها إباحة للآخذ دلالة، وللمالك أخذها، وفي شرح «النقاية» للقهستاني: أنَّه يملكها الآخذ على المختار، فليس للمالك أخذها منه، ولا يجب دفع اللقطة إلى مدِّعيها إلا ببينة، ويحل أن يبين [4] علامتها من غير جبر، كذا في «البحر» و «المنح» و «الدر» وغيرها.
وقال الشافعي: يجب تعريف لقطة الحرم؛ لحديث الباب.
قلنا: هذا لا يفيد؛ لأنَّ معنى قوله: (إلا لمنشد)؛ أي: أنَّه يعرِّفها كما يعرِّفها في سائر البقاع حولًا كاملًا حتى يغلب على ظنه أنه إذا نادى عليها وقت الموسم؛ لا يظهر صاحبها، أو المراد لا تحل ألبتة، فكأنَّه قيل له: إلَّا لمنشد، فقال: إلَّا لمنشد؛ أي: لا يحل له منها إلَّا إنشادها، فيكون ذلك مما اختصت به مكة كما اختصت بأنَّها حرام، وأنه لا ينفر صيدها، وغيرهما، أو معناه المبالغة في التعريف؛ لأنَّ الحاج قد لا يعود إلا بعد أعوام فتدعو الضرورة لإطالة التعريف بخلاف غيرها من البلاد؛ لأنَّ الناس يتناوبون إلى مكة، أو معناه: أنه ليقطع وهم من يظن أنه يستغنى عن التعريف هنا؛ لأنَّ الغالب أن الحجاج إذا تفرقوا مشرقين ومغربين ومدت المطايا أعناقها؛ فيقول القائل: لا حاجة إلى التعريف، فذكر النبيُّ الأعظم عليه السلام أن التعريف فيها ثابت، كغيرها من البلاد، أو معناه: إلا من سمع ناشدًا يقول: من أضل كذا، فيجوز له أن يرفعها إذا رآها؛ ليردها على صاحبها، والله أعلم.
(فمن) موصولة تتضمن معنى الشرط (قُتل)؛ بضم أوله على صيغة المجهول؛ (فهو بخير النظرين)؛ أي: أفضلهما، وفي رواية: (بخير)؛ بالتنوين وإسقاط (النظرين)، وهذا التركيب يحتاج إلى تقدير، فيقدَّر فيه مبتدأ محذوف، وحذفه سائغ شائع، والتقدير: فمن أهله قتل؛ فهو بخير النظرين، فـ (من) مبتدأ، و (أهله قتل): جملة من المبتدأ والخبر صلة الموصول، وقوله: (فهو) مبتدأ، وقوله: (بخير النظرين): خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول والضمير في (قتل) يرجع إلى الأهل المقدر، وقوله: (هو) يرجع إلى (من)، و (الباء) في قوله: (بخير النظرين) يتعلق بمحذوف تقديره: فهو مرضي بخير النظرين، أو عامل أو مأمور ونحوه، هذا هو التحقيق في هذا المقام، وما قاله ابن [حجر] كالخطابي، والبرماوي كالدماميني، فقد رده في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(إما) بكسر الهمزة؛ للتفصيل (أن) بفتح الهمزة مصدرية (يُعقل)؛ بضم أوله مبني للمفعول: من العقل وهو الدية؛ أي: يأخذونها [5] من القاتل، (وإما) بالكسر (أن)؛ بالفتح (يقاد): مبني للمفعول؛ أي: يقتصُّ (أهل القتيل) من القاتل، وفي رواية: (إما أن يقتل وإما أن يفاد)؛ بالفاء: من المفاداة، وفي أخرى: إما أن يأخذوا العقل أو يقتلوا، ومذهب الإمام الأعظم وصاحبيه، والنخعي، والثوري، وابن ذكوان، وابن شبرمة، والحسن ابن حي: أن لوليِّ المقتول القتل أو العفو، وليس له الدية إلَّا برضا الجاني، وبه قال مالك، فقوله: (بخير النظرين) للقاتل إشارة إلى أن الرفق بالقاتل [6] مطلوب، حتى كان العفو مندوبًا إليه، ويجوز أن يكون المعنى: فهو بخير النظرين من رضا القاتل ورضا نفسه، فإن [كان] رضا القاتل خيرًا له وقد اختار الفداء؛ فله ذلك، وإن [كان] رضانفسه [7] بالاقتصاص خيرًا له؛ فله ذلك، وينبغي ألَّا يقف عند رضا نفسه ألبتة؛ لأنَّ القاتل باختيار الدية قد يكون خيرًا له، فيؤول وجوب الدية إلى رضا القاتل.
وقال الشافعي وأحمد: ولي القتيل بالخيار بين أخذ الدية وبين القتل، وليس له إجبار الجاني على أحدهما.
(فجاء رجل من أهل اليمن): هو أبو شاه؛ بشين معجمة وهاء بعد الألف، في الوقف والدرج، ولا يعرف اسمه، وإنما يعرف بكنيته، وهو كلبي يمني، كما في «عمدة القاري»، (فقال: اكتب لي) أي: الخطبة التي سمعتها منك (يا رسول الله، فقال) عليه السلام: (اكتبوا لأبي
%ص 70%
فلان) أي: لأبي شاه، وفيه دليل على أنَّه عليه السلام لم يكتب بيده الشريفة، وهو قول الجمهور؛ لأنَّه أبلغ في المعجزة على الكفار، وفيه: دليل على جواز تسمية فلان لمن كان اسمه غيره وندائه وخطابه به، فيقال لمن اسمه حسن مثلًا: ياشيخ فلان أو يا أبا [8] فلان وغيرذلك؛ فليحفظ.
(فقال رجل من قُريش)؛ بضم القاف مشتق من القرش؛ دابة في البحر، وهو العباس بن عبد المطلب عمُّ النبيِّ الأعظم عليه السلام: قل يا رسول الله: لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها (إلا الإذْخِر)؛ بكسر الهمزة، وإسكان الذال، وكسر الخاء المعجمتين: نبت معروف طيب الرائحة (يا رسول الله) فهو استثناء منصوب على الاستثناء، ويجوز فيه البدل مما قبله؛ لكونه واقعًا بعد النفي، كما في «عمدة القاري»؛ (فإنا نجعله في بيوتنا) للسقف فوق الخشب، أو يخلط بالطين؛ لئلَّا ينشق إذا بني به (وقبورنا) نسدُّ به فرج اللَّحد المتخللة بين اللبنات، (فقال النبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) بوحي أوحي إليه في الحال أو قبل ذلك أو أنه إن طلب منه أحد استثناء شيء منه؛ فاستثنى: (إلا الإذخر) وللأصيلي: (إلا الإذخر) مرتين، فتكون الثانية تأكيدًا للأولى، وزاد في رواية هنا وهي: (قال أبو عبد الله) أي: المؤلف (يقال: يقاد؛ بالقاف، فقيل لأبي عبد الله: أي شيء كتب له؟ فقال: كتب له هذه الخطبة) وهي ثابتة في «مسلم»، قال الوليد_يعني: ابن مسلم راوي الحديث_: قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من النبيِّ عليه السلام.
وفي الحديث: دليل على استحباب قيام الخطيب على موضع عال حال الخطبة.
وفيه: دلالة أيضًا واضحة على أن مكة فتحت عنوة وأن التسليط الذي وقع للنبيِّ الأعظم عليه السلام مقابل بالحبس الذي وقع لأصحاب الفيل، وهو الحبس على القتال، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، خلافًا للشافعي، واستدل الأصوليُّون بالحديث على أن النبيَّ الأعظم عليه السلام كان متعبدًا باجتهاده فيما لا نصَّ فيه، قالوا: وهو الأصح، وبه قال الإمام أبو يوسف قاضي القضاة، والشافعي، وأحمد، ومنعه بعضهم وقالوا: إنه بالوحي.
==========
[1] في الأصل: (مملولًا)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (ساقطها)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (كان)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (بين)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (يأخذوها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (للقاتل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (بنفسه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (أبو)، وليس بصحيح.

==================
[1] في الأصل: (مملولًا)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (ساقطها)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (كان)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (بين)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (يأخذوها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (للقاتل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (بنفسه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (مملولًا)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (ساقطها)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (كان)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (بين)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (يأخذوها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (للقاتل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (بنفسه)، ولعل المثبت هو الصواب.

(1/206)


[حديث: ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثًا عنه مني]
113# وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله): ابن المديني (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عيينة (قال: حدثنا عمرو): ابن دينار أبو محمد، المكي الجمحي أحد الأئمة المجتهدين، المتوفى سنة ست وعشرين ومئة (قال: أخبرني) بالإفراد (وهب بن مُنَبِّه)؛ بضم الميم، وفتح النون، وكسر الموحدة المشددة، ابن كامل الصنعاني الأبناوي الذماري، المتوفى سنة أربع عشرة ومئة، (عن أخيه): همام بن منبه أبو عقبة، وكان أكبر من وهب المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومئة (قال سمعت أبا هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه؛ أي: كلامه حال كونه (يقول ما) للنفي؛ (من): ابتدائية (أصحاب النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أحدٌ)؛ بالرفع اسم (ما) النافية (أكثرَ)؛ بالنصب خبرها، وروي بالرفع صفة لـ (أحد)، والأوجه: الأول، قاله في «عمدة القاري» (حديثًا)؛ بالنصب على التمييز، (عنه) عليه السلام (مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو)؛ أي: ابن العاصي رضي الله عنهما، (فإنه كان يكتب و) أنا (لا أكتب)؛ أي: لكن الذي كان من عبد الله بن عمرو وهو الكتابة لم يكن مني، والخبر محذوف بقرينة باقي الكلام سواء لزم منه كونه أكثر حديثًا لما تقتضيه العادة من أن الشخصين إذا لازما شيخًا مثلًا وسمعا منه الأحاديث؛ يكون الكاتب أكثر حديثًا من غيره، فالاستثناء منقطع، ويجوز أن يكون متصلًا نظرًا إلى المعنى؛ لأنَّ (حديثًا) وقع تمييزًا، والتمييز كالمحكوم عليه، فكأنه قال: ما أحد حديثه أكثر من حديثي إلا أحاديث حصلت من عبد الله بن عمرو، وإنما قلَّت الرواية عنه مع كثرة ما حمل عن النبيِّ الأعظم عليه السلام؛ لأنَّه سكن مصر وكان الواردون إليها قليلًا بخلاف أبي هريرة؛ فإنَّه سكن المدينة وهي مقصد المسلمين من كل جهة.
وقيل: كان السبب في كثرة حديث أبي هريرة دعاء النبيِّ الأعظم عليه السلام له بعدم النسيان، والسبب في قلة حديث عبد الله بن عمرو أنه كان قد ظفر بحمل جمل من كتب أهل الكتاب، وكان ينظر فيها ويحدِّث منها؛ فتَجنَّب الأخذ عنه كثير من التابعين.
قال المؤلف: روى عن أبي هريرة نحو من ثمان مئة رجل، وروى عن رسول الله عليه السلام خمسة آلاف وثلاثمئة حديث، ووجد لعبد الله بن عمرو سبع مئة حديث اتفقا على سبعة عشر، وانفرد المؤلف بمئة، ومسلم بعشرين.
(تابعه) أي: تابع وهب بن منبه في روايته لهذا الحديث عن همام (مَعمَر)؛ بفتح الميمين، ابن راشد، (عن همام): ابن منبه، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه، وأخرج هذه المتابعة عبد الرزاق عن معمر، وأخرجها أبو بكر المروزي، وما قاله الكرماني ردَّه في «عمدة القاري».
==========
%ص 71%

==================

(1/207)


[حديث: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده]
114# وبه قال: (حدثنا يحيى بن سليمان): ابن يحيى بن سعيد الجعفي الكوفي، أبو سعيد، سكن مصر ومات بها سنة سبع أو ثمان وثلاثين ومئتين (قال حدثني) بالإفراد، (ابن وهب): عبد الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي، (عن أبي شهاب): محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله)؛ بالتكبير، ابن عُتبة_بضم العين_ابن مسعود، أبو عبد الله أحد الفقهاء السبعة.
(عن ابن عباس): عبد الله رضي الله عنهما (قال: لما): ظرف بمعنى: حين (اشتد) أي: قوي (بالنبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم وجعه)؛ بالرفع فاعل (اشتد)؛ أي: في مرض موته، وللمؤلف أن ذلك كان يوم الخميس وهو قبل وفاته بأربعة أيام، (قال): جواب (لما): (ائتوني): مقول القول (بكتاب) فيه حذف؛ لأنَّ الظاهر: أن يقال: ائتوني بما يكتب به الشيء؛ كالدواة والقلم، والكتاب بمعنى: الكتابة، والتقدير: ائتوني بأدوات الكتابة، أو يكون أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه نحو: الكاغد والكتف، وقد صرَّح مسلم بالتقدير المذكور والمراد بالكتف: عظمه؛ لأنَّهم كانوا يكتبون فيه؛ (أكتبْ لكم): مجزوم؛ لأنَّه جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستئناف (كتابًا) بالنصب على المفعولية؛ أي: أمرنا بالكتابة، نحو: كسا الخليفة الكعبة؛ أي: أمر بالكسوة، ويحتمل أن يكون على حقيقته، وقد ثبت أنه عليه السلام كتب بيده، ولكن في «مسند أحمد» من حديث على أنه المأمور بذلك، ولفظه: أمرني النبيُّ الأعظم عليه السلام أن آتيه بطبق؛ أي: كتف يكتب ما لا تضل أمته بعده.
قلت: وفيه إشارة للرد على الروافض والشيعة؛ حيث كان المأمور عليًّا بالكتابة.
(لا تضلوا) وفي رواية: (لن تَضِلوا)؛ بفتح أوله وكسر الضاد المعجمة، من الضلالة ضد: الرشاد، وعلى الرواية الأولى: نفي وليس بنهي، وحذفت منه النون؛ لأنَّه بدل من جواب الأمر (بعده)؛ بالنصب على الظرفية، يحتمل أنه أراد أن ينص على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن؛ كحرب الجمل وصفين، أو أراد أن يبيِّن كتابًا فيه مهمات الأحكام؛ ليحصل الاتفاق على المنصوص عليه، ثم ظهر له عليه السلام أن المصلحة تركه أو أوحيإليه به، ويدل للأول: أنه عليه السلام قال في أوائل مرضه عند عائشة: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»، أخرجه مسلم، وللمؤلف معناه، ومع ذلك فلم يكتب.
(قال عمر): ابن الخطاب لمن كان حاضرًا من الصحابة: (إنَّ النبيَّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع): مقول قول عمر، جملة من الفعل، والمفعول والفاعل محلها رفع خبر (إن)، (و) الحال (عندنا) خبر مقدم (كتاب الله): مبتدأ مؤخر مضاف للجلالة؛ أي: القرآن (حسبنا) خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو حسبنا؛ أي: كافينا؛ فهو تبيان لكل شيء، فقصد عمر رضي الله عنه التخفيف على النبيِّ الأعظم عليه السلام حين غلبه الوجع، ولو كان مراده عليه السلام أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركهم لاختلافهم، أو خشي أن يكتب أمورًا يعجزونعنها؛ فيستحقون [1] العقوبة عليها؛ لأنَّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، أو خشي أن يكتب مما لا عزيمة له فيه؛ فيجد المنافقون بذلك سبيلًا إلى الكلام في الدين، وقد كانت الصحابة تراجعه في بعض الأمور؛ كما في يوم الحديبية والصلح بينه وبين قريش، فإذا أمر بالشيء أمر عزيمة؛ فلا يراجعه أحد.
وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه فيه الوحي، وأجمعوا
%ص 71%
على أنه لا يقر عليه، ومعلوم أنه عليه السلام درجته فوق الخلق؛ فلم ينزه عن العوارض البشرية فقد سها في الصلاة؛ فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه؛ فيتوقف في هذه الحالة حتى يتبين حقيقته؛ فلهذا توقف عمر في ذلك وتركه عليه السلام ولم ينكر عليه، وهو دليل على استصوابه، فالأمر في (ائتوني) وإن كان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر مع طائفة أنه ليس للوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الصلح، فكرهوا أن يكلِّفوه من ذلك ما يشقُّ عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، ولهذا قال عمر: (حسبنا كتاب الله).
(فاختلفوا)؛ أي: الصحابة في ذلك وظهر لطائفة أخرى أن الأولى: أن يكتب لما فيه من امتثال أمره وما يتضمَّنه من زيادة الإيضاح، (وكثُر)؛ بضم المثلثة، (اللَّغط)؛ بتحريك اللام والغين المعجمة، الصوت والجلبة، فاختلفوا والحال أنهم قد كثر لغطهم بسبب ذلك فلما رأى عليه السلام ذلك؛ (قال)، وفي رواية: (فقال)؛ بفاء العطف، وفي أخرى: (وقال)؛ بواوه: (قوموا عني)؛ أي: قوموا متبعدين عن جهتي، (ولا ينبغي) لا يطلب، (عندي التنازعُ)؛ بالرفع فاعل (ينبغي)؛ أي: الاختلاف والتجادل، وهو دليل على أن أمره الأول كان على الاختيار وأن ما اختاره عمر صوابًا، ولهذا عاش عليه السلام بعد ذلك أيامًا، ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبًا؛ لم يتركه؛ لاختلافهم؛ لأنَّه لم يترك التكليف؛ لمخالفة من خالف؛ فليحفظ.
(فخرج ابن عباس يقول) ظاهره: أن ابن عباس كان معهم، وأنه في تلك الحالة خرج قائلًا هذه المقالة، وليس كذلك؛ بل قول ابن عباس إنَّما كان تقوله عندما تحدث بهذا الحديث لما عند المؤلف في (الاعتصام)، قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول وكذا لأحمد ولأبي نعيم، قال عبيد الله: فسمعت ابن عباس يقول، ووجه رواية حديث الباب أن ابن عباس لما حدث عبيد الله بهذا الحديث؛ خرج من المكان الذي كان فيه وهو يقول، وإنما تعين حمله على غير ظاهره؛ لأنَّ عبيد الله تابعي من الطبقة الثانية لم يدرك القصة في وقتها؛ لأنَّه ولد بعد النبي الأعظم عليه السلام بمدة طويلة ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى.
(إن الرَّزِيَّئة)؛ بفتح الراء، وكسر الزاي، بعدها تحتية ثم همزة، وقد تسهل الهمزة وتشديد الياء التحتية ومعناها: المصيبة، (كل الرزيئة)؛ بالنصب على النيابة عن المصدر، ومثل هذا يعد من المفاعيل المطلقة أو على التأكيد.
(ما): موصولة؛ بمعنى: الذي، (حالُ): صلتها محله الرفع خبر (إن) حجز؛ أي: صار حاجزًا، (بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه)؛ فكان ابن عباس من الطائفة التي ظهر لها أن يكتب؛ لما فيه من الامتثال وزيادة الإيضاح.
وفيه: دليل على أن عمر أفقه من ابن عباس؛ حيث اكتفى بالقرآن.
وفيه: دليل على إباحة الاجتهاد؛ لأنَّه وكَّلهم إلى أنفسهم.
وفيه: بطلان ما زعمه الشيعة من وصاية النبي الأعظم عليه السلام بالإمامة؛ لأنَّه لو كان عند علي عهد من النبي عليه السلام؛ لأحال عليها.
وفيه: دلالة على أن للإمام أن يوصي عند موته بما يراه نظرًا للأمة وكذا غيره.
وفيه: دلالة على جواز كتابة الحديث، ويعارضه ما في مسلم مرفوعًا: «لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن».
وأجيب: بأن النهي خاص بوقت نزول القرآن؛ خشية التِبَاسهِ بغيره والإذن في غير ذلك، أو الإذن ناسخ؛ للنهي عند الأمن من الالتباس، أو النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتاب دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك.
وكره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبُّوا أن يؤخذ عنهم حفظًا كما أخذوا حفظًا، لكن لما قصرت الهمم وخشي الضياع؛ دونوه، وأول من دوَّن الحديث: ابن شهاب الزهري على رأس المئة بأمر عمر بن عبد العزيز، وأوَّل من دوَّن الفقه ورتبه: إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، ولما رآه مالك؛ شرع في «الموطأ» ودوَّنه ورتَّبه، وتبعه بعد ذلك المحدثون والفقهاء وغيرهم، ففضله عامٌّ على الجميع، وإنما يعرف الفضل من الناس ذووه، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة مسكنه ومأواه.
==========
[1] في الأصل: (يعجزوا عنها فيستحقوا)، وليس بصحيح.

==================

(1/208)


(40) [باب العلم والعظة بالليل]
هذا (باب) تعليم (العلم والعِظة)؛ بكسر العين؛ أي: الوعظ، وفي بعض النسخ: (واليقظة) وهو أنسب للترجمة كما قاله في «عمدة القاري»، (بالليل)؛ ليدل على الاجتهاد وشدة التحصيل.
==========
%ص 72%

==================

(1/209)


[حديث: سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن]
115# وبه قال: (حدثنا صدقة): ابن الفضل المروزي، أبو الفضل المنفرد بالإخراج عنه المؤلف عن الستة، المتوفى سنة ثلاث أو ست وعشرين ومئتين، (قال: أخبرنا ابن عُيينة)؛ بضم العين: سفيان، (عن مَعْمَر)؛ بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة، ابن راشد، (عن الزهري): محمد بن مسلم، (عن هند) بنت الحارث الفِرَاسية؛ بكسر الفاء وبالسين المهملة، ويقال: (القُرشِية)؛ بضم القاف وكسر الشين المعجمة، زوجة معبد بن المقداد، وفي رواية: (عن امرأة)، فالزهري تارة سمَّاها باسمها، وتارة أبهمها.
(عن أم سَلَمَة)؛ بفتح اللام والسين المهملة، هند أو رملة زوج النبي الأعظم عليه السلام، بنت أبي أمية حذيفة، أو ابنة سهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، كانت عند أبي سلمة فتوفى عنها، فتزوجها النبي الأعظم عليه السلام في شوال سنة أربع، وتوفيت سنة تسع وخمسين في خلافة يزيد بن معاوية، وولايته كانت في رجب سنة ستين، وتوفي سنة أربع وستين في ربيع، وكان لها حين توفيت أربع وثمانون سنة، وصلى عليها أبو هريرة في الأصحِّ، ودفنت بالبقيع اتفاقًا.
(وعمروٍ): هو ابن دينار؛ بالجر عطفًا على معمر، يعني ابن عيينة، يروي عن معمر بن راشد وعن عمرو بن دينار، (و) عن (يحيى بن سعيد) الأنصاري، ومن زعم أنه يحيى بن سعيد القطان؛ فقد أخطأ؛ لأنَّه لم يسمع من الزهري ولا لقيه، فهؤلاء الثلاثة يروون (عن) ابن شهاب (الزهري)، ويجوز في (عمرو) الرفع؛ كما في رواية على أن يكون استئنافًا، وعادة ابن عيينة يحدث بحذف صيغة الأداة، و (يحيى) يجوز فيه الجر والرفع عطفًا على (عمرو).
(عن هند)، وفي رواية: (عن امرأة)؛ كما مر، (عن أم سلمة) رضي الله عنها أنها (قالت: استيقظ)؛ بمعنى: تيقظ، فالسين ليست للطلب هنا، ومعناه: انتبه من النوم، (النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم ذات ليلة)؛ أي: في ليلة، ولفظة (ذات) مقحمة للتأكيد، قال الفاضل جار الله الزمخشري: هو من إضافة المسمى إلى اسمه، وكان عليه السلام في بيت أم سلمة؛ لأنَّها كانت ليلتها، وتمام تحقيقه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فقال): عطف على (استيقظ)، (سبحان الله): مقول القول، و (سبحان) علم للتسبيح، وانتصابه على المصدرية، والتسبيح لغة: التنزيه؛ أي: أنزِّه الله تنزيهًا عما لا يليق به، واستعماله هنا للتعجب؛ لأنَّ العرب قد تستعمله في مقام التعجب.
(ماذا) فيه أوجه؛ لأنَّه إما أن تكون (ما) استفهامًا و (ذا) إشارة نحو: ماذا الوقوف.
أو تكون (ما) استفهامًا و (ذا) موصولة؛ بمعنى: الذي.
أو تكون (ماذا) بتمامها استفهامًا.
أو تكون (ما) نكرة موصوفة؛ بمعنى: شيء.
أو تكون (ما) زائدة و (ذا) للإشارة.
أو تكون (ما) استفهامًا و (ذا) زائدة، كما أوضحه في «عمدة القاري».
(أُنزل)؛ بضم الهمزة على صيغة المجهول، وفي رواية: (أنزل الله)، (الليلةَ)؛ بالنصب على الظرفية للإنزال، والإنزال لغة: الإيواء، كما يقال: أنزل الجيش بالبلد، أو تحريك الشيء من علو إلى سفل، والمعنيان لا يتحقَّقان في أنزل الله؛ فهو مستعمل في معنى مجازي؛ بمعنى: أعلم الله الملائكة بالأمر المقدر، وكذا المعنى في أنزل الله القرآن، فمن قال: إن القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فإنزاله: أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى، ويثبتها في اللوح المحفوظ، ومن قال: إن القرآن هو الألفاظ؛ فإنزاله مجرَّد إثباته في اللوح المحفوظ؛ لأنَّ الإنزال إنَّما يكون بعد الوجود، والمراد بإنزال الكتب السماوية: أن يتلقاها الملك من الله تلقيًا روحانيًا، أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها على الأنبياء عليه السلام، وكان عليه السلام أوحي إليه في يومه ذاك بما سيقع بعده.
(من الفتن) فعبَّر عنه بالإنزال، (وماذا) فيه الأوجه المارة، (فُتح من الخزائن)؛ بضم الفاء، عبَّر عن العذاب بـ (الفتن)؛ لأنَّها أسبابه، وعن الرحمة بـ (الخزائن)؛ لقوله تعالى: {خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [ص: 9]، يعني: أن النبي الأعظم عليه السلام رأى في تلك الليلة المنام،
%ص 72%
وفيه: أنه سيقع بعده فتن وأنه يفتح لأمته الخزائن، وعرف عند الاستيقاظ حقيقته إما بالتعبير أو بالوحي إليه في اليقظة قبل النوم أو بعده، وقد وقع الفتن كما هو مشهور وفتحت الخزائن؛ حيث سلطت الصحابة على فارس والروم وغيرهما، وهذا من المعجزات؛ حيث أخبر بأمر قبل وقوعه؛ فوقع مثل ما أخبر عليه السلام.
(أيقِظوا)؛ بفتح الهمزة أمر من الإيقاظ؛ بكسرها؛ أي: نبهوا، (صواحبَ)؛ بالنصب على المفعولية، وأراد بها زوجاته عليه السلام، وفي رواية: (صواحبات) جمع: صاحبة، (الحُجَر)؛ بضم الحاء المهملة وفتح الجيم، جمع: حجرة، وأراد بها منازل زوجاته، وإنما خصَّهن بالإيقاظ؛ لأنَّهنَّ الحاضرات حينئذٍ، أخبرت بذلك أم سلمة، فإن تلك الليلة كانت ليلتها؛ كما مر، وما زعمه الكرماني رده في «عمدة القاري».
(فرُبَّ) أصلها للتقليل، وقد تستعمل للتكثير كما هنا، وترد للتكثير كثيرًا وللتقليل قليلًا، وفيها لغات قدمناها، وفعلها التي تتعلق به ينبغي أن يكون ماضيًا ويحذف غالبًا، (كاسية) على وزن (فاعلة)، من كسا، ولكنه؛ بمعنى: مكسوة (في الدنيا) أثوابًا رقيقة لا تمنع من إدراك البشرة أو النفيسة، (عاريَة)؛ بتخفيف الياء؛ أي: معاقبة (في الآخرة) بفضيحة التعري، أو عارية من الحسنات في الآخرة، فندبهنَّ على الصدقة وحضَّهنَّ على ترك الإسراف في الدنيا بأن يأخذن منها أقل الكفاية ويتصدقن بما سوى ذلك، وهذه البلوى عامة في الأزمان قديمًا وحديثًا.
وقال الطيبي: هذا كالبيان لموجب استيقاظ الأرواح؛ أي: لا ينبغي لهنَّ أن يتغافلن ويعتمدن على كونهنَّ أهالي رسول الله عليه السلام، ألَا رب كاسية حلة الزوجية المشرفة بها وهي عارية عنها في الآخرة لا تنفعها؛ إذ لم تضمها مع العمل، قال تعالى: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون: 101]، كذا في «عمدة القاري».
وهو دليل واضح على بطلان قول من قال في زماننا ضمن رسالته التي ألَّفها: (إن ذنوب أهل بيت النبوة صوري لا معنوي، وإن ذنوبه مغفورة لهم بلا توبة، وليسوا داخلين تحت المشيئة)؛ فقد ضل وأضل وابتدع وأبدع، وما استند فيه فهو حجة عليه، وسيأتي الكلام عليه في محله.
قال في «عمدة القاري»: وأكثر الروايات بجر (عارية) على النعت وهو الأحسن عند سيبويه؛ لأنَّ (رب) عنده حرف جر يلزم صدر الكلام، ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ والجملة في موضع النعت؛ أي: هي عارية والفعل الذي يتعلق (رب) به محذوف، واختار الكسائي أن يكون (رب) اسمًا [1] مبتدأ والمرفوع خبرها، وفعلها الذي تتعلق به محذوف غالبًا كما سبق، والتقدير: رب كاسية عارية عرفتها.
وفي الحديث: أن للرجل أن يوقظ أهله بالليل للصلاة والذكر، ولا سيما عند آية تحدث أو رؤيا مخوفة، وجواز قول: (سبحان الله)؛ تعجبًا، واستحباب ذكر بعد الاستيقاظ ليلًا ونهارًا، لكن في الليل أبلغ يدل له قوله عليه السلام: «من تعارى من الليل فقال: لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله، وصلى؛ قبلت صلاته»، وسيأتي تمامه إن شاء ربي.
اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وأولادًا كثيرة، وجاهًا عريضًا، ودخول الجنة، وتمام هذا الشرح بجاه نبيك محمد، ويحيى، وجميع الأنبياء، وأصحابهم، والأولياء وأحزابهم صلى الله تعالى عليهم وسلم.
==========
[1] في الأصل: (أسماء).

==================

(1/210)


(41) [باب السَّمَر بالعلم]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين مقطوعًا على الإضافة، (السَّمَر)؛ بفتح السين المهملة والميم: المسامرة وهي الحديث في الليل، فـ (السمر): مبتدأ، وقوله: (في العلم): في محل الصفة، والخبر محذوف؛ تقديره: هذا باب فيه السمر في العلم، وفي رواية: بإضافة الباب إلى السمر؛ أي: هذا باب في بيان السمر بالعلم، وقد كان التحدث بعد العشاء منهيًّا عنه، والمذكور في الباب هو (السمر في العلم)، ونبَّه المؤلف على أن السمر المنهي عنه إنما: هو فيما لا خير فيه كما في زماننا؛ لاشتماله على الغيبة التي صارت فاكهة المجالس وغيرها من المنهيات كسماع الآلات واللعب بالمقامرة، وأما السمر بالخير؛ فليس بمنهي عنه؛ بل هو مرغوب فيه؛ فافهم.
==========
%ص 73%

==================

(1/211)


[حديث: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها]
116# وبه قال: (حدثنا سعيد بن عُفَير)؛ بضم العين المهملة وفتح الفاء، (قال: حدثني)؛ بالإفراد، وفي رواية: بالجمع، (الليث): هو ابن سعد، (قال: حدثني)؛ بالإفراد، (عبد الرحمن بن خالد)، زاد في رواية: (ابن مسافر)؛ أي: أبو خالد الفهمي مولى الليث بن سعد أمير مصر لهشام بن عبد الملك، كانت ولايته على مصر سنة ثمان عشرة ومئة، وشهد جده فتح بيت المقدس مع عمر بن الخطاب المتوفى سنة سبع وعشرين ومئة، وجده مسافر قد دفن في ديارنا الشريفة الشامية في قهوة الجنينة الكبرى عند جامع يلبغا، والجاري على لسان الأعوام ابن مسافر، ولعلَّه خالد أو عبد الرحمن المذكور فنسب لجده؛ لشهرته به، والظاهر: الأول فيحرر.
(عن ابن شهاب): محمد بن مسلم الزهري، (عن سالم)؛ أي: ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، (وأبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة)؛ بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة، واسمه عبد الله بن حذيفة أو عدي بن كعب ابن حذيفة القرشي العدوي، (أن عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما.
(قال: صلى بنا النبي) الأعظم، وفي رواية: (لنا رسول الله)؛ باللام بدل الموحدة يعني: صلى إمامًا لنا، وإلا؛ فالصلاة لله لا لهم، (صلى الله عليه وسلم العِشاء)؛ بكسر العين المهملة وبالمد؛ أي: صلاة العشاء التي وقتها بعد غروب الشفق، وبفتح العين والمد: الطعام.
(في آخر حياته)، وفي رواية جابر: (إن ذلك كان قبل موته عليه السلام بشهر)، (فلما سلم) من الصلاة، (قام) جواب لما، (فقال: أرَأيتكم)؛ بهمزة الاستفهام وفتح الراء؛ أي: أخبروني، فهو من إطلاق السبب على المسبب؛ لأنَّ مشاهدة هذه الأشياء طريق إلى الإخبار عنها، والهمزة فيه مقررة؛ أي: قد رأيتم ذلك فأخبروني، وما زعمه ابن حجر ردَّه في «عمدة القاري» بما يطول.
(ليلتكم)؛ أي: شأن ليلتكم أو خبر (ليلتكم)، (هذه) هل تدرون ما يحدث بعدها من الأمور العجيبة، وتاء (أرأيتكم): فاعل، والكاف: حرف خطاب لا محل لها من الإعراب، و (ليلتَكم)؛ بالنصب مفعول ثان لـ (أخبروني)، والاستفهام ليس بحقيقي؛ فلا يحتاج إلى جواب، خلافًا لمن زعمه، و (أرأيتُكم) لا تستعمل إلَّا في الاستخبار عن الأمر العجيب؛ بفتح التاء للمذكر، والمؤنث، والمفرد، والجمع، فإن أردت معنى الرؤية؛ أنثت وجمعت، والفرق بين الخطاب واسم الخطاب الثاني يدلُّ على عين ومعنى الخطاب وصرفه لا يدل إلا على الخطاب كالتنوين وياء النسبة، وتوضيحه في «عمدة القاري».
(فإن رأس)، وللأصيلي: (فإن على رأس)، (مئة سنة منهما)؛ أي: من تلك الليلة، (لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد) ممن ترونه أو تعرفونه عند مجيئه، أو المراد بالأرض: البلدة التي هو فيها، قال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً} [النساء: 97] يريد المدينة المنورة، وقوله: (ممن هو على ظهر الأرض) احتراز عن الملائكة، والمراد أن كل من كان تلك الليلة على الأرض لا يعيش بعدها أكثر من مئة سنة سواء قلَّ عمره قبل ذلك أم لا، وليس فيه نفي عيش أحد بعد تلك الليلة فوق مئة، فوعظهم عليه السلام بقصر أعمارهم، وأعلمهم أن أعمارهم ليست كأعمار من تقدم من الأمم؛ ليجتهدوا في العبادة.
واستدل [1] به المؤلف وغيره على موت الخضر والجمهور على خلافه، ومن قال به؛ أجاب عن الحديث بأنه من ساكني البحر فلا يدخل في الحديث، ومن قال: إن معنى الحديث لا يبقى ممن ترونه وتعرفونه؛ فالحديث عام أريد به الخصوص، ولا يرد عيسى عليه السلام وإبليس لعنه الله؛ لأنَّ المراد ممن على ظهر الأرض أمة محمد النبي الأعظم عليه السلام، وكل من على ظهرها من المسلمين والكفار أمته؛ أمَّا الأول: فإنَّهم أمة إجابة، وأما الثاني؛ فإنَّهم أمة دعوة، وعيسى والخضر ليسا داخلين في الأمة، وأما الشيطان فإنه ليس من بني آدم، كذا قرره الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وأجاب القسطلاني: بأن المراد أرضه التي نشأ بها ومنها بعث كجزيرة العرب المشتملة على الحجاز، وتهامة، ونجد، فليست (أل) للاستغراق، فالخضر في غير هذه الأرض المعهودة فلا يدخل تحت الحديث.
قلت: وهو مأخوذ من كلام الكرماني وأجاب عن عيسى: بأنه في السماء، وعن إبليس بأنه في الهواء أو النار وهو تعسُّفٌ، والتحقيق ما ذكره في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
واستدل من الحديث: جواز السمر في الليل ويعارضه ما عند المؤلف عن أبي برزة: (أن رسول الله عليه السلام كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها)؛ فهذا يدل على المنع مطلقًا فالحديث المتقدم
%ص 73%
يدل على الجواز فيخص العموم فيما عدا العلم والخبر وما عداهما؛ فذهب الأكثر إلى كراهته منهم أبو هريرة وابن عباس، وكتب عمر رضي الله عنه: أن لا ينام قبل أن يصليها فمن نام؛ فلا نامت عينه، وهو قول أئمتنا الأعلام، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، ومالك، والشافعي، ورخص طائفة فيه روي ذلك عن علي: أنه كان ربما غفي قبل العشاء.
وكان ابن عمر ينام ويوكِّل من يوقظه، وعن عروة وابن سيرين: أنهما كانا ينامان نومة قبل العشاء، واحتجَّ لهم بأن الكراهة لمن خشي تفويتها وتفويت الجماعة فيها.
==========
[1] في الأصل: (وستدل).

==================

(1/212)


[حديث: بِتُّ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث]
117# وبه قال: (حدثنا آدم): هو ابن أبي إياس، (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج، (قال: حدثنا الحَكَم)؛ بالحاء المهملة والكاف المفتوحتين، ابن عُتَيْبَة؛ بضم العين المهملة، وفتح الفوقية، وسكون التحتية، بعدها موحدة مفتوحة، تصغير عتبة ابن النهاس الكندي الفقيه الكوفي، المتوفى سنة أربع عشرة أو خمس عشر ومئة.
(قال: سمعت سعيد بن جُبير)؛ بضم الجيم، (عن ابن عباس) رضي الله عنهماأنه (قال: بِتُّ)؛ بكسر الموحدة وتشديد المثناة، من البيتوتة، أصله: من بَيَتت [1]؛ بفتح الموحدة والتحتية، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار: باتت؛ فالتقى ساكنان فحذفت الألف فصار: بتت، فأدغمت التاء في التاء، ثم أبدلت كسرة من فتحة الموحدة؛ لتدل على الموحدة المحذوفة فصار: (بت) على وزن (فلت)، والجملة من الفعل والفاعل وقعت مقول القول.
(في بيت خالتي ميمونة) عطف بيان، (بنتِ الحارثِ)؛ بالجر، صفة لميمونة الممنوعة من الصرف؛ للعلمية والتأنيث، (زوجِ النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ بالجرِّ صفة بعد صفة أم المؤمنين الهلالية تزوجها عليه السلام سنة ست أو سبع من الهجرة، وتوفيت سنة إحدى وخمسين أو ست وستين بسرف، وصلى عليها ابن عباس، وهي آخر أزواجه؛ لأنَّه لم يتزوج بعدها، وهي أخت لُبَابة؛ بضم اللام، وتخفيف الموحدة، وبعد الألف موحدة أخرى، بنت الحارث زوجة العباس وأم أولاده، وهي أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكان عليه السلام يزورها وهي لبابة الكبرى وأختها لبابة الصغرى أم خالد بن الوليد رضي الله عنه.
(وكان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم): الواو للحال، وقوله: (عندها): خبر (كان)، (في ليلتها)؛ أي: المختصة بها بحسب قسم النبي الأعظم عليه السلام بين الأزواج، (فصلى النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم العِشاءَ)؛ بالنصب، بكسر العين والمد؛ أي: صلاة العشاء في المسجد، (ثم جاء) من المسجد، (إلى منزله) في تلك الليلة، المراد به: بيت ميمونة بنت الحارث الهلالية، و (الفاء) في (فصلى): هي التي تدخل بين المجمل والمفصل؛ لأنَّ التفصيل إنَّما هو عقيب الإجمال؛ لأنَّ صلاة النبي عليه السلام العشاء ومجيئه إلى منزله كان قبل كونه عند ميمونة، ولم يكونا بعد الكون عندها، أفاده في «عمدة القاري».
(فصلى) عليه السلام عقب دخوله، (أربع ركعات)؛ فـ (الفاء) للتعقيب، ثم عطف عليه قوله: (ثم نام)؛ ليدل على أن نومه لم يكن عقيب الصلاة على الفور؛ بل على التراخي، (ثم قام)؛ أي: انتبه من النوم، (ثم قال) لميمونة: (نام الغُلَيِّم)؛ بضم الغين المعجمة، وفتح اللام، وتشديد التحتية، تصغير غلام من باب الشفقة، وأراد به: عبد الله بن عباس، وفي رواية: (نام الغلام)، وهذا يحتمل الإخبار لميمونة، ويحتمل الاستفهام من ميمونة، وحذف حرف الاستفهام بقرينة المقام وهذا الأظهر، كما في «عمدة القاري».
(أو) قال: (كلمة): فهي منصوبة بفعل محذوف، (تشبهها)؛ أي: تشبه كلمة (نام الغليم)، والشكُّ من الراوي ابن عباس وغيره، وعبَّر بـ (كلمة) ومقول القول يجب أن يكون كلامًا؛ لأنَّ الكلمة قد تطلق على الكلام مجازًا نحو: كلمة الشهادة والتأنيث باعتبار الكلمة أو باعتبار كونها جملة.
(ثم قام) عليه السلام في الصلاة، والمراد: أنه شرع في الصلاة، (فقمت عن يَساره)؛ بفتح التحتية وكسرها؛ أي: شماله، وحكي التشديد للسين لغة فيه عن ابن عباد، كما أوضحه في «عمدة القاري»، (فجعلني عن يمينه)؛ أي: فحوَّلني إلى اليمين، (فصلى)، وفي رواية: (وصلى)، (خمس ركعات)، وفي رواية: (عشرة ركعة).
(ثم صلى ركعتين): فالجملة إحدى عشر ركعة؛ لأنَّه صلى أربعًا، ثم خمسًا، ثم ركعتين، وجاء عند المؤلف: (فكانت صلاته ثلاث عشرة ركعة)، وجاء (أنها كانت ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن؛ فقام فصلى ركعتين)، وهي أكثر الروايات، ويجمع بينهما بأن من روى: (أحد عشرة)؛ أسقط الأوليين وركعتي الفجر، ومن أثبت الأوليين؛ عدها ثلاث عشرة، ووقع هذا الاختلاف في «مسلم»، وقيل: إنَّ أكثر الروايات على أنه لم يصل قبل النوم وأنه صلى بعده ثلاث عشرة ركعة، فيحتمل أن نوم ابن عباس عنده عليه السلام كان وقوعًا [2] فذكر ذلك بعض من سمعه، قال في «عمدة القاري»: والمشهور أنها كانت واقعة واحدة.
(ثم نام) عليه السلام (حتى سمعت) (حتى) للغاية هنا تقديره: (إلى أن سمعت)، (غَطِيطه)؛ بفتح المعجمة وكسر الطاء: صوت يخرجه النائم مع نفسه عند استثقاله، وما قاله ابن حجر ردَّه في «عمدة القاري».
(أو خَطِيطه)؛ بفتح المعجمة وكسر الطاء، بمعنى: الغطيط، وما قاله ابن بطال وتبعه عياض رده في «عمدة القاري»، والشكُّ من الراوي، ثم استيقظ عليه السلام، (ثم خرج) من المنزل، (إلى الصلاة) ولم يتوضأ.
فهذا من خصائصه عليه السلام؛ لأنَّ نومه مضطجعًا لا ينقض الوضوء؛ لأنَّ عينيه تنامان ولا ينام قلبه، فلو خرج حدث؛ لأحس به بخلاف غيره من الناس، وفي رواية: (ثم اضطجع فنام حتى نفخ فخرج فصلى الصبح ولم يتوضأ)، وما قاله الكرماني رده في «عمدة القاري»، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام كذلك، كما أخرجه المؤلف في (الإسراء).
وأما نومه عليه السلام في الوادي إلى أن طلعت الشمس؛ فلا ينافي هذا؛ لأنَّ الفجر والشمس إنَّما يدركان بالعين لا بالقلب، وقلبه كان مشغولًا بمراقبة ربه تعالى، ومن زعم أنه كان في وقت ينام قلبه فصادف ذلك؛ فهو بعيد.
وفي الحديث: جواز نوم الرجل مع امرأته في غير مواقعة بحضرة بعض محارمها وإن كان مميزًا، وجاء في رواية: (أنها كانت حائض [3]).
وفيه: أن صلاة الليل تسع ركعات؛ فإنَّ الأخيرتين سنة الصبح، والستة منها نافلة، وختمها بالوتر ثلاث ركعات.
وفيه: أن صلاة الصبي صحيحة.
وفيه: أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام وهو مذهبنا.
وفيه: جواز الصلاة خلف من لم ينو الإمامة وهو مذهبنا.
وفيه: جواز الجماعة في النافلة بواحد، ويكره إن كان على سبيل التداعي عند إمامنا الإمام الأعظم رضي الله عنه.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (نام الغليم)، أو ارتقاب ابن عباس لأحواله عليه السلام؛ إذ لا فرق بين التعلم من القول والتعلم من الفعل، فقد سمر ابن عباس ليلته في طلب العلم، وما زعمه ابن حجر وأتعب نفسه فيه فقد رده في «عمدة القاري» بما يطول، وهو موافق مقبول لأهل الأصول، فرحم الله هذا الإمام ما أغزر علمه وأوفر فهمه، ولا شك أنه علَّامة الأمصار [4] والأقطار المستمدُّ من فيض ربه المدرار عليه رحمة ربنا الكريم الغفار.
==========
[1] في الأصل: (يبتت).
[2] في الأصل: (دفوعا).
[3] في الأصل (حائضة) وهذا خطأ.
[4] في الأصل (الإعصار) والسياق يقتضي ما أُثبت.
%ص 74%

==================
[1] في الأصل: (يبتت).
[2] في الأصل: (دفوعا).
[3] في الأصل (حائضة) وهذا خطأ.
[1] في الأصل: (يبتت).
[2] في الأصل: (دفوعا).
[3] في الأصل (حائضة) وهذا خطأ.

(1/213)


(42) [باب حفظ العلم]
هذا (باب حفظ العلم)، ولفظ (باب) ساقط عند الأصيلي.
==========
%ص 74%

==================

(1/214)


[حديث: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله]
118# وبه قال: (حدثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأوسي المدني، (قال: حدثني)؛ بالإفراد (مالك): ابن أنس الإمام، (عن ابن شهاب): محمد بن مسلم الزهري، (عن الأعرج): عبد الرحمن بن هرمز، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر، (قال: إن الناس): مقول قال، (يقولون): جملة محلها رفع خبر (إن)، (أكثر أبو هريرة): جملة من الفعل والفاعل مقول (يقولون)؛ أي: من رواية الحديث، وهو حكاية كلام الناس، أو وضع المظهر موضع المضمر؛ لأنَّ الظاهر أن يقول: أكثرت، وزاد المؤلف في (البيوع): (ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه)، وهذه الزيادة تدلك على النكتة في ذكر أبي هريرة المهاجرين والأنصار.
(ولولا آيتان)؛ أي: موجودتان، (في كتاب الله) عز وجل، (ما) جواب (لولا) حذف منه اللام وهو جائز، (حدثت حديثًا)؛ بالنصب على المفعولية، قال الأعرج: (ثم يتلو)؛ أي: أبو هريرة، ({إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قوله) تعالى: ({الرَّحِيم} [البقرة: 159 - 160]).
وإنما ذكر يتلو بلفظ المضارع؛ استحضارًا لصورة التلاوة كأنه فيها، والمعنى: لولا أن الله تعالى ذمَّ الكاتمين للعلم؛ لما حدثتكم أصلًا، لكن لما كان الكتمان حرامًا؛ وجب الإظهار والتبليغ؛ فلهذا حصل مني الإكثار؛ لكثرة ما عندي من الحديث، ثم ذكر سبب الكثرة بقوله: (إن إخواننا)؛ جمع: أخ، ولم يقل: إخوانه؛ ليرجع الضمير على أبي هريرة؛ لغرض الالتفات، ولم يقل: إخواني؛ لأنَّه قصد نفسه وأمثاله من أهل الصفة، والمراد الإخوان في الإسلام لا في النسب،
%ص 74%
وحذف العاطف على جعله جملة استئنافية كالتعليل للإكثار جوابًا للسؤال عنه.
(من المهاجرين) (من) بيانية؛ أي: الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، (كان يَشغَلهم)؛ بفتح أوله وثالثه من باب (فتح يفتح)، وحكي ضم أوله من الرباعي؛ أي: الإشغال، وهو غريب، كما في «عمدة القاري»، (الصَّفْق)؛ بالرفع فاعل، والجملة خبر (إن)؛ بفتح الصاد المهملة وإسكان الفاء كناية عن التبايع؛ لأنَّهم كانوا يضربون بالأيدي عند عقد البيع، (بالأسواق) جمع: سوق يذكر ويؤنث، سمي به؛ لقيام الناس على سوقهم فيه.
(وإن إخواننا من الأنصار): الأوس والخزرج أصحاب المدينة الذين آووا رسول الله عليه السلام، ونصروه بأنفسهم وأموالهمرضي الله عنه، (كان يشغلهم العمل في أموالهم) يريد به الزراعة، وفي «مسلم»: (كان يشغلهم عمل أرضهم)، وفي رواية: (كان يشغلهم على أراضيهم)، (وإن أبا هريرة) عدل عن قوله: إني؛ لقصد الالتفات، وعند المؤلف في «البيوع»: (وكنت امرءًا مسكينًا من مساكين الصفة)، (كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم) من الملازمة، (بِشبَع)؛ بكسر المعجمة وفتح الموحدة، وفي رواية: (لشبع) باللام، وكلاهما؛ أي: الموحدة واللام؛ للتعليل، وروي: (ليشبع)؛ بلام كي، و (بشبع)؛ بصورة المضارع المنصوب؛ أي: لأجل شبع، (بطنه)؛ يعني: أنه كان يلازم قانعًا بالقوت لا مشتغلًا بالتجارة ولا بالزراعة رضي الله عنه.
(ويحضر ما لا يحضرون)؛ أي: من أحوال النبي الأعظم عليه السلام، فيشاهد ما لا يشاهدون، (ويحفظ ما لا يحفظون) من أقواله عليه السلام، فيسمع ما لا يسمعون، فهذا إشارة إلى المسموعات، وذاك إلى المشاهدات.
لا يقال هذا الحديث يعارضه ما تقدم من حديث أبي هريرة: (ما من أصحاب النبي عليه السلام أحد أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب)؛ لأنَّا نقول: إن عبد الله كان أكثر تحملًاوأبو هريرة أكثر رواية.
فإن قلت: كيف يكون الأكثر تحملًا وهو داخل تحت عموم المهاجرن.
أجيب: هو أكثر من جهة ضبطه بالكتابة وتقييده بها، وأبو هريرة أكثر من جهة السماع، والله أعلم.
ويؤخذ من الحديث: طلب حفظ العلم والمواظبة على طلبه.
وفيه: فضل أبي هريرة، وفيه طلب التقلل من الدنيا وفضله، وإيثار العلم على طلب المال.
وفيه: جواز الإخبار عن نفسه بفضيلته إذا اضطر وأمن الإعجاب، وجواز التجارة والزراعة، وجواز الاقتصار على الشبع، وفيه تفصيل:
فالأكل فرض: وهو ما يدفع به الهلاك عن نفسه.
ومندوب: وهو ما زاد ليتمكن من الصلاة قائمًا ويسهل الصوم.
ومباح: وهو ما يزاد على الشبع لزيادة قوة البدن.
وحرام: وهو الزائد عليه إلا لقصد التقوى على صوم الغد، أو لئلا يستحي الضيف الحاضر فلا بأس بأكله فوق الشبع لذلك، ولا تجوز الرياضة بتقليل الأكل حتى يضعف عن أداء العبادة المفروضة قائمًا، فلو على وجه لا يضعفه؛ فمباح ورياضة هذا مذهب إمامنا الإمام الأعظم رئيس المجتهدين التابعي الجليل، الذي غفر الله له ولمن اتبعه على مذهبه إلى يوم القيامة.

==================

(1/215)


[حديث: ابسط رداءك]
119# وبه قال: (حدثنا أحمد بن أبي بكر) القاسم أو زرارة بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري العوفي، زاد في رواية: (أبو مصعب) كنيته، قاضي المدينة المتوفى سنة اثنين وأربعين ومئتين عن اثنين وتسعين سنة، (قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار) المدني الأنصاري المفتي بالمدينة المتوفى سنة اثنين وثمانين ومئة.
(عن ابن أبي ذِئب)؛ بكسر الذال المعجمة، محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث القرشي المدني العامري، قال ابن حنبل: كان ابن أبي ذئب أفضل من مالك إلَّا أن مالكًا أشد تنقية للرجال منه، المتوفى بالكوفة سنة تسع وخمسين ومئة عن تسع وسبعين سنة، (عن سعيد) بن أبي سعيد (المَقبُري)؛ بفتح الميم وضم الموحدة، المدني.
(عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (قال: قلت: يا رسول الله)، وفي رواية: (قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، (إني أسمع منك حديثًا كثيرًا): صفة لقوله: (حديثًا)؛ لأنَّه باعتبار كونه اسم جنس يطلق على الكثير والقليل، (أنساه): جملة محلها النصب صفة أخرى لقوله: (حديثًا)، والنسيان جهل بعد العلم، والفرق بينه وبين السهو: أن النسيان زوال العلم عن الحافظة والمدركة، والسهو زواله عن الحافظة فقط، والفرق بين السهو والخطأ أن السهو ما يتنبَّه صاحبه بأدنى تنبيه، والخطأ ما لا يتنبه به، والنسيان حالة تعتري الإنسان من غير اختياره توجب غفلة عن الحفظ، والغفلة ترك الالتفات بسبب أمر عارض، كما أوضحه في «عمدة القاري».
(قال)، وفي رواية: (فقال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام لأبي هريرة: (ابسط رِداءك)؛ بكسر الراء، (فبسطته): عطف على (ابسط)، وعطف الخبر على الإنشاء فيه خلاف، والذي يمنعه يقدَّر شيئًا والتقدير لما قال ابسط رداءك: امتثلت أمره فبسطه، (قال: فغرف) عليه السلام، (بيديه) ولم يذكر المغروف ولا المغروف منه؛ لأنَّه لم يكن إلَّا إشارة محضة، فكأنَّه أخذ شيئًا من فيض فضل الله تعالى ورمى به في رداء أبي هريرة، ومثل ذلك في عالم الحسِّ.
(ثم قال عليه السلام) له (ضمُّه)؛ بالهاء مع ضم الميم؛ تبعًا للضاد، وفتحها وهي رواية أبي ذر وكسرها؛ لأنَّ الساكن إذا حرِّك؛ حرِّك بالكسر، وفك الإدغام فيصير: اضممه، وفي رواية: (ضم) بلا هاء وعلى الأولى فالضمير فيه يرجع إلى الحديث، يدل له ما روي (فغرف بيديه ثم قال: ضم ... )؛ الحديث.
(فضممته)؛ أي: الرداء حال المقالة فقط، (فما نسيت شيئًا بعده)؛ أي: بعد الضم، وفي رواية: بدون الهاء بضم الدال؛ لقطعه عن الإضافة فبني على الضم، وفي بعض طرق الحديث عند المؤلف: («لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعها إلى صدره فينسى من مقالتي شيئًا أبدًا»، فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها حتى قضى النبي عليه السلام مقالته ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق؛ ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا).
وفي «مسلم»: (أيُّكم يبسط ثوبه فيأخذ)؛ فذكره بمعناه، ثم قال: (فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدثني به)، ففي قوله: (بعد ذلك اليوم): دليل على العموم، وعلى أنه بعد ذلك لم ينس شيئًا سمعه منه عليه السلام، لا أن ذلك خاص بتلك المقالة، كما يعطيه ظاهر قوله: (من مقالته تلك) ويعضد العموم تنكير شيئًا بعد النفي، فإنَّه يدل على العموم؛ لأنَّ النكرة في سياق النفي تدل عليه، فدل على العموم في عدم النسيان لكل شيء من الحديث وغيره.
فإن قلت: ما هذه المقالة؟!
قلت: هي مبهمة في جميع الطرق، إلا أنَّه صرح بها أبو نعيم في «الحلية» قال: قال عليه السلام: «ما من رجل يسمع كلمة أو كلمتين مما فرض الله فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة»، كذا قرره في «عمدة القاري»، وما زعمه ابن حجر فليس بشيء؛ فافهم.
وفي الحديث: معجزة النبي الأعظم عليه السلام، كما لا يخفى.
وبه قال: (حدثنا إبراهيم بن المنذر) المدني، (قال: أخبرنا ابن أبي فُدَيك)؛ بضم الفاء وفتح الدال المهملة، أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، دينار المدني الليثي، المتوفى سنة مئتين، (بهذا)؛ أي: بهذا الحديث، فساقه المؤلف في (علامات النبوة) بهذا الإسناد بعينه، (أو قال)، وفي رواية: (قال)؛ أي: ابن أبي فديك.
(غرف بيده فيه)؛ بالإفراد مع زيادة فيه، والضمير للثوب، وفي رواية وعليها كتب صاحب «عمدة القاري» قال: (يحذف بيده إلى فيه) من الحذف؛ بالحاء المهملة، والذال المعجمة، والفاء؛ أي: يرمي، والذي في (علامات النبوة) ليس فيه إلَّا الغرف، فادعى ابن حجر أن رواية (يحذف) تصحيف، ورده في «عمدة القاري» بأن صاحب «المطالع» لم ينبه عليه وأنه لم يثبت أنه تصحيف، فيطلب منه الدليل ولم يوجد، وسقط في رواية قوله: (حدثنا إبراهيم ... ) إلخ والله تعالى أعلم.
==========
%ص 75%

==================

(1/216)


[حديث: حفظت من رسول الله وعاءين]
120# وبه قال: (حدثنا إسماعيل) بن أبي أويس، (قال: حدثني)؛ بالإفراد، وفي رواية: بالجمع، (أخي): عبد الحميد بن أبي أويس، (عن ابن أبي ذئب): محمد بن عبد الرحمن القرشي المدني السابق قريبًا، (عن سعيد) بن أبي سعيد (المقبُري)؛ بضم الموحدة، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه، (قال: حفظت عن)، وفي رواية: (من)، (رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهي أصرح لتلقينه من النبي الأعظم عليه السلام بلا واسطة.
(وعاءين)؛ بالنصب مفعول (حفظت)، تثنية وِعاء؛ بكسر الواو مع المد الظرف الذي يحفظ فيه الشيء، جمعه: أوعية، وهو من ذكر المحل وإرادة الحال فيه، والمراد نوعين
%ص 75%
من العلم.
(فأما) للتفصيل، (أحدهما)؛ أي: أحد الوعاءين من نوعي العلم؛ (فبَثثته): جواب (أما)، ودخلت عليه الفاء؛ لتضمنها معنى الشرط، وهو بموحدة مفتوحة ومثلثتين بعدهما مثناة فوقية؛ أي: نشرته وكشفته، زاد الإسماعيلي: (في الناس)، (وأما) الوعاء (الآخر) منهما، (فلو بثثته)؛ أي: نشرته وكشفته للناس؛ (قطع): جواب (لو)، وفي رواية: (لقطع) باللام، (هذا البلعومُ): مرفوع بإسناد قطع إليه، وهو مفعول ناب عن الفاعل، وفي رواية الإسماعيلي: (لقطع هذا) يعني رأسه، فكنى به عن القتل، فأراد بالأول: الذي حفظه من السنن المذاعة لو كتبت؛ لاحتمل أن يملأ منها وعاء، وبالثاني: ما كتمه من أخبار الفتن، وأشراط الساعة، وما عرف به النبي الأعظم عليه السلام من فساد الدين على يد أغيلمة سفهاء قريش.
وكان أبو هريرة يقول: (لو شئت ان أسميهم بأسمائهم لسميتهم لكني خشيت على نفسي) فلم يصرح بهم، فالأمر بالمعروف على هذا، وكان يقول: (أعوذ بالله من رأس سنة ستين وإمارة الصبيان)، يشير بذلك إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، فاستجاب الله دعاءه فمات قبلها، فإنه لو حدث بهذه الأحوال؛ لقطع البلعوم.
وقالت المتصوفة: المراد بالأول: علم الأحكام والإطلاق، وبالثاني: علم الأسرار المصون عن الأغيار المختص بالعلماء بالله من أهل العرفان.
قال القسطلاني في «شرحه»: لكن في كون هذا هو المراد نظر؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما وسع أبو هريرة كتمانه مع ما ذكره من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ... } [البقرة: 159] إلى آخر الآيتين الدالة على ذم كتمان العلم، وأيضًا فإنَّه نفى بثه على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك، وأبو هريرة لم يكشف مستوره؟! فمن أين علم أن الذي كتمه هو هذا؟!
فمن ادعى ذلك؛ فعليه البيان، فقد ظهر أن الاستدلال به لهم فيه نظر ظاهر، انتهى كلامه.
قلت: وكذا قوله عليه السلام: «من كتم علمًا؛ ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة»، ولو كانت الأحاديث التي لم يحدث بها من الحلال والحرام؛ لما وسعه كتمها بحكم الآية والحديث الدالة على ذم الكتمان، ولا ريب أن أبا هريرة أعلم وأحرى بالأحكام، فلو كان المراد به ذلك؛ لكشفه ونشره بين الناس ودخل تحت الأحاديث الدالة على فضل العلم وتعليمه.
وقال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: (إن كان المراد من الثاني هو ما قالته المتصوفة يشترط فيه أن لا تدفعه القواعد الإسلامية ولا تنفيه القوانين الإيمانية؛ إذ ما بعد الحق إلا الضلال) انتهى.
قلت: فأشار به إلى أنه لو كان مطابقًا للشريعة المطهرة؛ فلا يتصور كتمانه من أبي هريرة، وإن كان غير مطابق لها؛ فهو ما قدمناه من أمور الفتن وحكام الجور وغيرها.
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، كما في رواية المستملي، (البُلعوم)؛ بضم الموحدة، (مجرى الطعام)؛ أي: في الحلق وهو المري، كذا فسره القاضي والجوهري، وقال الفقهاء: الحلقوم: مجرى النفس، والمري: مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم، والبلعوم تحت الحلقوم، وقال ابن بطال: البلعوم: الحلقوم وهو مجرى النفس إلى الرئة، والمري: مجرى الطعام والشراب إلى المعدة فتصل بالحلوق، والمقصود: أنه كنى بذلك عن القتل، كما في «عمدة القاري».
قلت: وما قدمناه هنا يدل على بطلان قول من قال في زماننا: أن ذنوب أهل البيت النبوي صوري لا معنوي؛ أي: بحسب الصورة ذنب لا في المعنى، وأن المغفرة لهم محققة بدون توبة، وأنهم خير الخلق بدون استثناء الأنبياء والمفضلين من الصحابة، مستدلًا بقوله تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وبقول الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي في «الفتوحات».
قلت: وهذا باطل؛ لأنَّه لم يوجد قول لأحد من المذاهب الأربعة المجمع عليها بذلك، وقد قال النبي الأعظم عليه السلام: «من أحدث شيئًا لم يكن في الشريعة فهو رد»، والآية المستدل بها معناها أنَّه تحرم عليهم الصدقة؛ لأنَّها أوساخ الناس، والتمييز بالعمائم، والتعظيم، والاحترام وغير ذلك، وما ذكره من معناها فهو مردود؛ لأنَّه لم يقل به أحد من المفسرين قديمًا وحديثًا.
وقال عليه السلام: «من فسَّر القرآن برأيه كبَّه الله في النار يوم القيامة»، ويدل لهذا قوله تعالى حكاية عن نوح: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]، فابن نوح لما التجأ [1] إلى الجبل وأنه يعصمه من الماء عند الغرق؛ أخرجه الله تعالى من أهله وجعله في النار، وكذا أبو طالب عمُّ المصطفى عليه السلام، وكذا أبو جهل، وأبو لهب؛ فإنَّهم جميعًا في النار، كما نطق بذلك الكتاب والسنة، فلو كانت الذنوب مغفورة لهم بدون توبة؛ لغفر لهم وأدخلوا الجنة، وهذا يدل على بطلان قوله أيضًا: من أنه لا يختم لأحد منهم بالكفر، وأن الله شاء المغفرة لهم، وبطلان هذا ظاهر؛ فإنَّ الموت على الإيمان أو على الكفر لا يعلمه أحد أصلًا؛ لقوله عليه السلام: «إن العبد ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار»، رواه الشيخان.
وقال تعالى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 129]، ومشيئته تعالى مختصَّة به لا يعلمها أحد من خلقه، وهو مذهب أهل السنة والجماعة من الماتريدية والأشعرية وإجماع المسلمين، ويدلُّ لذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، فجميع الآيات الدالة على المغفرة مقرونة بالمشيئة، وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30].
قال الإمام القرطبي: (لو فعل أحدٌ منهم شيئًا يوجب الحدَّ مرة؛ يُحدُّ مرتين؛ لهذه الآية، وقال عليه السلام: «من أبطأ به عمله؛ لم يسرع به نسبه»، ويدل لذلك قوله تعالى: {فَلَاأَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]).
وأما قول الشيخ الأكبر فقد قال علماؤنا الأعلام: يحرم مطالعة كتب الشيخ الأكبر وقد أتى أمر سلطاني بالنهي عن بيعها، وشرائها، ومطالعتها، وقال الإمام الشعراني: في العهود الصغرى أخذ علينا العهود أن نمنع الناس من مطالعة كتب الشيخ الأكبر؛ لعدم فهم معناها، اهـ.
فالتفاضل الحقيقي بين الناس إنَّما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى، ويفيد الوضيع النسب بالتقوى، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقد ألف رسالة في ذلك وذكر الأحاديث الواردة في حق أهل البيت منها منكر، ومنها ضعيف، ومنها موضوع من الشيعة، وقد ركب فيها متن عمياء وخبط خبط عشواء، وقال فيها ولا يدري ما يقول، وقد وافقه عليها بعض ممن يدعي العلم، وكتب له عليها فضلَّ وأضلَّ، وجمهور العلماء الأعلام ورئيسهم الإمام محقق المعقول والمنقول شيخ الإسلام والمسلمين شيخنا الشيخ عبد الله أفندي الحلبي أدمنا بحياته فلم يلتفت إليها، ولا عرجوا عليها، بل ردوها ولم يكتب أحدٌ عليها، ووقع خبط بين العلماء بديارنا الشريفة الشامية من أجل هذه الرسالة البدعة المنكرة، وأجمع الجمهور على بطلانها وردِّها ولله الحمد والمنة.
اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، وقلبًا خاشعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة بجاه الأنبياء وأصحابهم والمجتهدين وأتباعهم، وأن يحفظنا من الزيغ والضلال، ويوفقنا لما يحب ويرضى إنه على كل شيء قدير، وصلى الله عليهم أجمعين.
==========
[1] في الأصل (التجئ).

==================

(1/217)


(43) [باب الإنصات للعلماء]
هذا (باب الإنصات)؛ بكسر الهمزة: السكوت والاستماع، (للعلماء)؛ أي: لأجل ما يقولونه، فاللام للتعليل.
==========
%ص 76%

==================

(1/218)


[حديث: أن النبي قال له في حجة الوداع: استنصت الناس]
121# وبه قال: (حدثنا حَجاج)؛ بفتح الحاء، ابن منهال الأنماطي، (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج، (قال: أخبرني)؛ بالإفراد، (علي بن مُدْرِك)؛ بضم الميم وكسر الراء، النخعي الكوفي، المتوفى سنة عشرين ومئة، (عن أبي زُرْعَة)؛ بضم الزاي، وسكون الراء،
%ص 76%
وفتح العين، واسمه: هَرْم؛ بفتح الهاء وسكون الراء، ابن عمر بن جرير.
(عن جَرير)؛ بفتح الجيم، ابن عبد الله البجلي جد أبي زرعة الراوي عنه هنا لأبيه، وكان بديع الجمال، طويل القامة، وكان نعله ذراعًا، (أن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال): جملة محلها الرفع خبر (إن)، (له) وعند المؤلف في (حجة الوداع): (أن النبي عليه السلام قال لجرير)، (في حَجة)؛ بفتح الحاء وكسرها، (الوَداع)؛ بفتح الواو وكسرها، والمشهور: الفتح فيهما، وإنَّما سمِّيت بحجة الوداع؛ لأنَّ النبي الأعظم عليه السلام ودَّع الناس فيها، والمقالة كانت عند جمرة العقبة واجتماع الناس للرمي وغيره.
(استنصت): أمر من الإستنصات، (استفعال) من الإنصات، ومعناه: طلب السكوت، (الناس) والجملة من الفعل، والفاعل، والمفعول مقول القول، وقد أنكر بعضهم لفظة (له) من قوله: قال له في حجة الوداع، معللًا بأن جريرًا أسلم قبل وفاته عليه السلام بأربعين يومًا، وتوقف المنذري؛ لثبوتها في الطرق الصحيحة، وقد ذكر غير واحد أنه أسلم في رمضان سنة عشر، فأمكن حضوره مسلمًا لحجة الوداع، وحينئذ فلا خلل في الحديث كما أوضحه في «عمدة القاري».
(فقال) عليه السلام بعد أن أنصتوا: (لا ترجعوا)؛ أي: لا تصيروا، (بعدي)؛ أي: بعد موتي أو موقفي هذا، (كفارًا) نصب خبر لا ترجعوا المفسر بلا تصيروا، فيكون من الأفعال الناقصة؛ أي: لا تكن أفعالكم شبيهة بأفعال الكفار، أو دوموا مسلمين أولا يكفِّر بعضكم بعضًا فتستحلوا القتال.
(يضربُ بعضكم رقاب) جمع: رقبة، (بعض)؛ بالرفع في (يضرب) على الصفة لـ (كفارًا)؛ أي: لا ترجعوا بعدي كفارًا متصفين بهذه الصفة القبيحة، يعني ضرب بعضهم رقاب بعض آخرين، أو على الحال من ضمير (ترجعوا)؛ أي: لا ترجعوا [1] بعدي كفارًا حال ضرب بعضكم رقاب بعض، أو على الاستئناف كأنه قيل: كيف يكون الرجوع كفارًا؟ فقال: يضرب بعضكم رقاب بعض، فمعناه:
على الأول: لا ترجعوا عن الدين بعدي فتصيروا مرتدِّين مقاتلين يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حق.
وعلى الثاني: لا تكفروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يعرض بينكم باستحلال القتل، ولا ترجعوا حال المقاتلة لذلك كالكفار في الانهماك في تهييج الشرِّ وإثارة الفتن من غير إشفاق بعض على بعض.
وعلى الثالث: لا يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حقٍّ، فإنَّه فعل الكفار، وجوَّز الإمام أبو البقاء وابن مالك جزم (يضرب) على أنه بدل من (لا ترجعوا) وأن يكون جزاء الشرط مقدرًا [2]؛ أي: فإن رجعتم يضرب بعضكم رقاب بعض، أو أن يكون جواب النهي، والمعنى: لا تتشبهوا بالكفار في قتل بعضهم بعضًا.
وقد جرى بين الأنصار كلام بمحاولة اليهود حتى ثار بعضهم إلى بعض في السلاح فأنزل الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 101]؛ أي: تفعلون فعل الكفار، وسياق الخبر يدل على أن النهي عن ضرب الرقاب والنهي عما قبله بسببه، كما جاء في حديث أبي بكرة: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام» وذكر الحديث، ثم قال: «ليبلِّغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارًا ... »؛ الحديث، فهو شرح لما تقدم من تحريم بعضهم على بعض.
فإن قلت: رقاب جمع: رقبة، وليس لكل شخص إلا رقبة واحدة، ولا شك أن ضرب الرقبة الواحدة منهي عنه.
قلت: البعض وإن كان مفردًا، لكنه في معنى الجمع، كأنه قال: لا يضرب فرقة منكم رقاب فرقة أخرى، والجمع في مقابلة الجمع أو ما في معناه يفيد التوزيع.
وفي الحديث: وجوب الإنصات عند قراءة الحديث والعلم وغيره من العلوم الشرعية.
وفيه: تعلق بعض المبتدعة في إنكار حجة الوداع؛ لأنَّه نهى الأمة بأسرها عن الكفر ولولا جواز إجماعها عليه؛ لما نهاها، والجواب أن الامتناع إنَّما جاء من جهة خبر الصادق لا من الإمكان، وقد قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، ومن المعلوم أنه عليه السلام معصوم، كذا حققه في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ترجوا).
[2] في الأصل: (مقدر).

==================
[1] في الأصل: (ترجوا).
[1] في الأصل: (ترجوا).

(1/219)


(44) [باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله]
هذا (باب ما)؛ أي: الذي، (يستحب للعالم إذا): شرطية، (سُئِل) بالبناء للمجهول، (أيُّ الناس)؛ أي: شخص من أشخاص الناس، (أعلم) من غيره، (فيكل) الفاء في جواب (إذا)، وأصله: يوكل حذفت الواو؛ لوقوعها بين الياء والكسرة؛ أي: فهو يكل، (العلم إلى الله) تعالى، والجملة بيان لما يستحب، أو (إذا) ظرف لـ (يستحب) والفاء تفسيرية على أن (يكل) في تقدير المصدر بتقدير أن؛ أي: ما يستحب وقت السؤال هو الوكول إلى الله تعالى، وصرَّح بـ (أن) في رواية، كما في «عمدة القاري».

==================

(1/220)


[حديث: قام موسى النبي خطيبًا في بني إسرائيل]
122# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد) الجعفي المسنَدي؛ بفتح النون، (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عُيينة؛ بضم العين، (قال: حدثنا)، وفي رواية: (أخبرنا)، (عَمرو)؛ بفتح العين، ابن دينار، (قال: أخبرني)؛ بالإفراد، (سعيد بن جُبَير)؛ بضم الجيم وفتح الموحدة.
(قال: قلت لابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما، فالسائل هنا سعيد بن جبير، والمجيب ابن عباس، وفيما تقدم أن ابن عباس تمارى هو والحر بن قيس فمرَّ بهما ابن كعب فسأله ابن عباس، فيحتمل أن يكون سعيد بن جبير سأل ابن عباس بعد الوقعة الأولى المتقدمة لابن عباس والحر، وجاء أن السائل غير ابن جبير، قال سعيد: (كنت عند ابن عباس وعنده قوم من اليهود فقال بعضهم: يا أبا عبد الله ... ) إلخ، فقال ابن عباس: (كذب ... ) إلخ.
(إن نَوْفًا)؛ بفتح النون وسكون الواو آخره فاء، ابن فَضَالة؛ بفتح الفاء والضاد المعجمة، أبو يزيد القاص، (البِكالي)؛ بالنصب صفة لـ (نوفًا)، بكسر الموحدة وفتحها وتخفيف الكاف نسبة إلى بكال بطن من حمير، وهو ابن امرأة كعب الأحبار على المشهور، وهمزةإن مكسورة، و (نوفًا)؛ بالنصب اسمها، وهو منصرف في اللغة الفصيحة، وفي بعضها غير منصرف، وكتبت بدون ألف؛ لأنَّه أعجمي، لكن الأفصح: الصرف؛ لأنَّ سكون وسطه يقاوم إحدى العلتين فيبقى الاسم بعلة واحدة كنوح ولوط، كما بسطه في «عمدة القاري».
(يزعم): جملة من الفعل والفاعل محلها الرفع خبر (إن)، والزعم بمعنى: القول فلا يقتضي إلا مفعولًا واحدًا وهو قوله: (أن)؛ بفتح الهمزة، (موسى): ممنوع من الصرف؛ للعلمية والعجمة، وإن كان الزعم بمعنى: الظن فأن مع اسمها وخبرها سدت مسد المفعولين؛ أي: موسى صاحب الخضر.
(ليس بموسى بني إسرائيل) الباء زائدة للتأكيد، وهي جملة محلها الرفع خبر (أن)، وفي رواية: بحذف الباء الموحدة من موسى؛ أي: المرسل لبني إسرائيل؛ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و (موسى) وإن كان علمًا؛ لا يضاف، لكنَّه نكر بأن أوِّل بواحد من الأمة المسماة به ثم أضيف إليه.
(إنما هو موسًى)؛ بالتنوين؛ لكونه نكرة فانصرف؛ لزوال العلمية وعدمه وهو ظاهر، (آخر) غير منصرف؛ للوصفية الأصلية ووزن الفعل فلا ينون على كل حال، وغلبت عليه الاسمية المحضة، فاضمحل عنه معنى التفضيل بالكلية، يعني: يزعم نوف أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بن عمران الذي أرسل إلى فرعون، وإنما هو موسى بن مِيْشا؛ بكسر الميم، وسكون التحتية، وبالشين المعجمة، وميشا يعني: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهو أول موسى وهو نبي أيضًا مرسل، وزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر.
(فقال) ابن عباس: (كذب عدو الله) نوف ومن تبعه في هذه المقالة، وهذا وقع من ابن عباس على طريق الإغلاظ على القائل، بخلاف قوله: ولم يرد ابن عباس إخراج نوف عن ولاية الله، ولكن قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحق؛ فيطلقون أمثال هذا الكلام؛ لقصد الزجر والتنفير عنه، وحقيقته غير مرادة، وكان ذلك منه حال الغضب وألفاظ الغضب تطلق ولا يراد بها حقائقها.
(حدثنا)، وفي رواية: (حدثني)، (أبيُّ بن كعب)؛ بالرفع فاعل التحديث، وهو الصحابي المشهور رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: قام موسى) ابن عمران، (النبي)؛ بالرفع صفة (موسى)، (صلى الله عليه وسلم) حال كونه، (خطيبًا في بني إسرائيل)، أولاد يعقوب عليه السلام، وهم اثني عشر الذين سماهم الأسباط، كالشعوب من العجم، والقبائل من العرب، وجميع بني إسرائيل منهم.
(فسُئل)؛ بضم السين المهملة، (أيُّ الناس أعلم): مبتدأ مضاف وخبره، والتقدير:
%ص 77%
أعلم منهم، كما في قولك: الله أكبر؛ أي: من كل شيء، (فقال) موسى: (أنا أعلم) الناس؛ أي: فيما ظهر لي، واقتضاه شاهد الحال أو دلالة النبوة، وهذا أبلغ من الرواية السابقة، هل تعلم أن أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا، فإنه إنَّما نفى هناك علمه، وهنا على البت.
(فعتب الله عليه)؛ أي: لم يرض قوله شرعًا، وعن أُبي قال: (أعجب موسى بعلمه فعاتبه الله بما لقي من الخضر)، وهو من باب التنبيه لموسى والتعليم لمن بعده لئلا يقتدي به غيره في تزكية نفسه، والعجب بحالها فيهلك، (إذ)؛ بسكون الذال للتعليل، (لم يُرد)؛ بضم الدال اتباعًا لضمة الراء، والفتح للخفة، والكسر على الأصل من أن الساكن إذا حرك يحرك بالكسر، ويجوز فك الإدغام أيضًا.
(العلم)؛ بالنصب مفعول (يرد)، (إليه)، وفي رواية: (إلى الله تعالى) فكان ينبغي أن يقول: الله أعلم، وقالت الملائكة: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وسئل النبي الأعظم عليه السلام عن الروح وغيره فقال: لا أدري حتى أسأل الله عز وجل، والعتب؛ بمعنى: المؤاخذة وتغير النفس وهما في حق الله تعالى محال فيراد به: لم يرض قوله شرعًا.
(فأوحى الله) تعالى (إليه)؛ أي: إلى موسى، (أن)؛ بفتح الهمزة؛ أي: بأن، (عبدًا)؛ أي: الخضر، وفي رواية: بكسر الهمزة على تقدير فقال إن عبدًا، (من عبادي) محله النصب صفة عبدًا، (بمجمع البحرين): الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: كائنًا بمجمع البحرين؛ أي: ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق، وقال أبي بن كعب: إنه بإفريقية وقيل: بطنجة، كما بسطه في «عمدة القاري».
(هو)؛ أي: العبد المسمى: بالخضر، (أعلم منك) جملة اسمية محلها رفع خبر (إن)؛ أي: بشيء مخصوص، كما يدل عليه قول الخضر الآتي: إنِّي على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمك الله لا أعلمه، ولا شك أن موسى أفضل من الخضر بما اختص به من الرسالة، وسماع الكلام، والتوراة، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ومخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى عليه السلام، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم، وإن قلنا: إن الخضر ليس بنبي؛ بل ولي، فالنبي أفضل من الولي وهو أمر مقطوع به، والقائل بخلافه كافر بالإجماع؛ لأنَّه معلوم من الشرع بالضرورة.
(قال رب) أصله: يا رب، فحذف حرف النداء، وياء المتكلم للتخفيف اكتفاء بالكسرة، وفي رواية: (يا رب)، (وكيف لي به) بالواو، وفي رواية: بالفاء؛ أي: كيف الالتقاء لي بذلك العبد، و (لي): في محل رفع خبر مبتدأ محذوف وهو الالتقاء المقدر، و (كيف) وقع حالًا، والتقدير: على أيِّ حالة الالتقاء وبه يتعلق بالمقدر، والفاء على الرواية الثانية زائدة، والفاء في قوله: (فقيل) عاطفة، (له: احمل) أمر وفاعله مستتر.
(حوتًا): مفعوله والجملة مقول القول، (في مِكَتل)؛ بكسر الميم وفتح الفوقية شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعًا كما في «العباب» وهو في محل نصب صفة لـ (حوتًا)؛ أي: حوتًا كائنا في مكتل، (فإذا) للشرط، (فَقَدته)؛ بفتح الفاء والقاف؛ أي: الحوت جملة فعل الشرط، (فهو ثَمَّ)؛ بفتح المثلثة ظرف؛ بمعنى: هناك جملة وقعت جواب الشرط فلذا دخلته الفاء؛ أي: العبد الأعلم منك هناك، (فانطلق): موسى، (وانطلق معه بفتاه): التصريح بالمعية للتأكيد وإلا فالمصاحبة مستفادة من الباء في (بفتاه)، وفي رواية: بإسقاط لفظ (معه).
(يُوشَع)؛ بضم التحتية وفتح المعجمة، مجرور بالفتحة عطف بيان لـ (فتاه) غير منصرف؛ للعلمية والعجمة، (ابن نون): مجرور بالإضافة منصرف كنوح ولوط على الأفصح، وهو من أولاد يوسف بن يعقوب عليه السلام وكان يخدمه، وقيل: يأخذ عنه العلم، (وحملا حوتًا في مكتل)، كما وقع الأمر به وقد قيل: كانت السمكة مشوية مملوحة وقيل شق سمكة.
(حتى) للغاية، (كانا عند الصخرة) الحجر الكبير التي دون نهر الزيت بالمغرب الموعود بلقي الخضر عنده، (وضعا رؤوسهما) على الصخرة، (وناما)، وفي رواية: (فناما) بالفاء وكلاهما للعطف على (وضعا)، وفيه غاية التواضع لله تعالى، (فانسلَّ الحوت) المشوي المملوح، (من المكتل)؛ لأنَّه أصاب الحوت من ماء عين الحياة التي في أصل الصخرة لا يصيب مائها لشيء إلا حييى، فتحرك الحوت وانسلَّ من المكتل فدخل البحر، كذا في طريق للمؤلف.
(فاتخذ سبيله)؛ أي: طريقه، (في البحر سربًا)؛ أي: مسلكًا؛ بالنصب على المصدرية أو المفعولية وفي رواية: عند المؤلف: (فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق)، (وكان) إحياء الحوت المملوح وإمساك جرية الماء حتى صار مسلكًا، (لموسى وفتاه عجبًا)؛ بالنصب خبر كان، وجاء عند المؤلف: (فكان للحوت سربًا ولموسى عجبًا)؛ فيجوز أن يكون من قول يوشع ومن قول موسى ثم قال موسى: (عجبت من هذا عجبًا)، فيحسن على هذا الوقف على البحر ويتبدى عجبًا، كذا قاله الزجاج، وقال غيره: يجوز أن يكون إخبارًا من الله تعالى؛ أي: اتخذ موسى طريق الحوت في البحر عجبًا، كذا في «عمدة القاري».
(فانطلقا بقيةً)؛ بالنصب على الظرفية، (ليلتِهما)؛ بالجر على الإضافة، (ويومِهما)؛ بالجر عطفًا على ليلتهما والنصب على إرادة سير جميع اليوم، وعند المؤلف في «التفسير» و «مسلم»: (فانطلقا بقية يومهما وليلتهما)، قال القاضي: وهو الصواب لقوله: (فلما أصبح) ولا يقال: أصبح إلا عن ليل، وفي رواية: (حتى إذا كان من الغد)، وما زعمه ابن حجر رده في «عمدة القاري».
(قال موسى): جواب (لما)، (لفتاه آتنا غدَائَنا)؛ بفتح الغين مع المد، الطعام يؤكل أول النهار؛ بالنصب على المفعولية، واللام في (لقد) للتأكيد وقد للتحقيق، (لقينا من سفرنا هذا نصَبًا)؛ بفتح النون والصاد، بالنصب مفعول (لقينا)؛ أي: تعبًا، والإشارة لسير البقية والذي يليها ويدل عليه قوله: (ولم يجد موسى) عليه السلام، (مسًّا)، وفي رواية: (شيئًا) بالنصب مفعول (تجد) (من النصب): في محل نصب صفة (مسًّا)؛ أي: مساء حاصلًا أو واقعًا من النصب؛ أي: التعب.
(حتى): للغاية؛ أي: إلى أن، (جاوز المكان الذي أمر به)؛ أي: أمره الله بلقي الخضر فألقى عليه الجوع والنصب، (فقال)، وفي رواية: (قال)، (له فتاهُ)؛ بالرفع فاعل (قال): (أرأيت)؛ أي: أخبرني ما دهاني، (إذ): ظرف بمعنى: حين، (أوينا)؛ أي: رقدنا، (إلى الصخرة) عندها، (فإني نسيت الحوت)؛ أي: فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت و (الفاء): تفسيرية زاد في رواية: (وما أنسانيه)؛ أي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وإنما نسبه للشيطان هضمًا لنفسه.
(قال موسى ذلك): مبتدأ؛ أي: فقدان الحوت، (ما): موصولة (كنا نبغي): خبر المبتدأ والعائد محذوف؛ أي: نبغيه؛ أي: نطلب؛ لأنَّه علاه وجدان المقصود ويجوز حذف الياء من (نبغي) للتخفيف وبها قرئ، (فارتدَّا): رجعا (على آثارهما): في الطريق الذي جاءا فيه يقصَّان، (قصصًا) فهو منصوب على المصدرية؛ أي: يتبعان آثارهما اتباعًا، (فلما أتيا إلى الصخرة)، وفي نسخة: (انتهيا) زاد مسلم: (فأراه مكان الحوت، فقال: ههنا وصف لي) وإلى هنا انتهى كلام يوشع؛ فافهم.
(إذا): للمفاجأة، (رجل): مبتدأ تخصص بالصفة وهي قوله: (مسجًّى)؛ أي: مغطًّى، (بثوب) والخبر محذوف؛ أي: نائم، (أو قال: تسجى بثوبه) شكٌّ من الراوي، ويروى أنهما اتبعا أثر الحوت وقد يبس الماء في ممرِّه فصار طريقًا فأتيا جزيرة فوجدا [1] الخضر قائمًا يصلي على طنفسة خضراء على كبد البحر؛ أي: وسطه.
(فسلم موسى) عليه السلام، (فقال الخضر: وأنَّى)؛ بفتح الهمزة وتشديد النون المفتوحة؛ أي: كيف، (بأرضك السلام)؛ أي: السلام بهذه الأرض عجيب، ويؤيده ما في التفسير: هل بأرض من سلام، وكأنها كانت داركفر وكانت تحيتهم بغير السلام، وقد تكون (أنى)؛ بمعنى: أين، فهي ظرف مكان و (بأرضك) محله النصب على الحال من السلام.
(فقال)، وفي رواية: (قال): (أنا موسى فقال) له الخضر: أنت (موسى بني إسرائيل): فهو خبر لمبتدأ محذوف، (قال: نعم) أنا موسى بني إسرائيل، فهو مقول القول ناب عن الجملة، وهذا يدل على أن الأنبياء ومن دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علَّمهم الله تعالى؛ لأنَّ الخضر لو كان يعلم كل غيب؛ لعرف موسى قبل أن يسأله.
(قال: هل): للاستفهام، (أتبِعُك على أن): مصدرية؛ أي: على اتباعي إياك، (تعلمني مما علمت)؛ أي: من الذي علمك الله علمًا، (رشدًا) فهو منصوب صفة لمصدر
%ص 78%
محذوف.
روي أنه قال له الخضر: كفى بالتوراة علمًا وببني إسرائل شغلًا، فقال له موسى: إن الله أمرني بهذا، و (من) في (مما علمت) للتبعيض، فطلب تعليم بعض ما علِّم، كأنه يقول: لا أطلب منك أن تجعلني مساويًا لك في العلم؛ بل أطلب منك أن تفيدني بعض ما علِّمت.
قال البيضاوي: ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطًا في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقًا، وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعًا له وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه، انتهى.
وقال الإمام الزمخشري: لا غضاضة بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله، وإنما يغضُّ منه أن يأخذ ممن دونه، قال الكرماني: هذا الجواب لا يتم على تقدير ولا يته.
أجاب في «عمدة القاري»: بأن الزمخشري قائل بنبوته كما ذهب إليه الجمهور؛ بل هو رسول وينبغي اعتقاد ذلك؛ لئلَّا يتوسل به أهل الزيغ والضلال والفساد من المبتدعة الملاحدة في دعواهم أن الولي أفضل من النبي نعوذ بالله من ذلك.
وقال ابن حجر: هذا الجواب فيه نظر؛ لأنَّه يستلزم نفي ما أوجب.
وأجابه في «عمدة القاري»: بأن هذه الملازمة ممنوعة فلو بين وجهها؛ لأجيب عن ذلك، والله تعالى أعلم؛ فافهم.
(قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا)؛ لأنك ترى أمورًا منكرة بحسب الظاهر ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات، (يا موسى؛ إنِّي على علم من علم الله علمنيه) (من) للتبعيض، والجملة من الفعل، والفاعل، والمفعولين أحدهما: ياء المفعول والثاني: الضمير الذي يرجع إلى العلم، محلها الجر صفة لـ (علم)، (لا تعلمه أنت): صفة أخرى، فالأولى من الصفات الإيجابية والثانية من الصفات السلبية.
(وأنت على علم): مبتدأ وخبر عطف على قوله: (إني على علم)، (علمك الله): جملة من الفعل، والفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: علَّمك الله إياه، والجملة صفة لعلم، وفي رواية: (علمكه الله) بهاء الضمير الراجع إلى العلم، (لا أعلمه): صفة أخرى، وهذا لا بدَّ من تأويله؛ لأنَّ الخضر كان يعرف من علم الشرع ما لا غنى للمكلف عنه، وموسى كان يعرف من علم الباطن ما لا بدَّ منه، كما لا يخفى، قاله القسطلاني.
(قال: ستجدني إن شاء الله صابرًا)؛ بالنصب مفعول ثاني لـ (ستجدني)، وقوله: (إن شاء الله) معترض بين المفعولين؛ أي: غير منكر.
وفيه: دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى خلافًا للمعتزلة.
(ولا أعصي لك أمرًا): في محل نصب عطفًا على (صابرًا)؛ أي: ستجدني صابرًا وغير عاصٍ، وتعليق الوعد بالمشيئة إما للتيمن أو لعلمه بصعوبة الأمر؛ فإنَّ مشاهدة الفساد والصبر على خلاف المعتاد شديد بلا خلف، أفاده البيضاوي وغيره.
(فانطلقا) على السَّاحل حال كونهما، (يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة)؛ أي: مركب، وأول من أحدثه نوح عليه السلام قبل الطوفان، فكان كل يوم يشتغل بها فيأتي قومه بالليل فيخرِّبوها، فيأتي نهارًا يجدِّدها إلى أن خلق الله له الكلاب تحرسها إلى أن تمَّت وركب فيها.
(فمرت بهما سفينة): (فعيلة)؛ بمعنى: (فاعلة) كأنها تسفن الماء؛ أي: تقشره وتشقه، (فكلموهم)؛ أي: كلَّم موسى والخضر أصحاب السفينة، والجمع إمَّا للتعظيم أو لما فوق الواحد، وما قيل: إنهم ثلاثة موسى، والخضر، ويوشع؛ يردُّه تثنية الضمير في (فانطلقا يمشيان ليس لهما، فمرت بهما) فإنه راجع إلى موسى والخضر؛ فليحفظ.
(أن)؛ أي: لأن، (يحملوهما)؛ أي: لأجل حملهم إياهما معهم فيها، (فعُرف)؛ بضم العين، (الخضر)؛ أي: عرف أهل السفينة الخضر كأنه معلوم عندهم يرونه في بعض الأوقات، لما روي عن النبي الأعظم عليه السلام أنه قال: «كان الخضر ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فلم يقبل وهرب منه ولحق بجزائر البحر، فطلبه أبوه فلم يقدر عليه»، كذا في «حواشي شيخ زاده».
(فحملوهما)؛ أي: موسى والخضر، (بغير نَول)؛ بفتح النون؛ أي: بغير أجرة، والنول بالواو: الجعل، وأما يوشع؛ فإنه لم يركب معهما، فتركاه قبيل الصخرة؛ لأنَّه لم يقع له ذكر بعد ذلك، وما قيل: إنه روي: (فحملوهم)؛ بالجمع وهو يقتضي أنه ركب معهم: ممنوع بإعادة ضمير التثنية فيما سبق عليهما، أو للتعظيم، أو لما فوق الواحد؛ فافهم.
(فجاء عُصفور)؛ بضم العين طير مشهور سمي به؛ لأنَّه عصى وفر، وقيل: إنه الصرد، (فوقع على حرف) طرف، (السفينة فنقر نقرةً)؛ بالنصب على المصدرية، (أو نقرتين) عطف عليه، (في البحر)؛ أي: شرب منه، وهو يدل على أن البحر عذب؛ لأنَّ الملح لا يشربه الحيوان بأنواعه.
(فقال الخضر) حين رأى نقرة العصفور، وقد رآها موسى أيضًا، (يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله)؛ أي: معلوماته، (إلا كنقرة هذا العصفور في البحر)، وعند المؤلف: (ما علمي وعلمك في جنب الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر)؛ أي: في جنب معلوم الله، فيطلق العلم ويراد به المعلوم، من إطلاق المصدر وإرادة الفعل، وقيل: إن (إلا)؛ بمعنى: ولا، كأنه قال: ما نقص علمي وعلمك ولا ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر؛ لأنَّ علم الله لا ينقص بحال، وقيل: (نقص)؛ بمعنى: أخذ؛ لأنَّ النقص أخذ خاص، والمقصود منه التشبيه في القلة والحقارة لا المماثلة في كل الوجوه، كما بسطه في «عمدة القاري».
(فعمَد)؛ بفتح الميم، كضرب، (الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه)، وعند المؤلف: (فوتد فيها وتدًا)، وجاء أيضًا: (فعمد إلى قدوم فخرق به)، وقيل: (أخذ فأسًا فخرق لوحًا حتى دخلها الماء فحشاها موسى بثوبه)، والذي ذكره المفسرون أنه قلع لوحين مما يلي الماء ولعلَّه كان شقين.
(فقال) له (موسى) عليه السلام: هؤلاء (قومٌ): مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ما علمت، أو هم قوم، (حملونا): جملة صفة لـ (قوم)، (بغير نَول)؛ بفتح النون: الجعل، والمراد به الأجرة، (عمَدت)؛ بفتح الميم، (إلى سفينتهم فخرقتها لتُغرِق)؛ بضم الفوقية وكسر الراء، على الخطاب مضارع أغرق؛ أي: لأنَّ تغرق (أهلهَا)؛ بالنصب على المفعولية، وفي رواية: (لتَغرَق)؛ بفتح الفوقية وفتح الراء، على الغيبة مضارع غرق، و (أهلُها)؛ بالرفع على الفاعلية.
(قال) له الخضر: (ألم أقل: إنك لن تستطيع معي صبرًا)؛ فذكره بما قال له من قبل، (قال) موسى (لا تؤاخذني بما نسيت)؛ أي: بالذي نسيته، أو بشيء نسيته؛ يعني: وصيته بأن لا يعترض عليه، أو بنسياني إياها، وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها، وقيل: أراد بالنسيان: الترك؛ أي: لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة.
فإن قلت: قول الخضر: (إنك لن تستطيع معي صبرًا)، وقول موسى: (ستجدني إن شاء الله صابرًا) يستلزم صدور الكذب من أحدهما، فإن كل واحد من القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وصدوره من أحدهما ينافي عصمة الأنبياء.
قلت: وأجيب: بأنه لم يحصل صدور الكذب من واحد منهما، أما من الخضر؛ فلتحقق عدم الصبر من موسى باستخباره عما رأى من الخضر وأنكره نظرًا لظاهره، وأما من موسى؛ فإنه قد استثنى في جوابه (وقال: ستجدني إن شاء الله صابرًا) فإن التعليق بالمشيئة يدفع الحنث وينافي الكذب، كمن قال لآخر: آتيك غدًا إن شاء الله تعالى، ولم يأته في الغد لا يكون كذبًا.
وقال ابن عباس: لما خرق الخضر السفينة؛ تنحى موسى بناحية ثم قال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل كنت أتلو في بني إسرائيل كتاب الله غدوة وعشية وآمرهم فيطيعون، فقال له الخضر: يا موسى تريد أن أخبرك بما حدَّثت به نفسك، قال: نعم، قال: قلت: كذا وكذا، قال: صدقت، زاد في رواية أبي ذر: (ولا ترهقني من أمري عسرًا)؛ أي: ولا تغشني عسرًا من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسي، فإن ذلك يعسر علي متابعتك، (فكانت) المسألة، (الأولى من موسى) عليه السلام، (نسيانًا)؛ بالنصب خبر كان.
وقال ابن عباس: إنَّما سمي الإنسان إنسانًا؛ لأنَّه عهد إليه فنسي، وفي رواية: (نسيانُ)؛ بالرفع على أن (كانت): تامة، و (الأولى): مبتدأ، و (نسيان): خبره، أو يكون (كانت): زائدة والتقدير: فالأولى من موسى نسيان، (فانطلقا)؛ أي: موسى والخضر بعد خروجهما من السفينة.
(فإذا): للمفاجئة، (غلام)؛ بالرفع
%ص 79%
مبتدأ، وقد تخصَّص بالصفة وهي قوله، (يلعب مع الغلمان) والخبر محذوف تقديره: فإذا غلام يلعب مع الغلمان بالحضرة أو نحوها، وكانوا عشرة وهو أظرفهم وأوضأهم، قال ابن عباس: كان الغلام لم يبلغ الحنث، وقال الضحاك: كان غلامًا يعمل بالفساد ويتأذَّى منه أبواه، وقال الكلبي: كان الغلام يسرق المتاع بالليل فإذا أصبح؛ لجأ إلى أبويه فيحلفان دونه شفقة عليه، ويقولان: لقد بات عندنا، واختلف في اسمه: فقال الضحاك: جيسون، وقال شعبة: جيسور، وقال وهب: كان اسم أبيه: ملاس، واسم أمه: رحمى.
(فأخذ الخضر برأسه من أعلاه)؛ أي: مسك الخضر رأس الغلام فجرِّه، (فاقتلع رأسه بيده) وعند المؤلف في (بدء الخلق): (فأخذ الخضر برأسه، فقطعه بيده هكذا) أومأ سفيان بأطراف أصابعه (كأنه يقطف شيئًا)، وفي «التفسير»: ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا مع الغلمان؛ فاقتلع رأسه فقتله، وجاء فوجد غلمانًا يلعبون فأخذ غلامًا كافرًا ظريفًا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين.
وقال الكلبي: صرعه ثم نزع رأسه من جسده فقتله، وقيل: رفعه برجله فقتله، وقيل: ضرب رأسه بالجدار حتى قتله، وقيل: أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات، والفاء في (فاقتلع) للدلالة على أنه لما رآه اقتلع رأسه من غير تروٍّ واستكشاف حال.
(فقال موسى) للخضر عليهما السلام، (أقتلت نفسًا زكيَّة)؛ بتشديد التحتية؛ أي: طاهرة من الذنوب، وهي أبلغ من زاكيَة بالتخفيف، وقال أبو عمرو بن العلاء: الزاكية التي لم تذنب قطٌّ، والزكية التي أذنبت ثم غفرت، ولهذا اختار قراءة التخفيف، فإنها كانت صغيرة لم تبلغ الحلم، والهمزة في (أقتلت) ليست للاستفهام الحقيقي، فهي كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6].
وكانت قصة الغلام في أُبُلَّة؛ بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام المفتوحة بعدها هاء، مدينة بالقرب من البصرة وعبادان، وقيل: بأَيْلا؛ بفتح الهمزة وسكون التحتية واللام الممدودة، مدينة على ساحل بحر القلزم على طريق الحاج المصري، وزعم قوم: أن الغلام كان بالغًا يعمل الفساد واحتجوا بقوله: (بغير نفس) الباء للمقابلة، والقصاص إنَّما يكون في حق البالغ ولم يرها قد أذنبت ذنبًا يقتضي قتلها، أو قتلت نفسًا فتقاد به، نبه على أن القتل إنَّما يباح حدًّا أو قصاصًا وكلا الأمرين منتفٍ.
وأجاب الجمهور: بأنا لا نعلم كيف كان شرعهم، ولعله كان يجب على الصبي كما يجب في شرعنا عليه غرامة المتلفات، أو المراد به: التنبيه على أنه قتل بغير حق.
(قال) الخضر لموسى عليهما السلام (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا)؛ بزيادة (لك) في هذه المرة زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية.
(قال) سفيان (بن عُيينة)؛ بضم العين، (وهذا)؛ أي: زيادة (لك)، (أوكد)، واستدل عليه بزيادة (لك) في هذه المرة، كذا في «الكشاف»، ولما سمع الخضر مقالة موسى؛ اقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه، فإذا في عظم كتفه؛ مكتوب: كافر لا يؤمن بالله أبدًا، وفي «مسلم»: (وأما الغلام؛ فطبع يوم طبع كافرًا، وكان أبواه قد عطفا عليه، فلو أنه أدرك؛ أرهقهما طغيانًا وكفرًا)، قال المؤلف: (وكان ابن عباس يقرأ: وكان أبواه مؤمنين وهو كان كافرًا)، وعنه: (أنه قرأ: وأما الغلام؛ فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين) , كذا في «عمدة القاري».
(فانطلقا): موسى والخضر (حتى أتيا)، وفي رواية: (حتى إذا أتيا) موافقة للقرآن، (أهل قرية): هي أنطاكية، كما قاله ابن عباس، وقيل: قرية من قرى الروم يقال لها: ناصرة وإليها تنسب النصارى، وقيل: إنها باجروان مدينة بنواحي أرمينية من أعمال شروان عندها عين الحياة، قال أبي بن كعب: وكان أهلها لئام وافياها بعد غروب الشمس.
(استطعما أهلها)؛ أي: سألاهم الطعام، فإن آخر كسب الجائع الإقدام على المسألة والاستطعام، وهو أمر مباح في كل الشرائع، وربما يجب ذلك عند خوف التلف والضرر الشديد، (فأبوا أن يضيِّفوهما)؛ أي: من أن يضيفوهما، فـ (أن) مصدرية؛ أي: من تضييفهما، و (أبوا)؛ بالموحدة من الإباء وهو الامتناع؛ أي: امتنعوا من استطعامهما، وروي أن أهل القرية لما سمعوا نزول هذه الآية؛ استحيوا وجاؤوا إلى النبي الأعظم عليه السلام بحمل من الذهب، وقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء الموحدة تاء مثناة فوقية حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما؛ أي: إتيان أهل القرية إليهما لأجل الضيافة، وقالوا غرضنا منه أن يدفع عنا هذا اللؤم، فامتنع النبي الأعظم عليه السلام، وقال: إن تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله وهو يوجب القدح في الآلهية فعلمنا به أن تغيير النقطة الواحدة يوجب بطلان [2] الربوبية، كذا في «حواشي شيخ زاده»، ولم يجدوا تلك الليلة في تلك القرية قرى ولا مأوى وكانت ليلة باردة.
(فوجدا فيها)؛ أي: في القرية، (جِدارًا)؛ بكسر الجيم، وكانا قد التجأا [3] إليه في تلك الليلة وهو على شاطئ الطريق، قيل: كان سمكه مئتي ذراع بذراع تلك القرية، وطوله على وجه الأرض خمس مئة ذراع، وعرضه خمسون ذراعًا.
(يريد أن): مصدرية، (ينقض)؛ أي: يريد الانقضاض؛ أي: الإسراع بالسقوط، وإسناد الإرادة إلى الجدار مجاز؛ لأنَّه لا إرادة له حقيقة، والمراد هنا المشارفة على السقوط، وقال الكسائي: إرادة الجدار هنا ميله، وعند المؤلف: (مائل وكان أهل القرية يمرون تحته على خوف)، (قال الخضر بيده)؛ أي: أشار بها، وفي رواية: (فمسحه بيده)، (فأقامه) كالطين يمسحه القلال فاستوى، وعن ابن عباس: أنه هدمه ثم بناه، وقيل: أقامه بعود عمده به، وفيه إطلاق القول على الفعل، وفي رواية: (يريد أن ينقضَّ فأقامه).
(قال موسى)، وفي رواية: (فقال له موسى)؛ أي: للخضر (لو شئت لاتَّخَذت)؛ بهمزة وصل، وتشديد الفوقية، وفتح الخاء، على وزن: (افتعلت) من تخذ؛ كاتبع وليس من الأخذ عند البصريين، وفي رواية: (لتخذت)؛ أي: لاتخذت، (عليه أجرًا): فيكون لنا قوتًا وبلغة على سفرنا إذ استضفناهم؛ فلم يضيفونا، فكأنه لما رأى الحرمان، ومساس الحاجة، واشتغاله بما لا يعنيه؛ لم يتمالك نفسه، (قال) الخضر لموسى: (هذا فراق بيني وبينك): بإضافة الـ (فراق) إلى الـ (بين) إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع، والإشارة في قوله: (هذا) إلى الفراق الموعود بقوله: (فلا تصاحبني)، أو تكون الإشارة إلى السؤال الثالث؛ أي: هذا الاعتراض سبب للفراق أو إلى الوقت؛ أي: هذا الوقت وقت الفراق، أفاده في «عمدة القاري».
(قال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى) إخبار، ولكن المراد منه الإنشاء لأنَّه دعاء له بالرحمة، (لودِدْنا)؛ بكسر الدال الأولى وسكون الثانية، واللام فيه جواب قسم محذوف وكلمة (لو) هنا؛ بمعنى: أن الناصبة للفعل؛ كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، والتقدير: والله، (لو صبر)؛ أي: صبر موسى؛ أي: لأنَّه لو صبر؛ لأبصر أعجب الأعاجيب، (حتى يقصُّ) على صيغة المجهول، (علينا من أمرهما): مفعول ما لم يسمى فاعله.
وهذه القصة كانت حين كان موسى في التيه، فلما فارقه الخضر؛ رفع إلى قومه وهم في التيه وقيل: كانت قبل خروجه من مصر، وما فعله الخضر كله كان بوحي يدل عليه قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]؛ لأنَّ هذه الأفعال لا يجوز لأحد أن يفعلها إلا بالوحي.
وفي الحديث: إثبات كرامات الأولياء، وصحة الولاية، وجواز الإجارة، وركوب البحر والتزود للسفر، وهو لا ينافي التوكل خلافًا لمن نفاه، والحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه.
وفيه: إذا تعارضت مفسدتان؛ يجوز دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما.
وفي شهر ذي القعدة سنة ست وسبعين ومئتين وألف، وقع القتال بين الطائفة الدروز وبين النصارى التي في قرية زحلة، وقرى البقاع، وجبل بيروت فانتصرت الدروز عليهم وصار الواحد منهم يقاوم المئة من النصارى، وخشي الوالي الذي [4] بدمشق أحمد
%ص 80%
رفعت باشا على دمشق فحصن القلعة، ووقع بينه وبين أهل الديوان مشاورات، ولو بسطنا الكلام؛ لمُلِئ كراريس، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكان ذلك بسبب طلوع النجم عند قمر ذي [5] القعدة فحصل بينهما قران، وخرج كوكب الذنب من قبل القبلة والأول بين المغرب والشمال، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
==========
[1] في الأصل: (فوجد).
[2] في الأصل: (بصلان).
[3] في الأصل: (التجأ).
[4] في الأصل: (التي).
[5] في الأصل (ذا)، وليس بصحيح.

==================
[1] في الأصل: (فوجد).
[2] في الأصل: (بصلان).
[3] في الأصل: (التجأ).
[4] في الأصل: (التي).
[1] في الأصل: (فوجد).
[2] في الأصل: (بصلان).
[3] في الأصل: (التجأ).
[4] في الأصل: (التي).

(1/221)


(45) [باب من سأل وهو قائم عالمًا جالسًا]
هذا (باب من)؛ أي: الذي (سأل وهو قائم عالمًا) بالنصب مفعول (سأل)، (جالسًا): صفته، والواو للحال؛ يعني: أن سؤال القائم العالمَ الجالسَ ليس من باب من يتمثل له الناس قيامًا، بل هو جائز إذا سلمت النفس فيه من الإعجاب.

==================

(1/222)


[حديث: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله]
123# وبه قال: (حدثنا عثمان): هو ابن أبي شيبة (قال: أخبرني) بالإفراد، وفي رواية: (حدثنا) (جَرير)؛ بفتح الجيم، هو ابن عبد الحميد، (عن منصور): هو ابن المعتمر، (عن أبي وائل)؛ بالهمز، شقيق بن سلمة، (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، (قال: جاء رجل) لم يسمَّ (إلى النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) إنَّما عدَّاه بكلمة الانتهاء مع أن (جاء) متعدٍّ بنفسه؛ إشعارًا بأن المقصود: بيان انتهاء المجيء إليه، (فقال) عطف على فـ (جاء): (يا رسول الله؛ ما القتال): مبتدأ وخبره وقع مقول القول (في سبيل الله؟)؛ أي: طريقه المرضي، (فإن أحدنا) الفاء للتفصيل (يقاتل غضبًا)؛ بالنصب على أنه مفعول له، والغضب حالة تحصل عند غليان الدم في القلب؛ لإرادة الانتقام، (ويقاتل حَميَّةً)؛ بفتح الحاء وتشديد التحتية، بالنصب على أنه مفعول له، وهي المحافظة على الحرم، أو هي الأنفة والغيرة والمحاماة عن العشيرة، والأول إشارة إلى مقتضى القوة الغضبية، والثاني: إلى مقتضى القوة الشهوانية، أو الأول: لأجل دفع المضرة، والثاني: لأجل جلب المنفعة.
(فرفع) النبي الأعظم عليه السلام (إليه)؛ أي: إلى السائل (رأسه) الشريف (قال)؛ أي: أبو موسى أو من دونه: (وما رفع إليه رأسه إلا أنه) أي: السائل (كان قائمًا) وهو استثناء مفرغ، و (أن) مع اسمها وخبرها في تقدير المصدر؛ أي: ما رفع لأمر من الأمور إلَّا لقيام الرجل، (فقال) عليه السلام: (من قاتل لتكون)؛ أي: لأن تكون، واللام: لام كي (كلمة الله)؛ أي: دعوته إلى الإسلام، وقيل: هي قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله (هي العليا): إما ضمير فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله تعالى في العلو، وأنها المختصة به دون سائر الكلام؛ (فهو) مبتدأ (في سبيل الله) خبره (عز وجل)، والجملة خبر لقوله: (مَن)، وإنما دخلت الفاء لتضمن (من) معنى الشرط، ويدخل فيه من قاتل لطلب الثواب في الآخرة، أو لطلب رضا الله تعالى، كما في «عمدة القاري».
قال: فإن قلت: السؤال عن ماهية القتال، والجواب ليس عنها، بل عن المقاتلة.
قلت: فيه الجواب وزيادة، أو أن القتال بمعنى: اسم الفاعل؛ أي: المقاتلة؛ بقرينة لفظ (فإن أحدنا)، فيكون عبر (بما) عن العاقل، والجواب جمع معنى السؤال لا بلفظه؛ لأنَّ الغضب والحمية قد يكونان لله أو لغرض الدنيا، فأجابه بالمعنى مختصرًا.
وفي الحديث: أنه لا بأس أن يكون المستفتي واقفًا وكذا طالب الحاجة.
وفيه: أن الأعمال إنَّما تحسب بالنية الصالحة، وأن الإخلاص شرط في العبادة، فمن كان الباعث له الدنياوي؛ فلا شك في بطلان عمله، ومن كان الباعث الديني أقوى من الدنياوي فقيل: بإبطال العمل، والجمهور: أن العمل صحيح، لا سيما في الفرائض؛ فإنَّ أئمتنا قالوا: لا رياء في الفرائض؛ أي: لا يدخلها الباعث الدنياوي، وقالوا: إذا ابتدأ العمل لله ثم عرضه الإعجاب؛ فإنَّه لا يضره ويكون مثابًا عليه ثوابًا كاملًا، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 81%

==================

(1/223)


(46) [باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار]
==================
هذا (باب السؤال) [1] من المستفتي (والفُتيا)؛ بضم الفاء من المفتي والفتوى؛ بفتح الفاء: الجواب عن حكم الحادثة (عند رمي الجِمار)؛ بكسر الجيم جمع: جمرة، وهي الحصاة، والمراد: جمرات المناسك.

(1/224)


[حديث: رأيت النبي عند الجمرة وهو يُسأل]
124# وبه قال: (حدثنا أبو نُعَيْم)؛ بضم النون وفتح العين: الفضل بن دكين (قال: حدثنا عبد العزيز) بن عبد الله (ابن أبي سلمة) الماجَِشُون؛ بفتح الجيم وكسرها، وضم الشين المعجمة، آخره النون، المدني التيمي، وإنما نسبه لجده؛ لشهرته به، وإنما سمي به؛ لأنَّ وجنتيه كانتا حمراوين، فسمي بالفارسية: المايكون، ثم عربه أهل المدينة بالماجشون، وقيل: إن سُكَينة_بضم المهملة_ بنت الحسين بن علي رضي الله عنهما لقبته بذلك، المتوفى ببغداد سنة أربع وستين ومئة، وصلى عليه المهدي، ودفن في مقابر قريش، (عن الزهري) محمد بن مسلم، (عن عيسى بن طلحة) بن عبيد الله القرشي التيمي، (عن عبد الله بن عمرو)؛ أي: ابن العاصي رضي الله عنه، (قال: رأيت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عند الجمرة)؛ أي: جمرة العقبة؛ لأنها إذا أطلقت كانت هي المرادة، فـ (أل) للعهد أو (أل) للجنس فيشمل كل جمرة كانت من الجمرات الثلاث، (وهو) في حجة الوداع واقف (يُسأل)؛ بضم أوله على صيغة المجهول والواو للحال، (فقال رجل) لم يسمَّ: (يا رسول الله؛ نحرت) هديي [1] (قبل أن أرمي) الجمرة، و (أن) مصدرية؛ أي: قبل الرمي، (قال) عليه السلام، وفي رواية: (فقال): (ارم ولا حرج) عليك.
(قال) رجل (آخر) لم يسمَّ، وفي رواية: (وقال)، وفي أخرى: (فقال)، وكلاهما للعطف على ما تقدم: (يا رسول الله؛ حلقت) رأسي (قبل أن أنحر) الهدي، (قال) عليه السلام: (انحر) هديك (ولا حرجَ) عليك، فـ (لا) لنفي الجنس، و (حرج): اسمها مبني على الفتح، وخبرها محذوف تقديره: عليك.
(فما سُئل) عليه السلام، بصيغة المجهول (عن شيء) من أعمال الحج (قُدم ولا أُخر)؛ بضم أولهما على صيغة المجهول، وفي الأول حذف؛ أي: ولا قدم ولا أخر (إلا قال) للسائل: (افعل) ذلك (ولا حرج) عليك، ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذا؛ لأنَّكم فعلتموه على الجهل منكم لا على قصد منكم خلاف السنة، وكانت السنة خلاف ذلك؛ فإنَّ الترتيب بين أفعال المناسك واجب عندنا يتعلق الدم بتركه، كما قدمناه في باب (الفتيا وهو واقف على ظهر الدابة).
واعترض بأنه ليس في الحديث معنى ما ترجم له؛ لأنَّ قوله: عند الجمرة ليس فيه إلا السؤال وهو بموضع الجمرة وليس فيه أنه في خلال الرمي، وأجاب في «عمدة القاري»: بأن قوله: (عند رمي الجمار) أعم من أن يكون مقارنًا لشروعه في رمي الجمار، أو في خلال الرمي، أو عقيب الفراغ منه، انتهى؛ فليحفظ.
%ص 81%
==========
[1] في الأصل (هدي)، ولعل المثبت هو الصواب.

==================

(1/225)


(47) [باب قول الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا}]
هذا (باب قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]) وأراد بهذه الآية التنبيه على أن من العلم أشياء لم يطلع الله عليها نبيًا ولا غيره.

==================

(1/226)


[حديث: بينا أنا أمشي مع النبي في خرب المدينة]
125# وبه قال: (حدثنا قيس بن حفص) بن القعقاع؛ بعين مهملة بين القافين، الدارمي أبو محمد البصري، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا عبد الواحد): هو ابن زياد أبو بشر البصري، (قال: حدثنا الأعمش سليمان)، وفي رواية زاد: (ابن مهران) (عن إبراهيم): هو ابن يزيد النخعي، (عن علقمة): هو ابن قيس النخعي، (عن عبد الله): هو ابن مسعود رضي الله عنه.
(قال بينا) أصلها: بين؛ فأشبعت الفتحة بالألف، والعامل فيها: جوابها وهو قوله: (فمرَّ ... ) إلخ: لا يقال: الفاء الجزائية تمنع عمل ما بعدها فيما قبلها، فلا يعمل مرَّ في (بينا)؛ لأنا نقول: بين الفاء وإذا أخوة؛ حيث استعملت الفاء هنا موضع إذا، والغالب أنَّ جواب (بينا) يكون بإذا أو إذا، وإن كان الأصمعي يستفصح تركهما، وتمامه في «عمدة القاري».
(أنا أمشي مع النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: مصاحبًا له (في خِرَب المدينة) المنورة؛ بكسر الخاء المعجمة، وفتح الراء، آخره موحدة، جمع: خربة، أو بفتح الخاء، وكسر الراء؛ جمع: خرب؛ مثل: كلمة وكلم يستوي فيه المفرد والجمع، وتحقيقه في «عمدة القاري»، وما زعمه ابن حجر مخالف لأهل اللغة، وعند المؤلف في غير هذا الموضع: (حَرْث بالمدينة)؛ بالحاء المهملة المفتوحة، وسكون الراء، والثاء المثلثة، وكذا رواه مسلم في جميع طرقه.
(وهو) عليه السلام (يتوكأ)؛ أي: يعتمد، والجملة إسمية وقعت حالًا (على عَسِيْب)؛ بفتح العين، وكسر السين المهملتين، وسكون التحتية، وهو العصا من جريد النخل (معه): صفة لـ (عسيب)، (فمر بنفَر)؛ بفتح الفاء: عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة (من اليهود)؛ باللام وبدونها معرفة، والمراد به: اليهوديون فحذفوا النسبة؛ للفرق بين المفرد والجمع، وسمُّوا بذلك؛ لتهوُّدهم؛ أي: تمايلهم في قراءة التوراة، وهذا بيان لـ (النفر).
(فقال بعضهم لبعض سلوه)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (عن الروح)، وعن فئة فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها، (وقال) وفي رواية: (فقال) (بعضهم: لا تسألوه لا يجيء)؛ بالرفع على الاستئناف، والجزم على جواب النهي، والنصب على معنى: أن (بشيء تكرهونه)، فإنهم قالوا: إن فسَّر ذلك كله؛ فليس بنبي، وإن لم يفسر ذلك؛ فليس بنبي، وإن فسَّر البعض وأمسك عن البعض؛ فهو نبي، وذلك يكرهونه؛ لأنَّه مذكور عندهم في التوراة، وهو دليل على نبوته.
(فقال بعضهم) لبعض والله: (لنسألنه) عن ذلك، فهو جواب قسم محذوف، (فقام رجل منهم) لم يسم، (فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟) وما الفئة التي فقدوا أول الزمان، وما الرجل الذي بلغ مشرق الأرض ومغربها، وسؤالهم عن الروح مشكل؛ لأنَّ الروح جاء في القرآن على معان منها: القرآن، وجبريل، أو الملائكة، أو عيسى، أو ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه يسبح الله إلى يوم القيامة، وكان ابن عباس يكتم أمر الروح، والتحقيق أنَّ سؤالهم كان عن روح بني آدم وغيره من الحيوان؛ لأنَّه مذكور عندهم في التوراة أنَّه لا يعلمه إلا الله.
(فسكت) عليه السلام لمَّا سألوه، قال ابن عباس (فقلت) في نفسي: (إنه يوحى إليه) في ذلك؛ أي: أوحي إليه، وعبَّر بالمضارع عن الحال، (فقمت) عنه حتَّى لا أكون مشوِّشًا عليه، أو فقمت حائلًا بينه وبينهم، (فلما انجلى)؛ أي: انكشف وذهب (عنه) عليه السلام الغمُّ الذي كان يغشاه حال الوحي على عادته عليه السلام.
(فقال) وفي رواية: (قال: {أَمْ حَسِبْتَ [1] أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ} ... [الكهف: 9]) إلى آخر القصة، و (قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ} ... [الكهف: 83]) إلى آخر القصة، وقال: ({وَيَسْأَلُونَكَ})؛ بإثبات الواو كالتنزيل، وفي رواية: بدونها ({عَنِ الرُّوحِ قُلِ}) يا محمد لهم ({الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي})؛ أي: من الأمور التي اختصَّ الله بعلمها.
والأكثر على أنَّ النبي الأعظم عليه السلام لم يكن عالمًا به، لكن قال جماعة: ليس في الآية دليل على أن الروح لا تعلم، ولا على أن النبي الأعظم عليه السلام لم يكن يعلمها، فاختلفوا فيها فقيل: إنَّها جسم لطيف خلقه الله تعالى وأجرى العادة بأنَّ الحياة لا تكون مع فقده، فإذا شاء موته؛ أعدم هذا الجسم منه عند إعدام الحياة، وهذا الجسم وإن كان حيًّا فلا يحيى إلا بحياة تختصُّ به، وهو ممَّا يصحَّ عليه البلوغ إلى جسم ما من الجسم، وبكونه في مكان في العالم أو في حواصل طيور [2] خضر.
وقيل: إنَّه صورة لطيفة على صورة الجسم لها عينان، وأذنان، ويدان، ورجلان في داخل الجسم يقابل كلُّ جزء منه وعضو نظيره من البدن، وهو خيال، وقيل: إنَّها جوهر محدث قائم بنفسه غير متحيِّز وإنَّه ليس بداخل الجسم ولا خارج عنه، وليس متصلًا به، ولا منفصلًا عنه، واعترض عليه بوجوه.
والذي اعتمده أهل السنة من المتكلَّمين: أنَّها جسم لطيف في البدن سار فيه سريان ماء الورد فيه، وقد ذكر بعضهم في الروح سبعين قولًا، واختلف هل الروح والنفس واحد أم لا؟ والأصح أنَّهما متغايران؛ لأنَّ النفس الإنسانية هي الأمر الذي يشير إليه كل واحد منا بقوله: أنا، وأكثر الفلاسفة لم يفرَّقوا بينهما، وقال بعض الحكماء والغزالي: النفس المجردة؛ أي: غير جسم ولا جسماني.
(«وما أوتوا»)؛ بصيغة الغائب في أكثر نسخ «الصحيحين»، وفي رواية: ({وَمَا أُوتِيتُم})؛ بالخطاب؛ موافقةً للمرسوم ({مِّنَ العِلْمِ})، وهو خطاب عامٌّ؛ لأنَّه عليه السلام لمَّا قال لهم ذلك؛ قالوا: (نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؛ فقال: «بل نحن وأنتم»)، وقيل: خطاب لليهود خاصة؛ لأنَّهم قالوا للنبي الأعظم عليه السلام: (قد أوتينا التوراة فيها، وقد تلوت {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269])، فقيل لهم: إن َّعلم التوراة قليل في جنب علم الله تعالى، ولذا قال ({إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]): استثناء من (العلم)؛ أي: إلا علمًا قليلًا، أو من الإيتاء؛ أي: إلا إيتاءً قليلًا، أو من الضمير؛ أي: إلا قليلًا منكم.
(قال الأعمش)؛ أي: سليمان بن مهران: (هكذا في)، وفي رواية: (كذا في)، وفي أخرى: (هكذا هي في) (قراءتنا)؛ يعني: (أوتوا)؛ بصيغة الغائب، قال في «عمدة القاري»: وليست هذه القراءة في السبعة، ولا في المشهور في غيرها، وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب القراءة من قراءة الأعمش، وذكر مسلم الاختلاف في هذه اللفظة عن الأعمش، وهي مخالفة للثابت في المصحف؛ فهي قراءة شاذة.
واختلف الأصوليِّون فيما نقل آحادًا، ومنه: القراءة الشاذة؛ كمصحف ابن مسعود وغيره هل هو حجَّة أم لا؟
فأثبته إمامنا الإمام الأعظم والجمهور، ونفاه الشافعي، وبنى عليه الإمام الأعظم وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين؛ بما نقل عن مصحف ابن مسعود من قوله: (ثلاثة أيام متتابعات)، فإذا لم يثبت كونه قرآنًا؛ فلا أقلَّ من كونه خبرًا، وقال الشافعي: إنَّ الراوي له إن ذكر أنه قرآن؛ فخطأ، وإلَّا فهو متردِّد بين أن يكون خبرًا أو مذهبًا له،
%ص 82%
فلا يكون حجَّة بالاحتمال ولا خبرًا.
وقال الغزالي والرازي: خبر الواحد دليل على أنَّه كذب، وهو خطأ قطعًا، وهو لا يجوز العمل به، وردَّ بأن هذا خبر صحابي أو خبر عنه، وقول الصحابي حجة عنده، وأيُّ دليل قام على أنَّه خبر مقطوع بكذبه؛ فهو ممنوع؛ فليحفظ.
وقال عياض: (القراءة الشاذة لا يحتجُّ بها في حكم، ولا يقرأ بها في صلاة)، وكأنَّه مذهب مالك.
أقول: والقرآن الذي تجوز فيه الصلاة اتفاقًا: هو المضبوط في مصاحف [3] الأئمة التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار، وهو الذي أجمع عليها الأئمة العشرة، وهو المتواتر جملة وتفصيلًا؛ فما فوق السبعة إلى العشرة غير شاذٍّ، وإنَّما الشاذُّ ما وراء العشرة، وهو الصحيح، كذا قاله زين الدين قاسم في فتاويه، فإن قرأ في الصلاة بالشاذِّ؛ فإن كان المقروء من مكان القصص، والأمر، والنهي؛ تفسد صلاته، وإن كان ذكرًا أو تنزيهًا؛ فلا تفسد ولا يجزئ لو اقتصر عليه، فإن قرأ بغيره؛ صحَّت وإلا فسدت، كذا حقَّقه في «البحر والنهر»، وسيأتي في محله إن شاء سبحانه.
==========
[1] في الأصل: (حسبتم).
[2] في الأصل: (صيور).
[3] في الأصل: (المصاحف).

==================
[1] في الأصل: (حسبتم).
[2] في الأصل: (صيور).
[1] في الأصل: (حسبتم).
[2] في الأصل: (صيور).

(1/227)


(48) [باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس]
هذا (باب من): موصولة بمعنى الذي (ترك بعض الاختيار)؛ أي: فعل الشيء المختار أو الإعلام به (مخافة)؛ بالنصب على التعليل بدون تنوين؛ أي: لأجل خوف (أن يقصر)، و (أن): مصدرية في محل جر بالإضافة (فِهم)؛ بالرفع فاعل (يقصر)؛ بكسر الفاء، (بعض الناس عنه فيقعوا): عطف على (يقصر)، فلذا سقط منه النون التي هي علامة للنصب، (في أشدِّ منه)؛ أي: من ترك الاختيار، وفي رواية: (في أشرِّ منه)، وفي أخرى: (في شرٍّ منه) بالراء فيهما، وبالهمزة في الأولى، وتركها في الثانية.
==========
%ص 83%

==================

(1/228)


[حديث: يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم لنقضت الكعبة]
126# وبه قال: (حدثنا عبيد الله)؛ بالتصغير (ابن موسى) العبسي مولاهم الكوفي، (عن إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعي؛ بفتح المهملة، وكسر الموحدة، بعدها مثناة تحتية، الهمداني الكوفي منسوب إلى سبيع بن سبع، المتوفى سنة ستين ومئة عن ستين سنة، (عن أبي إسحاق): جد إسرائيل المذكور.
(عن الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي، أدرك زمن النبي الأعظم عليه السلام ولم يره، وحجَّ ثمانين حجَّة، توفي بالكوفة سنة خمس وسبعين، وكذا ابنه عبد الرحمن حجَّ ثمانين حجَّة وعمرة، وكان يقول في تلبيته: أنا الحاجُّ بن الحاجِّ، وكان يصلي كلَّ يوم سبع مئة ركعة، وصار عظمًا وجلدًا، وكانوا يسمَّون آل الأسود أهل الجنة، مات سنة خمس وتسعين رحمهما الله تعالى أنَّه (قال: قال لي ابن الزُبير)؛ بضم الزاي: عبد الله الصحابي المشهور (كانت عائشة) رضي الله عنها ((تسرُّ)؛ من الأسرار خلاف الإعلان.
فإن قلت: قوله: (كانت) للماضي و (تسرُّ) للمضارع فكيف اجتمعا؟!
قلت: (تسرُّ) تفيد الاستمرار وذكر بلفظ المضارع؛ استحضارًا لصورة الأسرار، وهو جملة محلها النصب خبر (كانت) أفاده في «عمدة القاري».
(إليك كثيرًا)؛ بالنصب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: أسرارًا كثيرًا، وفي رواية: (تسرُّ إليك حديثًا كثيرًا)، (فما): استفهامية مبتدأ، (حدَّثتك): جملة من الفعل، والفاعل، وهو الضمير فيه الراجع إلى عائشة، والمفعول؛ وهو الكاف محلها رفع خبر المبتدأ، (في) شأن (الكعبة)؛ مشتقة من الكعوب؛ وهو النشوز من الأرض؛ بمعنى: مرتفعة، أو لتربعها، قال الأسود: (قلت)، وفي رواية: (فقلت): (قالت لي) مقول القول: (قال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لولا)؛ لربط امتناع الثانية بوجود الأولى (قومكِ)؛ بكسر الكاف، كلام إضافيٌّ مبتدأ (حديثٌ)؛ بالتنوين خبر (عهدهم)؛ بالرفع على إسناد حديث إليه؛ لأنَّه صفة مشبهة، وهو أيضًا يعمل عمل فعله، وفي رواية: (لولا أنَّ قومك)؛ بزيادة (أنَّ)، وليس بمشهور، كما في «عمدة القاري».
قال: فإن قلت: يجب كون خبر لولا كونًا مطلقًا محذوفًا، كما قاله النحاة، فما باله هنا لم يحذف؟!
قلت: إنَّما يجب الحذف إذا كان الخبر عامًا، وأمَّا إذا كان خاصًا؛ فلا يجب حذفه، قال الشاعر:
ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
(قال)، وفي رواية: (فقال): (ابن الزبير بكفر) أراد أنَّه: ذكره ابن الزبير بقولها فكأنَّ الأسود نسي ذلك، وأمَّا وقوله: (لنقضت ... ) إلخ؛ فيحتمل ممَّا نسي أيضًا، أو ممَّا ذكر ورواه المؤلف في (الجهاد) والترمذي بتمامه إلا قوله: (بكفر)، فقال: بدَّله بجاهلية، فمقصود الأسود إنِّي لمَّا رويت أوَّل الحديث؛ بادر ابن الزبير إلى رواية آخره؛ إشعارًا بأنَّ الحديث معلوم عنده؛ لأنَّه رواه عن عائشة، فلا حاجة إلى ما قاله الكرماني، كما بسطه في «عمدة القاري»، وقوله: (بكفر) يتعلق بقوله: (حديث عهدهم)، ولكنه من كلام ابن الزبير لا يقال: إنَّه موقوف؛ لأنا نقول: السياق يدلَّ على رفعه، ومن علم أنَّ ابن الزبير روى الحديث المذكور عن عائشة؛ لم يحتج [1] إلى السؤال والجواب؛ فافهم.
وقوله: (لنقضت الكعبة): جواب لولا، ورددتها إلى قواعد إبراهيم عليه السلام، (فجعلت): عطف على (نقضت) (لها بابين بابٌ)؛ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أحدهما باب، وبالنصب بدله أو بيان لبابين (يدخل الناس): جملة وقعت صفة لـ (باب)، وضمير المفعول محذوف تقديره: يدخله الناس، وفي رواية (يدخل الناس منه)، (وباب يخرجون) وفي رواية: (منه) وعليها لا يقدَّر وعلى الأولى يقدَّر، وفي رواية: (بابًا) في الموضعين؛ بالنصب على البدل أو البيان، كما تقدم.
(ففعله)؛ أي: فعل النقض والبابين (ابن الزبير)، وهذه المرة السادسة من بناء البيت؛ لأنَّه بَنَتْهُ أولًا الملائكة، ثمَّ إبراهيم، ثمَّ العمالقة، ثمَّ جُرْهُم، ثمَّ قريش في الجاهلية، وحضر النبيُّ الأعظم عليه السلام هذا البناء وهو ابن خمس وثلاثين أو خمس وعشرين سنة، وفيه سقط على الأرض حين رفع إزاره، ثمَّ بناه ابن الزبير، ثمَّ بناه الحجاج بن يوسف واستمرَّ، وروي أن هارون سأل مالكًا عن هدمها وردُّها إلى بناء ابن الزبير، فقال: نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت لعبة للملوك لا يشاء أحد إلا نقضه وبناءه، فتذهب هيبته من صدور الناس.
وفي الحديث دليل: على أنَّه إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذَّر الجمع بينهما؛ تركت المصلحة؛ لأجل المفسدة؛ لأنَّه عليه السلام أخبر أنَّ ردَّ الكعبة إلى قواعد إبراهيم مصلحة، ولكن يعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا؛ لما كانوا عليه من تعظيم البيت، فتركها عليه السلام لذلك.
وفيه: المطابقة للترجمة، كما لا يخفى.
==========
[1] في الأصل (يحتاج).
%ص 83%

==================

(1/229)


(49) [باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا]
هذا (باب من)؛ أي: الذي (خصَّ بالعلم قومًا دون قوم)؛ أي: غير قوم هذا هو الصواب (كراهية)؛ بتخفيف التحتية بالنصب على التعليل مضاف لقوله: (أن لا يفهموا)، و (أن): مصدرية، والتقدير: لأجل كراهية عدم فهم القوم الذين هم غير القوم الذين خصَّهم بالعلم، وهذه الترجمة والتي سبقت متقاربتان غير أنَّ الأولى في الأفعال، وهذه في الأقوال قاله في «عمدة القاري».
==========
%ص 83%

==================

(1/230)


[حديث علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله]
127# (وقال علي): الصديق الأصغر ابن أبي طالب رضي الله عنه: (حدِّثوا)؛ بصيغة الأمر؛ أي: كلِّموا، (الناس بما يعرفون)؛ أي: يفهمون، والمراد: كلِّموهم على قدر عقولهم، وفي كتاب «العلم» لابن أبي إياس وفي آخره: ودعوا ما ينكرون؛ أي: ما يشتبه عليهم فهمه، وعند «مسلم»: قال ابن مسعود: (ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
ففيه دليل: على أنَّ المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامَّة.
(أتحبون)؛ بالخطاب و (الهمزة): للاستفهام، (أن يُكذب)؛ بضم أوله على صيغة المجهول (الله ورسوله)؛ لأنَّ الشخص إذا سمع ما لا يفهمه وما لا يتصوره؛ يعتقد استحالته؛ جهلًا، فلا يصدق وجوده، فإذا أسند إلى الله ورسوله؛ يلزم تكذيبهما.
وبه قال: (حدثنا عبيد الله)؛ بالتصغير (ابن موسى): العبسي مولاهم ابن باذام، وفي رواية: (حدثنا به)، (عن معروف بن خَرَّبُوذ)؛ بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الراء، وضم الموحدة، آخره ذال معجمة، المكي مولى قريش، وسقط في رواية لفظ: (ابن خَرَّبوذ)، قال ابن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، (عن أبي الطُّفيل)؛ بضم الطاء المهملة وفتح الفاء: عامر بن واثلة _بالمثلثة_ بن
%ص 83%
عبد الله الكناني الليثي، ولد عام أحُد، وسكن الكوفة ثم انتقل إلى مكة وأقام بها إلى أن توفي بها سنة عشر ومئة أو سنة خمس وثلاثين ومئة، فقيل: صحابي، وقيل: تابعي، وهو آخر الصحابة موتًا إلا أنه كان فيه تشيع، (عن علي): الصديق الأصغر (بذلك)؛ أي: بالأثر المذكور، وهذا الإسناد من عوالي المؤلف؛ لأنَّه يلحق بالثلاثيات، من حيث أن الراوي الثالث منه صحابي وهو أبو الطُّفيل المذكور، وعلى قول من يقول: إنه تابعي؛ ليس منها، وإنما أخر الإسناد عن ذكر المتن، إما لأنَّه لم يظفر بالإسناد إلا بعد وضع الأثر معلقًا، أو لضعف الإسناد بسبب ابن خَرَّبوذ، أو للتفنن وبيان الجواز، ولهذا وقع في بعض النسخ مقدمًا على المتن، وسقط هذا الأثر كله من رواية الكشميهني، كذا وضحه في «عمدة القاري».

==================

(1/231)


[حديث: ما مِن أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله]
128# وبه قال: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم): المشهور بابن راهويه (قال: حدثنا): وفي رواية: أخبرنا (مُعاذ)؛ بضم الميم (ابن هِشَام)؛ بكسر الهاء وفتح المعجمة المخففة: ابن أبي عبد الله الدَّستُوائي؛ بفتح الدال، وضم الفوقية، آخره همزة، المتوفى بالبصرة سنة مئتين (قال: حدثني)؛ بالإفراد (أبي) هشام المذكور، (عن قتادة): هو ابن دعامة (قال: حدثنا أنس بن مالك) رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُعاذ)؛ بضم الميم؛ أي: ابن جبل الصحابي المشهور، وهو بالرفع مبتدأ.
وقوله: (رديفه)؛ أي: راكب خلفه، خبر المبتدأ (على الرَّحْل)؛ بفتح الراء وسكون الحاء المهملتين، وهو للبعير أصغر من القتب، وهو من مراكب الرجال دون النساء، والقتب _محرك_: رحل صغير على قدر السنام، وعند المؤلف في (الجهاد): أن معاذًا كان رديفه عليه السلام على حمار، ولعل القصة متعددة، والمراد بالرحل هنا: ما يتخذ لدفع البرد من اللباد الصوف المسمَّى بالكوبان.
(قال) عليه السلام: (يا معاذ بن جبل): يجوز في (معاذ): النصب على أنه مع ما بعده كاسم واحد مركب، والمنادى المضاف منصوب، أو الرفع على أنه منادى مفرد علم، وأما (ابن)؛ فهو منصوب بلا خلاف، وتمامه في «عمدة القاري».
(قال)؛ أي: معاذ: (لَبيك يا رسول الله)؛ بفتح اللام، تثنية لَبَّ؛ ومعناه: الإجابة؛ أي: أجيبك إجابة بعد إجابة، فالتثنية للتأكيد، وتمامه في «عمدة القاري» َ، (وسعديك)؛ بفتح السين المهملة، تثنية سعد؛ والمعنى: إسعادًا بعد إسعاد لطاعتك، فثنى للتأكيد، وهما من المصادر التي يجب حذف فعلها ونصبها، وقال الفراء: نصبت على المصدر.
(ثلاثًا): يتعلق بقول كل واحد من النبي الأعظم عليه السلام ومعاذ؛ أي: ثلاث مرات؛ يعني: النداء والإجابة، قيل: ثلاثًا، وصرح بذلك في رواية مسلم، وتمامه في «عمدة القاري»، (قال) عليه السلام: (ما من أحد): فـ (ما) للنفي، و (من): زائدة للتأكيد، و (أحد): اسم (ما).
وقوله: (يشهد): خبرها (أن) مفسرة (لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله صدقًا)؛ بالنصب على الحال؛ أي: صادقًا، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: شهادة صدقًا (من قلبه): متعلق بقوله: (صدقًا)، أو بقوله: (يشهد)، فعلى الأول الشهادة لفظية؛ أي: يشهد بلفظه ويصدق بقلبه، وعلى الثاني قلبية؛ أي: يشهد بقلبه ويصدق بلسانه، واحترز به عن شهادة المنافقين.
(إلَّا حرمه الله على النار): ومعنى التحريم: المنع؛ كما في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء: 95]، وهل في المعنى فرق بين (حرمه الله على النار) و (حرم الله عليه النار)؟
أجيب: بأنه لا اختلاف إلا في المفهومين، وأمَّا المعنيان؛ فمتلازمان، وهل تفاوت بين ما في الحديث وما ورد في القرآن: {حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ} [المائدة: 72]؟
أجيب: بأنه يحتمل أن يقال: النار منصرفة، والجنة منصرف عنها، والتحريم إنَّما هو على المنصرف أنسب، فَرُوْعيَ المناسبة.
فإن قيل: ظاهر الحديث يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار؛ لما فيه من التعميم والتأكيد مع أن الأدلة القطعية دلت على أن طائفة من عصاة الموحدين يعذبون في النار، ثم يخرجون منها بالشفاعة.
وأجيب: بأن هذا مقيد بمن يأتي بالشهادتين تائبًا ثم مات على ذلك، أو أنَّه خرج مخرج الغالب، فإنَّ الغالب أن الموحد يعمل الطاعة ويجتنب المعصية، أو أن المراد بتحريمه على النار: تحريم خلوده فيها لا أصل الدخول فيها، أو أنَّ المراد: تحريم جملته؛ لأنَّ النار لا تأكل مواضع السجود من المسلم وكذا لسانه الناطق بالتوحيد، وتمامه في «عمدة القاري».
(قال) معاذ: (يا رسول الله؛ أفلا): بهمزة الاستفهام وفاء العطف المحذوف معطوفها؛ والتقدير: أقلتَ ذلك، فلا (أخبر به)؛ أي: بما قلتَ (الناسَ)؛ بالنصب، مفعول (أخبر) (فيستبشروا)؛ بالنصب، بحذف النون؛ لأنَّ الفعل ينصب بعد الفاء المجاب بها بعد النفي، والاستفهام، والعرض؛ والتقدير: فإن يستبشروا، وفي رواية: (فيستبشرون)؛ بإثبات النون؛ والتقدير: فهم يستبشرون.
(قال) عليه السلام: (إذا): جواب وجزاء؛ أي: إن أخبرتهم (يتَّكلوا)؛ بمثناة فوقية مشددة؛ أي: يعتمدوا، كأنه قال: لا تخبرهم؛ لأنَّهم يتَّكلوا على الشهادة المجردة، فلا يشتغلون بالأعمال الصالحة، وفي رواية: (ينْكُلوا)؛ بنون ساكنة وضم الكاف، من النكول وهو الامتناع؛ أي: يمتنعوا عن العمل؛ اعتمادًا على الكلمة.
وروى البزار في هذه القصة: أنه عليه السلام أذن لمعاذ في التبشير، فلقيه عمر بن الخطاب فقال: لا تعجل، ثم دخل، فقال: يا نبي الله؛ أنت أفضل الناس رأيًا، إنَّ الناس إذا سمعوا ذلك؛ اتَّكلوا عليها، قال: «فرُدَّه»، فرَدَّه، وهذا من موافقات عمر رضي الله عنه، واستنبط منه في «عمدة القاري»: جواز الاجتهاد بحضرته عليه السلام؛ فليحفظ.
(وأخبر): وفي رواية: (فأخبر) بالفاء، وفي أخرى: (أخبر) بدون واو، (بها)؛ أي: بهذه المقالة، وهذا مدرج من أنس رضي الله عنه، (معاذ عند موته)؛ أي: موت معاذ رضي الله عنه أو عند موت النبي عليه السلام، فالضمير يحتمل رجوعه لكلٍّ منهما، بأنْ أخبر به جماعة عند موت النبي الأعظم عليه السلام، ولآخرين عند موت نفسه، ولا منافاة بينهما خلافًا لمن زعمها.
(تَأَثُّمًا)؛ بفتح الفوقية والهمزة، وتشديد المثلثة، نصب على أنَّه مفعول له؛ أي: مخافة التأثم إن كتم ما أمر الله به من التبليغ؛ حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ... }؛ الآية [البقرة: 159].
فإذا تأثم من الكتمان؛ فكيف لا يتأثم من مخالفة النبي الأعظم عليه السلام في التبشير.
قلنا: النهي كان مقيدًا بالاتَّكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك، وصنيع معاذ أن النهي كان للتنزيه لا للتحريم، وإلا لما كان يخبر به أصلًا، أو أن المنع لم يكن إلا من العوام؛ لأنَّه من الأسرار الإلهية لا يجوز كشفها إلا للخواص؛ خوفًا من أن يسمع ذلك من لا علم له، فيتَّكل عليه، فسلك معاذ هذا المسلك، فأخبر به الخواص دون العوام، وتمامه في «عمدة القاري».
وفي الحديث: بشارة عظيمة للموحدين؛ وجواز ركوب الاثنين على الدابة، والإجابة بـ (لبيك وسعديك)، والتخصيص لقوم بالعلم؛ حيث فيهم الضبط والفهم، ومنع قوم بعدمه؛ حيث عدم فيهم الفهم ووجد فيهم التقصير والاتِّكال، وهو محل المطابقة للترجمة.
==========
%ص 84%

==================

(1/232)


[حديث: من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة]
129# وبه قال: (حدثنا مسدد)؛ بضم الميم: ابن مسرهد، (قال: حدثنا مُعْتمر)؛ بضم الميم وسكون العين: ابن سليمان بن طرخان البصري، نزيل بني تميم، وهو مولى بني مرة، المتوفى سنة سبع وثمانين ومئة، عن إحدى وثمانين سنة، (قال: سمعت أبي) سليمان بن طرخان البصري، نزيل بني مرة، ثم بني تميم؛ بسبب ادِّعائه بالقدر، ثم تاب وصار من العبَّاد، يصلي الليل كلَّه بوضوء العشاء، وكان هو وابنه مُعْتمر يدوران بالليل في المساجد، فيصليان في هذا مرة وفي ذاك أخرى، المتوفى بالبصرة سنة ثلاث وأربعين ومئة.
(قال: سمعت أنسًا) وفي رواية: (أنس بن مالك)، (قال)؛ أي: أنس: (ذُكِر لي) على صيغة المجهول، ولم يسمِّ أنس من ذكر له ذلك، وسيأتي في (الجهاد): أن الذي حضر ذلك من معاذ: عمرو بن ميمون الأودي، أحد المخضرمين، ورواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن سمرة الصحابي: أنَّه سمع ذلك من معاذ أيضًا، فيحتمل أن يكون الذاكر لأنس إما عمرو بن ميمون وإما عبد الرحمن بن سمرة، فالذاكر لأنس معلوم عنده غير أنه أبهمه عند روايته، وليس ذلك قادحًا في رواية الصحابي، وليس بتعليق أصلًا كما زعم، كما أوضحه في «عمدة القاري».
(أن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ) زاد في رواية: (ابن جبل): (مَن) استفهامية مبتدأ (لقي الله): مقول القول، والمعنى: من لقي الأجل الذي قدَّره الله؛ يعني: الموت، (لا يشرك به شيئًا): جملة وقعت حالًا، والمعنى: مات حال كونه موحدًا حين الموت، وقوله: (دخل الجنة): خبر المبتدأ، وإن لم يعمل صالحًا، إمَّا قبل دخوله النار وإمَّا بعده بمشيئة الله تعالى، إن شاء؛ عفا عنه بفضله، وإن شاء؛ عذَّبه بعدله، ثم أدخله الجنة.
فإن قلت: التوحيد بدون
%ص 84%
إثبات الرسالة كيف ينفعه؟ فلا بد من انضمام: (محمد رسول الله) إلى قول: (لا إله إلا الله).
قلت: هذا مثل من توضأ؛ صحت صلاته؛ أي: عند حصول شرائط الصحة؛ فمعناه: من لقي الله موحدًا عند الإيمان بسائر ما يجب الإيمان به، أو علم عليه السلام أن من الناس من يعتقد أن المشرك يدخل الجنة، فقال ذلك؛ ردًا لقوله، وما قاله ابن حجر ردَّه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(قال) معاذ، وفي رواية: (فقال): (أَلا)؛ بفتح الهمزة للتنبيه، (أبشر الناسَ)؛ بالنصب مفعوله؛ أي: بذلك، (قال) النبي الأعظم عليه السلام: (لا) تبشرهم، ثم استأنف فقال: (أخاف أن يتَّكلوا)؛ بمثناة فوقية مشددة؛ أي: أخاف اتِّكالهم على مجرد الكلمة، فـ (أن) مصدرية، وفي رواية: (لا، إنِّي أخاف أن يكلوا) بإسقاط المثناة الفوقية، فكلمة النهي ليست داخلة على (أخاف)، وفي رواية: (لا، دعهم فليتنافسوا في الأعمال، فإني أخاف أن يتكلوا)، ومراد النبي الأعظم عليه السلام: عدم الاتكال على مجرد الكلمة، بل ينبغي لهم العمل؛ فإنَّ العمل دليل على النجاة، وكلٌّ ميسَّرٌ لما خلق له.
وفي ختام ذو [1] القعدة ختام سنة ست وسبعين ومئتين وألف: أخذت الدروز قرية زحلة وأحرقوها، ونهبوا أموالهم، وخربوا ديورهم، وقتلوا أهلها قتلة أشر قتلة، ولا ريب أنهم أهل الحرب؛ لأنَّهم ذو منعة، ناقضين العهود والمواثيق، لم يعطوا ما عليهم من الحقوق، فدمهم هدر، وأموالهم ونساؤهم وذراريهم تملك وتباع، ولله الحمد والمنة، ولقد أضاءت دمشقنا بهذه البشارة لما وردت، وفرحت الناس بذلك لما يرون منهم من إذلال المسلمين.

==================

(1/233)


(50) [باب الحياء في العلم]
هذا (باب الحياء)؛ بالمد، وهو تغيُّر وانكسار يعتري الإنسان عند خوف ما يعاب أو يذم، (في) تعلُّم (العلم) وتعليمه، هل هو مذموم أو ممدوح؟ فأشار إلى الأول بالأثر، وإلى الثاني بالحديث، وأطلق عليه الحياء؛ مجازًا.
(وقال مجاهد) بن جبر التابعي مما وصله أبو نعيم في «الحلية» بإسناد صحيح على شرط المؤلف: (لا يتعلم العلم مستحْيِيْ)؛ بإسكان الحاء المهملة، وبيائين؛ ثانيهما ساكنة، من استحى يستحي، فهو مستحيي على وزن (مستفعل)، ويجوز فيه: مستحي؛ بياء واحدة من استحى، فهو مستحي على وزن (مستفع)، ويجوز: مستح؛ بدون الياء على وزن (مستف)، فحذفت منه عين الفعل ولامه، وتمامه في «عمدة القاري»، و (لا) هذه نافية، والفعل بعدها مرفوع، (ولا مستكبر)؛ أي: متعظم في نفسه، فآفات العلم أعظمها: الاستنكاف، وثمرته: الجهل والذلة في الدنيا والآخرة، فالحياء هنا مذموم، وسئل إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله عنه: بمَ حصلت هذا العلم العظيم الذي شاع في الأمصار والأقطار؟ فقال: ما بخلت بالإفادة ولا استنكفت عن الاستفادة، رضي الله تعالى عنه.
(وقالت عائشة) رضي الله عنها مما وصله أبو داود ومسلم، وهو عطف على (وقال مجاهد)، فكلُّ واحد تعليق على حدة، ليس لأحدهما تعلق بالآخر، خلافًا لمن زعمه، (نِعم النساءُ نساءُ الأنصار)؛ برفع (نساء) في الموضعين، فالأولى: على الفاعلية، والثانية: على أنها مخصوصة بالمدح، والمراد من نساء الأنصار: نساء أهل المدينة، كذا قاله في «عمدة القاري».
(لم يمنعهن الحياءُ)؛ بالرفع فاعله عن (أن يتفقهن)؛ أي: عن التفقه (في) أمور (الدين) فـ (أن) مصدرية، فالحياء هنا مذموم؛ لكونه سببًا لترك أمور الشرع المطلوب تعلمها وتحصيلها.
==========
%ص 85%

==================

(1/234)


[حديث: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق]
130# وبه قال: (حدثنا محمد بن سلَام)؛ بتخفيف اللام، البيكندي، (قال: أخبرنا) وفي رواية: (أنبأنا)، (أبو معاوية): محمد بن خازم؛ بالمعجمتين، التميمي، (قال: حدثنا هشام): زاد في رواية: (ابن عروة)، (عن أبيه): عروة بن الزبير بن العوام، (عن زينب بنت): وفي رواية: (ابنة)، (أم سلمة): نسبة لأمها؛ لشرفها؛ لأنَّها ربيبته عليه السلام، وإلَّا فأبوها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي أبي سلمة، توفيت [1] سنة ثلاث وسبعين.
(عن أم سلمة): هند بنت أبي أمية زوج النبي الأعظم عليه السلام، (قالت: جاءت أم سُلَيم)؛ بضم السين المهملة وفتح اللام، بنت مِلْحان؛ بكسر الميم، وسكون اللام، وبالحاء المهملة والنون، النجارية الأنصارية، واسمها: سهلة، أو رميلة، أو رميثة؛ بالراء فيهما وبالمثلثة في الثاني، تزوجها مالك بن النضر؛ بالضاد المعجمة، أبو أنس بن مالك، فولدت له أنسًا، ثم قتل عنها مشرك، فأسلمت، فخطبها أبو طلحة وهو مشرك، فأبت، ودعته إلى الإسلام، فأسلم، فقالت: إنِّي أتزوجك ولا آخذ منك صداقًا؛ لإسلامك، فتزوجها.
(إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إن الله) عزَّ وجلَّ (لا يستحيي): جملة محلها الرفع خبر (إن)، وهو باليائين على أفصح، (من الحق): ضد الباطل؛ أي: لا يمتنع من بيان الحق، فكذا أنا لا أمتنع من سؤالي عما أنا محتاجة إليه مما تستحي النساء عادة من السؤال عنه؛ لأنَّ نزول المني منهن يدل على شدة شهوتهن للرجال، فالحياء محال على الله عزَّ وجلَّ فيكون هذا جاريًا على سبيل الاستعارة التبعية التمثيلية، كما في حديث سلمان قال: قال عليه السلام: «إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع العبد يديه؛ أن يردهما صفرًا حتى يضع فيهما خيرًا»، وتمامه في «عمدة القاري».
(فهل): للاستفهام، يجب (على المرأة)، وكذا على الرجل؛ لأنَّ حكمه عليه السلام على الواحد كحكمه على الجماعة إلا إذا دلَّ دليل على التخصيص، (من): زائدة، (غُسل)؛ بضم الغين المعجمة، وفي رواية: بفتح الغين وبالكسر: اسم ما يغسل به كالصابون، وأكثر أهل اللغة على أن الغسل بالفتح والضم: مصدران، وبعضهم فرق بينهما بأن الفتح: مصدر، والضم: اسم للفعل المشهور؛ أي: هل غسل يجب على المرأة (إذا) هي (احتلمت) مشتق من الحُلُم؛ بالضم، وهو ما يراه النائم؛ أي: رأت في منامها أنها تجامع، (قال) وفي رواية: (فقال)، (النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم): يجب عليها الغسل (إذا): ظرف بمعنى: حين (رأت الماء)؛ أي: المني إذا انتبهت، ويجوز أن تكون (إذا) شرطية؛ تقديره: إذا رأته؛ وجب عليها الغسل، و (الماء): منصوب بقوله: (رأت) من رؤية العين، وجعل المني شرطًا للغسل؛ يدل على أنَّها إذا لم تر الماء؛ لا غسل عليها كالرجل، وهو ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم، وعليه الفتوى.
وقيل: يلزمها الغسل بالاحتلام وإن لم تر الماء إذا وجدت اللذة؛ لأنَّ الماء ينزل من صدرها إلى رحمها بخلاف الرجل؛ حيث يشترط ظهور المني حقيقة.
قالت زينب: (فغطت أم سُلَيم) رضي الله عنها، فالحديث ملفق من رواية صحابيتين، وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون من أم سلمة على سبيل الالتفات، كأنها جردت من نفسها شخصًا، فأسندت إليه التغطية؛ إذ أصل الكلام: فغطيْتُ، قال عروة أو غيره من الرواة: (تعني وجهَها)؛ بالمثناة الفوقية، ونصب (وجهَها) وهذا إدراج من عروة ظاهر، أو من غيره فيكون إدراج في إدراج.
(وقالت) أم سلمة: (يا رسول الله؛ وتحتلم المرأة؟) بحذف همزة الاستفهام، وللكشميهني: (أو تحتلم)؛ بإثباتها، عطف على مقدر يقتضيه السياق؛ أي: أتقول ذلك أو أترى المرأة الماء وتحتلم؟ (قال) عليه السلام: (نعم)؛ تحتلم وترى الماء، (ترِبت يمينكِ)؛ بكسر الراء والكاف: فعل وفاعله، والجملة خبرية؛ أي: افتقرت وصارت على التراب، فهي كلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ولا وقوع الأمر بها كما يقولون: قاتله الله، وقيل: أراد بها المثل، يرى المأمور بذلك الجد، وأنه إن خالفه؛ فقد أساء، وما زعمه ابن حجر ردَّه في «عمدة القاري».
(فبم): أصله: فبما؛ فحذفت الألف، (يشبهها ولدها؟)؛ بالرفع فاعل، وفي «الصحيح» من حديث أنس: «فمن أين يكون الشبه؟ ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيها علا أو سبق يكون منه الشبه»، وفي حديث عائشة: «وهل يكون الشَّبه إلا من قبل ذلك، إذا علا ماؤها ماء الرجل؛ أشبه الولد أخواله، وإذا علا الرجل ماءها؛ أشبه أعمامه.
وهذا الحديث جاء عن جماعة
%ص 85%
من الصحابيات أنهن سألن كسؤال أم سليم؛ منهن: خولة بنت حكيم، أخرجه ابن ماجه، وبسرة، ذكره ابن أبي شيبة، وسهلة بنت سهيل، رواه الطبراني، والأحاديث فيه عن أم سلمة وعائشة وأنس، ولم يخرج المؤلف غير حديث أم سلمة، وأخرج مسلم أحاديث الثلاثة، فيحتمل حضورهن معًا في هذه القصة، ويحتمل تعدد القصة والله أعلم.
وفي الحديث: إثبات أن المرأة لها ماء.
وفيه: إثبات القياس وإلحاق النظير بالنظير، وقد بين في «عمدة القاري» مذهب الشافعي وأوضحه؛ لغلط جماعة من الشافعية فيه؛ فراجعه إن شئت.
==========
[1] في الأصل: (توفت).

==================

(1/235)


[حديث: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها.]
131# وبه قال: (حدثنا إسماعيل): بن أبي أويس، ابن أخت مالك الإمام، (قال: حدثني)؛ بالإفراد (مالك): الإمام (عن عبد الله بن دينار): القرشي العدوي، (عن عبد الله بن عمر): بن الخطاب رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشجر)؛ أي: من جنسه، (شجرة)؛ بالنصب اسم (إن)، وخبرها: الجار والمجرور، (لا يسقط ورقها): صفة لـ (شجرة)، (وهي): وللأصيلي: بحذف الواو، (مَثَلُ المسلم)؛ بفتح الميم والمثلثة، وفي رواية: (مِثْل) بكسر الميم وسكون المثلثة، (حدِّثوني ما هي؟) مبتدأ وخبر، والجملة سدَّت مسدَّ المفعولين، (فوقع الناس في شجر البادية)، فبعضهم يقول: شجرة كذا، وبعضهم يقول: شجرة كذا، (ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبد الله: فاستحييت) أن أقول أنها النخلة؛ لأنَّ في القوم من هو أكبر مني، كأبي بكر وعمر، (فقالوا)؛ أي: الصحابة، وفي رواية: (قالوا): (يا رسول الله؛ أخبرنا بها)؛ أي: أعلمنا بهذه الشجرة.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) مبتدأ وخبر، والجملة: مقول القول، (قال عبد الله: فحدثت أبي) عمر بن الخطاب، (بما)؛ أي: بالذي (وقع في نفسي) من أنَّها النخلة، (فقال: لَأن)؛ بفتح اللام موطئة للقسم المقدر، (تكون قلتها): بالماضي مع قوله (تكون) [1] المضارع؛ لأنَّ الغرض منه لأنَّ تكون [2] في الحال موصوفًا بهذا القول الصادر في الماضي، (أحب)؛ بالمهملة بالرفع: خبر المبتدأ المنسبك من (أن) وصلتها، (إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا)؛ أي: من حمر النعم وغيرها، ولفظ (كذا) موضوع للعدد المبهم، وهو من الكنايات، وفي تمني عمر أن يجاوب ابنه النبيَّ الأعظم عليه السلام بما وقع في نفسه فيه من القصة: أن الرجل يباح له الحرص على ظهور ابنه في العلم على الشيوخ وسروره بذلك.
وقيل: إنَّما تمنى ذلك رجاء أن يسر النبي الأعظم عليه السلام بإصابته، فيدعو له.
وفيه: أن الابن الموفق العالم أفضل مكاسب الدنيا؛ لقوله: (لأن تكون ... ) إلخ، ولقول النبي الأعظم عليه السلام: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، وقد كان ابن عمر يمكنه إذا استحى ممن هو أكبر منه أن يذكر ذلك لغيره سرًا؛ ليخبر به عنه، فيجمع بين المصلحتين، فاستلزم حياؤه تفويت ذلك.
==========
[1] في الأصل: (يكون).
[2] في الأصل: (يكون).
%ص 86%

==================
[1] في الأصل: (يكون).
[1] في الأصل: (يكون).

(1/236)


(51) [باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال]
هذا (باب من استحى) من الشيخ أن يسأل منه بنفسه، (فأمر غيره بالسؤال) من الشيخ العالم.
==========
%ص 86%

==================

(1/237)


[حديث علي: كنت رجلًا مذاء فأمرت المقداد أن يسأل النبي]
132# وبه قال: (حدثنا مسدد) بن مسرهد (قال: حدثنا عبد الله بن داود) بن عامر بن الربيع الخُريْبي نسبة إلى خُريْبة؛ بضم الخاء المعجمة، وفتح الراء، وسكون التحتية، وفتح الموحدة: محلة بالبصرة، الهمداني، الكوفي الأصل، المتوفى سنة ثلاث عشرة ومئتين.
(عن الأعمش) سليمان بن مهران، (عن مُنْذر)؛ بضم الميم، وسكون النون، وكسر الذال المعجمة: بن يَعلى؛ بفتح التحتية، وسكون العين المهملة، وفتح اللام، (الثوري)؛ بالمثلثة، الكوفي الثقة، (عن محمد بن الحنفية)؛ أي: محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو القاسم، والحنفية: أمه، وهي خولة بنت جعفر الحنفي اليمامي، وكانت من سبي بني حنيفة، ولد لسنتين بقيا من خلافة عمر رضي الله عنه، المتوفى سنة ثمانين، أو إحدى وثمانين، أو أربع عشرة ومئة، ودفن باليقيع.
(عن) أبيه (علي) الصديق الأصغر، وللأصيلي زيادة: (ابن أبي طالب) (قال) علي: (كنت رجلًا)؛ بالنصب خبر (كان)، (مذَّاءً)؛ بالنصب صفته على وزن (فَعَّال)؛ بالتشديد؛ للمبالغة في كثرة المذي، والمَذْيُّ؛ بفتح الميم، وسكون الذال المعجمة، وبكسر الذال، وتشديد الياء التحتية، وبكسر الذال، وتخفيف الياء التحتية؛ وهو الماء الرقيق الذي يخرج عند الملاعبة ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه، وهو في النساء أكثر منه في الرجال، والوَدْي؛ بفتح الواو وسكون الدال المهملة: البلل اللزج، يخرج من الذكر بعد البول؛ أي: عقبه، (فأمرت المِقْداد)؛ بكسر الميم وسكون القاف وبالمهملتين: بن عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي، ويقال له: ابن الأسود؛ لأنَّ الأسود بن عبد يغوث ربَّاه، أو تبنَّاه، أو حالفه، أو تزوج بأمِّه، وهو قديم الصحبة من السابقين في الإسلام، وسادس ستة، شهد بدرًا، المتوفى بالجرف، وهو على عشرة أميال من المدينة، ثم حمل على رقاب الرجال إليها سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه، عن سبعين سنة.
(أن يسأل)؛ أي: بأن يسأل، فـ (أن) مصدرية، (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بالسؤال منه عليه السلام، (فسأله) عن حكم المذي، (فقال) النبي الأعظم عليه السلام: (فيه)؛ أي: في المذي، (الوضوء) لا الغسل، فيجب بخروجه الوضوء، ويجب غسله؛ لأنَّه نجس، وهذا بالإجماع إلا في رواية عن أحمد أنه أوجب الغسل، والحديث حجة عليه.
وأطلق إمامنا الإمام الأعظم والشافعي في ذلك؛ أي: سواء كان خروجه عن ملاعبة أو استنكاح أو غيره، وقيده مالك بما كان عن ملاعبة، فإن كان عن استنكاح أو علة؛ فلا وضوء فيه، وإطلاق الحديث يردُّه، وما استدل به من أن السؤال كان عن الخارج على وجه اللذة؛ لقوله في حديث: «إذا دنى من أهله» فيه نظر؛ لأنَّ السؤال مطلق، ففي «الصحيح»: سأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به؟ قال: «اغسل ذكرك وتوضأ»، فلا فرق بين المعتاد وغيره، كما دلت عليه الأحاديث الصحاح.
واستدل بهذا الحديث على جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع، وهو خطأ، ففي «النسائي» وغيره: أن السؤال وقع على حاضر، وكذا في «الموطأ» كما أوضحه في «عمدة القاري».
وفي الحديث: استحباب حسن المعاشرة مع الأصهار، وأن الزوج ينبغي ألَّا يذكر ما يتعلق بالجماع والاستمتاع بحضرة أبوي المرأة، وأختها، وغيرهما من أقاربها؛ لأنَّ المذي يكون غالبًا عند ملاعبة الزوجة، ولهذا ترك علي السؤال وأمره غيره، وفي بعض الروايات: (أمر عمار بن ياسر)، وفي بعضها: أنه سأل بنفسه، فيحتمل أنه أرسلهما، ثم سأل بنفسه وتمامه في «عمدة القاري».
==========
%ص 86%

==================

(1/238)


(52) [باب ذكر العلم والفتيا في المسجد]
هذا (باب) جواز (ذكر العلم والفِتيا)؛ بكسر الفاء، _والفَتوى؛ بفتحها_ جواب حكم الحادثة، (في المسجد) وإن ذلك إلى رفع الصوت.
==========
%ص 86%

==================

(1/239)


[حديث: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة]
133# وبه قال: (حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (قُتيبة)؛ بضم القاف، وفي رواية زاد: (ابن سعِيد)؛ بكسر العين، (قال: حدثنا الليث)، زاد في رواية: (ابن سعد)، (قال: حدثنا نافع) بن سَرْجَس؛ بفتح السين المهملة، وسكون الراء، وكسر الجيم، آخره سين أخرى، وهو (مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب): أصله من المغرب، أو من نيسابور، أو من سبي كابل، أو من جبال طالقان، أصابه عبد الله بن عمر في بعض غزواته وبعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر يعلمهم السنن، المتوفى بالمدينة سنة سبع عشرة ومئة.
(عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (أن رجلًا)، قال في «عمدة القاري»: لم أقف على اسمه، (قام في المسجد)؛ أي: النبوي في محل رفع خبر (إن)، (فقال: يا رسول الله؛ من أين): استفهام عن المكان (تأمرنا أن نُهِلَّ)؛ أي: بأن نهل، و (أن) مصدرية، والتقدير: بالإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية في الحج والمراد به هنا الإحرام مع التلبية، فالسؤال عن موضع الإحرام، وهو الميقات المكاني.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُهِلُّ)؛ بضم أوله؛ أي: يحرم (أهل المدينة): جملة وقعت مقول القول (من) ابتدائية؛ أي: ابتداء إهلالهم من (ذي الحُلَيفة)؛ بضم الحاء المهملة وفتح اللام، تصغير الحلَفة؛ باللام المفتوحة؛ كالقصبة
%ص 86%
وهي تنبت في الماء، وجمعها: حلفاء، وقيل: هي سَلسَة غليظة المسِّ لا يكاد أحد يقبض عليها؛ مخافة أن تقطع يده، وقد تأكل منها الغنم والإبل أكلًا قليلًا، وهي أحب شجرة إلى البقر، والواحدة منها حلفاة، وهي موضع بينه وبين المدينة ميل أو ميلان، والميل: ثلث فرسخ، وهو أربعة آلاف ذراع، ومنه إلى مكة عشر مراحل، وهي الشجرة، وفي موضع آخر: منها إلى المدينة خمسة أميال ونصف مكتوب على الميل الذي وراءها: قريب من ستة أميال من البريد، ومن هذا البريد أهلَّ النبي الأعظم عليه السلام، وبذي الحليفة عدة آبار ومسجدان للنبي الأعظم عليه السلام، المسجد الكبير الذي يحرم منه الناس والآخر مسجد المعرس، وهي أبعد المواقيت من مكة؛ تعظيمًا لأجر النبي الأعظم عليه السلام.
(ويُهلُّ)؛ بضم أوله؛ أي: يحرم (أهل الشام): عطف على قوله: (يُهلُّ أهل المدينة)، وكذا قوله: (ويُهلُّ أهل نجد): عطف عليه، والتقدير في الكل: ليهل؛ لأنَّه وإن كان في الظاهر على صورة الخبر، ولكنه في المعنى على صورة الأمر، والشآم؛ بالهمز وتركه، وهو طولًا من العريش إلى الفرات، وعرضًا من أيلة إلى بحر الروم.
(من الجُحْفة)؛ بضم الجيم وسكون الحاء المهملة، موضع بين مكة والمدينة من الجانب الشامي يحاذي الحليفة، وكان اسمها مَهْيَعة؛ بفتح الميم، وسكون الهاء، وفتح التحتية، سماها النبي الأعظم عليه السلام بذلك فأجحف السيل بأهلها؛ أي: أذهبه فسميت جحفة، وهي على ستة أو سبعة مراحل من مكة، وكانت قرية كبيرة جامعة بها منبر بينها وبين البحر ستة أميال، وغدير خم على ثلاثة أميال منها، وهي ميقات المتوجهين من الشام، ومصر، والمغرب، وهي على ثمانية مراحل من المدينة، وكان أهلها العماليق بني عبيل، وهم أخوة عاد من يثرب.
(ويُهلُّ)؛ بضم أوله؛ أي: يحرم (أهل نَجْد)؛ بفتح النون وضمها لغتان، وسكون الجيم، آخره دال مهملة، لغة: ما أشرف من الأرض واستوى، وسمِّيت نجد؛ لعلوه، أو لصلابة أرضه، وكثرة حجارته، وصعوبته، أو لفزع من يدخله؛ لاستيحاشه، وهو مذكَّر، ولو أريد البلد؛ أنِّث، وهي سبعة مواضع: الحجاز: والشام، والعذيب، والطائف، والمدينة، واليمامة، والبحرين إلى عمان، ونجد المشهورة فيها خلاف والأكثر على أنَّها اسم للأرض التي أعلاها تهامة وأسفلها العراق والشام، وقيل: إن نجد ما ارتفع من أرض تهامة إلى أرض العراق، وتمامه في «عمدة القاري».
(من قَرْن)؛ بفتح القاف وسكون الراء، جبل مدور أملس كأنه هضبة مطلٌّ على عرفات، فمن جاء على طريق نجد من جميع البلاد؛ فميقاته قرن المنازل، وهو شرق مكة ومنه إلى مكة اثنان وأربعون ميلًا، وقيل: من قال: بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال: بالفتح أراد الطريق الذي يفرق منه.
وقال ابن الأثير: الفتح ليس بصحيح، فضبط الجوهري لها بفتح الراء خطأ، وزعم الجوهري أيضًا: أن أويسًا [1] القرني بفتح القاف منسوب إليه وهو خطأ أيضًا، والصواب: سكون الراء، وإن أويسًامنسوب إلى قبيلة يقال لها بنوا قرن؛ فليحفظ.
(وقال ابن عمر): عطف على لفظ (عن عبد الله بن عمر) عطفًا من جهة المعنى كأنه قال: قال نافع: قال ابن عمر، وقال: (ويزعمون): عطف على مقدر؛ وهو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا بدَّ من هذا التقدير؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين القول ومقوله، والمراد من الزعم: إما القول المحقق، أو المعنى المشهور له؛ لأنَّه لا يراد من هؤلاء الزاعمين إلا أهل الحجة والعلم بالسنة، ومحال أن يقولوا ذلك بآرائهم؛ لأنَّ هذا ليس مما يقال بالرأي، كذا قرَّره الإمام بدر الدين في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ بفتح الهمزة، فـ (أن) مع اسمها وخبرها سدت مسد مفعولي (زعم)، وفي رواية مالك قال: (وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، (قال: ويُهل)؛ بضم أوله؛ أي: يحرم (أهل اليمن من يَلَمْلَم)؛ بفتح الياء التحتية وفتح اللامين، جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة، فإن أريد الجبل؛ فمنصرف، وإن أريد البقعة؛ فغير منصرف ألبتة، بخلاف قرن، فإنه على إرادة البقعة يجوز صرفه؛ لأجل وسطه، وتمامه في «عمدة القاري».
(وكان ابن عمر) رضي الله عنهما (يقول): جملة محلها النصب خبر (كان): (لم أفقه)؛ أي: لم أفهم ولم أعرف، وفي رواية في (الحج): (لم أسمع) (هذه)؛ أي: هذه المقالة (من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهي: (يُهلُّ أهل اليمن من يَلَمْلَم)، ففي الحديث: بيان المواقيت الثلاثة بالقطع، والرابع شك فيه ابن عمر، وقد ثبت هذا أيضًا بالقطع في حديث ابن عباس أخرجه الشيخان وآخرون، وفي رواية مسلم عن جابر وزاد فيه مسلم: (ومهلُّ العراق ذات عرق)، وهو قول الجمهور، وأخرج هذه الزيادة أبو داود بالجزم عن عائشة، وكذا أخرجه النسائي؛ كل منهما برجال ثقات، فصارت ذات عرق ميقاتًا لأهل العراق بالنصِّ القطعي.
وزعم قوم أن أهل العراق لا وقت لهم محتجين بالحديث، ورُدَّ بأن الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي أخرج في كون الميقات لأهل العراق ذات عرق أربعة أحاديث عن الصحابة؛ وهم ابن عمر، وأنس، وجابر، وعائشة، وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي، والحارث بن عمرو عند أبي داود، وعمرو بن العاص عند الدارقطني.
وقال الشافعي: ميقات أهل العراق من العقيق؛ لحديث الترمذي عن ابن عباس: (وقَّت النبي عليه السلام لأهل المشرق العقيق)، ولا حجَّة فيه؛ لأنَّ في إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف لا يحتجُّ به.
وقال الشافعي في «الأم»: (ذات عرق لأهل العراق كان باجتهاد ابن عمر لا بالنص؛ لحديث الباب)، ورُدَّ بأنه ثبت ذلك بالنصِّ لا بالاجتهاد، كما علمت من الأحاديث الطافحة الدالة على ثبوته بالنص، وفيه أيضًا من معجزات النبي الأعظم عليه السلام؛ حيث أخبر أنه سيكون عراق ولهم مهل، ويسلمون ويحجون فكان ذلك، ووقَّت لأهل الشام الجحفة ولم يكن فتح، وقطع بلد الخليل لتميم الداري وكتب له بذلك، ولم يكن الشام إذ ذاك؛ فكان ذلك.
وفي الحديث: أيضًا أن هذه المواقيت لا يجوز مجاوزتها بغير إحرام سواء أراد حجًّا أو عمرة، فإن جاوزها بغير إحرام؛ يلزمه دم ولا يفسد حجُّه، وسيأتي تمام الكلام على ذلك في (الحجِّ) إن شاء الله تعالى بعونه، وقوَّته، وتوفيقه، فهو القادر على كل شيء.
==========
[1] في الأصل (أويس).

==================

(1/240)


(53) [باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله]
هذا (باب من أجاب) الشخص (السائل) الذي سأل عنه (بأكثر)، وفي رواية: (أكثر)، (مما سأله) فلا يلزم مطابقة الجواب للسؤال؛ بل إذا كان السؤال خاصًّا والجواب عامًّا؛ جاز، وقولهم: (يجب أن يكون الجواب مطابقًا للسؤال) فمعناه: أن يكون الجواب مفيدًا للحكم المسؤول عنه، وليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة؛ فافهم.
==========
%ص 87%

==================

(1/241)


[حديث: لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل]
134# وبه قال: (حدثنا آدم)؛ بمد الهمزة، ابن أبي إياس، (قال: حدثنا ابن أبي ذِئْب)؛ بكسر الذال المعجمة وبالهمزة الساكنة، محمد بن عبد الرحمن المدني، (عن نافع): مولى ابن عمر، (عن ابن عمر): عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ للتحويل، (وعن الزهري): محمد بن مسلم بن شهاب، (عن سالم): هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، (عن ابن عُمر)؛ بضم العين، عبد الله فهو والد سالم المذكور، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: بإسقاط حرف الجر وكلاهما عطف على قوله: (عن نافع)، فهما إسنادان أحدهما عن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، والآخر عن آدم، عن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
(أن رجلًا)، قال في «عمدة القاري»: لم أقف على اسمه، (سأله) عليه السلام، جملة محلها الرفع خبر (أن)، (ما) استفهامية أو نكرة موصوفة أو موصولة، محلها النصب مفعول ثان لـ (سأل) (يَلْبِس)؛ بفتح التحتية
%ص 87%
والموحدة، مضارع: لبس؛ بكسر الموحدة.
(المحرم) بالحج أو العمرة، وأصله: الداخل في الحرمة؛ لأنَّه يحرم عليه به ما كان حلالًا له قبله من صيد ونحوه، (فقال) عليه السلام: (لا يلبسُ) من اللُّبس؛ بضم اللام من باب (علم يعلم)، وأما اللَّبس _بالفتح_؛ فهو من باب (ضرب يضرب)، يقال: لبست عليه الأمر، إذا خلطت عليه ومنه التباس الأمر وهو اشتباهه، روي بالرفع على أن لا نافية، وبالجزم على أنها ناهية؛ أي: المحرم.
(القميصَ)؛ بالنصب على المفعولية وهو معروف يتخذ من القطن أو الصوف جمعه: قمص وأقمصة وقمصان، وهو مذكَّر وقد يؤنَّث، (ولا العِمامة)؛ بكسر العين واحدة العمائم، وعمَّمته ألبسته العمامة، وعمِّمَ الرجل سوِّد؛ لأنَّ العمائم تيجان العرب، كما قيل في العجم توِّج واعتمَّ بالعمامة وتعمَّم بها بمعنى، وفلان حسن العمَّة؛ أي: الاعتمام، كذا في «عمدة القاري» عن الجوهري.
(ولا السراويل): أعجمية عرِّبت وجاء على لفظ الجمع وهي واحدة يذكر ويؤنث، ولم يعرف الأصمعي إلا التأنيث ويجمع على: السراويلات، وقد يقال: هو جمع ومفرده سروالة وهو غير منصرف على الأكثر، وقال سيبويه: سراويل واحدة أعجمية، فأعربت فأشبهت في كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فهي مصروفة في النكرة، وإن سمَّيت بها رجلًا؛ لم تصرفها، ومن النحاة من لا يصرفه أيضًا في النكرة ويزعم أنه جمع: سروال والسراوين؛ بالنون لغة، والشراويل؛ بالشين المعجمة لغة أيضًا أفاده في «عمدة القاري».
(ولا البُرْنُس)؛ بضم الموحدة، وسكون الراء، وضم النون، ثوب رأسه منه ملتزق به، وقيل: قلنسوة طويلة، وكان النسَّاك يلبسونها في صدر الإسلام وهو من البِرس؛ بكسر الموحدة، وهو القطن والنون زائدة، وقيل: غير عربي، وكل ما جُبَّ فيه موضع لإخراج الرأس منه؛ فهو جبة، وكل ما خيط أو نسج في طرفه ليستمسك على اللَّابس؛ فهو برنس كالقفار ونحوها، وتمامه في «عمدة القاري».
(ولا ثوبًا)؛ بالنصب عطف على قوله (القميص)، وروي بالرفع على تقدير فعل ما لم يسم فاعله؛ أي: ولا يلبس ثوب، (مسَّه الوَرْس): فعل، ومفعول، وفاعل، والجملة محلها النصب أو الرفع صفة لـ (ثوب)؛ بفتح الواو وسكون الراء آخره سين مهملة: نبت أصفر يكون باليمن تصبغ به الثياب ويتَّخذ منه الغمرة للوجه مثل: حب السمسم فإذا جف عند إدراكه؛ يفتق فيغض منه الورس، وتمامه في «عمدة القاري».
(أو الزعفران)، وللأصيلي: (مسه الزَّعْفَران أو الورس) وهو بفتح الزاي والفاء وسكون العين بينهما نبت معروف يصبغ به، يقال: إن الكركمَ عروقه، وإذا كان في مكان لا يدخله سام أبرص وإنما عدل عن طريقة أخواته؛ لأنَّ الطيب حرام على الرجل والمرأة، فأراد أن يعمِّم الحكم للمحرم والمحرمة، بخلاف الثياب المذكورة؛ فإنَّها حرام على الرجال فقط، كذا في «عمدة القاري».
(فإن لم يجد النَّعْلين): تثنية نعل وهي الحِذَاء؛ بكسر الحاء المهملة، والمد، وفتح النون، وسكون العين المهملة، جمعه: نعال، وكل ما وقيت به القدم من الأرض فهو نعل.
(فلِيلبس)؛ بكسر اللام وسكونها (الخفين) تثنية خفٍّ معروف جواب الشرط، فلذا دخلته الفاء، (ولِيقطعهما)؛ بكسر اللام وسكونها عطف على (فليلبس)؛ أي: الخفين، (حتى) للغاية؛ أي: أن (يكونا)؛ أي: غاية قطعهما (تحت الكعبين) تثنية: كعب، والمراد به هنا: المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك لا العظم الناتئ عند مفصل الساق؛ فإنَّه في الوضوء، وهذا مذهب إمامنا المعظم الإمام الأعظم.
وقال الشافعي: إنه العظم الناتئ عند مفصل الساق، وجملة (تحت الكعبين): خبر (يكونا): المنصوب بحذف النون، والواو في (وليقطعهما) لا تدل على الترتيب، ومعناها الشركة والجمع مطلقًا من غير دلالة على تقديم أو مصاحبة، كما نص عليه سيبويه، وله شواهد في القرآن العظيم وإنما أجاب بما لا يلبس عمَّا يلبس؛ لأنَّ المتروك منحصر والملبوس لا ينحصر؛ لأنَّ الإباحة هي الأصل فحصر ما يترك؛ ليبيِّن أن ما سواه مباح، وهو من بديع كلامه وفصاحته.
وقد راعى [1] المفهوم أيضًا فإنه لو أجاب بما يلبس؛ لتوهم المفهوم، وهو أن غير المحرم لا يلبسه فانتقل إلى ما لا يلبس؛ لأنَّ مفهومه مستعمل منطوقه، فكان أفصح، ونبَّه بـ (القميص) و (السراويل) على كل ما يعمُّ العورة من المخيط وبـ (العمائم) و (البرانس) على كل ما يغطى به الرأس مخيطًا أو غيره، وبالخفاف على ما يستر الرجل، وأن لباس ذلك جائز للرجال في غير الإحرام وإنما كان لهم؛ لأنَّ النساء مأمورات بستر رؤوسهن، وبـ (الورس) و (الزعفران) على ما سواهما من أنواع الطيب وهو حرام على الرجل والمرأة والخصوص للرجال؛ من حيث أن الألفاظ كلها للمذكَّرين، والعموم من الأدلة الخارجة عن هذا الحديث، ويدل له رواية قوله: (ولا ثوبُ)؛ بالرفع، وحكمة تحريم اللباس على المحرم: التذلل والخضوع، وفي الطيب: ترك زينة الدنيا، وقطع الخف عند عدم وجود النعل واجب عند إمامنا الإمام الأعظم والجمهور، فإن لم يقطعه؛ فعليه الفدية؛ للأمر بالحديث.
وقال الشافعي: إذا لم يجد النعل؛ لا يجب قطع الخف، والحديث حجَّة عليه أيضًا، وقال أحمد: يجوز لبس الخف بدون قطع، وزعم أصحابه: أن القطع إضاعة؛ لما روى مسلم: (فإن لم يجد النعلين؛ فليلبس الخفين)، ولا دليل في هذا؛ لأنَّ الجمهور على أن المطلق محمول على المقيَّد، وزيادة الثقة مقبولة يجب الإيمان بها، والإضاعة منهي عنها فيما لم يأمر الشرع به، ودعوى النسخ باطلة؛ لما في «صحيح ابن خزيمة» وغيره من بطلانها، كما أوضحه في «عمدة القاري».
فالحديث حجَّة عليه أيضًا، وهو القول بالرأي بعينه، ومنازعة السنة به؛ فليحفظ.
وقال مجاهد، وهشام بن عروة، وعروة، وابن الزبير، ومالك في رواية: لا يجوز لبس الثوب الذي مسَّه ورس أو زعفران للمحرم سواء كان مغسولًا أو لم يكن؛ لإطلاق الحديث.
وقال إمامنا الإمام الأعظم، ومالك في رواية، وأبو يوسف، ومحمد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وأبو ثور، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: يجوز لبس الثوب المصبوغ بالورس أو الزعفران إذا كان غسيلًا لا ينفض؛ لأنَّه ورد في حديث ابن عمر المذكور: (إلا أن يكون غسيلًا)، وأخرج هذه الزيادة الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي في «معاني الآثار» وساقه بتمامه برجال ثقات، وزعم ابن حزم أنه لا يعلم صحته، وزعمه باطل؛ لأنَّ نفي علمه لا يستلزم النفي عن غيره؛ فافهم.
وفي حديث ابن عباس: «من لم يجد إزارًا؛ فليلبس السراويل»، فأخذ به إمامنا الأعظم والإمام مالك، والشافعي، وأحمد، إلا أن إمامنا الأعظم ومالك أوجبا عليه الفدية بدليل آخر، والشافعي وأحمد أخذا بظاهره؛ فلم يجب عليه الفدية عندهما.
قال في «البدائع»: المحرم إذا لم يجد الإزار وأمكنه فتق السراويل والتستر فيه؛ فعل، فإن لبسه ولم يفتقه؛ فعليه دم في قول أئمتنا، وإن لم يجد رداء وله قميص؛ فلا بأس أن يشق قميصه ويرتدي به؛ لأنَّه لمَّا شقَّه؛ صار بمنزلة الرداء، وكذا إذا لم يجد الإزار؛ فلا بأس أن يفتق سراويله خلاف موضع التكة ويأتزر به؛ لأنَّه إذا فتقه؛ صار بمنزلة الإزار، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (راع).

==================

(1/242)


((4)) [كتاب الوضوء]
ولما فرغ المؤلف من كتاب (العلم) شرع يذكر العبادات مرتِّبًا لها على ترتيب حديث: «بني الإسلام»، وقدَّم الطهارة؛ لأنَّها مفتاح الصلاة، ولأن أوَّل شيء يسأل عنه العبد في القبر الطهارة فقال:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
%ص 88%
(كتاب الوُضوء)؛ بضم الواو من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة اسم للفعل، وبفتح الواو: اسم للماء الذي يُتوضَّأ به، وهو المشهور، وحكي: فتح الواو فيهما، وحكي أيضًا: ضم الواو فيهما، وشرعًا: غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس، والصحيح: أنه ليس من خصائص هذه الأمة، وإنما الذي اختصت به: هو الغرة والتحجيل، ذكره العلامة نوح أفندي.
وفي رواية عقب البسملة: (كتاب الطَّهَارة باب ما جاء في الوضوء)، وهذا أنسب؛ لأنَّ الطهارة أعمُّ من الوضوء، والكتاب الذي يذكر فيه نوع من الأنواع ينبغي أن يترجم بلفظ عام حتى يشمل جميع أقسام ذلك الكتاب، وهي بفتح الطاء مصدر: طهر؛ بفتح الهاء أفصح من ضمها، وبكسرها: الآلة كالماء والتراب، وبضمها: اسم لما فضُل بعد التطهير، وحكي: الضم فيهما، وحكي أيضًا: الفتح فيهما، وهي النظافة.
وشرعًا: زوال حدث أو خبث، وهو تعريف صحيح؛ لصدقه بالوضوء وغيره كالغسل من الجنابة، أو الحيض، أو النفاس؛ بل وبالتيمم أيضًا.
والحدث: مانعية شرعية قائمة بالأعضاء إلى غاية استعمال المزيل، والخبث: عين مستقذرة شرعًا.
وأمَّا سبب وجوبها؛ فقيل: الحدث والخبث، قيل: وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي، وقيل: سببها: إقامة الصلاة، وصححه في «الخلاصة»، لكن نسبه في «العناية» إلى أهل الظاهر، وصرَّح في «غاية البيان» بفساده؛ لصحة الاكتفاء بوضوء واحد لصلوات مادام متطهِّرًا.
وقيل: سببها: إرادة الصلاة، وصححه في «الكشف»، واعترضه في «الفتح والتبيين»، وقيل: سببها: وجوب الصلاة لا وجودها؛ لأنَّ وجودها مشروط بها فكان متأخرًا عنها، والمتأخر لا يكون سببًا للمتقدم، كما في «العناية»، والذي اختاره الأكثر من أهل المذهب أن سببها: إرادة ما لا يحل إلَّا بها من صلاة ومسِّ مصحف كما في «البحر الرائق».
وهل الحدث حلَّ في جميع البدن كالجنابة حتى يمنع من مسِّ المصحف بظهره وبطنه أو مختص بأعضاء الوضوء؟ اختلف فيه، والأصحُّ: المنع كما في «الدر المختار»، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب».

==================

(1/243)


(1) [باب ما جاء في الوضوء]
هذا (باب ما جاء) من اختلاف العلماء (في) معنى (قول الله تعالى:)، وفي رواية: (بابٌ)؛ بالتنوين، (في الوضوء وقول الله عز وجل)، وفي أخرى: (باب ما جاء في الوضوء وقول الله عز وجل) ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا})؛ فـ (يا) حرف نداء للبعيد حقيقة أو حكمًا، وقول الداعي: يا الله استقصار منه لنفسه واستبعاد عن مظانِّ القبول لعمله، و (أي) موصولة عند الأخفش حذف صدر صلتها، والمعنى: يا من هم الذين، أو نكرة مقصودة مبنية على الضم فهي وصلة لما فيه أل نحو يا أيها الرجل، ومنه الآية، و (الهاء) تكون للتنبيه فهي نعت؛ أي: في النداء، و (الذين): اسم موصول موضوع للجمع وليس هو جمع الذي؛ لأنَّه عام لذي العلم وغيره، والذي يختصُّ بذوي العلم ولا يكون الجمع أخصُّ من مفرده، وهو إما أن يكون صفة لـ (أي) أو يكون موصوفها محذوفًا تقديره: يا أيها الناس الذين آمنوا، فالمجموع كله: هو صفة؛ أي: لا المقدر وحده ولا الموصول وحده، فسقط اعتراض اللاقاني على حافظ الدين النسفي.
و (آمنوا): فعل ماض للجمع المذكر الغائبين من: (آمن يؤمن إيمانًا)، وإنَّما قال: (آمنوا) ولم يقل: آمنتم؛ ليدخل كل من آمن إلى يوم القيامة، ولو قال: آمنتم؛ لاختص بمن كان في عصره عليه السلام.
وافتتح المؤلف بهذه الآية؛ للتبرك ولأنها أصل في استنباط المسائل، وإن كان حق الدليل أن يؤخر عن المدلول؛ لأنَّ الأصل في الدعوى: تقديم المدعى.
({إِذَا}) ظرفية تتضمن معنى الشرط فلذا دخلت الفاء في جوابها، ({قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ})؛ أي: أردتم القيام إليها وأنتم محدثون، يدل لذلك ما في «مسلم» عن بريد: (أنه عليه السلام صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئًا لم تكن تصنعه فقال: «عمدًا صنعته»)، ورواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي والترمذي فثبت أن في الآية مقدَّرًا، وروى الحافظ الطحاوي والرازي والطبراني عن عبد الله بن علقمة عن أبيه قال: كان عليه السلام إذا أجنب أو أهراق الماء إنَّما نكلِّمه؛ فلا يكلِّمنا ونسلِّم عليه؛ فلا يسلِّم علينا حتى نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... }؛ الآية، فدلَّ على أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة، وأن التقدير: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، وبهذا يظهر فساد قول أهل الظاهر: أن الوضوء واجب في حق المحدث، سنة في حق الطاهر، فكل من قام إليها؛ فعليه أن يتوضأ.
واستدلُّوا بحديث ابن حنظلة: (أنه عليه السلام أمره بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر، فلمَّا شقَّ عليه؛ وضع عنه الوضوء إلا من حدث)، وهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به، ويردُّه قوله عليه السلام: «المائدة من آخر القرآن نزولًا فأحلُّوا حلالها وحرِّموا حرامها» على أن الجمهور على أن المطلق محمول على المقيد؛ فافهم؛ وتمامه في «عمدة القاري».
واعلم أن إمامنا الشيخ بدر الدين العيني قد تكلم على هذه الآية في «شرحه» كعادته في الآحاديث كلامًا تحقيقيًّا لم يسبق إليه أصلًا لما هو في غاية التحقيق والتدقيق، وترتيب المعاني، والاستنباط، والاختلاف الواقع بين العلماء، فرحم الله هذا المؤلف ما أغزر علمه وأوفر فهمه قدَّس سره العزيز.
وإنَّما أضمر الحدث في الآية؛ كراهة أن يفتتح آية الطهارة بذكر الحدث، كما في قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]؛ حيث لم يقل هدى للضالين الصائرين إلى التقوى بعد الضلال؛ كراهة أن يفتتح بذكر الضلالة، فالحدث شرط بدلالة النصِّ وصيغته أمَّا الأول: فقوله {إِذَا قُمْتُمْ}؛ أي: من مضاجعكم، وهو كناية عن النوم وهو حَّدث، وأما الثاني: فلأنه ذكر في (التيمم) الذي هو بدل عنه، والبدل إنَّما وجب بما وجب به الأصل، فكأن ذكر الحدث في الحديث ذكر في المبدل.
وقوله: (إلى الصلاة): يتناول سائر الصلوات المفروضات، والسنن المؤكدات، والنوافل؛ لأنَّ الصلاة اسم للجنس؛ فاقتضى أن يكون من شرط الصلاة الطهارة أيُّ صلاة كانت.
واستدل طائفة بظاهر الآية: أن الوضوء والتيمم لا يجزئ إلا بعد دخول الوقت، وهو فاسد؛ لأنَّه لم يوقِّت في النص دخول الوقت، ويؤيِّده حديث النسائي عن أبي هريرة أن النبي الأعظم عليه السلام قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة وراح؛ فكأنَّما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية؛ فكأنَّما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة؛ فكأنمَّا قرب كبشًا، ومن راح في الساعة الرابعة؛ فكأنَّما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة؛ فكأنَّما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام؛ حضرت الملائكة يستمعون الذكر».
فهذا نصٌّ على جواز الوضوء والتيمم بالقياس عليه للصلاة قبل دخول وقتها؛ لأنَّ خروج الإمام قبل الوقت ضرورة، وإنما صرَّح بذكر الحدث في (الغسل) و (التيمم) دون (الوضوء)؛ ليعلم أن الوضوء يكون سنة ويكون فرضًا، والحدث شرط في الفرض دون السنة؛ فيكون الغسل على الغسل والتيمم على التيمم عبثًا لا فائدة فيه، وأن الوضوء على الوضوء نور على نور.
({فَاغْسِلُوا}): أمر للجمع المذكر الحاضرين، من: (غسل يغسل غَسلًا وغُسلًا)؛ بالفتح والضم كلاهما مصدران، وقيل: بالفتح مصدر، وبالضم اسم للاغتسال وللماء الذي يغسل به، وبالكسر ما يغسل به من صابون ونحوه.
وفي الشرع: الغسل: إمرار الماء على الموضع وسيلانه مع التقاطر ولو قطرة حتى لو لم يسل الماء بأن استعمله استعمال الدهن؛ لم يجز في «ظاهر الرواية» عن الإمام الأعظم، وكذا لو توضَّأ بالثلج ولم يقطر منه شيء؛ لم يجز، وقال الإمام أبو يوسف: يجوز ذلك؛ لأنَّ الغسل عنده مجرَّد بلِّ المحلِّ بالماء سال أو لم يسل، يقال له: غسل فينبغي للمتوضئ بالشِّتاء أن يبلَّ أعضاءه بالماء شبه الدهن ثم يسيل الماء عليها، وعلى القولين ليس الدَّلك من مفهومه، وإنما هو مندوب، وفي «الخلاصة»: أنَّه سنة.
وقال مالك بفرضيته، فقد زاد على النصِّ وهو غير جائز، والأمر يقتضي جواز الصلاة بوجود الغسل سواء قارنته النية أو لم تقارنه؛ لأنَّ الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة، وهو إمرار الماء على الموضع وليس هو عبارة عن النية، فمن شرط النية فيه؛ فقد زاد على النصِّ، والزيادة غير مقبولة شرعًا، فما قيل: إن فيه وجوب النية ممنوع باطل.
%ص 89%
({وُجُوهَكُمْ})؛ بالنصب مفعول {فَاغْسِلُوا} الذي هو جواب الشرط، جمع وجه أو أوجه، لغة: مأخوذ من المواجهة وهي المقابلة، وحدُّه طولًا: من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن سواء كان عليه شعر أم لا، والجبهة: اسم لما يصيب الأرض حالة السجود، والمراد بأسفل الذقن: مجتمع اللحيين، وهما عظما الحنك، ويسميان: الفكين وعليهما منابت الأسنان السفلى، وهذا الحدُّ أولى من قول بعض الشرَّاح والمتون: من قصاص شعره إلى أسفل الذقن؛ لأنَّه يعمُّ الأغمَّ، وهو ما نزل شعره حتى ضيق الجبهة؛ فلا يكفيه الغسل من القصاص.
والأصلع: هو ما انحسر مقدَّم شعر رأسه، فلو مسح على صلعته؛ جاز على الأصح، كما في «الخلاصة».
والأنزع: هو ما انحسر شعره من جانبي جبهته؛ فلا يجب غسلهما كما في «الدرر» و «النهر».
والأقرع: هو ما ذهب شعر رأسه، وهو ظاهر؛ فليحفظ.
وحدُّه عرضًا: ما بين شحمتي الأذنين؛ أي: ما لان منهما، والأُذُن؛ بالضمِّ ولك إسكانها تخفيفًا، والشحمة: معلق القُرط؛ بضم القاف: السوار الصغير المسمى: بالحَلَق؛ بفتحتين، والحدُّ [1] يشير إلى أن الغاية غير داخلة في المغيا لا طولًا ولا عرضًا، وهو كذلك فيفترض غسل ما بين العذار والأذن من البياض؛ لدخوله في الحدِّ، وهو قول الإمام الأعظم ومحمد وبه يفتى، كما في «الدر».
وقال الإمام أبو يوسف: لا يفترض غسله والخلاف في الملتحي، أمَّا الأمرد، والمرأة، والكوسج؛ فيفترض عليه الغسل اتفاقًا، كما في شروح «ملتقى الأبحر»، والعِذار؛ بكسر العين: الشعر النابت على الخد ويخرج الأذنان؛ لعدم دخولهما في الحدِّ اتفاقًا، وشمل الحد غسل المياقي جمع: موق وهو مؤخر العين، والماق مقدمها؛ لأنَّه يجتمع فيهما غالبًا الرمص، وهو ما جمد من الوسخ ولونه أصفر يخرج من العين حين رطوبتها، فيجب إزالته وإيصال الماء تحته إن كان يبقى حال تغميض العين، فلو في داخل العين بحيث لو غمَّض عينيه يبقى داخلًا؛ فلا يجب للحرج، كذا في «البحر».
وشمل الحدُّ ما يظهر من الشفتين عند الانضمام؛ لأنَّه تبع للوجه، فيفترض غسلهما على المعتمد، وقيل: لا؛ لأنَّهما تبع للفم، والمراد بالانضمام: هو الطبيعي المعتاد لا بشدَّة وتكلُّف، وكذا لو غمَّض عينيه شديدًا؛ لا يجوز، لكن ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم الجواز، كما في شرح «نظم الكنز»؛ للحرج والضَّرر؛ لأنَّ العين شحم لا يقبل الماء ومن تكلَّف من الصحابة فيه كُفَّ بصره في آخر عمره كابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما، كما في «المبسوط»، حتَّى لو اكتحل بكحلٍ نجسٍ؛ لا يجب غسله، كما صرح به في «حواشي المراقي».
ولا يجب غسل ما تحت ونيم ذباب، وبرغوث، وحنَّاء، ودرن، ودهن، وتراب، وطين؛ لأنَّ الماء يخرقه وللحرج، ولا أصول اللحية والشارب إذا كانا كثيفين أما إذا بدت البشرة فيهما؛ فيجب غسلها، فالمسترسل من الشعر عن دائرة الوجه لا يجب غسله ولا مسحه اتفاقًا عندنا، كما في «النهر الفائق»، نعم يسنُّ مسحه كما في «المنية»؛ بل يسن غسله كما في «الحلية».
ويجب غسل جلد السمك، والخبز الممضوغ الجاف، والدرن اليابس في الأنف، بخلاف الرطب، كما في «القهستاني»، وكذا يجب غسل الشمع والشحم، كما في «الإمداد»، وما ذكرناه من الحد يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين بالآية؛ لأنَّهما لا يواجه بهما، فمن قال: بوجوبهما في الوضوء؛ فقد زاد على النصِّ، وهو غير جائز، نعم يسن غسلهما ويفترض في الغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس؛ لأنَّهما من تمام البدن، كما في المتون والشروح.
({وَأَيْدِيَكُمْ})؛ بالنصب على العطف على (وجوهكم)؛ أي: اغسلوا أيديكم، جمع: يد، وأصلها: يدي على وزن: (فعْل)؛ بسكون العين، وجمع الأيدي: أيادي [2]، مثل (أكرع وأكارع) وهي من أطراف الأصابع إلى المنكب، وفي هذا وغيره مقابلة الجمع بالجمع وهي تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد كقولهم: ركب القوم دوابهم، فمعناه: وجوب غسل يد واحدة من كل مكلف.
وأجيب: بأن غسل يد واحدة ثابت في النص، واليد الأخرى ثابتة إمَّا بدلالة النص، أو بفعل الرسول عليه السلام المتواتر.
({إِلَى المَرَافِقِ})، جمع: مِرْفَق؛ بكسر الميم وفتح الفاء وعلى العكس: مجتمع طرف الساعد والعضد، والأول اسم الآلة والثاني اسم المكان، ويجوز فتح الميم والفاء على أن يكون مصدرًا أو اسم مكان على الأصل.
واختلف هل الغاية داخلة في المغيَّا أم خارجة عنها؟ فقال الإمام الأعظم، وأبو يوسف، ومحمد، والحسن، والشافعي، وأحمد، ومالك في رواية: أن الغاية داخلة؛ فيفترض غسل المرفقين والكعبين، وقال الإمام زفر، وداود، ومالك في رواية أشهب: أن الغاية غير داخلة؛ فلا يفترض غسلهما، كقوله تعالى: {ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فالليل غير داخل في الصوم بالإجماع، فكذا هذا.
قلنا: إن الغاية إذا كانت لإسقاط ما وراءها تدخل، ومتى كانت لمد الحكم إليها؛ لا تدخل، وهذه الغاية لإسقاط ما وراءها؛ لأنَّه لو اقتصر على وأيديكم وأرجلكم؛ لتناول إلى الإبط وإلى الفخذ؛ لأنَّ اليد اسم لهذه الجملة من رؤوس الأصابع إلى الإبط، فلمَّا قال: {إِلَى المَرَافِقِ}؛ خرج عن أن يكون المرفق والكعبان داخلين تحت السقوط؛ لأنَّ الحد لا يدخل في المحدود فبقيت الغاية داخلة بمطلق الاسم، فبقي الغسل ثابتًا في اليد مع المرفق والرجل مع الكعب، والغاية في الصوم؛ لمدِّ الحكم، فيتناول إمساك ساعة، فإن من حلف لا يصوم؛ يحنث بصوم ساعة، فلم تدخل.
قال في «البحر»: وهذا الفرق غير مطَّرد لانتقاضه بالغاية في اليمين، فإنَّ ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم عدم الدخول؛ كما لو حلف لا يكلمه إلى عشرة أيام؛ لا يدخل العاشر مع تناول العدد، كما في «جامع الفصولين»، وكذلك رأس السمكة في قوله: لا آكل السمكة إلى رأسها؛ فإنَّها لا تدخل مع التناول المذكور، انتهى.
وأجاب في «فتح القدير»: بأن الكلام هنا على مقتضى اللغة والأيمان مبنية على العرف عندنا، وجاز أن يخالف العرف اللغة، اهـ؛ فتأمل.
وقيل: إن (إلى) بمعنى: مع؛ أي: مع المرافق، ورُدَّ بأنهم قالوا: اليد من رؤوس الأصابع إلى المنكب، فإذا كانت (إلى) بمعنى: مع؛ وجب غسل اليد إلى المنكب؛ لأنَّه كأغسل القميص وكمَّه، وغايته أنَّه كإفراد فرد من العام، إذ هو تنصيص على بعض متعلِّق الحكم بتعلُّق عين ذلك الحكم، وذلك لا يخرج غيره، ولو أخرج؛ كان بمفهوم اللقب، وهو ليس بحجة.
وقال العلَّامة جار الله الزمخشري والعلَّامة التفتازاني: إنَّ (إلى) تفيد الغاية مطلقًا، فأمَّا دخولها في الحكم وخروجها عنه؛ فأمر يدور مع الدليل، فما فيه دليل الخروج قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وما فيه دليل الدخول آية «الإسراء» للعلم بأنه لا يسرى به إلى المسجد الأقصى من غير أن يدخله، وما نحن فيه لا دليل على أحد الأمرين، فقالوا: بدخولهما احتياطًا؛ لأنَّهم لم يروا عنه عليه السلام قطُّ عدم غسلهما، فلا يفيد الافتراض؛ لأنَّ الفعل لا يفيده.
قال في «البحر»: والحقُّ أنَّ شيئًا مما ذكروه لا يدلُّ على الافتراض، فالأولى الاستدلال بالإجماع على فرضيَّتهما، قال الشافعي في «الأم»: لا نعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، قال ابن حجر في «الفتح»: فعلى هذا فأهل الظاهر، ومالك، والإمام زفر محجوجون بالإجماع، انتهى.
وردَّه في «النهر الفائق»: بأن قوله: (لا أعلم مخالفًا) ليس حكاية منه؛ للإجماع الذي يكون غيره محجوجًا به، فقد قال الإمام اللامشي في «أصوله»: لا خلاف في أن جميع المجتهدين لو اجتمعوا على حكم واحد ووجد الرضا من الكل نصًا؛ كان ذلك إجماعًا، أمَّا إذا نصَّ البعض وسكت الباقون _لا عن خوف بعد اشتهار القول_ فعامة أهل السنة على أن ذلك يكون إجماعًا، وقال الشافعي: لا أقول إنه إجماع، ولكن أقول لا أعلم فيه خلافًا، وقال أبو هاشم من المعتزلة: لا يكون إجماعًا ويكون حجَّة، وقيل: لا يكون حجَّة أيضًا، انتهى، ولهذا لم يحتج في «عمدة القاري» بالإجماع.
وقال في «شرح المنية»: إنَّ غسل المرفقين والكعبين ليس بفرض قطعي، بل هو فرض عملي لا يكفَّر جاحده، فقال في «النهر» أيضًا: ولهذا لا يحتاج إلى دعوى الإجماع؛ لأنَّ الفروض العملية لا يحتاج في إثباتها إلى القاطع، فيحتاج إلى الإجماع، اهـ.
وقال في «عمدة القاري»: والدليل على دخولهما في الغسل ما في «مسلم» من
%ص 90%
حديث أبي هريرة: (أنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في الساقين ثم قال: هكذا رأيت رسول الله عليه السلام يتوضأ)، ولم ينقل تركها، فكان فعله بيانًا أنه مما يدخل، وقوله: (حتى أشرع)؛ أي: أدخل وروي: (حتى أسبغ)، وقدَّمنا أن هذا لا يفيد الافتراض؛ لأنَّ الفعل لا يفيده.
وروي: (أن عمَّارًا تيمم إلى المنكب وقال: تيممنا إلى المناكب مع رسول الله عليه السلام)، وكان ذلك بعموم الآية، ولم ينكر عليه من جهة اللغة؛ لأنَّه من أهل اللغة، فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب، فثبت بذلك أن الاسم يتناول إلى المنكب، وذكر التحديد بعده يقتضي ذلك إسقاط ما وراءها، وتمامه في «عمدة القاري».
والغايات أربعة: غاية مكان، وغاية زمان، وغاية عدد، وغاية فعل، فغاية المكان من هذا الحائط إلى هذا الحائط، وغاية الزمان قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وكلاهما لا يدخلان في المغيا، وغاية العدد عليه من درهم إلى عشرة، فهي لا تدخل عند الإمام الأعظم والإمام زفر، وعند الإمام أبي يوسف والإمام محمد تدخل، وغاية الفعل: نحو أكلت السمكة حتى رأسها، فإن نصبت السين؛ دخلت وتكون (حتى)؛ بمعنى: الواو عاطفة، وإن خفضتها؛ لم تدخل وتكون (حتى)؛ بمعنى: إلى، كذا قاله الحدادي في «الجوهرة»، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب» «شرح مختصر الإمام القدوري»، وظاهر ما قدمناه: يفيد الوجوب لا الافتراض؛ فتأمل، والله أعلم.
وفي «الظهيرية»: من قطعت يداه ورجلاه وبوجهه جراحة يصلي بلا وضوء ولا تيمم ولا يعيد في الأصح، اهـ.
ومثله: في أكثر الكتب، وأمَّا فاقد الطهورين؛ ففي «الدر» عن «الفيض» وغيره: أنه يتشبه بالمصلين وجوبًا، فيركع ويسجد إن وجد مكانًا يابسًا، وإلا؛ يومئ قائمًا ولا يقرأ ثم يعيد وهو قول الصاحبين، اهـ.
وبه ظهر أن تعمد الصلاة بلا طهر غير مكفِّر كصلاته لغير القبلة أو مع ثوب نجس، وهو ظاهر المذهب كما في «الخانية» وغيرها، وقال بعضهم: المختار أنه يكفر بالصلاة بغير طهارة لا بالصلاة بالثوب النجس وإلى غير القبلة؛ لجواز الأخيرتين حال العذر بخلاف الأولى فإنه لا يؤتى بها بحال؛ فيكفَّر، اهـ، كما في حواشي شيخ شيخنا، ويجب غسل كل ما كان مركبًا على أعضاء الوضوء كالأصابع الزائدة والكف الزائد، فإن كان خلق على العضو؛ غَسَلَ ما يحازي محلَّ الفرض ولا يلزمه غسل ما فوقه، كذا في «الينابيع».
وقشرة القرحة إذا ارتفعت ولم يصل الماء إلى ما تحتها؛ لا بأس به في الوضوء والغسل؛ لأنَّها متصلة بالجلد اتصال الخلقة، كذا في «الجوهرة» وفي «المجتبى»، ولا يجب نزع الخاتم وتحريكه في الوضوء إن كان واسعًا، وفي الضيِّق اختلاف المشايخ؛ فروى الحسن عن الإمام الأعظم: عدم اشتراط النزع والتحريك، ومثله في «الخانية»، لكن المختار من الرواية: أنه يجب تحريك الخاتم الضيق؛ لأنَّ النبي الأعظم عليه السلام كان يحرِّك خاتمه إذا توضأ، ولو انضمَّت الأصابع أو طال الظفر فغطَّى الأنملة؛ وجب غسل ما تحته، ولا يمنع درن تحت الأظفار سواء كان قرويًا أو مدنيًا في الأصح، وعليه الفتوى، وقيل: درن المدني يمنع؛ لأنَّه من الودك بخلاف القروي؛ لأنَّه من التراب، وتمامه في «شرحنا»، والله تعالى أعلم.
({وَامْسَحُوا}): أمر من: (مسح يمسح مسحًا)؛ أي: (فعَل يفعَل)؛ بالفتح فيهما، يقال: مسح الأرض مساحة؛ زَرَعها، ومسح المرأة؛ جامعها، وفي الشرع: المسح: الإصابة باليد المبتلَّة، ويجيء بمعنى: الغسل، كما يأتي.
({بِرُؤُوسِكُمْ}): الجار والمجرور محله النصب على المفعولية، وهو يدل على فرضية المسح على الرأس، واختلف في المفروض منه، فقال الإمام أبو الحسن القدوري: والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية، وهي ما بين النزعتين من الشعر، كما في «شرح الإرشاد»، وقيل: مقدَّم الرأس، كما في «ضياء الحلوم»، وهي _أي: الناصية_: ربع الرأس، وهو ما اختاره في «الهداية»، و «التبيين»، و «شرح الوقاية».
وقال في «البحر»: الناصية: ليست قدر ربع الرأس بدليل أن صاحب «البدائع» وغيره نقلوا عن الإمام الأعظم روايتين؛ في رواية: المفروض مقدار الناصية، وفي رواية: الربع، ولا تغاير بين الروايتين؛ لأنَّ الإمام الإسبيجابي روى: أن المفروض مقدار الناصية ثم قال: هذا إذا كانت الناصية تبلغ ربع الرأس، وإن لم تبلغ؛ لا يجوز، وروى الإمام الحسن عن الإمام الأعظم: أنه الربع، وروى الكرخي والحافظ الطحاوي: أنه مقدار الناصية، فعلى هذا من روى: الربع؛ روى: الناصية.
وروى هشام عن الإمام: أن المفروض مقدار ثلاثة أصابع، وهي ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم وعليها جرى في «النهاية»، لكن المعتمد رواية: الربع، وعليها مشى المتأخرون كابن الهمام، وابن أمير حاج، والمقدسي، وصاحب «البحر» و «النهر»، والتمرتاشي، والشرنبلالي، وعليه الفتوى؛ لأنَّ الباء في {برؤوسكم} للإلصاق عند المحققين وأنه المجمع عليه، بخلاف غيره، والفعل الذي هو المسح قد تعدَّى إلى الآلة وهي اليد؛ لأنَّ الباء إذا دخلت على الآلة تعدى الفعل إلى كل ممسوح؛ كمسحت رأس اليتيم بيدي، أو على المحلِّ تعدَّى الفعل إلى الآلة، والتقدير: وامسحوا أيديكم برؤوسكم، فيقتضي استيعاب اليد دون الرأس، واستيعابها ملصقة بالرأس لا تستغرق غالبًا سوى ربعه؛ فتعين الربع مرادًا في الآية وهو المطلوب.
وقال مشايخنا: الآية مجملة محتاجة للبيان وقد بيَّنتها السنة، ففي «صحيح مسلم» من حديث المغيرة بن شعبة: (أن النبي الأعظم عليه السلام توضَّأ ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين)، وعند ابن ماجه عن المغيرة: (أنه عليه السلام أتى سباطة قوم، فبال، وتوضأ ومسح على ناصيته وخفَّيه)، ورواه النسائي، وروى أبو داود عن أنسٍ قال: (رأيت رسول الله عليه السلام يتوضَّأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه)، وسكت أبو داود، وما سكت عليه؛ فهو حسن عنده، وروى البيهقي عن عطاء: (أنه عليه السلام توضأ فحسر العمامة ومسح مقدَّم رأسه، _أو قال_: ناصيته)، وهو حجَّة أيضًا وإن كان مرسلًا سيما وقد اعتضد بالمتصل، وتمام مسح المقدم: هو الربع المفسر للناصية.
فإن قلت: الحديث يقتضي بيان عين الناصية، والمدعى ربع غير معين وهو الناصية فلا يوافق الدليل؟!
أجيب: بأن الحديث يحتمل معنيين بيان المجمل وبيان المقدر، وخبر الواحد يصلح بيانًا للمجمل في الكتاب، والإجمال في المقدار دون المحل؛ لأنَّه الرأس وهو معلوم، فلو كان المراد منه مطلق البعض؛ لا يحتاج إلى البيان، فإن المسح على أدنى ما ينطلق عليه الاسم غير ممكن إلا بزيادة غير معلومة، وإن الله أفرد المسح بالذكر، ولو كان المراد بالمسح مطلق البعض؛ لم يكن للإفراد بالذكر فائدة.
فإن قلت: لا نسلِّم أن الكتاب مجمل؛ لأنَّ المجمل ما لم يمكن العمل به إلا ببيان، والعمل بالنصِّ ممكن؛ لحمله على الأقل.
قلت: لا نسلِّم أن العمل به ممكن قبل البيان، والأقل لا يكون أقل من شعرة، والمسح عليها لا يكون إلَّا بزيادة عليها، وما لا يمكن إلَّا به فهو فرض، والزيادة غير معلومة فتحقَّق الإجمال في المقدار.
فإن قلت: سلَّمنا أنه مجمل والخبر بيان له، ولكن الدليل أخصُّ من المدلول؛ لأنَّ المدلول مقدار الناصية، وهي الربع والدليل يدلُّ على تعيين الناصية.
قلنا: البيان فيه؛ لما فيه الإجمال، فكأن الناصية بيان للمقدار لا للمحل المسمى: ناصية؛ إذ لا إجمال في المحل، فكان من باب ذكر الخاص وإرادة العام، وهو مجاز شائع، فكانا متساويين في العموم.
فإن قلت: لا نسلِّم أن مقدار الناصية فرض؛ لأنَّ الفرض ما ثبت بدليل قطعي، وخبر الواحد لا يفيد القطع ولئن سلَّمناه، ولكنَّ لازمه _وهو تكفير الجاحد_ منتف فينتفي الملزوم.
قلت: الأصل في هذا أن الخبر الواحد إذا لحق بيانًا للمجمل؛ كان الحكم بعده مضافًا إلى المجمل دون البيان، والمجمل من الكتاب دليل قطعي، ولا نسلِّم انتفاء اللازم؛ لأنَّ الجاحد من لا يكون مؤولًا، وموجب القول أو الجميع مؤول يعتمد شبهة
%ص 91%
قوية، وقوة الشبهة تمنع التكفير من الجانبين، ألا ترى أنَّ أهل البدع لا يُكَفَّرون بما منعوا مما دلَّ عليه الدليل القطعي في نظر أهل السنة؛ لتأويلهم، وتمامه في «عمدة القاري» و «منهل الطلاب».
وقال مالك: المفروض في مسح الرأس ثلثيه، وفي رواية: الثلث، وفي أخرى: مسح كله فرض، وهو المعتمد عنده؛ لأنَّ الباء: زائدة، والمعنى: امسحوا رؤوسكم، فتعيَّن مسح الجميع، وبه قال أحمد بن حنبل، ويدل لذلك ما رواه مالك من حديث عبد الله بن يزيد بن عاصم: (أنَّه سئل عن وضوئه عليه السلام، فأكفأ على يديه)، وفي آخره: (ثم أدخل يده في التَّور، فمسح رأسه، فأقبل بها وأدبر مرة واحدة، ثمَّ غسل رجليه)، واعترض بأنَّ الباء معناها: الإلصاق عند المحققين، والقول بزيادتها ضعيف، ويصان كلام الباري عن الزيادة التي لا فائدة فيها، فإنَّه مهما أمكن حمل كلامه تعالى على المعنى؛ يصار إليه ولا يعدل عنه، وإنَّ الحديث الذي رواه ليس بقوي؛ لأنَّ فيه راوٍ ساقط مجهول، وحديث المغيرة وأنس أقوى؛ لأنَّه مروي في الكتب الستة من طرق متعددة، حتَّى قيل: إنَّه بلغ مبلغ المتواتر.
وقال الشافعي: المفروض في مسح الرأس: مسح بعض شعرة أو ثلاث شعرات؛ لأنَّ الباء عنده معناها: التبعيض، وبشعرة أو ثلاث يطلق عليه البعض، واعترض بأنَّ الباء معناها: الإلصاق عند المحققين كما مرَّ، والتبعيض ليس معنًى أصليًّا؛ بل يحصل في ضمن الإلصاق.
وقال ابن جني وابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض؛ فقد جاء أهلَ اللغة بما لا يعرفونه، وأثبت ابن مالك والفارسي التبعيض، وهو ضعيف، كما نصَّ عليه المحققون، وأنَّه لم يرو في الأحاديث الصحاح ولا الضعاف: أنَّه عليه السلام مسح شعرة أو ثلاث شعرات، ولا أحد من الصحابة والتابعين، فالقول: بالتبعيض ضعيف واهٍ لا يعتمد عليه، كما نصَّ عليه المحققون، والله تعالى أعلم.
({وَأَرْجُلَكُمْ}): يجوز فيه ثلاثة أوجه: الرفع؛ وهي قراءة نافع والأعمش، والنصب قراءة علي، وابن مسعود، وابن عباس، والضحاك، وابن عامر، والكسائي وغيرهم، والجر قراءة أنس، وعلقمة، وأبو جعفر، والمشهور قراءة النصب والجر، فالرفع على معنى: وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة، والنصب عطفًا على المغسول، والجر عطفًا على الممسوح.
ففيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل السنة والجماعة: أنَّ وظيفة الرجلين الغسل لا غير.
الثاني: مذهب الإمامية من الشيعة وغيرهم: أنَّ الفرض المسح لا غير.
الثالث: مذهب الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري، والشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، والمتصوفة: أنَّه مخير بين الغسل والمسح.
والقراءتان متعارضتان فهو في حكم المجمل المفتقر إلى البيان.
وقد ورد البيان عن النبي الأعظم عليه السلام قولًا وفعلًا، أما الأول: فالأحاديث الصحيحة المستفيضة في الكتب المروية عن جابر، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عمر، وابن الحارث، وابن الوليد، وابن سفيان، وأبي أمامة، والصديق الأكبر، وأنس بن مالك وغيرهم: (أنه رأى قومًا يتوضؤون، فبقي على أقدامهم قدر الدرهم لم يصبه الماء، فقال عليه السلام: «ويل للأعقاب من النار»، فكان أحدهم ينظر، فإن رأى موضعًا لم يصبه الماء؛ أعاد الوضوء)، أخرجها الحافظ الطحاوي، والمؤلف، ومسلم، والدارمي، والنسائي، وابن ماجه، وأبو نعيم، والطبراني، والحاكم، وأبو عوانة، وأبو داود وغيرهم، كما بسطها الشيخ الإمام بدر الدين العيني في «عمدة القاري».
وأما الثاني: فالأحاديث الصحيحة أيضًا المستفيضة بالنقل المتواتر عن عثمان بن عفان، وعلي الصديق الأصغر، وابن عباس، وأبي هريرة، وعبد الله بن زيد، والربيع، وعمرو بن عنبسة [3] وغيرهم: (أنَّه عليه السلام غسل رجليه في الوضوء)، كما بسطها في «عمدة القاري»، ولم يثبت في الأحاديث الصحاح أنَّه عليه السلام مسح رجليه بغير خف في حضر ولا سفر، وما روى ابن خزيمة: (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بالماء على رجليه)؛ فمنكر لا تقوم به حجَّة، وروي مثله في مسح الرجلين، وكلها ضعيفة؛ بعضها فيه مجهول، وبعضها منسوخ، وبعضها فيه ابن لهيعة، وبالجملة؛ فهي لا يحتج بها، كما بسطها في «عمدة القاري»، والوعيد الذي في الأحاديث الصحاح لا يجوز أن يستحق إلا بترك المفروض، فهذا يوجب استيعاب الرجل بالغسل.
وأمَّا قراءة الجر؛ فأجيب عنها بأجوبة:
منها: أنَّها جرت على مجاورة (رؤوسكم)، وإن كانت منصوبة كقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] على جوار {يوم} وإن كان صفة لـ {عذاب}، وقولهم: هذا جحر ضبٍ خربٍ؛ بجر (خرب) وإن كان مرفوعًا صفة لـ (جحر)، وللنحاة باب مستقل في ذلك.
ومنها: أنَّها عطفت على الرؤوس؛ لأنَّها تغسل بصب الماء عليها، فكأنَّ مظنة الإسراف المنهي عنه لا لتمسح، ولكنَّه؛ لينبِّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، فجيء بالغاية؛ ليعلم أنَّ حكمها مخالف لحكم المعطوف عليه؛ لأنَّه لا غاية في الممسوح، قاله في «الكشاف».
ومنها: أنَّه محمول على حالة اللبس للخف، والنصب على الغسل عند عدمه.
ومنها: أنَّ المسح يستعمل بمعنى الغسل الخفيف، يقال: مسح على أطرافه؛ إذا توضأ، قاله أبو زيد وأبو علي الفارسي.
والتوفيق بين القراءتين يمكن أن يحمل قراءة النصب على ما إذا كانت الرجلان باديتان، وقراءة الجر على ما إذا كانتا مستورتين بالخفين؛ توفيقًا بين القراءتين، وعملًا بهما بالقدر الممكن.
وقد يقال: إن قراءة الجر معارضة لقراءة النصب، فلا حجة فيهما إذن؛ لوجود المعارضة، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
({إِلَى الكَعْبَيْنِ}): قال جمهور أهل اللغة: الكعبان: العظمان الناتئان في آخر الساق مع القدم، وكلُّ مفصل للعظام؛ فهو كعب إلا أنَّ هذين الكعبين ظاهران عن يمنة القدم ويسرته؛ فلذلك لم يحتج أن يقال: الكعبان اللذان من صفتهما كذا وكذا.
وقالت الإمامية من الشيعة وكل من يرى المسح: إنَّ الكعب: عظم مستدير مثل كعب الغنم والبقر موضوع تحت عظم الساق؛ حيث يكون مفصل الساق والقدم عند معقد الشراك، وهو مردود؛ لأنَّه لو كان كما قالوه؛ لكان في كلِّ رجل كعب واحد، فكان ينبغي أن يقول: إلى الكعاب؛ لأنَّ الأصل: أنَّ ما يوجد من خلق الإنسان مفردًا، فتثنيته بلفظ الجمع؛ كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، ومتى كان مثنًّى؛ فتثنيته بلفظ التثنية، فلمَّا لم يقل: إلى الكعاب؛ عُلِم أن المراد ما ذكره جمهور أهل اللغة، كما علمت.
ويدلُّلما قلناه حديث عثمان بن عفان: (أنَّه عليه السلام غسل رجله اليمنى إلى الكعبين، ثمَّ اليسرى كذلك)، أخرجه مسلم، فدلَّ على أنَّ في كلِّ رجل كعبين، وحديث النعمان بن بشير في تسوية الصفوف: (فقد رأيت الرجل يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه)، رواه أبو داود والمؤلف، وحديث طارق قال: (رأيت رسول الله عليه السلام في سوق ذي المجاز وعليه جبَّة حمراء وهو يقول: «يا أيها الناس؛ قولوا؛ لا إله إلا الله؛ تفلحوا» ورجل يتبعه ويرميه بالحجارة وقد أدمي عرقوبيه وكعبيه، وهو يقول: يا أيها الناس؛ لا تطيعوه؛ فإنه كذاب، فقلت: من هذا؟ فقالوا: ابن عبد المطلب، قلت: فمن هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة، قالوا: هذا عبد العزى أبو لهب)، وهذا يدل: على أنَّ الكعب: هو العظم الناتئ في جانب القدم؛ لأنَّ الرمية إذا كانت من وراء الماشي؛ لا تصيب ظهر القدم.
فإن قلت: روى هشام بن عبد الله الرازي عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني أنَّه قال: إن الكعب في ظهر القدم عند معقد الشراك.
قلت: اتفق جميع الشرَّاح وأصحاب المناسك على أنَّ ذلك سهو من هشام في نقله عن الإمام محمد؛ لأنَّه قال ذلك في مسألة المحرم إذا لم يجد النعلين
%ص 92%
حيث يقطع خفيه أسفل الكعبين، وأشار الإمام محمد بيده إلى موضع القطع، فنقله هشام إلى الطهارة؛ فليحفظ.
وقال ابن بطال في «شرحه»: إنَّه مذهب الإمام الأعظم.
وأجيب: بأن هذا جهل من ابن بطال بمذهب الإمام الأعظم؛ لأنَّه لم يقل به أحد من أصحابه، فهذه جرأة وسوء أدب وافتراء؛ فليحفظ.
واعلم: أن الترتيب بين أفعال الوضوء اختلف فيه؛ فقال إمامنا الإمام الأعظم: إنَّه سنَّة، واختار القدوري أنَّه مستحب، واختار غيره أنَّه واجب، والمعتمد الأول؛ لمواظبة النبي الأعظم عليه السلام على ذلك مع الترك أحيانًا، والمواظبة مع الترك تفيد السُّنِّيَّة.
وروى المؤلِّف وأبو داود: أنَّه عليه السلام تيمَّم فبدأ بذراعيه قبل وجهه، فلما ثبت عدم الترتيب في التيمم ثبت في الوضوء؛ لأنَّ الخلاف فيهما واحد، ولأنَّ الواو في الآية لمطلق الجمع لا تفيد ترتيبًا ولا تعقيبًا ولا معية؛ بإجماع أهل اللغة كما نصَّ عليه رئيس الصنعة سيبويه، وروي في «السنن»: أنَّه عليه السلام نسي مسح رأسه ثمَّ تذكر فمسحها ولم يُعِد غسل رجليه، وهو مرسل يصح الاحتجاج به عندنا.
وقال الشافعي: إنَّ الترتيب فرض للآية؛ حيث عقَّب القيام بغسل الوجه بالفاء؛ وهي للترتيب، ومتى وجب تقديم الوجه؛ تعيَّن الترتيب وهو منقوض؛ لأنَّ الفاء وإن اقتضت التشريك، لكن المعطوف على ما دخلت عليه الفاء بالواو مع ما دخلت كالشيء الواحد؛ فأفادت ترتيب غسل هذه الأعضاء على القيام إلى الصلاة، لا ترتيب بعضها على بعض، وهذا مما يُعلم بالبديهة، قال الله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فللقاتل أن يبدأ بأيِّهما شاء بالإجماع، وكذا لو قال لغلامه: إذا دخلت السوق؛ فاشتر لحمًا، وخبزًا، وموزًا؛ لا يلزمه شراء اللحم أولًا، واستُدلَّ للشافعي بحديث: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع طهوره مواضعه، فيغسل يديه ثم يغسل به وجهه ثم ذراعيه ... » الحديث، وكلمة: (ثمَّ)؛ للترتيب وهو منقوض؛ لأنَّ النووي قال: (إنَّه حديث ضعيف لا يُحتجُّ به)، على أن كلمة: «ثمَّ»؛ للتراخي ولم يقل به أحد وصار بمعنى الواو كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]؛ أي: وصورناكم.
واستُدلَّ للشافعي أيضًا بأن الله تعالى ذكر ممسوحًا بين مغسولات، والأصل: جمع المتجانس على نسق واحد، ثم عطف غيرهما، لا يُخرَج عن ذلك إلا لفائدة، وهي هنا وجوب الترتيب، وهو منقوض؛ لما نص عليه المفسرون من أن الفائدة هنا التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء على الأرجل؛ لما أنَّها مظنة الإسراف، والحاصل: أن الدليل قائم على عدم الافتراض؛ لأنَّه الأصل ومدعيه مطالب بالدليل؛ فليحفظ.
فائدة: استُدِل بهذه الآية على أن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، وأمَّا قبل ذلك؛ فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السِّيَر على أن غسل الجنابة فرض على النبي الأعظم عليه السلام بمكة؛ كما افترضت الصلاة، وأنَّه لم يصل قط إلا بوضوء، وروى الحاكم في «المستدرك» من حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي عليه السلام وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: «ائتوني بوضوء؛ فتوضأ»، فهو دليل على وجود الوضوء قبل الهجرة، وأنه فرض.
وزعم ابن الجهم بأنَّه كان قبل الهجرة مندوبًا، وزعم ابن حزم بأنَّه لم يشرع إلا بالمدينة.
ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في «المغازي» التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة عنه: أن جبريل علَّم النبي عليه السلام الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد وابن ماجه من رواية راشد بن سعيد، وأخرجه الطبراني من طريق الليث بن عقيل موصولًا، والله أعلم.
(قال أبو عبد الله) يعني: المؤلف: (وبيَّن)؛ بتشديد التحتية، وللأصيلي: (قال: وبين) (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في حديث ابن عباس الآتي موصولًا في باب (أن النبي الأعظم عليه السلام توضأ مرة مرة) (أن فرض الوضوء)؛ المجمل في الآية المذكورة (مرة) للوجه ومرة لليدين و (مرة) للرأس ومرة للرجلين، وروي فيهما الرفع والنصب، أما الرفع؛ فعلى الخبرية لـ (أن) وهو أقوى الأوجه، وأمَّا النصب؛ فعلى أوجه:
أحدها: أنَّه مفعول مطلق؛ أي: فرض الوضوء غسل الأعضاء غسلة واحدة.
والثاني: أنَّه ظرف؛ أي: فرض الوضوء ثابت في الزمان المسمَّى بالمرة، ذكر هذا الوجه الكرماني، قال في «عمدة القاري»: وفيه بعد، وأقرَّه البرماوي.
الثالث: أنَّه حال سدت مسد الخبر كقراءة بعضهم {ونحن عصبة}؛ بالنصب.
الرابع: أنه نصب على لغة من ينصب الجزأين لـ (أن) كقوله: إنَّ حُرَّاسنَا أسدًا، كذا قرره في «عمدة القاري»، قال: (وفائدة التكرار: إما التأكيد أو إرادة التفصيل؛ أي: فرض الوضوء غسل مرة للوجه ... إلى آخره، فالتفصيل بالنظر إلى أجزاء الوضوء، أو المعنى: فرض الوضوء في كل وضوء مرة في هذا الوضوء فالتفصيل بالنظر إلى جزئياته) انتهى.
(وتوضأ) عليه السلام (أيضًا)؛ بفتح الهمزة مصدر (أضَّ) إذا رجع، كما في الحديث؛ أتى بيانه موصولًا في باب على حدة، (مرتين مرتين)؛بالتكرار، وفي رواية بدونه، ووجه انتصابهما مثل انتصاب (مرة) كما سبق قريبًا.
(وتوضأ) عليه السلام أيضًا (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، وفي رواية: (وثلاثًا ثلاثًا)، وفي رواية: (وثلاثة) بالهاء، فأشار المؤلف بهذين التعليقين إلى أن الأمر من حيث هو لإيجاد حقيقة الشيء المأمور به لا يقتضي المرة ولا التكرار، بل هو محتمل لهما فبيَّن النبي الأعظم عليه السلام أن المراد منه: المرة؛ حيث غسل مرة واحدة واكتفى بها، لأنَّه لو لم يكن الفرض إلا مرة واحدة؛ لم يجز الاجتزاء بها، وأشار بقوله: (مرتين) و (ثلاثًا) إلى أن الزيادة عليها مندوب إليها؛ لأنَّ فعل الرسول عليه السلام يدل على الندب غالبًا إذا لم يكن دليل على الوجوب بكونه بيانًا للواجب.
قال في «عمدة القاري»: وبيان النبي الأعظم عليه السلام أن فرض الوضوء مرة مرة؛ وقع في حديث ابن عباس: أنه عليه السلام توضأ مرة مرة، وهو بيان بالفعل لما أجمل في الآية، وحديث أبي بن كعب: أنه عليه السلام دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، ففيه بيان بالقول والفعل، وهذا أخرجه ابن ماجه، ولكنه ضعيف، وله طرق أخرى كلها ضعيفة، وتمامه فيه، قلت: يحتمل أنه صار حسنًا لغيره لتعدد طرقه وعدم اشتداد ضعفها؛ فليحفظ.
(ولم يزد)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (على ثلاث) بدون التاء، وهي الرواية الصحيحة، كما في «عمدة القاري»، وهو القياس؛ لأنَّ المعدود مؤنث، وفي رواية بالتاء، فإما أوله بـ (أشياء) وإما لأنَّه محذوف، كذا قيل.
قال في «عمدة القاري»: المعنى أنه لم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوء النبي الأعظم عليه السلام أنه زاد على ثلاث؛ بل ورد عنه عليه السلام ذم من زاد عليها، وهو ما رواه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب: أن النبي عليه السلام توضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: «من زاد على هذا أو نقص؛ فقد أساء وظلم»، وإسناده جيد، وكيف يكون ظالمًا بالنقصان وقد ورد في الأحاديث الوضوء مرة مرة ومرتين كما سبق؟
وأجيب عنه بأجوبة:
%ص 93%
الأول: أن فيه حذفًا؛ تقديره: أو نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه أبو نعيم بن حماد مرفوعًا: «الوضوء مرة ومرتين وثلاثًا، فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاث؛ فقد أخطأ»، وهو مرسل، ورجاله ثقات.
الثاني: أن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم اقتصروا على قوله: «فمن زاد» فقط، كذا رواه ابن خزيمة في «صحيحه» من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي عليه السلامن فسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: «هذا الوضوء فمن زاد على هذا؛ فقد أساء، وتعدى، وظلم»، ورواه ابن ماجه في «سننه» وأحمد في «مسنده» والنسائي في «سننه» بلفظ: «فقد أساء وتعدى وظلم».
الثالث: أنَّه يكون ظالمًا لنفسه في تركه الفضيلة والكمال، وإن كان مرة مرة أو مرتين مرتين.
الرابع: أنَّه يكون ظالمًا إذا اعتقد خلاف السنية في الثلاث، ويقال: الإساءة ترجع إلى الزيادة، والظلم إلى النقصان؛ لأنَّ الظلم: وضع الشيء في غير محله، قلت: وكذا الزيادة على الثلاث أيضًا وضع الشيء في غير محله، وأيضًا هذا إنَّما يتمشى على رواية تقديم الإساءة على النقصان؛ فافهم.
قال في «منهل الطلاب»: (واختلف في تأويله؛ فقيل: من زاد على أعضاء الوضوء بأن مسح الحلقوم أو نقص عنها، أو زاد على الحد المحدود أو نقص عنه، أو زاد على الثلاث معتقدًا أنَّ إكمال السنة لا يحصل بالثلاث).
قال في «الحلية»: (والظاهر: أنَّه لو نقص غسلهما عن الثلاث كان آتيًا بالسنة تاركًا لكمالها)، ووافقه في «النهر» وهو جارٍ على القول بأن الأولى فرض، والثانية سنة، والثالثة إكمال، كما في «الكشف»، والصحيح: أنَّه محمول على الاعتقاد دون نفس العمل حتى لو زاد أو نقص واعتقد أن الثلاثة سنة؛ لا يلحقه الوعيد، كذا في «البدائع»، واقتصر عليه في «الهداية»، ومشى عليه في «الدر المختار»، وفي «البحر»: السنة تكرار الغسلات المستوعبات لا الغرفات، والمرة الأولى فرض، والثنتان بعدها سنتان مؤكدتان على الصحيح، كما في «السراج»، واختاره في «المبسوط»، وأيَّده في «النهر».
ولو اقتصر على مرة واحدة؛ ففي إثمه قولان: قيل: يأثم؛ لترك السنة، وقيل: لا يأثم؛ لأنَّه قد أتى بما أُمِر به، كذا في «السراج»، واختار في «الخلاصة» أنه إن اعتاده؛ أثم، وإلا؛ فلا، ومشى عليه في «الدر»، وهو محمل القولين، كما في «الفتح» و «النهر»، أمَّا إذا لم يجعله عادة له بأن اقتصر على واحدة أحيانًا، أو فعله؛ لعزة الماء، أو لعذر البرد، أو لحاجة؛ فلا يكره، كما في «الخلاصة».
وأمَّا إن زاد على الثلاث لطمأنينة القلب؛ فمندوب؛ لأنَّه أمر بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وهذا في غير الموسوس، أمَّا هو؛ فيلزمه قطع مادة الوسواس عنه، وعدم الالتفات إلى التشكيك؛ لأنَّه فعل الشيطان، وقد أمرنا بمخالفته، ويؤيده ما ذكره في «التاترخانية»: (أنَّه لو شك في بعض وضوئه؛ أعاده إلا إذا كان بعد الفراغ منه، أو كان الشك عادة له، فإنه لا يعيده ولو قبل الفراغ؛ قطعًا للوسوسة عنه) انتهى.
وأمَّا إذا زاد بنية وضوء آخر بعد الفراغ من الأول؛ فلا بأس به؛ لأنَّه نور على نور، وكذا إن نقص؛ لحاجة لا بأس به، كما في «المبسوط»، وفي «التاترخانية»: (لو زاد على الثلاث؛ فهو بدعة، وهذا إذا لم يفرغ من الوضوء، أمَّا لو فرغ ثم استأنف الوضوء؛ فلا يكره بالاتفاق) انتهى، ومثله في «الخلاصة»، وعارض دعوى الاتفاق في «البحر» بما في «السراج» من أنَّه مكروه في مجلس واحد قبل أن يؤدي بالأول عبادة، ووفَّق في «النهر» بأن ما مرَّ فيما إذا أعاده مرة واحدة وما في «السراج» فيما إذا كرره مرارًا، انتهى، قيل: وهو بعيد، وتمامه في «شرحنا»، والله تعالى أعلم.
(وكرِه)؛ بكسر الرَّاء مخففة وبفتحها مشددة، والمكروه: ضد المحبوب، يقال: كَرِه الشيء يكرهه _من باب (سَمِع) _ كَرهًا ويضم، وكراهية؛ بالتخفيف والتشديد؛ إذا لم يحبه، كما في «القاموس».
والمكروه نوعان: مكروه تحريمًا؛ وهو المحمل عند إطلاقهم الكراهة، وهو ما تَرْكُه واجب ويثبت بما يثبت به الواجب، كما في «فتح القدير»، ومكروه تنزيهًا؛ وهو ما تركه أولى من فعله، وكثيرًا ما يطلقونه، فلا بد من النظر في الدليل، فإن كان نهيًا ظنيًّا؛ يحكم بكراهة التحريم ما لم يوجد صارف عنه إلى التنزيه، وإن لم يكن الدليل نهيًا، بل كان مفيدًا للترك الغير الجازم؛ فهي تنزيهية، قاله صاحب «البحر».
ثم المكروه تنزيهًا إلى الحلِّ أقرب اتفاقًا كما في «البرهان»، وأمَّا المكروه تحريمًا؛ فالمشهور عن الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف: أنه إلى الحرام أقرب؛ بمعنى: أنه ليس فيه عقوبة بالنار، بل بغيرها كحرمان الشفاعة، وعند الإمام محمد: هو حرام، ولم يطلقه عليه؛ لعدم النص الصريح فيه، كذا في شروح «الملتقى».
(أهل العلم) أي: المجتهدون منهم (الإسراف)؛ وهو صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي، بخلاف التبذير؛ فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي (فيه)؛ أي: في الوضوء، أشار بذلك إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة عن هلال بن يسار أحد التابعين قال: (كان يقال: في الوضوء إسراف، ولو كنت على شاطئ نهر)، وأخرج ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله عليه السلام مرَّ بسعد وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السرف؟»، قال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: «نعم؛ ولو كنت على نهر جارٍ».
(وأن يجاوزوا) أي: أهل العلم (فعل النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، بالعطف على قوله: (الإسراف فيه)، وهو عطف تفسير للإسراف؛ إذ ليس المراد بالإسراف إلا المجاوزة عن فعله عليه السلام؛ أي: الثلاث، وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: (ليس بعد الثلاث شيء).
واختلف في الكراهة؛ فقال شمس الأئمة الحلواني: إنها تحريمية، وعليه مشى الإمام الجليل قاضيخان، واستوجهه في «الحلية»، و «البحر»، و «النهر»، ومشى عليه في «الدر»؛ حيث قال: (والإسراف؛ ومنه: الزيادة على الثلاث في الماء مكروه تحريمًا، ولو بماء النهر والمملوك له) انتهى.
أقول: وذكر المحقق في «فتح القدير» أن ترك التقتير والإسراف من المندوبات، ومثله في «البدائع» وغيرهما؛ فأفاد أن الكراهة تنزيهية، وتقدم أن حديث: «من زاد على هذا أو نقص؛ فقد تعدى وظلم» محمول على الاعتقاد عندنا، كما صرح به في «الهداية» وغيرها، وقال في «البدائع»: (إنه الصحيح، حتى لو زاد أو نقص واعتقد أن الثلاث سنة لا يلحقه الوعيد) انتهى، وهو صريح في عدم كراهة التحريم؛ فلا ينافي كراهة التنزيه، ويؤيد هذا ما في «الدر» معزوًّا [4] للقهستاني عن «الجواهر»: من أن الإسراف في الماء الجاري جائز؛ لأنَّه غير مضيع، انتهى والجائز: قد يطلق على ما لا يمتنع شرعًا، فيشمل المكروه تنزيهًا، وتقدم ما يفيد أن الكراهة تنزيهية لا تحريمية، وأوضحناه في شرحنا؛ فتأمل.
وأما الماء الموقوف على من يتطهر به، ومنه ماء المدارس؛ فالإسراف فيه حرام، كما في «الدر»؛ لأنَّ الزيادة غير مأذون بها؛ لأنَّه إنَّما يوقف ويساق لمن يتوضأ الوضوء الشرعي، ولم يقصد إباحتها لغير ذلك كما في «الحلية»، قال العلامة الرحمتي: (وينبغي تقييده بما ليس بجارٍ؛ كالذي في صهريج، أو حوض، أو نحو إبريق، أما الجاري؛ كماء مدارس دمشق وجوامعها؛ فهو من المباح كماء النهر) انتهى، وأقرَّه شيخ شيخنا السيد محمد محشي «الدر» وارتضاه.
%ص 94%
وقد يقال: إنَّ الظاهر: أن الكراهة التنزيهية في الماء الراكد، أمَّا الجاري؛ فلا كراهة أصلًا، والله أعلم، وقالت الشافعية: إنَّ الكراهة تنزيهية على الأصح، وقيل: تحريمية، وقيل: خلاف الأَولى، وحكى الدارمي عن قوم من الشافعية: أنَّ الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء؛ كالزيادة في الصلاة، قال العجلوني: (وهو مردود بأنه قياس فاسد، وخطأ ظاهر، ومخالف لما عليه العلماء)، وقال أحمد وإسحاق: لا تجوز الزيادة على الثلاث، وقال ابن المبارك: إنَّه يأثم.
قيل: مراد المؤلف: الإجماع على الكراهة في منع الزيادة على الثلاث وفيه نظر؛ لأنَّ الشافعي قال في «الأم»: (لا أحب الزيادة عليها؛ فإن زاد؛ لم أكرهه)، واعترض بأن المؤلف لم يذكر حديثًا في الباب، وأجيب: بأن قوله: (وبيَّن النبي عليه السلام ... ) إلخ: حديث؛ لأنَّ المراد من (الحديث) أعم من قول الرسول، غاية ما في الباب: أنه ذكره على سبيل التعليق، وكذا قوله: (وتوضأ ... ) إلخ: حديث؛ لما ذكرنا، ولا شك أن كلًّا منهما بيان للسنة، وهو المقصود من الباب، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (الجد).
[2] في الأصل (أياد).
[3] في الأصل: (عبسة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (معزيًّا)، ولعل المثبت هو الصواب.

==================
[1] في الأصل: (الجد).
[2] في الأصل (أياد).
[3] في الأصل: (عبسة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الجد).
[2] في الأصل (أياد).
[3] في الأصل: (عبسة)، ولعل المثبت هو الصواب.

(1/244)


(2) [باب لا تقبل صلاة بغير طهور]
هذا (باب) بالتنوين: (لا تُقبل)؛ بضم المثناة الفوقية، مبني لما لم يسم فاعله (صلاةٌ)؛ بالرفع نائب عن الفاعل، وفي رواية: (لا يقبل الله صلاة) (بغير طُهور)؛ بضم الطاء: الفعل الذي هو المصدر، والمراد به هنا ما هو أعم من الوضوء والغسل، وما زعمه الكرماني من تخصيصه بالوضوء؛ فليس بصواب؛ فافهم، وأمَّا بفتح الطاء؛ فهو الماء الذي يتطهر به.
وهذه الترجمة لفظ حديث رواه مسلم وغيره من حديث ابن عمر بزيادة قوله: «ولا صدقة من غلول»، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق أبي المليح عن أبيه عن النبي الأعظم عليه السلام قال: «لا يقبل الله عز وجل صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور»، وله طرق كثيرة ليس فيها شيء على شرط المؤلف؛ فلهذا عدل عنه إلى ما ذكره من حديث أبي هريرة مع أنَّ حديث ابن عمر مطابق لما ترجم له، وحديث أبي هريرة يقوم مقامه، كذا في «عمدة القاري».
==========
%ص 95%

==================

(1/245)


[حديث: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ]
135# وبه قال: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي)؛ بالحاء المهملة والظاء المعجمة، المشهور بابن راهويه (قال: أخبرنا عبد الرزاق): هو ابن همام (قال: أخبرنا مَعمَر)؛ بفتح الميمين، بينهما عين ساكنة مهملة، ابن راشد، (عن همَّام)؛ بتشديد الميم الأولى (بن مُنَبِّه) بضم الميم، وفتح النُّون، وتشديد الموحدة المكسورة: (أنه سمع أبا هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (يقول) جملة وقعت حالًا (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُقبل) بضم المثناة الفوقية، مبني لما لم يسم فاعله (صلاةُ)؛ بالرفع نائب فاعل، كذا في أكثر الروايات، وفي رواية هنا وفي (ترك الحيل): (لا يقبل الله صلاةَ)؛ بالنصب على المفعولية، والمراد بالقبول هنا: ما يرادف الصحة وهو الإجزاء، فحقيقة القبول: وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة، ولمَّا كان الإتيان بشروطها مظنَّة الإجزاء الذي هو القبول؛ عبَّر عنه بالقبول مجازًا، وأمَّا القبول المنفي في مثل قوله عليه السلام: «من أتى عرَّافًا؛ لم تقبل له صلاة»؛ فهو الحقيقي؛ لأنَّه قد يصح العمل، ولكن يتخلف القبول لمانعٍ، ولهذا كان بعض السلف يقول: لأن تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من جميع الدنيا، قال: ابن عمر؛ لأنَّ الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، والتحقيق هنا: أنَّ القبول يراد به شرعًا حصول الثواب، وقد تتخلف الصحة بدليل صحة صلاةِ العبد الآبق وشارب الخمر ما دام في جسده شيء منها، والصلاةِ في الدار المغصوبة، وأما ملازمة القبول للصحة ففي قوله عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»، والمراد بالحائض: من بلغت سن الحيض؛ فإنَّها لا تقبل صلاتها إلا بالسترة، ولا تصح ولا تقبل مع انكشاف العورة، والقبول يفسر بترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء.
وقوله: «لا يقبل ... » إلخ: عام في عدم القبول في جميع المُحدِثين في جميع أنواع الصلاة، والمراد بالقبول: وقوع الصلاة مجزئة بمطابقتها للأمر، فعلى هذا: يلزم من القبول الصحة ظاهرًا وباطنًا، وكذا العكس، وقيل: إن الصحة عبارة عن ترتب الثواب والدرجات على العبادة، والإجزاء عبارة عن مطابقة الأمر؛ فهما متغايران؛ أحدهما أخص من الآخر، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم؛ فالقبول على هذا أخص من الصحة؛ فكل مقبول صحيح ولا عكس؛ فليحفظ.
وقوله: (مَن)؛ موصولة مضافة لما قبلها وصلتها قوله: (أحدث)؛ أي: وُجِد منه الحدث، أو أصابه الحدث، أو دخل في الحدث، من الحدوث؛ وهو كون الشيء لم يكن، قال الصغاني: (وقول الفقهاء: أحدث؛ أي: أتى منه ما نقض طهارته؛ فلا تعرفه العرب) انتهى.
قلت: وفيه أن الحدث: الشيء الحادث؛ فيطلق على كل ما نقض الوضوء؛ لحدوثه، وهذا بموضوعه يطلق على الأكبر؛ كالجنابة، والحيض، والنفاس، والأصغر؛ كنواقض الوضوء، وقد يسمَّى المنع المترتب عليه: حدثًا، وبه يصح قولهم: رفعت الحدث ونويت رفعه، وإلا استحال ما يرفع إلا أن يكون رافعًا، وكان الشارع جعل أمد المنع المترتب على خروج الخارج إلى استعمال المطهر، وبهذا يقوى قول من يرى أن التيمم يرفع الحدث؛ لكون المرتفع هو المنع، وهو مرتفع بالتيمم، لكنه مخصوص بحالة ما أو بوقت ما، وليس ذلك ببدع؛ فإنَّ الأحكام قد تختلف باختلاف محلِّها، وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبًا لكلِّ صلاة؛ فقد ثبت أنه كان مختصًّا بوقت مع كونه رافعًا للحدث اتفاقًا، ولا يلزم من انتفائه في ذلك الوقت بانتهاء وقت الصلاة ألَّا يكون رافعًا للحدث، ثمَّ زال ذلك الوجوب، كما عرف.
وذكر الفقهاء أن الحدث: وصف حكميٌّ مقدَّر قيامه بالأعضاء على معنى الوصف الحسي، ويُنْزِلون الوصف الحكمي منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء، فمن يقول: بأنَّ التيمم لا يرفع الحدث؛ يقول: إن الأمر المقدر الحكمي باق لم يزل، والمنع الذي هو ترتب عليه التيمم زائل.
(حتى) للغاية؛ بمعنى: إلى أن (يتوضأ) بالماء أو ما يقوم مقامه؛ لأنَّه قد أتى بما أُمِر به، على أنَّ التيمم من أسمائه الوضوء، قال عليه السلام: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين»، رواه النسائي بإسناد صحيح عن أبي ذر، فأطلق الشارع على التيمم أنَّه وضوء؛ لكونه قام مقامه، وهذا نفي القبول إلى غاية وهي الوضوء، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها؛ فاقتضى قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا، ودخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيًا؛ فإن لفظ: (صلاة) اسم جنس؛ فيعم، والمراد أنَّه قد أتى بباقي شروط الصلاة، والضمير في (يتوضأ) يرجع إلى من أحدث، وسمَّاه محدثًا وإن كان طاهرًا باعتبار ما كان؛ كما في قوله تعالى: {وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]، وإنما اقتصر على الوضوء؛ نظرًا لكونه الأصل، أو لكثرة وقوعه، وهذا آخر الحديث والباقي إدراج من همَّام؛ حيث قال: (قال رجل) لم يعرف اسمه (من حَضْرمَوت)؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الضَّاد المعجمة، وفتح الميم، اسم بلد باليمن وقبيلة أيضًا، وهو من المركَّب المزجي، فهما اسمان جُعِلا اسمًا واحدًا، والأول منه مبني على الفتح على الأصح، والثاني المنع من الصرف، وقيل: ببنائهما على الفتح، وقيل: بإعرابهما فيقال: هذا حضرُموتِ برفع الرَّاء وجر التاء، ويجوز فيه الإضافة،
%ص 95%
وقال العلَّامة الزمخشري: (فيه لغتان؛ التركيب ومنع الصرف، والثانية: الإضافة، فإذا أضيف؛ جاز في المضاف إليه الصرف وتركه)، وتمامه في «عمدة القاري»: (ما الحدث)؛ مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، وفي رواية: (فما الحدث) (يا أبا هريرة؟) وفي بعض النسخ بحذف الهمزة؛ للتخفيف (قال) أي: أبو هريرة: (فُسَاء)؛ بضم الفاء، وفتح السين المهملة، والمد، مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو فساء؛ أي: الحدث فساء، (أو ضُراط)؛ بضم الضَّاد المعجمة، وهما مشتركان في كونهما ريحًا خارجًا من الدبر، يمتاز الأول بكونه بدون صوت، والثاني مع الصوت، وإنَّما اقتصر على هذين مع أن المراد كل خارج من السبيلين، أو ما يكون مظنَّة له كزوال العقل؛ تنبيهًا بالأخف على الأغلظ، أو لأنَّهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، أو لعلمه أن السائل كان يعلم ما عدا ذلك.
قال في «عمدة القاري»: وفيه بعد، والأقرب أن يقال: إنه أجاب السائل بما يحتاج إلى معرفته في غالب الأمر، كما ورد نحو ذلك في حديث آخر: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا»، وفي الحديث دلالة على [أنَّ] الصلوات كلها مفتقرة إلى الطهارة، ويدخل فيها صلاة الجنازة، وصلاة العيدين، وسجدة التلاوة والشكر وغيرهما، وحكي عن الشعبي ومحمد بن جرير الطبري: أنهما أجازا صلاة الجنازة بغير وضوء وهو باطل؛ لعموم هذا الحديث والإجماع، ومن الغريب أنَّ قولهما قال به بعض الشافعية؛ فلو صلَّى محدثًا متعمدًا بلا عذر؛ أثم ولا يكفر عند الجمهور، وروي عن الإمام الأعظم أنَّه يكفر لتلاعبه وقد سبق؛ فافهم، لكن قد يفرق بين صلاة الجنازة والصلاة المطلقة؛ بأن الأولى: دعاء حقيقة، والثانية: ذات الأركان والأفعال، وهو دليل على [أنَّ] تعمد صلاة الجنازة بغير طهور غير مكفِّر؛ لأنَّها دعاء، والصلاة المطلقة المختار أنه يكفر، كما حررناه فيما سبق.
قال بعض الشراح: هذا الحديث رد على من يقول: إذا سبقه الحدث؛ يتوضأ، ويبني على صلاته.
قلت: هذا قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين التابعي الجليل، وهو رواية عن مالك، وبه قال الشافعي في القديم، وهو ليس يرد عليهم، كما زعم؛ لأنَّ من سبقه الحدث في صلاته إذا ذهب وتوضأ وبنى على صلاته؛ يصدق عليه أنه توضأ وصلى بالوضوء، على أنه قد ورد في الحديث عنه عليه السلام أنه قال: «من أحدث في صلاته؛ فلينصرف، فليتوضأ، ثم يتم صلاته»، وسيأتي في محلِّه بقية الكلام.
وقال الكرماني: (وفيه: أنَّ الطواف لا يجزئ بغير طهور؛ لأنَّ النبي عليه السلام سمَّاه صلاة؛ فقال: «الطواف صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام»).
قلت: الأصل فيه: قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29]، وهو مطلق، واشتراط الطهارة في الطواف بخبر الواحد زيادة على النص، وهي نسخ؛ فلا يثبت به، غير أنَّا نقول بوجوبها؛ لخبر الواحد، ومعنى الحديث: الطواف كالصلاة، والتشبيه في الثواب دون الحكم؛ لأنَّ التشبيه لا عموم له ألا ترى أن الإنحراف فيه، والمشي، والكلام وغيرهما فيه لا يفسده؛ فافهم، والله أعلم.

==================

(1/246)


(3) [باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء]
هذا (بابُ فضلِ الوُضوء)؛ بضم الواو بجر (فضل) بالإضافة إلى (باب)، وبرفعه بلا إضافة خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا، وعليه؛ فـ (باب) بالتنوين (والغرَّ المحجلين)؛ بالجر للمستملي عطفًا على الوضوء؛ أي: وفضل الغر المحجلين، كما صرح به الأصيلي، وفي أكثر الروايات كما في «عمدة القاري»: (والغرُّ المحجلون)؛ بالرفع إمَّا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وإما بالعطف على (فضل) المرفوع في الرواية، وإما على الحكاية، وأيَّده في «عمدة القاري» بأنه وقع في رواية مسلم: (أنتم الغرُّ المحجَّلون)، وعليها فـ (الغر): مجرور بكسرة مقدَّرة عطفًا على المجرور السابق، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، و (المحجَّلون): نعت لـ (الغر) مجرور بياء مقدرة في الآخر، منع من ظهورها اشتغال المحل بحرف الحكاية، وإمَّا على أن يكون (الغر) خبرًا لمبتدأ محذوف؛ نحو: أنتم، يقدر بعد الواو، أو أن يكون (الغر) مبتدأ، و (المحجلون) صفته، وخبره محذوف؛ أي: مفضلون على غيرهم، أو الخبر قوله: (من آثار الوُضوء)؛ أي: منشؤهم آثار الوضوء، و (من)؛ للسببية، أو لابتداء الغاية، و (الوُضوء): بضم الواو وفتحها، والواو في (والغر) عاطفة؛ لأنَّ التقدير: باب فضل الوضوء وباب هذه الجملة، وجعلها ابن حجر استئنافية، وتبعه الشيخ إسماعيل، وردَّه في «عمدة القاري» بأن فيه ركاكة، وتبعه البرماوي والدماميني؛ حيث قال: (لا يصح؛ لعدم صحة الحمل؛ لعدم الفائدة).
وقال الزركشي: (و «الغرُّ المحجلون» بالرفع، وإنما قطعه عمَّا قبله؛ لأنَّه ليس من جملة الترجمة)، وردَّه في «عمدة القاري» بأنَّه ليس كما قال، بل هو من جملة الترجمة؛ لأنَّه هو الذي يدل عليها صريحًا؛ لمطابقة ما في حديث الباب إياها، كما ستقف عليه، انتهى، وتبعه على ذلك البرماوي، وانتصر للزركشي الدمامينيُّ تعصُّبًا، وردَّه الشيخ إسماعيل بما يطول؛ فليحفظ.
==========
%ص 96%

==================

(1/247)


[حديث: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء]
136# وبه قال: (حدثنا يحيى بن بُكَيْر)؛ بضم الموحدة، وفتح الكاف، وإسكان التحتية، المصري (قال: حدثنا الليث): هو ابن سعد المصري، (عن خالد): هو ابن يزيد، من الزيادة، الإسكندراني البربري الأصل، أبو عبد الرحيم، المصري التابعي، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئة، (عن سعيد) بكسر العين (ابن أبي هلال) الليثي مولاهم، أبو العلاء المصري، ولد بمصر، ونشأ بالمدينة، ثم رجع إلى مصر في خلافة هشام، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئة، (عن نُعَيْم)؛ بضم النُّون، وفتح العين، وسكون التحتية، ابن عبد الله أو محمد المدني العدوي (المُجمِر)؛ بضم الميم الأولى وكسر الثانية: اسم فاعل من الإجمار على الأشهر، وقيل: بتشديد الميم الثانية من التجمير؛ وهو التبخير، سمي به نعيم وأبوه أيضًا؛ لأنَّهما كانا يبخران مسجد النبي الأعظم عليه السلام، فهو صفة لهما حقيقة، فلا تصح دعوى المجاز في نعيم كما زعمه النووي؛ فليحفظ.
(قال: رَقِيت)؛ بكسر القاف؛ أي: صعدت، وفي «المطالع»: (أنه بفتح القاف بالهمز وبدونه) انتهى، فهي ثلاث لغات، واللغة الصحيحة المشهورة: كسر القاف، كذا في «عمدة القاري» (مع أبي هريرة) رضي الله عنه (على ظهر المسجد)؛ أي: مسجد النبي الأعظم عليه السلام، فـ (أل) للعهد، (فتوضأ) بالفاء، وفي رواية: (ثم توضأ)، وفي أخرى: (توضأ) بدون حرف عطف، وفي أخرى: (وتوضأ) بواو العطف، وفي رواية: (يومًا): بدل (توضأ)، واتفق الشراح على
%ص 96%
أنه تصحيف.
وقال العجلوني: (المعنى صحيح فلا ينبغي الجزم بالتصحيف؛ فتأمل).
قلت: تأملته فوجدت المعنى غير مستقيم؛ لأنَّه تفوت المناسبة بين قولهما، وسياق الحديث يدل على ما قلنا؛ فافهم.
ولم يبيِّن هنا كيفية الوضوء، وفي رواية مسلم من طريق عمارة بن غزيَّة عن نعيم قال: (فتوضأ، فغسل وجهه، ويديه فرفع في عضديه، وغسل رجليه فرفع في ساقيه)، وزاد فيه أنَّ أبا هريرة قال: (هكذا رأيت رسول الله عليه السلام يتوضأ)، فأفاد رفع الوضوء، وفيه الرد على من زعم أن ذلك من رأي أبي هريرة، بل هو من روايته ورأيه معًا كذا قيل.
(فقال) وفي رواية: (قال) بحذف حرف العطف على الاستئناف، كأنَّ قائلًا قال: ثمَّ ماذا؟ فقال: قال (إني) بكسر الهمزة (سمعت النبي) الأعظم؛ مقول القول، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم يقول)؛ جملة وقعت حالًا من (النبي)، وإنَّما عبر بالمضارع؛ لأجل الاستحضار للصورة الماضية، أو لأجل الحكاية عنها، وإلا؛ فالأصل أن يقال: قال؛ بلفظ الماضي: (إن)؛ بكسر الهمزة مقول القول (أمتي)؛ اسم إن، والمراد بها: أمة الإجابة؛ لأنَّ الأمة في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع، وهي في اللغة: الجماعة، وكل جنس من الحيوان أمة، ففي الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم؛ لأمرت بقتلها»، ويستعمل في اللغة لمعان كثيرة: الطريقة، والدين، والحين، والملك، والرجل الجامع للخير، والرجل المنفرد بدينه، والأمة: أتباع الأنبياء عليهم السلام، وأمة محمد عليه السلام تطلق على معنيين: أمَّة الدعوة؛ وهي من بعث إليهم، وأمة الإجابة؛ وهي من صدَّقه وآمن به، وهذه هي المرادة هنا، كما قلنا، كذا في «عمدة القاري».
(يُدعون)؛ بضم أوله على صيغة المجهول، في محل رفع خبر (إنَّ)، وأصله: يدعوون؛ بواوين، تحركت الأولى، وانفتح ما قبلها؛ قلبت ألفًا، فاجتمع ساكنان الألف والواو بعدها، فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين، فصار (يدعون)، وهو إمَّا من الدعاء؛ بمعنى: النداء؛ أي: يدعون إلى الموقف؛ للحساب، وإما من الدعاء؛ بمعنى: التسمية؛ نحو: دعوت ابنِي عبدَ الرزاق؛ أي: سميته به، (يوم القيامة)؛ بالنصب على الظرفية، و (يوم) من الأسماء الشاذة؛ لوقوع الفاء والعين فيه حرفي علة، فهو من باب (ويح) و (ويل)، وهو اسم لبياض النهار من طلوع الفجر الصَّادق إلى غروب الشمس، و (القيامة): (فعالة) من قام يقوم، وأصلها: قوامه، قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها (غُرًَّا)؛ بالنصب حال من ضمير (يدعون)، أو مفعول ثان لـ (يدعون) على تضمنه معنى: يسمَّون، وهو بضم الغين المعجمة وتشديد الرَّاء، جمع أغر؛ أي: ذو غُرَّة؛ بالضم: وهي بياض في جبهة الفرس، والأغر من الخيل: الذي غرته أكثر من الدرهم، والتحقيق: أن الغرة نفس القدر الذي يشغله البياض، والأغر: الأبيض من كل شيء، والمراد بها: النور الكائن في وجوه أمَّة النبي الأعظم عليه السلام (مُحَجَّلين)؛ بالنصب حال بعد حال، أو مفعول ثان، أو صفة لـ (غرًا): جمع مُحَجَّل؛ بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الجيم المفتوحة: اسم مفعول من التحجيل؛ وهو بياض يكون في قوائم الفرس كلها، وقيل: في ثلاث قوائم منهنَّ دون الأخرى؛ في رجل ويدين، ولا يكون التحجيل في اليدين خاصة إلا مع الرجلين، ولا في يد واحدة دون الأخرى إلا مع الرجلين، والأحجال: جمع حَجل؛ بالفتح؛ وهو القيد والخلخال أيضًا، والحِجل؛ بالكسر لغة فيهما، والأصل فيه: القيد، والحجلان: مشيه للقيد، والمراد به هنا أيضًا: النور في اليدين والرجلين؛ كالغرة في الوجه، فيُدعَون يوم القيامة وهم بهذه الصفة، و (يدعون): يتعدى في المعنى بالحرف، والتقدير: إلى يوم القيامة؛ كما في قوله تعالى: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ} [آل عمران: 23]، واعتُرِض بأن حذف الحرف ونصب المجرور غير مقيس، ورُدَّ بأن نجعل: (يوم القيامة) ظرفًا؛ أي: يدعون فيه غرًا محجلين (من) للتعليل؛ أي: لأجل (آثار)؛ بالمد: جمع أثر، وهو بقية الشيء (الوضوء)؛ بضم الواو وفتحها، فإن الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن ينسب إلى كل منهما، أو (من): للسببية؛ أي: بسبب آثار الوضوء؛ كما في قوله: {مِمَّا خَطَايَاهُمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25]؛ أي: بسبب خطاياهم أغرقوا، وهو متعلق بـ (محجلين) أو بـ (يدعون) على الخلاف في التنازع بين الكوفيين والبصريين.
(فمن) موصولة تتضمن معنى الشرط (استطاع) أي: قدر (منكم) الخطاب للمؤمنين، (أن) مصدرية (يطيل غرته)؛ أي: الإطالة، وذلك بأن يغسل قدرًا زائدًا عن دائرة الوجه واليدين والرجلين؛ بأن يجاوز القدر المفروض في ذلك؛ (فليفعل)؛ أي: الغرة أو الإطالة، ففيه الاختصار؛ حيث حذف المفعول، واقتصر على الغرة، ولم يذكر التحجيل؛ للعلم به، ففيه: الاكتفاء؛ كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: الحر والبرد، والدليل على أن المراد كلاهما: ما في رواية مسلم: (فليطل غرته وتحجيله).
واقتصاره على الغرة؛ وهي مؤنثة، دون التحجيل؛ وهو مذكر؛ لأنَّ محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء، وقيل: إنه من باب التغليب، ورُدَّ بأنه ليس بتغليب حقيقي؛ لأنَّه لم يؤت فيه إلا بأحد الاسمين، والتغليب: اجتماع الاسمين أو الأسماء ويغلبا أحدهما على الآخر؛ كالقمرين، وهذا على تقدير كون قوله: (فمن استطاع ... ) إلخ من الحديث؛ لأنَّ المرفوع منه إلى قوله: «من آثار الوضوء»، والباقي إدراج في آخر الحديث من أبي هريرة، وقد أنكر ذلك بعضهم، ورد بما رواه أحمد من طريق فليح عن نعيم، وفي آخره: قال نعيم: (لا أدري قوله: «فمن استطاع ... » إلخ من قول النبي عليه السلام أو من قول أبي هريرة)، وقد روى ذلك الحديث عشرة من الصحابة، وليس في رواية واحد منهم هذه الجملة، فهو دليل ظاهر على أنَّه إدراج.
وفي الحديث التشبيه البليغ؛ حيث شبَّه النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة بغرة الفرس وتحجيله، ويجوز أن يكون كناية؛ بأن كنى بالغرة عن نور الوجه.
وادعى ابن بطال وعياض وابن التين: اتفاق العلماء على عدم استحباب الزيادة فوق المرفق والكعب، وهي دعوى باطلة؛ لأنَّه قد ثبت عن فعل النبي الأعظم عليه السلام وأبي هريرة، وعمل العلماء وفتواهم عليه، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والشافعي وغيرهم، فهم محجوجون بالإجماع، وقد ثبت عن ابن عمر من فعله؛ كما أخرجه ابن أبي شيبة.
واستدل ابن بطال ومن تبعه بقوله عليه السلام: «فمن زاد على هذا أو نقص؛ فقد أساء وظلم»، وهو استدلال فاسد؛ لأنَّ المراد به: الزيادة في عدد المرات، أو النقص عن الواجب أو الثواب المرتب على نقص العدد، لا الزيادة على تطويل الغرة والتحجيل، وأوهام ابن بطال كثيرة بيَّنها مع ردِّها في «عمدة القاري».
وفي الحديث: جواز الوضوء على ظهر المسجد، وهو من باب الوضوء في المسجد؛ فإنَّ حرمة الأعلى كحرمة الداخل، وقد كره ذلك جمع؛ منهم الإمام الأعظم؛ لأنَّ ماء الوضوء مستعمل، وهو نجس في رواية، فينبغي حفظ المسجد عنه، ولأن إلقاء النخامة، والبصاق، والاستنشاق مما يستقذر وتعافه الطباع، فبالأولى أن يحفظ بيت العبادة عن المستقذرات،
%ص 97%
إلا إذا كان في المسجد مكان معد للوضوء من زمن الواقف؛ فلا كراهة.
وقال ابن المنذر: (أباح كل من يحفظ العلم الوضوء فيه إلا أن يبله ويتأذى به الناس؛ فإنه يكره، فالمقصود حفظ المسجد من الغسالة وغيرها من الأوخام، وينبغي لمريد الوضوء في المسجد أن يتوضأ بإناء، ويجمع الماء فيه، ثم يلقيه في محلِّه المعدِّ له).
واستُدِل بالحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وعند المؤلف: «لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تردون عليَّ غرًَّا محجَّلين من آثار الوضوء»، وقال بعضهم: ليس الوضوء مختصًّا بهذه الأمة، وإنَّما الذي اختصَّت به الأمَّة الغرَّة والتحجيل، وهو المشهور؛ لقوله عليه السلام: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي»، وأجاب: بأن الحديث ضعيف، ولو صحَّ؛ لاحتمل اختصاص الأنبياء دون أمتهم بخلاف هذه الأمة، وفيه شرف عظيم؛ حيث استووا مع الأنبياء في هذه الخصوصية، وامتازت بالغرَّة والتحجيل، ولكن ورد في حديث جريج عند المؤلف: (أنَّه قام، فتوضأ وصلى، ثم كلَّم الغلام)، وثبت عند المؤلف أيضًا في قصة سارة: لمَّا همَّ الملك بالدنو منها؛ قامت تتوضأ وتصلي، وفيهما دلالة على أنَّ الوضوء كان مشروعًا لهم، وعلى هذا؛ فيكون خاصيَّة هذه الأمة الغرَّة والتحجيل الناشئين عن الوضوء، لا أصل الوضوء.
ونقل الزناتي: (أن الغرَّة والتحجيل حكم ثابت لهذه الأمة من توضأ منهم ومن لم يتوضأ؛ كما قالوا: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب)، وهو نقل غريب، وظاهر الأحاديث تقتضي خصوصية ذلك لمن توضأ منهم، وعند ابن حبان في «صحيحه»: يا رسول الله؛ كيف تعرف من لم تره من أمتك؟ قال: «غر محجلون بلق من آثار الوضوء»، كذا في «عمدة القاري».
ووقع عند الترمذي من حديث عبد الله بن بسر وصحَّحه: «أمتي يوم القيامة غرٌّ من السجود، محجَّلة من الوضوء»، قيل: هو معارض؛ لظاهر الحديث، ورُدَّ بعدم ظهور وجه المعارضة، وعليها فحديث جريج وسارة يرُدُّه؛ فليحفظ.

==================

(1/248)


(4) [باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (لا يَتوضأ)؛ بفتح أوله على البناء للفاعل، وفي رواية: (باب من لا يتوضأ)؛ بالإضافة للموصولة، وضمير الفاعل يرجع إلى المتوضئ، و (لا): نافية، (من) للتعليل؛ أي: لأجل (الشك حتى يستيقن) الحدث، والسين: للطلب، والشك: خلاف اليقين، واليقين: العلم، واصطلاحًا: الشك: ما يستوي فيه طرف العلم والجهل بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، فإن ترجَّح أحدهما على الآخر؛ فهو ظنٌّ والمرجوح وهمٌ، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
%ص 98%

==================

(1/249)


[حديث: لا ينفتل حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا]
137# وبه قال: (حدثنا علي): هو ابن عبد الله المشهور بابن المديني (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عيينة (قال: حدثنا الزهري): محمد بن مسلم، (عن سعيد بن المسيَّب)؛ بفتح المثناة التحتية، (وعن عَبَّاد) بفتح العين المهملة، وتشديد الموحدة (بن تميم) بن زيد بن عاصم الأنصاري المدني، قيل: صحابي، والمشهور: أنه تابعي، ووقع في رواية كريمة: سقوط واو العطف من قوله: (وعن عباد) وهو غلط قطعًا؛ لأنَّ سعيدًا لا رواية له عن عباد أصلًا، والعطف صحيح؛ لأنَّ الزهري يروي عن سعيد وعباد كليهما، وكلاهما يرويان (عن عمه)؛ أي: عمُّ عباد المذكور، وهو عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب النجاري الأنصاري المازني المدني، له ولأبيه ولأخيه حبيب صحبة، قتل في ذي الحجة بالحرة سنة ثلاث وستين عن سبعين سنة: (أنه شكا)؛ بالألف، وهو في محل رفع خبر (أن)، وهو على صيغة المعلوم، والضمير فيه يرجع إلى عبد الله بن زيد؛ لأنَّه الشاكي، وبه صرح ابن خزيمة، والشكاية: الإخبار بسوء الفعل (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلَ)؛ بالنصب على المفعولية، وفي رواية أنه بصيغة المجهول، و (الرجل)؛ بالرفع مفعول ناب عن الفاعل، وما قاله النووي وزعمه الكرماني؛ فغلط؛ فتفحص، (الذي يُخيَّل)؛ بالخاء المعجمة على صيغة المجهول؛ أي: يشبه ويخايل، والموصول مع صلته: صفة لـ (الرجل) على الوجهين، وسقط لفظ: (الذي) في رواية، وعليها؛ فالجملة حال من (الرجل) (أنه يجد) محله الرفع خبر (أن)، (الشيءَ)؛ بالنصب مفعوله؛ أي: الحدث خارجًا من دبره، وأمَّا القبل؛ فهو اختلاج لا ريح، فغير ناقض وإن تيقن به (في الصلاة)، و (أنَّ) مع اسمها وخبرها: مفعول لقوله: (يخيل) ناب عن الفاعل.
(فقال) عليه السلام له: (لا يَنْفَتِل)؛ بفتح التحتية، وسكون النُّون، وفتح الفاء، وكسر الفوقية، بعدها لام، من الانفتال؛ وهو الانصراف، بالرفع على أن (لا) نافية، والجزم على أنها ناهية، (أو لا ينصرف) بالوجهين، والشك من الراوي وممن دونه، وفي رواية: (لا ينصرف) من غير شك (حتى) للغاية؛ أي: إلى أن (يسمعَ)؛ بالنصب؛ بتقدير: (أن) الناصبة (صوتًا)؛ أي: من الدبر، وزاد في رواية: (خارجًا)، (أو يجد ريحًا)؛ أي: من دبره أيضًا، وفي «صحيح ابن خزيمة»، و «ابن حبان»، و «الحاكم» من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله عليه السلام قال: «إذا جاء أحدَكم الشيطانُ، فقال: إنك أحدثت؛ فليقل: كذبت، إلا ما وجد ريحًا بأنفه أو سمع صوتًا بأذنه»؛ أي: فليقل: (كذبت) في نفسه لا ينطق بلسانه؛ لأنَّه يفسد عليه صلاته، والمراد: تحقق وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بالإجماع؛ لأنَّ الأصم لا يسمع شيئًا، والأخشم _الذي راحت منه حاسة الشم_ لا يشم أصلًا، وخصَّ النوعين بالذكر وإن كان غيرهما كذلك؛ لأنَّه خرج على حرف المسألة التي سأل عنها السائل، وإنَّما عبَّر بالوجدان دون الشم؛ ليشمل ما لو لمس المحل بيده ثم شم يده، وفيه دليل على أن لمس الدبر غير ناقض للوضوء؛ فليحفظ.
وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة من قواعد الفقه: وهي أنَّ الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلافها، ولا يضر الشك الطارئ عليها، واتفق العلماء عليها، فمن تيقن الطهارة وشكَّ في الحدث؛ يحكم ببقائه على طهارته سواء حصل الشك في الصلاة أو خارجها، وهو بالإجماع إلا عن مالك روايتان؛ أحدهما: أنه يلزمه الوضوء إن كان شكه خارج الصلاة، ولا يلزمه إن كان في الصلاة، والأخرى: يلزمه بكل حال، وحكيت الأولى عن الحسن البصري، والأولى والثانية عن بعض الشافعية، وروي عن مالك أيضًا: أنَّه لا وضوء عليه.
فإن تيقن الحدث وشكَّ في الطهارة؛ فإنه محدث يلزمه الوضوء بالإجماع.
وعلى هذا الأصل مَن شَكَّ في طلاق زوجته، أو عتق عبده، أو نجاسة الماء الطاهر، أو طهارة النجس، أو نجاسة الثوب أو غيره، أو أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا، أو أنه ركع أو سجد أم لا، أو نوى الصوم، أو الصلاة، أو الاعتكاف وهو في أثناء هذه العبادات وما أشبهها؛ فكل هذه الشكوك لا تأثير لها والأصل عدم الحادث.
واستدلَّ بعضهم بالحديث على أنَّ رؤية المتيمم الماء في صلاته لا تنقض طهارته، وهو استدلال فاسد لا يصح؛ لأنَّه ليس من باب ما ذكر؛ لأنَّ المقصود به جنس الخارج من البدن فالتعدي إلى غير الجنس المقصود به اغتصاب للكلام.
نكتة: جاء رجل إلى الإمام الأعظم فقال: شربت البارحة نبيذًا فلا أدري أطلقت امرأتي أم لا؟ فقال له: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنَّك طلقتها، فتركه وذهب إلى سفيان الثوري فسأله، فقال: اذهب فراجعها، فإن كنت طلقتها؛ فقد راجعتها، وإلَّا؛ فلا تضرك المراجعة، فتركه وذهب إلى شريك فسأله، فقال: اذهب فطلقها ثم راجعها، فتركه وذهب إلى الإمام زفر فسأله، فقال: هل سألت أحدًا قبلي؟ قال: نعم، وقص عليه القصة، فقال في جواب الإمام الأعظم: الصواب قال لك، وقال في جواب سفيان: ما أحسن ما قال، ولما بلغ إلى قول شريك؛ ضحك مليًّا، ثم قال: لأضربنَّ لهم مثلًا؛ رجل مر بمشعب يسيل دمًا فشك في ثوبه هل أصابته نجاسة؟ قال له الإمام الأعظم:
%ص 98%
ثوبك طاهر حتى تستيقن، وقال سفيان: اغسله، فإن كان نجسًا؛ فقد طهرته، وإلا؛ فقد زدته طهارة، وقال شريك: بُلْ عليه ثم اغسله، انتهى.
فانظر إلى فقه الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وإلى جودة الإمام زفر، وحسن ضرب المثل رضي الله عنهم أجمعين.

==================

(1/250)


(5) [باب التخفيف في الوضوء]
هذا (باب) جواز (التخفيف في الوضوء) مع إسباغه.
==========
%ص 99%

==================

(1/251)


[حديث: أن النبي نام حتى نفخ ثم صلى]
138# وبه قال: (حدثنا) بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (علي بن عبد الله) المديني (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عيينة، (عن عَمرو): هو ابن دينار المكي أنَّه (قال: أخبرني) بالإفراد (كُرَيْب)؛ بضم الكاف، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، آخره موحدة: ابن أبي مسلم القرشي، مولى عبد الله بن عباس، المكنى بأبي رِشْدِيْن _بكسر الرَّاء، وسكون الشين المعجمة، وكسر الدَّال المهملة، وسكون التحتية، آخره نون_، المتوفى بالمدينة سنة ثمان وتسعين، وهو من أفراد الكتب الستة؛ فافهم، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما: (أنَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم نام): جملة محلها الرفع خبر (أنَّ)؛ أي: مضجعًا (حتى) للغاية؛ أي: إلى أن (نَفَخ)؛ بفتح النُّون والخاء؛ أي: خيشومه وهو المعبر عنه بالغطيط، (ثم صلى): وفي رواية: بإسقاط (ثم صلى) (وربما): أصله للتقليل، وقد تستعمل للتكثير، وهنا تحتمل الأمرين، (قال) أي: سفيان: (اضطجع) عليه السلام (حتى) أي: إلى أن (نفخ، ثم قام فصلى): والاضطجاع: وضع الجنب بالأرض لغة، والمراد به: النوم، فبين قوله: (نام حتى نفخ) وبين قوله: (اضطجع حتى نفخ) مساواة، والمراد أنَّ سفيان قال: (اضطجع حتى نفخ) بدل قوله: (نام حتى نفخ)، ولفظة (قام) لا بد منها في الروايتين؛ لأنَّ التقدير في الأولى: نام حتى نفخ ثم قام فصلى، وتقدير الثانية: اضطجع حتى نفخ ثم قام فصلى، فما زعمه الكرماني وابن حجر ليس بشيء، كما لا يخفى.
قال ابن المديني: (ثم حدثنا به)؛ أي: بالحديث (سفيان) ابن عيينة تحديثًا (مرةً بعد مرة)؛ فهو بالنصب صفة لمصدر محذوف، وقوله: (بعد مرة): كلام إضافي صفة لـ (مرة)؛ يعني: أنَّه كان يحدثهم به تارة مختصرًا وتارة مطولًا، (عن عَمرو) أي: ابن دينار، (عن كُريب): مولى ابن عباس، (عن ابن عباس) رضي الله عنهماأنَّه (قال: بِتُّ)؛ بكسر الباء الموحدة، من بات يبيت بيتوتة (عند خالتي): أم المؤمنين (ميمونة): غير منصرفة؛ للعلمية والتأنيث، بنت الحارث الهلالية، وأختها لُبابة _بضم اللام وبالموحدتين_ زوجة العباس عم النبي الأعظم عليه السلام أم عبد الله والفضل وغيرهما (ليلةً)؛ بالنصب على الظرفية، (فقام النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) مبتدئًا (من الليل): فمعنى (من) الابتداء، أو قام من مضيِّ زمن من الليل، وفي رواية: (فنام) من النوم، وصوبها القاضي عياض؛ لقوله: (فلمَّا): الفاء للعطف المحض، خلافًا لما زعمه ابن حجر (كان)؛ أي: وجد، فهي تامة (في): وفي رواية: (من) (بعض الليل): ولفظة (في) زائدة؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41]؛ أي: اركبوها، ولفظة: (من) في الرواية الأخرى زائدة أيضًا، وجواب (لمَّا) قوله: (قام النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم): وقيل: إنَّ (كان) ناقصة، واسمها عائد لـ (الرسول).
(فتوضأ): وضوءه للصلاة (من شَنٍّ)؛ بفتح الشين المعجمة وتشديد النُّون؛ أي: من قربة خلقة (معلقٍ)؛ بالجر صفة لـ (شَنٍّ) على تأويله بالجلد، وفي رواية: (معلقة)؛ بالتأنيث؛ لتأويله بالقربة (وضوءًا خفيفًا)؛ بنصب الأول على المصدرية، ونصب الثاني على أنَّه صفته، (يخففه عَمرو)؛ أي: ابن دينار، وهذا إدراج من سفيان بين كلام ابن عباس، والمراد به أن يكون بين الوضوءين، وليس المراد منه ترك الإسباغ، بل الاكتفاء بالمرة الواحدة مع الإسباغ، (ويقلله)؛ أي: عمرو [1] بالاقتصار على مرة مرة، فالتخفيف يقابله التثقيل، فهو من باب الكيف، والتقليل يقابله التكثير، فهو من باب الكمِّ، وليس فيه دليل على وجوب الدلك كما زعمه ابن بطال؛ لأنَّ قوله: (يخففه) ينافي الدلك، فكيف يكون فيه دليل على وجوبه؟ ولا شك أنَّ وجوب الدلك زيادة على النص؛ وهو غير جائز، فلا يعول عليه، والجملتان محلهما النصب صفتان لقوله: (خفيفًا).
(وقام) عليه السلام (يصلي): وفي رواية: (فصلى)، والجملة محلها النصب على الحال من الضمير الذي في (قام) (فتوضأت)؛ أي: وضوءًا خفيفًا (نحوًا)؛ بالنصب صفة لمصدر محذوف؛ أي: توضأ نحوًا (مما توضأ) عليه السلام، و (ما) يجوز أن تكون موصولة أو أن تكون مصدرية، وفي رواية تأتي: (فقمت فصنعت مثل ما صنع)، وهي ترُدُّ على الكرماني؛ حيث زعم هنا أنَّه لم يقل: (مثلًا)؛ لأنَّ حقيقة مماثلته عليه السلام لا يقدر عليها أحد غيره، انتهى.
ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل وجه؛ فافهم.
قال ابن عباس: (ثم جئت فقمت عن يساره)؛ أي: مجاوزًا، فمعنى (عن): المجاوزة وتحتمل الظرفية، (وربما قال سفيان) ابن عيينة: (عن شِماله)؛ بكسر الشين المعجمة: الجارحة، خلاف اليمين، وبالفتح: الريح التي تهب من ناحية القطب، وهي خلاف الجنوب، وهذا إدراج من علي ابن المديني، (فحولني)؛ بالحاء المهملة، من التحويل؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (فجعلني عن يمينه، ثم صلى) عليه السلام (ما شاء الله): وذلك بأن جذبه فأداره من خلفه لا من قدامه؛ لئلا يمر بين يديه فإنَّه مكروه، ولم يذكر كيفية التحويل، ففي رواية: (أخذ برأسه فجعله عن يمينه)، وفي أخرى: (وضع يده اليمنى على رأسي، فأخذ بأذني يفتلها)، وفي أخرى: (فأخذ برأسي من ورائي)، وفي بعضها: (بيدي أو عضدي)، والرواية الثانية جامعة لهذه الروايات، وكلها عند المؤلف، فيستفاد منه أنَّ السُّنة أن يقوم المقتدي الواحد عن يمين الإمام، وهو مذهب الإمام الأعظم كما هو المنصوص عليه في كتب المذهب متونًا وشروحًا وفتاوًى، فإن وقف عن يساره أو خلفه؛ جاز ويكون مسيئًا، فما زعمه ابن بطال من أنَّ مذهب الإمام الأعظم: أن يقوم الواحد خلف الإمام؛ خطأ ظاهر، ووهم عاهر، وافتراء وجرأة، وسوء أدب، وجهل بالأحكام، وهو دليل على قلة علمه وأدبه.
(ثم اضطجع) عليه السلام (فنام حتى) أي: إلى أن (نفخ ثم أتاه المنادِي)؛ بكسر الدَّال؛ أي: المؤذن بلال أو غيره (فآذنه)؛ بالمد؛ أي: أعلمه، وفي رواية: (يؤذنه)؛ بلفظ المضارع بدون الفاء، وفي أخرى: (فناداه) (بالصلاة)؛ أي: صلاة الفجر، كما لا يخفى، (فقام) أي: المنادِي (معه) عليه السلام (إلى الصلاة): ويجوز أن يقال: فقام النبي عليه السلام مع المنادي إلى الصلاة، وما زعمه الكرماني؛ فليس بشيء، (فصلى) عليه السلام (ولم يتوضأ) من النوم، قال سفيان بن عيينة: (قلنا لعمرو) أي: ابن دينار: (إن ناسًا)؛ بغير همز في الأول؛ أي: جماعة (يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه)؛ أي: ليعي الوحي إذا أوحي إليه في المنام، وهذا حديث صحيح كما سيأتي من وجه آخر، ففيه: دليل على أنَّ النوم ليس حدثًا، بل مظنته والنبي الأعظم عليه السلام كان لا ينام قلبه، فلو أحدث؛ لعلم بذلك، ولهذا تارة كان يتوضأ إذا قام من النوم، وتارة لا يتوضأ.
(قال عمرو) المذكور: (سمعت عبيد بن عمير)؛ بالتصغير فيهما؛ أي: ابن قتادة الليثي المكي، قاضي مكة، مات قبل ابن عمر، وعبيد هذا من كبار التابعين، وقيل: إنَّه رأى النبي الأعظم عليه السلام، وعمير من الصحابة (يقول: رؤيا الأنبياء وحي): رواه مسلم مرفوعًا عن أنس في (التوحيد)، والرؤيا: مصدر؛ كـ (الرجعى)، تختص برؤيا المنام، كما اختص الرأي بالقلب والرؤية بالعين، فإذا كانت وحيًا؛ فيترتب عليها ما يترتب على الوحي يقظة؛ لأنَّها حق.
(ثم قرأ) أي: عبيد بن عمير: ({إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي
%ص 99%
أَذْبَحُكَ}) [الصافات: 102]: وجه الاستدلال بالآية من جهة أنَّ الرؤيا لو لم تكن وحيًا؛ لما جاز لإبراهيم عليه السلام الإقدام على ذبح ولده؛ لأنَّه محرَّم، فلولا أنَّه أبيح له في الرؤيا بالوحي؛ لما ارتكب الحرام؛ لأنَّه معصوم عنه كغيره من الأنبياء.
واختلف في الذبيح؛ فقيل: إنَّه إسحاق، وقيل: إسماعيل وهو الأصح، وقال الداودي: قول ابن عمير لا تعلق له بالباب، ورُدَّ بأنَّه ما زاده إلا لأجل أنَّ فيه من نوم العين دون نوم القلب، ولم يلتزم المؤلف ألَّا يذكر من الحديث إلا ما يتعلق بالترجمة فقط، وهذا لم يشترطه أحد.
وفي الحديث: أنَّ نومه عليه السلام مضطجعًا لا ينقض الوضوء، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام؛ لأنَّ يقظة قلوبهم تمنع عنهم الحدث، وما روي أنَّه عليه السلام توضأ بعد النوم؛ فذلك لعلمه أنَّه استثقل يومًا فاحتاج إلى الوضوء معه، أو أنَّه أحس بالحدث.
وفيه: جواز مبيت من لم يحتلم عند مَحرَمِه.
وفيه: مبيته عند الرجل مع أهله، وقد روي: أنَّها كانت حائضًا.
وفيه: جواز الإمامة في النافلة وصحة الجماعة فيها.
وفيه: جواز ائتمام واحد بواحد، وجواز ائتمام صبي ببالغ.
وفيه: أنَّ أقل الوضوء المجزئ إذا أسبغ مرة مرة مع التقاطر ولو قطرة واحدة.
وفيه: التعليم بالصلاة إذا كان بحركة، لا بحركات، فإنَّه مبطل.
وقال الداودي: فيه: أنَّ النوم الخفيف غير ناقض، ورُدَّ بأنَّه لا دلالة على ما قاله، فإنَّ نومه عليه السلام ليس خفيفًا، بل هو نوم معتاد وهو ناقض في حقِّنا.
وفيه: أنَّ النافلة كالفريضة في تحريم الكلام؛ لأنَّه عليه السلام لم يتكلم.
وفيه: دليل على منع الكلام في الصلاة مطلقًا ولو حرفًا واحدًا مفهمًا، وهو مذهب الإمام الأعظم، وهو حجة على الشافعي في إباحته الكلمة؛ لأنَّه لا دليل عليه.
وفيه: أنَّ الأدب أن يمشي الصغير عن يمين الكبير، والمفضول عن يمين الفاضل، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (عمر)، وليس بصحيح.

==================

(1/252)


(6) [باب إسباغ الوضوء]
هذا (بابُ إسباغِ الوضوء)؛ أي: إتمامه، وإبلاغه مواضعه، وإيفاء كل عضو حقه من غسل ومسح.
(وقال) عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب فيما أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» موصولًا بسند صحيح: (إسباغ الوضوء: الإنقاء): من تفسير الشيء بلازمه؛ لأنَّ الإسباغ لغةً: الإتمام والاتساع، والإتمام يستلزم الإنقاء عادة، ويدل له ما رواه ابن المنذر بإسناد صحيح: أنَّ ابن عمر كان يغسل رجليه في الوضوء سبع مرات؛ لأنَّه كان يقصد بذلك الإنقاء، واقتصاره في ذلك على الرجلين؛ لأنَّهما محل الأوساخ غالبًا لاعتيادهم المشي حفاة، بخلاف بقية الأعضاء، وقد سبق أنَّ الزيادة على الثلاث ظلم وتعد، وأجيب: بأنَّ ذلك فيمن لم ير الثلاث سنة، وأمَّا إذا رآها وزاد على أنَّه من باب الوضوء على الوضوء؛ يكون ذلك نورًا على نور، كذا قرره في «عمدة القاري».
==========
%ص 100%

==================

(1/253)


[حديث: دفع رسول الله من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال]
139# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلمَة)؛ بفتح الميمين وسكون السين المهملة: القعنبي، (عن مالك): هو ابن أنس، (عن موسى بن عُقبة)؛ بضم العين: ابن أبي عَيَّاش _بفتح العين وتشديد التحتية_ أبو محمد المدني، مولى الزبير بن العوام، أو مولى أم خالد زوجة الزبير، القرشي، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة، (عن كُريب)؛ بضم الكاف: ابن أبي مسلم القرشي (مولى ابن عباس) رضي الله عنهما، (عن أُسَامة)؛ بضم الهمزة وفتح السين المهملة (بن زيد) بن حارثة بن شراحيل الكلبي المدني، الحبِّ بن الحبِّ، مولى النبي الأعظم عليه السلام، وابن حاضنته ومولاته أم أيمن _واسمها بركة_، المتوفى بوادي القرى سنة أربع وخمسين على الأصح عن خمس وخمسين سنة، وقد ذكر اسم أبيه في القرآن العظيم: (أنَّه سمعه) جملة محلها الرفع خبر (أنَّ) (يقول) جملة في محل نصب على الحال، ومقول القول قوله: (دفع) أي: أفاض ورجع (رسول الله صلى الله عليه وسلم من) وقوف (عرفة) بعرفات؛ لأنَّ (عرفة) اسم الزمان، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة على الصحيح، فالمضاف فيه يكون محذوفًا، وقيل: عرفة وعرفات كلاهما اسمان للمكان المخصوص، يقال: هذا يوم عرفةَ، غير منون، وعليه فلا حاجة إلى التقدير، ولا تدخلهما الألف واللام، وعرفات: الموضع الذي يقف فيه الحاج يوم عرفة، قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198]، وهي اسم في لفظ الجمع فلا يجمع، لا واحد لها، وليس بعربي محض، وقول الناس: نزلنا عرفة، شبيه بمولَّد، وإنَّما سميت به؛ لأنَّ آدم عليه السلام عرف حواء بها، فإنَّ الله أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، فتعارفا في الموقف، أو لأنَّ جبريل عرَّف إبراهيم عليهما السلام المناسك هناك، أو للجبال التي فيها، والجبال التي هي الأعراف، وكل باب: عرف، ومنه: عرف الديك، أو لأنَّ الناس يعترفون فيها بذنوبهم ويسألون غفرانها، أو لأنَّها مكان مقدس معظم قد عُرِّف؛ أي: طُيِّب، كذا في «عمدة القاري».
(حتى إذا كان) أي: النبي الأعظم عليه السلام (بالشِّعْب)؛ بكسر الشين المعجمة وسكون العين المهملة: الطريق في الجبل المعهود للحاج، و (حتى): ابتدائية أو حرف جر، والباء في (بالشِّعب): ظرفية، و (إذا): ظرفية محلها الجر بـ (حتى) الجارة، وعلى الأول فموضعها النصب، والعامل فيه قوله: (نزل)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام عن دابته، (فبال ثم توضأ)؛ أي: بماء زمزم، كما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في «زوائد مسند أبيه» بسند حسن من حديث علي، وفيه رَدٌّ على من منع استعمال ماء زمزم لغير الشرب؛ فافهم.
(ولم يسبغ الوضوء)؛ أي: خففه؛ لما في «مسلم»: (فتوضأ وضوءًا خفيفًا)، أو معناه: توضأ مرة مرة بالإسباغ، أو خفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عاداته، وما قيل: إنَّ معناه: الوضوء اللغوي؛ فبعيد، وأبعد منه ما قيل: إنَّه الاستنجاء؛ لما يأتي عند المؤلف في باب (الرجل يوضئ صاحبه) من قوله: (فجعلت أصب الماء عليه ويتوضأ)؛ لأنَّه لا يجوز أن يصب عليه أسامة إلَّا وضوء الصلاة، وفي آخره قال أسامة: (الصلاة يا رسول الله)، وإنَّما لم يسبغ الوضوء؛ إما ليذكر الله؛ لأنَّهم يكثرون منه عشية الدفع من عرفة، أو لإعجاله الدفع إلى المزدلفة، أو لاستصحابه الطهارة في طريقه، وتمامه في «عمدة القاري».
(فقلت: الصلاةَ)؛ بالنصب على الإغراء، أو على تقدير: أتريد الصلاة؟ ويؤيده رواية تأتي: (فقلت: أتصلي يا رسول الله؟)؛ يعني: أتريد الصلاة؟ والأَولى أن يقدر: تصلي الصلاة (يا رسول الله): ويجوز فيه الرفع على تقدير: حانت الصلاة أو حضرت.
(فقال) وفي رواية: (قال): (الصلاةَ)؛ بالرفع على الابتداء، وخبره قوله: (أَمامَك)؛ بفتح الهمزة؛ أي: قدامك؛ لأنَّه منصوب على الظرفية؛ والمعنى: وقت الصلاة أمامك أو مكان الصلاة، فيكون من قبيل ذكر الحال وإرادة المحل، وهو أعم من كونه في المكان أو الزمان، ومراده أنَّ سنة الصلاة لمن دفع من عرفة أن يصلي العشاءين بالمزدلفة، ولم يعلم أسامة ذلك؛ إذ كان في حجة الوداع، وهي أول سُنَّة سَنَّها عليه السلام في الجمع بين الصلاتين في المزدلفة.
ففيه: مشروعية الوضوء للدوام على الطهارة؛ لأنَّه عليه السلام لم يقيد بذلك الوضوء، وقيل: المراد أنَّ موضع هذه الصلاة المزدلفة وهي أمامك، وهذا تخصيص لعموم الأوقات المؤقتة للصلوات الخمس ببيان فعله عليه السلام.
وفيه: دليل على أنَّه لا يصليها الحاج إذا أفاض من عرفة حتى يبلغها، وأنَّ عليه أن يجمع بينها وبين العشاء بجمع على ما سنه عليه السلام بفعله وبيَّنه بقوله، ولو أجزأته في غير المكان؛ لما أخَّرها عن وقتها الموقَّت لها في سائر الأيام، وما زعمه الكرماني رده في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فركب) أي: النبي الأعظم عليه السلام دابته من الشِّعب وسار (فلمَّا جاء المُزدلفةَ)؛ بضم الميم، من الإزدلاف؛ وهو التقرب والاجتماع، وهي بالنصب على المفعولية، وهي موضع مخصوص بين عرفات ومنًى، سمِّيت بها؛ لأنَّ الحجاج يزدلفون فيها إلى الله تعالى؛ أي: يتقربون بالوقوف فيها إليه، وتسمى أيضًا: جمعًا؛ لأنَّ آدم اجتمع فيها على حواء عليهما السلام وازدلف إليها؛ أي: دنا منها، وتمامه في
%ص 100%
«عمدة القاري».
وجواب (لمَّا) قوله: (نزل) أي: النبي الأعظم عليه السلام عن دابته (فتوضأ)؛ أي: بماء زمزم كما سبق، (فأسبغ الوضوء)؛ أي: أتمه وأكمله؛ أخذًا بالأفضل على عادته، وهذا موضع المطابقة للترجمة، وفيه: دليل على استحباب إعادة الوضوء من غير أن يفصل بينهما بعبادة؛ لأنَّه نور على نور حيث تبدل المجلس، أمَّا إذا لم يتبدل المجلس أو لم يؤدِّ بالأول عبادة؛ فهو إسراف مكروه، وما زعمه بعضهم من أنَّه يحتمل أنَّه أحدث؛ فبعيد؛ لأنَّه عليه السلام دائم على الطهارة الكاملة؛ فليحفظ.
(ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب)؛ أي: قبل حط رحالهم كما صرح به المؤلف في رواية، ويدل له قوله: (ثم أَناخ) بفتح الهمزة؛ أي: أبرك (كل إنسان) أي: من الجماعة (بعيره في منزله)؛ أي: مكانه؛ خشية ما يحصل منها من التشويش أو لإراحتها، والظاهر أنَّ (ثم) هنا وفي قوله: (ثم أقيمت العِشاء) ليست للتراخي، و (العِشاء)؛ بكسر العين وبالمد، والمراد به: صلاة العشاء التي وقتها من غروب الشفق إلى طلوع الفجر، (فصلَّى) بتشديد اللام (ولم يصلِّ بينهما)؛ أي: بين الصلاتين سنة المغرب ولا سنة العشاء القبلية، ففيه: دليل ظاهر على المنع من التطوع بينهما؛ لأنَّه يخل بالجمع، ولو تطوع أو تشاغل بشيء؛ فإنَّه مكروه وعليه إعادة [1] الإقامة لوقوع الفصل، وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، كما نص عليه الإمام المرغيناني في «الهداية»، وقال الإمام زفر: يعيد الأذان أيضًا، كما في «شرح الكنز».
وفيه أيضًا: دليل ظاهر على [2] أنَّ تأخير صلاة المغرب إلى وقت العشاء واجب، حتى لو صلى المغرب في الطريق؛ لم يجز وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر، وهو مذهب الإمام الأعظم، وبه قال الإمام محمد، والإمام زفر، والجمهور.
وقال الشافعي: لو جمع بينهما في وقت المغرب في عرفات، أو في الطريق، أو في موضع آخر، أو صلى كل صلاة في وقتها؛ جاز الجميع وإن كان خلاف الأفضل، وبه قال الإمام أبو يوسف، وجماعة من الصحابة والتابعين، والأوزاعي، وأشهب، وهذا الجمع يسمى جمع التأخير، ولا يشترط فيه سوى المكان والإحرام.
والسبب في هذا الجمع بمزدلفة: النُّسك؛ فلهذا يجمع المزدلفي، وعند الشافعي: السفر فلا يجمع المزدلفي، فليس لنا أن نجمع بين صلاتين في وقت واحد إلَّا هنا وفي عرفة للحاج لا لغيرهم بشرط الإمام والإحرام، فيجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم كما يأتي في (الحج) إن شاء سبحانه.
وقال ابن بطال: فيه: أنَّ يسير العمل إذا تخلل بين الصلاتين غير قاطع نظام الجمع بينهما؛ لقوله: (ثم أناخ)، ولكنه لا يتكلم.
قلت: ليس فيه ما يدل على عدم جواز التكلم بينهما، ولا ما يدل على عدم القطع اليسير وعلى قطع الكثير؛ بل فيه دليل ظاهر على عدم القطع مطلقًا يسيرًا أو كثيرًا؛ لأنَّهم لم يشتغلوا بشيء سوى إناخة البعير وهو عمل يسير لا يعد قاطعًا؛ فافهم.
واستدل به الشافعي على أنَّ الفوائت لا يؤذَّن لها، لكن يقام.
قلت: هذا الاستدلال فاسد؛ لأنَّ تأخير المغرب إلى العشاء ليس بقضاء، وإنَّما هو أداء؛ لأنَّ وقته قد تحول إلى وقت العشاء؛ لأجل العذر المرخص، فكيف يصح القياس عليه؟! وإنَّه قياس مع الفارق؛ فليحفظ.
وقيل: فيه: دليل لمن لا يتنفَّل في السفر، ورُدَّ بأنَّه ليس فيه دلالة على ذلك، بل في ترك التنفل بينهما، أما تركه مطلقًا؛ فلا دلالة فيه، كما لا يخفى.
واتفق الفقهاء على اختيار التنفل في السفر إلا إذا ضاق وقت المكتوبة سواء كان سفرًا أو حضرًا، فيترك التنفل ويشرع بالفرض، ولو اقتصر على الفرائض؛ جاز حتى يكون مؤديًا الفرض بوقته.
ولم يذكر في الحديث الأذان، ومذهب الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والإمام محمد، وسعيد بن جبير، والثوري: أنَّ الجمع بأذان واحد وإقامة واحدة لهما، وهو المروي عن جابر، وابن عمر، وأبي أيوب الأنصاري.
وفي الحديث: تنبيه المفضول الفاضل إذا خاف عليه النسيان؛ لما كان فيه من الشغل؛ لقول أسامة: (الصلاة يا رسول الله)، وتمامه في «عمدة القاري».

==================
[1] في الأصل: (أعاد)، ولعل المثبت هو الصواب.

(1/254)


(7) [باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة]
هذا (باب) جواز (غَسل) بفتح الغين المعجمة (الوجه باليدين من غَرفة واحدة)؛ بفتح الغين المعجمة، بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف؛ وهي ملء الكف، وفي «العباب»: غرفت الماء بيدي غرفًا، والغرفة: المرة الواحدة، والغُرفة؛ بالضم: اسم للمغروف منه؛ لأنَّك ما لم تغرفه لا تسميه غرفة، ومراد المؤلف: التنبيه على عدم اشتراط الاغتراف باليدين جميعًا في الوضوء، ووجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ الأول فيه بعض وصف الوضوء، وفي هذا وصفه بتمامه، وتمامه في «عمدة القاري».

==================

(1/255)


[حديث وضوء عبد الله ابن عباس]
140# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية بالإفراد (محمد بن عبد الرحيم)؛ أي: ابن أبي زهير أبو يحيى البغدادي، المعروف بصاعقة، لُقِّب به؛ لسرعة حفظه، وكان بزازًا، المتوفى سنة خمس وخمسين ومئتين في شعبان (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (أبو سَلَمة) بفتح السين واللام (الخُزاعي) بضم الخاء المعجمة (منصور بن سَلمة)؛ بفتح المهملة: البغدادي، المتوفى بالمصيصة سنة عشرين ومئتين، أو عشر، أو سبع، أو تسع ومئتين (قال: أخبرنا ابن بلال؛ يعني: سليمان): أبو محمد المدني، والعناية تحتمل من كلام المؤلف أو من كلام ابن عبد الرحيم، والظاهر الأول، (عن زيد بن أَسْلم)؛ بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، (عن عطاء بن يَسار)؛ بفتح التحتية أوله بعدها سين مهملة، (عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما (أنَّه) أي: ابن عباس (توضأ): زاد أبو داود في أوله: (أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله عليه السلام يتوضأ؟ فدعا بإناء فيه ماء)، (فغسل وجهه): من عطف المفصل على المجمل، ثم بين الغسل على وجه الاستئناف، فقال: (أخذ غَرفة) بفتح الغين (من ماء) بالمد (فمضمض): وفي رواية: (فتمضمض)؛ بالمثناة الفوقية (بها واستنشق): وإنَّما ترك العاطف؛ لأنَّه بيان لغسل الوجه، فإن كان بيانًا والمضمضة والاستنشاق ليسا من غسل الوجه، وأجيب: بأنَّه أعطى لهما حكم الوجه؛ لكونهما في الوجه.
والمضمضة: تحريك الماء في الفم، وعند الفقهاء: استيعاب الماء جميع الفم، والإدارة والمج ليسا بشرط، فلو شرب الماء عبًّا _بالعين المهملة_؛ أجزأه، ولو مصًّا؛ لا يجزئه، كما في «فتح القدير»، لكن الأفضل أن يمجه؛ لأنَّه ماء مستعمل، كما في «السراج».
والاستنشاق: جذب الماء بريح الأنف إليه، وعند الفقهاء: إيصال الماء إلى المارن؛ وهو ما لان من الأنف، فالجذب ليس شرطًا فيه شرعًا بخلافه لغة، كما في «النهر الفائق».
ولفظ الراوي يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يجمع بينهما بغرفة يتمضمض منها، ثم يستنشق منها ثلاثًا، والثاني: أن يجمع بينهما أيضًا بغرفة لكن يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، والوجهان قول للشافعي، وقال أحمد: إنَّه مخير بين أن يتمضمض ويستنشق ثلاثًا من غرفة أو بثلاث غرفات، فإنَّ عبد الله بن زيد روى عن النبي الأعظم عليه السلام: (أنَّه مضمض واستنشق ثلاثًا ثلاثًا من غرفة واحدة)، وروى ابن ماجه: (أنَّه عليه السلام توضأ فمضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا من كف واحدة)، وإن أفرد لكل عضو ثلاث غرفات؛ جاز؛ لأنَّ الكيفية في الغسل غير واجبة، كذا في «المغني الحنبلي».
والسنة عندنا: أن يتمضمض ثلاثًا، ويستنشق ثلاثًا، يأخذ لكل واحدة ماءً جديدًا، ولو تمضمض ثلاثًا بغرفة واحدة؛ أقام السنة في المضمضة لا سنة التكرار، وأمَّا الاستنشاق؛ فلا يصح أن يكون التثليث من غرفة واحدة؛ لعدم انطباق الأنف على باقي الماء فيصير الباقي مستعملًا، كما في «الجوهرة» و «الشرنبلالية».
ويدل لما قلنا ما رواه الترمذي عن علي الصديق الأصغر: أنَّه غسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم،
%ص 101%
ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ومدلوله ظاهر، وهو أن يتمضمض ثلاثًا يأخذ لكل مرة ماءً جديدًا، ثم يستنشق كذلك.
ويدل لذلك ما رواه الطبراني عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده كعب: أنَّ النبي الأعظم عليه السلام توضأ فمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، فأخذ لكل واحدة ماءً جديدًا، ورواه أبو داود في «سننه» وسكت عنه، وما سكت عنه؛ فهو صحيح، وأمَّا ما في حديث الباب وغيره مما ورد من أنَّه تمضمض واستنشق بكف واحد بماء واحد؛ فهو محمول على بيان الجواز، ويحتمل أنَّه فعل ذلك بكف واحد بمياه متعددة، والمحتمل لا تقوم به حجة، أو يُرَدُّ هذا المحتمل إلى المحكم الذي ذكرناه؛ توفيقًا بين الدليلين، وقد يقال: إنَّ المراد استعمال الكف الواحد بدون الاستعانة بالكفين، كما في الوجه، وقد يقال: إنَّه فعلهما باليد اليمنى؛ ردًّا على من يقول: يستعمل في الاستنشاق اليد اليسرى؛ لأنَّ الأنف موضع الأذى كموضع الاستنجاء، كذا في «المبسوط».
والسنة: أن يكون المضمضة والاستنشاق باليد اليمنى، وقال بعضهم: المضمضة باليمنى، والاستنشاق باليسرى؛ لأنَّ الفم مطهرة، والأنف مقذرة، واليمين للأطهار، واليسار للأقذار، ولنا ما روى الحسن بن علي رضي الله عنهما: أنَّه استنثر بيمينه، فقال معاوية له: جهلت السنة، فقال: كيف أجهل والسنة من بيوتنا خرجت، أمَا علمت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليمين للوجه، واليسار للمقعدة»، كذا ذكره «صاحب البدائع».
والترتيب بينهما سنة، كما في «الخلاصة»؛ لأنَّه لم ينقل عن النبي الأعظم عليه السلام في صفة وضوئه إلا هكذا، فالمضمضة والاستنشاق في الوضوء سنة، وفي الغسل فرض؛ لأنَّهما من تمام البدن، ولا حرج في غسلهما، هذا مذهب الإمام الأعظم ومن قال بقوله، وقال مالك والشافعي: إنَّهما سنتان في الوضوء والغسل معًا، والمشهور عن أحمد: أنَّهما واجبتان فيهما كمذهبنا، وذهب داود إلى أنَّ الاستنشاق فرض في الوضوء والغسل، وأنَّ المضمضة سنة فيهما، والله تعالى أعلم.
(ثم أخذ غَرفة) _بفتح الغين المعجمة_ واحدة (من ماء)؛ بالمد، و (من): للبيان مع إفادة التبعيض، (فجعل بها هكذا): وإنَّما عطف بـ (ثم)؛ لوجود المهلة بين الغَرفتين، ثم بيَّن الإشارة بقوله: (أضافها)؛ أي: الغرفة، فترك العاطف؛ لبيان الإشارة (إلى يده الأخرى): بأن جعل الماء في يديه معًا؛ لكونه أمكن في الغسل، (فغسل بها) أي: بالغرفة (وجهه) وللأصيلي: (فغسل بهما)؛ أي: باليدين، وظاهره أنَّه غسله مرة واحدة، وكذا فيما سيأتي؛ اقتصارًا على أدنى الوضوء، وعلى هذا فالظاهر أنَّ الغرفة الأولى تمضمض بها مرة، واستنشق بها مرة؛ ليطابق الجميع، كذا قيل، (ثم أخذ غَرفة) بفتح المعجمة (من ماء)؛ بالمد، و (من): للبيان مع إفادة التبعيض كما قلنا، (فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة) أخرى (من ماء) أيضًا (فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه)؛ يعني: بعد أن قبض قبضة من الماء، (ثم نفض يده)، كما في رواية أبي داود مع زيادة: (مسح أذنيه)، ففي الحديث حذفٌ دل عليه ما رواه أبو داود، وقد خفي هذا على الكرماني فقدر المحذوف، زاد النسائي: (ومسح أذنيه مرة واحدة، باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه)، وزاد ابن خزيمة: (وأدخل أصبعيه فيهما) انتهى.
ولا يصير الماء مستعملًا؛ لأنَّ الماء ما دام على العضو لا يوصف بالاستعمال، فإذا انفصل عنه؛ صار مستعملًا سواء استقر في مكان أو لا على المعتمد، وعليه الفتوى، وقيل: لا يوصف بالاستعمال إلَّا إذا استقر في مكان، والثمرة تظهر فيما لو وضع أحد يده مثلًا تحت ماء الوجه فغسلها به؛ فعلى الأول لا يجزئه، وعلى الثاني يجزئه، والأصح الأول.
(ثم أخذ غرفة من ماء فرشَّ)؛ أي: صبه قليلًا قليلًا حتى صار غسلًا (على رجله اليمنى): فالمراد بالرش: الغسل؛ بدليل قوله: (حتى)؛ أي: إلى أن (غسلها) لكن عبر عنه بالرش؛ احترازًا عن الإسراف الذي هو مظنة الرجلين، ووقع في رواية أبي داود والحاكم: (فرش على رجله اليمنى وفيها النعل، ثم مسحها بيديه؛ يد فوق القدم، ويد تحت النَّعل)، والجواب: أنَّ المراد بالمسح الغسل؛ لأنَّ المسح في كلام العرب يكون غسلًا، كما قاله ابن الأعرابي وأبو زيد الأنصاري.
وأمَّا قوله: (تحت النَّعل)؛ فمحمول على التجوز عن القدم على أنَّ هذه الرواية شاذة رواها هشام بن سعد، وهو ممن لا يحتج به عندهم عند الانفراد، فكيف إذا خالفه غيره؟! كذا في «عمدة القاري».
(ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله)؛ بغين معجمة وسين مهملة، من الغسل، كذا وقع في الأصول، وقال ابن التين: إنَّه بالعين المهملة، قال في «عمدة القاري»: إنَّه غريب، وتكلف، وتصحيف، والصواب ما في الأصول: (فغسل بها رجله)، قال زيد بن أسلم أو من هو دونه من الرواة: (يعني: اليسرى): وفي رواية: (فغسل بها؛ يعني: رجله اليسرى).
(ثم قال) أي: ابن عباس: (هكذا رأيت رسول الله): ولأبي الوقت: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتوضأ): جملة محلها النصب على الحال، وعبَّر بالمضارع؛ لأجل حكاية الحال الماضية، وفي رواية: (توضأ)؛ بحذف التحتية، وفي الحديث: البداءة باليمين، وهو مستحب على الصحيح، كما صرح به الإمام القدوري، وتبعه صاحب «الملتقى»، و «التنوير»، وغيرهما.
قال ابن قدامة في «المغني»: التيامن مستحب، ولا نعلم قائلًا بخلافه، ولأنَّه لا يعقل فيها إلَّا شرف اليمين، وذلك لا يقتضي عدمه العقاب، واختار المحقق الكمال بن الهمام في «فتح القدير»: أنَّه سنة، وتبعه العلامة الشرنبلاليُّ في كتبه، فيستحب التيامن في الوضوء والغسل، وكذا في التيمم، وكذا في مسح الخف، كما حرره في «منهل الطلاب»، وأمَّا الأذنان والخدان؛ فلا يستحب التيامن فيهما؛ لأنَّ الأذنين تبع للرأس وهو عضو واحد، والخدين تبع للوجه وهو عضو واحد، فإن كان المتوضئ أقطع؛ بأن كان له يد واحدة أو كان في إحدى يديه علة ولا يمكنه مسحهما معًا؛ فيستحب له أن يبدأ بالأذن اليمنى ثم باليسرى، وكذا يستحب له أن يبدأ بغسل الخد الأيمن ثم بالأيسر، كما يستفاد من كلام السراج، فقولهم: لا يستحب التيامن فيهما؛ مقيَّد بالصحة، كذا في «منهل الطلاب»، والله أعلم.

==================

(1/256)


(8) [باب التسمية على كل حال وعند الوقاع]
هذا (باب) طلب (التسمية) وهي قول: بسم الله (على كل حال)؛ يعني: سواء كان طاهرًا، أو محدثًا، أو جنبًا (وعند الوِقاع)؛ بكسر الواو؛ أي: الجماع، وهو من عطف الخاص على العام؛ للاهتمام به.
والحديث المسُوق هنا شاهد للخاص لا للعام، لكن لمَّا كان حال الوِقاع أبعد حالًا من ذكر الله ومع ذلك تسن التسمية فيه؛ ففي غيره أولى، ولهذا ساقه المؤلف هنا؛ لمشروعية التسمية عند الوضوء، ولم يسق حديث: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه»، مع كونه أبلغ في الدلالة؛ لكونه ليس على شرطه، بل هو مطعون فيه وبفرض صحته، فهو محمول على الكمال؛ كحديث: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، وأصح ما في التسمية حديث أنس: أنَّه عليه السلام وضع يده في الإناء الذي فيه الماء، وقال: «توضؤوا بسم الله ... »؛ الحديث، ويقرب منه حديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله ... »، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
%ص 102%

==================

(1/257)


[حديث: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله]
141# وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله) أي: ابن المديني (قال: حدثنا جرير): هو ابن عبد الحميد، (عن منصور):
%ص 102%
هو ابن المعتمر (عن سالم بن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم وسكون العين المهملة: رافع الأشجعي مولاهم، الكوفي التابعي، المتوفى سنة مئة، (عن كُريب)؛ بضم الكاف: مولى ابن عباس، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (يَبلُغ)؛ بفتح أوله وضم ثالثه، من البلاغ، والجملة محلها النصب على الحال من ابن عباس، وقوله: (به) صلة (يبلغ)؛ أي: يصل ابن عباس بالحديث (النَّبيَّ) الأعظم بالنصب على المفعولية (صلى الله عليه وسلم): وهذا كلام كُريب، وغرضه أنَّه ليس موقوفًا على ابن عباس، بل هو مسند إلى النبيِّ الأعظم عليه السلام، لكنه يحتمل أن يكون بالواسطة بأن سمعه من صحابيِّ سمعه من النبيِّ الأعظم عليه السلام، وأن يكون بدونها، ولمَّا لم يكن قاطعًا بأحدهما أو لم يرد بيانه؛ ذكره بهذه العبارة، كذا في «عمدة القاري»، وما قيل باحتمال أنَّه من كلام ممن دونه؛ فبعيد؛ فتأمل.
(قال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام: (لو): هي لمجرد الربط، تفيد ترتيب الوجود عند الوجود (أنَّ أحدكم)؛ بفتح الهمزة، وهي مع معمولها في محل الرفع على الفاعلية لـ (ثبت) محذوفًا الواقع شرط (لو) الشرطية، وجوابها قوله: (لم يضره) الآتي؛ والتقدير: لو ثبت قول أحدكم وقت إتيان أهله: اللَّهم ... إلخ، ويجوز جعل المصدر المقدر مبتدأ والخبر محذوف، (إذا أتى أهله)؛ أي: زوجته، ومثلها الأمة؛ أي: جامعها، وهو كناية عن الجماع، و (إذا): ظرف لقوله: (قال: بسم الله): خبر (أنَّ)، ولو أضاف إليها: الرحمن الرحيم؛ لكان حسنًا، (اللهم) أي: يا الله (جنِّبنا)؛ بتشديد النُّون المكسورة، أمر من جنَّبَ الشيء: أبعده، ومنه: الجُنُب؛ لبعده عن ذكر الله، وأجنب: تباعد، وقرأ طاووس وغيره: (وأجنبني) [إبراهيم: 35]؛ بقطع الهمزة، وتمامه في «عمدة القاري»، (الشيطان)؛ بالنصب مفعول ثان لـ (جَنِّب)، وهو كل عاتٍ متمرد من الإنس، والجن، والدواب، والعرب تسمي الحية: شيطانًا، ونونه أصلية، وقيل: زائدة، فإن جعلته (فيعالًا) من قولهم: تشيطن الرجل؛ صرفته، وإن جعلته من (تشيَّط)؛ لم تصرفه؛ لأنَّه (فعلان)، واختلف في اشتقاقه؛ فقيل: من شاط يشيط؛ إذا هلك، ووزنه (فعلان)، وقيل: من شطن؛ أي: بعد؛ لبعده من الصلاح والخير، وتمامه في «عمدة القاري».
(وجنب) أي: أبعد (الشيطانَ) بالنصب على المفعولية (ما) موصولة (رزقتنا)؛ أي: الذي رزقناه، فـ (ما) موصولة محلها النصب مفعول ثان، والمراد به: الولد؛ لأنَّ اللفظ أعم، لأنَّه يطلق على المطر وعلى الحظ، وفي «العباب»: الرزق: ما ينتفع به، وقيل: الرَّزق؛ بالفتح: المصدر الحقيقي، وبالكسر: الاسم، وقيل: الرزق: كل شيء يؤكل؛ وهو باطل؛ لأنَّ الله أمرنا أن ننفق مما رزقنا، فقال: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} [المنافقون: 10]، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل؛ لما أمكن إنفاقه، وقيل: هو ما يملك؛ وهو باطل؛ لأنَّ الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولدًا صالحًا وزوجة صالحة، وهو لا يملك الولد والزوجة.
وفي عرف الشرع: فقال أهل السنة: إنَّه اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان فيأكله، وذلك قد يكون حلالًا وقد يكون حرامًا، مباحًا أو مملوكًا أو غير مملوك، وكلٌّ يستوفي رزق نفسه حلالًا كان أو حرامًا، ولا يُتصوَّر ألَّا يأكل إنسان رزقه أو يأكل غير رزقه.
وقالت المعتزلة: الرزق: ما ينتفع به، فالحرام لا يكون رزقًا له، ورُدَّ بقوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقد يعيش الإنسان طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: طول عمره لم يكن يأكل من رزقه شيئًا، وهو باطل، وتمامه في كتب الكلام.
(فقُضِي)؛ بضم القاف وكسر الضَّاد، على البناء للمفعول، من القضاء، وله معان كثيرة؛ منها: الحكم، والفراغ، والقتل، والموت، والأداء، والإبلاغ، والقدر، والمناسب هنا: إما حكم أو قدر، (بينهما)؛ أي: بين الأحد والأهل، وفي رواية: (بينهم) بالجمع باعتبار أن أقل الجمع اثنان، أو بالنظر إلى معنى الجمع من الأهل (ولدٌ) ذكرًا كان أو أنثى (لم يضرُّه) الشيطان، بضم الرَّاء؛ لأجل ضمة ما قبلها، والفتح للخفة وفك الإدغام؛ أي: لا يكون للشيطان على الولد سلطان ببركة اسمه عز وجل؛ بل يكون من جملة العباد المحفوظين المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، أو المعنى: أنَّ الشيطان لا يتخبطه ولا يداخله بما يضر عقله أو بدنه، وهذا أقرب، وقيل: لا يطعن فيه عند ولادته أو لم يفتنه بالكفر.
وروى ابن جرير في «تهذيب الآثار» بسنده عن مجاهد قال: «إذا جامع الرجل أهله ولم يسمِّ؛ انطوى الجان على إحليله فجامع معه»، فذلك قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 74] ففيه الملازمة لابن آدم من حين خروجه من ظهر أبيه إلى رحم أمه إلى حين موته، وقد جعل الله ذِكْرَ اسمه حجابًا لذلك، أعاذنا الله منه، فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، وعلى خيشومه إذا نام، وعلى قلبه إذا استيقظ، فإذا غفل؛ وسوس، وإذا ذكر الله؛ خنس، ويضرب على قافية رأسه إذا نام ثلاث عقد: عليك ليل طويل، وتنحل بالذكر والصلاة.
وصفتها: أنَّها سنة، وليست بواجبة فلو تركها عمدًا؛ صح وضوؤه، وهو قول الإمام الأعظم، ومالك، والشافعي، والجمهور، ورواية عن أحمد، وأخرى أنَّها واجبة، وهو قول أهل الظاهر، وقال إسحاق ابن راهويه: إنَّها واجبة إن تركها عمدًا؛ بطلت طهارته، وإن سهوًا؛ لا تبطل، وروي عن الإمام الأعظم: أنَّها ليست بمستحبة، وروي عن مالك: أنَّها بدعة، وفي رواية: أنَّها مباحة، والله تعالى أعلم.

==================

(1/258)


(9) [باب ما يقول عند الخلاء]
هذا (باب ما يقول)؛ أي: الذي يقوله الشخص (عند) إرادة دخول (الخَلاء)؛ بفتح الخاء المعجمة وبالمد: موضع قضاء الحاجة، سمي به؛ لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة؛ وهو الكنيف والحش والمرتفق، وأصله المكان الخالي، ثم كثر استعماله حتى تجوز به عن ذلك، وأما الخلى؛ بالقصر: فهو الحشيش الرطب والكلأ، وبالكسر والمد: العيب في الإبل كالحران في الخيل، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
%ص 103%

==================

(1/259)


[حديث: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبايث]
142# وبه قال: (حدثنا آدم)؛ بالمد: هو ابن أبي إياس (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن عبد العزيز بن صُهيب) بضم الصَّاد المهملة (قال: سمعت أنسًا)؛ أي: ابن مالك حال كونه (يقول) أتى به مضارعًا مع (سمعت) الماضي؛ استحضارًا لصورة القول: (كان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) وأتى بـ (كان) للدلالة على الثبوت والدوام (إذا) ظرف بمعنى: حين (دخل الخلاء)؛ بالنصب بتقدير (في)؛ أي: أراد الدخول في الخلاء، كما سيأتي التصريح به في التعليق آخر الباب؛ لأنَّ اسم الله تعالى مستحب الترك بعد الدخول، وإنما يذكر في الخلاء بالقلب لا باللسان، ويكره الدخول في الخلاء ومعه شيء مكتوب فيه اسم الله أو قرآن، لما في «أبي داود» و «الترمذي»: عن أنس قال: (كان عليه السلام إذا دخل الخلاء؛ نزع خاتمه)؛ أي؛ لأنَّ نقشه (محمد رسول الله)، ففيه دليل على استحباب [1] تنحية المستنجي اسم الله واسم رسوله، وكذا سائر الرسل والقرآن، وكذا كل ما عليه معظَّم من اسم الله أو نبي أو ملك، فإن خالف؛ كره؛ لترك التعظيم، ومنه يعلم كراهة استعمال نحو إبريق في خلاء مكتوب عليه شيء من ذلك، وطشت تغسل فيه الأيدي، ومحل الكراهة إن لم يكن مستورًا، فإن كان في جيبه؛ فلا بأس به، وفي «القهستاني» عن «المنية»: الأفضل ألَّا يدخل الخلاء وفي كمه مصحف إلَّا إذا اضطر، ونرجو ألَّا يأثم بلا اضطرار، انتهى، وفي «شرح المنية»: الخاتم المكتوب فيه شيء من ذلك إذا جعل فصه إلى باطن كفه قيل: لا يكره، والتحرز أولى، انتهى.
ويدخل الخلاء برجله اليسرى؛ لأنَّه محل مستقذر، ويخرج باليمنى، فإذا أراد أن يدخل؛ (قال) وفي رواية: (يقول) وهي
%ص 103%
في محل نصب خبر (كان)، وهي أولى؛ لأنَّها تفيد تكرار الفعل، وأنَّه عادة له هنا بخلاف الأولى: (اللهم)؛ أي: يا الله، وهذا إذا كان المكان معدًّا لذلك كالكنيف، فإن كان في الصحراء أو غيره مما لم يكن معدًّا لذلك؛ فيقول وقت الجلوس قبل كشف العورة: (إني أعوذ) جملة محلها الرفع خبر (إن)؛ أي: ألوذ وألتجئ (بك من الخُبُث)؛ بضم الخاء المعجمة والباء الموحدة، وقد تسكَّن؛ وهي رواية، وقال الخطابي: تسكين الباء غلط، والصواب الضم، وأنكره في «عمدة القاري» بأنَّ أبا عبيد حكى تسكين الباء وكذا الفارسي والفارابي، جمع خبيث، مثل عَتِيق وعُتُق، (والخبائث) جمع الخبيثة [2]؛ أي: ذكران الشياطين وإناثهم؛ لأنَّهم يحضرون الأخلية، وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله، فقدم لها الاستعاذة احترازًا منهم، وقد قال النبي الأعظم عليه السلام: «إن هذه الحشوش محتضرة_أي: للجان والشياطين_ فإذا دخل أحدكم الخلاء؛ فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث»، أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، فكان عليه السلام يستعيذ؛ إظهارًا للعبودية وتعليم الأمَّة، وإلا فهو عليه السلام محفوظ من الجن والإنس، وقد ربط عفريتًا على سارية من سواري المسجد، واستُدِل بهذا على أنَّ إبليس نجس العين، ورُدَّ بأنَّ في «شرح السنة»: أنه عليه السلام أمسك إبليس في الصلاة ولم يقطعها؛ فهو يدل على أنَّه طاهر العين، لكنه نجس الفعل من حيث الطبع.
ويستحب أن يقول: (بسم الله) مع التعوذ؛ لما رواه المعمري عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ: «إذا دخلتم الخلاء؛ فقولوا: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث»، وإسناده على شرط مسلم، وفي «كتاب ابن عدي» بسند فيه ضعف: كان عليه السلام إذا دخل الكنيف؛ قال: «بسم الله» ثم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث»، ففيه زيادة التسمية وتقديمها على [3] التعوذ، فالسنة هنا تقديم التسمية على التعوذ، عكس المعهود في التلاوة على الصحيح، وقيل: بالاكتفاء بأحدهما تحصل السنة والجمع أفضل.
والشياطين على نوعين: جني وإنسي؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]، وشيطان الإنس أعظم من شيطان الجن؛ لأنَّه من التعوذ يفر ويهرب، أمَّا شيطان الإنس؛ فلو قرأت عليه التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان؛ لم يفر ولم يتحرك من مكانه؛ بل لو رآه شيطان الجن؛ لفر وهرب منه؛ لأنَّه لا يخلو من أذاه، لأنَّه ربما تحيَّل عليه وركبه كما تركب الدابة في زماننا.
ولو أتى بالبسملة كلها؛ فحسن، كما في «السراج»، لكن الأحسن: بسم الله، كما في «النتف» موافقة للحديث.
وأفاد الحديث أن يقول: (أعوذ)، وفي رواية وهيب: (فليتعوذ)، وهو شامل لألفاظ الاستعاذة، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، فالأولى أن يقول ذلك موافقة للقرآن، وقد يفرق بأن ذلك مخصوص بقراءة القرآن، وذاك مخصوص بدخول الخلاء.
(تابعه) وفي رواية: (قال أبو عبد الله: تابعه)؛ أي: تابع آدمَ بن أبي إياس (ابنُ عَرعَرة)؛ بتكرار العين المفتوحة والرَّاء المهملات، واسمه محمد؛ أي: في رواية الحديث (عن شعبة) كما رواه المؤلف في (الدعوات) موصولًا، والحاصل: أن ابن عرعرة روى هذا الحديث عن شعبة كما رواه آدم عن شعبة، وهذه هي المتابعة التامة وفائدتها التقوية.
(وقال غُنْدَر)؛ بضم الغين المعجمة، وسكون النُّون، وفتح الدَّال المهملة على المشهور وبالرَّاء، ومعناه: المشغب، وهو لقب محمد بن جعفر البصري ربيب شعبة، (عن شعبة) كما وصله البزار في «مسنده» بلفظ: (إذا أتى الخلاء) فهو تعليق لا متابعة، ورواه أحمد بن خليل عن غندر بلفظ: (إذا دخل) فيكون متابعة.
(وقال موسى)؛ أي: ابن إسماعيل التبوذكي مما وصله البيهقي، (عن حماد) هو ابن سلمة بن دينار الربعي، وكان يعد من الأبدال، وعلامة الأبدال ألَّا يولد له، تزوج سبعين امرأة، فلم يولد له، المتوفى سنة سبع وستين ومئة، بلفظ: (إذا دخل)؛ أي: الخلاء، وهذه المتابعة ناقصة لا تامة.
(وقال سعيد بن زيد)؛ أي: ابن درهم الجهضمي، أبو الحسن الأزدي البصري أخو حماد بن زيد بن درهم، مما وصله المؤلف في «الأدب المفرد» بلفظ: (حدثنا عبد العزيز)؛ أي: ابن صهيب ... إلى أنس قال: كان النبي الأعظم عليه السلام (إذا أراد أن يدخل)؛ أي: الخلاء ... ؛ الحديث، زاد في رواية: (قال أبو عبد الله _يعني المؤلف_: ويقال: الخبْث) يعني: بسكون الموحدة.
وقد تكلم بعضهم في سعيد بن زيد بضعفه، وروى له المؤلف هنا فقط هذا التعليق استشهادًا، مات سنة وفاة ابن سلمة، وهذه الألفاظ معناها متقارب يرجع إلى معنى واحد؛ وهو أنَّ التقدير: كان يقول هذا الذكر عند إرادة الدخول في الخلاء لا بعده، وجاء بلفظ (الغائط) موضع (الخلاء) عند الإسماعيلي في «معجمه»، وجاء لفظ (الكنيف)، ولفظ (المرفق)، فالأول في حديث علي بسند صحيح مرفوعًا: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله»، والثاني في حديث أبي أمامة عند ابن ماجه مرفوعًا: «لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللَّهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم» وسنده ضعيف.
ولم يذكر المؤلف ما يقول إذا خرج من الخلاء، وقد جاء فيه، لكن ليس على شرط المؤلف، فروي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الغائط؛ قال: «غفرانك» أخرجه ابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم، قال أبو حاتم الرازي: هذا أصح شيء في الباب.
وروى ابن ماجه من حديث أنس قال: كان النبي الأعظم عليه السلام إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني»، وروى النسائي من حديث أبي ذر مثله، وروى الدارقطني من حديث ابن عباس مرفوعًا: «الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني، وأمسك عليَّ ما ينفعني»، وروى الدارقطني أيضًا من حديث ابن عمر مرفوعًا: «الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى عليَّ قوته، وأذهب عني أذاه».
والحكمة في قول: (غفرانك) أنَّه إنَّما يستغفر من ترْكه ذكر الله تعالى مدة لبثه في الخلاء، ويقرب منه ما قيل: إنَّه لشكر النعمة التي أنعم عليه بها؛ إذ أطعمه وهضمه، فحق على من خرج سالمًا مما استعاذه منه أن يؤدي شكر النعمة في إعاذته وإجابة سؤاله وأن يستغفر الله؛ خوفًا ألَّا يؤدي شكر تلك النعمة، كذا في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (كراهة)، ولا يستقيم معها المعنى.
[2] في الأصل: (الخبيث)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (وتأخيرها عن)، ولعل المثبت هو الصواب.

==================
[1] في الأصل: (كراهة)، ولا يستقيم معها المعنى.
[2] في الأصل: (الخبيث)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (كراهة)، ولا يستقيم معها المعنى.
[2] في الأصل: (الخبيث)، ولعل المثبت هو الصواب.

(1/260)


(10) [باب وضع الماء عند الخلاء]
هذا (باب وضع الماء عند الخلاء)؛ ليستعمله المتوضئ بعد خروجه منه.
==========
%ص 104%

==================

(1/261)


[حديث: أن النبي دخل الخلاء فوضعت له وضوءًا]
143# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد) الجعفي المسنَدي؛ بفتح النُّون (قال: حدثنا هاشم بن القاسم) أبو النضر؛ بالنُّون والضَّاد المعجمة، التميمي الليثي الكناني الخراساني، نزيل بغداد، الملقب بقيصر، المتوفى بها سنة سبع ومئتين عن ثلاث وسبعين سنة (قال: حدثنا ورْقاء)؛ بسكون الرَّاء مع المد: مؤنث الأورق، ابن عمر اليشكري الكوفي، أبو بشر، المتوفى سنة تسع وستين ومئة، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن أبي يزيد) من الزيادة، المكي، قارظ؛ بالقاف، والرَّاء، والظاء المعجمة، حلفاء بني زهرة، المتوفى سنة ست وعشرين ومئة، ووقع في رواية الكشميهني: (عبيد الله بن أبي زائدة)، قال في «عمدة القاري»: وهو غلط، والصحيح: ابن أبي يزيد، ولا يعرف اسمه، انتهى؛ فليحفظ.
(عن) عبد الله (ابن عباس) رضي الله عنهما: (أن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء)؛ بالخاء المعجمة والمد، بيت التغوط، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل رفع خبر (أن)، (فوضعتُ) بضم التاء (له وَضوءًا)؛ بفتح الواو، وهو الماء الذي يتوضأ به، وبالضم المصدر، وهو بالنصب على المفعولية، والجملة معطوفة على الجملة السابقة، وما قيل: إنَّه ناوله إياه ليستنجي به؛ فممنوع؛ لأنَّ فيه
%ص 104%
تعرضًا للاطلاع [1] على عورته عليه السلام، ويدل لهذا قوله: (قال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام بعد الخروج من الخلاء، وفي رواية: (فقال): (مَن) استفهامية مبتدأ خبره قوله: (وضع هذا؟)؛ أي: الوضوء في هذا المكان، (فأُخْبِر) _أي: النبي الأعظم عليه السلام أنَّه ابن عباس_؛ بضم الهمزة على صيغة المجهول، عطف على ما قبله، وقد علم أن في عطف الاسمية على الفعلية أقوالًا، والمفهوم من كلام النحاة جواز ذلك، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني والعجلوني.
وقوله: (على ما قبله)؛ أي: على (قال) أو (فوضعت)، لا على (من وضع هذا؟)؛ لفساد المعنى، والمخبرة: ميمونة بنت الحارث زوج النبي الأعظم عليه السلام وخالة ابن عباس؛ لأنَّ وضع الوضوء كان في بيتها.
(فقال) عليه السلام: (اللهم) أصله: يا الله، فحذف حرف النداء وعوض عنه الميم، (فقِّهْهُ في الدين) من الفقه، وهو لغة: الفهم، تقول: فقِه الرجل؛ بالكسر، ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه، و (الدين)؛ أي: الإسلام؛ أي: شرائع الإسلام، وإنَّما دعا له لأجل وضعه؛ لكونه عليه السلام تفرَّس فيه الذكاء والفطنة، فالمناسب أن يدعو [2] له بالتفقه في الدين؛ ليطلع به على أسرار الفقه في الدين فينتفع وينفع، لأنَّ وضعه عند الخلاء كان أيسر له عليه السلام؛ لأنَّه لو وضعه في مكان بعيد منه؛ كان احتاج إلى طلب الماء، وفيه مشقة ما، ولو دخل به إليه كان تعرضًا للاطلاع على حاله وهو يقضي حاجته، فلما رأى ابن عباس هذه الحالة أوفق وأيسر؛ استشهد به عليه السلام على غاية ذكائه مع صغر سنه، فدعا له بما دعا به، وقد حقق الله دعاءه عليه السلام؛ حيث صار فقيه الأمة، ففيه: دليل قاطع على إجابة دعاء النبي الأعظم عليه السلام.
وفيه: استحباب المكافأة بالدعاء، ويدل له قوله عليه السلام: «من أهدى [3] لكم معروفًا؛ فكافئوه وإلا فادعوا له».
وفيه: أن حمل الخادم الماء إلى المغتسل غير مكروه، وأن الأولى عدمه؛ ليقيم الإنسان العبادة بنفسه من غير إعانة غيره عليها.
وفيه: دليل على أن وضع الماء عند الخلاء للاستنجاء.
وفيه: ردٌّ على من ينكر الاستنجاء بالماء، وأجاب: بأن وضع ذلك الوضوء للنساء، وأما الرجال؛ فيتمسحون بالحجارة، وهو ممنوع.
ونقل ابن التين عن مالك: أنَّه عليه السلام لم يستنج عمره بالماء، وهو ممنوع، فقد عقد المؤلف لذلك بابًا مستقلًا سيأتي، وفي «صحيح ابن حبان» من حديث عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله عليه السلام خرج من غائط قط إلا مس ماء)، وفي «جامع الترمذي» من حديثها أنها قالت: (مُرْن أزواجكن أن يغتسلوا إثر الغائط والبول فإنَّه عليه السلام كان يفعله)، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي «صحيح ابن حبان» من حديث أبي هريرة: (أنَّه عليه السلام قضى حاجته ثم استنجى من تور)، والجمهور على أنَّ الأفضل الجمع بين الماء والحجر.
واستُدِل بالحديث على أنَّ الوضوء من الأواني أفضل من المشارع والبرك، قال القاضي عياض: هذا لا أصل له، ولم ينقل أنَّه عليه السلام وجدها فعدل عنها إلى الأواني، كذا في «عمدة القاري»، وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (للاضطلاع).
[2] في الأصل: (يدعي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أردى)، ولعل المثبت هو الصواب.

==================
[1] في الأصل: (للاضطلاع).
[2] في الأصل: (يدعي)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (للاضطلاع).
[2] في الأصل: (يدعي)، وليس بصحيح.

(1/262)


(11) [باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلَّا عند البناء جدار أو نحوه]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (لا تُسْتَقبلُِ القبلةُ) روي: بضم التاء المثناة من فوق على صيغة المجهول، وبرفع (القبلة) مفعول ناب عن الفاعل، وروي: (يَسْتَقبل)؛ بفتح المثناة التحتية على صيغة المعلوم وبنصب (القبلةَ) على المفعولية، ولام (يستقبل) يجوز فيها الضم على أن (لا) نافية، والكسر على أن تكون ناهية.
وإنما اقتصر على الاستقبال مع أنَّ الحديث فيه كلا الأمرين؛ توقف فيه العجلوني، قلت: لأنَّ الاستقبال لا خلاف فيه، وأما الاستدبار؛ ففيه خلاف سيأتي، فاقتصر على المتفق عليه وترك المختلف فيه؛ تأمَّل.
(بغائط) الباء: فيه ظرفية أو للإلصاق، وهو: اسم للعذرة نفسها؛ لأنَّهم يلقونها بالغيطان، (أو بول) فـ (أو) للتنويع، يدل عليه رواية ابن عساكر: (لا يستقبل بغائط ولا بول)، والغائط: أصله: المطمئن من الأرض الواسع يأتونه لقضاء الحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث؛ كراهة لذكره؛ لأنَّ عادة العرب استعمال الكناية، ثم استعمل للخارج وغلب على الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية، لكن لا يقصد به إلا الخارج من الدبر فقط؛ لتفرقته في الحديث بينهما، وقد يقصد به ما يخرج من القبل أيضًا، فإنَّ الحكم عام، (إلا عند البِناء)؛ بكسر الباء الموحدة، استثناء من قوله: (لا يستقبل القبلة) (جدارٍ)؛ بالجرِّ بدل من (البناء) (أو نحوه)؛ أي: نحو الجدار كالأحجار الكبار، والسواري، والأساطين، وفي رواية: (أو غيره) بدل (أو نحوه)، وهما متقاربان في المعنى.
وقال الإسماعيلي ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء المذكور، وأجاب: بأنَّه أراد بالغائط معناه اللغوي لا العرفي، فصح الاستثناء، ورُدَّ بأنَّهم استعملوه للخارج، وغلب المعنى العرفي على المعنى الأصلي، فصار حقيقة عرفية غلبت على الحقيقة اللغوية، فهجرت حقيقته اللغوية.
وقال ابن بطال: الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر الآتي؛ لأنَّ الحديث كله واحد، ورُدَّ بأنَّ على هذا كان ينبغي أن يذكر حديث ابن عمر في هذا الباب، وعدم ذكره دليل على أنَّ الحديث مخصوص ببابه، وبعيدٌ أن يترجم لشيء في باب ويحيل المطابقة له في حديث مذكور في باب آخر، فإنَّه معيب عند المؤلفين، لا يقال: إنَّ الغائط مشعر بأنَّ الحديث ورد في الصحارى لأنَّا نقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وكلُّ من توجه إلى نحو الكعبة يطلق عليه أنَّه مستقبل الكعبة سواء كان في الصحراء أو في الأبنية، فإن كان في الأبنية فالحائل بينه وبين القبلة الأبنية، وإن كان في الصحارى؛ فهو الجبال والتلال، والصواب أن يقال: إنَّ الحديث عنده عام مخصوص وعليه يوجه الاستثناء، كذا قاله في «عمدة القاري»، وما قاله العجلوني في شرحه؛ فليس بشيء؛ لأنَّه محاولة وخروج عن الظاهر ومنشؤه التعصب؛ فليحفظ.
==========
%ص 105%

==================

(1/263)


[حديث: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره]
144# وبه قال: (حدثنا آدم) _بالمد_ هو ابن أبي إياس (قال حدثني) بالإفراد، وفي رواية: (حدثنا) (ابن أبي ذئب)؛ بالهمز، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا فهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب هشام، المدني العامري (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (الزهري) محمد بن مسلم، (عن عطاء بن يزيد) من الزيادة (الليثي) ثم الجُنْدُعي؛ بضم الجيم، وسكون النُّون، وضم الدَّال المهملة، آخره عين مهملة، المدني الشامي التابعي، المتوفى سنة سبع أو خمس ومئة عن اثنين وثمانين سنة، (عن أبي أيوب) خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عوف (الأنصاري) النجاري الخزرجي، شهد بدرًا والعقبة الثانية، وعليه نزل النبي الأعظم عليه السلام حين قدم المدينة شهرًا، وهو من كبار الصحابة ونجبائهم، المتوفَّى غازيًا بالروم في دار الخلافة القسطنطينية، سنة خمسين، أو إحدى وخمسين، أو اثنتين وخمسين، وعليه الأكثر، وقبره هناك مشهور يزار ويُتَبرك به، معظَّم وعليه من المهابة ما يليق به، يستسقون به فيسقون، وقد بنى عليه قبة عظيمة السلطان سليم خان رضي الله عنه، وهو جدي وإليه أنسب، ولله الحمد والمنة.
(قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا) للشرط ولذا دخلت الفاء في جوابها (أتى) من الإتيان، وهو المجيء؛ أي: جاء (أحدُكم الغائطَ)؛ بالنصب مفعول (أتى)؛ أي: المكان المطمئن لقضاء الحاجة أو الحاجة نفسها؛ أي: قارب ظهورها، والغائط يشمل البول؛ كما قدمناه، وجواب (إذا) قوله: (فلا يَسْتَقبلُِ)؛ بالتحتية والبناء للفاعل لا غير، واللام مكسورة على أن (لا) ناهية، ومضمومة على أنها نافية؛ روايتان (القبلةَ)؛ بالنصب على المفعولية والمراد بها الكعبة، (ولا يُولِّها)؛ أي: القبلة؛ بضم التحتية وتشديد اللام، مجزوم بحذف الياء على النهي، وقد يرفع على أنَّه نفي بمعنى النهي (ظهرَه)؛ بالنصب مفعول ثان؛ أي: لا يجعلها
%ص 105%
مقابل ظهره، وفي رواية مسلم: (ولا يستدبرها ببول أو غائط) وهو عام فيشمل الصحارى والبنيان، فلذا قال إمامنا الإمام الأعظم: يكره تحريمًا استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط مطلقًا؛ أخذًا بعموم الحديث، وهو مذهب مجاهد، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الراوي أبي أيوب، وهو حجة على الشافعي في إباحته بالبنيان؛ لأنَّ المنع لأجل تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحارى والبنيان، فالجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل؛ فالحائل موجود أيضًا في الصحارى كالجبال والأودية لا سيما عند من يقول بكروية الأرض، فإنَّه لا موازاة إذ ذاك بالكلية، ولأنَّ المصلي في البيت يعتبر مستقبل القبلة ولا تجعل الحائط حائلًا، فكيف إذا كشف العورة في البيت لا تجعل الحائط حائلًا؟! وما ذاك إلا مخالفة للنص، ويستثنى من المنع ما لو كانت الريح تهب عن يمين القبلة أو شمالها، فإنَّهما لا يكرهان للضرورة، وإذا اضطر إلى أحدهما ينبغي أن يختار الاستدبار، لأنَّ الاستقبال أقبح فتركه أدل على التعظيم، كذا في «شرح النقاية» وبه قال الشافعي.
وكذا يكره إمساك صبي نحو القبلة للبول؛ لأنَّ كل ما كره فعله لبالغ كره أن يفعله بصغير، والنهي مخصوص بخروج الغائط والبول لا بكشف العورة، فلو استقبلها لأجل التطهير، أو حال الجماع، أو حال خروج الدم، أو الريح أو غيرها؛ فلا يكره تحريمًا؛ بل يندب تركه؛ لأجل التعظيم، كما نصَّ عليه ابن أمير حاج في «الحلية»، والتمرتاشي في «شرح الجامع الصغير»؛ فليحفظ.
ولو اشتبهت عليه القبلة؛ استظهر في «منهل الطلاب» تبعًا لشيخ شيخه أنَّه يلزمه.
وإذا جلس مستقبلًا أو مستدبرًا للقبلة غافلًا فتذكر؛ فإنَّه ينحرف عنها ندبًا إجلالًا لها إن أمكن، وإلا فلا بأس به؛ لحديث الطبري: «من جلس يبول قبالة القبلة فذكرها فانحرف عنها إجلالًا لها؛ لم يقم من مجلسه حتى يغفر له»، كذا في «إمداد الفتاح» و «الدر المختار»، والمراد: أنَّه ينحرف بجملته أو بقلبه حتى يخرج عن جهتها، والكلام في الإمكان فليس في الحديث دلالة على أنَّ المنهي عنه استقبال العين، كما لا يخفى.
لكن قال بعضهم: ورأيت في «التبيين» ما يفيد أنه يكفي في ذلك الانحراف اليسير؛ فتأمل، وقيد الإجلال لا بد منه في المغفرة، وبحث في «النهر» وجوبه، وقال في «النهاية»: فإن لم يفعل؛ لم يكن به بأس، انتهى.
قال الحلبي: وكأنَّه لم يجب؛ لأنَّه وقع معفوًا عنه للسهو وهو فعل واحد، انتهى، والمراد غفران ما شاء الله من ذنوبه الصغائر، وقول «النهاية»: لا بأس به؛ المراد: نفي الكراهة أصلًا، ويحتمل أنَّ المعنى: وإن لم ينحرف مع الإمكان فلا بأس به، وحينئذٍ فالمراد به خلاف الأولى كما هو الشائع في استعماله، ولعلَّه جرى على الرواية الأخرى؛ لأنَّه روي عن الإمام الأعظم روايات؛ أحدها: المنع مطلقًا، وهو ظاهر الرواية عنه وعليه الفتوى، والثانية: الإباحة مطلقًا، والثالثة: كراهة الاستقبال فقط، والرابعة: كراهة الاستدبار أيضًا إلَّا إذا كان ذيله مرخيًّا، كذا في «منهل الطلاب».
(شَرِّقوا أو غَرِّبوا)؛ بفتح أولهما المعجم، وتشديد ثانيهما المكسور؛ أي: لكن خذوا إلى جهة المشرق أو المغرب، وهو جواب سؤال نشأ عن النهي المذكور، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، قيل: الخطاب لأهل المدينة ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، فأما من قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنه لا يشرِّق ولا يغرِّب.
وقيل: إنَّما ذلك في المدينة وما أشبهها كأهل الشام واليمن، وأما من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنَّه يتيامن أو يتشاءم، وقيل: البيت قبلة لمن في المسجد، والمسجد قبلة لأهل مكة، ومكة قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لسائر أهل الأرض، وقالوا: ما بين المشرق والمغرب قبلة فيما يحازي الكعبة أنَّه يصلي إليه من الجهتين ولا يشرق ولا يغرب يحازي كل طائفة الأخرى في هذا، وأخرج ابن ماجه وأبو داود عن معقل بن أبي معقل: أنَّه نهى النبيُّ عليه السلام أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط، وأراد بالقبلتين الكعبة وبيت المقدس، فالنهي إمَّا لاحترام بيت المقدس؛ حيث كان قبلة لنا مرة، أو يكون ذلك من أجل استدبار الكعبة؛ لأنَّ من استقبله فقد استدبر الكعبة، وصرح في «منهل الصلاح»: بكراهة استقبال بيت المقدس، وبه قال إبراهيم، وابن سيرين، وبعض الشافعية، فما قاله الخطابي من دعوى الإجماع على عدم الكراهة؛ خطأ.
وقال مالك والشافعي: إنَّه يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء دون البنيان؛ لحديث ابن عمر الآتي وحديث جابر: (نهانا رسول الله عليه السلام أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول، ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، فدل حديث ابن عمر على جواز الاستدبار في الأبنية، وحديث جابر على جواز الاستقبال، ورُدَّ بأن حديث ابن عمر محمول على الخصوصية بالنبي الأعظم عليه السلام، ولأنَّه يحتمل أنَّه رآه حال الاستنجاء، والدليل إذا كان محتملًا يسقط الاستدلال به، كما سيأتي.
وأمَّا حديث جابر؛ فقال ابن حزم: إنَّه ضعيف؛ لأنَّه رواه أبان بن صالح، وهو ليس بمشهور، وقال أحمد ابن حنبل وأبو عمرو: إن حديث جابر ليس بصحيح؛ لأنَّ أبان ضعيف، وقول الحاكم: إنَّه صحيح على شرط مسلم؛ مردود؛ لأنَّ أبان _راويه عن مجاهد عن جابر_ لم يخرج له مسلم شيئًا، والحديث حديثه وعليه يدور، وزعمهم بأن حديث جابر ناسخ لحديث الباب خطأ مردود؛ لأنَّ حديث أبي أيوب صحيح، وحديث جابر ضعيف، فكيف ينسخ الضعيف الصحيح؟! هذا لا يقوله عاقل على أنَّه لا يصار إلى الحديث الضعيف إلَّا عند تعذُّر الجمع بينهما، وهو ممكن هنا كما سيأتي، على أنَّه محمول على أنَّه رآه في بناء أو نحوه؛ لأنَّ ذلك هو المعهود من حاله عليه السلام لمبالغته في التستر، ولعلَّه رآه حال الاستنجاء وهو محتمل فيسقط الاستدلال به.
واستنبط ابن التين من الحديث منع استقبال النَّيِّرين في حالة الغائط والبول، وكأنَّه قاسه على الاستقبال، وليس القياس بظاهر، وإن كان الحكم كذلك فقد نص أئمتنا على كراهة استقبالهما؛ أي: عين الشمس والقمر احترامًا لهما؛ لأنَّهما آيتان عظيمتان من آيات الله كما في «الإمداد»؛ أي: لأجل بول أو غائط، كما في «الدر»، ومفاده: أنَّه لو كان الاستقبال لأجل التطهير؛ لا يكره، كما قدمناه، وإطلاق الكراهة يقتضي التحريم واقتصارهم على الاستقبال يفيد أنَّه لا يكره الاستدبار، كذا قاله بعضهم، واستظهر شيخ شيخنا أنَّ الكراهة هنا للتنزيه؛ لأنَّه لم يرد فيه نهي، لكن سيدي العارف الشيخ عبد الغني النابلسي نقل أنَّه لا يقعد مستقبلًا ولا مستدبرًا لهما؛ للتعظيم، انتهى.
فهذا يفيد كراهة استدبارهما حال قضاء الحاجة وهو الظاهر، والمراد أنَّه يكره استقبال عينهما مطلقًا سواء كان في الصحراء أو في البنيان لا جهتهما ولا ضوئهما، وأنَّه لو كان ساتر يمنع عن العين ولو سحابًا فلا كراهة كما في «شرح مقدمة أبي الليث»، والظاهر: أنَّ الكراهة إذا لم يكونا في كبد السماء، وإلا فلا استقبال للعين، وهذا كله مستفاد من قوله: (عين ... ) إلخ، مع صريح النقل في ذلك كذا في «منهل الطلاب».

==================

(1/264)


(12) [باب من تبرز على لبنتين]
هذا (باب) حكم (من) موصولة وصلتها قوله: (تبرَّز)؛ بتشديد الرَّاء وبالزاي، من التبرز وهو التغوط، وأصل التبرز: الخروج إلى البَراز للحاجة، والبراز؛ بفتح الموحدة: اسم للفضاء الواسع من الأرض، فكنوا به عن حاجة الإنسان، (على لَبِنتين) تثنية لَبِنة؛ بفتح اللام وكسر الموحدة، ويجوز تسكينها مع فتح اللام وكسرها، ويجوز فيه الأوجه الثلاثة كـ (كتف)، وقال الجوهري:
%ص 106%
مثل كلمة وكلم، وهو الطوب النيء، والذي يوقد عليه النار يسمى الآجر؛ بالمد، وتمامه في «عمدة القاري»، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال؛ أي: جالسًا، لا متعلق بـ (تبرز)؛ فافهم.

==================

(1/265)


[حديث ابن عمر: لقد ارتقيت يومًا على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله]
145# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التِّنِّيسي؛ بكسر المثناة الفوقية وتشديد النُّون (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الإمام، (عن يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين المهملة الأنصاري المدني، (عن محمد بن يحيى بن حَبَّان)؛ بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة، الأنصاري النجاري _بالنُّون والجيم_ المازني، المتوفى بالمدينة سنة إحدى وعشرين ومئة، (عن عمه)؛ أي: عم محمد بن يحيى (واسع بن حَبَّان)؛ بفتح المهملة وتشديد الموحدة، ابن منقذ بن عمرو الأنصاري النجاري _بالنُّون_ المازني، ولواسع رؤية؛ فلذا ذُكِر في الصحابة، ولأبيه منقذ _اسم فاعل من أنقذ؛ بالمعجمة_ وجده عمرو صحبة، وحَبَّان: إن أخذته من حَبِن؛ بفتح المهملة وكسر الموحدة: إذا طرأ له السقي؛ صرفته، وإذا أخذته من حب؛ منعته؛ فليحفظ.
(عن عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما: (أنَّه)؛ أي: عبد الله بن عمر كما صرح به مسلم (كان) في محل رفع خبر (أنَّ) (يقول) في محل نصب خبر (كان): (إنَّ) بكسر الهمزة (ناسًا) مقول القول؛ أي: جماعة من الصحابة؛ منهم: أبو أيوب الأنصاري، وأبو هريرة، ومعقل الأسدي، وغيرهم رضي الله عنهم ممن ذهب إلى أنَّ الاستقبال والاستدبار عند الحاجة في الصحراء أو في البنيان منهي عنه؛ لعموم الحديث السابق (يقولون) في محل رفع خبر (إنَّ): (إذا قعدت) خطاب عامٌّ لكل من يتأتَّى منه القعود (على حاجتك) لفظة (على) إما للاستعلاء أو للتعليل، وهو كناية عن قضاء الحاجة قاعدًا أو قائمًا، وعبَّر بالقعود؛ لأنَّه الغالب؛ (فلا تستقبل القبلةَ)؛ بالنصب على المفعولية؛ أي: الكعبة (ولا بيتَ المقدس)؛ بالنصب عطفًا على القبلة والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى صفته؛ كمسجد الجامع؛ أي: صخرته؛ لأنَّها هي التي كانت قبلة، وفيه لغتان مشهورتان: فتح الميم وسكون القاف وكسر الدَّال المخففة، وضم الميم وفتح القاف والدَّال المشددة، والمشدد معناه: المطهر، والمخفف لا يخلو إما أن يكون مصدرًا أو مكانًا، ومعناه: بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة، أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره: إخلاؤه من الأصنام وإبعاده منها أو من الذنوب.
وهذا دليل على أنَّ الصحابة كانوا يختلفون في معاني السنن، وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن هنا وقع بينهم الاختلاف، وكلامه يدل على إنكاره على من يقول: إنَّ استقبال بيت المقدس عند الحاجة غير جائز، فلذا قال أحمد بن حنبل: حديث ابن عمر ناسخ للنهي عن استقبال بيت المقدس واستدباره، يدل لهذا ما روى مروان الأصغر عن ابن عمر: أنَّه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن؛ أليس قد نهي عن هذا؟ قال: إنَّما نهي عن هذا في الفضاء، وأمَّا إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك؛ فلا بأس.
قلت: وهذا لا يدل على النسخ؛ بل على التسليم، غاية الأمر أنَّه يقول: لا يجوز الاستقبال والاستدبار في الصحراء، ويجيزهما في البنيان، كما هو مشهور مذهبه؛ للساتر، وقوله: (لا بأس) يدل على أنَّ النهي موجود لكن أخف من النهي عن القبلة؛ فتأمل، لأنَّ بيت المقدس معظَّم محتَرم؛ حيث إنَّه كان قبلة لنا مرة، أو من أجل استدبار الكعبة؛ لأنَّ من استقبله بالمدينة؛ فقد استدبر الكعبة؛ كما قدمناه.
(فقال عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما، وهذا ليس جوابًا لواسع كما زعمه الكرماني؛ بل هو من كلام ابن عمر لما تقدم من تصريح رواية مسلم بذلك، فالفاء: سببية؛ لأنَّ ابن عمر أورد القول الأول منكِرًا له، ثم بين السبب في إنكاره بما رآه من فعله عليه السلام، وقدم عليه القسم مع ما بعده؛ لتحقيق خبره.
ولما أراد واسع الراوي عنه التأكيد أيضًا؛ أعاد قوله: (فقال ابن عمر): (لقد) اللام فيه: جواب قسم محذوف؛ أي: والله لقد (ارتقيتُ)؛ بضم التاء؛ أي: صعدت، وفي رواية: (رقيت)، والقسم المقدَّر وجوابه: مقول (فقال)، (يومًا)؛ بالنصب على الظرفية، ولفظ: (يومًا) سقط في رواية (على ظهر بيت لنا) متعلق بـ (ارتقيت)، وفي رواية تأتي: (على ظهر بيتنا)، وفي أخرى تأتي: (على ظهر بيت حفصة)؛ يعني: أخته، كما صرَّح به في رواية مسلم، ويدلُّ له رواية ابن خزيمة: (فدخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت)، والجمع بينهما بأنَّه بيت حفصة الذي أسكنها فيه النبي الأعظم عليه السلام، فالإضافة إليها ظاهرة، ونسب إليه إما باعتبار أنَّها أخته أو باعتبار ما آل إليه الحال؛ لأنَّه ورثها لكونه شقيقها دون إخوته، (فرأيت)؛ أي: أبصرت، فلا يقتضي إلا مفعولًا وحدًا وهو قوله: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم على لَبِنتين) في محل نصب على الحال من (النبي) عليه السلام؛ أي: مستعليًا عليهما أو للتعليل، (مستقبلًا) بالنصب حال منه ويجوز أن يكونا حالين مترادفين ومتداخلين (بيتَ) مفعول (مستقبلًا) مضاف إلى قوله: (المقدس)؛ أي: ومستدبر الكعبة؛ للزومه عادة، وفي رواية تأتي: (مستقبل الشام مستدبر القبلة)، وعند ابن حبان: (مستقبل القبلة مستدبر الشام)، ولعلَّه مقلوب أو على تعدد القصة، والظاهر الأول؛ (لحاجته) اللام للتعليل؛ أي: لأجل حاجته أو للوقت؛ أي: وقت حاجته وهي التبرز، وعند الحكيم الترمذي: (فرأيته في كنيف)، وفي رواية ابن خزيمة: (فأشرفت على رسول الله عليه السلام وهو على خلائه)، وفي رواية أخرى: (فرأيته يقضي حاجته محجوبًا بلَبِن)، ونَظَرُ ابن عمر له عليه السلام وهو في تلك الحالة محمول على أنَّه وقعت منه تلك اتفاقًا للضرورة من غير قصد، كما يدل له الرواية الآتية، أو قصد ذلك فرأى رأسه دون ما عداه من بدنه، ثم تأمَّلَ قعوده، فعرف كيف هو جالس، فنقل ما شاهد.
وهذا يرد على من قال: بالجواز مطلقًا، يحتمل أنَّه رآه بالفضاء، وكونه على لَبِنتين لا يدل على البناء؛ لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما على الأرض، ويردُّ هذا الاحتمال أيضًا أنَّ ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال في الفضاء إلا بساتر، كما رواه أبو داود وغيره، فاستدلَّ بذلك مالك والشافعي على جواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة في البنيان، وأنَّه مخصص لعموم النهي، كما ذكرناه في الباب قبله.
قلت: بل النهي باق على عمومه، وأن الحديث مخصوص بالنبي الأعظم عليه السلام، ويدل لذلك إنكار أبي أيوب، وأبي هريرة، ومعقل، وغيرهم على ابن عمر الاستقبال بالساتر، ويحتمل أنَّ ابن عمر رأى النبي الأعظم عليه السلام وهو يستنجي بالأحجار مستقبلًا وهو جائز، ويحتمل أنَّ في أعالي السطح قذرًا فخشي النبي عليه السلام أن يصيبه فارتفع على لبنتين لا للحاجة؛ بل للقذر، وعلى فرض كونه للحاجة يحتمل أنَّه كان في مهب الريح؛ لأنَّه العادة في المكان المرتفع، فلو استقبل الريح لا شك أنَّه يعود عليه الخارج، فاختار عليه السلام استقبال بيت المقدس فيكون مستدبر الكعبة؛ لأنَّه أخف من استقبال القبلة؛ لأنَّه أقبح، على أنَّ حديث أبي أيوب راجح على حديث ابن عمر؛ لأنَّه قول وذاك فعل، والقول مقدم على الفعل عند المحققين، وهو مثبت وذاك منفي، والمثبت مقدم على النافي عند المدققين، فالمصير إلى حديث أبي أيوب متعين لوجود الاحتمالات في حديث ابن عمر والدليل إذا طرقه الاحتمال؛ سقط الاستدلال به، على أنَّ حديث أبي أيوب محرِّم، وحديث ابن عمر مبيح، والمحرِّم مقدم على المبيح عند الأصوليين فتعيَّن المصير إليه وسقط الاستدلال به؛ فليحفظ.
(وقال) أي: ابن عمر: (لعلَّك) الخطاب لواسع، وغلط من زعم أنَّه مرفوع، قاله ابن حجر، (من الذين يصلون على أوراكهم) جمع: ورك، كـ (كتف) مؤنثة، ففيها لغاتها، والوركان: العظمان على طرف عظم الفخذين، كما في «عمدة القاري»؛ أي: الذين لا يعرفون السنة، إذ لو كنت عارفًا بها؛ لعرفت جواز استقبال بيت المقدس ولما التفتَّ إلى قولهم.
وإنَّما كنَّى عن الجاهلين
%ص 107%
بـ (الذين يصلون على أوراكهم)؛ لأنَّ المصلي على الورك لا يكون إلا جاهلًا بالسنة وإلا لما صلى عليه، والسنة في السجود التخوية؛ أي: لا يلصق الرجل بالأرض؛ بل يرفع عنها.
(فقلت: لا أدري والله)؛ أي: قال واسع: لا أدري أنا منهم أم لا، أو لا أدري السنة في الاستقبال، فجواب القسم محذوف لدلالة المذكور عليه، أو المذكور قدم من تأخير كما قيل بنظيره في نحو: أقوم إن قام زيد.
(قال مالك)؛ أي: ابن أنس في تفسير الصلاة على الورك: (يعني)؛ أي: ابن عمر بقوله ذلك (الذي يصلي ولا يرتفع عن الأرض يسجد) جملة في محل نصب على الحال، (وهو لاصق بالأرض) والجملة أيضًا محلها النصب على الحال، فتفسير الصلاة على الورك هو اللصوق بالأرض حالة السجود، وهو خلاف السنة؛ لأنَّ السنة أن يجافي؛ أي: يباعد بطنه عن فخذيه، وعضديه عن إبطيه؛ لأنَّه أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض في غير زحمة، وعلى كلٍّ فصلاته صحيحة، وزعم بعضهم: أنَّ صلاته كذلك باطلة، ولعلَّه نظر إلى عدم نصب أصابعه على الأرض ولفظ (قال مالك) إن كان من قول المؤلف؛ نقْله منه يكون تعليقًا، وإن كان من قول عبد الله؛ يكون داخلًا تحت الإسناد المذكور، كذا في «عمدة القاري» ومثله في «الكرماني».
قلت: والظاهر: أنَّ لفظ: (قال مالك) من قول المؤلف ومقوله _وهو (يعني ... ) إلخ_ من قول ابن عمر، يدل لذلك سياق مسلم، وفي أوله عنده: (عن واسع قال: كنت أصلي في المسجد؛ فإذا عبد الله بن عمر جالس، فلما قضيت صلاتي؛ انصرفت إليه من شقي، فقال عبد الله: يقول ناس ... )؛ فذكر الحديث، فكأن ابن عمر رأى منه في حالة السجود شيئًا لم يتحققه فسأله عنه بالعبارة المذكورة وكأنَّه بدأ بالقصة الأولى؛ لأنَّها من روايته المرفوعة.
وقال العجلوني: لفظ (قال مالك) من قول المؤلف، ومقوله من قول مالك، انتهى.
وهو غير ظاهر؛ لخفائه ومنشأ ذلك القول التعصب على الإمام بدر الدين العيني؛ فافهم.
وفي الحديث: استعمال الكناية بالحاجة عن البول والغائط، وجواز الإخبار عن مثل ذلك للاقتداء والعمل.
ومن الآداب: أن يكون المستنجي بعيدًا إذا كان في براح من الأرض أو ضرب حجاب أو ستر وأعماق الآبار والحفائر، وألا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض جاء ذلك في حديث أبي داود عن أنس، وتغطية الرأس كما كان الصديق الأكبر يفعله، وترك الكلام كفعل عثمان رضي الله عنه، والاستنجاء باليسار، وغسل اليد بعد الفراغ بالتراب، رواه ابن حبان، والاستجمار، واجتناب الروث والرمة، وألا يتوضأ في المغتسل، وينزع خاتمه إذا كان فيه اسم الله كما رواه النسائي، وألا يبول قائمًا، ولا في طريق الناس ولا ظلهم، ولا في الماء ومساقط الثمار وضفة الأنهار، وأن يتكئ على رجله اليسرى، وينثر ذكره ثلاثًا، وتمامه في كتب الفروع.

==================

(1/266)


(13) [باب خروج النساء إلى البراز]
هذا (باب خروج النساء) من إضافة المصدر إلى فاعله (إلى البَراز)؛ بفتح الباء الموحدة، وبراء وزاي، بينهما ألف: اسم للفضاء الواسع من الأرض، ويكنى به عن الحاجة؛ سميت باسم الصحراء كما سميت بالغائط، وقال الخطابي: وكسر الموحدة غلط؛ لأنَّ البِراز؛ بالكسر: مصدر بارزت الرجل مبارزة، واعترضه ابن حجر بأنَّه يطلق بالكسر على نفس الخارج، فمن فتح؛ أراد الفضاء من إطلاق اسم المحل على الحال، ومن كسر؛ أراد نفس الخارج، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّ ابن الأعرابي قال: برِز بالكسر: إذا ظهر بعد خمول، وبرَز بالفتح: إذا خرج إلى البراز الغائط، وهو الفضاء الواسع، ويقول الفراء: (هو الموضع الذي ليس به خمر من شجر ولا غيره، والبراز: الحاجة)، وتمامه فيه، فالحقُّ ما قاله الخطابي، وكلامه في غاية التوجيه، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في اللغة.
==========
%ص 108%

==================

(1/267)


[حديث: أن أزواج النبي كنَّ يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع]
146# وبه قال: (حدثنا يحيى بن بُكَير)؛ بضم الموحدة وفتح الكاف، بالتصغير (قال: حدثنا الليث)؛ أي: ابن سعد الفهمي من أتباع الإمام الأعظم على التحقيق (قال: حدثني) بالإفراد (عُقيل)؛ بضم العين المهملة مصغرًا، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن عروة): هو ابن الزبير، (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنَّ أزواج النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ومنهن عائشة؛ بناء على أنَّ المتكلم يدخل في عموم كلامه أمرًا، أو نهيًا، أو خبرًا، لكن المرجح أنه لا يدخل، ولذا لو أمر الإمام بصيام ثلاثة؛ فيجب أو يندب صومها عليهم دونه؛ فتأمَّل، (كُنَّ)؛ بتشديد النُّون، والجملة محلها الرفع خبر (أنَّ) (يخرجن): جملة محلها النصب خبر (كان) (بالليل): الباء ظرفية؛ أي: فيه (إذا) ظرفية (تبرَّزن)؛ أي: إذا خرجن إلى البراز للبول والغائط، وأصله من (برَز) بفتح عين الفعل؛ إذا خرج إلى البَراز للغائط؛ وهو الفضاء الواسع (إلى المَناصِع)؛ بفتح الميم وكسر الصَّاد المهملة، جمع مَنْصَع (مَفْعَل) كـ (مَقْعَد) من النصوع؛ وهو الخلوص، وهي المواضع خارج المدينة من جهة البقيع يتخلى فيها للحاجة، وسميت بالمناصع؛ لخلوصه عن الأبنية والأماكن، وتمامه في «عمدة القاري»، والجار والمجرور يتعلق بـ (يخرجن)، وقول الكرماني: إنه يتعلق بـ (تبرزن)؛ بعيد وإن تبعه العجلوني تعصبًا؛ فافهم.
(وهو) مبتدأ؛ أي: المناصع (صعيدٌ)؛ بالتنوين: التراب أو وجه الأرض (أَفْيَح)؛ بفتح الهمزة، وسكون الفاء، وبالتحتية المفتوحة، وبالحاء المهملة، صفة وموصوف، خبر المبتدأ؛ أي: واسع، وأفرد الضمير مع رجوعه إلى المناصع؛ لأنَّها صارت علمًا للموضع، وهذه الجملة تفسير لـ (المناصع)، وهو يحتمل أن يكون من عائشة، أو من عروة، أو ممن دونه من الرواة، كما في «عمدة القاري»، واستظهر ابن حجر أنَّه من عائشة، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه لا دليل على الظاهر؛ فافهم.
(فكان) بالفاء وفي رواية: بالواو (عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنه (يقول) جملة محلها النصب خبر (كان): (للنبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك) مقول القول؛ أي: امنعهن من الخروج من البيوت؛ بدليل قول عمر لسودة بعد نزول آية الحجاب: (قد عرفناك يا سودة)، ويحتمل أنَّه أراد الأمر بستر وجوههن، فلما وقع الأمر على ما أراد؛ أحب أيضًا أن تحجب أشخاصهن مبالغة في التستر، فلم يُجَب؛ للضرورة، قال ابن حجر: وهذا أظهر الاحتمالين، واعترضه في «عمدة القاري»: بأنَّ هذا الاحتمال لا يدل عليه هذا الحديث؛ بل حديث آخر، وإنَّما الأظهر الاحتمال الأول بشهادة سياق الكلام، وأطال الكلام في ذلك؛ فراجعه فإنه في غاية التحقيق والتدقيق، ولعمري إنَّه الصواب؛ فافهم.
(فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل)؛ أي: ما قاله عمر من حَجْبهن، والجملة محلها النصب خبر (كان)، وفيه دليل على أنَّه عليه السلام كان ينتظر الوحي في الأمور الشرعية؛ لأنَّه لم يأمرهن بالحجاب مع وضوح الحاجة إليه حتى نزلت الآية، وكذا في الإذن لهنَّ بالخروج.
(فخرجت سودةُ بنتُ)؛ بالرفع صفة لـ (سودة) (زَمَعَةَ)؛ بالجرِّ على الإضافة ممنوع من الصرف؛ للعلمية والتأنيث، وهي بالزاي والميم والعين المهملة المفتوحات، وقال ابن الأثير في «النهاية»: وأكثر ما سمعنا أهل الحديث والفقهاء يقولونه بسكون الميم، ابن قيس القرشية العامرية (زوجُ النبي) الأعظم برفع (زوج) صفة، أو بدل، أو عطف بيان من (سودة) (صلى الله عليه وسلم) أسلمت قديمًا وبايعت، وكانت تحت ابن عمٍّ لها، يقال له: السكران بن عمرو، أسلم معها وهاجرا جميعًا إلى الحبشة، فلما قدما مكة؛ مات زوجها، فتزوجها النبي الأعظم عليه السلام ودخل بها بمكة، وذلك بعد موت خديجة، قبل
%ص 108%
أن يعقد [1] على عائشة رضي الله عنهما، وهاجرت إلى المدينة، فلما كبرت؛ أراد طلاقها، فسألته ألَّا يفعل، وجعلت يومها لعائشة فأمسكها، توفيت آخر خلافة عمر أو زمن معاوية رضي الله عنهما سنة أربع وخمسين بالمدينة، (ليلةً)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: خرجت في ليلة (من الليالي عِشاءً)؛ بكسر العين المهملة، وبالمد والنصب بدل من قوله (ليلة)، والمراد به: ما بعد الغروب وقت العتمة، (وكانت) أي: سودة (امرأة طويلة)؛ أي: فلا تخفى، (فناداها عمر) أي: ابن الخطاب بعد أن عرفها قائلًا في ندائه: (ألَا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام: حرف استفتاح، ينبَّه بها على تحقق ما بعده (قد عرفناكِ) بكسر الكاف (يا سودةُ) منادى مفرد معرفة، مبني على الضم؛ (حِرصًا)؛ بكسر الحاء المهملة؛ بالنصب على أنَّه مفعول له، والعامل فيه (فناداها)، (على أن يُنزَل)؛ بضم المثناة التحتية على صيغة المجهول، و (أن) مصدرية، وسقط لفظ (على) للأصيلي، وفي رواية: (أن يَنزِل)؛ بفتح التحتية على صيغة المعلوم، و (أن) مصدرية؛ أي: على نزول (الحجابُ)؛ بالرفع على الروايتين؛ أي: حكم احتجاب النساء عن الرجال، (فأنزل الله آية الحجاب) وفي رواية: (فأنزل الله الحجاب)؛ أي: وتسترهن بالثياب، و (آية الحجاب) يحتمل أن يراد به: الجنس فيتناول الآيات الثلاثة؛ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ... } الآية [الأحزاب: 59]، وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... } [2] الآية [النور: 30]، ويحتمل أن يراد بها العهد من واحدة من هذه الثلاث.
وقيل: المراد بـ (الحجاب) في قوله: (حرصًا على الحجاب) استتارهن بالثياب حتى لا يُرَى منهن شيء عند خروجهن، وأمَّا (الحجاب) الثاني؛ فهو إرخاؤهنَّ الحجاب بينهنَّ وبين الناس، انتهى.
وعليه فالمراد بـ (آية الحجاب): قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا ... } الآية بخصوصها، لكن الأظهر أن يكون المراد بـ (آية الحجاب) ما في رواية أبي عوانة في «صحيحه» من طريق الزبيدي عن ابن شهاب: (فأنزل الله الحجاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... } الآية [الأحزاب: 53])، فهذه الرواية فسرت المراد من آية الحجاب صريحًا، وسيأتي أنَّ سبب نزولها قصة زينب بنت جحش لمَّا أوْلَمَ عليها وتأخر النفر الثلاثة في البيت، واستحى النبي الأعظم عليه السلام أن يأمرهم بالخروج، فنزلت آية الحجاب، وسيأتي أيضًا حديث عمر رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهنَّ البرُّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب)، وروى جرير في «تفسيره» من طريق مجاهد قال: (بينا النبي الأعظم عليه السلام يأكل ومعه بعض أصحابه وعائشة تأكل معهم؛ إذ أصابت يد رجل منهم يدها، فكره النبي الأعظم عليه السلام ذلك، فنزلت آية الحجاب)، وطريق الجمع بين هذه أنَّ أسباب نزول الحجاب قد تعددت، وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصتها في الآية، أو المراد بـ (آية الحجاب) في بعضها: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].
والحجب ثلاثة؛ الأول: هو الأمر بستر وجوههن، يدل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ... } الآية، فالحجاب الذي خص به أمهات المؤمنين هو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادةٍ ولا غيرها.
الثاني: هو الأمر بإرخاء الحجاب بينهنَّ وبين الناس، يدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}.
الثالث: هو الأمر بمنعهن من الخروج من البيوت إلا لضرورة شرعية، فإذا خرجن لا يظهر شخصهن كما فعلت حفصة يوم مات أبوها سترت شخصها حين خرجت، وزينب عملت لها قبة لما توفيت.
وكان لهن في التستر عند قضاء الحاجة ثلاث حالات؛ الأولى: بالظلمة؛ لأنَّهن كنَّ يخرجن بالليل دون النهار، كما قالت عائشة في هذا الحديث، وسيأتي في حديث عائشة في قصة الإفك: (فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع؛ وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلًا ... )؛ الحديث، ثم نزل الحجاب فتسترنَّ بالثياب، لكن ربما كانت أشخاصهنَّ تتميز، ولهذا قال عمر: (قد عرفناك يا سودة)، وهذه هي الحالة الثانية، ثم لمَّا اتُّخذتِ الكنف في البيوت؛ منعنَّ عن الخروج منها وهي الحالة الثالثة، يدل عليه حديث عائشة أيضًا في قصة الإفك فإن فيها: (وذلك قبل أن تتخذ الكنف)، وكانت قصة الإفك قبل نزول الحجاب.
وقال قتادة: الحجاب كان في السنة الخامسة، وقال أبو عبيد: في الثالثة، وقال ابن إسحاق: بعد أم سلمة، وقال ابن معبد: في السنة الرابعة في ذي القعدة، كذا قرره في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (عقد).
[2] في الأصل: {يغضضن من أبصارهن}، والمثبت موافق للتلاوة.

==================
[1] في الأصل: (عقد).
[1] في الأصل: (عقد).

(1/268)


[حديث: قد أذن أن تخرجن في حاجتكن]
147# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية: (وحدثنا)، وفي أخرى: (حدثني) (زكرياء) هو ابن يحيى بن صالح اللؤلؤ البلخي الحافظ، المتوفى ببغلان، ودفن عند قتيبة بن سعيد سنة ثلاثين ومئتين (قال: حدثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة الكوفي، (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) رضي الله عنها، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال)؛ أي: بعد نزول الحجاب: (قد أُذن)؛ بضم الهمزة على صيغة المجهول، والآذن هو الله تعالى، وبنى الفعل للمفعول؛ للعلم بالفاعل، وفي رواية إسقاط لفظة (قد) وهذا مقول القول، (أن)؛ أي: بأن (تَخرجن)؛ بفتح الفوقية أوله، فـ (أن) مصدرية، والتقدير: بخروجكنَّ (في حاجتكنَّ) متعلق بـ (تخرجن).
(قال هشام)؛ أي: ابن عروة المذكور، وهذا إما تعليق من المؤلف وإما مقول هشام أو عروة، وما قيل بأنه مقول أبي أسامة؛ فبعيد، كما لا يخفى: (تعني)؛ أي: تقصد عائشة بالحاجة، وفي رواية: (يعني النبي صلى الله عليه وسلم): (البَرازَ)؛ بفتح الموحدة؛ أي: الخروج إلى البراز، وهو بالنصب بقوله: (تعني)، ودلَّ قوله: (قد أذن أن تخرجن) على أنَّه لم يرد هنا حجاب البيوت، فإن ذلك وجه آخر، وإنَّما أراد أن يتسترن بالجلباب حتى لا يبدو منهن إلا العين، قاله الداودي.
وهذا الحديث طرف من حديث يأتي إن شاء الله في (التفسير) بطوله، وحاصله: أنَّ سودة خرجت بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت عظيمة الجسم، فرآها عمر رضي الله عنه فقال: يا سودة؛ أما والله لا تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، فرجعت فشكت ذلك إلى النبي الأعظم عليه السلام وهو يتعشى، فأوحى الله تعالى إليه فقال: «إنَّه قد أُذِن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكنَّ»؛ أي: لضرورة عدم الأخلية في البيوت، فلمَّا اتُّخِذت فيها الكنف؛ منعهنَّ من الخروج إلا لضرورة شرعية، ففيه والذي قبله فضل عمر، فإنَّه تعالى أيَّد به الدين، وهذه إحدى ما وافق فيها ربَّه، والثانية: في قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5]، والثالثة قوله: (لو اتخذتَ من مقام إبراهيم مصلًّى)، وهذه الثلاثة ثابتة في «الصحيح»، والرابعة: موافقته في أسرى بدر، والخامسة: في منع الصلاة على المنافقين، وهاتان في «مسلم»، والسادسة: موافقته في آية المؤمنين.
وروى أبو داود الطيالسي في «مسنده» من حديث علي بن زيد: وافقت ربي لما نزلت: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] فقلت أنا: {تبارك الله أحسن الخالقين}، فنزلت، والسابعة: موافقته في تحريم الخمر، كما سيأتي في محلِّه، والثامنة: موافقته في قوله: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ ... }؛ الآية [البقرة: 98]، ذكره العلَّامة الزمخشري، وفي «جامع الترمذي» مصحَّحًا عن ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قطُّ فقالوا فيه وقال عمر فيه، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر، وقال ابن العربي: إنَّه وافق ربه تعالى تلاوة ومعنًى في أحد عشرة موضعًا.
وفي الحديث: جواز كلام الرجال مع النساء في الطرق، وجواز وعظ الإنسان أمَّه في البر، وجواز الإغلاظ في القول والعتاب إن كان قصده الخير.
وفيه: التزام النصيحة لله ولرسوله، وجواز تصرف النساء فيما لهن حاجة إليه؛ لأنَّ الله أذن لهنَّ في الخروج إلى البَراز بعد نزول الحجاب، فلما جاز ذلك لهنَّ؛ جاز لهنَّ الخروج إلى غيره من مصالحهنَّ الضرورية، وقد أمر عليه السلام بالخروج إلى العيدين، ولكن في هذا الزمان لما كثر الفساد ولا يؤمن عليهنَّ من الفتنة؛ ينبغي أن يمنعن من الخروج إلا عند الضرورة الشرعية، كذا في «عمدة القاري».
هذا في زمانه فكيف في زماننا؟! فلا يبعد القول بالوجوب؛ لكثرة الفساد، وأهل الفسق والملاهي، واتباع الشهوات، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما من أهله، وقد صار الأمر بالمعروف منكرًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنَّه على ما يشاء قدير.
%ص 109%

==================

(1/269)


(14) [باب التبرز في البيوت]
هذا (باب التبرز) مصدر (تبرَّز)؛ أي: قضاء الحاجة (في البيوت) أشار بهذه الترجمة إلى [أن] خروج النساء للبراز لم يستمر؛ بل اتُّخِذت بعد ذلك الأخلية والمرتفعات في البيوت، فاستُغنِي عن الخروج إلا لضرورة.
==========
%ص 110%

==================

(1/270)


[حديث: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي]
148# وبه قال: (حدثنا) بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (إبراهيم بن المنذر)؛ بضم الميم، وسكون النُّون، وكسر الذال المعجمة، بلفظ اسم الفاعل من الإنذار، الحراني القرشي (قال: حدثنا أنس بن عِياض)؛ بكسر العين المهملة، أبو ضمرة الليثي المدني، المتوفى سنة مئتين عن ست وتسعين سنة، (عن عبيد الله)؛ بالتصغير، ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عثمان القرشي المدني، المتوفى سنة سبع وأربعين ومئة، (عن محمد بن يحيى بن حَبَّان)؛ بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة، (عن) عمه (واسع بن حبان) المذكور (عن عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما، (قال)؛ أي: عبد الله: (ارتقيتُ)؛ أي: صعدت (فوق ظهر بيت حفصة)؛ يعني: أخته كما صرح به مسلم (لبعض حاجتي)، ولفظ: (ظهر) ساقط في رواية، وفي الرواية السابقة: (على ظهر بيتٍلنا)، وفي رواية تأتي: (على ظهر بيتنا)، وطريق الجمع: أن إضافة البيت إليه مجازٌ؛ لكونها أخته، وإضافته إليها باعتبار أنه البيت الذي أسكنها النبي الأعظم عليه السلام فيه
- لا [1] في بيت عمر_ يعرف بها، واستمر في يدها إلى أن ماتت فورثه عنها، وإضافته إلى نفسه باعتبار ما آل إليه الحال؛ لأنَّه ورثها دون إخوته؛ لكونها كانت شقيقته، (فرأيت)؛ أي: أبصرت، فلا يقتضي إلا مفعولًا واحدًا (رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يقضي حاجته) فالجملة محلها النصب على الحال، وحال كونه (مستدبر القبلة)؛ أي: جاعلها خلفه؛ أي: بالاستنجاء، كما يدل عليه حديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، أو كان في مهبِّ الريح فخشي أن يعود عليه أو غير ذلك، وعلى كلِّ؛ فحديث النهي مقدَّم على هذا من وجوه ذكرناها في الباب قبله، (مستقبل الشأم)؛ بالهمز وترْكه؛ أي: جاعلها قدَّامه، لا يقال: شرط الحال أن يكون نكرة؛ لأنَّا نقول: إضافته لفظية لا تفيد التعريف، وفائدة ذكره: التأكيد والتصريح به، وإلا فمستقبل الشام في المدينة مستدبر القبلة قطعًا، وفي الرواية السابقة: (مستقبلًا بيت المقدس)، وكذا في الرواية الآتية، ولا منافاة فإنَّ العبارة مختلفة والمعنى واحد؛ لأنَّهما في جهة واحدة.
==================

(1/271)


[بابٌ]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط في رواية، بغير ترجمة.

==================

(1/272)


[حديث ابن عمر: لقد ظهرت ذات يوم على ظهر بيتنا فرأيت]
149# وبه قال: (حدثنا يعقوب بن إبراهيم) بن يوسف الدورقي (قال: حدثنا يزيد)؛ أي: ابن هارون _كما صرح به الأصيلي وأبو الوقت_ ابن زاذان؛ بالزاي والذال المعجمة، أبو خالد الواسطي الذي كان يحضر مجلسه ببغداد سبعون ألفًا، المتوفى بواسط سنة ست ومئتين عن ثمانٍ وثمانين سنة، (قال: أخبرنا يحيى)؛ أي: ابن سعيد الأنصاري المدني الذي روى عنه مالك هذا الحديث كما سبق، ((عن محمد بن يحيى بن حَبَّان)؛ بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: (أن عمه واسع بن حبان) المذكور (أخبره: أن عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما، (أخبره قال: لقد ظهرت)؛ بالظاء المشالة؛ أي: علوت وارتفعت، مؤكد بـ (قد) واللام، (ذات يوم)؛ أي: يومًا، من إضافة المسمَّى إلى اسمه، أي: ظهرت في زمان هو مسمى لفظ اليوم وصاحبه، ويحتمل أن يكون من إضافة العام إلى الخاص؛ أي: ظهرت نفس اليوم، فيفيد التأكيد؛ أي: اليوم نفسه، وإنَّما لم ينصرف (ذات يوم) و (ذات مرة)؛ لأنَّ إضافتها من قبيل إضافة المسمَّى إلى الاسم كما ذكرنا؛ ولأنَّ (ذات) ليس لها تمكُّن في ظروف الزمان؛ لأنَّه ليس من أسماء الزمان.
وزعم السهيلي: أن (ذات مرة) و (ذات يوم) لا يتصرفان في لغة خثعم ولا غيرها، وحكي عن سيبويه: أنَّه ادَّعى جواز التصرف في لغة خثعم، كذا في «عمدة القاري».
(على ظهر بيتنا) متعلق بـ (ظهرت)، (فرأيت)؛ أي: أبصرت، فلا يطلب إلا مفعولًا واحدًا (رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال كونه (قاعدًا على لَبِنتين)؛ بفتح اللام وكسر الموحدة، تثنية: لَبِنة: الطوب النيء (مستقبلَ بيتِ المقدس)؛ بالنصب على الحال، حال بعد حال مترادفة أو متداخلة، واستغنى هنا عن (مستدبر القبلة) كما وقع في الرواية السابقة؛ لأنَّه لازم لمستقبل بيت المقدس بالمدينة، وعبَّر هنا بـ (بيت المقدس)، وفي السابقة بـ (الشام)؛ للتفنن، وإلَّا فالمراد منهما واحد، وقعوده عليه السلام كان إما للاستنجاء، واختاره لكونه خاليًا من الناس؛ لأنَّ كشف العورة له حرام، أو إمَّا للبول أو الغائط؛ حيث كان في مهبِّ الريح، فاختار استدبار القبلة؛ لأنَّه أخفُّ، فإنه لو شرَّق أو غرَّب؛ عاد عليه الخارج بسبب الريح، فارتكب أخفَّ الضررين؛ أحدهما: هذا، والثاني: حرمة استقبال القبلة واستدبارها؛ لأنَّه قول منصوص عليه من النبي الأعظم عليه السلام، وهو أولى من الفعل عند المحققين، وذكرنا بقية الكلام عليه في باب (لا يستقبل القبلة بغائط أو بول)؛ فافهم، والله أعلم.
وفي يوم الاثنين العشرون من ذي الحجة آخر سنة ست وسبعين ومئتين وألف قامت الإسلام على النصارى في ديارنا الشريفة الشامية، فأحرقوا بيوتهم وكنائسهم، وهدموا أماكنهم، ونهبوا أموالهم، وقتلوا بعضهم، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
==========
%ص 110%

==================

(1/273)


(15) [باب الاستنجاء بالماء]
هذا (باب) حكم (الاستنجاء بالماء) المطلق، (استفعال)؛ أي: طلب الإنجاء، والهمزة للسلب والإزالة؛ كالاستعتاب؛ لطلب الإعتاب لا العتب، وهو إزالة النجو؛ أي: الأذى الباقي في فم المخرج، وأكثر ما يستعمل في الماء، وقد يستعمل في الأحجار، وأصله من النجو؛ وهو القَشْر والإزالة، وقيل: من النجوة؛ لاستتارهم به أو لارتفاعهم وتجافيهم عن الأرض عند ذلك، أو من النجو؛ بمعنى: القطع؛ لأنَّه يقطع عنه الأذى بالماء أو الحجر، والنجو: ما يخرج من البطن، يقال: نجا وأنجى؛ إذا أحدث، وفي اصطلاح الفقهاء: هو إزالة النجو عن أحد المخرجين بالماء أو بالحجر، وظاهره: أن النجاسة تزول بالحجر بالكلية حتى لو دخل الماء القليل لا ينجسه، وهو قول في المذهب كما في «السراج» وغيره، لكن ذكر في «البزازية» و «الخلاصة» وغيرهما: أن حكم النجاسة بعد الحجر باقٍ حتى لو دخل الماء القليل نجَّسه؛ بناء على أنَّ الحجر مخفِّف لا قالع، كما في «فتح القدير» فهما قولان مصحَّحان كما في «منهل الطلاب».
والفرق بين الاستنجاء والاستبراء والاستنقاء: أنَّ الاستنجاء: استعمال الماء أوالحجر، والاستبراء: نقل الأقدام والركض بها ونحو ذلك حتى يستيقن بزوال أثر البول، والاستنقاء: هو النقاوة؛ وهو أن يدلك بالأحجار حال الاستجمار، أو بالأصابع حال الاستنجاء بالماء حتى تذهب الرائحة الكريهة، هذا هو الأصحُّ في الفرق بينها كما في «المقدمة الغزنوية».
وأشار المؤلف بهذه الترجمة كما في «عمدة القاري» الرد على من كره الاستنجاء بالماء، وقال: إنه للنساء، وعلى من نفى وقوعه من النبي الأعظم عليه السلام.

==================

(1/274)


[حديث أنس: كان النبي إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام]
150# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد هِشام) بكسر الهاء (بن عبد الملك) الطيالسي البصري، (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج، (عن أبي مُعاذ)؛ بضم الميم وبالذال المعجمة، (واسمه عطاء بن أبي ميمونة) البصري التابعي مولى أنس بن مالك أو عمران بن حصين، المتوفى بعد الطاعون في البصرة، سنة إحدى وثلاثين ومئة، وفي نسخة: الاقتصار على قوله: (عن أبي معاذ)، قيل: إنه يرى القدر، (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه حال كونه (يقول) فالجملة حال محلها النصب: (كان) أتى بها؛ لأنَّها تشعر في مثل هذا بالتكرار والاستمرار لمدخولها (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (رسول الله)، وعلى الروايتين فهو مرفوع بـ (كان) على أنَّه اسمها (إذا خرج)؛ أي: من بيته أو من بيت غيره (لحاجته) اللام: للتعليل؛ أي: لأجل قضائها، وهي البول أو الغائط، وجملة قوله: (أجيء أنا وغلام) خبر (كان) حذف منه العائد؛ تقديره: أجيئه أنا وغلام معي، ويدل عليه الرواية الآتية: (تبعته أنا وغلام منَّا)؛ أي: من الأنصار، وكلمة (إذا) للظرف المحض، ويحتمل أن يكون فيها معنى الشرط، وجوابه: قوله: (أجيء) والجملة تكون في محل نصب على أنَّها خبر (كان)، وكلمة (أنا) مرفوع (أبرز) [1]؛ ليصح عطف (غلام) على ما قبله؛ لئلَّا يلزم عطف اسم على فعل،
%ص 110%
ويجوز: وغلامًا؛ بالنصب على أن تكون الواو بمعنى: (مع) لكن إن ساعدته الرواية.
وفي رواية مسلم: (وغلام نحوي)؛ أي: مثلي؛ أي: يقاربني في السن، وصرح بكونه من الأنصار الإسماعيلي في روايته، ووقع في رواية: (فأتبعه وأنا غلام) بتقديم الواو، فالجملة حالية، لكن قال الإسماعيلي: إنَّ الصحيح (أنا وغلام) كالمشهور، والغلام: هو الذي طرَّ شاربه، وقيل: هو من حين يولد إلى أن يشبَّ.
وحكى الزمخشري في «أساس البلاغة»: أن الغلام: هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإنْ أجري عليه بعدما صار ملتحيًا اسم الغلام؛ فهو مجاز، وقيل: هو غلام من لدن فطامه إلى سبع سنين، والجمع: أغلمة، وغلمة، وغلمان، والأنثى: غلامة، وتصغير الغلمة: أغيلمة على غير مكبرة، لكن قال ابن التياني: لا يقال للأنثى: غلامة إلا في كلام قد ذهب في ألسنة الناس، وتمامه في «عمدة القاري».
ولم يسمِّ الغلام، وقيل: هو ابن مسعود، ويدل عليه ما يأتي في الباب بعده، فيكون سمَّاه غلامًا مجازًا لما مرَّ عن الزمخشري.
وقال النبي الأعظم عليه السلام لابن مسعود بمكة وهو يرعى الغنم: «إنك لغلام معلَّم»، وعلى هذا فقول أنس: (وغلام منَّا)؛ أي: من الصحابة، أو من خدم النبي الأعظم عليه السلام، لكن يبعده ما في رواية مسلم من أن أنسًا وصفه فيها بالصغر.
وأمَّا رواية الإسماعيلي: (من الأنصار)؛ فلعلَّها من تصرِّف الراوي؛ حيث رأى في الرواية (منَّا)، فحملها على القبيلة فرواها بالمعنى، أو لأنَّ إطلاق (أنصار) على جميع الصحابة سائغ، وإن كان خصَّه العرف بالأوس والخزرج.
وقيل: هو أبو هريرة، وسماه أنصاريًّا مجازًا، ويدل له: ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: (كان عليه السلام إذا أتى الخلاء؛ أتيته بماء في ركوة، فاستنجى)، ويؤيده ما رواه المؤلف في (ذكر الجن) من حديث أبي هريرة: (أنَّه كان يحمل مع النبيِّ الإداوة لوضوئه وحاجته)، ولا ينافيه ما في رواية مسلم من قول أنس: (أصغرنا)؛ لجواز وصفه بذلك؛ لقرب عهده بالإسلام، لكن يُبعده أن إسلام أبي هريرة بعد بلوغ أنس، وأبو هريرة كبير فكيف يقول أنس: (وغلام نحوي)؟! كما في رواية مسلم السابقة.
وقيل: هو جابر بن عبد الله، فعند مسلم في حديث جابر الطويل: أنه عليه السلام انطلق لحاجته فأتبعه جابر بإداوة لا سيما وهو أنصاري؛ فتأمل.
وجملة قوله: (معنا إداوة) من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر، حال من فاعل (أجيء) وما عطف عليه بدون الواو؛ كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]، ولفظة (مع) اسم معناه: الصحبة؛ أي: في صحبتنا إداوة، وهي متحركة وساكنة، غير أن المتحركة العين تكون اسمًا وحرفًا، والساكنة العين تكون حرفًا لا غير، وهنا يجوز تسكين العين، وكذا في (معكم) وعند اجتماعه بالألف واللام: تفتح العين وتكسر فيقال: معَِ القوم، فتحًا وكسرًا، وقد تسكن وتنون فيقال: جاؤوا معًا، والصحيح: أنها اسم مطلقًا، والإداوة؛ بكسر الهمزة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وقيل: هي المطهرة، والجمع: الإداوى، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (من) بيانية (ماء) بالمد، والجملة محلها الرفع صفة (إداوة)؛ (يعني)؛ أي: يقصد أنس بقوله هذا (ليستنجي): اللام: للتعليل للمجيء، وفي رواية: إسقاطها، فالجملة صفة (ماء) أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا (به)؛ أي: بالماء الموضوع بالإداوة، وفاعل (يستنجي) النبي الأعظم عليه السلام، فهذا من كلام أنس رضي الله عنه، والرواية الثالثة للمؤلف الآتية عن قريب تدل على هذا، وبهذا يُرَدُّ على عبد الملك البوني في قوله: (هذا مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس، فيكون مرسلًا فلا حجة فيه)، حكاه عنه ابن التين، وإليه ذهب الكرماني، وكذا يُرَدُّ على بعضهم في قوله: قائل هذا (يعني) هو هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ المؤلف، قاله في «عمدة القاري»، وتبعه العجلوني في «شرحه» وغيره، وأراد بقوله: (بعضهم): هو ابن حجر العسقلاني، فإنه زعم في «شرحه» أنَّه هشام، وفيه نظر لا يخفى؛ إذ لا دليل يدلُّ على ما قاله، ومن هنا وقع إشكال؛ وهو أنَّه ليس في الحديث مطابقة للترجمة؛ لأنَّ قوله: (فيستنجي به): ليس من قول أنس، بل من قول الوليد، وقد رواه ابن حرب عن شعبة، ولم يذكر (فيستنجي به)، فيحتمل أن يكون الماء لطهوره أو لوضوئه.
وقال ابن المسيب وابن قانع: الاستنجاء بالماء وضوء النساء؛ لأنَّ الاستنجاء بالأحجار في حقهنَّ متعذر، وأمَّا الرجال فيجمعون بينه وبين الأحجار، وأنكر مالك أن يكون النبي الأعظم عليه السلام استنجى بالماء.
وعن ابن حبيب من المالكية: أنه منع الاستنجاء بالماء؛ لأنَّه مطعوم.
وقيل [2]: لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء، وهو قول الشيعة والزيدية، وهذا كله مردود، فقد احتج الإمام الحافظ الطحاوي على الاستنجاء بالماء بقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، وقال الشعبي: لما نزلت هذه الآية؛ قال النبي عليه السلام: «يا أهل قباء؛ ما هذا الثناء الذي أثنى الله عليكم؟ قالوا: ما منَّا أحدٌ إلا وهو يستنجي بالماء».
وذكر المؤلف فيما يأتي عن شعبة بلفظ: (يستنجي بالماء)، ثم ذكر من تابعه على لفظة: (فيستنجي)، وفي رواية الإسماعيلي عن شعبة: (فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء، فيستنجي منها النبي عليه السلام)، وفي رواية المؤلف عن عطاء بن أبي ميمونة: (إذا تبرَّز لحاجته؛ آتيه بماء فيغسل به)، وفي رواية مسلم عن أنس: (فخرج علينا وقد استنجى بالماء) وكذا عند أبي عوانة في «صحيحه»: (فيخرج علينا وقد استنجى بالماء)، فتبيَّن بهذه الروايات أنَّ حكاية الاستنجاء بالماء من قول أنس راوي الحديث، وقد غفل ابن حجر هنا، وبيَّنها في «عمدة القاري»، وما أجابوا به عنه فليس بشيء؛ بل هو خبط وخلط؛ فليحفظ.
ومما يرد على ما قالوه: ما رواه المؤلف من حديث ابن عباس: (أنه عليه السلام دخل الخلاء، فوضعتُ له وضوءًا .. )؛ الحديث كما مر، وما رواه مسلم في «صحيحه» لمَّا عد الفطرة عشرة؛ عد منها: (انتقاص الماء)، وفسر بالاستنجاء، وما رواه ابن خزيمة في «صحيحه» من حديث ابن جرير عن أبيه: (أنه عليه السلام دخل الغيضة، فقضى حاجته، فأتاه جرير بإداوة من ماء، فاستنجى بها، ومسح يده بالتراب)، وما رواه ابن حبان في «صحيحه» عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله عليه السلام خرج من غائط قطُّ إلا مسَّ ماء)، وما رواه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة عن معاذ عن عائشة أنَّها قالت: (مُرْن أزواجكنَّ أن يغسلوا أثر الغائط والبول فإنَّ النبيَّ عليه السلام كان يفعله) وقال: حسنٌ صحيحٌ، فهذه الأحاديث قاضية بالردِّ على مالك وغيره في إنكارهم أنَّه عليه السلام استنجى بالماء.
وقال أحمد ابن حنبل: (لم يصح في الاستنجاء بالماء حديث)، قال: فحديث عائشة؟ قال: (لا يصح؛ لأنَّ غير قتادة لا يرفعه)؛ وهو مردود؛ لأنَّ قتادة بإجماع الحفاظ إذا انفرد برفع حديث؛ يقبل منه؛ لأنَّه إمام حافظ لا سيما وقد اعتضد بغيره من الأحاديث كما علمتَها، ويدل له: ما رواه ابن حبان أيضًا في «صحيحه» من حديث أبي هريرة: (أنَّه عليه السلام قضى حاجته ثم استنجى من تور)، وما رواه ابن ماجه عن عائشة: (أنَّه عليه السلام كان يغسل مقعدته ثلاثًا)، وفي لفظ: «استنجوا بالماء البارد، فإنَّه مصحَّة للبواسير»، وما رواه ابن حبيب عن أبي عيَّاش أنَّه عليه السلام قال: «استنجوا بالماء فإنَّه أطهر وأطيب»، والأحاديث في ذلك كثيرة، وهي قاضية على من أنكر ذلك، فثبت بذلك مذهب الجمهور من السلف والخلف، وقد أجمعت عليه أئمة الفتوى من أهل الأمصار، وقالوا: إنَّ الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر؛ فيقدِّم الحجر أوَّلًا ثم يستعمل الماء، فتخفُّ النجاسة وتقلُّ مباشرتها بيده، ويكون أبلغ في النظافة، فإن أراد الاقتصار على أحدهما؛ فالماء أفضل؛ لكونه يزيل عين النجاسة وأثرها، والحجر يزيل العين دون الأثر، لكنَّه معفو عنه في حقِّ نفسه، وتصحُّ معه الصلاة كسائر النجاسات المعفو عنها.
هذا ملخص ما ذكره الشيخ الإمام بدر الدين العيني في «شرحه»؛ «عمدة القاري» فقد أطال الكلام في هذا المقام، وبيَّنه، ووضحه غاية الإيضاح،
%ص 111%
ولم يسبقه أحد بمثله من أهل هذا الميدان، وقد اقتصر في «الفتح» ابن حجر ولم يبيِّن المقام، وفي مثل هذا يجب البيان، كما فعل إمامنا إمام أهل هذا الشأن؛ فليحفظ.
==========
[1] كذا في الأصل، ولعل الصواب: (أجيء).
[2] في الأصل: (وقال)، ولعل المثبت هو الصواب.

==================
[1] كذا في الأصل، ولعل الصواب: (أجيء).
[1] كذا في الأصل، ولعل الصواب: (أجيء).

(1/275)


(16) [باب من حمل معه الماء لطهوره]
هذا (باب مَن) موصولة أو موصوفة، (حُمِل)؛ بضم الحاء المهملة وكسر الميم المخففة، مبني للمفعول (معه) متعلق بـ (حمل) (الماءُ)؛ بالرفع نائب الفاعل (لطُهوره) متعلق بـ (حُمِل)، وفي رواية: بدون الضمير في آخره؛ أي: لأجل أن يتطهر به، وهو بضم الطاء هنا؛ لأنَّ المراد به: الفعل الذي هو المصدر، وأمَّا بفتح الطاء؛ فهو اسم للماء الذي يتطهر به، وقد حكي الفتح فيهما، وكذا الضم فيهما، ولكنَّ الضم هنا اللغة المشهورة، والطهارة: النظافة والتنزه لغةً.
(وقال أبو الدَرْدَاء)؛ بدالين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة، عويمر بن مالك بن عبد الله بن قيس، أو عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري، القاضي بدمشق في خلافة عثمان رضي الله عنهما، المتوفى بدمشق سنة إحدى أو اثنتين [1] وثلاثين، _وقبره بباب الصغير، كما قاله في «عمدة القاري»، والمشهور: أنه عندنا بقلعة دمشق يزار ويتبرك به، والله أعلم_ مما وصله المؤلف في (المناقب) عن علقمة بن قيس قال: دخلت الشام فصليت ركعتين، فقلت: اللهم يسِّر لي جليسًا صالحًا، فرأيت شيخًا مقبلًا فلما دنا؛ قلت: أرجو أن يكون استجاب لي، قال: من أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، قال: (أليس) وفي (المناقب): (أفلم يكن) (فيكم): فالخطاب فيه لأهل العراق، ويدخل فيه علقمة، قال لهم حين كانوا يسألونه مسائل وأبو الدرداء كان يكون بالشام؛ أي: لم تسألون عن عبد الله بن مسعود وهو في العراق وبينكم لا تحتاجون مع وجوده إلى أهل الشام وإلى مثلي، وأراد المؤلف بسياق هذا الطرف من الحديث هنا مع حديث أنس: التنبيه على ما ترجم له من حمل الماء إلى الكنيف لأجل التطهير: (صاحب النعلين)؛ أي: صاحب نعلي النبي الأعظم عليه السلام، لأنَّ عبد الله كان يُلبسهما إياه إذا قام، فإذا جلس؛ أدخلهما في ذراعيه، وإسناده النعلين إليه مجاز؛ لأجل الملابسة، وفي الحقيقة صاحب النعلين هو النبي الأعظم عليه السلام، وكذا يقال فيما بعده؛ فافهم، (والطَّهور)؛ بفتح الطاء لا غير؛ أي: صاحب الماء الذي يتطهَّر به النبي الأعظم عليه السلام، (والوِسادة؟!)؛ بكسر الواو، بعدها سين مهملة، آخره دال مهملة: المخدَّة، والجمع: وُسد ووسائد؛ أي: صاحب الوسادة والمطهرة؛ يعني: عبد الله بن مسعود، وفي رواية: (صاحب السِّواد)؛ بكسر السين؛ أي: السر، فكان ابن مسعود يمشي مع النبي الأعظم عليه السلام حيث ينصرف، ويخدمه، ويحمل مطهرته، وسواكه، ونعليه، وما يحتاج إليه، فلعلَّه أيضًا كان يحمل وسادة إذا احتاج إليه، وأمَّا أبو عمر؛ فإنه يقول: (كان يعرف بصاحب السِّواد)؛ أي: صاحب السِّر؛ لقوله: (إذنك أن ترفع الحجاب وتسمع سِوادي حتى أنهاك)؛ أي: سراري، وهو من إدناء السواد من السواد [2]؛ أي: الشخص من الشخص، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (اثنين).
[2] في الأصل: (السوادي).
%ص 112%

==================
[1] في الأصل: (اثنين).
[1] في الأصل: (اثنين).

(1/276)


[حديث: كان رسول الله إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام منا]
151# وبه قال: (حدثنا سليمان بن حَرْب)؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الرَّاء، آخره موحدة، الواشحي (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج، (عن أبي مُعَاذ) بضم الميم وفتح العين المهملة (هو عطاء) بالمد (بن أبي ميمونة)؛ بتاء آخره، البصري، مولى أنس بن مالك، وفي رواية: الاقتصار على (عن عطاء بن أبي ميمونة) (قال: سمعت أنس بن مالك)، وفي رواية الاقتصار على قوله: (سمعت أنسًا رضي الله عنه) حال كونه (يقول): فالجملة محلها النصب على الحال، وإنما ذكر بلفظ المضارع مع أن حقَّ الظاهر أن يكون بلفظ الماضي؛ لإرادة استحضار صورة القول تحقيقًا وتأكيدًا له، كأنَّه يبصِّر الحاضرين ذلك: (كان النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)، أتى بـ (كان)؛ للإشعار بالاستمرار على ذلك واعتياده له، (إذا خرج)؛ أي: من بيته أو من بيت غيره (لحاجته)؛ أي: للبول أو الغائط؛ (تَبِعته)؛ بفتح المثناة الفوقية وكسر الموحدة، و (أتبعته)؛ بالهمز بمعنى: واحد، كما قاله الأخفش، وفرَّق ابن طريف بينهما فقال: المشهور: (تبعته): سرت في أثره، و (أتبعته): لحقته، وبه فسرنا: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]؛ أي: لحقوهم، والجملة محلها النصب على أنها خبر (كان).
فإن قلت: (إذا): للاستقبال، و (خرج) للمضي، فكيف يصح هنا؛ إذ الخروج قد وقع؟
وأجيب: بأنَّ (إذا) هنا لمجرد الظرفية، فيكون المعنى: تبعته حين خرج، أو هو حكاية للحال الماضية، ووقع هنا خلل للكرماني، فنسبه العجلوني لصاحب «عمدة القاري» وأساء الأدب معه، وهو بريء منه بلا ريب؛ فليحفظ.
(أنا وغلام)؛ بواو العطف على الصحيح، فما وقع في رواية الإسماعيلي: (فاتَّبعته وأنا غلام بتقديم الواو على أن تكون الجملة حالية، فغير صحيح، كما نبه عليه في «عمدة القاري» وتبعه ابن حجر وغيره؛ فليحفظ، (منا)؛ أي: من الأنصار، وبه صرَّح الإسماعيلي في روايته، أو من قومنا، أو من خواص رسول الله عليه السلام، أو من جملة المسلمين، قاله الكرماني، وقال في «عمدة القاري»: الكل بمعنى واحد؛ لأنَّ قوم أنس هم الأنصار، وهم من خواص النبي الأعظم عليه السلام، ومن جملة المسلمين، انتهى.
وما قاله العجلوني فليس بظاهر، ومنشؤه التعصب فليس بشيء؛ فليحفظ.
(معنا) خبر مقدم (إداوةٌ)؛ بكسر الهمزة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وهي بالرفع مبتدأ مؤخر، والجملة محلها نصب على الحال بدون الواو، أو مستأنفة، و (مع): اسم معناه: الصحبة، كما مر؛ أي: في صحبتنا إداوة، (من ماء)؛ بالمد، و (من) للبيان؛ أي: لأجل أن يستنجي به.
وفي الحديث: طلب التباعد لقضاء الحاجة عن الناس، واتخاذ آنية الوضوء كالإداوة وغيرها، وحمل الماء معه إلى الكنيف، وخدمة الصالحين وأهل الفضل والتبرك بذلك، وتفقد حاجاتهم خصوصًا المتعلقة بالطهارة.
وفي الحديث أيضًا: جواز الاستعانة بغيره في أسباب العبادة، وجواز استخدام الرجل الفاضل بعض أتباعه الأحرار خصوصًا إذا أرصدوا لذلك، والاستعانة في مثل هذا فيحصل الشرف لهم بذلك، وفي المماليك الأرقاء أولى، وأنَّه لا كراهة فيه، وقد فعله عثمان بن عفان وغيره من الصحابة والتابعين، وهذا شامل للصغير والكبير، ففيه: أنَّه يجوز للمعلم استخدام الصغير بإذن أبيه صريحًا أو دلالة سواء كان معلم قرآن، أو حديث، وفقه، ونحوٍ وغيرها، ويحرَّر.

==================

(1/277)


(17) [باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء]
هذا (باب حمل العَنَزة)؛ بفتح العين المهملة، وفتح النُّون، بعدها زاي، وهي عصًا أقصر من الرمح، في طرفها الأسفل زُجٌّ من حديد يتوكأ عليها الشيخ، (مع) حمل (الماء في الاستنجاء)؛ لأجل الطهور.
==========
%ص 112%

==================

(1/278)


[حديث: كان رسول الله يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام إداوةً من ماء]
152# وبه قال: ([حدثنا] محمد بن بشَّار)؛ بالموحدة وتشديد المعجمة، المشهور لقبه ببندار (قال: حدثنا محمد بن جعفر) الملقب بغندر (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن عطاء) بالمد (بن أبي ميمونة) البصري التابعي: أنَّه (سمع أنس بن مالك) مولاه رضي الله عنه حال كونه (يقول: كان النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاءَ)؛ بالمد: هو المتبرَّز، والمراد به: الفضاء، يدلُّ عليه الرواية الأخرى: (كان إذا خرج لحاجته)، ويدل عليه حمل العنزة مع الماء، فإنَّ الصلاة إليها إنَّما تكون حيث لا سترة غيرها، على أنَّ الأخلية التي هي الكنف في البيوت يتولى خدمته فيها عادة أهله، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، و (الخلاءَ): منصوب؛ بتقدير: (في)؛ أي: في الخلاء، كدخلت الدار، والجملة في محل نصب على أنَّها خبر (كان)، (فأحمل أنا وغلام) يحتمل أنَّه عبد الله بن مسعود، أو أبو هريرة، أو جابر بن عبد الله، كما سبق (إداوة)؛ بكسر الهمزة: المطهرة (من ماء)؛ أي: مملوء منه، (وعَنَزةً)؛ بالنصب عطفًا على (إداوة)؛ أي: ويحمل أيضًا، وفي «مفاتيح العلوم»: هذه الحربة_وتسمى العنزة_ كان النجاشي أهداها للنبي الأعظم عليه السلام، فكانت تقام بين يديه، وتوارثها من بعده الخلفاء رضي الله عنهم.
%ص 112%
وفي «الطبقات»: (أهدى النجاشي إلى النبي الأعظم عليه السلام ثلاث عنزات، فأمسك واحدة لنفسه، وأعطى عليًّا واحدة، وأعطى عمر واحدة).
(يستنجي) أي: النبي الأعظم عليه السلام (بالماء) جملة مستأنفة كأن قائلًا يقول: ما كان يفعل بالماء؟ قال: يستنجي به، والحكمة في حمل العنزة: ليصلي إليها في الفضاء، أو ليتقي بها كيد المنافقين واليهود، فإنَّهم كانوا يرومون قتله واغتياله بكل حال، ومن أجل هذا اتخذ الأمراء المشي أمامهم بها، أو للاتقاء من السبع والمؤذيات من الحيوانات، أو لنبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة خشية عود الرشاش عليه، أو لتعليق الأمتعة بها، أو للتوكأ عليها، كذا في «عمدة القاري».
وما قاله ابن حجر من أنَّها كانت تحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة، فبعيد؛ لأنَّ ضابط السترة في هذا مما يستر الأسافل، والعنزة ليست كذلك، وكأنَّه فهم ذلك من تبويب المؤلف وهو فهم الأولاد الصغار لا الفحول الكبار، وما ذاك إلا لقصور الذهن والذكاء، وقلة البضاعة والغَناء؛ فافهم.
(تابعه) أي: تابع محمد بن جعفر (النَّضْرُ)؛ بفتح النُّون، وسكون الضَّاد المعجمة: ابن شُميل _بضم المعجمة_ المازني البصري أبو الحسن، من تبع التابعين، الساكن بمرو، إمام العربية والحديث، وأول من أظهر السنة بمرو، المتوفى آخر سنة ثلاث أو أربع ومئتين عن نيف وثمانين سنة، (وشاذانُ)؛ بالرفع عطفًا على (النضر)؛ أي: تابع محمدَ بن جعفر شاذانُ، وهو بالشين المعجمة والذال المعجمة، آخره نون، لقب الأسود بن عامر الشامي ثم البغدادي أبو عبد الرحمن، المتوفى سنة ثمان ومئتين، (عن شعبة) فأما متابعة الأول؛ فموصولة عند النسائي، والثانية؛ فموصولة عند المؤلف في (الصلاة) بواسطة، فهي متابعة ناقصة، وفائدتها التقوية، وزعم الكرماني أنَّ الظاهر أنَّه تعليق؛ لأنَّ المؤلف كان ابن تسع سنين حين مات النضر، وزاد في رواية كريمة فقط قوله: (العنزة عصًا) بالتنوين (عليه زُجٌّ)؛ بضم الزاي المعجمة وبالجيم المشددة: السنان، وفي «العباب»: الزجُّ: نصل السهم والحديدة في أسفل الرمح، والجمع: زججة وزجاج، ولا يقال: أزجَّة، والعنزة: اختلف أهل اللغة هل هي قصيرة أو طويلة؟ صحح الأول القاضي عياض، والثاني النووي، وجزم القرطبي بأنَّها عصًا مثل نصف الرمح أو أكثر، وفيها زجٌّ، وقال ابن التين: إنَّها أطول من العصا وأقصر من الرمح وفيه زجٌّ، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

==================

(1/279)


(18) [باب النهي عن الاستنجاء باليمين]
هذا (باب النهي) الوارد في الحديث (عن الاستنجاء باليمين)؛ أي: باليد اليمنى، وهل النهي للتنزيه أو للتحريم؟ تردد فيه ابن حجر وبيَّنه في «عمدة القاري»: بأنَّ النهي عند الجمهور للتنزيه، وعند أهل الظاهر أنَّه للتحريم، وهو قول بعض الحنابلة والشافعية، وتمامه فيه؛ فليحفظ.
==========
%ص 113%

==================

(1/280)


[حديث: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء]
153# وبه قال: (حدثنا) بالجمع وفي رواية: بالإفراد (مُعاذ) بضم الميم وبالذال المعجمة (ابن فَضَالة)؛ بفتح الفاء والضَّاد المعجمة، البصري الزهراني أبو زيد (قال: حدثنا هشام)؛ بكسر الهاء، ابن عبد الله (هو الدَّسْتوائي)؛ بفتح الدَّال وسكون السين المهملتين، والمثناة فوق، آخره همزة بدون نون، وقيل: بالقصر وبالنُّون؛ نسبة إلى دستوا قرية، وقيد به؛ لإخراج هشام بن حسان؛ لأنَّهما بصريان مشهوران من طبقة واحدة، فقيد به؛ لدفع الالتباس وغرض التعريف، وأتى بهذه العبارة اقتصارًا على ما ذكره شيخه، واحترازًا عن الزيادة على لفظه، وما قيل من أنَّه من كلام المؤلف؛ فبعيد؛ لأنَّه خلاف عادته؛ فافهم.
(عن يحيى بن أبي كثير)؛ بالمثلثة، أبو نصر الطائي، (عن عبد الله بن أبي قتادة): أبو إبراهيم البلخي، المتوفى سنة خمس وتسعين، وقيل: سنة خمس ومئة، (عن أبيه) وفي رواية: (عن أبي قتادة) بدل (عن أبيه)، واسم أبي قتادة: الحارث، أو النعمان، أو عمرو بن رِبْعي _بكسر الرَّاء وسكون الموحدة_، السَّلَمي _بفتحتين_ الخزرجي المدني، المشهور بفارس النبي الأعظم عليه السلام، شهد أحدًا وما بعدها، واختُلِف في شهوده بدرًا، والمشهور: أنه لم يشهدها، فهو صحابي قطعًا، فما زعمه الكرماني من أنَّه تابعي؛ خطأ لا محالة، المتوفى بالمدينة أو بالكوفة سنة أربع وخمسين عن سبعين سنة، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شرِب) بكسر الرَّاء (أحدُكم): فاعله، ومفعوله محذوف؛ ليعم الماء وغيره، أو هو منزل منزلة اللازم؛ (فلا يتنفسْ)؛ بالجزم فيه، وفي الفعلين بعده على النهي وبالرفع فيهما على النفي بمعنى النهي، والتنفس: (تفعل)؛ وهو خروج النفس من الفم، وكل ذي رئة يتنفس، وذوات الماء لا رئات لها، والفاء في جواب الشرط، كما في «عمدة القاري»، (في الإِناء)؛ بكسر الهمزة: الوعاء، جمعها: آنية، وجمع الآنية: الأواني؛ مثل: سقاء وأسقية وأساقي، وأصله غير مهموز، فأصله: إناي، قلبت الياء همزة؛ لوقوعها في الطرف بعد ألف ساكنة، وهو نهي ويحتمل النفي، وعلى كل فالنهي للأدب؛ لأنَّه إذا فعل ذلك لم يأمن أن يبرز من فيه الريق فيخالط الماء فيعافه الشارب، وربما يروح بنكهة التنفس إذا كانت فاسدة، والماء للطفه ورقة طبعه تسرع إليه الروائح، ثم إنه يعد من فعل الدواب إذا كرعت في الأواني جرعة ثم تنفست فيها ثم عادت فشربت، فإن شرب وتنفس في الإناء من غير أن يَبِيْنَه عن فيه؛ فهو مكروه، أمَّا لو شرب في نفس واحد ولم يتنفس فيه؛ فلا يكره؛ لأنَّه إنَّما نهي عن التنفس في الإناء وهذا ليس كذلك، وكرهه جماعة، وقالوا: إنه شرب الشيطان.
وإنما السنة: أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس، كلما شرب نفسًا من الإناء؛ نحَّاه عن فيه، ثم عاد مصًّا له غير عبٍّ إلى أن يأخذ ريَّه منه، والتنفس خارج الإناء أحسن في الأدب، وأبعد عن الشره، وأخف للمعدة، وإذا تنفس فيه؛ تكاثر الماء في حلقه وأثقل معدته، وربما شرق وأذى كبده، وهو فعل البهائم.
وقد قيل: إنَّ في القلب بابين يدخل النفس من أحدهما ويخرج من الآخر، فينفي ما على القلب من الهمَّ أو القذى، ولذلك لو احتبس النفس ساعة؛ هلك الآدمي، ويخشى من كثرة التنفس في الإناء أن يصحبه شيء مما في القلب فيقع في الماء ثم يشربه فيتأذى به، وقيل: علة الكراهة أن كل عبَّة شربة مستأنفة، فيستحب الذكر في أولها، والحمد في آخرها، فإذا وصل ولم يفصل بينهما؛ فقد أخلَّ بعدَّة سنن، ولم يبيِّن في الحديث عدد التنفس خارج الإناء، وقد بيَّنه في الحديث الآخر بالتثليث، ففي الترمذي محسَّنًا من حديث ابن عباس مرفوعًا: «لا تشربوا واحدًا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاثًا، وسمُّوا إذا أنتم شربتم، واحمدوه إذا أنتم رفعتم».
وقد اختلف العلماء في أيِّ هذه الأنفاس الثلاثة أطول على قولين؛ أحدهما: الأول، والثاني: أن الأول أقصر، والثاني أزيد منه، والثالث أزيد منها، فيجمع بين السنة والطب، وهو الصحيح؛ لأنَّه إذا شرب قليلًا قليلًا؛ وصل إلى جوفه من غير إزعاج، ولهذا جاء في الحديث: «مُصُّوا الماء مصًّا ولا تعبوه عبًّا، فإنَّه أهنأ وأمرأ وأبرأ».
فإن قلت: قد صح عن أنس: أنه عليه السلام كان يتنفس في الإناء ثلاثًا.
قلت: المعنى: أنه يتنفس في مدة شربه عند إبانة القدح عن الفم لا التنفس في الإناء، لا سيما مع قوله: (هو أهنأ وأمرأ وأبرأ)، وفعله بيان للجواز، أو النهيُّ خاص بغيره؛ لأنَّ ما يتقذر من غيره يستطاب منه.
وهل الحكم مقصور على الماء أم غيره من الأشربة كذلك مثله؟
أجيب: بأن النهي المذكور غير مختصٍّ بشرب الماء، بل غيره من الأشربة، وكذا الطعام مثله، فكره النفخ فيه، والتنفس في معنى النفخ.
وفي «جامع الترمذي» مصحَّحًا عن أبي سعيد الخدري: أنَّه عليه السلام نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ فقال: «أهرقها»، قال: فإني لا أروى من نفس واحد، قال: «فأبِنْ القدح إذًا عن فيك»، ويدل على هذا العموم حذف المفعول في قوله: (وإذا شرب)؛ لأنَّ حذف المفعول ينبئ عن العموم، كما مر؛ فافهم.
(وإذا أتى الخلاء)؛ بالمد، المتوضأ، ويطلق على الفضاء أيضًا؛ أي: للبول كما دلت عليه الرواية الآتية في الباب بعده؛ (فلا): الفاء في جواب الشرط (يمسَّ)؛ بفتح السين؛ لخفة الفتحة، وكسرها؛ لأنَّ الساكن إذا حرك؛ حرك بالكسر وفك الإدغام، وإنما لم يظهر الجزم فيها؛ لأجل الإدغام، وعند الفك يظهر الجزم، تقول: فلا يمسِس (ذكره
%ص 113%
بيمينه)؛ لرفع قدر اليمين، ولأنَّه لو باشر النجاسة بها؛ يتذكر عند تناوله الطعام، وما باشرت يمينه من النجاسة فينفر طبعه من ذلك، والنهي للتنزيه عند الجمهور خلافًا لأهل الظاهر، ولبعض الحنابلة، ولبعض الشافعية، كما مر.
والحديث يقتضي النهي عن مس الذكر باليمين حالة البول فقط، فكيف الحكم في غير هذه الحالة؟
وأجيب: بأنَّه روى أبو داود بسند صحيح من حديث عائشة قالت: (كانت يد رسول الله عليه السلام اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذًى)، وأخرجه بقيَّة الجماعة أيضًا، وروي أيضًا من حديث حفصة زوج النَّبيِّ الأعظم عليه السلام قالت: (كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك)، فظاهر هذا: يدلُّ على عموم الحكم على أنَّه قد روي النَّهي عن مسِّه باليمين مطلقًا غير مقيَّد بحالة البول، فمن النَّاس من أخذ بهذا المطلق، ويدلُّ له حديث الباب الآتي بعده فيشمل الُقُبل والدبر، ومنهم من حمله على الخاص بعد أن نظر في الروايتين، هل هما حديثان أو حديث واحد؟ فإن كانا حديثًا واحدًا مخرجه واحد اختلفت فيه الرواة؛ فينبغي حمل المطلق على المقيَّد؛ لأنَّها تكون زيادة من عدلٍ في حديث واحد، فيقبل، وإن كانا حديثين؛ فالأمر في حكم الإطلاق والتقييد على ما ذكر؛ فافهم.
(ولا يتمسح)؛ أي: لا يستنجي من التفعُّل، أشار به إلى أنَّه لا يتكلَّف المسح (بيمينه)؛ لأنَّ باب التفعل للتكليف غالبًا والنهي فيه للتنزيه عند الجمهور، كما ذكرنا، واستشكل أنه متى استجمر بيساره؛ استلزم مس ذكره بيمينه، ومتى أمسه بيساره؛ استلزم استجماره بيمينه، وكلاهما قد شمله النهي، وأجاب في «البحر الرائق»: بأنَّ الصواب أن يأخذ الذكر بشماله فيمرُّه على جدار أو موضع نائٍ من الأرض، وإن تعذر يقعد ويمسك الحجر بين عقبيه فيمرُّ العضو عليه بشماله، فإن تعذَّر يأخذ الحجر بيمينه ولا يحركه ويمر العضو عليه بشماله.
قال الإمام نجم الدين: وفيما أشار إليه من إمساك الحجر بعقبه حرج وتكلف، بل يستنجي بجدار إن أمكن، وإلا؛ فيأخذ الحجر بيمينه ويستنجي بيساره، انتهى.
وفي «المجتبى» عن «النظم»: أنه يستنجي بثلاثة أمدار، فإن لم يجد؛ فبالأحجار، فإن لم يجد؛ فبثلاثة أكف من تراب لا بما سواها من الخرقة والقطن ونحوهما؛ لأنَّه ورد في الحديث أنه يورث الفقر، انتهى، واعترضه في «الحلية» بأنه مخالف لعامَّة كتب المذهب من أنَّ المكروه المتقوم لا مطلقًا، انتهى، وما أجاب به ابن حجر عن الإشكال؛ فليس بجيد؛ فافهم.
قال في «غاية البيان»: فإن استنجى باليمين؛ يجزئه ويكره.
قال في «البحر»: والتحقيق أنَّ الاستنجاء لا يكون إلا سنة فينبغي أنَّه إذا استنجى بالمنهي عنه ألَّا يكون مقيمًا للسُّنة أصلًا، فقولهم بالإجزاء مع الكراهة تسامح؛ لأنَّ مثل هذه العبارة تستعمل في الواجب وليس به هنا، انتهى.
واعترضه في «النهر» بأنَّ المسنون هو الإزالة، ونحو الحجر لم يقصد لذاته، بل لأنَّه مزيل، غاية الأمر أنَّ الإزالة بهذا الخاص منهي عنها، وذا لا ينفي كونه مزيلًا، ونظيره لو صلَّى السُّنة في أرض مغصوبة؛ كان آتيًا بها مع ارتكاب المنهي عنه، انتهى.
وأصل الجواب مصرح به في «الكافي» حيث قال: لأنَّ النهي في غيره فلا ينفي مشروعيته، كما لو توضأ بماء مغصوب، أو استنجى بحجر مغصوب.
قال شيخ شيخنا: والظاهر: أنه أراد بالمشروعية الصحة، لكن يقال عليه: إنَّ المقصود من السنة الثواب، وهو منافٍ للنهي، بخلاف الفرض، فإنَّه مع النهي يحصل به سقوط المطالبة، كمن توضأ بماء مغصوب؛ فإنَّه يسقط به الفرض وإن أثم، بخلاف ما إذا جدَّد به الوضوء؛ فالظاهر: أنَّه وإن صحَّ لم يكن له ثواب، انتهى.
قلت: وفيه نظر لما قدمنا أنَّ الاستنجاء المسنون: هو إزالة القذر والتنقية، وهو بالمنهي عنه قد أدَّى السنة فيثاب عليه بلا ريب، لكن عليه كراهة من جهة أنَّه قد فعل المنهي عنه، كما إذا توضأ بماء مغصوب؛ فإنَّه يكون آتيًا بالفرض مثابًا عليه من جهة أنَّه قد فعل المأمور به وهو الوضوء، وإن كان عليه كراهة من حيث إنَّه قد فعل المنهي عنه، فالنهي إنَّما هو في معنًى في غيره لا في ذاته، ولا فرق بين الفرض والسُّنة، لا يقال: إن المقصود من السنة: الثواب؛ وهو مناف للنهي؛ لأنَّا نقول: الجهة فيه منفكَّة، فإن فعل السنة؛ يثاب عليها في ذاتها مع قطع النظر عن كونه آتيًا بشيء منهي عنه، وعليه كراهة من حيث إنه أتى بشيء منهي عنه فكيف يقال: إنه لم يكن له ثواب، بل هو مثاب على فعل المأمور به وإن كان ملامًا على فعل المنهي عنه، وكذا تجديد الوضوء يثاب عليه من جهة أنَّه قد فعل قربة، ملامٌ من حيث إنه قد فعل المنهي عنه؛ وهو تجديد الوضوء بماء مغصوب وفضاء واسع، كذا في «منهل الطلاب».
ويستثنى من النهي بالاستنجاء باليمين ما لو كان في يده اليسرى عذر يمنع الاستنجاء بها، جاز أن يستنجي بيمينه من غير كراهة، كما في «البحر»، و «الجوهرة»، و «شرح الهاملية»، وكذا لو كانت يده اليسرى مشلولة ولم يجد ماءً جاريًا ولا صابًّا؛ ترك الماء، كما في «الدر المختار»، فإن وجد ماءًا جاريًا؛ دخل فيه وغسل باليمين، أو أخذ منه باليمين وغسل، ثم غسلها في الجاري، أو أخذ ماءًا آخر غسل به إلى أن يطهر، ومثل الجاري الراكد الكثير، كذا في «الحلية»، وقال في «الإمداد»: فإن وجد صابًّا كخادمٍ وزوجةٍ؛ لا يتركه، انتهى، قلت: وهو خلاف ما يقتضيه الاستثناء؛ فإنَّه يفيد عدم الكراهة باليمين حال العذر، وهو كذلك، فإن حصل عذر باليمين؛ سقط عنه الاستنجاء، كما صرح به في «حواشي الحموي» عن «المحيط»، والمعتمد أن القادر بقدرة غيره لا يعد قادرًا عند الإمام الأعظم، وعليه الفتوى، خلافًا لصاحبيه.
ولو كانت يداه مشلولتين؛ سقط أصلًا، كما في «الدر»؛ أي: سقط عنه الاستنجاء بالماء والحجر جميعًا؛ كمريض، لما في «الفتاوى التاترخانية»: الرجل المريض إذا لم تكن له امرأة ولا أمة وله ابن أو أخ وهو لا يقدر على الوضوء؛ قال: يوضِّئه ابنه أو أخوه غير الاستنجاء، فإنه لا يمس فرجه، ويسقط عنه، والمرأة المريضة إذا لم يكن لها زوج وهي لا تقدر على الوضوء ولها بنت أو أخت؛ توضِّئها ويسقط عنها الاستنجاء، انتهى، ولا يخفى أن هذا التفصيل يجري فيمن شلت يداه؛ لأنَّه في حكم المريض، كما في «منهل الطلاب».

==================

(1/281)


(19) [بابٌ: لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (لا يمسكُ): روي بالرفع على أنَّ (لا) نافية، وبالجزم على أنها ناهية، وفي رواية: (لا يمس) (ذكره إذا بال)، واستشكل بأن حكم هذه الترجمة قد سبق في الحديث السابق، فما فائدة هذه الترجمة؟، وأجيب: بأنَّ فائدتها اختلاف الإسناد مع التنبيه على ما وقع في لفظ المتن من الخلاف، وبيان اختلاف الأحكام من أنَّه في الباب الأول بيان كراهة الاستنجاء باليمين، وهنا على بيان كراهة مس الذكر عند البول، لا يقال: إنَّ النهي المطلق محمول على المقيد؛ لأنَّا نقول: الحاصل من معنى الحديثين واحد، وكلاهما مقيد، فكلاهما في الحقيقة واحد، والمفهوم
%ص 114%
منهما جميعًا النهي عن مس الذكر باليمين عند البول، فلا يدلُّ على منعه عند غير البول، ولا سيما قد جاء في الحديث ما يدلُّ على الإباحة وهو قوله عليه السلام لطلق بن عليٍّ حين سأله عن مسِّ ذكره؛ حيث قال له: «إنَّما هو بضعة منك»، فهذا يدل على الجواز في كلِّ حال، ولكن خرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وما عدا ذلك فقد بقي على الإباحة، وفائدة تخصيص النهي بحالة البول؛ لأنَّ ما قرب من الشيء؛ يأخذ حكمه، ولما منع الاستنجاء باليمين؛ منع مس آلته حسمًا للمادة، وتمامه في «عمدة القاري».
وما وقع في «شرح ابن حجر»؛ فهو خبط وخلط كما بينه في «كشف الحجاب عن العوام فيما وقع في الفتح من الأوهام»، فإنَّه كتاب عظيم الفوائد والفرائد؛ فليحفظ.

==================

(1/282)


[حديث: إذا بال أحدكم فلا ياخذن ذكره بيمينه]
154# وبه قال: (حدثنا محمد بن يوسف): هو الفريابي (قال: حدثنا الأوزاعي): عبد الرحمن بن عمرو الإمام المشهور، (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة، (عن عبد الله بن أبي قَتادة)؛ بفتح القاف، (عن أبيه)؛ أي: أبي قتادة لا عن قتادة، وصرح ابن خزيمة في روايته بسماع يحيى له من عبد الله بن أبي قتادة، فأمن من التدليس على أن ابن المنذر صرَّح بالتحديث في جميع الإسناد، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم): أنه (قال: إذا بال أحدكم؛ فلا يأخذنَّ)؛ بنون التأكيد، وفي رواية: بحذفها، وهذا جواب الشرط ومحل المطابقة للترجمة، وفي رواية: (فلا يمس) (ذكره بيمينه)؛ لشرفها، كما في الرواية السابقة: (إذا أتى الخلاء؛ فلا يمس ذكره بيمينه).
فاعترض بأنَّ المسَّ أعم من المسك؛ أي: فكيف يستدل بالأعم على الأخص؟
ويجاب: بأن نفي الأعمِّ يستلزم نفي الأخصِّ على أنَّه مطابق نصًّا للرواية السابقة في الترجمة، ولابن حجر هنا كلام لا يخفى ما فيه من الخبط والخلط، كما بينه في «منهل العليل المطل على ما وقع في الفتح من التطويل الممل».
(ولا يستنجي)؛ بحذف الياء على النهي، وفي رواية: بإثباتها على النفي، وعلى كل فهو مفسر لقوله فيما سبق: (ولا يتمسح) (بيمينه)؛ أي: في القبل أو الدبر، وليس النهي عن المسح خاصًّا بالدبر ولا النهي عن المس مختص بالدبر، كما سبق رده، وروي عن مالك: عدم كراهة الاستنجاء باليمين إذا كان فيها خاتم منقوش فيه اسم معظم؛ وهو مردود بهذه الأحاديث، على أنَّ النهي قد تأكَّد بوجود ذلك الخاتم، فإنَّه لو استنجى باليسرى مع وجود الخاتم فيها؛ فهو مكروه؛ لأنَّه مخلٌّ بتعظيم اسمه تعالى، على أنَّه قد أنكر هذه الرواية جمهور أصحاب مالك، فلا اعتداد بها؛ فافهم.
(ولا يتنفس في الإناء): حالة شرب الماء وغيره، وهو بالرفع على أنَّ (لا) نافية، وبالجزم على أنَّها ناهية، روايتان كما مر، والجملة عطف على الجملة المركبة من الشرط والجزاء مجموعًا، ولهذا غيَّر الأسلوب؛ حيث لم يؤكد بالنُّون، ولا يجوز أن يكون معطوفًا على الجزاء؛ لأنَّه مقيد بالشرط، فيكون المعنى: إذا بال أحدكم؛ فلا يتنفس في الإناء، وهو غير صحيح؛ لأنَّ النهي مطلق، وذهب السكاكي إلى أنَّ الجملة الجزائية جملة خبرية مقيدة بالشرط فيحتمل على مذهبه أن يكون عطفًا على الجزائية، ولا يلتزم من كون المعطوف عليه مقيدًا بقيد أن يكون المعطوف مقيدًا به على ما هو عليه أكثر النحاة، كذا في «عمدة القاري»، وما في «شرح العجلوني»؛ فتعصبٌ؛ فافهم.
==========
%ص 115%

==================

(1/283)


(20) [باب الاستنجاء بالحجارة]
هذا (باب) حكم (الاستنجاء بالحِجارة)؛ بكسر الحاء المهملة، جمع حَجَر _بفتحتين_، ويجمع على أحجار للقلة، كما في حديث الباب، والتقييد بالحجارة جرى على الغالب، وإلا؛ فيجوز الاستنجاء بكلِّ طاهر قالع غير محترم ولا متقوَّم، كما سيأتي بيانه، وأشار المؤلف بهذه الترجمة الرد على من زعم أنَّ الاستنجاء
مختص بالماء دون غيره، وعلى من منع الاستنجاء بالحجارة.
==========
%ص 115%

==================

(1/284)


[حديث: ابغني أحجارًا أستنفض بها ولا تاتني بعظم ولا روث]
155# وبه قال: (حدثنا أحمد بن محمد) أي: ابن أبي الوليد (المكي): الأزرقي الغساني، جد أبي الوليد محمد بن عبد الله، صاحب «تاريخ مكة»، المتوفى سنة أربع عشرة أو اثنتين وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعِيد) بكسر العين (بن عَمرو) _بفتح العين_ أبو أمية (المكي) القرشي الأموي، المعروف بالأشدق، الأمير بالمدينة، المجهِّز البعوث إلى مكة، المتغلِّب على دمشق زمن عبد الملك بن مروان، فقتله عبد الملك، وسيَّر أولاده إلى المدينة، (عن جده) هو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أبي أجنحة، التابعي الثقة، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (قال: اتَّبعت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ بهمزة وصل وتشديد المثناة فوق؛ أي: سرت وراءه، وبقطع الهمزة رباعيًا؛ أي: لحقته، قال تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60].
وحكى القزاز: أن أبا عمرو قرأ: {ثم اتَّبَعَ سببًا}، والكسائي: {ثم أَتْبَعَ سببًا}؛ يريد: لحق وأدرك، وذكر أن (تبعه وأتبعه) بمعنًى واحد، انتهى؛ أي: بالنظر لأصل المادة، وتفاوتهما: بالنظر إلى الصيغة؛ مثل: وفى وأوفى؛ فتأمَّل.
والجملة مقول القول.
(وخرج لحاجته)؛ أي: للبول أو للغائط، والجملة وقعت حالًا من النبي، مقترنة بالواو والضمير، و (قد) فيها مقدرة عند البصريين؛ لأنَّ الفعل الماضي إذا وقع حالًا؛ فلا بدَّ فيه من (قد) ظاهرة أو مقدرة، ويجوز فيه الواو وتركه، كما في قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]؛ أي: قد حصرت، وقد وقع بدون الواو، كذا في «عمدة القاري» بتغيير.
(فكان)؛ بالفاء العاطفة في رواية، وفي أخرى: بالواو الحالية، قاله في «عمدة القاري»، وجوَّز ابن حجر كون الواو استئنافية، وهو غير صحيح؛ لاختلال المعنى، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، وتوجيه العجلوني له غير صواب؛ لركوبه فيه متن عمياء، ويرجح كونها حالية الرواية بالفاء العاطفة، كما لا يخفى؛ فافهم، وجملة قوله: (لا يلتفت وراءه): محلها نصب خبر (كان)؛ والمعنى: أنه عليه السلام كان إذا مشى لا يلتفت وراءه، وكان هذا عادة مشيه عليه السلام (فدنوت) أي: قربت (منه) عليه السلام، زاد في رواية: (أستأنس به وأتنحنح، فقال: «من هذا؟» فقلت: أبو هريرة)، (فقال: ابغني): يجوز في همزته الوصل إذا كان من الثلاثي؛ ومعناه: اطلب لي، والقطع إذا كان من المزيد؛ ومعناه: أعنِّي على الطلب، وكلاهما روايتان، كما قاله في «عمدة القاري»، وفي رواية: (أبغ لي)؛ بهمزة قطع، وباللام بعد الغين بدل النُّون، وفي أخرى: (ائتني) (أحجارًا)؛ بالنصب مفعول ثان لـ (ابغني)، وفي رواية: (حجارة) (أستَنفض)؛ بفتح المثناة، بعدها نون، ثم فاء مكسورة، ثم ضاد معجمة، روي بالجزم؛ لأنَّه جواب الأمر، وبالرفع على الاستئناف على وزن (استفعل)، من النفض؛ بالنُّون والفاء المعجمة؛ وهو أن يهزَّ الشيء ليظهر غباره أو يزول ما عليه؛ ومعناه: أستنظف (بها)؛ أي: بالحجارة، متعلق بـ (أستنفض)؛ أي: أنظف بها نفسي من الحدث، وفي «المطالع»: أي: أستنجي بها، وقال في «المضرب»: الاستنفاض: هو الاستخراج، ويكنى به الاستنجاء، قال: ومن رواه بالقاف والصَّاد؛ فقد صحف، انتهى.
قال في «العباب»: استنفاض الذكر وانتفاضه: استبراؤه مما فيه من بقية البول.
قلت: الأول: بالفاء والضَّاد المعجمة، والثاني: بالقاف والضَّاد المعجمة، والثالث: بالقاف والصَّاد المهملة.
وقال أبو عبيد: انتقاص الماء: غسل الذكر بالماء؛ لأنَّه إذا غسل بالماء؛ ارتد البول ولم ينزل، وإن لم يغسل؛ نزل منه شيء بعد شيء حتى يُستَبرَأ، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(أو نحوَه)؛ بالنصب؛ لأنَّه مقول القول، وهو جملة في المعنى؛ والتقدير: أو قال نحو قوله: (أستنفض بها)، وذلك نحو قوله:
%ص 115%
(أستنجي بها)، ووقع في رواية الإسماعيلي: (أستنجي بها) عوض (أستنفض بها)، والتردد فيه من بعض الرواة؛ فافهم.
(ولا تأتني)؛ بالجزم بحذف حرف العلَّة على النهي، وفي رواية: (ولا تأتيني)؛ بإثباته على النفي، وفي أخرى: (ولا تأتي)، وفي أخرى: (ولا تأتي لي)؛ باللام (بعظم ولا روث): متعلق بـ (تأتني)، وقيد عليه السلام بهذين؛ لأنَّه خشي أن يفهم أبو هريرة من (أسنتفض بها) أنَّ كلَّ ما يزيل الأثر وينقي كافٍ ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبَّهه في اقتصاره في النهي على العظم والروث على أنَّ ما سواهما يجزئ، ولو اختص بالأحجار، كما قال به الظاهرية وبعض الحنابلة، لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنًى، بل المراد الأحجار وما في معناها من كلِّ طاهر قالع غير محترم، وإنما خص الأحجار بالذكر؛ لأنَّها كانت أكثر الأشياء التي يستنجى بها وجودًا وأقربها تناولًا.
والعلَّة في النهي عن هذين؛ إن كان هو كونهما من طعام الجن _على ما سيجيء عند المؤلف في (المبعث) في هذا الحديث: أنَّ أبا هريرة قال للنبي عليه السلام: ما بال العظم والروث؟ قال: «هما من طعام الجن» _؛ فيلحق بهما سائر المطعومات للآدميين والبهائم بطريق القياس، وكذا المحترمات؛ كخرقة ديباج وقطن، والمراد كل شيء متقوَّم إلا الماء، وهو صادق بما يساوي فلسًا، وكذا أجزاء الآدمي ولو كان كافرًا أو ميتًا، وكذا ماء زمزم، وكذا أوراق الأشجار وأوراق الكتابة، وما كتب عليه شيء من العلم كالحديث والفقه، وما كان آلة لذلك، وكذا كتب الفلسفة، والتوراة، والإنجيل، خلافًا للشافعي.
وإن كان هو النجاسة في الروث؛ فيلحق به كل نجس كالعذرة والحجر الذي استنجى به، وكذا كل متنجس، وفي العظم كونه لزجًا فلا يزيل إزالة تامة، فيلحق به ما في معناه؛ كالزجاج، والفحم، والآجر، والخذف، والشعر، ويؤيده ما رواه الدارقطني وصحَّحه من حديث أبي هريرة: أنَّه عليه السلام نهى أن يستنجى بروث أو بعظم، وقال: «إنَّهما لا يطهِّران»؛ أي: لا يطهِّران طهارة تامة؛ فافهم، وقيل: المعنى: أنَّ العظم لَزِجٌ لا يكاد يتماسك فيقلع النجاسة وينشف البِلَّة، وقيل: إنَّ العظم لا يكاد يَعْرَى من بقية دسم قد علق به، ونوع العظم قد يتأتَّى فيه الأكل لبني آدم؛ لأنَّ الرخو منه الرقيق قد يتمشمش في حالة الرفاهية، والغليظ الصلب منه يدق ويستف عند المجاعة والشدة، وقد حرم الاستنجاء بالمطعوم، فهذان وجهان، والثالث: كونه طعام الجن، كما سبق، وأمَّا الروث؛ فلأنَّه نجس لا يزيل النجاسة، بل يزيدها، وإمَّا لأنَّه طعام لدوابِّ الجن، وقال أبو نعيم في «دلائل النبوة»: إنَّ الجن سألوا هديةً منه عليه السلام فأعطاهم العظم والروث، فالعظم لهم والروث لدوابهم، فإذن لا يستنجى بهما، وإمَّا لأنَّه طعام للجن أنفسهم، ففي «الدلائل» للحاكم: أنَّه عليه السلام قال لابن مسعود ليلة الجن: «أولئك جن نصيبين، جاؤوني فسألوني الزاد فمتَّعتهم بالعظم والروث»، فقال: وما يغني عنهم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنَّهم لا يجدون عظمًا إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أُخِذ، ولا وجدوا روثًا إلا وجدوا فيه حبه الذي كان عليه يوم أُكِل، فلا يستنجي أحد بعظم ولا روث».
وفي رواية أبي داود: أنَّهم قالوا: يا محمد؛ انْهَ أمَّتك لا يستنجوا بعظم، أو روث، أو حُمَمَة، فإنَّ الله جعل لنا رزقًا فيها، فنهى عليه السلام عنه، والحُمَمَة؛ بضم الحاء المهملة وفتح الميمين؛ وهي الفحم أو ما احترق من الخشب والعظام ونحوها، وجمعها: حمم، وقوله: (رزقًا)؛ أي: انتفاعًا لهم بالطبخ والدفء والإضاءة، ولا يتأتَّى هذا ما تقرر أن ذلك كان بجعل النبي عليه السلام لهم وهو يقتضي ثبوته لهم قبله، فإن المعنى: جعل لنا فيها رزقًا بسبب جعلك إياها لنا، فإنه عن الله عز وجل، وفي «مسلم»: أنَّ الجن سألوه عليه السلام الزاد، فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم»، فقال عليه السلام: «فلا تستنجوا بهما، فإنَّهما طعام إخوانكم».
قلت: وهل هذا متحقق ولو تقادم عهده وتكررَّ، أو قاصر على قريب العهد الذي لم يطعمه أحد من الجن، والظاهر: الثاني وإن كانت الكراهة في الجميع؛ لأنَّ العلَّة تعتبر في الجنس، وإفادة الأحاديث أنَّ الجن يأكلون، وقيل: رزقهم الشم، ولا خلاف أنَّهم مكلفون، وإنَّما الخلاف في إثابتهم، فروي عن الإمام الأعظم التوقُّف، وروي عنه: أنَّ إثابتهم إجارتهم من العذاب، ويدل له قوله سبحانه وتعالى: {وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]، وهو لا يستلزم الإثابة.
وقال الإمام أبو يوسف، والإمام محمد، ومالك، وابن أبي ليلى: لهم ثواب كما عليهم عقاب، واستفيد من حديث مسلم أنَّه لو كان عظم ميتة؛ لا يكره الاستنجاء به؛ فتأمَّل.
قلت: إلَّا عظام بني آدم؛ فإنَّها لا يجوز الاستنجاء بها أصلًا لاحترامه؛ فليحفظ.
والمراد بالروث: اليابس، ففي «منح الغفَّار»: والروث وإن كان نجسًا عندنا؛ لقوله عليه السلام فيها: «ركس أو رجس»، لكن لمَّا كان يابسًا لا ينفصل منه شيء؛ صحَّ الاستنجاء به؛ لأنَّه مخفِّفٌ لما على البدن من النجاسة الرطبة، انتهى، ومثله في «البحر»؛ أي: بخلاف الرطب، فإنه لا يخفِّف النجاسة؛ فلا يصحُّ الاستنجاء به أصلًا، ومثله: العَذِرَةُ؛ وهو الرجيع اليابس، والحجر المستنجى به، قال في «فتح القدير»: ولا يجزئه الاستنجاء بحجر قد استنجى به مرة، إلا أن يكون له حرف آخر لم يستنج به، انتهى، أي: لم تصبه النجاسة.
وقال الشافعي: ويجوز الاستنجاء بكتب الحكميات، والفلسفة، والتوراة والإنجيل إن علم تبدلهما وخلوهما عن اسم معظم.
قلت: وهذا مجازفة عظيمة على الله تعالى؛ لأنَّه تعالى لم يخبرنا بأنَّهم بدَّلوها عن آخرها، وخلوِّ اسم معظَّم منها غير محقَّق، بل الذي شاهدناه في التَّوراة والإنجيل أنَّهما محشوَّان من أسماء الله تعالى والأنبياء عليهم السلام، ولأنَّ غرضهم بتبديل الأحكام لا تبديل الأسماء والدَّعوات، وكونه منسوخًا لا يخرجه عن كونه كلام الله تعالى.
وقال إمامنا الإمام الأعظم: إنَّ للحروف حرمة ولو كانت مقطعة، وقد ذكر القراء: أنَّ الحروف الهجائية قرآن أنزلت على سيدنا هود عليه السلام، كما صرَّح به القسطلاني في «الإشارات»، ومقتضى هذا الحرمة بالمكتوب مطلقًا، وإذا كانت العلَّة في الأبيض كونه آلة للكتابة؛ يؤخذ منها عدم الكراهة فيما لا يصلح لها إذا كان قالعًا للنجاسة غير متقوَّم؛ كورق الهشِّ كما يجوز بالخرق البوالي، وهل إذا كان متقوَّمًا ثم قطع منه قطعة لا قيمة لها بعد القطع يكره الاستنجاء بها أم لا؟ والظاهر: الثاني؛ لأنَّه لم يستنج بمتقوَّم، نعم؛ قطعه لذلكالظاهر: كراهته لو بلا عذر بأن وجد غيره؛ لأنَّ نفس القطع إتلاف، انتهى.
وقال بعض الأفاضل: ينبغي تقييد الكراهة فيما له قيمة بما إذا أدَّى إلى إتلافه، أمَّا لو استنجى به من بول أو مني مثلًا وكان يغسل بعده؛ فلا كراهة إلا إذا كان شيئًا ثمينًا تنقص قيمته بغسله؛ فتأمَّل.
وكذا يكره الاستنجاء بكلِّ ما ينتفع به لإنسي وجنِّي أو دوابِّهما، وظاهره ولو ممِّا لا يتلف بأن كان يمكن غسله، وكذا يكره الاستنجاء بماء الغير وحجره المحرز لو بلا إذنه، ومنه المسبَّل للشرب فقط، وكذا جدار ولو لمسجد
%ص 116%
أو دار وقف لم يملك منافعها، وتمامه في «منهل الطلاب».
(فأتيته) أي: النبي الأعظم عليه السلام (بأحجار)؛ فهو من كلام أبي هريرة، والفاء تفصيحية (بطرف ثيابي): الباء ظرفية؛ أي: في جانب ثيابي، والظاهر: أن المراد من الثياب الجنس لا الجمع؛ بدليل رواية الإسماعيلي: (بطرف ملاءتي)، وجوَّز الكرماني كلا الوجهين، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّ ما ذكر إنَّما يتمشَّى في الجمع المحلى بالألف واللام، قلت: وقد يقال: الإضافة تأتي لما تأتي له اللام؛ فتأمل، (فوضعتُها)؛ أي: الأحجار؛ بتاء المتكلم، وفي رواية: (فوضعها)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (إلى جنبه) ليقرب تناولها، (وأعرضت): وفي رواية: (واعترضت)؛ بزيادة مثناة فوقية بعد العين المهملة (عنه) للتباعد، (فلما قضى)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، والمفعول محذوف؛ تقديره: حاجته؛ (أتبعه)؛ بهمزة قطع؛ أي: ألحقه (بهن)؛ أي: بالأحجار، والضمير المنصوب يعود على القضاء الذي يدل عليه قوله: (فلما قضى)، وكنى به عن الاستنجاء، وقيل: الضمير يعود على المحل، والأول أظهر؛ فافهم.
وفي الحديث: مشروعية الاستنجاء، واختلف العلماء فيه؛ فقال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم، والإمام أبو يوسف، والإمام محمد، والإمام زفر، والإمام الحسن، ومالك في رواية، والمزني من الشافعية: إنَّه سنة مؤكدة؛ لما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي الأعظم عليه السلام قال: «من استَجْمَرَ؛ فليوتر، من فَعَلَ؛ فقد أحسن، ومن لا؛ فلا حرج ... »؛ الحديث.
وأخرجه أحمد في «مسنده»، والحافظ أبو جعفر الطحاوي في «معاني الآثار» برجال ثقاتٍ، فهو حديث صحيح محكم لا يحتمل التأويل، فيدلُّ على نفي وجوب الاستنجاء وعلى نفي وجوب العدد فيه؛ لأنَّ الشارع نفى الحرج عن تارك الاستنجاء، فدل على أنَّه ليس بواجب، وكذلك تَرْكُ الإيتار لا يضرُّ؛ لأنَّ ترك أصلِهِ لمَّا لم يكن مانعًا فما ظنك بترك وصفه؟! فدل الحديث على انتفاء المجموع، فالسنة عندنا: إنقاء المحل؛ لأنَّه المقصود، فلو لم يحصل الإنقاء بثلاث؛ يزاد عليها اتفاقًا؛ لكونه هو المقصود، ولو حصل الإنقاء بواحد واقتصر عليه؛ جاز؛ لحصول المقصود، لا يقال: رفع الحرج في الزيادة على الثلاث؛ لأنَّ مجاوزة الثلاث في الماء عدوان وترك السنة، والزيادة في الأحجار ليست بعدوان وإن صارت شفعًا؛ لأنَّا نقول: هذا الوجه غير مراد ولا يفهم من الكلام على ما لا يخفى على الذكي الفطن، وأيضًا مجاوزة الثلاث في الماء كيف تكون عدوانًا إذا لم تحصل الطهارة بالثلاث؟! والزيادة في الأحجار وإن كانت شفعًا كيف لا يصير عدوانًا، وقد نص على الإيتار؟! فافهم.
وقال الشافعي، وأحمد، ومالك في رواية: إن الاستنجاء واجب لما أخرج ابن ماجه وأحمد عن عائشة: أنه عليه السلام قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط؛ فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهنَّ».
وأجيب: بأنَّ الأمر يحتمل أن يكون على وجه الاستحباب، والمحتمل لا يصلح أن يكون حجة إلا بمرجِّح لأحد المعاني ولم يوجد، ونحن أعملنا الأحاديث كلَّها، وفيما قاله الشافعي ومن تبعه إهمال لبعض الأحاديث، والعمل بالكل أولى على ما لا يخفى.
وفي الحديث: أنَّ الأحجار لا تتعيَّن للاستنجاء، بل يقوم مقامها كلُّ جامد طاهر قالع غير محترم ولا متقوَّم، فيكره الاستنجاء بالذهب، والفضة، والعظم، والروث، والرجيع، والطعام مطلقًا، والفحم، والزجاج، والجص، والآجر، وورق الشجر، والورق، والخذف، والشعر، وغيرها، ولو استنجى بها؛ أجزأه ويكون مقيمًا للسنة مع الكراهة؛ لأنَّ المقصود الإنقاء وقد حصل، وقد ذكر ابن جرير الطبري: أنَّ عمر بن الخطاب كان له عظم يستنجي به، ثم يتوضأ ويصلي.
وفيه: استحباب الإعراض عن قاضي الحاجة، وجواز الرواية بالمعنى؛ حيث قال: (أو نحوه).
وفيه: إعداد الأحجار للاستنجاء؛ لئلَّا يحتاج إلى طلبها بعد قيامه، فلا يأمن التلوُّث، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
هذا (بابٌ) بالتنوين: (لا يُستنجى)؛ بضم المثناة التحتية على صيغة المجهول، وسقط لفظ: (باب) في رواية، وفي أخرى: سقط لفظ الترجمة والباب (بروث) والجار والمجرور نائب

==================

(1/285)


[حديث: أتى النبيُّ الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار]
156# وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النُّون مصغرًا: هو الفضل بن دُكين؛ مصغرًا أيضًا، (قال: حدثنا زُهير)؛ بضم الزاي بالتصغير: هو ابن معاوية الجعفي الكوفي المكي، (عن أبي إسحاق): عمرو بن عبد الله السَّبِيعي؛ بفتح السين المهملة وكسر الموحدة، التابعي، وما ذُكِر من كون زهير سمع من أبي إسحاق بأخرة لا يقدح؛ لثبوت سماعه منه هذا الحديث قبل الاختلاط بطرق متعددة، وتمامه في «عمدة القاري»، (قال) أي: أبو إسحاق: (ليس أبو عبيدة)؛ بالتصغير: هو عامر بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (ذكره) لي؛ أي: حدثني به، وجملة (ذكره) محلها نصب خبر (ليس)، (ولكن) الذي ذكره لي وحدثني به (عبد الرحمن) فهو مرفوع بفعل محذوف مقدر تقديره ما علمتَ، (بن الأسود) التابعي النخعي الكوفي، الذي يصلي كل يوم سبع مئة ركعة، ويصلي العشاء والفجر بوضوء واحد، المتوفى سنة تسع وتسعين؛ أي: لست أرويه الآن عن أبي عبيدة، وإنما أرويه عن عبد الرحمن بن الأسود، (عن أبيه): الأسود بن يزيد _من الزيادة_ ابن قيس الكوفي النخعي صاحب ابن مسعود، وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة مع أنَّها أعلى إلى الرواية عن عبد الرحمن؛ لأنَّ أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فتكون منقطعة، بخلاف رواية عبد الرحمن فإنَّها موصولة، ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود عند الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس، قاله ابن حجر.
واعترضه في «عمدة القاري» بأن قول أبي إسحاق هذا يحتمل أن يكون نفيًا لحديثه وإثباتًا لحديث عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون إثباتًا لحديثه أيضًا، وأنَّه كان غالبًا يحدِّث به عن أبي عبيدة.
وقال الكرابيسي: أبو إسحاق يقول في هذا الحديث مرة: حدثني عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله، ومرة: حدثني علقمة عن عبد الله، ومرة: حدثني أبو عبيدة عن عبد الله، ومرة يقول: ليس أبو عبيدة حدَّثنيه وإنما حدثني عبد الرحمن عن عبد الله، وهذا دليلٌ واضح على أنَّه رواه عن عبد الرحمن بن الأسود سماعًا؛ فافهم.
وقول ابن حجر: (لأنَّ أبا عبيدة لم يسمع من أبيه)؛ مردود بما ذكره الطبراني في «معجمه الأوسط» من حديث زياد بن سعيد عن ابن الزبير قال: حدثني يونس بن عتاب الكوفي: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يذكر: أنه سمع أباه يقول ... ؛ الحديث، وبما أخرجه الحاكم في «مستدركه» حديث أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن أبيه في ذكر يوسف عليه السلام، وإسناده صحيح، وبما حسَّن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه؛ منها: لمَّا كان يوم بدر وجيء بالأُسارى، ومنها: كان في الركعتين الأوليين كأنه على الوصف، ومنها قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169]، ومن شرط الحديث الحسن أن يكون متصلًا عند المحدثين، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(أنَّه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: بأنَّه؛ أي: الأسود (سمع عبد الله)؛ بالنصب على المفعولية؛ أي: ابن مسعود؛ لأنَّه المراد عند الإطلاق، كما أنَّه عند إطلاق الإمام الأعظم فالمراد به: الإمام أبو حنيفة التابعي الجليل رئيس المجتهدين وسيدهم رضي الله تعالى عنهما، (يقول): فالجملة محلها نصب على الحال، (أتى
%ص 117%
النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم الغائط)؛ بالنصب على المفعولية؛ أي: الأرض المطمئنة؛ لقضاء حاجته، فالمراد به معناه اللغوي، (فأمرني أن آتيه) بمد الهمزة (بثلاثة أحجار) (أن) مصدرية صلة للأمر؛ أي: أمرني بإتيان الأحجار وليست (أن) هذه مفسِّرة بخلاف (أن) في قولك: أمرته أن يفعل، فإنَّها تحتمل أن تكون صلة وأن تكون مفسِّرة، كما في «عمدة القاري»، قال ابن مسعود: (فوجدتَ)؛ بتاء المتكلم؛ أي: أصبت (حجرين)؛ بالنصب مفعول (وجدت) الذي بمعنى: أصبت، فلا يقتضي إلا مفعولًا وحدًا، (والتمست) أي: طلبت الحجر (الثالث فلم أجده)؛ بالضمير المنصوب؛ أي: الحجر، وفي رواية: بحذف الضمير، (فأخذت) بتاء المتكلم (روثة) وكانت روثة حمار، كما في رواية ابن خزيمة في هذا الحديث، و (الروثة): واحد الروث والأرواث، وهو للخيل، والبغال، والحمير، (فأتيته) عليه السلام (بها) أي: بالثلاثة (فأخذ) عليه السلام مني (الحجرين وألقى الروثة) على الأرض، وإنَّما أتى بالروثة مع أنَّه طلب منه ثلاثة أحجار؛ لقياسه لها على الحجر بجامع الجمود، مع أنَّه لم يجد النص عليه، فبيَّن له عليه السلام الفرق بينهما بقوله: (وقال) عليه السلام: (هذا رِكسٌ) مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، وذكَّر الضمير باعتبار تذكير الخبر، كما في قوله تعالى: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78]، وفي رواية: (هذه رِكس) على الأصل.
وقال العجلوني: لا مانع من إرجاعه إليها فقط، ويكون المعطوف مقدَّرًا؛ أي: والحجرين؛ على حدِّ: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، انتهى، قلت: وهو غير ظاهر، وإذا وجد التقدير وعدمه؛ فعدمه أولى؛ فافهم.
و (الرِّكس)؛ بكسر الرَّاء: الرجس، وبه صرَّح ابن خزيمة في روايته له، وبفتح الرَّاء: ردُّ الشيء مقلوبًا، وقال النَّسائي: (الركس): طعام الجن، وقيل: إنه الرجيع، يعني قد رد عن حال الطهارة إلى حال النجاسة، وقد جاء (الركس)؛ بمعنى: الإثم، والكفر، والشرك؛ كقوله تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33]؛ أي: ليطهركم من جميع هذه الخبائث.
وقال الأزهري: (الرجس): اسم لكلِّ ما استقذر من العمل، ففي الحديث منع الاستنجاء بالروث، وقد صرَّح ابن ماجه وابن خزيمة في هذا الحديث، ولفظه: قال عبد الله: أراد النبي عليه السلام أن يتبرز فقال: «ائتني بثلاثة أحجار»، فوجدت له حجرين وروثة حمار، فأمسك الحجرين وطرح الرَّوثة، وقال: «هي رجس».
ففيه: بيان أنَّ أرواث الحُمر نجسة وإذا كانت أرواث الحُمر نجسة لحكم النبي الأعظم عليه السلام كان حكم جميع أرواث ما لا يجوز أكل لحمها من ذوات الأربع مثل أرواث الحمر، وقد اختلف العلماء في صفة نجاسة الأرواث، فعند الإمام الأعظم: هي نجسة مغلظ، وبه قال الإمام زفر، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمد: هي نجسة مخفف، وقال مالك: الروث طاهر، والحديث حجة عليه؛ لأنَّه محكَم لا يحتمل التأويل؛ فافهم.
واستدل الشافعي بالحديث لإيجاب عدد ثلاثة أحجار في الاستنجاء؛ لأنَّه عليه السلام استدعاها ليستنجي بها كلها، وقال: ليس في قوله: (فأخذ الحجرين) دليل على أنه اقتصر عليهما؛ لجواز أن يكون بحضرته ثالث، ويدل له خبر سلمان قال: نهانا رسول الله عليه السلام أن نكتفي بدون ثلاثة أحجار، وخبر أبي هريرة: «ولا يستنجي بدون ثلاثة أحجار» قال: ولو كان القصد الإنقاء فقط؛ لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظًا وعلم الانقاء فيه معنًى؛ دلَّ على إيجاب الأمرين ونظيره العدَّة بالأقراء، فإن العدد مشترط ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد.
قلت: وهو مردود ولا نسلِّم أنَّ فيه إيجاب عدد الثلاث، بل إنَّما كان ذلك للاحتياط في أمر العبادة؛ لأنَّ التطهير بواحد أو اثنين لم يكن محقَّقًا، فلذلك نصَّ على الثلاث؛ لأنَّ بالثلاث يحصل التطهير غالبًا، ونحن نقول به أيضًا إذا تحقق شخص أنَّه لا يطهر إلا بالثلاث؛ يتعيَّن عليه الثلاث، والتعيين ليس لأجل التوقيت فيه وإنما هو لأجل الإنقاء الحاصل فيه، حتى إذا احتاج إلى رابع وخامس وهلمَّ جرًّا يتعين عليه ذلك، على أنَّ الحديث متروك الظاهر، فإنَّه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف؛ جاز بالإجماع.
وقوله: (ليس في قوله: «فأخذ الحجرين»، دليل على أنَّه اقتصر عليهما) ممنوع، بل فيه دليل ظاهر واضح على أنَّه اقتصر على الحجرين فقط؛ لأنَّه لو كان الثلاث شرطًا؛ لطلب الثالث فحيث لم يطلب؛ دلَّ على اقتصاره عليهما.
وتعليله بقوله: (لجواز أن يكون بحضرته ثالث)؛ مردود؛ لأنَّ قعوده عليه السلام للغائط كان في مكان لم يكن فيه أحجار؛ لأنَّه لو كانت هناك أحجار؛ لما قال له: (ائتني بثلاثة أحجار)؛ لأنَّه لا فائدة لطلب الأحجار وهي حاصلة عنده، وهذا معلوم بالضرورة.
وقوله: (ولو كان القصد الإنقاء فقط؛ لخلا اشتراط العدد عن الفائدة) قلنا: إنَّ ذكر الثلاث لم يكن للاشتراط، بل للاحتياط؛ لأنَّ أقلَّ ما يحصل به التنظيف ثلاثة أحجار.
وقوله: (ونظيره العدة بالأقراء): هذا غير مسلَّم؛ لأنَّ العدد فيه شرط بنص القرآن والحديث ولم يعارضه نصٌّ آخر، بخلاف العدد هنا؛ لأنَّه معارض بحديث: «من اسْتَجْمَرَ؛ فليوتر، من فعل؛ فقد أحسن، ومن لا؛ فلا حرج»؛ فهذا لمَّا دلَّ على ترك أصل الاستنجاء؛ دلَّ على ترك العدد الذي هو وصفها بالطريق الأولى.
وقال ابن حجر: (واستدلَّ بالحديث الحافظ الطحاوي على عدم اشتراط الثلاثة، قال: «لأنَّه لو كان شرطًا لطلب ثالثًا» كذا قال وغفل عما رواه أحمد في «مسنده» من طريق أبي معمر عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن أبي مسعود في هذا الحديث، فإنَّ فيه: فألقى الروثة، وقال: «إنَّها ركس ائتني بحجر»، وقد تابع معمرًا عليه أبو شيبة الواسطي).
قلت: لم يغفل الحافظ الطحاوي عن ذلك، وإنما الذي نسبه إلى الغفلة هو الغافل، والحافظ الطحاوي حين كان يحفظ الأحاديث وتؤخذ عنه كان ابن حجر منيًا في ظهر أبيه، وكيف يغفل عن ذلك وقد ثبت عنده عدم سماع أبي إسحاق عن علقمة؟ فالحديث عنده منقطع، والمحدِّث لا يرى العمل بالمنقطع، وأبو شيبة الواسطي ضعيف؛ فلا تعتبر متابعته، فالذي يدعي صنعة الحديث كيف يرضى بهذا الكلام الساقط؟!
وقد قال أبو الحسن بن القصار المالكي: روي أنَّه أتاه بثالث، لكن لا يصحُّ، ولو صحَّ؛ فالاستدلال به لمن لا يشترط الثلاثة قائم؛ لأنَّه اقتصر في الموضعين على ثلاثة؛ فحصل لكل منهما أقلمن ثلاثة.
ثم قال ابن حجر: واستدلال الحافظ الطحاوي فيه نظر أيضًا؛ لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة؛ فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث؛ لأنَّ المقصود بالثلاثة: أن يمسح بها ثلاث مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد، والدليل على صحته أنَّه لو مسح بطرف واحد، ثم رماه، ثم جاء شخص آخر فمسح بطرفه الآخر؛ لأجزأه بلا خلاف.
قلت: نظره مردود عليه؛ لأنَّ الحافظ الطحاوي استدلَّ بصريح النص لما ذهب إليه، وبالاحتمال البعيد كيف يدفع هذا؟!
وقوله: (لأن المقصود ... ) إلخ: ينافيه اشتراطهم العدد في الأحجار؛ لأنَّهم استدلُّوا بظاهر قوله عليه السلام: «ولا يستنج أحدكم بأقلِّ من ثلاثة أحجار».
وقوله: (وذلك حاصل ولو بواحد): مخالف لصريح الحديث، فهل رأيت من يَردُّ بمخالفة ظاهر حديثه الذي يحتجُّ به على من يحتجُّ بظاهر الحديث بطريق الاستدلال الصحيح؟! وهل هذا إلا مكابرة وتعنُّت؟! ومن أمعن النظر في أحاديث الباب ودقَّق فكره في معانيها؛ علم وتحقَّق أن الحديث حجة عليهم لا لهم، وأن المراد: الإنقاء لا التثليث، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما حكاه العبدري وإليه ذهب
%ص 118%
رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، وأصحابه، ومالك، وداود، وهو وجه للشافعي؛ فافهم وتعجَّب، كذا في «عمدة القاري».
(قال إبراهيم بن يوسف)؛ أي: ابن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي، المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، (عن أبيه): يوسف الكوفي الحافظ، المتوفى سنة سبع وخمسين ومئة، أو زمن أبي جعفر المنصور، (عن) جده (أبي إسحاق) قال: (حدثني) بالإفراد (عبد الرحمن): هو ابن الأسود بن يزيد؛ أي: بالإسناد السابق، وهذا موجود في غالب النسخ، ساقط في بعضها، وأراد المؤلف بهذا التعليق الردَّ على من زعم أنَّ أبا إسحاق دلَّس هذا الخبر، كما حكى ذلك عن الشاذكوني؛ فإنَّه صرَّح فيه بالتَّحديث.
وقد استدلَّ الإسماعيلي على صحَّة سماع أبي إسحاق لهذا الحديث من عبد الرحمن؛ لكون يحيى القطان رواه عن زهير، ثم قال: ولا يرضى القطَّان أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق، وقال الكرماني: هذه متابعة ناقصة، ذكرها المؤلف تعليقًا.
فإن قيل: قد تُكلِّم في إبراهيم، قال عباس بن يحيى: إبراهيم ليس بشيء، وقال النسائي: إبراهيم ليس بالقوي.
قلت: يحتمل في المتابعات ما لا يحتمل في الأصول، انتهى كلامه.
قال في «عمدة القاري»: (قلت: لأجل متابعة يوسف المذكور حفيد أبي إسحاق زهير بن معاوية رجَّح المؤلف رواية زهير المذكورة وتابعهما أيضًا شريك القاضي، وزكريا بن أبي زائدة، وغيرهما، وتابع أبا إسحاق على روايته عن عبد الرحمن المذكور ليثُ بن أبي سليم، أخرجه ابن أبي شيبة، وحديثه يتشهد به، ولمَّا اختار في رواية زهير طريق عبد الرحمن على طريق أبي عبيدة؛ دلَّ على أنَّه عارف بالطريقين، وأنَّ رواية عبد الرحمن عنده أرجح، والله تعالى أعلم) انتهى.

==================

(1/286)


(22) [باب الوضوء مرةً مرةً]
هذا (باب) جواز (الوضوء مرةً مرةً)؛ بالنصب على المفعولية المطلقة، أو على الحال لتأوُّله بنحو مفصَّلًا، أو على الظرفية الزمانية؛ يعني: أنَّ لكلِّ عضو من أعضاء الوضوء مرة واحدة، لكن الاقتصار عليها بالنسبة إلينا مكروه كالاقتصار على مرتين حيث لم يكن عذر؛ فافهم.
==========
%ص 119%

==================

(1/287)


[حديث: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرةً مرةً]
157# وبه قال: (حدثنا محمد بن يوسف) البيكندي أو الفريابي (قال: حدثنا سفيان): بن عيينة أو الثوري، ورجَّح في «عمدة القاري» وتبعه ابن حجر والبرماوي: بأنَّ المراد: محمد بن يوسف الفرياني لا البيكندي، وسفيان الثوري لا ابن عيينة، والتردد فيهما للكرماني فقط؛ فليحفظ.
والسين في (سفيان) يجوز فيها الحركات الثلاث، والضم أشهر، ولا قدح في ذلك؛ لأنَّ أيًّا كان منهما؛ فهو عدل ضابط بشرط المؤلف لا يتفاوت الحكم باختلاف ذلك؛ فافهم.
(عن زيد بن أَسلَم)؛ بفتح الهمزة واللام، التابعي المدني، (عن عطاء) بالمد (بن يَسَار) بفتح التحتية والسين المهملة المخففة، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما: أنه (قال: توضأ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم مرةً مرةً)؛ بالنصب على الحال كما سبق، وقال الكرماني: منصوب على الظرف؛ أي: توضأ في زمان واحد ولو كان ثمة غسلتان أو غسلات لكل عضو من أعضاء الوضوء؛ لكان التوضؤ في زمانين أو أزمنة؛ إذ لا بدَّ لكلِّ غسلة من زمان غير زمان الغسلة الأخرى، أو منصوب على المصدر؛ أي: توضَّأ مرة، من التوضؤ؛ أي: غسل الأعضاء غسلة واحدة، وكذا حكم المسح.
فإن قلت: يلزم على هذا التقدير أن يكون معناه: توضَّأ عليه السلام في جميع عمره مرة واحدة، وهو ظاهر البطلان.
قلت: لا يلزم؛ لأنَّ تكرار لفظ (مرة) يقتضي التفصيل والتكرير، أو نقول: المراد: أنه غسل في كل وضوء كل عضو مرة؛ لأنَّ تكرار الوضوء منه عليه السلام معلوم بالضرورة.
وقال البرماوي: وهذا الثالث واضح؛ أي: توضَّأ فغسل كل عضو مرة، فكرر (مرة) لأجل ذلك فنصبه على المفعول المطلق المبيِّن للكمية، والوجهان الأوَّلان لا يخفى بُعْدُهما، انتهى.
لكن نظر فيه في «عمدة القاري» فقال: (بأنه يلزم منه أن جميع وضوئه عليه السلام في عمره مرة مرة، وليس كذلك على ما لا يخفى) انتهى، وهو كما قال ذكره العجلوني.
وفي الحديث ردٌّ على من قال: فرض مغسول الوضوء ثلاث، واستدل ابن التين بهذا الحديث على عدم إيجاب تخليل اللحية؛ لأنَّه إذا غسل وجهه مرة لا يبقى معه من الماء ما يخلل به، واستدلَّ به ابن بطال على طهورية الماء المستعمل بناءً على أنَّ الماء يصير مستعملًا بملاقاة أول جزء من العضو ثم غيره، وهو مستعمل، فيجزئ؛ وهو باطل؛ لأنَّ المراد بالمستعمل: ما انفصل عن العضو بعد كمال طهارته، ولا معنى لتخصيص الاستدلال بحديث المرة؛ فافهم، والله أعلم.
==========
%ص 119%

==================

(1/288)


(23) [باب الوضوء مرتين مرتين]
هذا (باب) جواز (الوضوء مرتين مرتين): لكل عضو، ونصبهما ما مرَّ في (مرة مرة).
==========
%ص 119%

==================

(1/289)


[حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين]
158# وبه قال: (حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (الحسين)؛ بالتصغير، وفي رواية: (حسين)؛ بدون (أل) التي للَّمح، (بن عيسى) بن حُمران؛ بضم الحاء المهملة، أبو علي الطائي القومسي _بالقاف والسين المهملة_ البَسطامي الدامغاني، وبَسطام؛ بفتح الموحدة، والدامغان؛ بالغين المعجمة من قومس، وقومس: عمل مفرد بين الري وخراسان، المتوفى بنيسابور سنة سبع وأربعين ومئتين، (قال: حدثنا يونس بن محمد) بن مسلم أبو محمد المؤدِّب المعلِّم البغدادي، المتوفى سنة سبع أو ثمان ومئتين (قال: حدثنا)، وفي رواية: (أخبرنا) (فُلَيْح بن سليمان)؛ بضم الفاء، وفتح اللام، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة، واسمه عبد الملك، وفليح لقب له غلب عليه، (عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمرو بن حَزْم)؛ بفتح العين في الأول، وفتح الحاء المهملة وسكون الزاي في الثاني، المدني التابعي الأنصاري، المتوفَّى سنة خمس وثلاثين ومئة، وفي رواية: (أبي بكر بن محمد بن عمرو)؛ بزيادة (ابن محمد) بين (أبي بكر) و (ابن عمرو).
(عن عبَّاد بن تميم)؛ بتشديد الموحدة بعد العين المهملة، ابن زيد بن عاصم الأنصاري واختلف في صحبته، (عن عبد الله بن زيد)؛ أي: ابن عاصم المازني، وهو عمُّ عبَّاد، وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه صاحب رؤيا الأذان، كما في «عمدة القاري»، وتبعه العجلوني في «شرحه» وغيره، فما وقع في «شرح القسطلاني» من أنَّه صاحب رؤيا الأذان؛ خطأ، والصواب: أنَّه غيره؛ فافهم: (أنَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم توضأ) فغسل أعضاء الوضوء (مرتين مرتين)؛ أي: لكلِّ عضو؛ بالنصب فيهما على المفعولية المطلقة، أو على الظرف، أو على الحال، كما سبق في (مرة مرة).
قال ابن حجر: وهذا الحديث مختصر من حديث عبد الله بن زيد المشهور في صفة وضوئه عليه السلام، كما سيأتي بعد من حديث مالك وغيره، لكن ليس فيه الغسل مرتين إلا في اليدين إلى المرفقين، وكان حقُّ حديث عبد الله بن زيد أنَّ يُبوَّب له: غسل بعض الأعضاء مرة، وبعضها مرتين، وبعضها ثلاثًا.
وروى أبو داود والترمذي وصحَّحه ابن حبان عن أبي هريرة: أنَّه عليه السلام توضَّأ مرتين مرتين، وهو شاهد قويٌّ لرواية فليح هذه، فيحتمل أن يكون حديثه هذا المجمل غير حديث مالك المبين؛ لاختلاف مخرجهما، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه إذا كان كذلك؛ لا يقتضي ما ذكره على أنَّه ليس في حديث عبد الله بن زيد أنَّه غسل بعض الأعضاء مرة مرة، وإنَّما هذا في حديث غيره ولم يلتزم المؤلف التبويب على الوجه المذكور، وإن كان الأمر يقتضي بيان ما روي عنه عليه السلام: (أنَّه توضَّأ مرة مرة)، وما روي عنه: (أنَّه توضَّأ مرَّتين مرَّتين)، وما روي عنه: (أنَّه توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا)، وما روي عنه: (أنَّه توضَّأ بعض وضوئه مرة، وبعضه ثلاثًا)، وما روي عنه: (أنَّه توضَّأ بعض وضوئه مرَّتين، وبعضه ثلاثًا)؛ فافهم، انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 119%

==================

(1/290)


(24) [باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا]
هذا (باب) جواز (الوضوء ثلاثًا ثلاثًا)؛ أي: لكل عضو، ويجري فيه كما في الحديث نظير ما سبق؛ فافهم.
==========
%ص 119%

==================

(1/291)


[حديث: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين]
159# وبه قال: (حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأُوَيْسي)؛ بضم الهمزة، وفتح الواو، وسكون المثناة التحتية، بالتصغير (قال: حدثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعد)؛
%ص 119%
بسكون العين المهملة، سبط عبد الرحمن بن عوف، (عن ابن شهاب): محمد بن مسلم الزهري: (أنَّ عطاء) بالمد (بن يزيد): الليثي التابعي (أخبره): جملة محلها الرفع خبر (أنَّ)؛ أي: أخبر عطاءٌ ابنَ شهاب (أنَّ)؛ بفتح الهمزة وتشديد النُّون؛ أي: بأنَّ، (حُمْران) _بضم الحاء المهملة، وسكون الميم، وبالرَّاء_ ابن أَبَان _بفتح الهمزة والموحدة المخففة_ ابن خالد بن عبد عمرو، من سبي عين التمر، سباه خالد بن الوليد، فوجده غلامًا فطنًا فوجهه إلى عثمان، فأعتقه، وكان كاتبه وحاجبه، وولِّي نيسابور من الحجَّاج، ثم أغرمه الحجَّاج مئة ألف لأجل الولاية السابقة، ثم ردَّها عليه بشفاعة عبد الملك، وقوله: (مولى عثمان)؛ أي: ابن عفان، جملة محلها النصب؛ لأنَّه صفة لـ (حُمرانَ) منصوب؛ لأنَّه اسم (أنَّ)، ومنع من الصرف؛ للعلمية وزيادة الألف والنُّون، وحديث حُمران صحيح، توفي سنة خمس وسبعين (أخبره)؛ أي: أخبر حمرانُ عطاءً: (أنَّه)؛ أي: بأنَّه (رأى) أي: أبصر (عثمان بن عفان): أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمُّه أروى بنت عمة رسول الله عليه السلام، وهو أصغر من النبي عليه السلام، وسمي بذي النورين؛ لأنَّه تزوج بنتي سيد الكونين عليه السلام؛ رقية فماتت عنده ثم أم كلثوم، وقال النبي الأعظم عليه السلام له: «لو أنَّ لي أربعين ابنة؛ زوَّجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة، وما زوَّجته إلا بالوحي من الله عز وجل»، ولم يتفق لغيره أنَّه تزوج بنتَي نبي غيره، استُخلِف أول يوم من محرم سنة أربع وعشرين، وقُتِل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، قتله الأسود التُّجِيْبي؛ بضم الفوقية، وكسر الجيم، وسكون التحتية، والموحدة، المصري، ودفن بالبقيع ليلة السبت، وعمره اثنان وثمانون سنة، وصلى عليه حكيم بن حزام، أو جبير بن مطعم، أو المسور بن مخرمة، والأصح الأول، وكثرت الأموال في خلافته حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمئة ألف، ونخلة بألف درهم، وليس في الصحابة من اسمه عثمان بن عفان غيره رضي الله تعالى عنه.
وجملة (دعا) أي: عثمان (بإناء)؛ أي: بظرف فيه الماء للوضوء؛ حال من عثمان بتقدير: (قد) كما في قوله تعالى: {أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]، وفي رواية مسلم ورواية شعيب الآتية قريبًا: (دعا بوَضوء)؛ بفتح الواو، اسم للماء المعدِّ للتوضؤ، ففيه: جواز الاستعانة بغيره في إحضار الماء وهو غير مكروه بالإجماع، (فأفرغ) الفاء تفسيرية؛ أي: صبَّ، يقال: فرِغ الماء _بالكسر_ إذا انصب، وأفرغته أنا؛ أي: صببته، وتفريغ الظروف: إخلاؤها (على كفيه)؛ أي: واحدة بعد واحدة لا عليهما معًا، كما بيَّنتْه الرواية الأخرى، وهي أنَّه: (أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثمَّ غسلهما) (ثلاث مرات)؛ بالفوقية آخره، وفي رواية: (ثلاثَ مرار)؛ بالرَّاء آخره، وهو منصوب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: إفراغًا ثلاث مرات، (فغسلهما)؛ أي: كفيه إلى الرسغين.
والرسغ: منتهى الكف عند المفصل، وفي «الضياء»: الرسغ؛ بالغين المعجمة: مفصل الكف في الذراع والقدم في الساق، وأمَّا الكوع؛ فهو العظم الذي يلي الإبهام في رأس الزند، ويقابله الكرسوع؛ وهو العظم الذي يلي الخنصر من اليد في طرف الزند، والرسغ بينهما، والبوع؛ العظم الذي يلي إبهام الرجل، وقد نظم ذلك بعض الحذَّاق فقال:
وعظم يلي الإبهام كوع وما يلي ... لخنصره الكرسوع والرسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رجل ملقب ... ببوع فخذ بالعلم واحذر من الغلط
وفي غسل اليدين ابتداءً ثلاثة أقوال: قيل: إنَّه فرض وتقديمه سنة، واختاره المحقق في «فتح القدير»، وقيل: إنَّه سنة تنوب عن الفرض، واختاره في «الكافي»، وقال شمس الأئمة السرخسي: إنَّه سنة لا تنوب عن الفرض؛ فيعيد غسلهما ظاهرهما وباطنهما، واستشكله في «الذخيرة»، وظاهر كلام الشرَّاح: أنَّ المذهب الأول.
قلت: والظاهر: أنَّه لا مخالفة بين الأقوال، فإنَّ القائل بالفرضيَّة أراد أنَّه يجزئ عن الفرض، وأن التقديم سنة، وهذا معنى القول: بأنَّه سنَّة تنوب عن الفرض، فالظاهر على هذين القولين: يسنُّ إعادة غسل اليدين عند غسل الذراعين؛ ليكون آتيًا بالفرض قصدًا، ولا ينوب الغسل الأول منابه من هذه الجهة، وإن ناب منابه من حيث إنَّه لو لم يعده؛ سقط الفرض، كما يسقط لو لم ينو أصلًا؛ فتأمل.
واختلف في أن غَسْلَهما قبل الاستنجاء أو بعده، فقيل: سنَّة قبله فقط، وقيل: بعده فقط، وقيل: قبله وبعده، وإليه ذهب الجمهور وصحَّحه الإمام قاضيخان، وصاحب «النهاية»، وحِكْمَته قبل الاستنجاء: المبالغة في اليدين لئلا يتشرب الجسد من النجاسة إذا لم يُغْسلا، وكيفية غسلهما: أنَّه إذا كان الإناء صغيرًا بحيث يمكن رفعه لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله ويصبُّه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثًا، ثم يأخذ الإناء بيمينه ويصبُّه على كفه اليسرى ويغسلها ثلاثًا، وإن كان الإناء كبيرًا لا يمكن رفعه، فإن كان معه إناء صغير يفعل كما ذكرنا، وإن لم يكن
%ص 120%
عنده إناء صغير؛ فيدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ويصبُّ على كفه اليمنى ثم يدخل اليمنى في الإناء ويغسل اليسرى، وعلَّله في «المحيط» بأنَّ الجمع بين اليدين في كل مرة غير مسنون.
وقوله: (غسلهما) قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين أو متفرقتين، وقال في «الحلية»: إنَّ الجمع سنة كما تفيده الأحاديث، والظَّاهر: أنَّ تقديم اليمنى على اليسرى؛ لأجل التيامن لا لما ذكره في «المحيط»، ثم قال في «الحلية»: وظاهر الأحاديث: الجمع بينهما، وأنَّه لا يستحبُّ التيامن هنا، كما في غسل الخدين، والمنخرين، ومسح الأذنين، والخفين إلا إذا تعذَّر ذلك؛ فحينئذٍ يقدِّم اليمنى منها، انتهى.
قلت: ويدل لذلك قوله: (فغسلهما ثلاثًا)؛ لأنَّه لو أراد التفريق لقال: غسلهما ثلاثًا ثلاثًا، ولا يرد نقل البلَّة؛ لأنَّهما كالعضو الواحد، ولأنَّها جائزة هنا لظاهر الأحاديث؛ فتأمل.
ومحلُّ غسلهما قبل إدخالهما الإناء الذي فيه الماء، ولو لم يكن عقب النوم، وهو الأصح، كما في «النهر».
(ثم أدخل يمينه في الإناء) أي: للاغتراف بها منه، ففيه: أنَّه يسنُّ الاغتراف باليمين، وفيه: دلالة على عدم اشتراط نية الاغتراف نفيًا وإثباتًا؛ لأنَّ الحدث قد ارتفع بالغسل الأول، حتى قال في «الخانية»: المحدِث أو الجنب إذا أدخل يده في الإناء للاغتراف وليس عليهما نجاسة؛ لا يفسد الماء، وكذا إذا وقع الكوز في الحُب فأدخل يده إلى المرفق؛ لا يصير الماء مستعملًا، انتهى.
قلت: وإنَّما لم يصر الماء مستعملًا؛ لعدم النية، أمَّا لو نوى؛ صار الماء مستعملًا؛ لأنَّه ارتفع به الحدث، فالملاقى مستعمل؛ فافهم.
(فمضمض) وللأصيلي: (فتمضمض)؛ بفوقية بعد الفاء، وهو عطف على مقدَّر؛ أي: فأخذ الماء من الإناء وأدخله في فيه فمضمض، والفاء: تفصيحية، وهي لغة: التحريك، وعند الفقهاء: استيعاب الماء جميع الفم سواء مجَّه أو لا؛ لكن الأفضل أن يمجَّه؛ لأنَّه ماء مستعمل كما في «البحر»، وفي «فتح القدير»: لو شرب الماء عبًّا؛ أجزأه عن المضمضة، وإن مصًّا؛ لا يجزئه، فالمجُّ ليس بشرط على الأصحِّ، انتهى.
وقال القهستاني: (وهل يدخل إصبعه في فمه وأنفه؟ الأولى نعم) انتهى، وبه قال الإمام الزندوستي، كما في «المحيط»، وقال الصدر الشهيد: المبالغة في المضمضة بالغرغرة، والاستنشاق بمجاوزة المارن سنَّة لغير الصائم.
قلت: لا يقال: (لا فائدة فيه؛ لأنَّه استاك قبله)، لأنَّا نقول: بل فيه فائدة وهو وجود أثر الطعام الذي لا يخرجه السواك أو يتحلَّل من أجزاء السواك شيء لا يخرجه إلا الإصبع، وأمَّا الأنف؛ فظاهر؛ لأنَّه يوجد فيه بعض وسخ لزج لا يخرجه الماء، بل الإصبع، والله أعلم.
(واستنشق)، وفي رواية: (واستنثر)؛ بالمثلثة والرَّاء، بدل: (واستنشق)، وثبتتا في رواية شعيب الآتية، قال ابن الأعرابي وابن قتيبة: الاستنثار: هو الاستنشاق، وقال النووي: الاستنثار: إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، قال: وهو الصواب، ويدلُّ عليه الرواية الأخرى: (استنشق واستنثر)؛ فجمع بينهما، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّ الصواب ما قاله ابن الأعرابي: من أنهما بمعنًى، وقوله: (ويدل عليه ... ) إلخ، لا يدلُّ على ما ادَّعاه؛ لأنَّ المراد منالاستنثار في هذه الرواية: الامتخاط؛ وهو أن يمتخط بعد الاستنشاق.
وقال ابن سيدة: استنثر: إذا استنشق الماء ثم استخرجه بنَفَسِ الأنف، والنثرة: الخيشوم وما ولاه، وتنشق واستنشق الماء في أنفه: صبه فيه، انتهى، ومثله في «القاموس»، فالاستنثار يستلزم الاستنشاق من غير عكس فهو أخص لا أعم، خلافًا لما زعمه ابن حجر؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: (وليس في طريق هذا الحديث تقييد المضمضة والاستنشاق بعدد غير طريق يونس عن الزهري فيما ذكره ابن المنذر، وكذا فيما ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان رضي الله عنه فإنَّ في أحدهما: «فتمضمض ثلاثًا واستنثر ثلاثًا»، وفي الأخرى: «ثم تمضمض واستنشق ثلاثًا») انتهى.
قلت: والمضمضة والاستنشاق سنتان مشتملتان على سنن؛ منها: تقدم المضمضة على الاستنشاق بالإجماع؛ لاتفاق الروايات على ذلك، ومنها: التثليث في حق كل واحد بالإجماع، وأخذ ماء جديد في التثليث سنَّة عندنا، وإزالة المخاط باليسرى، كما في «المعراج» وفي «المبسوط»، وفعلهما باليمين سنَّة، لكن في «المنية» أنه يستنشق باليسرى، والصحيح: أنَّه يستنشق بيمينه ويستنثر بيساره، كما في «شرح النقاية» للعلامة المنلا علي القاري.
(ثم غسل وجهه ثلاثًا)؛ بالنصب على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: غسلًا ثلاث مرات، والوجه حدُّه: طولًا من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن، وعرضًا ما بين شحمتي الأذنين، وعطف بكلمة (ثم)؛ لأنَّها تقتضي الترتيب والمهلة، كما في «عمدة القاري».
قلت: والترتيب والمهلة في كل شيء بحسبه، فلا حاجة أن يقال: إنَّ (ثمَّ)؛ بمعنى الفاء؛ فافهم.
والحكمة في تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق: اعتبار أوصاف الماء؛ لأنَّ اللون يدرك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح يدرك بالأنف، فيقدَّم الأقوى منها، وهو الطعم، ثم الريح، ثم اللون، وهذا شامل لتخليل اللحية، وقد دلَّ عليه ما رواه الطبراني وأبي داود عن أنس قال: (وضأتُ النبيَّ عليه السلام فتوضَّأ ثلاثًا ثلاثًا، وخلَّل لحيته مرتين أو ثلاثًا)، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(و) غسل (يديه) كل واحدة (إلى) أي: مع (المَرفِقين)؛ بفتح الميم وكسر الفاء وبالعكس لغتان مشهورتان (ثلاث مرار)؛ بتكرار الرَّاء، وقد جاء ذلك مبيَّنًا في كتاب (الصوم) وعند مسلم، وفيهما تقديم اليمنى على اليسرى، والتعبير في كلٍّ منهما بكلمة (ثمَّ)، وكذا في (الرجلين) أيضًا، والمرفق: موصل الذراع في العضد، واختلف في وجوب إدخال المرفقين في الغسل على قولين؛ فذهبت الأئمة الأربعة والجمهور: إلى الوجوب، وذهب الإمام زفر وأبو بكر بن داود: إلى عدم الوجوب، ورواه أشهب عن مالك، ومنشأ الخلاف من كلمة (إلى)، كما سبق الكلام عليه.
تتمة: المضمضة والاستنشاق سنتان في الوضوء _كما ذكرنا_ فرضان في الغسل، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، وسفيان الثوري، وقال عطاء، وابن أبي ليلى، وحماد، والزهري: المضمضة في الوضوء فرض فلو تركها؛ يعيد الوضوء.
وقال أحمد وأبو عبيد وأبو ثور: الاستنشاق في الوضوء فرض، فلو تركها؛ أعاده، والمضمضة ليست بفرض، قال ابن المنذر: وبقول أحمد أقول، وقال ابن حزم: هذا هو الحق؛ لأنَّ المضمضة ليست فرضًا، وإن تركها؛ فوضوؤه تامٌّ عامدًا أو ناسيًا؛ لأنَّه لم يصحَّ عنه عليه السلام فيها أمر، وإنَّما هي فعل، وأفعاله ليست فرضًا.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ الأمر بالمضمضة صحيح على شرطه، أخرجه أبو داود من حديث عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه مرفوعًا: «إذا توضأت؛ فمضمض»، وأخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، وقال البغوي: صحيح، وصحَّح إسناده الطبري والدولابي، وقال الحاكم: (صحيح ولم يخرِّجاه، وله شاهد من حديث ابن عباس) انتهى، وفيه نظر؛ لأنَّهما لم يشترطا ما ذكره؛ لذكرهما في كتابيهما أحاديث جماعة بهذه المثابة، ولئن سلَّمنا قوله؛ كان لقيط هذا خارجًا عمَّا ذكره؛ لرواية جماعة عنه، وأمَّا حديث ابن عباس؛ فذكره أبو نعيم الأصبهاني من حديث الربيع بن بدر، عن ابن جريج، عن عطاء، عنه يرفعه: «مضمضوا واستنشقوا»، وقال حديث غريب، وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة عنه عليه السلام: (أنَّه أمر بالمضمضة والاستنشاق)، وصحِّح إسناده.
وأخرج من
%ص 121%
حديث عائشة ترفعه: «المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بدَّ منه»، وعند الدارقطني مرفوعًا: «من توضَّأ؛ فليمضمض»، وتمامه في «عمدة القاري».
وما قدَّمناه: من أنَّه يسنُّ التثليث في حقِّ كلِّ واحد منهما، فيفصل بينهما بغرفتين؛ يتمضمض بثلاث وكذا يستنشَّق بثلاث، ودليله: ما رواه الترمذي عن أبي حيَّة قال: رأيت عليًّا الصدِّيق الأصغر توضَّأ فغسل كفَّيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا، ومسح برأسه مرَّة، ثمَّ غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم، ثم قال: (أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله عليه السلام)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ومدلوله ظاهر؛ وهو أنه يتمضمض ثلاثًا؛ يأخذ لكلِّ مرَّة ماء جديدًا، ثم يستنشق كذلك، وهو رواية البويطي عن الشافعي، وفي رواية غيره: أنَّه يغرف غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يغرف غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يغرف ثالثة كذلك، فيجمع في كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق، واختلف نصه في الكيفيتين، فنصَّ في «الأمِّ»: أنَّ الجمع أفضل، ونصَّ البويطي: أنَّ الفصل أفضل، ووجه الفصل _كما هو مذهبنا_ ما رواه الطبراني عن كعب بن عمرو اليمامي: (أنَّه عليه السلام توضأ فمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، فأخذ لكلِّ واحدة ماءً جديدًا)، وكذا رواه أبو داود في «سننه» وسكت عنه، وهو دليل رضاه بالصحَّة.
وما روي في الأحاديث: أنَّه تمضمض واستنشق من كفٍّ واحد، فيحتمل أنَّه تمضمض واستنشق بكفٍّ واحدٍ بماءٍ واحد، ويحتمل أنَّه فعل ذلك بكف واحد بمياه، والمحتمل لا تقوم به صحة، أو يُرَدُّ هذا المحتمل إلى المحكم الذي ذكرناه؛ توفيقًا بين الدليلين، وقد يقال: إنَّ المراد استعمال الكف الواحد بدون الاستعانة بالكفين كما في الوجه، وقد يقال: إنَّه فعلهما باليد اليمنى ردًّا على من يقول: يستعمل في الاستنشاق اليد اليسرى؛ لأنَّ الأنف موضع الأذى كموضع الاستنجاء، كذا في «المبسوط»، وقد يقال: إنَّ كل ما روي من ذلك في هذا الباب فهو محمول على الجواز، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(ثم مسح برأسه)، وسقط: (ثم) في رواية، وكذا الموحَّدة في روايتي مسلم والمؤلف في (الصوم)؛ فيفيد استيعاب المسح للرأس، بخلافه مع الباء الموحدة، ومذهب الإمام الأعظم: أن فرض المسح ربع الرأس، وقال مالك وأحمد: جميع الرأس، وقال الشافعي: بعضه؛ وهو يطلق بشعرة، وأمَّا المسنون في مسحه؛ فظاهر الحديث يدلُّ على استيعاب الرأس بالمسح مرة واحدة؛ لأنَّه لم يوجد شيء من طرقه في «الصحيحين» ذِكْرُ عدد للمسح؛ فيقتصر فيه على مرة واحدة، وبه قال الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد، والجمهور.
وقال الشافعي: المسنون تثليث مسحه كغيره من الأعضاء؛ لظاهر رواية مسلم: أنَّه عليه السلام توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا.
وأجيب: بأنَّه مجمل وقد تبيَّن في الروايات الصحيحة أنَّ المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب أو يُخصُّ بالمغسول، قال أبو داود في «السنن»: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة، وكذا قال ابن المنذر: إنَّ الثابت عنه عليه السلام في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبني على التخفيف؛ فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأنَّ العدد لو اعتبر في المسح؛ لصار في صورة الغسل؛ لأنَّ حقيقة الغسل جريان الماء.
وبالغ أبو عبيد القاسم بن سلام، فقال: لا نعلم أحدًا من السلف استحبَّ تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي، قال في «عمدة القاري»: وفيه نظر؛ لأنَّ ابن أبي شيبة حكى ذلك عن أنس، وابن جبير، وعطاء، وميسرة؛ أنهم كانوا إذا توضَّؤوا؛ مسحوا رؤوسهم ثلاثًا، وفي «سنن أبي داود» بسند صحيح عن حُمران وفيه: (ومسح رأسه ثلاثًا)، وفيه أيضًا من حديث علي رفعه: (ومسح برأسه ثلاثًا)، وسنده صحيح.
وفي «سنن الدارقطني»: عن عمر ووصف وضوء النبي عليه السلام وقال: (ومسح برأسه ثلاثًا)، وروى الدارقطني في «سننه» أيضًا: عن محمد بن محمود الواسطي، عن شعيب بن أيوب، عن أبي يحيى الحماني، عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي: (أنَّه توضَّأ ... ) الحديث، وفيه: (ومسح برأسه ثلاثًا) ثم قال: هكذا رواه أبو حنيفة عن علقمة بن خالد، وخالفه بعض الحفاظ فرووه عن خالد بن علقمة فقالوا فيه: (ومسح رأسه مرة واحدة)، ومع خلافه إياهم قال: إنَّ السنة مسح الرأس مرة واحدة.
وأجيب: بأنَّ الزيادة من الثقة مقبولة، ولا سيما من مثل الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وسيدهم.
وأمَّا قوله: (فقد خالف في حكم المسح)؛ فخطأ غير صحيح؛ لأنَّ تكرار المسح ثلاثًا مسنون عند الإمام الأعظم وأصحابه، وكتب مذهبه طافحة بذلك، ولكن بماء واحد؛ لظاهر الأحاديث التي ذكرناها.
وأما كيفية المسح؛ فعند النسائي من حديث عبد الله بن زيد: (ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه)، وعند الطبراني: (بدأ بمؤخر رأسه، ثمَّ جرَّه إلى قفاه، ثم جرَّه إلى مؤخره)، وعند أبي داود: (بدأ بمؤخره، ثم بمقدمه، وبأذنيه كليهما)، وعند أبي داود عن أنس: (أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه)، وفي كتاب ابن السكن: (فمسح باطن لحيته وقفاه)، وفي «سنن أبي داود»: عن ابن عباس وصف وضوء علي بن أبي طالب قال: (وأخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء، فصبها على ناصيته، فتركها تستن على وجهه)، وفيه من حديث معاوية مرفوعًا: (فلما بلغ رأسه؛ غرف غرفة من ماء، فتلقَّاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كان يقطر)، وبهذا يُرَدُّ على من قال: لو كرَّر المسح؛ لصار غسلًا؛ فخرج عن وظيفة المسح، ويردُّ أيضًا بأنَّ المسح ثلاثًا بماء واحد لايسع أحدًا أن يقول: إنَّه يصير غسلًا، أمَّا لو كرَّره ثلاثًا بمياه ثلاثة _كما يقول الشافعي_؛ فلا ريب أنَّه يصير غسلًا، ويخرج عن وظيفة المسح، ولأنه لم يوجد في الأحاديث أنه كرر بمياه ثلاثة، ولا شكَّ أنه إسراف منهي عنه؛ فليحفظ.
(ثم غسل رجليه) غسلًا (ثلاثَ مرار)؛ بتكرار الرَّاء، فهو منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: غسلًا ثلاث مرار (إلى) أي: مع (الكعبين)؛ وهما العظمان المرتفعان عند آخر مفصل الساق والقدم.
وفي الحديث: الترتيب بين المسنون والمفروض؛ وهما المضمضة وغسل الوجه، فيفيد أن الترتيب سنة، وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، ويدلُّ لذلك الآية المعهودة؛ كما مر الكلام عليه، ومذهب مالك: أن الترتيب في المفروض دون المسنون واجب، والمشهور عنه أنَّه سنة، ومذهب الشافعي: وجوبه، وقال المزني من أصحابه: إنَّه غير واجب، واختاره ابن المنذر، وحكاه البغوي عن أكثر المشايخ؛ فليحفظ.
(ثم قال) أي: عثمان رضي الله عنه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من) موصولة فيها معنى الشرط في محل رفع على الابتداء، وقوله: (توضأ) جملة وقعت صلة للموصول (نحوَ وضوء) كلام إضافي منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: من توضأ وضوءًا نحو وضوء، (هذا)، والإشارة إلى وضوئه ثلاثًا ثلاثًا، ولفظ: (نحو)؛ بمعنى: مقارب، لا مماثل.
قال النووي: وإنما قال: نحو وضوء، ولم يقل: مثل؛ لأنَّ حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، انتهى، وفيه نظر؛ لأنَّ المثلية ثبت التعبير بها في رواية للمؤلف في (الرقاق)، ولفظها: (من توضأ مثل هذا الوضوء)، وعند مسلم: (من توضأ مثل وضوئي هذا)، وكلُّ واحد من لفظة: (نحو) و (مثل)
%ص 122%
من أداة التشبيه، والتشبيه لا عموم له سواء قال: نحو وضوئي أو مثل وضوئي، فلا يلزم ما ذكره النووي، وحينئذٍ فلا فرق في التعبير بين (نحو) و (مثل).
وقول ابن حجر: (فالتعبير بـ «نحو» من تصرف الرواة؛ لأنَّها تطلق على المثلية مجازًا)؛ ليس بشيء؛ لأنَّه قد ثبت في اللغة مجيء (نحو) بمعنى: مثل، يقال: هذا نحو ذلك؛ أي: مثله؛ فافهم، ذكره في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(ثم صلى ركعتين): قبل جفافه، ولو صلى عقبه فريضة؛ حصلت له هذه الفضيلة كما تحصل تحية المسجد بذلك، كما في «شرح المشكاة»، ومحل هذه الصلاة في كل وقت إلا الأوقات المنهية من طلوع الشمس إلى أن ترتفع، وعند استوائها إلى أن تزول، وعند اصفرارها إلى أن تغرب، وقال مالك: ليست هذه الصلاة من السنن، والحديث حجة عليه، والله أعلم.
(لا يحدِّث فيهما) أي: في الركعتين (نفسه)، وحديث النفس قسمان: ما يهجم عليها ويتعذر دفعه [1]، وما يسترسل معها ويمكن قطعه، فيحمل الحديث عليه دون الأول؛ لعسر اعتباره.
وقوله: (يحدث) من باب التفعيل، وهو يقتضي التكسُّب من أحاديث النفس، ودفع هذا ممكن، وأمَّا ما يهجم من الخواطر والوساوس؛ فإنَّه يتعذر دفعه؛ فيُعفَى عنه، ونقل عياض: أن المراد: من لم يحصل له حديث النفس أصلًا ورأسًا، وتعقَّبه النووي فقال: حصول هذه الفضيلة مع طرآن الخواطر العارضة غير المستقرة، نعم؛ من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلًا أعلى درجة بلا ريب، ثم حديث النفس يعمُّ الخواطر الدنيوية والأخروية، والحديث محمول على المعلَّق بالدنيا فقط؛ لما جاء في رواية في هذا الحديث ذكره الحكيم الترمذي في (الصلاة) بلفظ: «لا يحدِّث فيهما نفسه بشيء من الدنيا ثم دعا؛ إلا استجيب له»، انتهى، فإذا حدَّث نفسه فيما يتعلق بأمور الآخرة كالفكر في معاني المتلوِّ من القرآن، والمذكور من الدعوات والأذكار، أو في أمر محمود، أو مندوب إليه؛ فلا يضره ذلك، وقد ورد عن عمر بن الخطاب أنَّه قال: (لأجهِّز الجيش وأنا في الصلاة)، كذا في «عمدة القاري».
وفي هذا دليل واضح على أن الخشوع في الصلاة وغيرها غير شرط للصحة، بل هو مندوب ولا يسعنا غيره، خلافًا لمن زعم أنَّه شرط؛ فليحفظ.
وجواب الشرط قوله: (غُفِر له)؛ بضم الغين المعجمة بالبناء للمفعول، وفي رواية: (غفر الله له)، والجملة محلُّها رفع على الخبرية (ما تقدم): في محل رفع؛ لأنَّه مفعول ناب عن الفاعل (مِن): للبيان (ذنبه)؛ يعني: من الصغائر دون الكبائر، كذا هو مبيَّن في «مسلم»، وظاهر الحديث يعم جميع الذنوب، ولكنَّه خصَّ بالصغائر؛ لوروده مقيَّدًا باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وأمَّا الكبائر؛ فإنَّما تُكفَّر بالتوبة، وكذلك مظالم العباد.
فإن قيل: حديث عثمان رضي الله عنه الآخر الذي فيه: «خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره» مرتَّب على الوضوء وحده، فلو لم يكن المراد بما تقدم من ذنبه من هذا الحديث العموم والصغائر في ذلك؛ لكان الشيء مع غيره كالشيء لا مع غيره، فإنَّ فيه الوضوء والصلاة، وفي الأول الوضوء وحده وذلك لا يجوز.
وأجيب: بأن قوله: (خرجت خطاياه) لا يدل على خروج جميع ما تقدم له من الخطايا، فيكون بالنسبة إلى يومه أو إلى وقت دون وقت، وأمَّا قوله: (ما تقدم من ذنبه)؛ هو عام بمعناه وليس له بعض متيقن؛ كالثلاثة في الجمع؛ أعني: الخطايا، فيحمل على العموم في الصغائر.
وقال ابن حجر: وهو في حقِّ من له صغائر وكبائر، ومن ليس له إلا صغائر؛ كُفِّرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر؛ خُفِّف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن [ليس] له صغائر ولا كبائر له؛ يزاد في حسناته بنظير ذلك.
ورده في «عمدة القاري»: (بأن الأقسام الثلاثة الأخيرة غير صحيحة، أما الذي ليس له إلا صغائر؛ فله كبائر أيضًا؛ لأنَّ كل صغيرة تحتها صغيرة فهي كبيرة، وأمَّا الذي ليس له إلا كبائر؛ فله صغائر؛ لأنَّ كل كبيرة تحتها صغيرة، وإلا؛ لا تكون كبيرة، وأمَّا الذي ليس له [2] صغائر؛ فله كبائر أيضًا؛ لأنَّ ما فوق الصغيرة التي ليس تحتها صغيرة؛ فهي كبائر؛ فافهم) انتهى كلامه، وتمامه مبسوط في «كشف الحجاب عن العوام».
ثم قال في «عمدة القاري»: (والثواب الموعود به مرتب على أمرين؛ الأول: وضوءُه على النحو المذكور، والثاني: صلاته ركعتين عقيبه بالوصف المذكور في الحديث، والمرتَّب على مجموع أمرين لا يلزم ترتُّبه على أحدهما إلا بدليل خارج، وقد يكون للشيء فضيلة بوجود أحد جزئيه، فيصح كلام من أدخل هذا الحديث في فضل الوضوء فقط؛ لحصول مطلق الثواب، لا الثواب المخصوص على مجموع الوضوء على النحو المذكور والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور) انتهى، والله أعلم.
160# (وعن إبراهيم)؛ أي: ابن سعد السابق، فهو معطوف على قوله: (حدثني إبراهيم)، فهو موصول وليس بتعليق، كما زعم مغلطاي، والكرماني، وغيرهما، فقد أخرجه مسلم والإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بالإسنادين معًا وإن كانا جميعًا عند يعقوب؛ فلا مانع أن يكون عند الأويسي، ثم وجدت الحديث الثاني عند أبي عوانة في «صحيحه» من حديث الأويسي المذكور، قاله ابن حجر.
واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه لا يلزم من إخراج مسلم والإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن سعد موصولًا أن يكون كذلك عند المؤلف، غاية ما في الباب أنَّه يحتمل أن يكون معقَّبًا بحديث إبراهيم الأول؛ فيكون موصولًا، وبمجرَّد الاحتمال لا يتعيَّن نفي كونه معلقًا، والحال: أنَّ صورته صورة التعليق وإليه أقرب، وكذا لا يلزم من كونه عند أبي عوانة من حديث الأويسي أن يكون موصولًا عند المؤلف؛ لاحتمال عدم السماع منه، كما لا يخفى، وتمامه فيه؛ فليحفظ.
(قال: قال صالح بن كَيْسان)؛ بفتح الكاف وسكون المثناة التحتية، (قال ابن شهاب): محمد بن مسلم الزهري، فإبراهيم هنا يروي عن ابن شهاب بالواسطة؛ وهو صالح، وروى عنه في أول الباب بلا واسطة (ولكن عروة) أي: ابن الزبير بن العوام (يحدث عن حُمْرَان)؛ بضم الحاء المهملة، وهذا استدراك من ابن شهاب، وأشار إلى أنَّ شيخَي ابن شهاب في هذا الحديث؛ وهما عطاء بن يزيد وعروة بن الزبير اختلفا في روايتهما عن حُمران عن عثمان بن عفان؛ فحدَّث به عطاء على وجه، وعروة على وجه، وليس ذلك باختلاف؛ لأنَّهما حديثان متغايران، وقد رواهما معًا عن حُمران معاذ بن عبد الرحمن، فأخرج المؤلف من طريقه نحو سياق عطاء، ومسلم من طريقه نحو سياق عروة، وأخرجه أيضًا من طريق هشام بن عروة عن أبيه، كذا في «عمدة القاري».
وقال القسطلاني: فأمَّا صفة تحديث عطاء؛ فتقدَّمت، وأمَّا صفة تحديث عروة؛ فأشار إليها بقوله: (قال: فلما توضأ عثمان) رضي الله عنه، وسقط في رواية لفظة: (قال)، وهذا عطف على محذوف؛ تقديره: عن حمران أنَّه رأى عثمان دعا بإناء؛ فأفرغ على كفيه إلى أن قال: ثم غسل رجليه إلى الكعبين، فلمَّا توضَّأ؛ (قال: ألا) بفتح الهمزة، للتنبيه (أحدِّثكم)، وفي رواية الأربعة: (لأحدثَّنكم): جواب قسم محذوف؛ أي: والله لأحدثنَّكم (حديثًا)؛ بالنصب على أنه مفعول ثان لـ (أحدثنكم) (لولا)؛ لربط امتناع الثانية لوجود الأولى، نحو: لولا زيد؛ لأكرمتك؛ أي: لولا زيد موجود؛ لأكرمتك (آيةٌ): مبتدأ وخبره محذوف هنا وجوبًا؛ والتقدير: لولا آية ثابتة، وفي «مسلم»: (لولا آية في كتاب الله)، وقال القاضي عياض: (لولا آية): هكذا
%ص 123%
هو بالمدِّ والياء المثناة التحتية، ورواه الباجي: (لولا أنَّه)؛ بالنُّون؛ يعني: لولا أنَّ معنى ما أحدثكم به في كتاب الله؛ ما حدثتكم، وفي «المطالع»: قول عثمان: (لولا أنَّه في كتاب الله)؛ بالنُّونفيرواية يحيى، وجماعة معه، وكذا لابن ماهان في «مسلم»، وعند ابن مصعب، وابن وهب، وآخرين من رواية «الموطأ»: (لولا آية)، وهي رواية الجلودي في «مسلم»، وبهذا ظهر بطلان قول ابن حجر: صحَّف بعض رواته (آية)، فجعلها (أنَّه)؛ بالنُّون المشددة، وبهاء الشأن؛ فافهم.
وقوله: (ما حدثتكموه): جواب (لولا)، واللام محذوفة منه؛ ومعناه: لولا أنَّ الله تعالى أوجب على من علم علمًا إبلاغه؛ لما [3] كنت حريصًا على تحديثكم، ولما كنت مكترثًا [4] بتحديثكم، (سمعت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يقول) فالجملة محلها نصب على الحال: (لا يتوضأ)، وفي رواية: (لايتوضَّأنَّ)؛ بنون التوكيد الثقيلة (رجل) ومثله المرأة (فيحسن)، وفي رواية: بدون الفاء؛ أي: يحسن (وضوءه)؛ من الإحسان، ومعنى إحسان الوضوء: الإتيان به تامًّا بصفته، وآدابه، وتكميل سننه، وهو بالرفع عطف على قوله: (لا يتوضأ)، وكلمة الفاء هنا؛ بمعنى (ثم)؛ لأنَّ إحسان الوضوء ليس متأخِّرًا عن الوضوء حتى يعطف عليه بالفاء التعقيبية، وإنَّما موقعها موقع (ثم) التي هي لبيان المرتبة وشرفها، دلالة على أن الإحسان في الوضوء والإجادة فيه من محافظة السنن ومراعاة الآداب أفضل من أداء ما وجب مطلقًا، ولا شك أن الوضوء المحسنَ فيه أعلى رتبة من الغير المحسنِ فيه؛ فليحفظ.
(ويصلي الصلاة)؛ أي: المكتوبة، وفي رواية لمسلم: (فيصلي هذه الصلوات الخمس) (إلا غُفِر)؛ بضم الغين المعجمة، مبني للمفعول (له)؛ أي: لا يتوضأ رجل إلا رجل غفر له، فالمستثنى محذوف؛ لأنَّ الفعل لا يقع مستثنى، أو التقدير: لا يتوضَّأ رجل في حال إلا في حال المغفرة، فيكون الاستثناء من أعمِّ عام الأحوال (ما بينه وبين الصلاة)؛ أي: التي تليها، كما صرَّح به مسلم في رواية هشام بن عروة (حتى يصليها)؛ أي: يفرغ منها، ولفظة: (حتى) غاية لحصول [5] المقدَّر العامل في الظرف؛ لأنَّ الغفران لا غاية له، وقال ابن حجر: (معناه: أن يشرع في الصلاة الثانية)، وردَّه في «عمدة القاري»؛ حيث قال: وهذا معنى فاسد؛ لأنَّ قوله: «ما بينه وبين الصلاة»: يحتمل أن يراد به بين الشروع في الصلاة وبين الفراغ منها، ولمَّا كان المراد الفراغ منها؛ أشار عليه بقوله: «حتى يصليها»، ولهذا لم يكتف بقوله: «بين الصلاة»؛ لأنَّه لا يغني عن ذكر «حتى يصليها»؛ لما ذكرنا، انتهى، وتمامه في «كشف الحجاب عن العوام»، ثم قال في «عمدة القاري»: والمراد بهذا وأمثاله غفران الصغائر، كما سبق، وجاء في «مسلم»: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها؛ إلا كانت كفَّارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة»، وفي الحديث الآخر: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر»، لا يقال: إذا كفَّر الوضوء؛ فماذا تكفِّر الصلاة؟! وإذا كفَّرت الصلاة؛ فماذا تكفِّر الجمعات ورمضان؟! وكذا صيام عرفة يكفِّر سنتين، ويوم عاشوراء كفَّارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه؛ لأنَّا نقول: المراد: أنَّ كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفِّره من الصغائر؛ كفَّره، وإن لم يصادف صغيرة؛ رجي أن يخفف من الكبائر، والله تعالى أعلم.
(قال عروة: الآية): هي قوله تعالى: ({إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا})، زاد في رواية: ({مِنَ البَيِّنَاتِ})، وفي رواية: ({مَا أَنزَلْنَا .. } ... ؛ الآية)؛ أي: التي في سورة (البقرة) إلى قوله: { ... اللَّاعِنُونَ}، كما صرَّح به مسلم، وقد روى مالك في «الموطأ» هذا الحديث عن هشام بن عروة، ولم يقع في روايته تعيين الآية، فقال من نفسه: [6] أراه يريد: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، والصواب: قول عروة؛ يعني: لئلَّا يتكل الناس، فكيف بالنهي عن الكتمان أوجب عليه الحديث؛ مخافة الكتمان؟! والآية وإن كانت نزلت في أهل الكتاب، ولكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فدخل فيها كل من علَّم علمًا تعبَّد اللهُ العبادَ بمعرفته، ولزمه من تبليغه ما لزم أهل الكتاب منه، ففيه: أن الفرض على العالم تبليغ ما عنده من العلم؛ لأنَّ الله تعالى قد توعَّد الذين يكتمون ما أنزل الله باللعنة، وظاهر الحديث: يدل على أن المغفرة المذكورة لا تحصل إلا بالوصف المذكور وإحسانه والصلاة، وفي «الصحيح» من حديث أبي هريرة: «إذا توضأ العبد المسلم؛ خرجت خطاياه»، ففيه: أن الخطايا تخرج مع آخر الوضوء حتى يفرغ من الوضوء نقيًّا من الذنوب، وليس فيه ذكر الصلاة؛ فيحتمل أن يحمل حديث أبي هريرة عليها، لكن يبعده أنَّ في رواية لمسلم في حديث عثمان: «وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة»، ويحتمل أن يكون ذلك باختلاف الأشخاص، فشخص يحصل له ذلك عند الوضوء، وآخر عند تمام الوضوء، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (دفعها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] زيد في الأصل: (إلا)، ولعل حذفها هو الصواب
[3] في الأصل: (كما).
[4] في الأصل: (متكثرًا)، ولعله تحريف عن المثبت.
[5] في الأصل: (لحصل).
[6] في الأصل:.

==================
[1] في الأصل: (دفعها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] زيد في الأصل: (إلا)، ولعل حذفها هو الصواب
[3] في الأصل: (كما).
[4] في الأصل: (متكثرًا)، ولعله تحريف عن المثبت.
[5] في الأصل: (لحصل).
[1] في الأصل: (دفعها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] زيد في الأصل: (إلا)، ولعل حذفها هو الصواب
[3] في الأصل: (كما).
[4] في الأصل: (متكثرًا)، ولعله تحريف عن المثبت.
[5] في الأصل: (لحصل).

(1/292)


(25) [باب الاستنثار في الوضوء]
هذا (باب) طلب (الاستنثار في الوضوء)، و (الاستنثار): (استفعال) من النثر؛ بالنُّون والثاء المثلثة، والمراد به: الاستنشاق، كما مر، (ذكره)؛ أي: روى الاستنثار في الوضوء (عثمان)؛ أي: ابن عفان ثالث خلفاء النبي الأعظم عليه السلام، كما أخرجه المؤلف موصولًا في الباب الذي قبله، (و) رواه أيضًا (عبد الله بن زيد)؛ أي: ابن عاصم، لا صاحب الأذان، كما أخرجه المؤلف موصولًا في باب (مسح الرأس كله)، كما سيأتي، (و) رواه أيضًا (ابن عباس)، كما أخرجه المؤلف موصولًا في باب (غسل الوجه من غرفة)؛ كلهم (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، لكن ليس في حديث ابن عباس ذكر الاستنثار، وكأنَّ المؤلف أشار بذلك إلى ما رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم موقوفًا: (استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثًا)، قاله ابن حجر، واعترضه في «عمدة القاري»؛ حيث قال: ليس الأمر كما ذكره، بل في حديث ابن عباس الذي أخرجه المؤلف ذكر الاستنثار؛ فإنَّ أكثر الروايات فيه ذكر: (واستنثر) بدل (واستنشق)، وقوله: (وكأنَّه أشار ... ) إلخ، احتمال بعيد على ما لا يخفى، وحديث أبي داود أخرجه ابن ماجه أيضًا، وذكر الخلال عن أحمد أنَّه قال: في إسناده شيء؛ فافهم.
==========
%ص 124%

==================

(1/293)


[حديث: من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر]
161# وبه قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح المهملة، وسكون الموحدة: هو لقب عبد الله بن عثمان المروزي (قال: أخبرنا عبد الله): هو ابن المبارك (قال: أخبرنا يونس): هو ابن يزيد الأيلي، (عن الزهري): محمد بن مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو إدريس): عائذ الله؛ بالهمزة، والذال المعجمة، ابن عبد الله الخولاني؛ بالمعجمة، التابعي القاضي بدمشق لمعاوية رضي الله عنهما، المتوفى بقرية داريا الكبرى من أعمال دمشق سنة ثمانين، وقبره معروف يزار ويتبرك به: (أنَّه سمع أبا هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أنَّه قال) وسقط لفظ: (أنَّه) في رواية: (من توضأ) كلمة (من): موصولة تتضمن معنى الشرط، ولهذا دخلت الفاء في جوابه، وهو قوله: (فليستنثر)؛ أي: فليخرج الماء من الأنف بعد الاستنشاق مع ما في الأنف من مخاط، وغبار، ونحوه، وذلك لما فيه من المعونة على القراءة، وتنقية مجرى النفس الذي به التلاوة، وبإزالة ما
%ص 124%
فيه من التفل تصح مجارى الحروف، أو لما فيه من التنظيف وطرد الشيطان؛ لأنَّه روي عن أبي هريرة _كما أخرجها المؤلف في (بدء الخلق) _: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضَّأ؛ فليستنثر ثلاثًا؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه»، والخيشوم: أعلى الأنف، ونوم الشيطان عليه حقيقة، أو هو على الاستعارة؛ لأنَّ ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشياطين، فهو على عادة العرب في نسبتهم المستخبث والمستبشع إلى الشيطان، أو ذلك عبارة عن تكسُّله عن القيام إلى الصلاة، قلت: وهذا هو الظاهر، ولا مانع من حمله على الحقيقة.
وهل مبيته لعموم النائمين أو مخصوص بمن لم يفعل ما يحترس به في منامه كقراءة آية الكرسي؟
قلت: والظاهر: أنَّه مخصوص بذلك؛ فليحفظ.
وقدَّمنا أنَّ الأَولى أن يدخل إصبعه في أنفه؛ لأنَّه قد يوجد فيه بعض وسخ لزج لا يخرجه الماء، بل الإصبع، ثم هذا الأمر عند الإمام الأعظم والجمهور للندب، ويدلُّ له ما رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصحَّحه من قوله عليه السلام للأعرابي: «توضَّأ كما أمرك الله تعالى»، فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق، ولأن غسله باطن الوجه غير مأخوذ علينا في الوضوء، لكن ظاهر الأمر: أنَّه للوجوب، فيلزم من قال: بوجوب الاستنشاق؛ لورود الأمر به كأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر أنَّه يقول: بوجوب الاستنثار لذلك، ولأن الاستنثار إنَّما يكون من الاستنشاق، فلذا لم يذكره هنا، وهو ظاهر كلام صاحب «المغني» من الحنابلة، وقال ابن بطال: وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار لظاهر الحديث، وبما تقرر يعلم بطلان قول النووي: الإجماع على عدم وجوبه قائم، وليس القائل بالإجماع صاحب «عمدة القاري»، كما توهمه القسطلاني.
وأجاب ابن حجر عن حديث الأعرابي: بأنَّه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعمُّ من آية الوضوء، فقد أمر الله باتباع نبيه، وهو المبيِّن عن الله تعالى أمره، ولم يحكِ أحدٌ ممَّن وصف وضوءه عليه السلام أنَّه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهو يردُّ على من لم يوجب المضمضة أيضًا، وثبت الأمر بها أيضًا في «سنن أبي داود».
وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتجَّ على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافًا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل فقهي، فإنَّه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت عنه: أنَّه رجع عن إيجاب الإعادة.
وردَّه في «عمدة القاري»: بأن القرينة الحالية والمقالية ناطقة صريحًا بأنَّ المراد من قوله عليه السلام للأعرابي: «كما أمرك الله»: الأمر المذكور في آية الوضوء، وليس فيها ما يدلُّ على وجوب الاستنشاق، بل ولا على المضمضة، ولأنَّه لو كان الأمر أعم لبيَّن له عليه السلام كيفية الوضوء، ولما أحاله على الآية.
وقوله: (ولم يحك أحد ... ) إلخ: مردود؛ بأن الأعرابي قد ترك الاستنشاق والمضمضة؛ لأنَّه لم يوجد في الآية ذكرهما، فعمل بالآية حيث أحاله عليه السلام عليها، وقول ابن المنذر ... إلخ: يدلُّ على ما قلناه، وإن استدلَّ القائل على وجوبهما بمواظبة النبي عليه السلام عليهما من غير ترك، فإنَّه يلزمه أن يقول بوجوب التسمية أيضًا؛ لأنَّه لم ينقل أنَّه عليه السلام ترك التسمية فيه، ومع هذا فهي سنة أو مستحبة عند الجمهور حتى عند إمام هذا القائل الشافعي، انتهى بزيادة، وتمامه في «كشف الحجاب عن العوام».
ولم يذكر في هذه الرواية عددًا، وقد ورد في رواية سفيان عن أبي الزناد، ولفظه: «وإذا استنثر؛ فليستنثر وترًا»، أخرجه الحميدي في «مسنده»، وأصله لمسلم، وقوله: (وترًا) شامل للواحد والثلاث وما فوقهما من الأوتار، وورد في رواية للمؤلف [1]: «فليستنثر ثلاثًا»، كما ذكرناها، ويمكن أن تكون هذه الرواية مبينة لتلك الرواية، فتكون السنة فيه ثلاثًا كالاستنشاق؛ فافهم.
والمستحب: أن يستنثر بيده اليسرى، وقد بوَّب عليه النسائي، ويكره أن يكون بغير يده؛ لأنَّه يشبه فعل الدابة، وقيل: لا يكره.
(ومن): موصولة تتضمن معنى الشرط (استجمر): من الاستجمار؛ وهو مسح محل البول والغائط بالجمار؛ وهي الأحجار الصغار، لكن المراد الأعم يقال: الاستطابة والاستجمار والاستنجاء؛ لتطهير محل الغائط والبول، والاستجمار مختص بالمسح بالأحجار، والاستطابة والاستنجاء يكونان بالماء والأحجار، وقال ابن حبيب: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يتأوَّل الاستجمار هنا على إجمار الثياب بالمجمر، ونحن نستحب الوتر في الوجهين جميعًا، يقال في هذا: تجمر واستجمر، فيأخذ ثلاث قطع من الطيب أو يتطيب مرات واحدة بعد الأولى، وحكي ذلك عن مالك، لكن هذا لا يصح، والأظهر الصحيح: الأول، وإنما سُمِّي التمسح بالجمار التي هي الأحجار الصغار [استجمارًا]؛ لأنَّه يطيب المحل كما يطيبه الاستجمار بالبخور، ومنه سميت: جمار الحج؛ وهي الحصيات التي نرمي بها، أو هو محمول على تجمير سرير الميت عند الغسل إن لو صح ما قاله ابن حبيب، لكن نص غير واحد أنَّه غير مراد، والمراد ما ذكرناه؛ فليحفظ؛ فافهم.
وجواب الشرط قوله: (فليوتر)؛ أي: فليجعل الحجارة التي يستنجي بها فردًا إما واحدة أو ثلاثًا أو خمسًا، والواحد يطلق عليه: وتر بإجماع أهل اللغة؛ فافهم.
ففيه دليل ظاهر، وحجة مستقيمة لإمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه: إلى أن الاستنجاء ليس فيه عدد مسنون؛ لأنَّ الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث، والحديث دال على الإيتار فقط.
فإن قيل: تعيين الثلاث من نهيه عليه السلام عن أن يستنجي بأقل من ثلاث أحجار.
قلت: لمَّا دل حديث أبي هريرة الصحيح: «من فعل؛ فقد أحسن، ومن لا؛ فلا حرج» على عدم اشتراط التعيين؛ حمل هذا على أن النهي فيه كان لأجل الاحتياط؛ لأنَّ التطهير غالبًا إنَّما يحصل بالثلاث، ونحن أيضًا نقول: إذا تحقق شخص أنَّه لا يطهر إلا بالثلاث؛ يتعين عليه الثلاث، والتعيين ليس لأجل التوقيت فيه، وإنما هو للإنقاء الحاصل فيه حتى إذا احتاج إلى رابع أو خامس وهلمَّ جرًّا؛ يتعين عليه ذلك؛ فافهم، وهو مذهب مالك وغيره.
وزعم البرماوي وتبعه العجلوني بأنَّه يلزم استعمال الأمر في حقيقته ومجازه معًا، وهو مردود، بل هو من باب عموم المجاز، وهو أن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز، كما عرف في كتب الأصول، كما لا يخفى على من له أدنى وصول؛ فافهم.
وبما قررناه؛ اندفع قول الخطابي: فيه دليل على وجوب عدد الثلاث؛ إذ إنَّه لم يرد به الوتر الذي هو واحد فرد؛ لأنَّه زيادة صفة على الاسم، والاسم لا يحصل بأقل من واحد، يعلم أنَّه إنَّما قصد به ما زاد على الواحد وأدناه ثلاث؛ فانظر وتعجب من هذه المكابرة والمحاولة.
وفي الحديث: دلالة على نفي وجوب الاستنجاء للإتيان فيه بحرف الشرط، وهو ظاهر، وقدر بعضهم فقال: ومن أراد أن يستجمر؛ فليوتر، فلا يبقى فيه دلالة على وجوب الاستجمار، فثبت أنَّ الاستنجاء بالماء وبالأحجار سنة لا واجب، وهو مذهب إمامنا الإمام الأعظم والجمهور خلافًا للشافعي؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (المؤلف)، ولعل المثبت هو الصواب.

==================

(1/294)


(26) [باب الاستجمار وترًا]
هذا (باب) طلب (الاستجمار) أي: بالأحجار (وَِترًا)؛ بكسر الواو وفتحها، وجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ المذكور في الباب السابق حكمان؛ الاستنثار والاستجمار وِترًا، والباب معقود للأول، وهذا الباب فيه ثلاثة أشياء؛ أحدها: الاستجمار وترًا، فاقتضت المناسبة أن يعقد بابًا على الحكم الآخر الذي عقد لقرينة ولم يعقد له؛ لأنَّ ما فيه حكمان وأكثر ذكر بعضها تلو بعض من وجوه المناسبة، ولا يلزم أن يكون المناسبة في الذكر بين شيئين من كل وجه سيما في كتاب يشتمل على أبواب كثيرة، والمقصود منها عقد التراجم، فاندفع بهذا كلام من يقول تخليل هذا الباب بين أبواب الوضوء _وهو باب الاستنجاء_ ومرتبته التقديم على أبواب الوضوء غير موجه، كذا في «عمدة القاري»، وهو أوجه وأظهر من جواب الكرماني وجواب ابن حجر؛ لأنَّ كلًّا [1] منهما لا يخلو عن ركاكة وتعسف، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
==========
[1] في الأصل: (كل)، وليس بصحيح.
%ص 125%

==================

(1/295)


[حديث: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر]
162# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس، (عن أبي الزِناد)؛ بكسر الزاي، وبالنُّون: عبد الله بن ذكوان؛ بالذال المعجمة، (عن الأعرج): هو عبد الرحمن بن هرمز، (عن أبي هريرة)؛ هو عبد الرحمن بن صخر
%ص 125%
رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال): جملة محلها رفع خبر (أنَّ): (إذا) للشرط (توضأ)؛ أي: أراد أن يشرع في الوضوء (أحدكم) وجواب الشرط مع الفاء قوله: (فليجعل في أنفه)؛ أي: فيصير، يقال: جعلته كذا؛ أي: صيرته، وقيل: معناه: فليُلْقِ، والأول أظهر، وفي الكلام حذف المفعول؛ لدلالة الكلام عليه؛ والتقدير: فليجعل في أنفه ماء، وهي رواية الأكثر، وفي رواية أبي ذر: (فليجعل في أنفه ماء)؛ بدون الحذف، وكذا اختلفت رواة «الموطأ» في إسقاطه وذكره، وثبت ذكره لمسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد، (ثم لينْثُر)؛ بضم المثلثة بعد النُّون الساكنة، من الثلاثي المجرد، وفي رواية: (ثم لينتثر)؛ بزيادة مثناة فوقية بين النُّون والمثلثة، من باب الافتعال، وقد جاءت الروايتان في «الموطأ»، قال الفراء: يقال: نثر الرجل، وانتثر، واستنثر؛ إذا حرك النثرة؛ وهي طرف الأنف في الطهارة، وقد سبق الكلام عليه، وهذه الجملة معطوفة على (فليجعل)، أفاده في «عمدة القاري»، (ومن استجمر) بالأحجار، والجملة شرطية، وجوابه قوله: (فليوتر)؛ بواحد أو بثلاث أو بخمس إلى أن يحصل الإنقاء، فليس فيه عدد مسنون، بل المقصود إنقاء المحل، هذا مذهب الإمام الأعظم، والإمام مالك، والجمهور، كما سبق الكلام عليه.
وفيه: أن موضع الاستنجاء لا يطهر بالمسح بالأحجار، بل يبقى نجسًا معفوًا عنه في حق الصلاة حتى إذا أصاب موضع المسح بللٌ وابتلَّ به سراويله أو قميصه؛ ينجسه، بناء على أن الحجر مخفف لا قالع، وهذا أحد قولين، وهو المعتمد، والثاني: أنَّه يطهر، ولو وقع في الماء؛ لا ينجسه.
(وإذا استيقظ): الاستيقاظ بمعنى التيقظ، وهو لازم، وهو عطف على قوله: (إذا توضأ)، والظاهر من سياق المؤلف أنَّه حديث واحد، لكن قال ابن حجر: إنَّه أخرجه أبو نعيم من «الموطأ» مفرقًا، وكذا فرَّقه الإسماعيلي، وأخرج مسلم الحديث الأول من طريق ابن عيينة، والثاني من طريق المغيرة، وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّه لا يلزم من ذلك كله ألَّا يكون الحديث واحدًا، وقد يجوز أن يُروَى حديث واحد مقطعًا من طرق مختلفة، فمثل ذلك وإن كان حديثين أو أكثر بحسب الظاهر؛ فهو في نفس الأمر حديث واحد؛ فافهم، انتهى.
(أحدكم من نومه): ظرف لغو أو حال، قيد به؛ ليخرج النعاس والغفلة، وأضاف النوم إلى ضمير (أحدكم)؛ ليخرج نومه عليه السلام، فإنَّه ينام عينه دون قلبه، واستدل بإطلاقه إمامنا الإمام الأعظم والجمهور: على أنَّ غمس اليدين في إناء الوضوء مكروه قبل غسلهما سواء كان عقيب نوم الليل أو نوم النهار، وخصَّ أحمد الكراهة بنوم الليل؛ لقوله: «أين باتت يده»، والمبيت لا يكون إلا ليلًا، ولأنَّ الإنسان لا ينكشف لنوم النهار كما لنوم الليل، فتطوف يده في أطراف بدنه كما تطوف يد النائم ليلًا، فربَّما أصابت موضع العورة، وقد يكون هناك لوث من أثر النجاسة، ويؤيِّد ذلك ما في رواية أبي داود _ساق إسنادها مسلم_: «إذا قام أحدكم من الليل»، وكذا للترمذي من وجه آخر صحيح، وفي رواية لأبي عوانة _ساق مسلم إسنادها_: «إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح»، وأجابوا: بأن العلَّة تقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وتخصيص نوم الليل بالذكر للغلبة، وقال النووي: مذهبنا: أن الحكم ليس مخصوصًا بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها؛ يستحب غسلها سواء قام من النوم ليلًا أو نهارًا، أو لم يقم منه؛ لأنَّه عليه السلام نبه على العلَّة بقوله: «فإنَّه لا يدري»؛ ومعناه: لا يأمن النجاسة على يده، وهذا عام؛ لاحتمال وجود النجاسة في النوم فيهما وفي اليقظة، انتهى.
وكلمة: (إذا) للشرط، وجوابه قوله: (فليغسل يده)؛ بالإفراد؛ أي: ثلاثًا، كما صرح به مسلم، فغسل اليدين قبل الشروع في الوضوء سنة، وذلك لأنَّ أول الحديث يقتضي وجوب الغسل للنهي عن إدخال اليد في الإناء قبل الغسل، وآخر الحديث يقتضي استحباب الغسل للتعليل بقوله: «فإنَّه لا يدري أين باتت يده»؛ يعني: في مكان طاهر من بدنه أو نجس، فلما انتفى الوجوب لمانع في التعليل المنصوص؛ ثبتت السنية؛ لأنَّها دون الوجوب، والقول بالسنية متوسط، والكراهة تنزيهية؛ لأنَّ النهي فيه مصروف عن التحريم بقوله: «فإنَّه لا يدري أين باتت يده»، فالنهي محمول على الإناء الصغير، أو الكبير إذا كان معه إناء صغير؛ فلا يدخل يده فيه أصلًا، وفي الكبير على إدخال الكف، كذا في «المستصفى»، لكن في «الخانية»: أنَّ المُحدِث أو الجنب إذا أدخل يده في الإناء للاغتراف وليس عليهما نجاسة؛ لا يفسد الماء، وكذا إذا وقع الكوز في الحُب فأدخل يده إلى المرفق؛ لا يصير الماء مستعملًا، انتهى.
وإنما لم يصر مستعملًا؛ لعدم النية، أمَّا لو نوى؛ فإنَّه يصير مستعملًا؛ لأنَّه ارتفع به الحدث، فالملاقى مستعمل، والكراهة باقية، وقيد الإمام القدوري والمرغيناني في «الهداية» الغسل بالمستيقظ، كما في الحديث، قال الشراح: وهذا القيد اتفاقي تبركًا بالحديث، والسنة تشمل المستيقظ وغيره، وعليه الجمهور، ومن المشايخ من قال: إنَّه قيد احترازي، وإنَّ غسلها لغير المستيقظ أدب، كما في «السراج»، وإنَّ الحديث خرج مخرج العادة؛ لأنَّهم كانوا في العهد الأول ينامون بدون الاستنجاء، فربما تطوف اليد حالة النوم فتقع على نجاسة، وهو مفهوم من قوله: «فإنَّه لا يدري أين باتت يده»، ثم اطرد الحكم في المستيقظ وغيره، قال الإمام العلَّامة المنلا علي القاري: (ولأن توهم النجاسة في اليد تكون للمستيقظ غالبًا، ولذا مع الاستيقاظ، وتوهم النجاسة آكد) انتهى.
وذكر نحوه في «البحر»، وقال في «النهر»: (الأصح الذي عليه الأكثر أنَّه سنة مطلقًا، لكنه عند توهم النجاسة مؤكدة، كما إذا نام لا عن استنجاء أو كان على بدنه نجاسة، وغير مؤكدة عند عدم توهمها؛ كما إذا نام لا عن شيء من ذلك أو لم يكن مستيقظًا من نوم) انتهى، وهذا هو المعتمد، كما في «منهل الطلاب»، فمذهب عامة أهل العلم: أنَّ الأمر محمول على السنية، وله أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها، وأنَّ الماء طاهر ما لم يتيقن [1] نجاسة يده، روي ذلك عن ابن سيرين، والنخعي، وابن جبير، والبراء بن عازب، وهو مذهب الإمام الأعظم، وقال أحمد: إذا انتبه من النوم فأدخل يده في الماء قبل الغسل؛ أعجب أن يريق ذلك الماء إذا كان من نوم الليل، ولا يهراق في قول مالك، وعطاء، والأوزاعي، والشافعي، واختلف في المستيقظ من نوم النهار؛ فقال الحسن البصري: نوم النهار ونوم الليل واحد في غمس اليد، وهو مذهب الإمام الأعظم، وسهَّل أحمد في نوم النهار، ونهى عن ذلك في نوم الليل، وذهب داود والطبري إلى إيجاب ذلك، وأن الماء يجزئه إن لم تكن اليد مغسولة، قال ابن حزم: سواء تباعد ما بين نومه ووضوئه أو لم يتباعد، فلو صب على يديه من إناء دون أن يدخل يده فيه؛ لزمه غسل يده أيضًا ثلاثًا إن قام من نومه، وتمامه في «عمدة القاري».
(قبل أن يدخلها في وَضوئه)؛ بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به، وفي رواية مسلم وابن خزيمة: (فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها)، فقوله: (في الإناء) وإن كان عامًّا، لكن القرينة دلت على أنَّه إناء الماء؛ بدليل قوله في هذه الرواية: (في وضوئه)، ولكن الحكم لا يختلف بينه وبين غيره من الأشياء الرطبة، وفي رواية البزار: (فلا يغمسنَّ)؛ بنون التأكيد المشددة، ولم يقع هذا إلا في رواية البزار، والروايات التي فيها الغمس أبين في المراد من الروايات التي فيها الإدخال؛ لأنَّ مطلق الإدخال لا يترتب عليه كراهة كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن يلامس يده الماء، فالمراد بـ (الإناء): هو الإناء الذي فيه الماء؛ كالبرك والحياض المنقطعة، أمَّا إذا كان الماء جاريًا أو كان منقطعًا لكنه يبلغ عشرًا في عشر، فإنَّه لو أدخل يده؛ لا يفسد الماء على تقدير نجاستها، فلا يشملها النهي، وظاهر قول مسلم:
%ص 126%
(في الإناء) اختصاص ذلك بإناء الوضوء، لكن يلتحق به إناء الغسل؛ لأنَّه وضوء وزيادة، وكذا باقي الآنية قياسًا، ففيه: دليل على أنَّ الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات؛ لأنَّ النبي الأعظم عليه السلام أمر للقائم من الليل بإفراغ الماء على يديه مرتين أو ثلاثًا؛ لأنَّهم كانوا يتغوطون ويبولون، ولا يستنجون بالماء، وربما كانت أيديهم تصيب المواضع النجسة فينجس، فإذا كانت الطهارة تحصل بهذا العدد من البول والغائط؛ وهو أغلظ النجاسات؛ كان أولى وأحرى أن يحصل مما دونهما من النجاسات، وهل تغسل اليدان مجتمعين أو متفرقين، فيه اختلاف؛ لما وقع في الاختلاف الوارد في الأحاديث، ففي بعض الطرق: (فغسل يديه مرتين مرتين)، وهو يقتضي الإفراد، وفي بعض طرقه: (فغسل يديه مرتين)، وهو يقتضي الجمع، وقدمنا أنَّ السنة الجمع؛ لأنَّه أكثر في الأحاديث.
فإن قلت: كان ينبغي ألَّا تُبْقى السنة؛ لأنَّهم كانوا يتوضؤون من الأتوار، فلذا أمرهم عليه السلام بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وأمَّا في هذا الزمان؛ فقد تغير ذلك؟
وأجيب: بأن السنة لما وقعت سنة في الابتداء؛ أبقيت ودامت وإن لم يبق ذلك المعنى؛ لأنَّ الأحكام إنَّما تحتاج إلى أسبابها حقيقة في ابتداء وجودها لا في بقائها؛ لأنَّ الأسباب تبقى حكمًا وإن لم تبق حقيقة؛ لأنَّ للشارع ولاية الإيجاد والإعدام، فجعلت الآنيات الشرعية بمنزلة الجواهر في بقائها حكمًا، وهذا كالرَّمَل في الحج وغيره؛ فليحفظ.
وقدمنا أن قوله: (في الإناء) محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة؛ كالكوز، أو كبيرة؛ كالحُب، أو معه آنية صغيرة، أمَّا إذا كانت الآنية كبيرة وليست معه آنية صغيرة؛ فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة، حتى لو أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء دون الكف، ويرفع الماء من الحُب ويصب على يده اليمنى، ويدلك الأصابع بعضها في بعض، يفعل ذلك ثلاث مرات، ثم يدخل يده اليمنى بالغًا ما بلغ في الإناء إن شاء، وهذا اختيار علمائنا، وقال النووي: (وإذا كان الماء في الإناء وكان كبيرًا بحيث لا يمكن الصب منه، وليس معه إناء صغير يغترف به؛ فطريقه أن يأخذ الماء بفمه، ثم يغسل به كفيه، أو يأخذه بطرف ثوبه النظيف، أو يستعين بغيره).
قلت: وما ذكره علماؤنا الأعلام أحسن من وجوه، ويلزم على ما ذكره النووي أنَّه لو عجز عن أخذه بفمه بأن كانت أسنانه مقلوعة ولم يعتمد على طهارة ثوبه، ولم يجد من يستعين به ماذا يفعل؟ على أنَّه في أخذه الماء بفمه عسر وحرج وهو مدفوع بالنص، وأيضًا فإنَّه يصير الماء مستعملًا؛ لأنَّه قد ارتفع الحدث عن فمه، وأخذه الماء بطرف ثوبه فيه إتلاف الثوب، وهو منهي عنه؛ لأنَّه إسراف، والاستعانة بغيره فيها عدم التواضع للعبادة، فما قاله علماؤنا خال عن هذه المنهيات؛ فافهم.
نعم؛ لو كانت يداه متنجستين؛ فإنَّه يفعل كما قاله النووي، وقد صرح به في «المضمرات» و «منهل الطلاب» حيث قالا: (فإنَّه يأمر غيره أن يغترف بيديه ليصب على يديه ليغسلهما، وإن لم يجد؛ يرسل في الماء منديلًا، ويأخذ طرفه بيده، ثم يخرجه من البئر، فيغسل يديه بالماء الذي يتقاطر ثلاثًا، فإذا لم يجد؛ يرفع الماء بفمه فيغسل يديه، وإن لم يقدر؛ فإنَّه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه) انتهى.
وإنما أبحنا له الاستعانة بغيره وأخذه الماء بفيه، وأخذه بطرف ثوبه؛ لأنَّ غسل يديه من النجاسة المحققة فرض بالإجماع، فلو أدخل بعض إصبعه؛ تنجس الماء، وفي مسألة رفع الماء بفيه اختلاف، والصحيح: أنَّه يصير مستعملًا، وهو مزيل للخبث، كما في «البحر»؛ فليحفظ.
(فإن أحدكم): الفاء للتعليل؛ أي: فهو تعليل للأمر بغسل اليد، وهذا خطاب للعقلاء البالغين المسلمين، فإن كان القائم من النوم صبيًّا، أو مجنونًا، أو كافرًا؛ فذكر في «المغني»: أن فيه وجهين؛ أحدهما: أنَّه كالمسلم البالغ العاقل، والثاني: أنَّه لا يؤثر غمسه شيئًا؛ لأنَّ المنع من الغمس إنَّما يثبت بالخطاب، ولا خطاب في حق هؤلاء، وقال البيضاوي: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة؛ لأنَّ الشارع إذا ذكر حكمًا وعقبه بعلة؛ دل على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات: «فإنَّه يبعث ملبيًا» بعد نهيهم عن تطييبه نبه على علة النهي، وهي كونه محرمًا.
(لا يدري أين): وهي للسؤال عن المكان، بنيت لتضمنها حرف الاستفهام (باتت يده)؛ أي: من جسده، والمراد بها الجنس، وأن يكون الغسل ثلاثًا لرواية مسلم، وأبي داود، وغيرهما: (فليغسلها ثلاثًا)، وفي رواية: (ثلاث مرات)، فيستفاد منه استحباب غسل النجاسات ثلاثًا؛ لأنَّه إذا أمر به في المتوهمة؛ ففي المحققة أولى، ولم يرد شيء فوق الثلاث إلا في ولوغ الكلب، وسيجيء أنَّه عليه السلام أوجب فيه الثلاث، وخير فيما زاد، ويستفاد أيضًا منه أن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل، ولا يؤثر فيها الرش؛ لأنَّه عليه السلام أمر بالغسل، ولم يأمر بالرش، ولأنَّ المقصود إزالة عين النجاسة، وهو لا يكون إلا بالغسل، وبالرش تتضمخ النجاسة وتزداد، فلا فائدة فيه، كما لا يخفى على أولي الألباب.
والمراد باليد هنا: الكف إلى الكوع دون ما زاد عليها اتفاقًا، وقال الشافعي: معنى «لا يدري أين باتت يده»: إن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم؛ عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس، أو على بثرة أو قذر، وتعقبه الباجي: بأن ما قاله يستلزم الأمر بغسل ثوب النائم؛ لجواز ذلك عليه.
وأجيب عنه: بأنَّه محمول على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل، وردَّ: بأن اليد التي منصوبة في الهوى إذا عرقت؛ فالمحل المستتر يعرق بالطريق الأولى على ما لا يخفى، فلا وجه حينئذٍ لاختصاص اليد بذلك، وقول من قال: إنَّه مختصٌّ بالمحلِّ؛ ينافيه ما رواه ابن خزيمة وغيره في هذا الحديث، وقال في آخره: (أين باتت يده منه)، وأصله في مسلم دون قوله: (منه)، وذكرها ابن منده، وتمامه في «عمدة القاري».
واختلف في أن علة الأمر التنجس أو التعبد؛ فالجمهور على أن ذلك لاحتمال النجاسة، ومقتضاه إلحاق من شك في ذلك ولو كان مستيقظًا، ويفهم منه أن من درىأين باتت يده؛ كمن لفَّ عليها خرقة مثلًا فاستيقظ وهي على حالها؛ فلا كراهة وإن كان غُسلها مستحبًّا، كما في المستيقظ، وقال مالك: إن ذلك للتعبد؛ فعلى قوله لا يفرق بين شاك ومتيقن.
وقوله: (فليغسل يده): يتناول ما إذا كانت يده مطلقة أو مشدودة بشيء أو جراب، أو كون النائم عليه سراويل أو لم يكن؛ لعموم اللفظ؛ فتأمل.
وفي الحديث: استحباب استعمال الكنايات في المواضع التي فيها استهجان، ولهذا قال عليه السلام: «فإنَّه لا يدري أين باتت يده»، ولم يقل: فلعلَّ يده وقعت على دبره، أو ذكره، أو نجاسة، أو غير ذلك، وإن كان هذا معنى قوله عليه السلام، وهذا إذا علم أنَّ السامع يفهم بالكناية المقصودة، فإن لم يكن كذلك؛ فلا بد من التصريح؛ لينتفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحًا.
ويستفاد من الحديث: أن الماء القليل تؤثر فيه النجاسة وإن لم تغيره، وإلَّا؛ لا يكون للنهي فائدة.
وفيه: أن الماء يتنجس بورود النجاسة عليه، وهو بالإجماع، وأمَّا ورود الماء على النجاسة؛ ففيه خلاف قرره في «عمدة القاري»، وينبغي للسامع عن النَّبيِّ الأعظم عليه السلام شيئًا من قول أو فعل أن يتلقاه بالقبول وعدم الإنكار، ففي «شرح مسلم»: أن بعض المبتدعة لما سمع هذا الحديث؛ قال متهكمًا: أنا أدري أين باتت يدي، باتت في الفراش، فأصبح وقد دخلت يده في دبره إلى ذراعه، وقيل: إنَّ رجلًا كان يسيء الاعتقاد في أهل الخير والصلاح، وله ابن يعتقدهم، فجاء ولده من
%ص 127%
عند شيخ صالح ومعه مسواك، فقال له والده مستهزءًا: أعطاك شيخك هذا السواك، فأخذه وأدخله في دبر نفسه؛ استحقارًا له، فبقي مدة، ثم ولد لذلك الرجل الذي استدخل السواك جرو قريب الشبه بالسمك، فقتله، ثم مات الرجل حالًا أو بعد يومين، انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يتقن)، وليس بصحيح.

==================

(1/296)


(27) [باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين]
هذا (باب غسل الرِّجلين) في الوضوء (ولا يمسح على القدمين)؛ أي: إذا كانتا عاريتين، وكأنَّ المؤلف فهم من الحديث: أنَّ الإنكار عليهم إنَّما كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرِّجل، فلأجل ذلك قال المؤلف: (ولا يمسح على القدمين)، وتمامه في «عمدة القاري»، وهذا أولى مما ذكره الشيخ إسماعيل العجلوني في «شرحه»، فإنَّه خبط وخلط؛ فافهم.
==========
%ص 128%

==================

(1/297)


[حديث: تخلف النبي عنا في سفرة سافرناها فأدركنا]
163# وبه قال: (حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (موسى): هو ابن إسماعيل التبوذكي، (قال: حدثنا): وفي رواية: (أخبرنا) (أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة: هو الوضاح اليشكري، (عن أبي بِشْر)؛ بكسر الموحدة، وسكون المعجمة: جعفر بن أبي وحشية الواسطي، (عن يوسف بن ماهَِك)؛ بكسر الهاء وفتحها، بالصرف وعدمه، (عن عبد الله بن عمرو): هو ابن العاصي القرشي (قال: تخلَّف)؛ بتشديد اللام؛ أي: تأخر خلفنا (النَّبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عنا في سَفرة)؛ بفتح السين المهملة؛ أي: مرة من السفر (سافرناها): وفي رواية إسقاط لفظ: (سافرناها)، وظاهره أنَّ عبد الله بن عمرو كان في تلك السفرة، ووقع في رواية لمسلم أنَّها كانت من مكة إلى المدينة، ولم يقع ذلك لعبد الله محققًا إلا في حجة الوداع، أمَّا غزوة الفتح؛ فقد كان فيها، لكن ما رجع النَّبيُّ الأعظم عليه السلام فيها إلى المدينة من مكة، بل من الجعرانة، ويحتمل أن يكون عمرة القضاء، فإنَّ هجرة عبد الله بن عمرو كانت في ذلك الوقت أو قريبًا منه، كذا في «عمدة القاري»، ومثله في «فتح الباري».
وأقول: رجوعه من الجعرانة إلى المدينة كان بعد أن دخل مكة ورجع منها إلى الجعرانة، وحينئذٍ فيصدق عليه أنَّه رجع من مكة إلى المدينة؛ فتأمل.
(فأدركَنا)؛ بفتح الكاف؛ أي: لحق بنا النَّبيُّ الأعظم عليه السلام (وقد أرهَقَنا العصر)؛ بفتح الهاء والقاف، من الإرهاق، و (العصرُ)؛ بالرفع فاعله؛ أي: أدركتنا صلاة العصر وغشينا وقتها، وفي رواية: بإسكان القاف، ونصب (العصر) على المفعولية؛ أي: أخرناها حتى دنا وقتها للغروب، ويقوي الأول رواية الأصيلي: (وقد أرهقتنا)؛ بتأنيث الفعل، وبرفع (العصر) على الفاعلية، وكأنَّ الصحابة أخَّروا الصلاة عن أول الوقت؛ لكونهم على طهر، أو لرجاء الوصول إلى الماء، ويدل له رواية مسلم: (حتى إذا كنا بماء بالطريق؛ تعجل قوم عند العصر_أي: قرب دخول وقتها_ فتوضؤوا وهم عجال)، أو طمعًا لأنَّ يلحقهم النَّبيُّ الأعظم عليه السلام، فيصلوا معه، فلما ضاق الوقت؛ بادروا إلى الوضوء، (فجعلنا نتوضأ ونمسح)؛ أي: نغسل غسلًا خفيفًا؛ أي: مبقعًا حتى يرى كأنَّه مسح (على أرجلنا)؛ لعجلتهم، فلم يسبغوه، فأدركهم النَّبيُّ الأعظم عليه السلام على ذلك، فأنكر عليهم، وهذا من مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي القسمة على الرجال، ولكل رجل رجلان.
(فنادى) عليه السلام (بأعلى صوته: ويل)؛ بالرفع مبتدأ، وإن كان نكرة؛ لأنَّه دعاء، واختلف في معناه على أقوال؛ أظهرها ما رواه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي سعيد مرفوعًا: «ويل: واد في جهنم» (للأعقاب)؛ أي: لأصحابها المقصِّرين في غسلها (من النار): ويحتمل أن يبقى على ظاهره فيختص العذاب بها إذا قصر في غسلها؛ لأنَّ مواضع الوضوء لا تمسها النار؛ كمواضع السجود، قال في «عمدة القاري»: (واللام في «للأعقاب»: للعهد؛ لأنَّ المراد المرئية من ذلك؛ أي: ويلحق بها ما يشاركها في ذلك) انتهى.
ومثله في «فتح الباري».
وأقول: ولو حملت اللام على الجنس في الأعقاب المرئية وغيرها؛ لم يحتج إلى الإلحاق؛ فتأمل، والعقب: مؤخر القدم.
(مرتين أو ثلاثًا): شك من عبد الله بن عمرو، وهو صفة لمصدر محذوف؛ أي: نادى نداء مرتين أو ثلاثًا، واستنبط من الحديث: الرد على الشيعة الروافض القائلين بأن الواجب المسح، أخذًا بظاهر قراءة الجَرِّ في: {وَأَرْجُلِكُمْ} [المائدة: 6]؛ لأنَّه لو كان الفرض المسح؛ لما توعد عليه بالنار، واستدل الحافظ أبو جعفر الطحاوي على ذلك بأنَّه لما أمرهم بتعميم غسل الرِّجلين حتى لا يبقى منها لمعة؛ دل على أن فرضها الغسل، واعترضه ابن المنير بأن التعميم لا يستلزم الغسل، فالرأس يعم بالمسح وليس فرضه الغسل.
وأجيب كما في «عمدة القاري»: بأن هذا لا يرد عليه أصلًا؛ لأنَّ كلامه فيما يغسل، فأمره بالتعميم يدل على فرضية الغسل في المغسول، والرأس ليس بمغسول؛ فافهم.
وقد تواترت الأخبار عن النَّبيِّ الأعظم عليه السلام في صفة وضوئه أنَّه غسل رجليه، وهو المبين لأمر الله تعالى، وقد قال في حديث عمرو بن عبسة الذي رواه ابن خزيمة وغيره مطولًا في (فضل الوضوء): (ثم يغسل قدميه كما أمره الله تعالى)، ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي، وابن عباس، وأنس، وقد ثبت رجوعهم عنه، وروى سعيد بن منصور، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: اجتمع أصحاب رسول الله عليه السلام على غسل القدمين، انتهى كلامه؛ فليحفظ.
وقال الحافظ الطحاوي: (إنَّ المسح عليها منسوخ)، ومثله قال ابن حزم، وقد أشبعنا الكلام على ذلك فيما تقدم، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 128%

==================

(1/298)


(28) [باب المضمضة في الوضوء]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (المضمضة): مبتدأ، خبره قوله: (من الوضوء): وفي رواية: (باب المضمضة في الوضوء)؛ بالإضافة، ويجوز فيه التنوين أيضًا، والإعراب كالإعراب، وأصل المضمضة في اللغة: التحريك، ومنه: مضمض النعاس في عينيه؛ تَحَرَّكَتَا به، والأصح عندنا: أن المجَّ ليس بشرط، والتحريك شرط، (قاله ابن عباس) رضي الله عنهما، والضمير يرجع إلى المضمضة، وهو في الأصل مصدر يستوي فيه التذكير والتأنيث، أو يكون تذكير الضمير باعتبار المذكور، فاندفع ما يقال: الضمير مذكر ومرجعه مؤنث، والقول هنا بمعنى الحكاية، كما في: قلت شعرًا، أو قلت قصيدة، فاندفع ما يقال: مقول القول ينبغي أن يكون جملة، وهنا مفرد، والمعنى: حكاه ابن عباس، ولا حاجة إلى قول الكرماني معنى (قاله): قال به، فإنَّه بعيد؛ فافهم، وحديث ابن عباس تقدم موصولًا في (الطهارة).
(وعبد الله بن زيد)؛ أي: ابن عاصم كما يأتي موصولًا في باب (غسل الرجلين إلى الكعبين)، كلاهما (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم).
==========
%ص 128%

==================

(1/299)


[حديث: مَن توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين]
164# وبالسند إليه قال: (حدثنا أبو اليمان)؛ أي: الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب): هو ابن أبي حمزة، (عن الزهري): محمد بن مسلم ابن شهاب، (قال: أخبرني)؛ بالإفراد (عطاء بن يَزيد)؛ بفتح أوله، من الزيادة، (عن حُمران)؛ بضم الحاء المهملة (مولى عثمان بن عفان) رضي الله عنهما: (أنَّه)؛ أي: حُمران (رأى)؛ أي: أبصر، فلا تقتضي إلا مفعولًا واحدًا؛ أي: (عثمان): زاد الأصيلي: (ابن عفان) (دعا)؛ أي: عثمان (بوَضوء)؛ بفتح الواو،
%ص 128%
وفي باب (الوضوء ثلاثًا ثلاثًا): (دعا بإناء فيه ماء للوضوء)، (فأفرغ)؛ أي: فصب (على يديه) بالتثنية (من إنائه فغسلهما ثلاث مرات)؛ أي: قبل أن يدخلهما في الإناء، وفي السابقة: (فأفرغ على كفيه ثلاث مرار)، (ثم أدخل يمينه في الوَضوء)؛ بفتح الواو؛ أي: فأخذ منه، (ثم تمضمض): ولأبي ذر: (ثم مضمض)؛ بحذف المثناة؛ أي: أدخل الماء بفيه، وحرَّكه، ومجَّه، (واستنشق)؛ بأن جذب الماء بريح أنفه، (واستنثر)؛ بأن أخرجه به مع المخاط وغيره بإدخال إصبعه في أنفه للمبالغة، وفي السابقة: (ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر).
وفيه دليل على عدم اشتراط نية الاغتراف، والمضمضة باليمين، والاستنشاق والاستنثار باليسار، وهما سنتان مؤكدات في الوضوء، فرضان في الغسل، وأوجبهما أحمد ابن حنبل، وقال الشافعي: إنهما سنتان في الوضوء والغسل، ويشتملان على سنن؛ منها: تقدم المضمضة على الاستنشاق بالإجماع؛ لاتفاق الروايات على ذلك، ومنها: التثليث في حق كل واحد منهما بالإجماع، ومنها: أخذ ماء جديد في التثليث؛ لحديث الطبراني وأبي داود، وإزالة المخاط باليسرى؛ لأنَّه أذًى، كما في «المعراج».
(ثم غسل وجهه) غسلًا (ثلاثًا): والظاهر: أن التراخي المستفاد من (ثُمَّ) غير مراد، ويحتمل إرادته، وأنَّه وقع للتنبيه على أنَّه لا يشترط فيه الموالاة؛ فليحفظ.
(و) غسل (يديه)؛ أي: كل واحدة (إلى المرفقين)؛ أي: معهما، فيدلان في فرض الغسل، خلافًا للإمام زفر، وأبي بكر بن داود وغيره كما سبق، غسلًا (ثلاثًا): وفي السابقة: (ثلاث مرات)، (ثم مسح برأسه): زاد أبو داود وابن خزيمة في «صحيحه»: (ثلاثًا لكن بماء واحد)، (ثم غسل كل رِجل) غسلًا (ثلاثًا)؛ بالتنكير والإفراد، وفي رواية: (ثم غسل كل رِجله)، وفي أخرى: (كلتا رجليه)، وهي التي اعتمد عليها صاحب العمدة، وفي رواية: (كل رجليه)، قال في «عمدة القاري»: (والكل يرجع إلى معنًى واحد غير أنَّ رواية: «كل رِجله» تفيد تعميم كل رِجل بالغسل) انتهى.
(ثم قال)؛ أي: عثمان رضي الله عنه: (رأيت النَّبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال): وفي رواية: (ثم قال)؛ أي: النَّبيُّ الأعظم عليه السلام: (من توضأ نحو وضوئي): وللمؤلف في (الرقاق): «مثل وضوئي» (هذا، وصلى): وفي رواية: «ثم صلى» (ركعتين) قبل جفاف الوضوء، ولا يزيد عليها؛ لأنَّه المروي في الأحاديث الصحاح، ولو صلى الفريضة عقب الوضوء؛ فإنَّه يُحصِّل هذه الفضيلة، ومحل هذه الصلاة في كل وقت إلا في الأوقات الثلاثة المنهية، فإنَّه لا يصليها؛ للنهي عنها فيها، وهي من طلوع الشمس إلى أن ترتفع قدر رمح أو رمحين، ومن استوائها إلى أن تزول، ومن اصفرارها إلى أن تغرب، واستثنى الإمام أبو يوسف: يوم الجمعة؛ فإنَّه لا تكره فيه الصلاة عند الاستواء إلى زوالها؛ للحديث الوارد في ذلك، كما سيأتي بيانه في محله إن شاء سبحانه.
(لا يحدث فيهما)؛ أي: في الركعتين (نفسه)؛ أي: بشيء أصلًا، كما قاله القاضي عياض عن بعضهم، ويشهد له ما رواه ابن المبارك في (الزهد) بلفظ: «لم يسر فيهما»، واعترضه النووي، فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طرآن الخواطر التي لا تستقر، والحديث محمول على المعلق بالدنيا فقط؛ لما جاء في رواية هذا الحديث، ذكره الحكيم الترمذي في (الصلاة)، بلفظ: «لا يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا، ثم دعا؛ إلا استجيب له» انتهى.
(غَفَر الله له): وفي رواية: «غُفِر له»؛ بالبناء للمفعول (ما تقدم من ذنبه)؛ أي: من الصغائر دون الكبائر، كما صرح به مسلم، وأمَّا الكبائر؛ فإنما تكفر بالتوبة، وكذلك مظالم العباد، وزاد مسلم في هذا الحديث: قال الزهري: كان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة، وهذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» و «مسنده» معًا: حدثنا خالد بن مخلد قال: حدثنا إسحاق بن حازم قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: حدثني حُمران بن أبان مولى عثمان قال: دعا عثمان بن عفان بوضوء في ليلة باردة وهو يريد الخروج إلى الصلاة، فجئته بماء فأكثر ترداد الماء على وجهه ويديه، فقلت: حسبك فقد أسبغت الوضوء، والليلة شديدة البرد، فقال: صب فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يسبغ عبد الوضوء؛ إلا غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»، قال في «عمدة القاري»: وأصل هذا الحديث في «الصحيحين» من أوجه، وليس في شيء منها زيادة: (وما تأخر)، وقد سبق أبحاث هذا الحديث في باب (الوضوء ثلاثًا)، قال الكرماني: ولا تفاوت بينهما إلا بزيادة لفظ: (واستنشق) هنا، وزيادة: (رأيت النَّبيَّ يتوضأ نحو وضوئي هذا).
واعترضه في «عمدة القاري»، فقال: وفيه نظر، فإنَّ هناك: (دعا بإناء)، وهنا: (دعا بوضوئي)، وهناك: (فأفرغ على كفيه ثلاث مرار)، وهنا: (فأفرغ على يديه من إنائه)، وهناك: (فغسلهما ثم أدخل)، وهنا: (فغسلهما ثلاث مرات)، وهناك: (ثم أدخل يمينه في الإناء)، وهنا: (في الوضوء)، وهناك: (فمضمض)، وهنا: (ثم تمضمض)، وهناك: (ثم غسل رجليه)، وهنا: (ثم غسل كل رجله)، وغيره من الروايات السابقة، والله تعالى أعلم؛ فافهم واحفظ.

==================

(1/300)


(29) [باب غسل الأعقاب]
هذا (باب غسل الأعقاب)؛ جمع عَقِب؛ بفتح العين، وكسر القاف؛ كيد: وهو المستأخر الذي يمسك مؤخر شراك النعل، ومثلها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها، ففي الحاكم من حديث عبد الله بن الحارث: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار»، ولهذا ذكر موضع الخاتم؛ لأنَّه قد لا يصل إليه الماء إذا كان ضيقًا بقوله: (وكان): الواو فيه للاستفتاح (ابن سيرين): محمد التابعي الجليل، وهذا التعليق أخرجه المؤلف موصولًا في «التاريخ»، وابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند صحيح، و (ابنُ): مرفوع على أنَّه اسم (كان) (يغسل): هذا مضارع، و (كان) للماضي، فكيف اجتمعا؟
أجيب: بأن (يغسل) للاستمرار أو لحكاية الحال الماضي على سبيل الاستحضار (موضع الخاتم) من إصبعه (إذا توضأ) يجوز في (إذا) أن تكون للشرط، وأن تكون للظرف، فـ (كان) جزاء الشرط إذا كان للشرط، وهو العامل فيه إذا كان للظرف، ويجوز أن يكون قوله: (يغسل)، والأول أوجه، وغسل موضعه يكون بنزعه وغسل موضعه، أو إدارته وتحريكه، ويدل للثاني ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن سيرين: أنَّه إذا توضأ؛ حرك خاتمه، وإسناده صحيح، وكذا عمرو بن دينار، وعروة، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن عيينة، وأبو ثور يحركونه في الوضوء، ويدل للأول ما ذكره في «مصنف ابن أبي شيبة» أيضًا عن ميمون بن مهران: (وكان حماد يقول في الخاتم: أزِلْه)، وقد روى ابن ماجه حديثًا فيه ضعف عن أبي رافع: (كان النَّبيُّ الأعظم عليه السلام إذا توضأ؛ حرك خاتمه)، قال البيهقي: والاعتماد في هذا الباب على الأثر عن علي الصديق الأصغر: أنَّه كان إذا توضأ؛ حرك خاتمه، ومذهب إمامنا المعظم الإمام الأعظم: أنَّه يجب تحريك الخاتم الضيق في المختار من الروايتين؛ لأنَّه يمنع وصول الماء ظاهرًا، كما في «إمداد الفتاح»، وروى الإمام الحسن عن الإمام الأعظم: أنَّه لا يجب، كما في «الخانية»، وأمَّا تحريك الواسع؛ فتحريكه سنة أو مستحب؛ لأنَّه في معنى تخليل الأصابع، وذلك لأجل المبالغة في الغسل، والمعتبر في وصول الماء تحته غلبة الظن؛ لأنَّها في معنى اليقين، كما في «منهل الطلاب».
==========
%ص 129%

==================

(1/301)


[حديث أبي هريرة: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم قال: ويل .. ]
165# وبه قال: (حدثنا آدم بن أبي إِيَاس)؛ بكسر الهمزة، وتخفيف التحتية، وسقط لابن عساكر لفظ: (ابن أبي إياس) (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (قال: حدثنا محمد بن زِيَاد)؛ بكسر الزاي، وتخفيف التحتية: هو الجمحي المدني
%ص 129%
أبو الحارث القرشي البصري مولى عثمان بن مظعون _بالظاء المعجمة_، التابعي الثقة (قال: سمعت أبا هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (وكان يمر بنا): جملة وقعت حالًا من مفعول (سمعت)، وهو أبا هريرة، والضمير في (كان) يرجع إليه وهو اسمه، و (يمر بنا): جملة محلها النصب على أنَّها خبر لـ (كان) (والناس): مبتدأ، خبره قوله: (يتوضؤون): والجملة حال من فاعل (كان)، وهو إمَّا من الأحوال المتداخلة، وإمَّا من الأحوال المترادفة (من المَِطهرة)؛ بكسر الميم وفتحها: الإداوة المعدة للتطهير، والفتح أعلى، جمعها مطاهر؛ وهي متخذة من جلد أو غيره، لكن الظاهر أنَّها إناء؛ فتأمل.
(قال): وفي رواية: (فقال)؛ أي: أبو هريرة، وفي إعرابه وجهان؛ أحدهما: أنَّ وجه وجود الفاء أن تكون تفسيرية؛ لأنَّها تفسر (قال) المحذوفة بعد قوله: (أبا هريرة)؛ لأنَّ تقدير الكلام: سمعت أبا هريرة قال: وكان يمر بنا ... إلى آخره؛ لأنَّ أبا هريرة مفعول (سمعت)، وشرط وقوع الذات مفعول فعل السماع أن يكون مقيدًا بالقول ونحوه؛ كقوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي} [آل عمران: 193]، والثاني: أن وجه عدم الفاء أن يكون (قال) حالًا من (أبي هريرة)؛ والتقدير: سمعت أبا هريرة حال كونه قائلًا: (أَسبغوا الوضوء)؛ بفتح الهمزة، من الإسباغ؛ وهو إبلاغه مواضعه، وإيفاء كل عضو حقه، والتركيب يدل على تمام الشيء وكماله؛ أي: أتموا وصفه، وكأنَّه رأى منهم تقصيرًا، أو خشي عليهم ذلك، وقال ابن عمر: الإسباغ: الإنقاء، وعلل أمرهم بإسباغ الوضوء بقوله: (فإنَّ)؛ بكسر الهمزة، والفاء للتعليل (أبا القاسم)؛ هو كنية النَّبيِّ الأعظم عليه السلام، وذكره بكنيته حسن، وأحسن منه ذكره بوصف الرسالة أو النُّبوة (صلى الله عليه وسلم قال): جملة محلها الرفع خبر (إنَّ)، ومقول القول قوله: (ويل): واد في جهنم، كما فسره الحديث السابق (للأعقاب)؛ أي: لأصحابها المقصرين في غسلها (من النار): ويحتمل أن يكون على ظاهره، فيختص العذاب بها إذا قصر في غسلها، واللام في (الأعقاب) للجنس، فيشمل المرئية وغيرها.
وفيه: دلالة إلى أنَّه يفترض تعاهد مواضع الوضوء، وأنَّه لو بقي لمعة لم يصبها الماء؛ فالوضوء باطل؛ لعموم الحديث، ففرض الرِّجلين الغسل؛ لهذا الحديث حيث توعد عليه بالنار _أعاذنا منها بفضله_، خلافًا للشيعة في زعمهم أن فرضها المسح، وخلافًا للمتصوفة في زعمهم أن الفرض التخيير بين الغسل والمسح، وكل ذلك باطل، والحق ما عليه أهل السنة والجماعة: أن فرضها الغسل، والله تعالى أعلم.

==================

(1/302)


(30) [باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين]
هذا (باب): جواز (غسل الرِّجلين): حال كونهما (في النعلين) وإن كان الأولى خلافه؛ لأنَّه إتلاف، ويحتمل أن المراد: أنَّه يغسل الرجلين في حال لبس النعلين خارجهما، وأراد بذلك دفع ما يتوهم أنَّهما كالخفين، ومن ثم قال: (ولا يمسح على النعلين)؛ أي: لعدم إجزائه، ولم يقل: عليهما مع أن المقام للإضمار؛ لئلا يتوهم عود الضمير على الرجلين، وجملة: (ولا يمسح): خبرية أو إنشائية، والأقرب الثاني؛ فتأمل.

==================

(1/303)


[حديث عبيد بن جريج: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعًا]
166# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التنيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن سعيد المقبري)؛ بتثليث الموحدة، (عن عبيد بن جريج)؛ بالجيم، والتصغير فيهما: المدني التيمي، والجرج: وعاء يشبه الخرج، وليس بينه وبين عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج_الفقيه المكي مولى بني أمية_ نسب، وقد يظن أن هذا عمه، وليس كذلك، كما في «عمدة القاري»: (أنَّه قال لعبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما: (يا أبا عبد الرحمن)؛ بإثبات الهمزة، وحذفها تخفيفًا، وهي كنية عبد الله بن عمر (رأيتك تصنع): جملة من الفعل والفاعل في محل نصب على أنَّها مفعول ثان، ومفعول (تصنع) قوله: (أربعًا)؛ أي: خصالًا أربعًا، أو أربع خصال (لم أر أحدًا من أصحابنا): وفي رواية: (من أصحابك)، والمراد: أصحاب النَّبيِّ الأعظم عليه السلام (يصنعها)؛ أي: يفعلها كلها مجتمعة وإن كان يصنع بعضها، أو المراد أكثرهم، لكن الظاهر انفراد ابن عمر بما ذكر دون غيره ممن رآهم عبيد، وقد يدل على هذا السياق؛ فتأمل.
(فقال): وفي رواية: (قال)؛ أي: ابن عمر: (وما هي يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان)؛ أي: من أركان الكعبة الأربعة (إلَّا) الركنين (اليمانيين)؛ تثنية يمان؛ بتخفيف المثناة التحتية، هذا هو الفصيح، والنسبة إلى اليمن: رجل يمان، ويمني، ويماني، وقيل: يمان على غير قياس، والقياس: يمني، والألف عوض عن الياء التحتية؛ لأنَّه يدل عليه الياء، كما في «المغرب» وغيره، وبعضهم يقول: يمانيٌّ؛ بالتشديد، وقوم يمانون ويمانية، وسمِّيتْ اليمن يمنًا بيعرب، واسمه يمن بن قحطان بن عامر، وهو هود عليه السلام، فلذلك قيل: أرض يمن، وهو أول من قال الشعر ووزنه، كذا في «التيجان»، وفي «المعجم»: سُمِّي اليمن قبل أن تعرف الكعبة المشرفة؛ لأنَّه عن يمين الشمس، وقال بعضهم: سميت بذلك؛ لأنَّها عن يمين الكعبة، وقيل: سميت اليمن؛ ليمنه، وتمامه في «عمدة القاري»، قال: (واليمانِيَّيْن: الركن اليماني، والركن الذي فيه الحجر الأسود، ويقال له: الركن العراقي؛ لكونه من جهة العراق، والذي قبله يماني؛ لأنَّه من جهة اليمن، ويقال لهما: اليمانيان؛ تغليبًا لأحد الاسمين، وهما باقيان على قواعد إبراهيم عليه السلام، وإنما لم يقولوا: الأسودين على التغليب؛ لأنَّه لو قيل ذلك؛ ربما كان يشتبه على بعض العوام أنَّ في كل من هذين الركنين الحجر الأسود، وكان يفهم التثنية، ولا يفهم التغليب؛ لقصور فهم الجاهل بخلاف اليمانيين) انتهى.
ثم قال ابن جريج لابن عمر: (ورأيتك تَلبَس)؛ بفتح المثناة الفوقية والموحدة (النِّعال)؛ بكسر النُّون (السِّبْتية)؛ بكسر السين المهملة، وسكون الموحدة، آخره مثناة فوقية، نسبة إلى سبت؛ وهو جلد البقر المدبوغ بالقرظ، أو كل مدبوغ، أو المدبوغة وغير المدبوغة، وقيل: السِّبتية: التي لا شعر عليها، أو التي عليها الشعر، وقيل: المدبوغ بالسُّبت_بالضم_: نبت يدبغ به، وعليه فالسُّبتية؛ بالضم، وقال الهروي: قيل لها سبتية؛ لأنَّها انسبتت؛ أي: لانت بالدباغ، وقال الأزهري: سميت سبتية؛ لأنَّ شعرها قد سبت عليها؛ أي: حلق وأزيل، يقال: سبت رأسه؛ إذا حلقته، وقال الداودي: نسبته إلى سوق السبت، انتهى؛ وعليه فهي بفتح السين، وإنما اعترض ابن جريج على ابن عمر بلبسها؛ لأنَّها لباس أهل النعيم، وقد كانت الصحابة تلبس النعال بالشعر غير مدبوغة رضي الله عنهم.
(ورأيتك تصبغ)؛ بضم الموحدة، وفتحها، وكسرها؛ أي: شعرك أو ثوبك (بالصُّفرة)؛ بضم الصَّاد المهملة، وهذا شامل لصبغ الثياب، وصبغ الشعر، واختلف في المراد منهما؛ فقال القاضي عياض: الأظهر أن المراد صبغ الثياب؛ لأنَّه أخبر أنَّه عليه السلام صبغ، ولم يقل: إنَّه صبغ شعره، قال في «عمدة القاري»: وقد جاءت آثار عن ابن عمر رضي الله عنهما بيَّن فيها أنَّه صفَّر لحيته، واحتج بأنَّه عليه السلام كان يصفر لحيته بالورس [1] والزعفران، أخرجه أبو داود، وذكر أيضًا في حديث آخر احتجاجه به: بأنَّه عليه السلام
%ص 130%
كان يصبغ بهما ثيابه حتى عمامته، وكان أكثر الصحابة والتابعين يخضب بالصفرة، منهم أبو هريرة وآخرون، ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه، كذا في «عمدة القاري».
(ورأيتك إذا كنت بمكة؛ أهلَّ الناس)؛ من الإهلال: وهو رفع الصوت بالتلبية، وكل شيء ارتفع صوته؛ فقد استهل، يقال: أهلَّ بحجة أو عمرة، أو أحرم بها، وجرى على ألسنتهم؛ لأنَّهم أكثر ما كانوا يحجون إذا أهلَّ الهلال، وإهلال الهلال واستهلاله: رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته، واستهلال الصبي: تصويته عند ولادته، وأهلَّ الهلال؛ إذا طلع، وأهلَّ واستهلَّ؛ إذا أبصر، وأهللته؛ إذا أبصرته (إذا رأوا الهلال)؛ أي: هلال ذي الحجة، (ولم): وللأصيلي: (فلم) (تهل أنت): وكان القياس فيما ذكر في الأفعال الثلاثة السابقة أن يقول هنا: رأيتك لم تهل ... إلخ.
وأجيب: بأنَّه محذوف، والمذكور دليل عليه، أو بأن الشرطية قائمة مقامه، كذا قاله الكرماني، واعترضه في «عمدة القاري» بأن هذا السؤال لا وجه له هنا، وما وجه القياس الذي ذكره؟! انتهى.
قال العجلوني: و (رأى) هنا وفيما مر من المواضع: بصرية أو علمية، وظاهر كلام «عمدة القاري»: أن (رأى) الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة بمعنى الإبصار فقط، وأمَّا (رأى) الخامسة [2]؛ فإنَّه يحتمل أن يكون بمعنى الإبصار، وبمعنى العلم، انتهى.
وهو الأظهر؛ فتأمل.
و (كنت): يحتمل أن تكون تامة أو ناقصة، و (بمكة): ظرف لغو أو مستقر، و (إذا) في الموضعين: تحتمل أن تكونا ظرفيتين، وأن تكون الأولى شرطية، والثانية ظرفية، وبالعكس، و (أهلَّ الناس): إما حال أو جزاء (إذا) الأولى، و (إذا) الثانية مفسر له على مذهب الكوفيين، أو مفسر للجزاء الثاني على مذهب البصريين، كذا في «عمدة القاري» بزيادة: (حتى كان): يحتمل أنَّها تامة أو ناقصة، فإن كانت تامة؛ يكون (يومُ) مرفوعًا؛ لأنَّه اسم (كان)، وإن كانت ناقصة؛ يكون (يوم) خبر (كان) (التروية): وهو يوم الثامن من ذي الحجة، واختلف في سبب تسميته بذلك، إمَّا لأنَّ جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم عليه السلام أول المناسك، أو لأنَّ الناس يروون من الماء من زمزم؛ لأنَّه لم يكن بمنى ماء، ولا بعرفة ماء، أو لأنَّه اليوم الذي رأى فيه آدم حواء عليهما السلام، وعن ابن عباس: (لأن إبراهيم أتاه الوحي في منامه أن يذبح ابنه، فتروى في نفسه، من الله تعالى هذا أم من الشيطان؟ فأصبح صائمًا، فلما كان ليلة عرفة؛ أتاه الوحي فعرف أنَّه الحق من ربه، فسميت عرفة)، رواه البيهقي، وروى أبو الطفيل عن ابن عباس: أنَّ إبراهيم عليه السلام لما ابتلي بذبح ابنه؛ أتاه جبريل عليه السلام فأراه مناسك الحج، ثم ذهب به إلى عرفة، قال: وقال ابن عباس: سميت عرفة؛ لأنَّ جبريل قال لإبراهيم عليهما السلام: هل عرفت؟ قال: نعم، فمن ثم سميت عرفة، كذا في «عمدة القاري».
(قال عبد الله)؛ أي: ابن عمر رضي الله عنهما مجيبًا لابن جريج: (أمَّا): للتفصيل (الأركان)؛ أي: الأربعة؛ (فإنِّي لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس)؛ من مِست أمَس؛ بكسر الماضي، وفتح المستقبل، مسًّا ومسيسًا، وهو ما اختاره ثعلب وغيره، وحكى غيره: مِسسته؛ بالكسر، ومَسست؛ بالفتح، وبالكسر أفصح، وعن ابن جني: أمسه إياه، فعدَّاه إلى مفعولين، وعن ابن درستويه: إنَّ مَسست بالفتح خطأ مما يلحن فيه العامة؛ فتأمل.
(إلَّا) الركنين (اليمانيين): واتفق الفقهاء على أن الركنين الشاميين _وهما مقابلا اليمانيين_ لا يستلمان، وإنما كان الخلاف فيه في العصر الأول بين بعض الصحابة، وبعض التابعين، ثم ذهب الخلاف، وتخصيص الركنين اليمانيين بالاستلام؛ لأنَّهما كانا على قواعد إبراهيم عليه السلام بخلاف الركنين الآخرين؛ لأنَّهما ليسا على قواعد إبراهيم عليه السلام، ولمَّا ردهما عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على قواعد إبراهيم عليه السلام؛ استلمهما أيضًا، ولو بني كذلك؛ لاستلمت كلها ابتداء، به صرح القاضي عياض، وركن الحجر الأسود خُصَّ بشيئين: الاستلام والتقبيل، والركن الآخر خُصَّ بالاستلام فقط، والآخران لا يقبَّلان ولا يستلمان، وكان بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يمسحهما على وجه الاستحباب، وقال ابن عبد البر: روي عن جابر، وأنس، وابن الزبير، والحسن، والحسين رضي الله عنهم: أنَّهم كانوا يستلمون الأركان كلها، وعن عروة مثله، واختلف عن معاوية وابن عباس في ذلك؛ فقال أحدهما: ليس بشيء من البيت مهجورًا، والصحيح عن ابن عباس أنَّه كان يقول: إلَّا الركن الأسود واليماني، وهما المعروفان باليمانيين، ولمَّا رأى عبيد بن جريج جماعة يفعلون على خلاف ابن عمر؛ سأله عن ذلك؛ فليحفظ.
(وأما النِّعال)؛ بكسر النُّون (السِّبْتية؛ فإنِّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَلبَس)؛ بفتح التحتية والموحدة [3] (النِّعال): وفي رواية: (النَّعل)؛ بالإفراد، وزيادة: (السِّبْتية) (التي ليس فيها): التأنيث على رواية (النعال) _بالجمع_ واضح، وكذا على رواية الإفراد؛ لأنَّ النعل مؤنثة (شعَر)؛ بفتح العين المهملة على الأفصح، قال أبو عمر: لا أعلم خلافًا في جواز لبس النعال في غير المقابر؛ لقوله عليه السلام لذلك الماشي في المقابر: «ألق سبتك»، وقال قوم: يجوز ذلك ولو كان في المقابر؛ لقوله عليه السلام: «إذا وقع الميت في قبره؛ إنَّه ليسمع قرع نعالهم»، وقال الحكيم الترمذي: (إنَّه عليه السلام إنَّما قال لذلك الرجل: «ألق سبتك»؛ لأنَّ الميت كان يُسأل، فلما صرَّ نعل ذلك الرجل؛ شغله عن جواب الملكين، فكاد يهلك لولا أن ثبته الله تعالى) انتهى.
(ويتوضأ فيها)؛ أي: في النِّعال (فأنا) وفي رواية: (فإنِّي) (أحب أن ألبسها)، ففيه تصريح بأنَّه عليه السلام كان يغسل رجليه وهما في نعليه، وهذا موضع المطابقة للترجمة؛ لأنَّ قوله: (فيها)؛ أي: في النعال ظرف لقوله: (يتوضأ)، قال ابن حجر: وبهذا يرد على من زعم ليس في الحديث الذي ذكره تصريح بذلك، وإنما هو من قوله: (يتوضأ فيها)؛ لأنَّ الأصل في الوضوء الغسل.
قال في «عمدة القاري»: قلت: ما يريد هذا من التصريح أقوى من هذا، وقوله: (ولأنَّه فيها) يدل على الغسل، ولو أريد المسح؛ لقال: عليها، وهذا التعليل يرد عليه.
وقوله: (وليس في الحديث ... ) إلخ: وهذا من العجائب؛ حيث ادعى عدم التصريح، ثم أقام دليلًا على التصريح بذلك، وقد أشار المؤلف في الترجمة بقوله: (ولا يمسح على النعلين) إلى نفي ما ورد عن عليٍّ وغيره من الصحابة رضي الله عنهم: أنَّهم كانوا يمسحون على نعالهم، ثم يصلون، وروي ذلك في حديث مرفوع أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة في الوضوء، لكن ضعَّفه عبد الرحمن بن مهدي وغيره، وروي عن ابن عمر: (أنَّه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه؛ مسح ظهور نعليه بيديه، ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هكذا)، أخرجه الحافظ الطحاوي والبزار، وروي في حديث رواه علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمِّه رفاعة بن رافع: أنَّه كان جالسًا عند النبي الأعظم عليه السلام، وفيه: (ومسح برأسه ورجليه)، أخرجه الحافظ الطحاوي والطبراني في «الكبير»، والجواب عن حديث ابن عمر: أنَّه كان في وضوء متطوع به لا في وضوء واجب عليه، وعن حديث رفاعة: أنَّ المراد به أنَّه مسح برأسه وخفيه على رجليه، وأجاب بعضهم بأنَّهم مسحوا عليها مع غسل أرجلهم فيها.
قلت: وهو بعيد؛ إذ ما فائدة مسحهم عليها مع غسل أرجلهم، والمناسب أن يقال في الجواب: بأنَّهم
%ص 131%
غسلوا أرجلهم غسلًا خفيفًا، فأطلق عليه مسحًا لذلك، وسمى الأرجل نعالًا من تسمية المحل باسم الحالِّ فيه، أو أن المراد بالنعلين: الخفاف، كما قلنا، واستدل الحافظ الطحاوي على عدم الإجزاء بالإجماع على أن الخفين إذا تخرقا حتى يبدوا القدمان أن المسح لا يجزئ عليهما، قال: فكذلك النعلان؛ لأنَّهما يغيبان القدمين، قال ابن حجر: هذا استدلال صحيح، ولكنه منازع في نقل الإجماع المذكور، انتهى.
ثم ذكر خلاف الشيعة وبعض الصحابة والتابعين في جواز المسح على الرِّجلين، وذكر ما للعلماء في تأويل قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، وقدمناه مفصلًا.
وأقول: هذا لا يدل على خلاف في جواز مسح النعلين باقيين على معناهما الحقيقي والكلام فيه حتى يرد على الحافظ الطحاوي، وإنما يدل على خلاف في مسح الرجلين وليس الكلام فيه، ثم رأيت الشيخ الإمام بدر الدين العيني صاحب «عمدة القاري» نظر فيه بوجه آخر؛ حيث قال: (قلت: هذا غير منازع فيه؛ لأنَّ مذهب الجمهور: أن مخالفة الأقل لا تضر الإجماع، ولا يشترط فيه عدد التواتر عند الجمهور، وروى الحافظ الطحاوي عن عبد الملك قال: قلت لعطاء: أَبلغك عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه مسح على القدمين؟ قال: لا) انتهى كلامه، والله تعالى أعلم.
(وأمَّا الصُّفرة؛ فإنِّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصْبغ بها)؛ من الصباغ، ويروى: (يصنع)؛ بالمهملة، والأظهر: أنَّه بالمعجمة، وبالمهملة تصحيف، (فأنا أحب أن أصبغ بها)، يحتمل صبغ ثيابه أو شعره كما تقدم، (وأمَّا الإهلال)؛ أي: بالحج أوالعمرة؛ (فإنِّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهل) بضم التحتية (حتى تنبعث) أي: تسير (به راحلته)؛ أي: تستوي قائمة إلى طريقه، وهو كناية عن ابتداء شروعه في أفعال الحج، والراحلة: المركب من الإبل ذكرًا كان أو أنثى، واختلف في حكم الإهلال؛ فعند البعض: الأفضل أن يُهل من أول يوم من ذي الحجة، وعند مالك: الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه: إنَّه يحرم عقب الصلاة جالسًا قبل ركوب دابته وقبل قيامه؛ لما رواه أبو داود عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: يا أبا العباس؛ عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب، قال: إنِّي لأعلم الناس بذلك؛ إنها إنَّما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هنالك اختلفوا، خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًّا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه؛ أوجبه [4] في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام، فحفظته عنه، ثم ركب، فلمَّا استقلت به ناقته؛ أهلَّ وأدرك ذلك منه أقوام؛ لأنَّ الناس إنَّما كانوا يأتون أرسالًا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنَّما أهلَّ عليه السلام حين استقلت به ناقته، ثم مضى عليه السلام، فلمَّا علا على شرف البيداء؛ أهلَّ وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنَّما أهلَّ حين علا شرف البيداء، قال سعد: فمن أخذ بقول ابن عباس؛ أهلَّ في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه، وأخرجه الحاكم في «مستدركه» قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم مفسر في الباب، وأخرجه الحافظ الطحاوي، ثم قال: وبيَّن عليه السلام الوجه الذي جاء الاختلاف، وأن إهلاله عليه السلام الذي ابتدأ الحج ودخل به فيه كان في مصلاه، فبهذا نأخذ، فينبغي للرجل إذا أراد الإحرام؛ أن يصلي ركعتين، ثم يحرم في دبرهما كما فعل عليه السلام، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، ولا نسلِّم أنَّ إحرامه عليه السلام من البيداء يدل على استحباب ذلك، وأنَّه فضيلة؛ لأنَّه يجوز أن يكون ذلك لا لقصد أن للإحرام منها فضيلة على الإحرام من غيرها، وقد فعله عليه السلام في حجته في مواضع لا لفعل [5] قصده؛ من ذلك: نزوله بالمحصب، وروى عطاء عن ابن عباس قال: ليس المحصب بشيء، إنَّما هو منزل رسول الله عليه السلام، فلما حصب عليه السلام ولم يكن ذلك لأنَّه سنة؛ فكذلك يجوز أن يكون إحرامه من البيداء كذلك، وأنكر الزهري، وعبد الملك بن جريج، وعبد الله بن وهب أن يكون عليه السلام أحرم من البيداء، وقالوا: ما أحرم إلَّا من المسجد، ورووا في ذلك ما روى مالك عن موسى بن عقبة، عن [6] سالم، عن أبيه أنَّه قال: بيداؤكم [7] هذه التي تكذبون على رسول الله عليه السلام [أنه أهل] منها، ما أهلَّ عليه السلام إلا من عند المسجد؛ يعني: مسجد ذي الحليفة، أخرجه الحافظ الطحاوي، وأخرجه الترمذي أيضًا، وأخرج الترمذي أيضًا وحسنه: أنَّه عليه السلام أهلَّ بالحج حين فرغ من ركعتيه.
فإن قلت: كيف يجوز لابن عمر أن يطلق الكذب على الصحابة؟
قلت: الكذب يجيء بمعنى الخطأ؛ لأنَّه يشبهه في كونه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق، افترقا من حيث النية والقصد؛ لأنَّ الكاذب يعلم أن الذي يقول كذب، والمخطئ لا يعلم، ولا يظن به أنَّه [8] كان ينسب الصحابة إلى الكذب.
قال الحافظ الطحاوي: فلمَّا جاء هذا الاختلاف؛ بيَّن ابن عباس الوجه الذي جاء فيه الاختلاف كما ذكرنا، وتمامه في «عمدة القاري».

==================
[1] في الأصل: (بالورث)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الخامس)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (والنون)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (أوجه)، وهو تحريف.
[5] كذا في الأصل، ولعل المراد: (لا لفضل).
[6] في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (ببيداء ولم).

(1/304)


(31) [باب التيمن في الوضوء والغسل]
هذا (باب التيمن)؛ أي: استحباب الابتداء باليمين (في الوضوء والغُسل)؛ بضم الغين المعجمة، اسم للفعل، أوبفتحها مصدرًا على المشهور فيهما، وقيل: (الغُسل)؛ بالضم: الماء، وبالضم والفتح في المصدر، وقيل: المصدر بالفتح، والأغسال؛ كالجمعة؛ بالضم، أمَّا بالكسر؛ فما يغسل به؛ كالخطمي ونحوه.
==========
%ص 132%

==================

(1/305)


[حديث: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها]
167# وبه قال: (حدثنا مسدد): هو ابن مسرهد (قال: حدثنا إسماعيل): هو ابن علية؛ بالتصغير (قال: حدثنا خالد)؛ أي: الحذاء؛ بالذال المعجمة، (عن حفصة بنت سيرين)، تكنى أم الهذيل الأنصارية البصرية الفقيهة أخت محمد بن سيرين، المتوفاة في حدود المئة عن سبعين سنة، (عن أم عطية) بنت كعب أو بنت الحارث، واسمها نُسَيبة؛ بضم النُّون، وفتح الموحدة، قبلها مثناة تحتية ساكنة، آخره هاء، وحكي: فتح النُّون مع كسر السين المهملة، ولها صحبة ورواية، تعد في أهل البصرة، وكانت تغسل الموتى، وتمرِّض المرضى، وتداوي الجرحى، وتغزو مع النبي الأعظم عليه السلام، غزت معه سبع غزوات، وشهدت خيبر، وكان علي رضي الله عنه يقيل عندها، وكانت تنتف إبطه بورسة (قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهن)؛ أي: لأم عطية ومن معها (في) صفة (غسل ابنته) زينب رضي الله عنها، كما في «مسلم»، ماتت في السنة الثانية، ونقل عياض أنَّها أم كلثوم زوج عثمان بن عفان، غسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب، وشهدت أم عطية غسلها، قال: والصواب: أنَّها زينب، وقد يجمع بينهما بأنَّها غسلت زينب، وحضرت غسل أم كلثوم، وذكر المنذري: أنَّ أم كلثوم توفِّيت والنبي عليه السلام ببدر غائب، وقد غلط في ذلك فتلك رقيَّة، ولمَّا دفن أم كلثوم؛ قال عليه السلام: «دفن البنات من المكرمات»، كذا في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
%ص 132%
وقوله: (ابدأْن)؛ بسكون الهمزة، من ابتدأ، أمر لجمع المؤنث (بميامنها) [1]: جمع ميمنة؛ وهي الجهة اليمنى، (ومواضع الوضوء منها)؛ ففيه المطابقة للترجمة؛ لأنَّ التقدير: ابدأن بميامنها؛ أي: في تغسيلها، وابدأن بميامن مواضع الوضوء منها؛ بناء على جواز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، أو لأنَّ التقدير: ابدأن بميامنها مطلقًا؛ أي: في الغسل والوضوء، وعليه فقوله: (ومواضع) عطف على (ميامنها) فيكنَّ مأمورات بالبداءة بالميامن مطلقًا، وبالبداءة بمواضع الوضوء مطلقًا؛ لشرفها، أو في الوضوء؛ لأنَّه يسن تقديمه على الغسل عند الأئمة الأربعة، وأمَّا ما نقله النووي عن الإمام الأعظم من عدم استحبابه؛ فغير صحيح؛ لأنَّ كتب مذهبه طافحة بالتصريح بالسنيَّة، وقد صرح به الإمام المرغيناني في «الهداية»، والإمام القدوري في «مختصره»، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] (بميامنها): جاء في الأصل بعد قوله: (من ابتدأ).

==================

(1/306)


[حديث عائشة: كان النبي يعجبه التيمن في تنعله]
168# وبه قال: (حدثنا حَفص بن عُمر)؛ بفتح الحاء المهملة، وبضم العين المهملة: الخوصي البصري، المتوفى بالبصرة سنة خمس وعشرين ومئتين (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (أشْعَث)؛ بفتح الهمزة، وسكون الشين المعجمة، وفتح العين المهملة، آخره ثاء مثلثة (بن سليم)؛ بالتصغير، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئة (قال: سمعت أبي)؛ أي: سليم المذكور بن الأسود المحاربي؛ بضم الميم، الكوفي أبو الشعثاء، وشهرته بكنيته أكثر من اسمه، المتوفى سنة اثنتين ومئة، (عن مسْروق)؛ بسكون السين المهملة: ابن الأجدع الكوفي أسلم قبل وفاة النبي الأعظم عليه السلام، وأدرك الصدر الأول من الصحابة، وكانت عائشة رضي الله عنها قد تبنَّت مسروقًا فسمى ابنته عائشة، فكني بأبي عائشة، (عن عائشة): أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّها (قالت: كان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يُعجبه)؛ بضم التحتية، من الإعجاب، يقال: أعجبني هذا الشيء لحسنه، والعجيب: الأمر الذي يتعجب منه، وبمعناه: استعجبت، والمصدر: العَجَب؛ بفتحتين، وأمَّا العُجْب؛ بضم العين، وسكون الجيم؛ فهو اسم من أعجب فلان بنفسه، فهو معجَب _بفتح الجيم_ برأيه وبنفسه، وأمَّا العَجْب؛ بفتح العين، وسكون الجيم، فهو أصل الذنب (التيمُّنُ)؛ بتشديد الميم المضمومة، بالرفع على الفاعلية؛ وهو الأخذ باليمين في الأشياء؛ أي: الابتداء باليمين؛ لأنَّه يحب الفأل الحسن؛ أن أصحاب اليمين أهل الجنة، وزاد المؤلف في (الصلاة): (ما استطاع)، فنبَّه على المحافظة عليه ما لم يمنع مانع، والتيمن: لفظ مشترك بين الابتداء باليمين وتعاطي الشيء باليمين والتبرُّك، فبيَّن حديث أم عطية أنَّ المراد به الأول، والجملة من الفعل والفاعل محلها النصب على أنَّه خبر (كان) (في تَنَعُّله)؛ أي: في لبسه النعل؛ وهي التي تلبس في المشي، وهي مؤنثة، يقال: نعلت وانتعلت؛ إذا لبست النعل، وانتعلت الخيل؛ بالهمزة، وبه الحديث: (أنَّ غسان تنعل خيلها)، وفي الروايات كلها: (في تَنَعُّله)؛ بفتح الفوقية والنُّون، وتشديد العين، وكذا ذكره الحميدي والحافظ عبد الحق في كتابيهما «الجمع بين الصحيحين»، وفي رواية مسلم: (في نعله)؛ بالإفراد، وفي بعض الروايات: (نعليه)؛ بالتثنية، قال النووي: (وهما صحيحان، ولم ير في شيء من نسخ بلادنا غير هذين الوجهين)، قلت: الروايات كلها صحيحة؛ فافهم، كذا في «عمدة القاري»، والجار والمجرور في محل النصب على الحال من الضمير المنصوب في (يعجبه)؛ والتقدير: كان يعجبه التيمن حال كونه لابسًا النعل، ويجوز أن يكون من التيمن؛ أي: يعجبه التيمن حال كون التيمن في تنعله، ويجوز أن يكون ظرفًا لغوًا للتيمن؛ فتأمل.
(و) في (ترجُّله)؛ بتشديد الجيم المضمومة؛ أي: في تمشيطه الشعر؛ وهو تسريحه، وهو أعم من أن يكون في الرأس أو في اللحية، وقال ابن حجر: (أي: ترجيل شعره؛ وهو تسريحه ودهنه)، قال في «المشارق»: (رجَّل شعره؛ إذا مشطه بماء أو دهن؛ ليلين، ويرسل الثائر، ويمد المنقبض) انتهى، لكن في «المغرب»: (رجَّل شعره؛ أرسله بالمرجل؛ وهو المشط، وترجَّل: فعل ذلك بنفسه)، ويقال: شعر رَجَل ورَجِل؛ وهو السبوطة والجعودة، وقد رَجِل رَجَلًا، ورَجَّله هو، ورجُل رَجِل الشعر ورَجَلَ، وجمعهما: أرْجال، ورَجَال، ذكره ابن سيده في «المحكم»، وذكر نحوه في «الصحاح»، و «القاموس»، وغيرها، واللفظ لا يدل على الدهن، فما فسره في «المشارق» وتبعه ابن حجر؛ مبني على العادة النادرة التي لا حكم لها لا اللغة، وكأنهما لم يفرقا بين العادة واللغة، أو هو قول شاذ لبعض أهل اللغة؛ لأنَّ كتب اللغة المشهورة لم تصرح بذلك، وهذا دأب ابن حجر يعتمد على الأقوال الشاذة في اللغة والمذاهب، كما بين ذلك في «كشف الحجاب عن العوام».
(وفي طُهوره): زاد أبو داود: (وسواكه)، و (طُهوره)؛ بضم الطاء؛ لأنَّ المراد: وفي طهره، وقال الكرماني: ولا يجوز فتحها هنا، واعترضه في «عمدة القاري»: بأنَّه لا نسلِّم هذا على الإطلاق؛ لأنَّ الخليل، والأصمعي، وأبا حاتم السجستاني، والأزهري، وآخرين قد ذهبوا إلى أن (الطَّهور) بالفتح في الفعل الذي هو المصدر، والماء الذي يتطهر به، وقال صاحب «المطالع»: وحُكِي الضم فيهما، والفرق المذكور ذكره ابن الأنباري عن جماعة من أهل اللغة، فإذا كان كذلك؛ فقول الكرماني: (ولا يجوز فتحها)؛ غير صحيح على الإطلاق، انتهى.
واعتراض صاحب «عمدة القاري» على الكرماني صحيح لا غبار عليه؛ لأنَّ جميع نسخ شرح «الكرماني» هكذا كما علمت، وقال بعضهم: بل في «شرح الكرماني» أنَّه قال: (ولا يجوز فتحها هنا) على ما تقدم من الفرق بينهما على ما هو المشهور، انتهى، قلت: وهذه زيادة من بعض المطلعين على الشرح المذكور لا من أصل المؤلف، وأن أصل الشرح ما ذكره صاحب «عمدة القاري» وهي النسخ المقابلة على أصل المؤلف وعليها خطوط بعض العلماء، فثبت أن هذه الزيادة من غير المؤلف، والاعتراض باق على حاله؛ فليحفظ.
وفي رواية ابن منده: (كان يحب التيامن في الوضوء والانتعال)، وفيه المطابقة للترجمة؛ لأنَّ الطهور يشمل الوضوء، والغسل، والتيمم، والتخفف، فتسحب البداءة بالجهة اليمنى في الغسل، وباليمين في اليدين والرجلين على اليسرى، وفي «سنن أبي داود» عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا توضأتم؛ فابدؤوا بميامنكم»، وفي أكثر طرقه: (بأيامنكم)، جمع أيمن؛ إذا لبستم وإذا توضأتم، والأمر فيه للاستحباب، فإن قدَّم اليسرى على اليمنى؛ كره تنزيهًا، ووضوءُه صحيح بإجماع أهل السنة.
وروينا عن علي، وأبي هريرة، وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: لا يُبَالَى بأيٍّ بدأت، وزعم الشيعة أنَّه واجب، وما نقله المرتضى عن الشافعي: من أنَّه واجب؛ فغلط، وكأنَّه قاسه على وجوب الترتيب عنده.
وقد صحَّف العمراني في «البيان»، والبندنجي في «التجريد» (الشيعة)؛ بالمعجمة بـ (السبعة) من العدد في نسبتهما القول بالوجوب إلى الفقهاء السبعة، فهو بعيد جدًّا وواه، ووهم الرافعي فنقل عن أحمد: أنَّه واجب؛ لأنَّ صاحب «المغني» قال: لا نعلم في عدم الوجوب خلافًا، وأمَّا الأذنان والخدان؛ فلا يستحب التيامن فيها؛ لأنَّ الأذنين تبع للرأس، وهو عضو واحد، والخدين تبع للوجه، وهو عضو واحد، بل يستحب المعية فيهما، كما قدمناه، فإن كان أقطع ونحوه ولا يمكنه مسحهما معًا؛ فيستحب له أن يبدأ بالأذن اليمنى ثم باليسرى، وكذا يستحب أن يبدأ بالخد الأيمن ثم بالأيسر، كذا يستفاد من «السراج الوهاج» كما نقله في «منهل الطلاب».
وفي الحديث: استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن
%ص 133%
في الترجل والغسل والحلق، لا يقال: إنه من باب الإزالة فينبغي أن يبدأ بالأيسر؛ لأنَّا نقول: هو من باب التجمل والتزين.
(و) كذا كان عليه السلام يعجبه التيمن (في شأنه كلِّه): كذا في رواية أبي الوقت: (وفي)؛ بواو العطف، وهو من عطف العام على الخاص، ولغيره: (في شأنه)؛ بإسقاطها، وهي رواية الأكثرين بحذف العاطف، أو هو بدل اشتمال من الثلاثة قبله، والشرط في بدل الاشتمال أن يكون المبدل منه مشتملًا على الثاني؛ أي: متقاضيًا له بوجه ما، وهنا كذلك، كما لا يخفى، وإذا لم يكن المبدل منه مشتملًا على الثاني؛ يكون بدل الغلط، وقد يقع في الكلام الفصيح قليلًا، فلا ينافي البلاغة، أو هو بدل كلٍّ من كلٍّ، كما نقله ابن حجر عن الطيبي، وعبارته: قوله: (في شأنه) بدل من قوله: (في تنعُّله) بإعادة العامل، وكأنَّه ذكر التنعُّل؛ لتعلقه بالرجل، والترجُّل؛ لتعلقه بالرأس، والطهور؛ لكونه مفتاح العبادة، فكأنه نبه على جميع الأعضاء، فهو كبدل الكلِّ من الكلِّ، ثم قال ابن حجر: قلت: ووقع في رواية مسلم تقديم قوله: (في شأنه كله) على قوله: (في تنعله ... ) إلخ، وعليها شرح الطيبي، واعترضه في «عمدة القاري»: بأن كلام الطيبي ليس هو على رواية المؤلف بل على رواية مسلم، ولفظها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في شأنه كلِّه؛ في طهوره، وترجُّله، وتنعله)، فقال الطيبي في شرحه لذلك: قوله: (في طهوره، وترجُّله، وتنعله) بدل من قوله: (في شأنه) بإعادة العامل، فكأن ابن حجر لم يفهم مراد الطيبي، ولم يعلم المتن، فظن أن كلام الطيبي في الرواية التي فيها ذكر الشأن متأخرًا كرواية المؤلف هنا، فركب متن عمياء وخبط خبط عشواء؛ فتأمل، وهو بدل كل من بعض؛ كقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا*جَنَّاتِ عَدْنٍ} [مريم: 60 - 61]، وكقول الشاعر:
نضر الله أعظمًا دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
أو يقدَّر لفظ: يعجبه التيمن، فتكون الجملة بدلًا من الجملة، أو هو متعلق بـ (يعجبه) لا بـ (التيمن)؛ والتقدير: يعجبه في شأنه كلِّه التيمن في تنعله ... إلخ؛ أي: لا يترك ذلك في سفر، ولا حضر، ولا في فراغه، واشتغاله، قاله ابن حجر والكرماني، واعترضهما في «عمدة القاري»: بأنَّه يلزم من ذلك أن يكون إعجابه التيمن في هذه الثلاثة مخصوصة في حالاته كلها، وليس كذلك، بل كان يعجبه التيمن في كلِّ الأشياء في جميع الحالات، ألا ترى أنَّه أكَّد الشأن بمؤكِّد، والشأن: بمعنى الحال؛ والمعنى: يعجبه التيمن في جميع حالاته؛ فافهم.
وتأكيد الشأن بقوله: (كلِّه) يدل على العموم، فيدخل فيه نحو لبس الثياب، والسراويل، والخفاف، ودخول المسجد، والصلاة على ميمنة الإمام، وميمنة المسجد، والأكل، والشرب، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، واللحية، ونتف الإبط، وحلق الرأس والعانة، والخروج من الخلاء والحمام، وغير ذلك مما في معناه إلا ما خص بدليل خارجي؛ كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثياب، والسراويل، وغير ذلك، وإنَّما استحب فيها التياسر؛ لأنَّه من باب الإزالة، والقاعدة: أنَّ كلَّ ما كان من باب التكريم والتزين؛ فباليمين، وإلا؛ فباليسار، ولا يقال: حلق الرأس من باب الإزالة، فيبدأ فيه بالأيسر؛ لأنَّه من باب التزين، وقد ثبت الابتداء فيه بالأيمن، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

==================

(1/307)


(32) [باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة]
هذا (باب التماس الوَضوء)؛ بفتح الواو؛ أي: طلب الماء لأجل الوُضوء؛ بالضم (إذا حانت) بالحاء المهملة (الصلاة)؛ أي: قرب وقتها الذي تُفْعَل فيه، يقال: حان الشيء؛ أي: قرب وقته، أو آنت، يقال: حان له أن يفعل كذا؛ أي: آن، وأراد المؤلف بهذه الترجمة الاستدلال على أنَّه لا يجب طلب الماء للتطهير قبل دخول الوقت؛ لأنَّه عليه السلام لم ينكر عليهم التأخير، فدلَّ على الجواز.
(وقالت عائشة) رضي الله عنها، مما أخرجه المؤلف من حديثها في ضياع عقدها في مواضع؛ منها (التيمم): (حضرت الصبح)؛ أي: صلاتها، والقياس: حضر الصبح؛ لأنَّه مذكر، والتأنيث باعتبار صلاة الصبح، (فالتُمِس)؛ بضم المثناة الفوقية على صيغة المجهول؛ أي: طلب (الماءُ)؛ بالرفع مفعول نائب عن الفاعل، (فلم يوجد) وفي رواية: (فالتمسوا الماءَ_بالجمع والنصب على المفعولية_ فلم يجدوه)؛ بالجمع، (فنزل التيمم)؛ أي: فنزلت آية التيمم، وإسناد النزول إلى التيمم مجاز عقلي، كما في «عمدة القاري»، وتبعه الشراح، فما وقع في «القسطلاني» من قوله: (وإسناد التيمم إلى النزول مجاز عقلي) خطأ ظاهر؛ فليحفظ.
==========
%ص 134%

==================

(1/308)


[حديث: رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر فالتمس]
169# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) واسمه زيد بن سهل الأنصاري، (عن أنس بن مالك) خادم النبي الأعظم عليه السلام الأنصاري رضي الله عنه أنَّه (قال: رأيت)؛ أي: بصرت، فلذا اقتصر على مفعول واحد (النبيَّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)، وجملة (وحانت)؛ بالمهملة؛ أي: قربت، وفي رواية بإسقاط الواو (صلاة العصر)؛ أي: وقتها: حالية بتقدير (قد) عند البصريين، فالواو للحال، وزاد قتادة: (وهو بالزوراء)، وهو سوق بالمدينة كما يأتي للمؤلف، (فالتمس) أي: طلب (الناس الوَضوء)؛ بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به (فلم يجدوه) وفي رواية: (فلم يجدوا)؛ بدون الضمير المنصوب، وهو من الوجدان بمعنى الإصابة؛ أي: فلم يصيبوا الماء، (فأُتي)؛ بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، وفي رواية: (فأتوا)، قال في «عمدة القاري»: (والصحيح من الرواية: «فأُتي»؛ بصيغة المجهول) انتهى (رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضوء)؛ بفتح الواو؛ أي: بإناء فيه الماء الذي يتوضأ به، ولا ينافي ما سبق من أنَّهم لم يجدوا ماء؛ لأنَّ المنفيَّ وجوده لهم، أو لأنَّهم طلبوه بعد ذلك فوجدوه له عليه السلام، وقدَّمنا أنَّه كان ذلك في سوق بالمدينة يسمى الزوراء، ورواه ابن المبارك بلفظ: (فجاء رجل بقدح فيه ماء يسير، فصغر أن يبسط النبيُّ عليه السلام فيه كفه، فضم أصابعه)، وروى المهلب: (أنَّه كان مقدار وَضوء رجل واحد)، ورواه المؤلف في باب (الغسل في المخضب) بلفظ: (فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب فيه ماء، فصغر أن يبسط فيه كفه)، (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده)؛ بالنصب على المفعولية؛ أي: يده اليمنى بعد أن ضمَّ أصابعه؛ لصغر الإناء كما سبق، والإشارة إلى الإناء المعبر عنه بالوَضوء بالفتح؛ لأنَّ الماء لا بدَّ له من إناء؛ فافهم.
(وأمر) النبي الأعظم عليه السلام (الناس أن)؛ أي: بأن (يتوضؤوا) فـ (أن) مصدرية؛ أي: بالتوضؤ (منه)؛ أي: من ذلك الإناء، فضمير (يتوضؤوا) يعود على (الناس)، وكانوا خمس عشرة مئة، وفي بعض الروايات: ثمان مئة، وفي بعضها: زهاء ثلاث مئة، وفي بعضها: ثمانين، وفي بعضها: سبعين، (قال)؛ أي: أنس كما صرح به في رواية: (فرأيت) أي: أبصرت (الماء)، وجملة (يَنبع)؛ بفتح التحتية، وتثليث الموحدة؛ أي: يخرج، محلها نصب على الحال، وقد علم أنَّ الجملة الفعلية إذا وقعت حالًا؛ تأتي بلا واو إذا كان فعلها مضارعًا، وإنما لا يجوز أن تكون الجملة مفعولًا ثانيًا لـ (رأيت)؛ لأنَّ (رأيت) هنا بمعنى أبصرت، فلا تقتضي إلَّا مفعولًا واحدًا كما سبق نظيره؛ فافهم، (من تحت) وفي رواية: (ينفجر من أصابعه كأمثال العيون)، وفي رواية: (يفور من بين) (أصابعه) عليه السلام كلها كما يفيده الإطلاق، لكن في رواية: (سكب ماء ركوة، ووضع إصبعه وبسطها، وغمسها في الماء)، فهي تدل على أن النبع كان من إصبع واحدة، وقد يقال: أطلق البعض وأراد الكل لاستلزام وضع
%ص 134%
الإصبع الواحدة لجميع الأصابع كما في أكثر الروايات، أو يحمل على تعدد القصة؛ لأنَّه عليه السلام وقع له هذا الأمر في مواطن كثيرة؛ فتأمل.
فتوضؤوا (حتى توضؤوا من عند آخرهم)؛ أي: توضأ الناس ابتداء من أولهم حتى انتهوا إلى آخرهم، ولم يبق منهم أحد، والشخص الذي هو آخرهم داخل في هذا الحكم؛ لأنَّ السياق يقتضي العموم والمبالغة؛ لأنَّ (عند) هنا تجعل لمطلق الظرفية حتى تكون بمعنى (في)، فكأنَّه قال: حتى توضأ الذين هم في آخرهم، وأنس رضي الله عنه داخل في عموم لفظ (الناس)، ولكن الأصوليين اختلفوا في أن المخاطِب _بكسر الطاء_ داخل في عموم متعلق خطابه أمرًا أو نهيًا أو خبرًا أم غير داخل؟ والجمهور: على أنه داخل، كذا قرره في «عمدة القاري»، ثم قال: و (حتى) هنا حرف ابتداء، وهو كناية عن توضؤ جميعهم حتى أنس كما مر؛ يعنيتُبتدَأ بعده الجملة المستأنفة وهي اسمية وفعلية، فالفعلية يكون فعلها ماضيًا ومضارعًا؛ نحو: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]، و «حتى توضؤوا»، ونحو: {حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] في قراءة نافع، و (من) للغاية وهو الغالب عليها حتى ادَّعى قوم أنَّ سائر معانيها راجعة إليها، وزعم الكرماني: أنَّ (من) للبيان، وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّه إنَّما تكون (من) للبيان إذا كان فيما قبلها إبهام، ولا إبهام هنا على أنَّ (من) التي للبيان كثيرًا ما يقع بعد [1] (ما) و (مهما) [2]؛ لإفراط إبهامهما؛ نحو: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2]، و {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} [الأعراف: 132]، ومع هذا أنكر قوم مجيء (من) للبيان، انتهى.
وتعقَّبه العجلوني، فقال: (وقد يقال: في ضمير «توضؤوا» إبهام، فيصح البيان) انتهى.
قلت: وهو مردود؛ لأنَّ الجماعة الحاضرين يومئذ كلهم معلومون معروفون للنبي الأعظم عليه السلام الدَّال عليهم ضمير (توضؤوا)، فلا إبهام أصلًا على أنه قد سبق أن عددهم معلوم على اختلاف الروايات، فمن أين جاء الإبهام؟! ولا يقول ذلك إلا من أحاط به الوهم والأوهام.
ونبع الماء من بين أصابعه عليه السلام أعظم معجزة مما أوتيه موسى عليه السلام حين ضرب بعصاه الحجر في الأرض؛ لأنَّ الماء معهود أن يتفجر من الحجارة، وليس بمعهود أن يتفجر من بين الأصابع؛ لأنَّها من لحم ودم، فلم يعهد من غيره عليه السلام، وهذه القضية _كما قاله عياض_ رواها الثقات من العدد الكثيرعن الجم الغفير عن الكافَّة متصلًا عمن حدَّث بها من جملة الصحابة، وإخبارهم أن ذلك كان في مواطن اجتماع الكثير منهم من محافل المسلمين، ومجمع العساكر، ولم يُرْوَ عن أحد من الصحابة مخالفة الراوي فيما رواه، ولا إنكار عما ذكر عنهم أنَّهم رأوه كما رآه، فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق منهم؛ لأنَّهم المنزهون عن السكوت على الباطل والمداهنة في كذب، وليس هناك رغبة ولا رهبة تمنعهم، فهذا النوع كله ملحق بالقطعي من معجزاته عليه السلام، وبهذا يرد على ابن بطال؛ حيث قال: هذا الحديث شهده جماعة كثيرة من الصحابة إلا أنَّه لم يرو إلَّا من طريق أنس، وذلك _والله أعلم_ لطول عمره، ويطلب الناس العلو في السند، انتهى فافهم.
وفي الحديث عدم وجوب طلب الماء للتطهير قبل دخول الوقت؛ لأنَّه عليه السلام لم ينكر عليهم التأخير، فدل على الجواز، وذكر ابن بطال: أنَّ الإجماع على أنَّه إن توضأ قبل الوقت؛ فحسن.
قلت: والتيمم كالوضوء، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وقال الشافعي: لا يجوز قبل دخول الوقت، ورد: بأنَّه لا فرق بينهما فمن أجاز الوضوء قبل دخول الوقت؛ يلزمه أن يجيز التيمم أيضًا؛ لأنَّه خلف عن الوضوء، والخلف يتبع الأصل فيما هو من لوازمه، وأوصافه، وأحكامه، لا يقال: إن الوضوء لا يحتاج إلى النية، والتيمم محتاج لها؛ لأنَّا [3] نقول: إن الماء خلق مطهرًا بنفسه بنص القرآن، والتراب ليس كذلك، بل هو ملوث، فبهذا الاعتبار احتاج إلى النية؛ فافهم واحفظ.
وفيه دلالة على أنَّه يستحب طلب الماء لمن كان على غير طهارة، وعند دخول الوقت يجب، وفيه رد على من ينكر المعجزة من الملاحدة، وفيه دليل على وجوب المساواة عند الضرورة لمن كان عنده [4] فضلة ماء عن وضوئه، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (بعدها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (وهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (لأن).
[4] في الأصل: (في)، ولعل المثبت هو الصواب.

==================
[1] في الأصل: (بعدها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (وهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (لأن).
[1] في الأصل: (بعدها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (وهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (لأن).

(1/309)


(33) [باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان]
هذا (باب) بيان طهارة (الماء الذي يُغسَل)؛ بضم التحتية على صيغة المجهول (به شعَر) بفتح العين (الإنسان)؛ أي: بني آدم؛ لأنَّ شعر الإنسان طاهر، فالماء الذي يغسل به طاهر، فأشار المؤلف إلى أن حكم الشعر الطهارة؛ لأنَّ المغتسل قد يقع في غسله من شعره، فلو كان نجسًا لتنجس الماء بملاقاته، ولم ينقل عن أحد أنَّ النبي الأعظم عليه السلام تجنب ذلك في اغتساله ووضوئه، بل كان عليه السلام يخلل أصول شعره، وهو يفضي إلى تناثر شعره، فدل على طهارته، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور.
(وكان عطاء)؛ بالمد: هو ابن أبي رباح، فيما وصله محمد بن إسحاق الفاكهي في أخبار مكة بسند صحيح: أنه (لا يرى به)؛ أي: بالانتفاع بشعر الإنسان الذي يحلق بمنًى (بأسًا)؛ لأنَّه طاهر، فجاز (أَن) بفتح الهمزة (يتخذ) بدل من الضمير المجرور في (به)؛ أي: لا يرى بأسًا باتخاذ؛ أي: بالاتخاذ (منها)؛ أي: من الشعور، وفي رواية: (منه)؛ أي: من الشعر (الخيوط والحبال) جمع خيط وحبل، والفرق بينهما بالرقة والغلظ، ولم يوجد في رواية لفظة (به)، وهو ظاهر، قال ابن بطال: أراد المؤلف بهذه الترجمة ردَّ قول الشافعي: إنَّ شعر الإنسان إذا فارق الإنسان؛ نجس، وإذا وقع في الماء؛ نجَّسه، وإذا وقع على المصلي؛ بطلت صلاته، وإذا كان في الذياد؛ نجسه؛ لأنَّه لو كان نجسًا كما قال؛ لما جاز اتخاذه خيوطًا وحبالًا.
ومذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: أنه طاهر، وكذا شعر الميتة، والأجزاء الصلبة التي لا دم فيها؛ كالقرن، والعظم، والسن، والحافر، والظلف، والخف، والوبر، والصوف، والعصب، والريش، والإنفحة الصلبة، كذا قاله في «البدائع»، وكذا من الآدمي على الأصح كما في «المحيط»، و «التحفة»، وفي «الخانية»: أنَّه الصحيح عندنا، وقد وافقنا على صوفها، ووبرها، وشعرها، وريشها مالك وأحمد، وإسحاق، والمزني، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، وحماد، وداود في المعظم منها، وخالفنا الشافعي، فقال أبو الطيب: الشعر، والصوف، والوبر، والعظم، والقرن، والظلف؛ تحلها الحياة، وتنجس بالموت، هذا هو المذهب وهو الذي رواه المزني، والبويطي، والربيع، وحرملة عن الشافعي وصححه جماعة منهم، وروى إبراهيم البكري، عن المزني، عن الشافعي: أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي؛ لأنَّه تابع للجلد يطهر بطهارته، وينجس بنجاسته، والصحيح عندهم الأول، وقال الماوردي ونقله الربيع الجيزي عن الشافعي: أن شعر النبي الأعظم عليه السلام الصحيح القطع بطهارته.
قلت: يشير بذلك إلى أن لهم قولًا بغير ذلك، وأنه الأصح؛ لأنَّ مقابل الصحيح الأصح، ونعوذ بالله تعالى من هذا القول المفضي إلى الجرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموصل [1] إلى الأذى له عليه السلام المدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} ... ؛ الآية [الأحزاب: 57] وقد اخترق بعض الشافعية وكاد أن يخرج عن دائرة الإسلام حيث صرح، وقال: وفي شعر النبي وجهان، قلت: وحاشا شعر النبي الأعظم عليه السلام
%ص 135%
من ذلك، وكيف قال هذا وإنَّه لا يقوله جاهل ألبتة فضلًا عن منسوب إلى العلم، وإنَّه قد صمت أذنه عن قول العلماء الأعلام: إن فضلاته عليه السلام طاهرة فضلًا عن شعره الشريف.
ثم قال الماوردي وغيره: وإنما قسم النبي عليه السلام شعره بين أصحابه للتبرك ولا يتوقف التبرك على كونه طاهرًا. قلت: هذا أشنع وأقبح من ذلك؛ فإنَّ النجاسة تنافي التبرك، وهل رأيت أحدًا يتبرك بشيء نجس؟ فهذا جرأة وافتراء على رسول الله عليه السلام، وربما يحرم الشفاعة بهذا الكلام القبيح الذي لا يقوله عاقل، ولا يصدر من غبي جاهل، وقال كثير من الشافعية نحو قول الماوردي، ولو ذكرنا كلامهم؛ لطال المقام، لكن {لَاتَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
ثم قالوا: لأنَّ القدر الذي أخذ كان يسيرًا معفوًّا عنه، قلت: وهذا أيضًا أقبح من الكل، وأعظم جرأة وافتراء، وغرضهم من ذلك تعنتهم وتعصبهم لمذهبهم في تنجس شعر بني آدم، فلما أورد عليهم شعر النبي الأعظم عليه السلام؛ أوَّلوا هذه التأويلات الفاسدة، وقالوا: هذه الأقوال القبيحة الخاسرة الذي يردها الطبع السليم، وينفر عنها من اهتدى إلى الصراط المستقيم.
وقال بعض شراح «البخاري»: وفي دمه عليه السلام وجهان، والأليق الطهارة، وذكر القاضي حسين في العذرة وجهين، وأنكر بعضهم على الغزالي حكايتهما فيها، وزعم نجاستها بالاتفاق.
قلت: وما للغزالي من هفوات حتى في تعلقات النبي الأعظم عليه السلام، كيف وقد وردت أحاديث كثيرة أنَّ جماعة شربوا دمه عليه السلام؛ منهم: أبو طيبة الحجام، وغلام من قريش حجمه عليه السلام، وعبد الله بن الزبير شرب دمه عليه السلام، رواه البزار، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، وأبو نعيم، وغيرهم، ويروى عن علي رضي الله عنه: (أنه شرب دمه عليه السلام)، وروي أيضًا: (أن أم أيمن شربت بوله عليه السلام)، رواه الحاكم، والدارقطني، والطبراني، وأبو نعيم، وأخرج الطبراني في «الأوسط» رواية سلمى امرأة أبي رافع: أنها شربت بعض ما غسل النبي عليه السلام، فقال لها: «حرم الله بدنك على النار»، فقد عميت أبصارهم، وصممت آذانهم عن هذه الأحاديث وغيرها الواردة في هذا الشأن، ولا يقول قولهم إلا شيطان.
وقال بعض الشافعية: والحقُّ أنَّ حكم النبي عليه السلام كحكم جميع المكلفين في الأحكام التكليفية إلَّا فيما يخص بدليل، وأجاب في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ويلزم من هذا أن يكون الناس مساويين [2] للنبي الأعظم عليه السلام، ولا يقول بذلك إلا جاهل غبي، ومكابر عتي [3]، وأين مراتبه من مراتب الناس؟! ولا يلزم أن يكون دليل الخصوص بالفعل دائمًا، والفعل له مدخل في غير النبي عليه السلام من غيره في مثل هذه الأشياء، وأنا أعتقد أنه لا يقاس عليه غيره، وإن قالوا غير ذلك، فأذني عنه صماء) انتهى.
وتعقَّبه العجلوني حيث قال: (ولا يلزم من مساواة الناس له عليه السلام في هذا الحكم أن تكون مراتبهم مثل مرتبته عليه السلام، ألا ترى أنَّهم ساووه في غالب الأحكام) انتهى.
قلت: وهذه محاولة ومكابرة عن الحق؛ لأنَّ قوله: (حكم النبي عليه السلام كحكم جميع المكلفين) إدخال له عليه السلام تحت الحكم وهو مشرع الأحكام، فيلزم التنقيص في مرتبته عليه السلام، وهو عليه السلام أفضل الأنبياء والمرسلين والخلق أجمعين، ومساواتهم له عليه السلام في غالب الأحكام من حيث إنَّه شرعَها لهم، فيلزمهم اتِّباعه فيما شرع، فلا يكون حكمه كحكمهم في الأحكام؛ لأنَّ الله تعالى جعله منبع الشريعة المطهرة، وكيف يقال: إنَّه مثلهم ومساوٍ لهم ولا يقوله إلَّا متعنت ومكابر، وجاهل متجاسر، ومن هنا ظهر أن تكلم الشافعية على الحنفية لا يلتفت إليه؛ لأنَّهم قد تكلموا على النبي الأعظم عليه السلام بما يحط في مرتبته الشريفة، وينقص في مقامه المنيف، فاعلم ذلك، والله الموفق للصواب.
(وسؤرِ الكلاب) بالجرِّ عطفًا على قوله: (باب الماء)؛ والتقدير: وباب سؤر الكلاب؛ يعني: ما حكمه؟ وفي رواية: (وسؤر الكلب) بالإفراد، والسؤر؛ بالهمز: بقية الماء الذي يبقيها الشارب، وقال ثعلب: هو ما بقي من الشراب وغيره، وقال ابن درستويه: والعامة لا تهمزه، وترك الهمزة ليس بخطأ، ولكن الهمز أفصح وأعرف.
(وممرِّها في المسجد) وزاد في رواية: (وأكلِها)؛ بالجر من إضافة المصدر إلى فاعله؛ أي: وباب حكم ما تأكله هل ينجس أم لا؟ وهو مأخوذ من ولوغها، فإنِّها إذا لم تنجِّس الماء بولوغها؛ فلا تنجِّس ما تأكل منه، قال ابن الملقِّن: وقصد المؤلف بذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره، وقال الإسماعيلي: أراه نحا ذلك بما ذكره من الأخبار وهي صحيحة، إلا أن في الاستدلال بها على طهارة الكلب نظرًا) انتهى، ووجه النظر ما قاله ابن الملقن أنَّ الأمر بالغسل من ولوغه ظاهر في أنَّه لنجاسته لا للتعبُّد، وأما غرق الماء بالخف؛ فليس فيه أنَّ الكلب شربه منه، وعلى تسليمه، فشرع من قبلنا شرع لنا إذا قصَّه الله ورسوله علينا من غير نكير، وهنا ليس كذلك بل هو منسوخ في شرعنا، ولا يلزم من إقبال الكلاب في المسجد وإدبارها طهارتها، لكن ذلك مظنة بولها، ولم يعلم أنه أمر بغسله كما أمر بغسل بول الأعرابي، ويؤيِّده ما سيأتي: (وأنها كانت تبول فيه)، وابن وهب يرى طهارة بولها، وأمَّا حديث عدي؛ فهو مسوقٌ؛ لأنَّ قتله ذكاة لا لطهارته؛ فافهم.
(وقال) محمد بن مسلم ابن شهاب (الزهري) فيما رواه أبو الوليد بن مسلم في «مصنفه» عن الأوزاعي وغيره، وأخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» من طريقه بسند صحيح: (إذا ولغ الكلب)؛ بالغين المعجمة، وهو في الكلاب والسباع كلِّها؛ وهو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كلِّ مائع فيحركه فيه تحريكًا قليلًا أو كثيرًا، وقيل: إن كان غير مائع؛ يقال: لعقه ولحسه، وقيل: إن كان الماء فارغًا؛ يقال: لحسه، وإن كان فيه شيء؛ يقال: ولغ، كذا في «المغرب»، وسقط في رواية لفظ: (الكلب)، ولكن القرينة تدل عليه؛ لأنَّ ضمير (ولغ) عائد إليه سواء كان معلَّمًا أو غيره (في إناء) ولأبي ذر: (في الإناء) (ليس له) أي: لمريد الوضوء (وَضوءٌ)؛ بفتح الواو؛ أي: الماء الذي يتوضأ به (غيرَُه)؛ بالرفع أو النصب، والجملة المنفية حال، وسقط في رواية؛ أي: غير ذلك الإناء الذي ولغ فيه (يتوضأ به) جواب الشرط، وهو (إذا)، وفي رواية: (حتى يتوضأ بها)؛ أي: ببقية الماء، وفي رواية: (فيها)، فيؤوَّل الإناء بالمطهرة أو الإداوة؛ فالمعنى: يتوضأ بالماء الذي فيها، كذا في «عمدة القاري».
(قال سفيان)؛ أي: الثوري؛ لأنَّ الوليد بن مسلم لمَّا روى هذا الأثر الذي رواه الزهري؛ ذكر عقيبه بقوله: (فذكرت ذلك لسفيان الثوري فقال: والله) (هذا)؛ أي: الحكم بالتوضؤ به (الفقه بعينه) المستفاد من القرآن؛ (لقول الله عزَّ وجلَّ) وفي رواية: (بقول الله تعالى): ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}) وفي رواية القابسي عن المروزي: (فَإن لَم تَجدُوا)، وهو غلط؛ لمخالفته للتلاوة ولم يوجد في شيء من القراءات بعد التبع الكثير، ولم يوافق القابسي على هذه الرواية أحد إلا ما حكاه أبو نعيم، قال ابن حجر: ولعلَّه رواه بالمعنى؛ بناء على تجويزه ذلك، وهو خلاف الصواب؛ لأنَّ القراءة بالرواية لا بالرأي على الصحيح، قاله العجلوني.
%ص 136%
وقال في «عمدة القاري»: (وقول بعضهم: «لعلَّه رواه بالمعنى» لا يصح أصلًا؛ لأنَّه قلب لكلام الله تعالى، والظاهر أنه سهو وغلط؛ فافهم).
(وهذا) أي: الذي ولغ الكلب فيه (ماء) وللأصيلي: (فهذا ماء)، فهو داخل تحت عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}؛ لأنَّ {مَاءً} نكرة في سياق النفي، فتعم، ولا يخص إلا بدليل فسمى الثوري الأخذ بدلالة العموم فقهًا.
(وفي النفس منه شيء)؛ أي: دغدغة، وهو من تتمة كلام الثوري، وذلك لعدم ظهور دلالته أو لوجود معارض له؛ إما من القرآن أو غير ذلك، فلذا قال: (يتوضأ به) وفي رواية: (منه)؛ أي: الماء المذكور، (ويتيمم)؛ لأنَّ الماء الذي شكَّ فيه كالعدم؛ لاختلاف العلماء، والواو لمطلق الجمع، فلا يشترط الترتيب بل الشرط الجمع بينهما سواء قدَّم الوضوء أو أخَّره، كذا في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (الموصلي)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (مسايا)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (عبي)، وهو تصحيف.

==================
[1] في الأصل: (الموصلي)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (مسايا)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (الموصلي)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (مسايا)، وهو تحريف.

(1/310)


[حديث: عندنا من شعر النبي أصبناه من قبل أنس]
170# وبه قال: (حدثنا مالك بن إسماعيل)؛ أي: ابن غسان النهدي، المتوفى سنة تسع عشرة ومئتين (قال: حدثنا إسرائيل): هو ابن يونس بن إسحاق السبيعي أبو يوسف الكوفي الهمداني، المتوفى سنة ستين ومئة، (عن عاصم): هو ابن سليمان البصري، المتوفى سنة اثنتين وأربعين ومئة، وما في «شرح العجلوني» من أنه (ومئتين)؛ فخطأ؛ فافهم، (عن ابن سيرين) هو محمد المشهور: أنَّه (قال: قلت لعَبِيدة)؛ بفتح العين المهملة، وكسر الموحدة، آخره هاء، ابن عمرو، أو ابن قيس بن عمرو السَّلْماني؛ بفتح السين المهملة، وسكون اللام، المرادي الكوفي، أسلم في حياة النبي الأعظم عليه السلام بسنتين، ولم يلقه فهو أحد التابعين المخضرمين، المتوفى سنة اثنتين وسبعين أو ثلاث، ومقول قول ابن سيرين لعبيدة: (عندنا من شعَر)؛ بفتح العين وسكونها (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عندنا شيء من شعره، ويحتمل أن (من) للتبعيض؛ والتقدير: بعض شعره عليه السلام، فيكون (بعض) مبتدأ، وقوله: (عندنا) خبره، ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفًا؛ أي: عندنا شيء من شعره عليه السلام، أو عندنا من شعره شيء (أصبناه) أي: حصل لنا (من قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: من جهة (أنس) أي: ابن مالك (أو) للتشكيك (من قِبَل)؛ بكسر وفتح؛ أي: من جهة (أهل أنس)؛ أي: ابن مالك، وذلك لأنَّ سيرين والد محمد كان مولًى لأنس بن مالك، وأنس ربيب أبي طلحة، والنبي الأعظم عليه السلام أعطى شيئًا من شعره لأبي طلحة، فبقي إلى أن آل لمولاه محمد، (فقال) أي: عبيدة: (لأن تكون عندي شعرة) أي: واحدة (منه) أي: من شعر النبي الأعظم عليه السلام (أحبُّ)؛ بالرفع خبر المصدر المؤول من (أن تكون) واللام للابتداء، و (تكون) ناقصة، فـ (شعرة) اسمها، والظرف قبلها خبرها، ويحتمل أن تكون تامة، فـ (شعرة) فاعلها، والظرف متعلق بها، أو حال من (شعرة) تقدم عليها؛ فافهم، (إليَّ من الدنيا وما فيها)؛ أي: من متاعها، وللإسماعيلي: (أحب إليَّ من كل صفراء وبيضاء)، وروي أن خالد بن الوليد رضي الله عنه جعل في قلنسوته من شعر النبي عليه السلام، فكان يدخل بها الحرب وينتصر ببركته، فسقطت عنه يوم اليمامة، فاشتد عليها شدة، وأنكر الصحابة عليه، فقال: لم أفعل ذلك لقيمة القلنسوة، لكني كرهت أن تقع في أيدي المشركين وفيها من شعره عليه السلام.
ووجه المطابقة أنَّه لما جاز اتِّخاذ شعر النبي الأعظم عليه السلام والتبرُّك به لطهارته؛ دلَّ على أنَّ مطلق الشعر طاهر، وإلَّا لما حفظوه، ولا تمنَّى عبيدة أن يكون عنده شعرة واحدة منه، وإذا كان طاهرًا؛ فالماء الذي يغسل به طاهر، وتُعقِّب بأنَّ شعره عليه السلام مكرَّم لا يقاس عليه غيره، وأجيب: بأنَّ الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والأصل عدمها؛ فافهم.
==========
%ص 137%

==================

(1/311)


[حديث: أن رسول الله لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره]
171# وبه قال: (حدثنا محمد بن عبد الرحيم) المشهور بصاعقة، البغدادي (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (سعيد بن سليمان) أبو عثمان الضبي البزار سعدويه، الواسطي، الحاج ستين حجة، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئتين عن مئة سنة، وما في «القسطلاني» من أنه توفي سنة خمس وثمانين؛ فخطأ ظاهر (قال: حدثنا عَبَّاد)؛ بفتح المهملة، وتشديد الموحدة، ابن العوَّام؛ بتشديد الواو، أبو سهل الواسطي، المتوفى سنة خمس وثمانين ومئة ببغداد، (عن ابن عَوْن)؛ بفتح المهملة، وسكون الواو، آخره نون، واسمه عبد الله التابعي، وسيد القرَّاء في زمانه، (عن ابن سيرين) محمد المشهور، (عن أنس) وللأصيلي زيادة: (ابن مالك رضي الله عنه): (أن النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم لمَّا حلق رأسه)؛ أي: في حجة الوداع، وإسناد الحلق إليه مجاز والقرينة عادية؛ نحو: بنى الأمير المدينة، والصحيح أنَّ الحالق للنبي الأعظم عليه السلام معمرُ بن عبد الله، وقيل: خِراش بن أمية؛ بكسر الخاء المعجمة، آخره شين معجمة أيضًا، وأمَّا في الحديبية؛ فالصحيح أنَّ الحالق له هو خِراش.
وقوله: (كان أبو طلحة) جواب (لمَّا)، واسمه زيد بن سهل بن الأسود النجاري زوج أم سليم والدة أنس، شهد المشاهد كلَّها مع النبيِّ الأعظم عليه السلام، المتوفى بالمدينة على الأصح سنة اثنتين وثلاثين، وصلَّى عليه ثالث الخلفاء عثمان ذي النُّورين، وقول القسطلاني: المتوفى سنة سبعين؛ خطأ ظاهر (أول من أخذ من شعره) عليه السلام، وأخرج أبو عوانة هذا الحديث في «صحيحه» بأظهر مما هنا، وهو: أنَّ رسول الله عليه السلام أمر الحلَّاق فحلق رأسه، ودفع إلى أبي طلحة الشقَّ الأيمن، ثمَّ حلق الشقَّ الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس، ورواه مسلم بلفظ: لمَّا رمى الجمرة ونحر نسكه؛ ناول الحلَّاق شقَّه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه، ثم ناوله الشقَّ الأيسر فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، وقال: «اقسمه بين الناس»، وله في رواية أخرى: أنَّه قسم الأيمن فيمن يليه، وفي لفظ: (فوزَّعه بين الناس الشعرة والشعرتين، وأعطى الأيسر أم سليم)، وفي لفظ: (أبا طلحة) ولا تناقض بين هذه الروايات؛ لإمكان الجمع: بأنه ناول أبا طلحة كلًّا من الشقَّين، فأمَّا الأيمن؛ فوزعه أبو طلحة بأمره بين الناس، وأمَّا الأيسر؛ فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره عليه السلام أيضًا، زاد أحمد في رواية له: (لتجعله في طيبها)، فالضمير في (قسمه) وفي (اقسمه) عائد إلى الشق الأيمن، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
وفي الحديث: استحباب البداءة بالشق الأيمن من رأس الحالق، وهو قول الإمام الأعظموالجمهور، وما نقله العجلوني عن الإمام الأعظم من خلافه؛ فخطأ ظاهر؛ لأنَّ كتب المذهب طافحة بذلك؛ فافهم.
وفيه: طهارة شعر الآدمي وهو قول إمامنا الإمام الأعظم والجمهور، خلافًا للشافعي، والحديث حجة عليه؛ فافهم.
وفيه: التبرك بشعره عليه السلام وجواز اقتنائه والصلاة فيه، وحمله في عمامته؛ كما فعله خالد بن الوليد.
وفيه: المواساة بين الأصحاب في العطية والهدية، قال في «عمدة القاري»: والمواساة لا تستلزم المساواة.
وفيه: تنفيل من يتولَّى التفرقة على غيره.
هذا (بابٌ) بالتنوين: (إذا شرِب) بكسر الرَّاء ((الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبعًا) وهذه الترجمة لفظ حديث الباب، وهي مع لفظ (باب) ساقطة في رواية، وعليها شرح الشيخ الإمام بدر الدين العيني، ووجه سقوطها ظاهر؛ لأنَّ الباب الأول مشتمل على حكمين؛ أحدهما: في طهارة الشعر، والثاني: في سؤر الكلاب، فالذي قدَّمه ==========
%ص 137%
إنَّما هو لبيان الحكم الأول، وهنا أراد

==================

(1/312)


[حديث: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا]
172# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، وفي رواية: (عن مالك)، (عن أبي الزِناد)؛ بكسر الزاي المعجمة، بعدها النُّون، واسمه عبد الله بن ذكوان القرشي المدني، (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه: أنَّه (قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم) وسقط لفظ: (قال) في رواية، (قال: إذا شرِب الكلب)؛ بكسر الرَّاء؛ أي: ولغ الكلب، وهذه الرواية كرواية «الموطأ»، لكن المشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور أصحابه عنه: «إذا ولغ» وهو المعروف في اللغة، وزعم الكرماني: ضمَّن (شرِب) معنى (ولغ)، فعُدِّي تعديته، واعترضه في «عمدة القاري»: بأنَّ الشارع عليه السلام أفصح الفصحاء، وروي عنه (شرب) و (ولغ) لتقاربهما في المعنى، فلا حاجة إلى هذا التكليف، لا يقال: الشرب أخص من الولوغ فلا يقوم مقامه؛ لأنَّا نقول: لا نسلم عدم
%ص 137%
قيام الأخص مقام الأعم؛ لأنَّ الخاص له دلالة على العام اللازم؛ كلفظ: (الإنسان) له دلالة على مفهوم الحيوان بالتضمن؛ لأنَّه جزء مفهومه، وكذا له دلالة على مفهوم الماشي بالقوة بالالتزام لكونه خارجًا عن معنى الإنسان لازمًا له فعلى هذا يجوز أن يذكر الشرب ويراد به الولوغ، وادعى ابن عبد البر أن لفظه: (شرب) لم يروه إلا مالك، وأن غيره رواه بلفظ: (ولغ)، وليس كذلك؛ فقد رواه ابن خزيمة، وابن المنذر من طريقين بلفظ: (إذا شرب [1])، وكذا أخرجه مسلم وغيره، وكذا مالك، وأخرجه أبو عبيد والدارقطني في «الموطأ» من طريق أبي [عليٍّ] الحنفي؛ كلهم بلفظ: (إذا ولغ)، والولوغ: هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه، زاد ابن درستويه: شرب أو لم يشرب، وقيل: إن كان غير مائع؛ يقال: لعقه، وقال الإمام المطرزي في «المغرب»: فإن كان فارغًا؛ يقال: لحسه، ومفهوم الشرط يقتضي قصر الحكم على الولوغ، وإذا قلنا: الأمر بالغسل للتنجس؛ يتعدى الحكم إلى اللحس أيضًا، والغالب الولوغ، ولا يصح إلحاق يده وبقية أعضائه بفمه؛ لأنَّ الحكم بالتنجس لأجل اختلاط لعابه النجس في الماء والمائع والآنية، وبقية أعضائه لا لعاب فيها، فافترقا، وقاس الشافعي أعضاءه على فمه، وهو قياس مع الفارق، وخص مالك الغسل بالولوغ؛ لأنَّ الكلب عنده طاهر، فالأمر بالغسل عنده للتعبُّد لا للنجاسة، وهو بعيد جدًّا؛ لأنَّ الحديث يَحتَمل أن يكون الأمر للنجاسة، ويَحتَمل أن يكون للتعبد، ولكن رجح الأول بما رواه مسلم وغيره: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب»، وروايته أيضًا: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛ فليريقه، ثم ليغسله سبع مرات»، ولو كان سؤره طاهرًا؛ لما أمر عليه السلام بإراقته وغسله، فدلَّ على نجاسته، ولأنَّ الطهارة إمَّا للتعبد، أو الحدث، أو الخبث، وهي منتفية عن الإناء، فيتعين الخبث؛ فافهم.
وقصد المؤلف بيان مذاهب النَّاس، فبيَّن في هذا الباب مسألتين؛ أولاهما: الماء الذي يغسل به الشعر، والثانية: سؤر الكلاب، وهو الظاهر، ويدل عليه أنه قال في المسألة الثانية: (وسؤر الكلاب) واقتصر على هذه اللفظة، ولم يقل: وطهارة سؤر الكلاب.
(في) وفي رواية: (من) (إناء أحدكم؛ فليغسله سبعًا)؛ أي: سبع مرات، وفي رواية: (سبع مرات أولاهنَّ بالتراب)، وفي أخرى: (أولاهنَّ أو أخراهنَّ)، وفي أخرى: (سبع مرات وعفِّروه الثامنة)، والأمر في ذلك للاستحباب لا للوجوب، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، ويدلَّ عليه أنَّ أبا هريرة الذي روى السبع رُوِيَ عنه غَسْل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا فعلًا وقولًا مرفوعًا وموقوفًا من طريقين؛ الأول: أخرجه الدارقطني بإسناد صحيح من حديث عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء؛ فأهرقه، ثم اغسله ثلاث مرات)، قال الشيخ تقي الدين: (هذا إسناد صحيح)، والطريق الثاني أخرجه ابن عديٍّ في «الكامل» عن الحسين بن علي الكرابيسي قال: حدثنا إسحاق الأزرق: حدثنا عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛ فليهرقه وليغسله ثلاث مرات»، ثم أخرجه عن عمر بن شيبة، وعبد الملك أخرج له مسلم في «صحيحه»، وقال أحمد والثوري: إنَّه من الحفاظ، ووثَّقه الثوري، وسماه الميزان، والكرابيسي وثَّقه أحمد وغيره، فثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنَّ أبا هريرة هو راوي السبع، والراوي إذا عمل بخلاف روايته أو أفتى بخلافها؛ لا تبقى حجة [2]؛ لأنَّ الصحابي لا يحل له أن يسمع من النبي الأعظم عليه السلام شيئًا ويفتي أو يعمل بخلافه؛ لأنَّ ذلك يسقط عدالته ولا تقبل روايته، والواجب علينا تحسين الظنِّ بالصحابي لا سيما أبو هريرة مهما أمكن، فدلَّ ذلك على نسخ ما رواه من السبع، ويدلُّ عليه ما رواه الحافظ الطَّحاوي بإسناده عن ابن سيرين: أنَّه كان إذا حدَّث عن أبي هريرة؛ فقيل له: عن النبي عليه السلام؟ فقال: كلُّ حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام، على أن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب، ولم يعتد بالسبع، فيكون الولوغ من باب أولى، على أنَّ تغليظ الحكم في ولوغ الكلب إما للتعبد، أو محمول على من غلب على ظنه أنَّ نجاسة الولوغ لا تزول بأقل منها، وإمَّا أنَّه أمرهم بالثلاث، فلم ينتبهوا، فغلَّظ عليهم بذلك.
ويحتمل أنَّ الأمر بالسبع كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلمَّا نهى عن قتلها؛ نسخ الأمر بالغسل سبعًا، واعترض بأنَّ الأمر بالقتل كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخِّر عنه؛ لأنَّه من رواية أبي هريرة، وعبد الله بن مغفل، وكان إسلامهما سنة سبع.
وأجيب: بأن الأمر بقتل الكلاب في أوائل الهجرة يحتاج إلى دليل قطعي، على أنَّه قد ثبت أن ذلك كان بعد الأمر بقتلها، ولئن سلَّمناه؛ فكان يمكن أن يكون أبو هريرة وعبد الله قد سمعا ذلك من صحابي أنَّه أخبرهما عن النبي عليه السلام لاعتمادهما على صدق المرويِّ عنه؛ لأنَّ الصحابة كلَّهم عدول.
وقيل: إنَّه وقع الإجماع على خلافه في العمل، واعترض: بأنه قد ثبت القول بذلك عن أحمد والحسن.
وأجيب: بأنَّ مخالفة الأقل لا تمنع مخالفة الإجماع، وهو مذهب الجمهور من الأصوليين، وما روي عن الشافعي أنَّه قال: حديث ابن مغفل لم أقف على صحته؛ ممنوع؛ لأنَّه لا يلزم من عدم ثبوته عنده ترك العمل به عند غيره، على أنه أجمع الحفاظ على صحته، ورواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، فإنَّه زاد فيه: (وعفِّروه الثامنة بالتراب)، والزائد أولى من الناقص، فكان ينبغي للمخالف أن يقول: لا يطهر إلَّا بأن يُغسل ثمان مرات الثامنة بالتراب؛ ليأخذ بالحديثين جميعًا، فإن ترك حديث ابن مغفل؛ فقد لزمه ما لزم خصمه في ترك السبع، ومع هذا لم يأخذ بالتعفير الثابت في الصحيح مطلقًا، قيل: إنَّه منسوخ.
فإن اعترض بما قاله البيهقي أنَّ أبا هريرة أحفظ؛ فروايته أولى.
أجيب: بالمنع، بل رواية ابن مغفل أولى؛ لأنَّه أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب، وقال الحسن البصري: إنَّه من أصحاب الشجرة، وهو أفقه من أبي هريرة، والأخذ بروايته أحوط، ولهذا ذهب الحسن البصري إليه؛ فافهم.
وفي الحديث نجاسة الإناء، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين الكلب البدوي والحضري؛ لعموم اللفظ.
وقال الكرماني: (في الحديث دليل على تحريم بيع الكلاب).
قلت: وهو مردود؛ لأنَّه منتفع به حراسة واصطيادًا، قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]؛ فيصح بيعه عندنا، وما روي: (أنَّه نهى عليه السلام عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن)؛ فإنما هذا كان في زمن كان النبي الأعظم عليه السلام أمر فيه بقتل الكلاب وكان الانتفاع بها يومئذٍ محرمًا، ثم بعد ذلك قد رخص في الانتفاع بها، وروى الحافظ
%ص 138%
الطحاوي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهمًا، وقضى في كلب ماشية بكبش)، وعنه عن عطاء: (لا بأس بثمن الكلب)، فهذا قول عطاء، وقد روي عن النبي الأعظم عليه السلام: «أنَّ ثمن الكلب من السحت»، وعنه عن ابن شهاب: (أنه إذا قتل الكلب المعلَّم؛ فإنه يقوم قيمته، فيغرِّمه الذي قتله)، فهذا قول الزهري، وقد روي عن أبي بكر بن عبد الرحمن: (أنَّ ثمن الكلب من السحت)، وعنه عن المغيرة، عن إبراهيم قال: (لا بأس بثمن كلب الصيد)، وروي عن مالك: إجازة بيع كلب الصيد والزرع والماشية، ولا خلاف عنه في أنَّه من قَتَل كلب صيد أو ماشية؛ فإنَّه يجب قيمته عليه، وعن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه: (أنَّه أجاز الكلب الضَّاري في المهر، وجعل على قاتله عشرين من الإبل)، ذكره أبو عمر في «التمهيد»، كذا في «عمدة القاري»، وتمامه فيه؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (ولغ)، والمثبت من «العمدة».
[2] في الأصل: (حجته)، ولعل المثبت هو الصواب.
173# وبه قال: (حدثنا إسحاق): هو ابن منصور بن بهرام الكوسج الحافظ أبو يعقوب التميمي المروزي نزيل نيسابور، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين في جمادى الأولى، وليس هو إسحاق بن إبراهيم الحمصي، كما جزم به أبو نعيم في «المستخرج»، وزعم الكرماني: بأنه إسحاق ابن راهويه، وهو خطأ أيضًا؛ فليحفظ (قال: أخبرنا عبد الصمد)؛ أي: ابن عبد الوارث (قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار): المدني العدوي، قال في «عمدة القاري»: (تكلموا فيه، لكنه صدوق مؤمن، ولم ينفرد بهذا الحديث، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي)، (قال: سمعت أبي): عبد الله بن دينار التابعي مولى ابن عمر رضي الله عنهما، (عن أبي صالح)؛ أي: ذكوان الزيات، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا) قال في «عمدة القاري»: (وهذه من الوقائع التي وقعت في زمن بني إسرائيل، فلذلك قال: «أن رجلًا» ولم يسمِّ الرجل) انتهى (رأى) أي: أبصر (كلبًا) وجملة قوله: (يأكل الثَّرَى)؛ بفتح الثاء المثلثة والرَّاء، مقصور؛ وهو التراب الندي؛ أي: يلعق التراب، كما في «عمدة القاري» (من العطش)؛ أي: من أجله أو بسببه صفة (كلبًا)، ولا يجوز أن تكون حالًا كما زعمه الكرماني؛ لأنَّ شرطها أن يكون ذو الحال معرفة، وهنا نكرة، ولا يجوز أن تكون مفعولًا ثانيًا؛ لأنَّ الرؤية بمعنى الإبصار، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فأخذ الرجل) المذكور (خفَّه، فجعل) من أفعال المقاربة، وهي ما وضع لدنو الخبر رجاءًأو حصولًا أو أخذًا [1] فيه، والضمير فيه اسمه، وقوله: (يغرف)؛ بالغين المعجمة، جملة خبره؛ أي: طفق يغرف (له) أي: للكلب بالخف (حتى أرواه)؛ أي: جعله ريَّانًا، وفي رواية: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج؛ فإذا كلب يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان نزل بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب)، وفي أخرى: (بينما كلب يطيف بركبه كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي، فنزعت [2] موقها فسقته، فغفر لها)، (فشكر الله له)؛ أي: أثنى عليه، أو جازاه، يقال: شكرته وشكرت له، واللام أفصح، (فأدخله الجنة) من عطف الخاص على العام، والفاء تفسيرية؛ نحو: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] على ما فُسِّر من أن القتل كان نفس توبتهم، وفي رواية أخرى: فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله؛ إن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «إن في كلِّ كبد رطبة أجرًا».
ففي الحديث: الإحسان إلى كل الحيوان بسقيه ونحوه، وهذا في الحيوان المحترم، وهو ما لا يؤمر بقتله، ولا يناقض هذا ما أمرنا بقتله، أو أبيح قتله، فإن ذلك إنَّما شرع لمصلحة راجحة، ومع ذلك فقد أمرنا بإحسان القتلة، وفيه حرمة الإساءة إليه، وإثم فاعله، فإنه ضد الإحسان المؤجر عليه، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت.
واستدل مالك بالحديث على طهارة سؤر الكلب؛ لأنَّ الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شكَّ أن سؤره بقي فيه.
وأجيب: بأنه ليس فيه أن الكلب شرب الماء من الخف؛ لأنَّه قد يجوز أنَّه غرفه به، ثم صبه في مكان غيره، أو يمكن أنَّه يكون غسل خفَّه إن كان سقاه فيه، وعلى تقدير أن يكون سقيه فيه؛ لا يلزمنا هذا؛ لأنَّ هذا كان في شريعة غيرنا على ما رواه الناس عن أبي هريرة، وهو منسوخ في شرعنا.
وفيه وجوب نفقة البهائم المملوكة على مالكها بالإجماع، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (أخذ)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (فرعت)، ولعله تحريف عن المثبت.

==================
[1] في الأصل: (ولغ)، والمثبت من «العمدة».
[2] في الأصل: (حجته)، ولعل المثبت هو الصواب.×173# وبه قال: (حدثنا إسحاق): هو ابن منصور بن بهرام الكوسج الحافظ أبو يعقوب التميمي المروزي نزيل نيسابور، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين في جمادى الأولى، وليس هو إسحاق بن إبراهيم الحمصي، كما جزم به أبو نعيم في «المستخرج»، وزعم الكرماني: بأنه إسحاق ابن راهويه، وهو خطأ أيضًا؛ فليحفظ (قال: أخبرنا عبد الصمد)؛ أي: ابن عبد الوارث (قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار): المدني العدوي، قال في «عمدة القاري»: (تكلموا فيه، لكنه صدوق مؤمن، ولم ينفرد بهذا الحديث، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي)، (قال: سمعت أبي): عبد الله بن دينار التابعي مولى ابن عمر رضي الله عنهما، (عن أبي صالح)؛ أي: ذكوان الزيات، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا) قال في «عمدة القاري»: (وهذه من الوقائع التي وقعت في زمن بني إسرائيل، فلذلك قال: «أن رجلًا» ولم يسمِّ الرجل) انتهى (رأى) أي: أبصر (كلبًا) وجملة قوله: (يأكل الثَّرَى)؛ بفتح الثاء المثلثة والرَّاء، مقصور؛ وهو التراب الندي؛ أي: يلعق التراب، كما في «عمدة القاري» (من العطش)؛ أي: من أجله أو بسببه صفة (كلبًا)، ولا يجوز أن تكون حالًا كما زعمه الكرماني؛ لأنَّ شرطها أن يكون ذو الحال معرفة، وهنا نكرة، ولا يجوز أن تكون مفعولًا ثانيًا؛ لأنَّ الرؤية بمعنى الإبصار، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.× (فأخذ الرجل) المذكور (خفَّه، فجعل) من أفعال المقاربة، وهي ما وضع لدنو الخبر رجاءًأو حصولًا أو أخذًا [1] فيه، والضمير فيه اسمه، وقوله: (يغرف)؛ بالغين المعجمة، جملة خبره؛ أي: طفق يغرف (له) أي: للكلب بالخف (حتى أرواه)؛ أي: جعله ريَّانًا، وفي رواية: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج؛ فإذا كلب يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان نزل بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب)، وفي أخرى: (بينما كلب يطيف بركبه كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي، فنزعت [2] موقها فسقته، فغفر لها)، (فشكر الله له)؛ أي: أثنى عليه، أو جازاه، يقال: شكرته وشكرت له، واللام أفصح، (فأدخله الجنة) من عطف الخاص على العام، والفاء تفسيرية؛ نحو: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] على ما فُسِّر من أن القتل كان نفس توبتهم، وفي رواية أخرى: فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله؛ إن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «إن في كلِّ كبد رطبة أجرًا».×ففي الحديث: الإحسان إلى كل الحيوان بسقيه ونحوه، وهذا في الحيوان المحترم، وهو ما لا يؤمر بقتله، ولا يناقض هذا ما أمرنا بقتله، أو أبيح قتله، فإن ذلك إنَّما شرع لمصلحة راجحة، ومع ذلك فقد أمرنا بإحسان القتلة، وفيه حرمة الإساءة إليه، وإثم فاعله، فإنه ضد الإحسان المؤجر عليه، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت.×واستدل مالك بالحديث على طهارة سؤر الكلب؛ لأنَّ الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شكَّ أن سؤره بقي فيه.×وأجيب: بأنه ليس فيه أن الكلب شرب الماء من الخف؛ لأنَّه قد يجوز أنَّه غرفه به، ثم صبه في مكان غيره، أو يمكن أنَّه يكون غسل خفَّه إن كان سقاه فيه، وعلى تقدير أن يكون سقيه فيه؛ لا يلزمنا هذا؛ لأنَّ هذا كان في شريعة غيرنا على ما رواه الناس عن أبي هريرة، وهو منسوخ في شرعنا.×وفيه وجوب نفقة البهائم المملوكة على مالكها بالإجماع، والله تعالى أعلم.×==========
[1] في الأصل: (ولغ)، والمثبت من «العمدة».
[2] في الأصل: (حجته)، ولعل المثبت هو الصواب.×173# وبه قال: (حدثنا إسحاق): هو ابن منصور بن بهرام الكوسج الحافظ أبو يعقوب التميمي المروزي نزيل نيسابور، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين في جمادى الأولى، وليس هو إسحاق بن إبراهيم الحمصي، كما جزم به أبو نعيم في «المستخرج»، وزعم الكرماني: بأنه إسحاق ابن راهويه، وهو خطأ أيضًا؛ فليحفظ (قال: أخبرنا عبد الصمد)؛ أي: ابن عبد الوارث (قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار): المدني العدوي، قال في «عمدة القاري»: (تكلموا فيه، لكنه صدوق مؤمن، ولم ينفرد بهذا الحديث، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي)، (قال: سمعت أبي): عبد الله بن دينار التابعي مولى ابن عمر رضي الله عنهما، (عن أبي صالح)؛ أي: ذكوان الزيات، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا) قال في «عمدة القاري»: (وهذه من الوقائع التي وقعت في زمن بني إسرائيل، فلذلك قال: «أن رجلًا» ولم يسمِّ الرجل) انتهى (رأى) أي: أبصر (كلبًا) وجملة قوله: (يأكل الثَّرَى)؛ بفتح الثاء المثلثة والرَّاء، مقصور؛ وهو التراب الندي؛ أي: يلعق التراب، كما في «عمدة القاري» (من العطش)؛ أي: من أجله أو بسببه صفة (كلبًا)، ولا يجوز أن تكون حالًا كما زعمه الكرماني؛ لأنَّ شرطها أن يكون ذو الحال معرفة، وهنا نكرة، ولا يجوز أن تكون مفعولًا ثانيًا؛ لأنَّ الرؤية بمعنى الإبصار، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.× (فأخذ الرجل) المذكور (خفَّه، فجعل) من أفعال المقاربة، وهي ما وضع لدنو الخبر رجاءًأو حصولًا أو أخذًا [1] فيه، والضمير فيه اسمه، وقوله: (يغرف)؛ بالغين المعجمة، جملة خبره؛ أي: طفق يغرف (له) أي: للكلب بالخف (حتى أرواه)؛ أي: جعله ريَّانًا، وفي رواية: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج؛ فإذا كلب يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان نزل بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب)، وفي أخرى: (بينما كلب يطيف بركبه كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي، فنزعت [2] موقها فسقته، فغفر لها)، (فشكر الله له)؛ أي: أثنى عليه، أو جازاه، يقال: شكرته وشكرت له، واللام أفصح، (فأدخله الجنة) من عطف الخاص على العام، والفاء تفسيرية؛ نحو: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] على ما فُسِّر من أن القتل كان نفس توبتهم، وفي رواية أخرى: فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله؛ إن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «إن في كلِّ كبد رطبة أجرًا».×ففي الحديث: الإحسان إلى كل الحيوان بسقيه ونحوه، وهذا في الحيوان المحترم، وهو ما لا يؤمر بقتله، ولا يناقض هذا ما أمرنا بقتله، أو أبيح قتله، فإن ذلك إنَّما شرع لمصلحة راجحة، ومع ذلك فقد أمرنا بإحسان القتلة، وفيه حرمة الإساءة إليه، وإثم فاعله، فإنه ضد الإحسان المؤجر عليه، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت.×واستدل مالك بالحديث على طهارة سؤر الكلب؛ لأنَّ الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شكَّ أن سؤره بقي فيه.×وأجيب: بأنه ليس فيه أن الكلب شرب الماء من الخف؛ لأنَّه قد يجوز أنَّه غرفه به، ثم صبه في مكان غيره، أو يمكن أنَّه يكون غسل خفَّه إن كان سقاه فيه، وعلى تقدير أن يكون سقيه فيه؛ لا يلزمنا هذا؛ لأنَّ هذا كان في شريعة غيرنا على ما رواه الناس عن أبي هريرة، وهو منسوخ في شرعنا.×وفيه وجوب نفقة البهائم المملوكة على مالكها بالإجماع، والله تعالى أعلم.×==========
[1] في الأصل: (ولغ)، والمثبت من «العمدة».
[2] في الأصل: (حجته)، ولعل المثبت هو الصواب.×173# وبه قال: (حدثنا إسحاق): هو ابن منصور بن بهرام الكوسج الحافظ أبو يعقوب التميمي المروزي نزيل نيسابور، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين في جمادى الأولى، وليس هو إسحاق بن إبراهيم الحمصي، كما جزم به أبو نعيم في «المستخرج»، وزعم الكرماني: بأنه إسحاق ابن راهويه، وهو خطأ أيضًا؛ فليحفظ (قال: أخبرنا عبد الصمد)؛ أي: ابن عبد الوارث (قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار): المدني العدوي، قال في «عمدة القاري»: (تكلموا فيه، لكنه صدوق مؤمن، ولم ينفرد بهذا الحديث، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي)، (قال: سمعت أبي): عبد الله بن دينار التابعي مولى ابن عمر رضي الله عنهما، (عن أبي صالح)؛ أي: ذكوان الزيات، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا) قال في «عمدة القاري»: (وهذه من الوقائع التي وقعت في زمن بني إسرائيل، فلذلك قال: «أن رجلًا» ولم يسمِّ الرجل) انتهى (رأى) أي: أبصر (كلبًا) وجملة قوله: (يأكل الثَّرَى)؛ بفتح الثاء المثلثة والرَّاء، مقصور؛ وهو التراب الندي؛ أي: يلعق التراب، كما في «عمدة القاري» (من العطش)؛ أي: من أجله أو بسببه صفة (كلبًا)، ولا يجوز أن تكون حالًا كما زعمه الكرماني؛ لأنَّ شرطها أن يكون ذو الحال معرفة، وهنا نكرة، ولا يجوز أن تكون مفعولًا ثانيًا؛ لأنَّ الرؤية بمعنى الإبصار، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.× (فأخذ الرجل) المذكور (خفَّه، فجعل) من أفعال المقاربة، وهي ما وضع لدنو الخبر رجاءًأو حصولًا أو أخذًا [1] فيه، والضمير فيه اسمه، وقوله: (يغرف)؛ بالغين المعجمة، جملة خبره؛ أي: طفق يغرف (له) أي: للكلب بالخف (حتى أرواه)؛ أي: جعله ريَّانًا، وفي رواية: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج؛ فإذا كلب يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان نزل بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب)، وفي أخرى: (بينما كلب يطيف بركبه كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي، فنزعت [2] موقها فسقته، فغفر لها)، (فشكر الله له)؛ أي: أثنى عليه، أو جازاه، يقال: شكرته وشكرت له، واللام أفصح، (فأدخله الجنة) من عطف الخاص على العام، والفاء تفسيرية؛ نحو: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] على ما فُسِّر من أن القتل كان نفس توبتهم، وفي رواية أخرى: فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله؛ إن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «إن في كلِّ كبد رطبة أجرًا».×ففي الحديث: الإحسان إلى كل الحيوان بسقيه ونحوه، وهذا في الحيوان المحترم، وهو ما لا يؤمر بقتله، ولا يناقض هذا ما أمرنا بقتله، أو أبيح قتله، فإن ذلك إنَّما شرع لمصلحة راجحة، ومع ذلك فقد أمرنا بإحسان القتلة، وفيه حرمة الإساءة إليه، وإثم فاعله، فإنه ضد الإحسان المؤجر عليه، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت.×واستدل مالك بالحديث على طهارة سؤر الكلب؛ لأنَّ الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شكَّ أن سؤره بقي فيه.×وأجيب: بأنه ليس فيه أن الكلب شرب الماء من الخف؛ لأنَّه قد يجوز أنَّه غرفه به، ثم صبه في مكان غيره، أو يمكن أنَّه يكون غسل خفَّه إن كان سقاه فيه، وعلى تقدير أن يكون سقيه فيه؛ لا يلزمنا هذا؛ لأنَّ هذا كان في شريعة غيرنا على ما رواه الناس عن أبي هريرة، وهو منسوخ في شرعنا.×وفيه وجوب نفقة البهائم المملوكة على مالكها بالإجماع، والله تعالى أعلم.×==========
[1] في الأصل: (ولغ)، والمثبت من «العمدة».
[2] في الأصل: (حجته)، ولعل المثبت هو الصواب.×173# وبه قال: (حدثنا إسحاق): هو ابن منصور بن بهرام الكوسج الحافظ أبو يعقوب التميمي المروزي نزيل نيسابور، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين في جمادى الأولى، وليس هو إسحاق بن إبراهيم الحمصي، كما جزم به أبو نعيم في «المستخرج»، وزعم الكرماني: بأنه إسحاق ابن راهويه، وهو خطأ أيضًا؛ فليحفظ (قال: أخبرنا عبد الصمد)؛ أي: ابن عبد الوارث (قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار): المدني العدوي، قال في «عمدة القاري»: (تكلموا فيه، لكنه صدوق مؤمن، ولم ينفرد بهذا الحديث، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي)، (قال: سمعت أبي): عبد الله بن دينار التابعي مولى ابن عمر رضي الله عنهما، (عن أبي صالح)؛ أي: ذكوان الزيات، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا) قال في «عمدة القاري»: (وهذه من الوقائع التي وقعت في زمن بني إسرائيل، فلذلك قال: «أن رجلًا» ولم يسمِّ الرجل) انتهى (رأى) أي: أبصر (كلبًا) وجملة قوله: (يأكل الثَّرَى)؛ بفتح الثاء المثلثة والرَّاء، مقصور؛ وهو التراب الندي؛ أي: يلعق التراب، كما في «عمدة القاري» (من العطش)؛ أي: من أجله أو بسببه صفة (كلبًا)، ولا يجوز أن تكون حالًا كما زعمه الكرماني؛ لأنَّ شرطها أن يكون ذو الحال معرفة، وهنا نكرة، ولا يجوز أن تكون مفعولًا ثانيًا؛ لأنَّ الرؤية بمعنى الإبصار، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.× (فأخذ الرجل) المذكور (خفَّه، فجعل) من أفعال المقاربة، وهي ما وضع لدنو الخبر رجاءًأو حصولًا أو أخذًا [1] فيه، والضمير فيه اسمه، وقوله: (يغرف)؛ بالغين المعجمة، جملة خبره؛ أي: طفق يغرف (له) أي: للكلب بالخف (حتى أرواه)؛ أي: جعله ريَّانًا، وفي رواية: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج؛ فإذا كلب يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان نزل بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب)، وفي أخرى: (بينما كلب يطيف بركبه كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي، فنزعت [2] موقها فسقته، فغفر لها)، (فشكر الله له)؛ أي: أثنى عليه، أو جازاه، يقال: شكرته وشكرت له، واللام أفصح، (فأدخله الجنة) من عطف الخاص على العام، والفاء تفسيرية؛ نحو: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] على ما فُسِّر من أن القتل كان نفس توبتهم، وفي رواية أخرى: فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله؛ إن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «إن في كلِّ كبد رطبة أجرًا».×ففي الحديث: الإحسان إلى كل الحيوان بسقيه ونحوه، وهذا في الحيوان المحترم، وهو ما لا يؤمر بقتله، ولا يناقض هذا ما أمرنا بقتله، أو أبيح قتله، فإن ذلك إنَّما شرع لمصلحة راجحة، ومع ذلك فقد أمرنا بإحسان القتلة، وفيه حرمة الإساءة إليه، وإثم فاعله، فإنه ضد الإحسان المؤجر عليه، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت.×واستدل مالك بالحديث على طهارة سؤر الكلب؛ لأنَّ الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شكَّ أن سؤره بقي فيه.×وأجيب: بأنه ليس فيه أن الكلب شرب الماء من الخف؛ لأنَّه قد يجوز أنَّه غرفه به، ثم صبه في مكان غيره، أو يمكن أنَّه يكون غسل خفَّه إن كان سقاه فيه، وعلى تقدير أن يكون سقيه فيه؛ لا يلزمنا هذا؛ لأنَّ هذا كان في شريعة غيرنا على ما رواه الناس عن أبي هريرة، وهو منسوخ في شرعنا.×وفيه وجوب نفقة البهائم المملوكة على مالكها بالإجماع، والله تعالى أعلم.×==========

(1/313)


[حديث: كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله]
174# (قال) أي: المؤلف: (وقال أحمد بن شَبِيب)؛ بفتح المعجمة، وكسر الموحدة: ابن سعيد التميمي البصري المكي، المتوفى بعد المئتين (حدثنا أبي)؛ أي: شبيب المذكور، (عن يونس)؛ أي: ابن يزيد الأيلي، (عن ابن شهاب): محمد بن مسلم الزهري: أنه (قال: حدثني) بالإفراد (حمزة)؛ بالحاء المهملة، والزاي (بن عبد الله)؛ أي: ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أبو عمارة القرشي العدوي المدني التابعي، (عن أبيه): عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّه (قال: كانت الكلاب تقبل): جملة محلها النصب على الخبرية إن جعلت (كانت) ناقصة، وإن جعلت تامة؛ بمعنى: وجدت؛ كان محل الجملة النصب على الحال، (وتدبر في المسجد) حال أيضًا؛ والتقدير: حال كون الإقبال والإدبار في المسجد، والألف واللام فيه للعهد؛ أي: في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية زيادة: (تبول) قبل (تقبل وتدبر)، وعند أبي داود: قال ابن عمر: كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله عليه السلام وكنت فتًى شابًا عزبًّا، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد (في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا) وفي رواية: (فلم يكن) (يرشُّون) وفي رواية: (فلم يرشون)؛ بإسقاط (يكونوا) و (يكن) (شيئًا من ذلك) بالماء؛ أي: من المسجد، وهو إشارة إلى البعيد في المرتبة؛ أي: ذلك المسجد العظيم البعيد درجته عن فهم الناس، وهذا الترتيب يشعر باستمرار الإقبال والإدبار، ولفظ: (في زمن رسول الله عليه السلام) دالٌّ على عموم الأزمنة، أو اسم للجنس المضاف من الألفاظ العامة، وفي (فلم يكونوا يرشون) مبالغة ليس في قولك: فلم يرشوا؛ بدون لفظ الكون كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33] حيث لم يقل: وما يعذبهم الله، وكذا في لفظ الرش حيث اختاره على الغسل؛ لأنَّ الرش ليس فيه جريان الماء بخلاف الغسل [1]، فإنه يُشتَرط فيه الجريان، فنفي الرش يكون أبلغ في نفي الغسل، ولفظ (شيئًا) أيضًا عام؛ لأنَّه نكرة وقعت في سياق النفي، وهذا كلُّه للمبالغة في طهارة سؤره؛ لأنَّه في مثل هذه الصورة الغالب أنَّ لعابه يصل إلى بعض أجزاء المسجد، فإذا قرَّر النبي الأعظم عليه السلام ذلك ولم يأمر بغسله قطُّ؛ عُلِم أنَّه طاهر، وهو مذهب مالك، ورد: بأنَّه لا دلالة على ذلك المذكور؛ لأنَّ طهارة المسجد متيقنة غير مشكوك فيها، واليقين لا يزول بالظنِّ فضلًا عن الشكِّ، وعلى تقدير دلالته، فدلالته لا تعارض منطوق الحديث الناطق صريحًا بإيجاب غسله؛ حيث قال: (فليغسله سبعًا)، وعلى رواية من روى: (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر)، فلا دلالة فيه لمن استدل به على طهارة الكلاب؛ للإجماع على نجاسة بولها، وتقدير هذا: أن إقبالها وإدبارها في المسجد، ثم لا يرش، فالذي في روايته: (تبول) يذهب إلى طهارة بولها، وكان المسجد لم يكن يغلق وكانت تردد، وعَساها كانت تبول إلَّا أنَّ عِلْم بولها فيه لم يكن عند النبي الأعظم عليه السلام، ولا عند أصحابه، ولا عند الراوي عِلْم أي موضع هو؟ ولو كان عَلِم؛ لأمر بما أمر في بول الأعرابي، فدل
%ص 139%
ذلك على أنَّ بول ما سواه في حكم النجاسة سواء، والأوجه أن يقال: كان ذلك في ابتداء الإسلام على أصل الإباحة، ثمَّ ورد الأمر بتكريم المسجد وتطهيره وجعل الأبواب على المساجد، وفيه: دلالة ظاهرة على أنَّ الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفَّت بالشمس أو بالهواء، فذهب أثرها؛ تطهر في حقِّ الصلاة عليها دون التيمم منها، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، خلافًا للإمام زفر، والشافعي، وأحمد، ويدلُّ لذلك أنَّ أبا داود وضع لهذا الحديث: (باب طهور الأرض إذا يبست)، وأيضًا قوله: (فلم يكونوا يرشون شيئًا)، وعدم الرشِّ دليل على جفاف الأرض وطهارتها من غير نكير؛ فليحفظ.
واعلم أنَّ في الحديث دليل على نجاسة عظمة الكلب العقور المشحونة بالمكر، والخداع، والفجور، فإنَّها عظمة أنفت الكلاب أكلها وألقتها في المزابل؛ لأنَّه لا خير فيها قط لأحد، بل هي بمكان من الشرور، كما بينت ذلك في كتابي «إنجاء الغريق المخزون فيما يقوله صاحب الهمِّ المحزون»؛ فافهم.
==========
[1] زيد في الأصل: (في سياق)، ولعله سبق قلم.

==================

(1/314)


[حديث: إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل]
175# وبه قال: (حدثنا حفص بن عمر): بن الحارث بن سَخْبَرة؛ بفتح المهملة، وسكون المعجمة، وفتح الموحدة، النمري الأزدي، البصري أبو عمر الحوضي، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئتين (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (عن ابن أبي السَّفَر)؛ بفتح المهملة والفاء: عبد الله بن سعيد بن الحَشْرج؛ بفتح المهملة، وسكون المعجمة، آخره جيم، الهمداني الكوفي، المكنَّى بأبي طَريف؛ بفتح المهملة، آخره فاء، وما في «القسطلاني» من أنَّه صحابي الشهير بأبي محمد أو أحمد؛ فخطأ ظاهر لا يخفى؛ لأنَّه ليس بتابعيٍّ فضلًا عن كونه صحابيًّا؛ فافهم، (عن الشَّعْبي)؛ بفتح المعجمة، وسكون المهملة، واسمه عامر، (عن عَدي) بفتح العين المهملة (بن حاتِم)؛ بكسر المثناة الفوقية، المشهور، ابن عبد الله الطَّائي أبو طَريف؛ بفتح المهملة، الجواد بن الجواد، قدم على النبيِّ الأعظم عليه السلام في سنة سبع، نزل الكوفة، ومات بها زمن المختار، وهو ابن عشرين ومئة سنة، أو مات بقرقيسا عن مئة وثمانين سنة، وكان عليه السلام يكرمه، وشهد فتوح العراق زمن عمر بن الخطاب، وكان يفتُّ الخبز للنمل، ويقول: إنهنَّ جارات لنا ولهنَّ حقٌّ: أنَّه (قال: سألت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عن حكم صيد الكلاب، كما صرَّح به المؤلف في كتاب (الصيد)، فذكر المسؤول عنه، ولم يذكر المسؤول، واكتفى بالجواب؛ لأنَّه يحتمل أن يكون علم أصل الإباحة، ولكنه حصل عنده شكٌّ في بعض أمور الصيد فاكتفى بالجواب، ويحتمل أن يكون قام عنده مانع من الإباحة التي علم أصلها، وبهذا اندفع ما قاله ابن حجر من أنه حذف لفظ السؤال اكتفاء بدلالة الجواب عليه؛ فافهم.
(قال) أي: عدي (فقال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام: (إذا أرسلت كلبك المعلَّم)؛ بفتح اللام المشددة، وهو مفوَّض إلى رأى المعلِّم عند الإمام الأعظم؛ لأنَّه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، وعند الإمام أبي يوسف والإمام محمد: ترك الأكل ثلاث مرات، وعند مالك: بالانزجار، وعند الشافعي: بالعرف، وأما اشتراط التعلم؛ فلقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ} [المائدة: 4]، قال ابن المُنيِّر: والعجب من الشافعي أنَّه قال: إنَّ السكين إذا سقيت بماء نجس؛ نجَّست الذبيحة، فأين ذلك مِنْ نابِ الكلب النَّجس العين عنده وقد أجمعنا على أن ذكاته شرعية لا تنجس المذكَّى؟! كذا في «المصابيح»، ومذهب الإمام الأعظم: أنه يتنجس المذبح فقط؛ لنجاستها فيغسل المذبح فقط، كمحل ما أصابه ناب الكلب المذكور ثلاثًا فيطهر، ويرد على الشافعي أيضًا تنجيس الملاقي؛ فافهم.
(فقتل)؛ أي: الكلبُ الصيدَ، وطوى ذكر المفعول؛ للعلم به، وقيَّد بالقتل؛ ليخرج ما لو أدرك الصيد حيًّا حياة فوق حياة المذبوح بأن يعيش يومًا أو أكثره، فلا بدَّ من ذكاته، فلو تركها عمدًا متمكنًا منها؛ حرم؛ لقدرته على الذكاة الاختيارية، أما لو كان غير متمكن إما لفقد آلة، أو لضيق الوقت؛ فظاهر الرواية: أنَّه يحرم أيضًا؛ لأنَّ العجز عن التذكية في مثل هذا لا يحل الحرام، وفي رواية عن الإمام الأعظم: أنَّه يحل، وهو قول الشافعي، ونقل البرجندي عن ابن زياد: أنَّه يؤكل استحسانًا، وبه أخذ الإمام قاضيخان، وعزاه لـ «الكافي»، فإن لم يبق من حياته إلا مثل حياة المذبوح وهو مما لا يتوهم بقاؤه فلم يدركه حيًّا؛ فإنَّه يحل بالإجماع؛ لأنَّه ميت حكمًا حتى لو وقع في الماء؛ لم يحرم، كذا في «شروح الملتقى»، (فكُلْ) الأمر فيه للإباحة، وهذه الجملة جواب الشرط، ففيه دليل على إباحة صيد جميع الكلاب المعلَّمة من الأسود وغيرها، وقال أحمد: لا يحل صيد الكلب الأسود؛ لأنَّه شيطان، وإطلاق الحديث حجة عليه، وفيه أيضًا إباحة الاصطياد؛ للانتفاع به للأكل، ودفع الشر والضرر، واختلف فيمن جعل الصيد للحرفة، أو للهو ونزهة، ففي «الفتاوى البزازية»: (الصيد مباح إلا للتَّلهِّي أو حرفة)، قال في «الأشباه»: (وعلى هذا فاتخاذه حرفة كصيادين السمك حرام) انتهى.
لكن في «المنح شرح التنوير»: (التحقيق عندي اتخاذه حرفة؛ لأنَّه نوع من الاكتساب، وكل أنواع الكسب في الإباحة سواء على المذهب الصحيح)، وأقرَّه في «الدر المختار»، وفي «التاترخانية»، (قال الإمام أبو يوسف: إذا طلب الصيد لهوًا ولعبًا؛ فلا خير فيه، وأكرهه، وإن طلب منه ما يحتاج إليه من بيع، أو إدام، أو حاجة أخرى؛ فلا بأس به) انتهى.
وفي «مجمع الفتاوى»: (ويكره للتلهِّي وأن يتخذه حرفة) انتهى، وأقره العلَّامة الشرنبلالي في الحاشية، قلت: وهذا هو المعتمد كما في «منهل الطلاب».
(وإذا أكل) أي: الكلب من الصيد؛ (فلا تأكل)؛ أي: الصيد الذي أكل منه الكلب، وعلل النهي بقوله: (فإنما أمسكه على نفسه) والفاء للتعليل، فيشترط عدم أكله؛ لأنَّه بأكله تبيَّن جهله، فلا يؤكل مطلقًا سواء كان نادرًا أو معتادًا، وكذا لا يؤكل ما صاد بعده حتى يتعلَّم ثانيًا بترك الأكل ثلاثًا، ولو أخذ الصياد الصيد من الكلب وقطع منه بضعة وألقاها إليه فأكلها، أو خطف الكلب منه وأكله؛ أكل ما بقي، وكذا لو شرب الكلب من دمه؛ يؤكل؛ لأنَّه غاية علمه، كذا في «التنوير» و «شرحه».
(قلت) هذا من كلام عدي رضي الله عنه: يا رسول الله؛ (أرسل كلبي)؛ أي: المعلَّم، (فأجد معه كلبًا آخر)؛ بالإضافة؛ أي: كلب شخص آخر، ويحتمل أنه منون، وجعل ما بعده صفة له، والمراد بالكلب الآخر: الذي لا يحل صيده؛ وذلك ككلب غير معلم، أو لم يرسل، أو لم يسم عليه، أو كلبُ مجوسيٍّ (قال) أي: النبي الأعظم عليه السلام: (فلا تأكل)؛ أي: من ذلك الصيد، وعلل النهي بقوله: (فإنما سميت) أي: ذكرت اسم الله تعالى (على كلبك) عند إرساله (ولم تسمِّ على كلب آخر) والظاهر أن الجملة حال، وإنما حذف حرف العطف من السؤال والجواب؛ لأنَّه ورد على طريق المقاولة كما في آية مقاولة موسى وفرعون.
وفي الحديث: دلالة على أنَّ الإرسال شرط، حتى لو استرسل بنفسه؛ بأن انفلت من صاحبه،
%ص 140%
فأخذ صيدًا، فقتله؛ لم يؤكل، وكذا لو لم يعلَّم؛ بأنه أرسله أحد؛ لأنَّه لم يقطع بوجود الشرط، كما في «القهستاني».
وفي الحديث: أيضًا دليل ظاهر على أنَّ التسمية شرط، ولقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، فالشرط اقتران التسمية بالإرسال، فلو تركها عمدًا عند الإرسال، ثم زجره معها فانزجر؛ لم يؤكل صيده، كما في «القهستاني» و «البدائع».
والشروط خمسة عشر؛ خمسة في الصائد: وهو أن يكون من أهل الذكاة، وأن يوجد منه الإرسال، وألَّا يشاركه في الإرسال من لا يحل صيده، وألَّا يترك التسمية عمدًا، وألَّا يشتغل بين الإرسال والأخذ بعمل آخر، وخمسة في الكلب: أن يكون معلَّمًا، وأن يذهب على سنن الإرسال، وألَّا يشاركه في الأخذ ما لا يحل صيده، وأن يقتله جَرْحًا، وألَّا يأكل منه، وخمسة في الصيد: ألَّا يكون من الحشرات، وألَّا يكون من نبات الماء إلا السَّمك، وأن يمنع نفسه بجناحيه أو قوائمه، وألَّا يكون متقوِّيًا بنابه أو بمخلبه، وأن يموت بهذا قبل أن يصل إلى ذبحه، وكلُّها مأخوذة من الحديث، ومقتضى الحديث: عدم الفرق بين كون المعلِّم _بكسر اللام_ ممن تحل ذكاته أو لا، واختلف فيه، والجمهور: على أنَّه يشترط كونه مسلمًا أو ذميًّا، فيحرم صيد مجوسي، ووثني، ومرتد، ومُحْرِم؛ لأنَّهم ليسوا من أهل الذكاة، وأمَّا الكتابي؛ فإنَّ ذكاة الاضطرار مثل ذكاة الاختيار، وقد ورد في ذلك آثار؛ منها: عن يحيى بن عاصم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أنَّه كره صيد باز المجوسي وصقره)، ومنها: عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: (لا تأكل صيد المجوسي، ولا ما أصاب سهمه)، ومنها: عن خصيف: قال ابن عباس رضي الله عنه: لا تأكل ما صِيْد بكلب المجوسي، وإن سميت؛ فإنَّه من تعليم المجوسي، قال تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} [المائدة: 4]، وهذه ليس للرأي فيها مجال، فلا تحمل إلا على السماع من النبي الأعظم عليه السلام، وهو قول عطاء، ومجاهد، والنخعي، ومحمد بن علي، وسفيان الثوري، وغيرهم.
وفي الحديث: دليل ظاهر على منع ما أكل منه الكلب وهو مذهب الإمام الأعظم، والجمهور، وقال مالك والشافعي: يؤكل وإن أكل منه الكلب؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني في «سنن أبي داود»: «كلْ وإن أكل منه الكلب»، وحديث الباب أصح وأرجح؛ لأنَّه رواه المؤلف من طرق عديدة، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم وحديث أبي ثعلبة غريب فلا يعارض الصحيح المشهور، ويدل لحديث الباب قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، واسم الكلب يقع على كل سبع حتى الأسد على أنَّ حديث الباب محرِّم، وحديث أبي ثعلبة مبيح، والقاعدة عند الأصوليين: أن المحرِّم مقدَّم على المبيح، فثبت بهذا مذهب الإمام الأعظم.
وفي الحديث أيضًا: دلالة ظاهرة على أنَّه لا بدَّ من الجرْح في أي موضع كان؛ لأنَّ المقصود إخراج الدم المسفوح وهو يخرج بالجرح عادة، وهو ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم، وبه قال الجمهور، وفي رواية عنه وهو قول الإمام أبي يوسف، والشافعي، والشعبي: أنه لا يشترط؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} مطلقًا من غير قيد بالجرح، ولنا حديث الباب؛ وهو نصٌّ في المقصود، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ} [المائدة: 4] وهي أن تكون جارحة بأنيابها ومخلبها حقيقة، فتشترط الجراحة حقيقة؛ لأنَّ في اشتراط الجرح عملًا بالمتيقن به، ولأنه إذا لم يجرحه؛ فقد صار موقوذة؛ وهي محرمة بالنَّص، وأما الآية المستدل بها؛ فمطلقة، وما قلناه مقيد، فيحمل المطلق على المقيد؛ لاتِّحاد الواقعةوالسبب، فكان ما قلناه أولى، على أنَّه روي عن إبراهيم،= عن عدي بن حاتم قال: قال عليه السلام: «إذا رميت فسميت فخرق؛ فكلْ، وإن لم يخرق؛ فلا تأكل، ولا تأكل من المعراض إلا ما ذكيت، ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت»، رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح، ورجاله رجال الصحيح، وهو أيضًا نصٌّ في المقصود، فعلى كلٍّ دليلنا أرجح وأحوط؛ فافهم.
قال الظاهرية: ومقتضى الحديث وجوب التسمية، فلو تركها عمدًا أو سهوًا؛ لم تحل، وقال الإمام الأعظم: لو تركها عمدًا؛ لم تحل، ولو تركها سهوًا؛ تحل؛ لما في حديث الباب وللآية التي تلوناها، فإنَّ الآية عامة في جميع المأكولات والمشروبات إلا أن الفقهاء أجمعوا على أنَّها مخصوصة بالحيوان الذي زالت حياته، فهو منحصر في ثلاثة أقسام؛ لأنَّ ما زال حياته ولم يذكر عليه اسم الله، إمَّا ألَّا يكون مذبوحًا؛ وهو الميتة، وإمَّا أن يكون مذبوحًا؛ وهو إمَّا أن يذكر عليه اسم غير الله، أو لا يذكر عليه اسم الله ولا اسم غير الله، ولا خلاف في القسمين حرمة، وإنما الخلاف في الثالث وهو الذي ذبحه أهل الذبح ولم يسمَّ عليه أصلًا؛ فعند الإمام الأعظم وأصحابه: أنَّه حرام إن ترك التسمية عمدًا، وحلال إن تركها سهوًا؛ لأنَّ الآية عامة للأقسام الثلاثة دالة على حرمتها، إلَّا أن متروك التسمية بالنسيان خارج عنها لوجهين؛ أحدهما: أنَّ الضمير في قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] يرجع إلى ترك التسمية وهو أقرب، فالأولى رجوع الضمير إليه، ولا ريب أنَّ إهمال [التسمية] إنَّما يكون فسقًا إذا كان عمدًا؛ لأنَّ الناسي خارج غير مكلف، فيكون المعنى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه عمدًا، فيكون التارك الناسي خارجًا عن الآية، وثانيهما: أنه عليه السلام سئل عن ترك التسمية نسيانًا، فقال: «كلوه، فإن تسمية الله في قلب كلِّ مؤمن»، فإنَّه عليه السلام لم يجعل الناسي تاركًا؛ حيث جعل تسمية الله في قلب كلِّ مؤمن، ولم يلحق به العامد؛ لأنَّه لما ترك التسمية عامدًا؛ صار كأنَّه نفى ما في قلبه.
وقال الشافعي: إنَّ التسمية سنَّة، فلو تركها عمدًا أو سهوًا؛ تحل، فالحديث والآية حجَّة عليه؛ لأنَّه نصٌّ صريح في المقصود، فلا يحتمل التَّأويل، واستدل الشافعي بحديث عائشة عند المؤلف: قلت: يا رسول الله؛ إن قومًا حديثو عهد بجاهلية أتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا، أنأكل منه أم لا؟ فقال: «اذكروا اسم الله، وكلوا»، وهو لا يدلُّ على ما قاله؛ لأنَّه يحتمل أنَّه عليه السلام علم بطريق الوحي أو الإخبار من الصحابة أنَّهم قد سمُّوا عليه عند الذبح، فلا دليل فيه؛ لأنَّ الدليل إذا طرقه الاحتمال؛ سقط الاستدلال به، ولئن سلَّمنا؛ فقد اجتمع هنا المبيح والمحرِّم، ولا ريب أنَّ المحرِّم مقدَّم على المبيح، ولأنَّ الحرام واجب الترك، والمباح جائز الترك، فكان الاحتياط ترك الأكل من التي لم يذكر اسم الله عليها؛ لأنَّها ميتة، ودليلنا مثبت، ودليله نافٍ، والمثبِت مقدَّم على النافي عند المحققين، وما قاله العجلوني هنا؛ فخبط وخلط، ومنشؤه التعصب لإمام مذهبه، فلا يعوَّل عليه.
ووجه الدلالة من الحديث على طهارة سؤر الكلب: أنه عليه السلام أذن لعدي رضي الله عنه في أكل ما صاده الكلب، ولم يقيِّد ذلك بغسل موضع فمه.
ومن ثَمَّ قال مالك: كيف يؤكل صيده ويكون لعابه نجسًا؟
وأجيب: بأنَّ الحديث سيق للتعريف أنَّ قتله ذكاته، وليس فيه إثبات نجاسة ولا نفيها، ولذلك لم يقل له: اغسل الدم إذا خرج من جرح نابه.
واعترض: بأنَّه يحتمل أن يكون وكَّل إليه ذلك.
وأجيب: بأن المقام مقام التعريف، ولو كان ذلك واجبًا؛ لبينه له عليه السلام.
ومطابقة الحديث للترجمة على ما في بعض الروايات من زيادة لفظ (وأَكْلِها) بعد لفظ (المسجد)؛ فافهم، والله تعالى أعلم.

==================

(1/315)


(34) [باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين]
هذا (باب من لم ير الوضوء) أي: واجبًا (إلا من المخرجَين)، وهو تثنية مخرج _بفتح الجيم_ وبيَّن ذلك بطريق عطف البيان بقوله: (القبل والدبر) ويجوز أن يكون جرُّهما بطريق البدل، و (القبل) يتناول الذكر، والفرج، والخنثى، وزاد في رواية: (من القبل)، وسقط (من القبل والدبر) للأصيلي، والحصر لبيان الغالب المعتاد، فالخارج من المخرجين يشمل الدم، والقيح، ويلحق به الفصد والحجامة، والقيء، والنوم، وغيرها، فحكم الخارج منهما وغيرهما سواء في الحكم، فلا يتفاوت، وزعم الكرماني رده في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(لقوله تعالى) وفي رواية: (وقول الله تعالى): ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم}) يشمل المذكَّر والمؤنث ({مِنَ الغَائِطِ} [النساء: 43]) هو كناية عن قضاء حاجة الإنسان، وهذا لا يصلح دليلًا لما ادَّعاه الشافعية من الحصر على الخارج من المخرجَين؛ لأنَّ عندهم ينتقض الوضوء من لمس النساء ومس الفرج، فإذًا الحصر باطل؛ لأنَّ الملامسة كناية عن الجماع، وقد قال ابن عباس: (المس، واللمس، والغشيان، والقربان، والإتيان، والمباشرة؛ الجماع، لكنه عزَّ وجلَّ حيي كريم يعفو ويكنِّي، فكنَّى باللمس عن الجماع كما كنى بالغائط عن قضاء الحاجة)، ومذهب علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري وعَبيدة السلماني _ بفتح العين المهملة_، وعُبيدة الضبي _ بضم العين المهملة_، وعطاء، وطاووس، والحسن البصري، والثوري، والأوزاعي: أنَّ اللمس والملامسة كناية عن الجماع، وهو الذي صحَّ عن عمر بن الخطاب كما نقله ابن العربي وابن الجوزي، فحينئذٍ قولهم: ملامسة النساء تبطل الوضوء؛ باطل لا دليل عليه، وكذا مسُّ الذكر، واستدلوا بحديث وهو ضعيف؛ لأنَّه ليس على شرط الشيخين، وإذا كانت
%ص 141%
الملامسة بمعنى الجماع كيف يكون مس الذكر مثله؟! فيلزم من ذلك أن يجب الغسل، ولنا أحاديث كثيرة وأخبار شهيرة على أنَّ مسَّ الذكر غير ناقض؛ منها: أنَّه سئل عليه السلام عن مسِّ الذكر، فقال: «هل هو إلا بضعة منك؟!» فكان الذكر كاليد والرجل، والإجماع منعقد على أنَّ الشخص إذا مسَّ يده أو رجله لا ينتقض وضوءُه، فكذا هذا بنصِّ الشارع عليه السلام، وأما قوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7]، وقوله عليه السلام لماعز: «لعلَّك لمست»؛ فالقرينة الحالية وكذا المقالية عيَّنت أنَّه مسُّ اليد، وكلامنا عند عدم القرينة، وهو لا يكون إلا كناية عن الجماع، وتفسير ابن عمر الملامسة بجسِّ اليد قد ثبت أنَّه رجع عنها إلى معنى الجماع، فاللفظ مخصوص به؛ فافهم.
وإذا عُلِم أن المراد من الغائط الكناية عن قضاء الحاجة؛ عُلِم أن الناقض كل خارج من البدن، فيشمل البول، والغائط، والدم، والقيح، والقيء، والحجامة، وغيرها، فالبول والغائط ثبت بالنصِّ وما ألحق بهما ثبت بدلالته وبالأحاديث المشهورة؛ فافهم.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح، مما وصله ابن أبي شيبة في «مصنفه» بإسناد صحيح (فيمن يخرج من دبره الدود أو من ذكره نحو القملة) واحدة القمل، وهو معروف، وفي معنى الذكر قُبُل المرأة قال: (يعيد الوضوء)؛ لانتقاضه بذلك، فيلزم قطعًا إعادة الصلاة، وفي رواية: (يعيد الصلاة) بدل (الوضوء)، قيَّد بالدودة من الدبر؛ لأنَّه لو خرجت الدودة من الأذن، أو الفم، أو الأنف، أو الجراحة؛ لا ينتقض الوضوء بها، وهذا مذهب الإمام الأعظم، وابن مسعود، وابن عباس، والثوري، وأبو ثور، وإسحاق، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، واحتجُّوا بحديث علي بن أبي طالب الآتي في الباب في المذي، وقِيْس عليه نحو القملة، والحصى، وغيرهما، وخالف في ذلك قتادة ومالك فقالا: بإعادة الصلاة دون الوضوء، وهو مرويُّ عن النخعي.
==================
وقال داود: النادر لا ينقض الوضوء وإن دام إلا المذي؛ لقوله عليه السلام: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح»، وأجيب: بأنه إذا أوجب الوضوء بالمعتاد الذي تعمُّ به البلوى، فغيره من باب أولى، والإجماع قائم على أنَّه ليس المراد حصر الناقض للوضوء بالصوت أو الريح الذي في الحديث، بل المراد نفي وجوب الوضوء بالشكِّ، وأما حديث صفوان: (لكن من غائط، وبول، ونوم)، فإنَّه بيَّن فيه جواز المسح وبعض ما يمسح بسبب، ولم يقصد بيان جميع النواقض، ألا تراه لم يذكر فيه الريح وزوال العقل وهما مما ينقض بالإجماع، ودم الاستحاضة ناقض في قول عامَّة العلماء.
وقال ابن حزم: المذي، والبول، والغائط من أي موضع خرج من الدبر، والإحليل، أو المثانة، أو البطن، وغير ذلك من الجسد، أو الفم ناقض للوضوء؛ لعموم أمره عليه السلام بالوضوء عنها، ولم يخص موضعًا من موضع، وبه قال إمامنا رضي الله عنه.
وأمَّا الريح الخارجة من ذكر الرجل وقُبُل المرأة؛ فإنَّها لا تنقض الوضوء؛ لأنَّها ليست بريح حقيقة، وإنما هي اختلاج، وهو يحصل في جميع أعضاء الجسد، كما بيَّنتُ ذلك في رسالة سميتها «احتجاج الإقضاء في بيان اختلاج الأعضاء»، وأما المرأة المفضاة _وهي التي اختلط مسلك بولها ووطئها وصارا واحدًا، أو التي صار مسلك الغائط والوطء منها واحدًا_؛ فالريح الخارج منها ناقض؛ فيجب عليها الوضوء، وهو قول الإمام محمد الشيباني، وبه أخذ الإمام أبو حفص البخاري للاحتياط، وقيل: إنَّ كان الريح مسموعًا أو منتنًا؛ نقض، وإلا؛ فلا، كما في «شرح المنية» للبرهان الحلبي، وقيل: إنَّه يستحب لها الوضوء ولا يجب؛ لأنَّه يحتمل أنَّها خرجت من الدبر، فتنقض، ويحتمل أنَّها خرجت من الفرج؛ فلا تنقض، والأصل: تيقن الطهارة والناقض مشكوك فيه فلا ينتقض وضوءُها بالشك، لكن يستحب لها الوضوء؛ لإزالة الاحتمال، كذا في «الجوهرة» و «شرح الهاملية».
(وقال جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما، مما وصله البيهقي في «المعرفة»، وأبو شيبة في «سننه»: (إذا ضحك) أي: المصلي سواء كان رجلًا أو امرأةً (في الصلاة) وهو ما كان مسموعًا له، ولمن عن يمينه أو عن يساره فقط دون جيرانه؛ وهم أهل مجلسه؛ (أعاد الصلاة) وحكمة الإعادة للزجر؛ لأنَّه واقف في عبادة الله عزَّ وجلَّ، فينبغي أن يكون على أكمل الأوصاف، (ولم يعد الوضوء)؛ لعدم انتقاضه بذلك، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه منهم الليث، وهو قول مالك والشافعي، وأمَّا التبسم؛ وهو ما لا صوت له أصلًا بل تبدو أسنانه فقط؛ فهو غير مبطل للوضوء والصلاة جميعًا، وظاهره أنَّ التبسم في الصلاة غير مكروه، كما في «البحر»، لكن في «شرح الملتقى» للداماد [1] أنَّه قال: (تكره الصلاة به؛ لأنَّه ينافي الخشوع) انتهى.
وأمَّا القهقهة؛ فإنَّها تنقض الوضوء عند الإمام الأعظم، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وهي كما قاله في «البحر»: (أن يقول: قه قه؛ لغة، واصطلاحًا: ما يكون مسموعًا له ولجيرانه بدت أسنانه أو لا) انتهى، وفي «المنية»: (وحد القهقهة: قال بعضهم: ما يظهر القاف والهاء، ويكون مسموعًا له ولجيرانه، وقال بعضهم: إذا بدت نواجذه، ومنعه عن القراءة) انتهى، في «القاموس»: (قهقه: رجَّع _بالتشديد_ في ضحكه، أو اشتد ضحكه؛ كـ «قهَّ» فيهما، أو «قهَّ»: قال في ضحكه: قه) انتهى وهو موافق لما قاله في «البحر».
ويشترط إظهار الهاء والقاف، أو بدل القاف وهو الألف مع الهاء، وهو المستعمل في كلام الناس، والمراد: من بقربه هم أهل مجلسه، فيشترط سماع جميع أهل مجلسه، فلو سمع بعضهم، ولم يسمع البعض الآخر؛ لا تكون قهقهة، بل هو ضحك غير مفسد للوضوء، كذا قاله شيخ شيخنا، واعتمده في «منهل الطلاب»؛ فليحفظ؛ لما رواه الدارقطني، عن أبي المليح، عن أبيه: بينا نحن نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أقبل رجل ضرير البصر فوقع في حفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ضحك منكم؛ فليعد الوضوء والصلاة»، ورواه أيضًا من حديث أنس، وعمران بن حصين، وأبي هريرة، والمراد من قوله: من ضحك في الصلاة فقهقه؛ فليعد الوضوء والصلاة، رواه ابن عدي في «الكامل» من حديث بقية عن ابن عمر رضي الله عنهما، والأحاديث يفسِّر بعضها بعضًا، وما زعمه ابن الجوزي: من أنَّ بقية مدلس؛ ممنوع؛ فإنَّ بقية قد صرَّح بالتحديث، وهو صدوق كما وثَّقه الحفَّاظ.
على أنَّ لنا في هذا الباب أحد عشر حديثًا عن النبيِّ الأعظم عليه السلام، منها أربعة مرسلة، وسبعة مسندة:
فأول المراسيل: حديث أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري، رواه عنه عبد الرزاق، عن قتادة، عن أبي العالية، وهو عدل ثقة، وثَّقه يحيى، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وروى له الجماعة: (أن أعمًى تردَّى في بئر، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي معه عليه السلام، فأمر عليه السلام من كان معهم أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة)، وأخرجه
%ص 142%

==================
[1] في الأصل: (للدامات).
الدارقطني من جهة عبد الرزاق في «مسنده»، وعبد الرزاق فمن فوقه من رجال «الصحيحين»، وقال ابن رشد المالكي: (هو مرسل صحيح)، ولم يعتلَّ الشافعي إلَّا بإرساله، والمرسل حجَّة عندنا وعند مالك وأحمد، كما حكاه ابن العربي وابن الجوزي، وروي ذلك أيضًا من طرق [2] سبعة متصلة [ذكرها جماعة، منهم ابن الجوزي.
==================
[2] في الأصل: (طريق).
والثاني من المراسيل: مرسل الحسن البصري رواه الدارقطني] [3] بإسناده إليه، وهو أيضًا مرسل صحيح.
والثالث: مرسل النخعي، رواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن النخعي قال: «جاء رجل ضرير البصر، والنبي عليه السلام يصلي ... »؛ الحديث.
والرابع: مرسل معبد الجهني، روي عنه من طرق متعددة.
وأول المسانيد: حديث عبد الله بن عمر، وقد ذكرناه.
==================
[3] ما بين معقوفين سقط من الأصل، استفدناه من «عمدة القاري».
والثاني: حديث أنس بن مالك رواه الدارقطني من طرق متعددة.
والثالث: حديث أبي هريرة من رواية أبي أمية، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «من ضحك في الصلاة؛ أعاد الوضوء وأعاد الصلاة»، رواه الدارقطني.
والرابع: حديث عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من ضحك في الصلاة قرقرة؛ فليعد الوضوء والصلاة».
والخامس: حديث جابر، أخرجه الدارقطني.
والسادس: حديث أبي المليح بن أسامة، أخرجه الدارقطني أيضًا، كما ذكرناه.
والسابع: حديث رجل من الأنصار: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي، فمرَّ رجل في بصره سوءٌ، فتردَّى في بئر، فضحك طوائف من القوم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة)، رواه الدارقطني وغيره.
وزعم ابن حجر حاكيًا عمَّا زعمه ابن المنذر: (أجمعوا أنَّه لا ينقض خارج الصلاة، واختلفوا إذا وقع فيها؛ فخالف من قال بالقياس الجلي، أو تمسكوا بحديثٍ لا يصح، وحاشا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير القرون أن يضحكوا بين يدي الله تعالى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال في «عمدة القاري»: (قلت: هذا الزاعم أعجبه هذا الكلام المشوب بالطعن على التابعين الأئمة الكبار، وفساده ظاهر من وجوه:
الأول: كيف يجوز التمسك بالقياس مع وجود الأخبار المشتملة على المراسيل والمسانيد؟! والمراسيل مع كونها حجة عندهم، فما قاله افتراء وتعصب.
والثاني: أن قوله: «تمسكوا بحديث» لا يصح، وليس كما زعم، بل تمسكوا بالأحاديث الصحيحة المتواترة المكررة، واختلاف طرقها ومتونها ورواتها دليل قوتها وصحتها، فهذا الزعم باطل لا أحد يعرج عليه من الجهال المتعصِّبين فضلًا عن العلماء الموصوفين.
والثالث: قوله: «حاشا من أصحاب رسول الله عليه السلام ... » إلى آخره: هذا طعن في الأحاديث الصحيحة، وهو مردود عليه؛ لأنَّه كان يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة وغيرهم من المنافقين والأعراب الجهال، وهذا من باب حسن الظن بهم، وإلا فليس الضحك كبيرة، وهم ليسوا من الصغائر بمعصومين، ولا عن الكبائر على تقدير كونه كبيرة، ومع هذا قد وقع من الأحداث في حضرته عليه السلام ما هو أشد وأعظم من هذا، فما زعمه باطل لا يعتد به).
وزعم ابن حجر بعد نقله عن ابن المنذر الذي ذكرناه على: (أنَّهم لم يأخذوا بمفهوم الخبر المروي في الضحك، بل خصُّوه بالقهقهة).
قلت: هذا كلام من لا ذوق له في دقائق التركيب، وقد زاد في الطنبور نغمة على ابن المنذر، وكيف لم يأخذوا بمفهوم الخبر المروي في الضحك؟ ولو لم يأخذوا ما قالوا: الضحك يفسد الصلاة، ولا خصُّوه بالقهقهة، وقد ذكر صريحًا، كما جاء في حديث ابن عمر صريحًا، وجاء أيضًا بلفظ: (القرقرة) في حديث عمران بن حصين، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا، فهذا الزعم باطل لا أصل له، بل هو زور وبهتان، كما لا يخفى على من له أدنى بيان.
وإنما تنقض الوضوء القهقهة إذا صدرت من بالغ رجل أو امرأة، أمَّا قهقهة الصبي؛ فلا تنقض وضوءه إجماعًا، وتفسد صلاته، كذا في «المصفى» و «السراج»، ورجحه في «البحر»، ولا بد أن يكون البالغ يقظانًا، أمَّا قهقهة النائم في الصلاة؛ ففيها [4] قولان مصححان، واختار في «فتح القدير»: أنَّها تفسد الصلاة ولا تنقض الوضوء، وبه يفتى، كما في «الدر المختار»، وأمَّا قهقهة الناسي في الصلاة؛ فجزم في «التبيين» بالنقض؛ لأنَّ حالة الصلاة مذكِّرة، ورجحه في «البحر»، ومثل الناسي الساهي، كما في «الدر»، فإنَّه إذا تقهقه في الصلاة ساهيًا؛ انتقض وضوءُه على المختار، ولا بد أن تكون القهقهة في كل صلاة ذات ركوع وسجود، فلا تنقض القهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، لكن يبطلان، والتيمم كالوضوء، واتفقوا على أنَّ القهقهة لا تبطل الغسل، واختلفوا هل الوضوء الذي في ضمن الغسل ينتقض بها؟ فعلى قول عامة المشايخ: لا ينتقض، وهو الأصح، كما في «شرح الملتقى»، وصحَّح المتأخرون النقض، وهو اختيار الإمام قاضيخان، ورجحه في «البحر»، وقال غير واحد: إنَّه الصحيح، وهو الأحوط، والله أعلم.
واختلف في القهقهة؛ فقيل: إنها من الأحداث، وقيل: إنَّها ليست من الأحداث، وإنما وجب الوضوء بها زجرًا [5] وعقوبة، وهو المعتمد، كما رجحه في «البحر» و «النهر» وغيرهما؛ لأنَّه الموافق للأحاديث المرويَّة فيها؛ لأنَّه ليس فيها إلا الأمر بالإعادة للوضوء والصلاة، ولا يلزم منه كونها حدثًا، وتمامه في «منهل الطلاب».
(وقال الحسن)؛ أي: البصري، مما وصله ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور بإسناد صحيح: (إن أخذ من شعره) أي: شعر رأسه أو شاربه (أو) من (أظفاره)، ولابن عساكر: (وأظفاره)؛ _بالواو_ بعد الوضوء؛ فلا وضوء عليه، وكذا لو قشط خفه بعد مسحه؛ فلا إعادة عليه، والمراد من أخذ الشعر ما هو أعم؛ فيشمل القص والحلق والنتف بالنسبة للإبط، فلا إعادة عليه ولا مسحه في الجميع، خلافًا لأبي العالية، والحكم، وحماد، ومجاهد، وقال عطاء والنخعي والشافعي: (يمسه الماء)، (أو خلع) وفي رواية: بالواو (خفيه) أو أحدهما بعد المسح عليهما؛ (فلا وضوء عليه)، بل يغسلهما إذا أراد الوضوء، وبه قال الإمام الأعظم، والثوري، وأبو ثور، والشافعي في الجديد، والمزني، وقال مكحول، والنخعي، وابن أبي ليلى، والزهري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (يستأنف الوضوء)، وبه قال الشافعي في القديم، وقال مالك والليث: (يغسل رجليه مكانه، فإن لم يفعل؛ استأنف الوضوء)، وقال الحسن البصري وقتادة وروي عن النخعي: (أنه لا شيء عليه ويصلي).
(وقال أبو هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، مما وصله إسماعيل القاضي في «الأحكام» بإسناد صحيح من طريق مجاهد عنه موقوفًا: (لا وضوء إلا من حدث) وهو لغة: الشيء الحادث، ثم نقل إلى المعاني الناقضة للطهارة، وإلى المنع المترتب عليها مجازًا، من باب قصر العام على الخاص، والأول هو المراد هنا، فالحدث عام في سائر الأحداث لا يختص بحدث دون حدث، فيشمل الخارج من السبيلين، والإغماء، والدم، والنوم، والجنون، والقهقهة وغيرها، ولا معنى لتخصيصه بالخارج من السبيلين؛ لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا دليل على التخصيص، والأصل عدمه، ومدَّعيه مطالَب بالدليل؛ فافهم.
(ويُذكر) بضم المثناة (عن جابر) رضي الله عنه، مما وصله ابن إسحاق في «المغازي»، وأخرجه أحمد في «مسنده»، والحاكم في «مستدركه» وصحَّحه، وابن حبان في «صحيحه»، والدارقطني في «سننه»؛ كلهم من طريق ابن إسحاق، وإذا كان الحديث صحيحًا؛ فلمَ لم يجزم به المؤلف، وذكره بصيغة التمريض؟! لأجل الاختلاف في ابن إسحاق، كما في «عمدة القاري»، وما أجاب به ابن حجر والكرماني، فلا يعوَّل عليه؛ لأنَّه لا يقوله من له أدنى معرفة في العلم؛ فافهم.
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرِّقاع)؛ بكسر الرَّاء، جمع رُقعة؛ بضمها، سميت باسم شجرة هناك، وقيل: باسم جبل هناك فيه بياض وسواد وحمرة يقال له: الرِّقاع، فسميت به، وقيل: سميت به؛ لرقاع كانت في ألويتهم، وقيل: لأنَّ أقدامهم نقبت، فلفُّوا عليها الخرق، وهذا هو الصحيح؛ لأنَّ أبا موسى حاضر ذلك شاهده، وقد أخبر به، وكانت تلك الغزوة في سنة أربع من الهجرة، وذكر المؤلف:
%ص 143%
أنها كانت بعد خيبر؛ لأنَّ أبا موسى جاء بعد خيبر، كذا في «عمدة القاري».
(فرُمي) بالبناء للمفعول (رجل) هو عباد بن بشر (بسهم) من رجل من المشركين، وهو قائم يصلي، (فنزَف الدم)؛ بفتح الزاي، وفي رواية: (فنزفه الدم)؛ أي: خرج منه دم كثير حتى يضعف، كذا قاله الجوهري، وقول ابن التين: (كذا رويناه، والذي عند أهل اللغة: «نُزف» على صيغة المجهول؛ أي: سال دمه) فيه نظر؛ فافهم.
(فركع) أي: الرجل، (وسجد، ومضى في صلاته)؛ أي: لم يقطعها، فاستدلَّ به الشافعي على أنَّ الدم إذا خرج وسال؛ لا ينقض الوضوء، والاستدلال غير ظاهر؛ لأنَّه يحتمل أنَّ الرجل قد قضى تلك الصلاة بعد أنَّ عصب جراحته، ومضيُّه فيها كان لعدم علمه بخروج الدم؛ بدليل ما في الحديث المذكور، ولمَّا رأى المهاجري بالأنصاري من الدماء؛ قال: سبحان الله! ألا نبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحبَّ أن أقطعها، فنسب عدم القطع للسورة لا للصلاة، وهذا يدلَّ على أن المهاجري أنكر عليه ذلك حيث رآه في الصلاة ودمه سائل على ثيابه وبدنه، وهو يدلَّ على أن الأنصاري كان لا يعلم الحكم؛ لكونه حديث عهد بالإسلام، فعلم بذلك أنَّه لا يدري سيلان الدم منه فمضى في صلاته ثم قضاها، والدليل إذا طرقه الاحتمال؛ لا يصح الاحتجاج به.
على أنَّ احتجاج الشافعي بالحديث مشكل جدًّا؛ لأنَّ الدم إذا سال؛ أصاب بدنه ورجله، وربما أصاب ثوبه وثيابه، ونزل عليه من الدماء، ومع إصابة شيء من ذلك، فإن كان يسيرًا؛ لا تصح الصلاة معه عنده، فكيف بالكثير الفاحش؟
وأجابوا عن ذلك: بأنَّ الدم كان يخرج من الجراحة على سبيل الزَّرَق حتى لا يصيب شيئًا من ظاهر بدنه.
قلت: وهو بعيد جدًّا؛ لأنَّ الإنسان إذا جرحه موسًى أو قلم طراش جرحًا يسيرًا؛ لا بدَّ وأنَّ الدم يبقى على رأس الجرح؛ لأنَّ الدم ليس له قوة السيلان كالماء، بل هو ثقيل، وبمجرد خروجه يتجمَّد ويلطخ بالبدن والثوب، كما هو مشاهد بالعينين.
وحاول ابن حجر الاستدلال لإمامه، وجعله للمؤلف حيث قال: (والظاهر: أنَّ المؤلف يرى أنَّ خروج الدم في الصلاة لا تبطل بدليل أنه ذكر عقيبه أثر الحسن).
قلت: وهذه المحاولة لضعف استدلال إمامه فجعله للمؤلف، وهو بعيد غير صحيح أيضًا، فإن المؤلف لم ير ذلك ولا قال به، ونسبته لهذا القول رجمًا بالزعم الباطل، وأثر الحسن لا يدلُّ على شيء من ذلك أصلًا؛ لأنَّه لا يلزم من قوله: (يصلُّون في جراحاتهم) أن يكون الدم خارجًا سائلًا، ومن له جراحة؛ لا يترك الصلاة لأجلها، بل يصلي وجراحته إمَّا معصبة بشيء أو مربوطة بجبيرة، ومع ذلك لو خرج شيء من ذلك؛ لا تفسد صلاته بمجرد الخروج، ولا بدَّ من السيلان وخروجه إلى موضع يلحقه حكم التطهير؛ فافهم.
واحتج أئمتنا الحنفية بأحاديث كثيرة صحيحة منها: ما رواه الإمام المؤلف في هذا الصحيح عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إني أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: «لا، إنَّما ذلك عرق، وليس بحيضة، فإذا أقبلت الحيضة؛ فدعي الصلاة، وإذا أدبرت؛ فاغسلي عنك الدم» قال هشام: (قال: أي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت)، فهذا دليل واضح على أن سيال الدم ناقض للوضوء، لا يقال: قوله: «توضئي لكل صلاة» من كلام عروة؛ لأنَّ الترمذي لم يجعله من كلام عروة وصحَّحه، ولنا أحاديث غيره ستأتيك إن شاء الله تعالى؛ فافهم.
(وقال الحسن) أي: البصري: (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم)؛ جمع جِراحة؛ بكسر الجيم فيهما؛ أي: يصلون في جراحاتهم من غير سيلان الدم بأن تشدَّ بجبيرة أو تعصب بشيء، والدليل على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه»، عن هشيم، عن يونس، عن الحسن: (أنَّه كان لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلًا)، هذا الذي روي عن الحسن بإسناد صحيح هو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وهو حجة لهم على الخصم، فبطل بذلك قول القائل: (لكونه يرد ما ذهب إليه ويبطل ما اعتمد عليه)، وليس هذا شأن المصنفين، وإنَّما هو دأب المعاندين المتعصبين الذين يدقون الحديد البارد على السندان، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فافهم.
واعترض القسطلاني: (بأنَّ الأثر الذي رواه المؤلف ليس هو الذي ذكره ابن أبي شيبة، فإنَّ الأول روايته عن الصحابة وغيرهم والثاني مذهبٌ للحسن) انتهى.
قلت: وهو ممنوع، بل الذي ذكره المؤلف هو عين ما ذكره ابن [أبي] شيبة، وهما في الحقيقة واحد، لكن دأب المؤلف الاختصار، فاقتصر المؤلف بهذه العبارة لبيان غرضه، وأحال على ما ذكره ابن أبي شيبة، وكلُّ ذلك مروي عن الصحابة، وهو مذهب الحسن؛ لأنَّه لو كان الأول روايته عن الصحابة والثاني مذهبٌ له؛ لكان مذهب الحسن مخالفًا لأقوال الصحابة، ويلزم منه القول بالرأي، وإذا وُجِدت أقوال الصحابة؛ لا مساغ للرأي عند وجودها، فثبت بذلك أنَّ الأثر المذكور وإن كان في الظاهر أنَّه أثران؛ لكنهما في الحقيقة أثر واحد مرويٌّ عن الصحابة، وهو مذهب الحسن؛ فافهم، ومنشأ الاعتراض إنَّما هو من التعصب والمحاولة؛ فافهم.
(وقال طاووس)؛ هو ابن كيسان اليماني الحميري، واسمه ذكوان، وسمي طاووسًا؛ لأنَّه كان طاووس القراء، ووصل أثره ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن عبد الله بن موسى، عن حنظلة، عن طاووس، توفِّي طاووسًا بمكة يوم التَّروية سنة ست ومئة، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، (و) قال (محمد بن علي)؛ أي: ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، الهاشمي، المدني، أبو جعفر المعروف بالباقر، سمي به؛ لأنَّه بقر العلم؛ أي: شقَّه [6] بحيث عرف حقائقه، وتوفي سنة أربع عشرة ومئة، وزعم الكرماني: (أنه يحتمل أن يكون محمد بن علي المشهور بابن الحنفية)، وهو بعيد؛ لأنَّ عادة المؤلف إذا روى عن ابن الحنفية؛ صرح بقوله: (عن ابن الحنفية)، ولم يصرح بـ (محمد بن علي) ويطلق، وهو دليل على أنَّه هنا ما ذكرناه؛ فافهم، وهذا الأثر وصله أبو بشر المشهور بسمويه في «فوائده» من طريق الأعمش، (و) قال (عطاء)؛ بالمد: هو ابن أبي رباح، وأثره وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، (و) قال (أهل الحجاز)؛ من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ طاووسًا ومحمد بن علي وعطاء حجازيون، وغير هؤلاء الثلاثة مثل سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والفقهاء السبعة من أهل المدينة، ومالك، والشافعي، وآخرون: (ليس في الدم) السائل (وضوء) بل يغسل عنه الدم، وقال الإمام الأعظم، وأصحابه، وجماعة من الصحابة، والتابعين، وأبو عمرو، والثوري، والحسن ابن حيٍّ، وعبيد الله بن الحسن، والأوزاعي، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق ابن راهويه: إن الدم إذا سال ينقض الوضوء؛ لما رواه الدارقطني: «إلا أن يكون دمًا سائلًا»، وفيه أحاديث أخرى دالَّة على ذلك، فإن كان الدم يسيرًا غير خارج ولا سائل؛ فإنَّه لا ينقض الوضوء عندهم جميعًا، وما أعلم أحدًا [7] أوجب الوضوء من يسير الدم إلا مجاهد وحده، وهذا الأثر ليس بحجة لمن قال: ليس في الدم السائل وضوء؛ لأنَّهم لا يرون العمل بفعل التابعين، ولا هو حجة على السادة الحنفية ومن تابعهم؛ لأنَّه لا يدل على أنَّ طاووسًا ومن معه كانوا يصلُّون والدم سائل؛ لأنَّ ذلك متعذر، ولئن سلَّمنا ذلك؛ فهو اجتهاد منهم، وقد قال الإمام الأعظم التابعي الجليل: «التابعون رجال، ونحن رجال يزاحمون ونزاحمهم»؛ والمعنى: أن أحدًا منهم إذا أدَّاه اجتهاده إلى شيء لا يلزمنا الأخذ به، بل نجتهد كما اجتهدوا، فما أدى اجتهادنا إليه؛ عملنا به وتركنا اجتهادهم، والظاهر: أنَّ هذا الأثر ليس بمروي عن النبي عليه السلام، وإنما هو اجتهاد منهم، فلا يلزمنا اتباعهم، بل نتبع المرويَّ عن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صريحًا، فإنَّه صرَّح بلزوم الوضوء من الدم السائل، وهو مذهبنا، وهو الحقُّ، وأدين الله عليه، والله أعلم.
(وعصر) عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، مما وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح (بَثْرة)؛ أي: واحدة في وجهه، كما صرح به
%ص 144%
ابن أبي شيبة، وهي بفتح الموحَّدة وسكون المثلَّثة، ويجوز فتحها: الخراج الصغير، كالجدري، (فخرج منها)؛ أي: من البثرة (دم) وعند [ابن] أبي شيبة: (فخرج منها شيء من دم فحكَّه بين أصبعيه، ثم صلى) (ولم يتوضأ)؛ لأنَّه غير ناقض للوضوء؛ لعدم سيلانه، ولا فيه قوة السيلان، كما لو تخلل بعود فخرج عليه دم لا ينتقض؛ لأنَّه غير سائل، وقال في «الهداية»: ولو خرج الدم بالعصر وكان بحيث لو لم يعصر؛ لم يسل؛ قالوا: لا ينقض؛ لأنَّه ليس بخارج، وإنما هو مُخرَج، وهو المختار، وهو ظاهر عبارة القدوري، لكن اختار في «فتح القدير» عن «الكافي» النقض قال: (وهو الأصح، واعتمده غير واحد).
قلت: والمعتبر عين السيلان، ولو بالقوة؛ لما قالوا: لو مسح الدم كلما خرج، ولو تركه لسال؛ نقض، وإلا؛ فلا، وكذا لو وضع عليه قطنة أو شيئًا آخر حتى ينشف، ثم وضعه ثانيًا وثالثًا، فإنه يجمع جميع ما نشف، فإن كان بحيث لو تركه سال؛ نقض، وإلا؛ فلا، وإنما يعرف ذلك بالاجتهاد وغلبة الظن، كذا في أكثر المعتبرات، فإذًا المعتبر السيلان، وفي مسألتنا لم يوجد السيلان ولو بالقوة؛ فلا نَقْضَ للوضوء أصلًا، فهذا حجَّة لمذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم؛ فافهم.
(وبزق)؛ بالزاي والسين والصَّاد بمعنًى واحد، كذا قاله في «عمدة القاري»، (ابن أبي أوفَى)؛ بفتح الفاء، هو عبد الله، واسم أبي أوفى: علقمة بن الحارث، الصحابي بن الصحابي، شهد بيعة الرضوان وما بعدها من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتى قُبِض النبي الأعظم عليه السلام، وقال في حقِّه عليه السلام: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى»، ثم انتقل إلى الكوفة، وتوفِّي بها سنة سبع وثمانين، وقد كُفَّ بصره، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة، وهذا عبد الله بن أبي أوفى أحد من رأى الإمامُ الأعظمُ من الصحابة وروى عنه، وكان عمر الإمام الأعظم حينئذ سبع سنين، لأنَّ مولده رضي الله عنه كان سنة ثمانين على الصحيح، وقيل: سنة سبعين، وعليه فيكون حين رآه عمره سبع عشرة سنة.
وقد صح أن الإمام الأعظم قد سمع الحديث من سبعة من الصحابة، كما بسطه في أواخر «منية المفتي»، وذكر شمس الدين بن عربشاه الأنصاري في «منظومته» ثمانية من الصحابة ممن روى عنهم الإمام الأعظم: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن أبي أوفى، وعامر بن الطفيل، وعبد الله بن أنيس، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وسهل بن سعد، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن بسر، ومحمود بن ربيع رضي الله تعالى عنهم، فهو من التابعين، كما جزم به الحافظ الذهبي، وابن حجر العسقلاني، والبدر العيني وغيرهم من الحفاظ، وأدرك بالسن نحو عشرين صحابيًّا، كما بسطه في أوائل «الضياء المعنوي»، وزاد عليه في «تنوير الصحيفة»، وقد اتَّبعه على مذهبه كثير من الأولياء الكرام؛ كإبراهيم بن أدهم، وشقيق البلخي، ومعروف الكرخي، وأبي يزيد البسطامي، وفضيل بن عياض الخراساني، وداود بن نصر الطائي، وأبي حامد اللفاف، وخلف بن أيوب، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجرَّاح، وأبي بكر الورَّاق، وغيرهم ممن لا يُحصَون، وقال أبو القاسم القشيري: (سمعت أبا علي الدقاق يقول: أخذت هذه الطريقة عن أبي القاسم النصرباذي، وقال: أنا أخذتها من الشبلي، وهو أخذها من السري السقطي، وهو من معروف الكرخي، وهو من داود الطائي، وهو أخذ العلم والطريقة من الإمام الأعظم رضي الله عنهم، وكلٌّ منهم قد أثنى عليه، وأقر بفضله)، وقال ابن المبارك في حقِّه رضي الله عنه:
لقد زان البلادَ ومن عليها ... إمَامُ المسْلِمينَ أبُو حَنِيفةْ
بأحكامِ وآثارِ وفقهٍ ... كآيَاتِ الزَّبُورِ عَلَى صَّحِيفَةْ
فما في المشرقين له نظيرٌ ... ولا في المغربين ولا بكوفةْ
يبيت مشمِّرًا سَهَرَ الليالي ... وصام نهاره لله خيفةْ
فمن كأبي حنيفة في علاه ... إمام للخليقة والخليفةْ
رأيت العائبين له سفاهًا ... خلاف الحق مع حجج ضعيفةْ
وكيف يحل أن يؤذى فقيه ... له في الأرض آثار شريفةْ؟
وقد قال ابن إدريسٍ مقالًا ... صحيح النقل في حكمٍ لطيفةْ
بأنَّ الناس في فقه عيالٌ ... على فقه الإمام أبي حنيفةْ
فلعنة ربنا أعداد رمل ... على من رد قول أبي حنيفةْ
فأشار رضي الله عنه بابن إدريس، وهو الإمام الشافعي حيث قال: (الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه)، وقد تزوج الإمام محمد الشيباني بأم الشافعي، ففوض إليه كتبه وماله، فبسببه صار الشافعي فقيهًا، ولقد أنصف الشافعي حيث قال: (من أراد الفقه؛ فليلزم أصحاب أبي حنيفة، فإنَّ المعاني قد تيسَّرت لهم، والله ما صرت فقيهًا إلَّا بكتب محمد بن الحسن)، وقال: (إن من أمنِّ الناس عليَّ في الفقه محمد بن الحسن)، كذا ذكره غير واحد من الحنفية والشافعية حتى ابن حجر في «التحفة»، ولا يلتفت إلى قول المعاندين المتعصبين، وليس مثلهم إلا كمثل الذباب وقع تحت ذنب جواد في حالة كرِّه وفرِّه، ولا يخفى أن النقي لا يغيره مقل الذباب، كما أن البحر لا يفسده ولوغ الكلاب، ولله درُّ من قال:
يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيُكْلِمَهُ ... أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
ومنشأ ذلك أنه لما شاعت فضائل الإمام الأعظم، وظهرت رفعته، ولم يظهر لأحد من الأئمة المشهورين مثل ما ظهر له من الأصحاب والتلاميذ، ولم ينتفع الناس والعلماء بمثل ما انتفعوا به وبأصحابه في تفسير الأحاديث المشتبهة، والمسائل المستنبطة، والنوازل والقضايا والأحكام، وما قال قولًا إلا أخذ به إمام من الأئمة الأعلام، وقد جعل الله الحكم لأصحابه وأتباعه من زمنه إلى هذه الأيام، إلى أن يحكم بمذهبه عيسى عليه السلام، كما في «الدر» و «القهستاني» يدل لذلك ما ذكره أهل الكشف أن مذهبه آخر المذاهب انقطاعًا، كما قاله الشعراني في «الميزان»؛ تكلموا فيه بما يليق بهم، كما تكلموا في مالك والشافعي وأحمد، بل وفي الصدِّيق وعمر وعثمان وعلي، وكل الصحابة، ولله درُّ من قال:
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْجُو مِنِ النَّاسِ سَالِمًا ... وَلِلنَّاسِ قَالٌ بِالظُّنُونِ وَقِيلُ
وقد انتصر للإمام الأعظم السيوطي في «تبييض الصحيفة»، وابن حجر في «الخيرات الحسان»، وابن عبد الهادي الحنبلي في «تنوير الصحيفة» وغيرهم من الأئمة الأعلام، ولله درُّ القائل:
حَسْبِي مِنِ الْخَيْرَاتِ مَا أَعْدَدْته ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي رِضَا الرَّحْمَنِ
دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْوَرَى ... ثُمَّ اعْتِقَادِي مَذْهَبَ النُّعْمَانِي
وقد نظم بعض الأفاضل تاريخ مولد الإمام الأعظم ووفاته، ومولد الإمام مالك ووفاته، ومولد الإمام الشافعي ووفاته، ومولد الإمام أحمد ووفاته؛ مشيرًا إليه بحروف الجُمَل لكل إمام منهم ثلاث كلمات على هذا الترتيب حيث قال:
تَارِيخُ نُعْمَانَ يَكُنْ سَيْفٌ سَطَا ... وَمَالِكٌ فِي قَطْعِ جَوْفٍ ضُبِطَا
وَالشَّافِعِيُّ صَيِّنٌ بِيْرٌ نَدٍ ... وَأَحْمَدٌ بِسَبْقِ أَمْرٍ جُعِّدَا
فَاحْسبْ عَلَى تَرْتِيبِ نَظْمِ الشِّعْرِ ... مِيلَادَهُمْ فَمَوْتُهُمْ كَالْعُمُرِ
وفيه إشارة إلى أنهم على هذا الترتيب كترتيب الخلفاء الراشدين: الإمام الأعظم، فمالك، فالشافعي، فأحمد رضي الله عنهم.
%ص 145%
وهذا الأثر وصله سفيان الثوري في «جامعه»، عن عطاء بن السائب، ورواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند جيد، عن عبد الوهاب الثقفي، عن عطاء بن السائب قال: رأيت ابن أبي أوفى بزق (دمًا) مخلوطًا بالبزاق، وهو يصلي من غير إظهار حروف، (فمضى في صلاته)؛ أي: استمر فيها؛ لعدم انتقاض طهره بذلك؛ لأنَّ الدم الذي يخرج من الفم إن كان من جوفه؛ فغير ناقض للوضوء عند الإمام محمد، كما في «التاترخانية»، وهو الصحيح، كما في «المحيط» و «السراج»، وإن كان من بين أسنانه؛ فالمعتبر للغلبة للبزاق وللدم، فإن غلب البزاق على الدم لا يَنْقُض، كما في مسألتنا، وإن غلب الدم؛ نقض، والغلبة تُعلَم من حيث اللون؛ فإن كان الدم المخلوط لونه أصفر؛ فهو مغلوب لا يَنْقُض، وإن كان شديد الحمرة؛ فهو غالب، وإن لم تشتدَّ حمرته؛ فمساوٍ، وهما ناقضان احتياطًا، ولم يتعرض الراوي لذلك، وظاهر كلامه هذا.
وقد روى ابن أبي شيبة عن الحسن في رجل بزق فرأى في بزاقه دمًا: أنه لم يرَ ذلك شيئًا حتى يكون عبيطًا، وروي عن ابن سيرين: (أنه ربما بزق، فيقول لرجل: انظر هل تغير الريق؟ فإن قال: تغير يبزق الثانية، فإن كان في الثالثة متغيِّرًا؛ فإنَّه يتوضأ، وإن لم يكن في الثالثة متغيِّرًا؛ لم يرَ الوضوء).
قلت: والتغيير لا يكون إلا بالغلبة، كما ذكرنا؛ فافهم، والله تعالى الكريم أعلم.
(وقال ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (و) قال (الحسن)؛ أي: البصري، وهذان الأثران رواهما ابن أبي شيبة في «مصنفه» (فيمن يَحْتَجِم) وللأربعة: (فيمن احتجم): (ليس عليه إلا غَسْلُ مَحَاجمه) جمع مَحجمة _بفتح الميم_: مكان الحجامة، وبكسر الميم: اسم للقارورة، والمراد هنا الأول، وسقط لفظة: (إلا) عند أكثر الرواة؛ يعني: أن الوضوء ينتقض بالحجامة، وعليه غسل مكان الحجامة؛ لأنَّها تنجَّست بالدم النجس، فإنَّ هذين الأثرين مبنيان على سؤال سائل سأل: إذا احتجم الرجل هل يَنْجُسُ مكان الحجامة؟ فأجابا: بأنَّه يلزمه غسل مكان الحجامة؛ يعني: وإذا كان متوضِّئًا؛ ينتقض وضوءُه، فلا دلالة فيه على أنَّ الحجامة لا تنقض الوضوء؛ لأنَّه لم يصرِّح بالوضوء؛ هل السائل متوضِّئ أم لا؟ والظاهر: أن السؤال وقع عن مكان الحجامة، هل تنجس؛ فيلزم غسله، أو طاهر؛ فلا يلزم؟ ويدل لهذا لفظ أثر ابن عمر: (أنه كان إذا احتجم؛ غسل أثر محاجمه)، وأثر الحسن: أنه كان يقول: (يغسل أثر المحاجم)، ففي كلٍّ منهما لم يتعرض لذكر الوضوء، فدلَّ على أن الوضوء ينتقض، ويلزمه غسل محاجمه، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، والإمام أحمد ابن حنبل وغيرهم.
وقال في «عمدة القاري»: (الدم الذي يخرج من موضع الحجامة مُخرَج وليس بخارج، والنقض يتعلق بالخارج، فإذا احتجم وخرج الدم في المَحْجَمِ بمصِّ الحجَّام ولم يَسِلْ ولم يلحق إلى موضع يلحقه حكم التطهير؛ فعلى الأصل المذكور: الوضوء لا ينتقض، ولكن لا بدَّ من غسل مَحَاجمه بأي شيء كان) انتهى.
ولئن سلمنا أنَّه على ظاهره غير ناقض؛ فهو ليس بحجة على الأئمة الحنفية والحنابلة؛ لأنَّه إن كان من أقوال الصحابة؛ فالمروي عن النبي الأعظم عليه السلام بالنقض بالدم أحق وأولى بالاتباع، وأقوال الصحابة لها تأويل ومحمل صحيح، ولا تأويل ولا محمل لأقوال النبي الأعظم عليه السلام، وإن كان من قول التابعين؛ فليس بحجة عليهم؛ لأنَّه لا يلزمنا الأخذ بما اجتهدوا به؛ لأنَّ كلَّ واحد من التابعين له اجتهاد خاصٌّ، فلا يلزم الأخذ باجتهاده، فهم رجال ونحن رجال، كما قدمناه؛ فافهم.

==================
[4] في الأصل: (ففيه).
[5] في الأصل: (جزرًا)، وهو تحريف عن المثبت.
[6] في الأصل: (سنَّه)، ولعل المثبت هو الصواب. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي

 مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيت...