روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الاصلي ظلما وبغيا

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الالكتروني

كتاب:آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة أبو البركات ا... /يا أمة الإسلام والأزهر الشريف *أفيقوا* /تحميل مذكرة الجبر3 ث ثانوي عام 3 ثانوي.pdf. / صفحة .. س وج احياء 3ث/ أرشيف المدونة النخبة في... /الفيزياء للجميع 3 .ث /مذكرة التميز (شرح ومراجعة) النصوص للصف الثالث الثا... /العلامات والأعراض التهاب المفاصل الروماتويدي /موضوعات علمية وللثانوية العامة وكذلك مسائل شرعية... /تحميل منهج الثانوية العامة 3ث /مذكرة الأساسيات , الجبر, الهندسة الفراغية , الاستا... /حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث .حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث . /ثانوي علم النفس اللثانوية العامة 2016 استاذ سام... /ث. استاتيكا :خرائط مفاهيم المميز للصف الثالث ال... /الفيزياء الثالث الثانوي3ث. /فيزياء 3ث /مناج الثالث الثانوي 3ث. /مذكرات 3ث. /مذكرات 3ث. /الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... / الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... /ث/الديناميكا(تفاضل الدوال المتجه.pdf ) /ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي /لا يمكن الجمع بين أن المؤمن مآله إلى الجنة وبين حد... /كتاب : الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ابن كثير /دليل 24. /القران مكتوب روابط /مجلد 1. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح... /مجلد 2. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح...

اللهم إني أُشهدك أنني بريئ من كل علم وكل شأن لا ترضاه ويخالف دينك القيم

الثلاثاء، 17 مايو 2022

كتاب: مجلد 9. أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري -عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ) آخر الكتاب

 قلت المدون الحمد لله رب العالمين

9. كتاب: مجلد 9. أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري -عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ) (86) [باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس]
هذا (باب) بيان حكم بناء (المسجد)؛ أي: الجامع سواء كان كبيرًا أو صغيرًا (يكون) أي: بناؤه (في الطريق) أي: طريق الناس (من غير ضرر بالناس) ولأبي ذر: (للناس)، وفي بعض الأصول زيادة: (فيه)، والمراد بالحكم: الجواز، لكن بشرط ألَّا يكون فيه ضرر لهم.
ولما كان بناء المسجد على أنواع؛ نوع منه يجوز بالإجماع؛ وهو أن يبنيه في ملكه، ونوع يجوز ذلك بشرط ألَّا يضر بأحد؛ وذلك في المباحات، وقد شذ بعضهم في ذلك فمنعه، وأراد البخاري بهذا الباب الرد على هؤلاء، واحتج على ذلك بقصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعلم بذلك النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، ولم ينكر عليه، وما رواه عبد الرزاق عن علي وابن عمر من المنع؛ فسنده ضعيف لا يحتج به، أو محمول على وجود الضرر، والصَّحيح ما نقل عن أبي بكر رضي الله عنه، أفاده إمام الشَّارحين.
(وبه)؛ أي: بجواز بناء المسجد في الطريق بحيث لا يحصل ضرر للناس (قال الحسن) هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري التَّابعي، (وأيِّوب) هو السختياني البصري، (ومالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، وبه قال الجمهور.
وفائدة التصريح بهؤلاء مع أنَّه جائز عند الجمهور؛ لأنَّه لما وَرَد عنهم هذا الحكم صريحًا؛ صرَّح المؤلف بأسمائهم، قاله الشَّارح.
وقال صاحب «التوضيح»: (وأجاز مالك بناء المسجد بفناء الدار إذا كان لا يضر بالساكنين؛ لأنَّ نفعه كالاستطراق، وإليه ذهب البخاري كما في ترجمته، قال ابن شعبان: وينبغي تجنب الصلاة في المساجد المبنية حيث لا يجوز بناؤها
%ص 684%
في الطرقات ونحوها؛ لأنَّها وضعت في غير حقها، فمن صلى فيها متأولًا أنَّه صلى في الطريق؛ أجزاه)، قال: (ولو كان مسجد في متسع وأراد الإمام الزيادة فيه ما لا يضر بالساكنين؛ لم يمنع عند مالك، ومنعه ربيعة، وصححه ابن بطال؛ لأنَّه غير عائد إلى جميعهم، وقد ترتفق به الحائض والنفساءن ومن لا تجب عليه من الأطفال، ومن يسلكه من أهل الذمة) انتهى.
قلت: وما صححه ابن بطال هو الصَّواب، كما لا يخفى على أولي الألباب.
==================
(1/800)
[حديث: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين]
476# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى ابن بُكير)؛ بِضَمِّ الموحَّدة مصغرًا، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فأبوه عبد الله، المخزومي البصري (قال: حدثنا اللَّيث) هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي، (عن عُقَيل)؛ بِضَمِّ العين المهملة: هو ابن خالد الأيلي المصري، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني (قال: أخبرني) بالإفراد (عُروة بن الزُّبير)؛ بِضَمِّ العين المهملة في الأول، وضم الزاي في الثاني: هو ابن العوام القرشي المدني، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: (فأخبرني)؛ بالفاء، ولأبي الوقت والأصيلي: (وأخبرني)؛ بالواو، وعليهما فهو معطوف على مقدر كأن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بكذا وكذا فأخبرني أو وأخبرني عقيب تلك الإخبارات بهذا: (أنَّ عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (زوج النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ورضي عنهما: أنَّها (قالت: لم أعقل) أي: لم أعرف (أبوي)؛ أي: أبا بكر وأم رومان، وهذه التثنية من باب التغليب، وفي بعض النُّسخ: (أبواي)؛ بالألف، وذلك على لغة بني الحارث بن كعب جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف [1]؛ كعصى، فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب، أفاده إمام الشَّارحين.
قلت: والتغليب جَارٍ على الروايتين؛ فافهم.
(إلا وهما يدِينان الدِّينَ)؛ بكسر الدَّال المهملة فيهما؛ أي: يتدينان بدين الإسلام، وانتصاب (الدِّين) بنزع الخافض، يقال: دان بكذا ديانة، وتديَّن به تديُّنًا، ويحتمل أن يكون مفعولًا به، و (يدين) بمعنى: يطيع، ولكنه فيه تجوز من حيث جعل الدِّين كالشخص المطاع، قاله في «عمدة القاري».
قلت: وعلى هذا؛ فهو على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية، وفي الكلام إشارة إلى تقدم إسلام أم رومان أيضًا؛ فليحفظ.
(ولم يمُر)؛ بِضَمِّ الميم؛ أي: لم يمض (علينا)، ففيه تغليب المتكلم، وللأصيلي، وأبي الوقت، وابن عساكر: (عليهما) أي: على أبوي (يوم) وهو شرعًا: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وعند أهل الفلك: من طلوع الشمس إلى غروبها، وقولها: (إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار)؛ بالنصب على الظرفية الزمانية، صادق بالنهار الشرعي والفلكي، بل الأظهر الثاني؛ فافهم (بكرةً وعشيةً): منصوبتان على الظرفية يدلان على التأكيد، أو هما بدلان؛ فافهم، (ثم بدا)؛ بغير همز؛ أي: ظهر، من بدا الأمر بدوًّا_مثل: قعد قعودًا_ أي: ظهر، قال الجوهري: (بدا له في هذا الأمر؛ أي: نشأ له رأي فيه)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وفي التعبير بـ (ثم) إشارة إلى التراخي، وهو على حقيقته؛ لأنَّ ههنا قصة سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
(لأبي بكر): متعلق بـ (بدا) (فابتنى مسجدًا) أي: أمر ببنائه (بفِناء داره)؛ بكسر الفاء ممدودًا؛ وهو ما امتد من جوانبها، (فكان) أي: أبو بكر (يصلِّي فيه)؛ أي: في المسجد المذكور ليلًا، وبعض صلاة النهار، (ويقرأ القرآن)؛ أي: ما نزل منه وقتئذٍ، (فيقف عليه) أي: على أبي بكر حين يقرأ في المسجد (نساء المشركين وأبناؤهم) في ذهابهم وإيابهم في الطريق، وكان المسجد له شبابيك تطل على الطريق العام فينظرونه منها (يعجبون منه)؛ أي: من أبي بكر في حسن قراءته، أو من القرآن العظيم، (وينظرون إليه) حيث يقرأ بين المشركين جهرًا ولا يبالي بهم.
(وكان أبو بكر رجلًا بكَّاء)؛ بتشديد الكاف على وزن (فعَّال)، مبالغة (باك)؛ أي: كثير البكاء من خشية الله تعالى (لا يملك عينيه)؛ بالتثنية؛ أي: لا يطيق إمساكهما ومنعهما من البكاء؛ (لرقة قلبه)، قال إمام الشَّارحين: (وفي بعض النُّسخ: «لا يملك عينه»؛ بالإفراد، وهو وإن كان مفردًا، لكنه جنس يطلق على الواحد والاثنين) انتهى، (إذا قرأ القرآن)، قال الشَّارح: («إذا»: ظرفية، والعامل فيه: «لا يملك»، أو شرطية، والجزاء مقدر يدل عليه: «لا يملك»؛ فافهم، (فأفزع)، من الإفزاع: وهو الإخافة؛ أي: أخاف (ذلك)؛ أي: وقوف من ذكر عليه، قاله الشَّارح، و (ذلك) فاعل (أخاف)، وزعم العجلوني: (ويحتمل أنَّ الإشارة لفعل أبي بكر المذكور)؛ وهو بعيد، والأول أظهر؛ لأنَّ فعله لا يخوفهم، كما لا يخفى، وقوله: (أشراف)؛ بالنصب مفعول (أفزع)؛ أي: أعاظم (قريش من المشركين)؛ أي: خافوا من ميل الأبناء والنساء إلى دين الإسلام.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة، قال إمامنا الشَّارح: (وقد ذكر البخاري في كتاب «الهجرة» هذا الحديث مطولًا بهذا الإسناد، وزاد فيه بعد قوله: «عشية» وقبل قوله: «ثم بدا لأبي بكر» قصة طويلة في خروج أبي بكر من مكة، ورجوعه في جِوَارِ ابن الدغنة، واشتراطه عليه ألَّا يستعلن بعبادته، فعند فراغ القصة قال: «ثم بدا») انتهى.
قلت: وحاصل القصة: أنَّ الصديق لما أوذي؛ خرج من مكة مهاجرًا حتى بلغ برك الغماد [2]، فرده ابن الدغنة، ورجع معه إلى مكة، وأجاره منهم بشرط ألَّا يصلِّي في بيته، ولا يستعلن بالقراءة، ثم بعد ذلك بدا للصديق، فابتنى مسجدًا بفِناء داره، فسير المشركون إلى ابن الدغنة، فجاء للصديق، فقال له: إمَّا أن تصلي في بيتك، وإلا؛ فرد جواري، فقال الصديق: فإنِّي أرضى بجوار الله، وأرد إليك جوارك، وهذا من قوة يقين الصديق رضي الله عنه، انتهى.
وقال إمام الشَّارحين: (ويستفاد من الحديث: جواز بناء المسجد في الطريق إذا لم يكن ضرر للعامة كما ذكرنا، وفيه: بيان فضل أبي بكر رضي الله عنه مما لا يشاركه فيه أحد؛ لأنَّه قصد تبليغ كتاب الله وإظهاره مع الخوف على نفسه، ولم يبلغ شخص هذه المنزلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: فضائل أخرى لأبي بكر، وهي قدم [3] إسلامه وإسلام أبويه، وتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه طرفي النهار، وكثرة بكائه، ورقة قلبه، مما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى) انتهى.
==========
[1] تكرر في الأصل: (ألف).
[2] في الأصل: (العماد)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (أقدم)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 685%
==================
[1] تكرر في الأصل: (ألف).
[2] في الأصل: (العماد)، وهو تصحيف.
[1] تكرر في الأصل: (ألف).
[2] في الأصل: (العماد)، وهو تصحيف.
(1/801)
(78) [باب الصلاة في مسجد السوق]
هذا (باب) حكم (الصلاة في مسجد السوق)؛ بالإفراد لأبي ذر، وفي رواية الأكثرين: (مساجد)؛ بالجمع، والمراد به: جواز الصلاة في المساجد التي بنيت في الأسواق والشوارع، وقال الكرماني:
%ص 685%
(المراد بـ «المساجد»: مواضع إيقاع الصلاة، لا الأبنية الموضوعة للصلاة من المساجد، فكأنَّه قال: باب الصلاة في مواضع الأسواق).
وقال ابن بطال: (روي: «أنَّ الأسواق شر البقاع»، فخشي البخاري أن يتوهم من رأى ذلك الحديث أنَّه لا يجوز الصلاة في الأسواق استدلالًا به، فجاء بحديث أبي هريرة؛ إذ فيه إجازة الصلاة في السوق، وإذا جازت الصلاة في السوق فُرادى؛ كان أولى أن يتخذ فيه مسجد للجماعة).
وقال ابن حجر: (موضع التَّرجمة الإشارةُ إلى أنَّ الحديث الوارد في أنَّ الأسواق شر البقاع، وأنَّ المساجد خير البقاع، كما أخرجه البزار وغيره؛ لا يصح إسناده، ولو صح؛ لم يمنع وضع المسجد في السوق؛ لأنَّ بقعة المسجد حينئذٍ تكون بقعة خير).
واعترضهم إمام الشَّارحين، فقال: (كل منهم قد تكلف؛ أمَّا الكرماني؛ فإنَّه ارتكب المجاز من غير ضرورة، وأمَّا ابن بطال؛ فإنَّه من أين تحقق خشية البخاري مما ذكره حتى وضع هذا الباب؟ وأمَّا القائل الثالث _يعني: ابن حجر_؛ فإنَّه أبعد جدًّا؛ لأنَّه من أين علم أنَّ البخاري أشار به إلى ما ذكره؟ والأوجه أن يقال: إنَّ البخاري لما أراد أن يورد حديث أبي هريرة الذي فيه الإشارة إلى أنَّ المصلي لا يخلو إمَّا أن يكون في المسجد التي بني لها، أو في بيته الذي هو منزله، أو السوق؛ وضع بابًا فيه جواز الصلاة في المسجد الذي في السوق، وإنَّما خص هذا بالذكر من بين الثلاثة؛ لأنَّه لما كان السوق موضع اللغط، واشتغال الناس بالبيع والشراء، والأيمان الكثيرة فيه بالحق والباطل، وربما كان يُتَوهم عدم جواز الصلاة فيه من هذه الجهات؛ خصه بالذكر) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم: (يقال عليه: من أين مراد البخاري ما ذكره؟ فما كان جوابه فهو جوابهم، وقوله عن الكرماني: أنَّه ارتكب المجاز من غير ضرورة؛ فيه أنَّه الأصل الحقيقي إلا أن يريد بالنسبة للمعنى المتعارف، على أنَّه ليس الكلام للكرماني، بل لصاحب التراجم كما نقله عنه الكرماني)، وقال العجلوني قبله: (وما قاله الكرماني أنسب، والأولى أن يراد ما يشمل الأمرين معًا؛ لأنَّه أعم فائدة) انتهى.
قلت: وكلامه فاسد الاعتبار، فإنَّ قوله: (يقال عليه ... ) إلى آخره؛ صاحب الفهم الصَّحيح يعلم أنَّ مراد البخاري ما ذكره من وضع حديث أبي هريرة تحت هذه التَّرجمة، وفيه المطابقة لها صريحًا، وفيه بيان أنَّ المصلي إذا صلى في بيته؛ لم يحصل له هذا الثواب، وهو صادق بوجهين، فهو ثلاثة التي [1] ذكرها إمام الشَّارحين، وليس هذا يصلح جوابًا لهؤلاء كما زعمه؛ لأنَّ الكرماني لم يأخذ كلامه من بيان الحديث، بل أخذه من الفهم السقيم، وابن بطال أخذ كلامه من حديث: «شر البقاع الأسواق»، وتبعه ابن حجر، وأخذ من كلامه واستند لهذا الحديث، وكل هذا ليس بمراد للمؤلف، فليس لهؤلاء جواب غير أنَّه كلام غير مفيد للمقام على أنَّ حديث: «شر البقاع الأسواق» لا يصح إسناده، فهو ضعيف، فكيف يحتج به؟ وكيف يتوهم أحد منه عدم الجواز مع وجود حديث أبي هريرة؟ فإنَّ البخاري لو كان مراده الحديث وصح عنده؛ لذكره، وما ذلك إلا قول صادر من غير تأمل.
وقوله: (فيه أنَّه الأصل ... ) إلخ؛ ممنوع، فإنَّ الأصل في الكلام الحقيقة عند أهل المعارف لا المجاز، ولم يقل أحد غيره بأنه الأصل على أنَّه لا يجوز عند المحققين العدول عن الحقيقة إلى المجاز مع وجود الحقيقة؛ لأنَّها الأصل في الكلام؛ فليحفظ، فهذا كلام صادر من غير تأمل.
وقوله: (إلا أن يريد .. ) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا، فمن المتعارف أنَّ المسجد اسم للأبنية المعروفة، وليس يعرف أنَّ المسجد موضع إيقاع الصلاة، كما لا يخفى.
(وكونه ليس الكلام للكرماني .. ) إلى آخره: ليس بلازم؛ لأنَّ إمام الشَّارحين ينظر للمقال، ولا ينظر لمن قال، وليس له فيه حظ نفس ولا نحوه، على أنَّه كم وقع الكرماني في خبط أبلغ من هذا، وكم رأينا له هفوات، فليس هذا بأول هفوة، على أنَّه لو كان المراد بالمساجد مواضع إيقاع الصلاة _كما زعمه وادعى العجلوني أنَّه أنسب_؛ لكان حديث أبي هريرة غير مطابق للتَّرجمة، ولكان على المؤلف أن يترجم له بـ (باب مواضع الصلاة)، ولما ترجم بهذا؛ علم أنَّ ما ذكره ليس بمراد له، ولا إشارة إليه، كما لا يخفى.
وقوله: (والأولى أن يراد ... ) إلى آخره؛ ممنوع؛ لأنَّ البخاري صرح في ترجمته بلفظ: (المساجد)، ولم يرد به مواضع الصلاة، كما هو صريح ترجمته، والحديث يدل عليه، وليس فيما ذكره العجلوني أعمية فائدة؛ لأنَّ الفائدة بما ترجم به موجودة بالعموم على أنَّه ليس فيما ذكره فائدة أصلًا؛ لأنَّه إذا حمل كلامه على ما يلزم عليه العمل بحقيقة الكلام ومجازه وهو غير جائز عند الجمهور، والمؤلف لا يعمل بمثله؛ فعلم منه أنَّه ليس بمراد للمؤلف ولا إشارة إليه.
(وصلى ابن عون)؛ بالنُّون، هو عبد الله بن أرطبان البصري، من السَّادسة، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة، يروي عن ابن سيرين وغيره، وزعم ابن المُنَيِّر أنَّه ابن عمر، وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّه تصحيف، والصَّحيح أنَّه ابن عون، وكذا وقع في الأصول) انتهى.
قال العجلوني: (رأيت في «المصابيح» نقلًا عنه: «ابن عون» بلا تصحيف) انتهى.
قلت: هذه النُّسخة التي رآها أيضًا هي تصحيف؛ لأنَّ الثابت في النُّسخ عنه: «ابن عمر» بالتصحيف كما نقله الشراح، فكيف يدعي ذلك؟ فافهم.
(في مسجد في دار يغلق عليهم الباب)؛ أي: على ابن عون ومن معه باب الدار، فضمير (عليهم) يرجع له ولمن معه، قال القسطلاني: (وليس في هذا ذكر السوق، فالله أعلم بوجه المطابقة) انتهى.
قلت: أشار إلى أنَّه لا مطابقة بين هذا والتَّرجمة، والظَّاهر أن يقال: إنَّ دار ابن عون في السوق والمسجد الذي فيها بابه في السوق، وأنَّ أهله يصلُّون فيه؛ بدليل قوله: (عليهم)، فإنَّه راجع إلى ابن عون ومن معه، وهم أهل السوق، فصدق عليه أنَّ صلاته كانت في مسجد السوق، وإغلاق الباب؛ لأجل عدم دخول كلب ونحوه، لا لأجل الناس؛ فافهم، فطابق التَّرجمة من هذا الوجه؛ فافهم.
وزعم صاحب «المنحة» بأنَّ وجه المطابقة قياس اتخاذ المسجد في السوق على اتخاذه في الدار بجامع أنَّ كلًّا منهما محجور بأهل ما حواه، انتهى.
قلت: هذا قياس مع الفارق، ولو كان مراد المؤلف اتخاذ المسجد في الدار؛ لكان ترجم له أو أدخله في ترجمته، وليس لهذا الجامع الذي ذكره وجه، فإنَّ السوق ليس أهله محجورين وكذلك الدار؛ لأنَّ السوق يدخله البائع، والشَّاري، والمتفرج، والغريب، والمقيم، وكذلك الدار يدخلها صاحب الحاجة، والضيف، ونحوهما؛ فافهم.
وقال ابن المُنَيِّر: (وجه المطابقة: أنَّ المصنف أراد أن يبين جواز بناء المسجد داخل السوق؛ لئلا يتخيل متخيل من كونه محجورًا منع الصلاة فيه؛ لأنَّ صلاة ابن عمر كانت في دار تغلق عليهم، فلم يمنع التحجير اتخاذ المسجد فيها، وخص السوق في التَّرجمة؛
%ص 686%
لئلا يتخيل أنَّها لما كانت شر البقاع وبها يركز الشَّيطان رايته _كما وَرَد في الحديث_ يمنع ذلك من اتخاذ المساجد فيها، وتنافي العبادة كما نافتها الطرقات، ومواضع العذاب والحَمَّام؛ فبيَّن بحديث أبي هريرة أنَّها محل للصلاة؛ كالبيوت، فيجوز أن يبنى فيها المسجد) انتهى.
قلت: كل هذا تكلف، وغير مراد للبخاري؛ لأنَّه من أين علم أنَّ مراد البخاري بيان جواز بناء المسجد داخل السوق؟ فلو كان مراده هذا؛ لكان يقول: باب جواز بناء المسجد في السوق، وإنَّما مراده: جواز الصلاة في مسجد السوق، وليس يتخيل أحد منع الصلاة في السوق؛ لكونه محجورًا بل هو غير محجور، ألا ترى أنَّ المؤمن لا يمنع مؤمنًا من دخول المسجد، فكيف يكون محجورًا؟ ودار ابن عون كانت في السوق وليس في المسجد الذي بها حجر؛ لأنَّ غلق الباب إنَّما كان لأجل ألَّا يدخل عليهم كلب أو نحوه، فيفسد عليهم صلاتهم.
وتخصيص السوق بالتَّرجمة موافقة للأثر والحديث، لا لأنَّها شر البقاع وركوز الشَّيطان، فإنَّ حديث: «شر البقاع»؛ ضعيف لا يحتج به كما قدمناه، والشَّيطان يركز في كل مكان خبيث، ألا ترى أنَّ الشخص إذا باع واشترى على قانون الشرع؛ يذكر عليه الملائكة وأنَّه عبادة، ولا تنافي فيما ذكره من الطرقات ونحوها؛ لأنَّها لم تكن معدة للصلاة، فقالوا بكراهة الصلاة فيها، أمَّا مسجد السوق؛ فلا كراهة فيه؛ لأنَّه مسجد أُعِد للصلاة فيه، فهذا قياس مع الفارق؛ فافهم، وما ذكرناه في وجه المطابقة هو الصَّواب؛ لأنَّه من فيض الوهاب.
زاد في الطنبور نغمة الكرماني، فزعم أنَّ غرض البخاري من هذا الأثر الرد على الحنفية حيث قالوا بامتناع اتخاذ المساجد في الدار المحجوبة عن الناس، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (جازف الكرماني في هذا؛ لأنَّ الحنفية لم يقولوا هكذا، بل المذهب فيه أنَّ من اتخذ مسجدًا في داره وأفرز طريقه؛ يجوز ذلك، ويصير مسجدًا، فإذا أغلق بابه وصلى فيه؛ يجوز مع الكراهة، وكذا الحكم في سائر المساجد) انتهى.
وشاركه في المجازفة العجلوني، فزعم أنَّه يمكن حمل كلام الكرماني على ما قاله، والمكروه تحريمًا ممتنع في الجملة، فلا مجازفة، انتهى.
قلت: هذا تعصب بارد من ذهن شارد؛ لأنَّه كيف يحمل كلامه على ما قاله، وقد قال الكرماني: (قالوا بامتناع)؛ وهو عدم الجواز، وبين هذا وبين الجواز مع الكراهة فرق ظاهر كما بين السَّماء والأرض، ولم يصرح إمام الشَّارحين بأنَّ الكراهة للتحريم، فمن أين جاء بها؟ وما هذا إلا جرأة على رئيس المجتهدين.
على أنَّ الكرماني قال: (في الدار المحجوبة عن الناس)، وإمام الشَّارحين قال: (فإذا أغلق بابه)، فبين الدار المحجوبة والمسجد المغلق بابه فرق ظاهر [2]، فلا يمكن حمل كلامه على شيء أصلًا، وليس هو بالإمام الأعظم ولا بأمثاله حتى يحمل كلامه على محمل حسن، بل يقال: هو خطأ ظاهر، وجرأة على صاحب المذهب المعظم، وإذا كان لم يعرف مذهب رأس المجتهدين؛ كيف يتعرض لمذهبه بالخطأ الظَّاهر؟
على أنَّ ما ذكره البخاري من الأثر إن لو فرض أنَّه كان مخالفًا للمذهب لا يعارضه، ولا يلتفت إليه؛ لأنَّه ليس من كلام النَّبي الأعظم عليه السَّلام، ولا من كلام الصَّحابةرضي الله عنه، ومع هذا؛ فكلام التَّابعين كذلك لا يعارِض؛ لأنَّهم رجال ونحن رجال، كما قاله الإمام الأعظم، فكيف إذا كان كلام أتباع التَّابعين فبالأولى؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الذي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (فرقًا ظاهرًا)، ولا يصح.
==================
[1] في الأصل: (الذي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الذي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/802)
[حديث: صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته]
477# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا أبو معاوية) هو محمَّد بن حازم الضرير، (عن الأعمش) هو سليمان بن مهران الكوفي، (عن أبي صالح) هو ذكوان المدني، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، الصَّحابي الجليل رضي الله عنه، (عن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنَّه (قال: صلاة الجمِيع)؛ بتحتية بعد الميم المكسورة؛ أي: صلاة الجماعة كما في رواية، و (الجميع) في اللُّغة: ضد المتفرق، والجيش أيضًا والحي: المجتمع، ويؤكد به يقال: جاؤوا جميعًا؛ أي: كلهم، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قال الكرماني: (صلاة الجميع؛ أي: في الجميع؛ يعني: صلاة الجماعة)، واعترضه الشَّارح بأنَّه تصرف غير مرضي، وكذلك اعترضه ابن حجر بأنَّه تكلف لا حاجة إليه، انتهى.
وزعم العجلوني بأنَّ ما ذكره الكرماني تصرف مرضي، ولا تكلف فيه، فإنَّ الإضافة على معنى (في) انتهى.
قلت: هو غير ظاهر؛ لأنَّ كلام الكرماني مبني على التكرار في معاني الألفاظ، كما هو ظاهر، وهو تصرف غير مرضي لأهل المعاني، ولا ريب أنَّه تكلف لا حاجة إليه عند أهل المعارف، وكون الإضافة على معنى (في) لا يدل على ما زعمه، فإنَّ تفسيره أيضًا صلاة الجماعة على معنى (في) لا كلام فيه، بل في التفسير المذكور؛ فافهم.
(تزيد)؛ بمثناة فوقية؛ أي: تفوق صلاة الجماعة (على صلاته)؛ أي: على صلاة الشخص المنفرد المدلول عليه بالجميع الذي بمعنى الجماعة، ونقل الكفيري عن «الكاشف» أنَّه قال: (هو مبتدأ، والمضاف محذوف؛ أي: ثواب صلاة الرجل في الجماعة، والضمير في «تزيد» راجع إليه) انتهى، (في بيته)؛ أي: منزله منفردًا، ومثله ما لو كان في أي مكان منفردًا، (وصلاته): عطف على (صلاته)؛ أي: وتزيد على صلاته بانفراده (في سوقه)؛ أي: في مسجد سوقه على حذف مضاف، والقرينة الحالية والمقالية تعين أنَّ المراد بقوله: (وصلاته في سوقه)؛ أي: في مسجد سوقه؛ لأنَّ السوق: الطريق، ولا كلام لنا فيه: فتعين أن يكون المراد به مسجد السوق؛ فافهم، والدليل على كونه منفردًا قوله: (في بيته)؛ لأنَّه قرينة ظاهرة عليه؛ لأنَّ الغالب أنَّ الرجل يصلِّي في بيته منفردًا؛ فافهم، ويدل عليه ما عند ابن ماجه: «فضل الصلاة على صلاة أحدكم وحده ... »؛ الحديث، (خمسًا وعشرين)؛ بالنصب على أنَّه مفعول لقوله: (تزيد)؛ نحو قولك: زدت عليه عشرة ونحوها (درجةً)؛ بالنصب على التمييز، وعند ابن ماجه: (جزءًا).
وفي لفظ: (بضعًا [1] وعشرين درجة)، وفي لفظ: (بضعة وعشرين جزءًا).
وعند السراج: (تعدل خمسة وعشرين صلاة من صلاة الفذ).
وفي لفظ: (خير من صلاة الفذ).
وفي لفظ: (صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين يصلِّيهما وحده).
وفي «سنن الكشي»: (صلاة الجميع تفضل على صلاة الفذ).
وعند البخاري من حديث نافع عن ابن عمر: (صلاة الرجل في جماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بسبع وعشرين درجة).
وعند ابن حبان من حديث أُبي بن كعب: (أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين درجة، وصلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وصلاته مع الثلاثة أزكى من صلاته مع الرجلين، وما كثر؛ فهو أحب إلى الله عز وجل).
وعند السراج من حديث أنس موقوفًا بسند صحيح: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل بضعًا وعشرين صلاة).
وفي كتاب ابن حزم: (صلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد سبعًا وعشرين درجة).
وعند ابن حبان: (تكتب صلاته بخمسين درجة).
وعند أبي داود: (بلغت خمسين صلاة).
وعند أحمد بسند جيد عن ابن مسعود: (صلاة الجمع تفضل على صلاة الرجل وحده خمسة وعشرين ضعفًا، كلها مثل صلاته).
وفي «تاريخ البخاري» من حديث الإفريقي عن قباث بن أشيم: (صلاة رجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من أربعة تترى، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مئة تترى).
وعند ابن أبي شيبة عن عكرمة عن ابن عبَّاس: (فضل صلاة الجماعة على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، قال: فإن كانوا أكثر؛ فعلى عدد من في المسجد، فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف؟ قال: نعم).
وفي «فضائل القدس» لأبي بكر الواسطي من حديث أبي الخطاب: (وصلاة في مسجد القبائل بست وعشرين، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته على الساحل بألفي ألف صلاة، وصلاته بسواك بأربع مئة صلاة).
وعند ابن زنجويه من حديث ابن الخطاب: (صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي تجمع فيه بخمس مئة صلاة)، كذا في «عمدة القاري» مختصرًا.
قال العجلوني: (قال الكرماني: وقد عبر عن الانفراد بكونه في البيت أو السوق؛ إذ الغالب أنَّ صلاة الرجل فيها تكون
%ص 687%
بالانفراد ويدل لأنَّ هذا هو المراد: ما رواه المصنف في «فضل الجماعة» عن أبي سعيد الخدري: أنَّه سمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة»، وليس فيه _أي لحديث الباب_ ذكر المسجد في السوق، ولم أر في بعض طرقه ذكره، ولا من تعرض له من الشراح، فلا تحصل به المطابقة للتَّرجمة إذا أريد فيها المسجد الشرعي إلا ببعض التكلفات يراد به اللغوي، ولعل ذلك هو الحامل لما نقله الكرماني في تفسيره في التَّرجمة: بمواضع إيقاع الصلاة، وهو المناسب دون ما في «الفتح» و «العمدة»؛ فراجعه وتأمله) انتهى كلامهما.
قلت: كل منهما غير مصيب، وأراد بـ «الفتح» ما ذكره ابن حجر، و «العمدة» ما ذكره إمام الشَّارحين؛ لأنَّهما قالا: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «وصلاته في سوقه») انتهى؛ يعني: على حذف مضاف؛ أي: في مسجد سوقه؛ لأنَّ مسجد السوق لا توجد فيه الجماعة في غالب الأوقات، فصلاة الرجل الواحد فيه كصلاته في بيته منفردًا.
وإنَّما جعل البيت ومسجد السوق في حكم واحد؛ لعدم وجود الجماعة غالبًا فيهما، وبهذا تحصل المطابقة للتَّرجمة، وهذا هو مراد المؤلف؛ لأنَّه ترجم بـ (الصلاة في مسجد السوق)، وساق هذا الحديث، وأشار إلى أنَّ قوله: (وصلاته في سوقه)؛ أي: في مسجد سوقه؛ لأنَّ السوق طريق العامة، والصلاة فيه مكروهة، ولا كلام فيها هنا، وإنَّما المراد: مسجد السوق، كما لا يخفى.
وكيف غفل العجلوني والكرماني عن هذا حتى قالا ما لا تقبله الطباع؟ على أنَّ ما ذكراه من قوله: (وقد عبر عن الانفراد ... ) إلى آخره؛ ليس على ما ينبغي.
ولا حاجة إلى حديث أبي سعيد، فإنَّ في رواية البخاري من حديث نافع عن ابن عمر: (صلاة الرجل في جماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بسبع وعشرين درجة).
وعند ابن ماجه: (فضل الصلاة على صلاة أحدكم وحده خمس وعشرون جزءًا)، وقوله: (وحده): صادق على ما إذا كان في بيته أو مسجد سوقه، كما لا يخفى، فهذا يوضح ويبين أنَّ المراد به الإنفراد؛ فافهم.
وقوله: (وليس فيه ... ) إلى آخره؛ ممنوع، فإنَّ ذكر السوق قرينة دالة على أنَّ المراد بقوله: (وصلاته في سوقه)؛ أي: مسجد سوقه؛ لأنَّ السوق ليس بمحل للصلاة، وإنَّما هو طريق العامة، كما لا يخفى.
وقوله: (ولم أر في بعض طرقه .. ) إلى آخره؛ ممنوع؛ لأنَّه لا يلزم من عدم رؤيته له أن لا يكون موجودًا، على أنَّه لا يلزم التصريح بالمسجد؛ لأنَّه معلوم من المقام، والقرائن تدل عليه.
وقوله: (ولا تعرَّض له من الشراح .. ) إلى آخره: لا يخفى أنَّ عدم تعرضهم لذلك لكونه واضحًا غير خفي، وإنَّما يخفى على من يدعي الفهم وليس عنده منه شيء، وحصول المطابقة لحديث الباب لما ترجم ظاهرة، وأنَّ المراد بالمسجد: الشرعي، ولا تلكف فيه، وأنَّ المدعي للتكلف غير مصيب، بل في أنَّ المراد به: اللغوي تكلف لا يطاق، كما زعمه الكرماني؛ لأنَّ مواضع الصلاة لا إشارة إليها ههنا ولا تعرض، وهي غير مناسبة للمقام، كما لا يخفى، وقد ذكرنا ذلك فيما سبق بزيادة؛ فافهم، فما في «الفتح» و «العمدة» هو العمدة؛ فليحفظ.
(فإنَّ أحدكم): خطاب خاص، والمراد به العام، هكذا بالفاء رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (بأنَّ أحدكم)؛ بالموحَّدة، ووجهها: أن تكون الباء للمصاحبة، فكأنَّه قال: تزيد على صلاته بخمس وعشرين درجة مع فضائل أُخَر؛ وهو رفع الدرجات، وصلاة الملائكة، ونحوها، ويجوز أن تكون للسببية، قاله إمام الشَّارحين، (إذا توضأ فأحسن)؛ أي: فأسبغ، كذا هو بدون مفعوله؛ والتقدير: فأحسن الوضوء، والإحسان إلى الوضوء: إسباغه برعاية السنن والآداب، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذا تعليل لما سبق، ويدل على حذف المفعول السياق من الكلام؛ لأنَّه يقتضي أنَّ هناك مفعولًا محذوفًا، وقال القسطلاني: (نعم؛ ألحق في «الفرع» لا في «أصله»: «وضوءه» بعد «فأحسن»، ويشبه أن يكون بغير خط كاتب الأصل).
وزعم العجلوني أنَّه يوجد في كثير من النُّسخ المعتمدة: (فأحسن الوضوء)؛ بالألف واللَّام.
قلت: لم نر في النُّسخ هكذا مطلقًا ولو غير معتمدة، فالله أعلم بصحتها مع أنَّ القسطلاني ذكر لفظ: (وضوءه) مع عدم الاعتماد عليه، وما هذا إلا تصحيف من النَّاسخين؛ فافهم.
(وأتى المسجد) أي: الجامع حال كونه (لا يريد) أي: بإتيانه (إلا الصلاة)، فالجملة حالية، والمضارع المنفي إذا وقع حالًا؛ يجوز فيه الواو وتركه، وهو عطف على قوله: (فتوضأ).
وزعم العجلوني أنَّه عطف على (فأحسن).
قلت: ما قلناه هو الصَّواب؛ لأنَّ المراد: الوضوء وإتيان المسجد وهو متوضئ وإحسان الوضوء؛ أي: إسباغه من المكملات؛ فافهم.
قال الكرماني: (ومثل الصلاة الاعتكاف مثلًا؛ إذ المراد من الحصر: أنَّه لا يريد إلا العبادة، واقتصر على الصلاة؛ لأنَّها الأغلب) انتهى.
قلت: هذا غير ظاهر؛ لأنَّ الثواب المذكور إنَّما وَرَد في الصلاة خاصة، ولهذا اقتصر عليها؛ لأنَّها قد اشتملت على قيام، وركوع، وسجود، وذكر، وتسبيح، وقراءة قرآن بالاستقلال، أمَّا الاعتكاف؛ فليس كذلك؛ لأنَّه مكث في المسجد فقط، وهو وإن كان عبادة إلا أنَّها قاصرة، والصلاة أعم، فالمراد من الحصر إنَّما هو حصر الصلاة لا العبادة مطلقًا؛ فليحفظ.
(لم يخط خَطوةً)؛ بفتح الخاء المعجمة وضمها، روايتان، وقال السفاقسي: (رويناه بفتح الخاء)، وقال القرطبي: (الرواية بِضَمِّ الخاء، فالمضمومة: ما بين القدمين، والمفتوحة: المرة الواحدة)، وهي منصوبة على المفعول المطلق لقوله: (يخط)، ويحتمل أنها مفعول به؛ لأنَّ المعنى: لم يفعل خطوة، قلت: وهو بعيد، والأول أظهر؛ فافهم، (إلا رفعه الله بها)؛ أي: بالخطوة الواحدة، وسقط لفظ: الجلالة للأصيلي (درجة) أي: واحدة (أو حطَّ)؛ بتشديد الطاء المهملة؛ أي: أسقط وأزال (عنه خطيئة)؛ أي: واحدة، ونصب (درجة) و (خطيئة) على التمييز، قاله القسطلاني.
واعترضه العجلوني فقال: (والظَّاهر أنَّ نصب «درجة» و «خطيئة» على المفعولية لفعليهما، لا نصب على التمييز كما قاله القسطلاني مع أنَّه سيأتي له في باب «فضل الجماعة» أنَّه أعربهما نائبين عن الفاعل؛ لأنَّ الرواية هناك: «إلا رُفِعت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة») انتهى.
قلت: ما قاله القسطلاني أولى وأنسب، وهو الظَّاهر، وما ذكره عن باب (فضل الجماعة) مبني على الرواية، فإنَّ الإعراب على حسب العوامل المقتضية له، فإذا كانت الرواية هكذا؛ فالإعراب هكذا، أمَّا ههنا؛ فالفعل مفعوله موجود وهو الضمير، و (رفع) لا يتعدى إلى مفعولين، كما لا يخفى، فتجويز النصب على المفعولية غير ظاهر، كما لا يخفى.
وهكذا رواية الكشميهني بـ (أو)، وللأصيلي: (وحط عنه بها خطيئة)؛ بالواو، وزيادة: (بها)، قال الشَّارح: (وهذا أشمل، وقد تكون «أو» بمعنى الواو، فلا تنافي)؛ فليحفظ، والله أعلم، اللهم أحسن عاقبتنا في
%ص 688%
الأمور كلها.
(حتى يدخل) أي: أحدكم (المسجد)؛ أي: الجامع، وهذا غاية لرفع الله له بالخطوة درجة ولحط الخطيئة عنه، فالمقتضي للرفع والحط المشي إلى المسجد، فإذا دخله؛ زال مقتضيها، فلهذا جعله غاية لهما، ولم يبق على عدم ثواب أصلًا، بل ثواب آخر، وترقي في الدرجات، ونجاة من الهلكات أشار إلى ذلك بقوله: (وإذا دخل) أي: الرجل المذكور (المسجد) أي: الجامع؛ (كان في صلاة)؛ أي: حكمًا من حيث الثواب؛ أي: في ثواب (ما كانت)؛ بالتأنيث؛ أي: الصلاة، ولأبي ذر: (ما كان)؛ بالتذكير؛ أي: المسجد، كذا ذكره إمام الشَّارحين، وهو أعم مما فسره العجلوني بالفعل أو مكثه؛ لأنَّ المسجد مذكور في السياق، فالضمير في (كان) يتعين رجوعه إليه، أمَّا الفعل أو المكث؛ فغير مذكور، على أنَّ المسجد أعم وأشمل؛ فافهم، (تحبسه)؛ بالفوقية على الرواية الأولى، وبالتحتية على الثانية، وكلمة (ما) مصدرية معناها المدة؛ والتقدير: مدة دوام حبس الصلاة أو المسجد إياه، وفاعل (تحبسه)؛ بالفوقية: ضمير الصلاة، وبالتحتية: ضمير المسجد؛ فليحفظ.
وزعم القسطلاني: (وحذف الفاعل؛ للعلم به).
قلت: هو غير ظاهر؛ لأنَّ الفاعل الضمير، فلا حذف للفاعل على أنَّه قيل: وجد في نسخة معتمدة التصريح بالفاعل، وعليها؛ ففيه تنازع، وفي بعض الأصول تقديمها على (تحبسه)؛ فافهم.
وقوله: (وتصلي) أي: تدعو؛ (يعني: عليه الملائكة): معطوف على جواب (إذا)، وسقط لأبوي ذر والوقت لفظ: (يعني)، وكذا لفظ: (عليه) أيضًا لابن عساكر، وثبت عنه في نسخة: (ما دام)؛ أي: المصلي (في مجلسه الذي يصلِّي فيه)؛ أي: ما دام المصلي في المجلس الذي صلى فيه الفريضة الأولى، أو تحيته المسجد، أو السنة القبلية، وهذا ظاهر الحديث.
وقيل: المراد بالمجلس: المسجد؛ والمعنى: ما دام المصلي في مسجده الذي صلى فيه، وهو مخالف للفظ الحديث، ويدل للأول ما ثبت في بعض الروايات: (ما دام في مصلاه)، وهو مكان الصلاة، فهو المجلس الذي قد صلى فيه، قيل: إنَّ الثاني أرحج.
قلت: ليس في الحديث ما يدل على صحته فضلًا عن أرجحيته؛ فافهم.
وقوله: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه): جملة حالية، بتقدير: قائلين؛ والمعنى: وتدعو له الملائكة قائلين: اللهم؛ لأنَّه لا يصح المعنى إلا بذلك، وقيل: إنَّه بيان للصلاة، فالجملة مستأنفة، انتهى.
قلت: ليست الجملة مستأنفة، بل هي حالية، ويدل عليه تعلقها بما قبلها، كما لا يخفى، وزاد ابن ماجه: (اللهم تب عليه).
وقوله: (ما لم يؤذ): متعلق بـ (تصلي عليه)، و (ما) ظرفية مصدرية؛ بمعنى المدة؛ أي: مدة عدم الإيذاء، وقال إمامنا الشَّارح: (يؤذ)؛ بِضَمِّ التحتية أوله، وبالذَّال المعجمة، من الإيذاء، والضمير المرفوع الذي فيه يرجع إلى المصلى، ومفعوله محذوف؛ تقديره: ما لم يؤذ الملائكة، وإيذاؤه إياهم: الحدث في المسجد، ولهذا قال: (يُحدثْ فيه)؛ أي: في مجلسه، وهو بِضَمِّ التحتية أوله، من الإحداث؛ بكسر الهمزة، وهو مجزوم في رواية الأكثرين على أنَّه بدل من (يُؤذ)، وفي رواية الكشميهني: (ما لم يؤذ بحدث فيه)؛ بلفظ الجار والمجرور متعلقًا بـ (يؤذ)، وفي رواية أبوي ذر والوقت: (يحدثُ)؛ بالرفع على الاستئناف.
وقال الكرماني: (وفي بعض النُّسخ: «ما لم يحدث»؛ بطرح لفظ: «يؤذ»؛ أي: ما لم ينقض الوضوء، والذي ينقض الوضوء الحدث).
واعترضه ابن حجر، فقال: (يحتمل أن يكون أعم من ذلك).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (الحديث رواه أبو داود في «سننه»، ولفظه: «مالم يؤذ فيه»؛ والمعنى: ما لم يؤذ في مجلسه الذي صلى فيه أحدًا بقوله أو فعله، أو «يحدثْ»؛ بالجزم من الإحداث؛ بمعنى الحدث، لا من التحديث؛ فافهم، فإنَّه موضع تأمل) انتهى.
قلت: أشار بهذا إلى ما ذكره الكرماني وابن حجر، وكلاهما غير مصيب؛ لأنَّ الكرماني اقتصر على الحدث الناقض للوضوء، وهو ليس بمراد؛ لأنَّ الملائكة تتأذى [2] بغيره أيضًا، وابن حجر أراد الأعم من ذلك، وهو أنَّ معنى: «يحدث» [3] من التحديث؛ أي: ما لم يتكلم، وهو غير مراد، بل المراد الأعم؛ وهو ما لم يؤذ في مجلسه أحدًا بقوله أو فعله، وهو شامل للبطش باليد واللسان، والحدث شامل لخروج الدم والريح والبول، فالإيذاء شامل لإيذاء الملائكة، والمسجد، والآدميين؛ لأنَّ الملائكة لا ترضى بذلكولا الخالق عز وجل، فلهذا إذا فعل شيئًا مما ذكر؛ تترك الدعاء له وتنصرف، كما لا يخفى؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: الدلالة على فضيلة الجماعة، وفيه: جواز اتخاذ المساجد في البيوت والأسواق).
وقال ابن بطال: (وفيه: أنَّ الصلاة فيه للمنفرد درجة من خمس وعشرين درجة).
واعترضه الكرماني بأنَّه لم يقل: يساوي صلاته منفردًا خمسًا وعشرين حتى يكون له درجة منها، بل قال: (يزيد)، فليس للمنفرد من الخمس والعشرين شيء.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (إنَّما قال ذلك بالنَّظر إلى الرواية المذكورة في الباب، ولو كان وقف على الروايات التي ذكرناها؛ لما قال ذلك كذلك) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّه على فرض أن إحدى الروايات التي ذكرها تفيد ذلك، لا يرد على الكرماني؛ لأنَّ اعتراضه على قوله: (فيه)؛ أي: في حديث الباب؛ فافهم وأنصف، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، وأمر بالفهم، ولم يفهم معنى الكلام، وأمر بالإنصاف، ولم ينصف في المرام، فإنَّ إمام الشَّارحين قال: (إنَّما قال ذلك بالنَّظر إلى الرواية المذكورة في الباب، وعذره بأنَّه لم يقف على الروايات التي ذكرها، فهي مسكوت عنها.
والحال أنَّ هذه الروايات توضح وتبين المراد من الحديث المذكور، فإنَّ الأحاديث تفسر بعضها بعضًا، كما لا يخفى، ولا مانع من جعله للمنفرد درجة منها، فإنَّ فضل الله واسع غير محصور، وقد ذكرنا فيما سبق بعض الروايات في ذلك، وأنَّها صريحة فيما قاله، فما زعمه الكرماني والعجلوني غير صحيح)؛ فليحفظ.
على أنَّ حديث الباب مقيد بما في الروايات، فهي صريحة في أنَّ للمنفرد درجة من خمس وعشرين درجة؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وفيه ما استدل به بعض المالكية على أنَّ صلاة الجماعة لا يفضل بعضها على بعض بكثرة الجماعة، ورُدَّ هذا بما ذكرنا عن ابن حبان: «وما كثر؛ فهو أحب إلى الله تعالى»، وإلى مطلوبيَّةِ الكثرة ذهب الشَّافعي وابن حبيب) انتهى.
واعترضه العجلوني بأن يتأمل اقتصاره عليهما، فإنَّ مطلوبية الكثرة في الجماعة إذا لم يعارضها غيرها؛ يذهب إليه كل أحد على ما لا يخفى، انتهى.
قلت: إنَّما اقتصر عليهما؛ لأنَّه اشتهر عن الشَّافعي أنَّ الكثرة غير مطلوبة، ولا ثواب في الكثرة، ويحتمل اقتصاره عليهما؛ لما يشاهد من الزحام في صف الشَّافعية، فإنَّ الرجل يؤذي جاره بيده وجنبه ورجله، والإيذاء حرام، فأحدهم يظن نفسه أنَّه فعل مندوبًا، والحال أنَّه فعل محرمًا، فذهبا إلى مطلوبية الكثرة وإن كان زحام وضيق مع أنَّ درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، ويحتمل غير ذلك، والله أعلم.
تتمة: قال إمام الشَّارحين: (اختلفوا في الجمع بين رواية: «بسبع وعشرين درجة»، وبين رواية: «خمس وعشرين»؛ فقيل: السبع متأخرة عن الخمس، فكأنَّ الله أخبره بخمس ثم زاده، ورُدَّ هذا بتعذر التاريخ، وأجيب: بأنَّ الفضائل لا تنسخ، فتعين أنَّه متأخر.
وقيل: إنَّ صلاة الجماعة في المسجد أفضل من صلاة الفذ في المسجد بسبع وعشرين درجة، ورُدَّ هذا بقوله:
%ص 689%
عليه السَّلام: «وصلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفًا».
وقيل: إنَّ الصلاة التي لم يكن فيها فضيلة الخُطَا إلى الصلاة، ولا فضيلة انتظارها تفضل بخمس، والتي فيها ذلك تفضل بسبع.
وقيل: إنَّ ذلك يختلف باختلاف المصلين والصلاة؛ فمن أكملها وحافظ عليها؛ فوق من أخل بشيء من ذلك.
وقيل: إنَّ الزيادة لصلاتي العشاء والصبح؛ لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما، ويؤيده حديث أبي هريرة: «تفضل صلاة الجماعة صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا، ويجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر»، فذكر اجتماع الملائكة بواو فاصلة، واستئناف الكلام وقطعه من الجملة المتقدمة.
وقيل: لا منافاة بين الحديثين؛ لأنَّ ذكر القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد باطل عند جماعة من الأصوليين.
وقال ابن الأثير: إنَّما قال: «درجة»، ولم يقل: جزءًا، ولا نصيبًا، ولا حظًّا، ولا شيئًا من أمثال ذلك؛ لأنَّه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع، وأنَّ تلك فوق هذه بكذا وكذا درجة؛ لأنَّ الدرجات إلى جهة فوق.
قلت: قد جاء فيه لفظ: الجزء والضعف، كما قدمناه، فكأنَّه لم يَطَّلع عليهما.
وقد قيل: إنَّ الدرجة أصغر من الجزء، فكأنَّ الخمسة والعشرين إذا جزئت درجات؛ كانت سبعًا وعشرين درجة.
قلت: هذا ليس بصحيح؛ لأنَّه جاء في «الصَّحيحين»: «سبعًا وعشرين درجة»، و «خمسًا وعشرين درجة»، فاختلف القدر مع اتحاد لفظ الدرجة.
وقد قيل: يحتمل أن يكون الدرجة في الآخرة، والجزء في الدنيا.
فإن قلت: قد علم وجه الجمع بين هذين العددين، ولكن ما الحكمة من التنصيص عليهما؟
قلت: نقل الطيبي عن التوربشتي: وأمَّا وجه قصر أبواب الفضيلة على خمس وعشرين تارة، وعلى سبع وعشرين أخرى؛ فإنَّ المرجع في حقيقة ذلك إلى علوم النُّبوة التي قصرت عقول الألباب عن إدراك جملها وتفاصيلها، ولعل الفائدة فيما كشف به حضرة النُّبوة هي اجتماع المسلمين مصطفِّين كصفوف الملائكة المقربين، واقتداء بالإمام، وإظهار شعائر الإسلام، وغيرها، انتهى.
قلت: هذا لا يشفي الغليل، ولا يجدي العليل، والذي ظهر لي في هذا المقام من الأنوار الإلهية، والأسرار الربانية، والعنايات المحمَّدية: أنَّ كل حسنة بعشر أمثالها بالنص، وأنَّه لو صلى في بيته؛ كان يحصل له ثواب عشر صلوات، وكذا لو صلى في سوقه؛ كان لكل صلاة عشرًا [4]، ثم إنَّه إذا صلى بالجماعة؛ يضاعف له مثله، فيصير ثواب عشرين صلاة، وأمَّا زيادة الخمسة؛ فلأنَّه أدى فرضًا من الفروض الخمسة، فأنعم الله عليه ثواب خمس صلوات أخرى نظير عدد الفروض الخمسة زيادة على عشرين إنعامًا وفضلًا منه عليه، فتصير الجملة خمسة وعشرين.
وجواب آخر: وهو أنَّ مراتب الأعداد آحاد، وعشرات، ومئات، وألوف، والمئة من الأوساط، وخير الأمور أوساطها، والخمسة والعشرون ربع المئة، وللربع حكم الكل.
وأمَّا زيادة السبعة؛ فقال الكرماني: «يحتمل أن يكون ذلك لمناسبة أعداد الركعات في اليوم والليلة؛ إذ الفرائض سبع عشرة، والرواتب المؤكدة عشرة» انتهى.
قلت: الرواتب المؤكدة اثني عشر؛ لحديث المثابرة، فيصير تسعة وعشرين، فلا يطابق الواقع، فنقول: يمكن أن يقال: إنَّ أيام العمر سبعة، فإذا صلى بالجماعة؛ يزاد له على العشرين ثواب سبع صلوات كل صلاة من صلوات كل يوم وليلة من الأيام السبعة، وأمَّا الوتر؛ فلعله شرع بعد ذلك.
ثم العلماء اختلفوا هل هذا الفضل لأجل الجماعة فقط حيث كانت، أو إنَّما يكون للجماعة التي تكون في المسجد لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد؟ قال القرطبي: «والظَّاهر الأول؛ لأنَّ الجماعة هو الوصف الذي عُلِّق عليه الحكم») انتهى كلام إمام الشَّارحين.
واعترضه العجلوني بأنَّ تعليله بقوله: (فإن أحدكم ... ) إلى آخره: يقتضي ترجيح الثاني لا سيما على رواية الفاء، انتهى.
قلت: بل الأظهر الأول؛ لأنَّ الجماعة سواء كانت في المسجد، أو في البيت، أو غيرهما لها هذا الفضل؛ لأنَّ الفضل محكوم به للجماعة مطلقًا، وأمَّا الحديث؛ فمبني على الغالب؛ بدليل ما رواه البخاري في «تاريخه»: «صلاة رجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من أربعة تترى، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مئة تترى»، ويدل عليه أيضًا روايات تقدم ذكرها، فهذا كما رأيت غير مقيد بالمسجد، بل الفضل عام مطلقًا؛ فافهم.
واعترض العجلوني على قوله: (الرواتب المؤكدة اثني عشر) بأنَّ هذا لا يرد على الكرماني؛ لأنَّه مبني على مذهبه أنَّ الأربعة قبل الظُّهر مؤكدة.
قلت: هو ممنوع، فهو وإن كان موافقًا لمذهب الأئمة الحنفية إلا أنَّه يرد على الكرماني؛ حيث إنَّه ثابت في الحديث الذي ذكره، ويدل عليه ما في «الصَّحيحين»: «من ترك أربعًا قبل الظُّهر؛ لم تنله شفاعتي»، وهو شامل لما تُرِك بعضها؛ كأن صلى ركعتين، فإنَّه لا يكون مؤديًا بل تاركًا، فهو يدل على تأكيد الأربع، كما لا يخفى، ولم يرجع العجلوني عن تعصبه وعناده، والحق ما قاله إمام الشَّارحين، والعناد بعد ذلك مكابرة، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (بعضًا)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (تتأذ)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (بحدث)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (عشر)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (بعضًا)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (تتأذ)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (بحدث)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (بعضًا)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (تتأذ)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (بحدث)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/803)
(88) [باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره]
هذا (باب) حكم (تشبيك الأصابع)؛ أي: إدخال أصابع إحدى اليدين بين أصابع اليد الأخرى، وهي جمع إصبع، وفيها عشر لغات: تثليث الهمزة والموحَّدة، والعاشرة: أُصبُوع؛ بِضَمِّ الهمزة والموحَّدة أيضًا مع الواو، (في المسجد وغيره)، والألف واللَّام فيه للجنس؛ فيشمل كل مسجد، وأراد بالغير: المنزل، أو الدكان، أو غيرهما.
والمراد بالحكم: الجواز، وهو ظاهر ترجمة المصنف، وأنَّه لا كراهة فيه؛ لأنَّ حديث أبي موسى دال على جواز التشبيك مطلقًا، وحديث أبي هريرة يدل على جوازه في المسجد، ففي غيره من باب أولى، وسيأتي بيان مذاهب الأئمة فيه.
واعترض بأنَّ حديث أبي موسى يدل على الجواز مطلقًا، ولا ذكر للمسجد فيه.
وأجيب: بأنَّ التَّرجمة في بعض النُّسخ: (في المسجد وغيره)، وهي ظاهرة، وأمَّا على باقي النُّسخ _أي: التي سقط منها لفظ: (وغيره) _؛ فإمَّا أنَّ الراوي اختصر الحديث، أو اكتفى البخاري بدلالته على بعض التَّرجمة؛ حيث دل الحديث الذي بعده على تمامها؛ فتأمَّل.
قال إمام الشَّارحين: (والموجود في غالب النُّسخ في هذا الباب حديثان؛ أحدهما: حديث أبي موسى، والآخر: حديث أبي هريرة، وفي بعض النُّسخ حديث آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما، وجد ذلك بخط البرزالي، ولم يستخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم، ولا ذكره ابن بطال أيضًا، وإنما حكى أبو مسعود الدمشقي في كتاب «الأطراف»: أنَّه رآه في كتاب أبي رميح عن الفربري، وحمَّاد بن شاكر عن البخاري، وهو هذا) انتهى.
==========
%ص 690%
==================
(1/804)
[حديث: شبك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه]
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا حامد بن عُمر)؛ بِضَمِّ العين المهملة: هو البكراوي من ذرية أبي بكرة الثقفي، القاضي بكرمان، نزيل نيسابور، المتوفى بها سنة ثلاث وثلاثين ومئتين، (عن بِشْر)؛ بكسر الموحَّدة أوله: هو ابن المفضل الرقاشي، الذي كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، ويصلِّي كل يوم أربع مئة ركعة، المتوفى سنة
%ص 690%
سبع وثمانين ومئة، والمُفضَّل؛ بِضَمِّ الميم، وفتح الضَّاد المعجمة المشددة، (قال: حدثنا عاصم) هو ابن محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري المدني، وثَّقه أحمد وغيره، (قال: حدثنا واقد)؛ بالقاف: هو ابن محمَّد بن زيد المذكور، فهو أخو عاصم، وثَّقه أبو زرعة وغيره، (عن أبيه) هو محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وثقه غير واحد، (عن ابنِ عُمر)؛ بِضَمِّ المهملة: هو عبد الله المذكور القرشي العدوي (أو ابنِ عَمرو)؛ بفتح العين المهملة، بالجر عطفًا على «ابنِ» المجرور قبله: هو عبد الله _أيضًا_ابن عَمرو بن العاص، وكلمة «أو» فيه للشك، قال إمام الشَّارحين: والظَّاهر أنَّ الشك من واقد، انتهى، فافهم، (قال) أي: ابن عُمر أو ابن عَمرو على الشك: (شبَّك): ولابن عساكر: «يشبك» (النَّبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أصابعه)؛ أي: أدخل أصابع يده اليمنى في اليد اليسرى، وسيأتي سبب تشبيكهما في هذا الحديث مما سيأتي عن الحُميدي.
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، وفي رواية: (قال البخاري)، والأولى هي الصَّواب؛ لأنَّها على عادة المؤلف في التعبير عن نفسه، والثانية ذكرها العجلوني، ولم يعزُها لأحد من الرواة، فالله أعلم بصحتها؛ فافهم: (وقال عاصم بن علي) هو ابن عاصم بن صهيب الواسطي، شيخ المؤلف والدارمي، كان من الثقات والأعيان، وقال ابن معين: هو ضعيف، وذكر له ابن عدي أحاديث مناكير، مات في نصف رجب سنة إحدى وعشرين ومئتين، كذا في «عمدة القاري»، ثم قال: وهذا تعليق من البخاري، ووصله إبراهيم الحرمي في «غريب الحديث» له قال: حدثنا عاصم بن علي: حدثنا عاصم بن محمَّد عن واقد: سمعت أبي يقول: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم»؛ فذكره، انتهى، وتبعه ابن حجر، والقسطلاني، وغيرهما.
قال العجلوني: إذا كان عاصم بن علي شيخ المؤلف؛ فلم جزموا بتعليق الحديث وعُدُوله عن «حدثنا»؟ وأجاب: بأنَّه كان على سبيل المذاكرة، ولعله ثبت عندهم أنَّه لم يسمعه منه؛ فتأمَّل.
قلت: عادة المؤلف ذكر التعاليق وهذا منها، وعدوله عن «حدثنا»؛ لأنَّ عاصم بن محمَّد قال: «سمعت هذا الحديث من أبي فلم أحفظه، فقوَّمه لي واقد»، ولأجل هذا ذكره المؤلف بصيغة التَّعليق.
وكونه على سبيل المذاكرة ممنوعٌ؛ لأنَّها لا تمنع قول: «حدثنا»، كما لا يخفى، فكم تحصل المذاكرة مع المشايخ ويقول المذاكر: «حدثنا».
وقوله: «ولعله ثبت عندهم أنَّه لم يسمعه منه»: ممنوع؛ لأنَّه شيخه والشيخ يسمع منه عادة، لا سيما وقد قال: «قال أبو عبد الله: وقال عاصم»، فهذا يدل على سماعه منه، ولكن سبب تعليقه هو ما ذكرناه؛ فافهم.
(حدثنا عاصم بن محمَّد) هو ابن زيد بن عبد الله العمري المدني (قال: سمعت هذا الحديث) أي: المذكور آنفًا (من أبي) هو محمَّد بن زيد المذكور، (فلم أحفظه)؛ أي: منه؛ لما أنَّه كان في مكان فيه شيء يشغل البال ويُخلُّ بالحفظ، أو لكونه كان صغيرًا فلم يعِ، ويحتمل غير ذلك، (فَقَوَّمه)؛ بفتحات مع تشديد الواو؛ أي: صححه (لي واقد) هو أخوه ابن محمَّد المذكور، (عن أبيه) هو محمَّد بن زيد المذكور (قال) أي: واقد: (سمعت أبي) هو محمَّد بن زيد المذكور (وهو يقول) جملة حالية: (قال عبد الله) هو ابن عمرو بن العاص من غير شك، كذا جزم به القسطلاني، وتبعه العجلوني، لكن مقتضى كلام إمام الشَّارحين في «عمدة القاري» أنَّه على الشك أيضًا، ويدل عليه أنَّ الحديث واحد، وقد يقال: إنَّه ابن عمر بن الخطاب من غير شك؛ لأنَّه أطلقه، فينصرف إليه؛ فافهم: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقوله: (يا عبد الله بن عَمرو) بفتح العين المهملة ثابت في أكثر الروايات، ساقط عند الأصيلي؛ فافهم؛ (كيف بك إذا بقِيت) بكسر القاف (في حُثَالة من الناس؟) الجار والمجرور صفة (حُثَالة)، وهي بِضَمِّ الحاء المهملة، وتخفيف الثَّاء المثلَّثة، قال ابن سيده: هي ما يخرج من الطعام من زوان [1] ونحوه مما لاخير فيه، وقال اللحياني: هي أجلُّ من التراب والدقاق قليلًا، وخصه بالحنطة، والحُثَالة والحثل: الرديء من كل شيء، وقيل: هو القشارة من التمر والشعير وما أشبههما، وحُثَالة القرظ: نفايته، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والمراد بها: جهال الناس، ويقال لهم: الهمج؛ لما في الحديث: «الناس اثنان؛ عالم ومتعلم»، والباقي همج وهم رعاع الناس؛ أي: أخساؤهم؛ والمعنى: كيف بك إذا بقِيت في همج الناس وجهالهم؟
(بهذا)؛ أي: بالحديث السَّابق، وهو تشبيكه عليه السَّلام لأصابعه، ففي الحديث: جواز تشبيك الأصابع سواء كان في المسجد أو غيره؛ لإطلاق الحديث، ولكن العلماء اختلفوا في تشبيكها في المسجد وفي الصلاة؛ فقال الإمام الأعظم وأصحابه: ويكره تشبيكها _أي: الأصابع_ في الصلاة؛ لقول عمر بن الخطاب فيه: «تلك صلاة المغضوب عليهم»، وكذا يكره تشبيكها حال السعي إلى الصلاة؛ لما روى أحمد، وأبو داود، وغيرهما مرفوعًا: «إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد؛ فلا يشبك بين يديه؛ فإنَّه في صلاة»، وإذا كان منتظرًا لها بالأولى، والذي يظهر أنَّ الكراهة تحريمية؛ للنَّهي المذكور، كما في «البحر»، وأمَّا إذا انصرف من الصلاة؛ فلا بأس به، وحكمة النَّهي: أنَّه من الشَّيطان، كما في الحديث، وأنَّه يجلب النَّوم؛ وهو من مظان الحدث، وأنَّ صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف، كما نبَّه عليه في حديث ابن عمر، فكره ذلك لما هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في النَّهي عنه، انتهى، وكره تشبيكها في الصلاة إبراهيم النخعي، وهو قول مالك، وهو قول أحمد أيضًا، كما صرح به في «الغاية» و «شرحها»، ورخص فيه ابن عمر وابنه سالم، فكانا يشبكان بين أصابعهما في الصلاة، ذكرهما ابن أبي شيبة، وكان الحسن البصري يشبك بين أصابعه في المسجد، وقال مالك: إنَّهم لينكرون تشبيك الأصابع في المسجد، وما به بأس، وإنَّما يكره في الصلاة، ولم يذكر العجلوني الحكم فيه في مذهبه.
وقد وَرَد النَّهي عن ذلك في أحاديث؛ منها: ما ذكرناه عن أحمد وأبي داود.
ومنها: ما أخرجه ابن حبان في «صحيحه» عن كعب بن عجرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا كعب؛ إذا توضأت فأحسنت الوضوء، ثم خرجت إلى المسجد؛ فلا تشبك بين أصابعك، فإنك في صلاة».
ومنها: ما أخرجه الحاكم في «مستدركه» من حديث إسماعيل بن أمية، عن سعيد، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد؛ كان في صلاة حتى يرجع، فلا تقل هكذا»، وشبك بين أصابعه، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين.
ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة عن مولًى لأبي سعيد وهو مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه السَّلام المسجد فرأى رجلًا جالسًا وسط الناس _وقد شبك بين أصابعه_ يحدث نفسه، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفطن له، فالتفت إلى أبي سعيد، فقال: «إذا صلى أحدكم؛ فلا يشبكن بين أصابعه، فإنَّ التشبيك من الشَّيطان [2]».
فإن قلت: هذه الأحاديث معارضة لحديث الباب.
قلت: غير مقاومة لها في الصحة ولا مساوية.
قلت: أحاديث النَّهي صِحاح، وقد بلغت قريبًا من التواتر؛ لكثرة رواتها، وتعدد طرقها، فهي مقاومة لحديث الباب في الصحة، بل تترجح عليه، فيبقى التعارض، فيحمل حديث النَّهي على ما إذا كان في الصلاة وحالة السعي إليها، ويحمل حديث الإباحة على ما إذا كان خارج الصلاة وانصرف منها، وهذا وجه التوفيق بينهما؛ فليحفظ.
وقال
%ص 691%
ابن بطال: (وجه إدخال هذه التَّرجمة في الفقه بما روي في النَّهي عن التشبيك في المسجد، وقد وَرَدت فيه مراسيل، ومسند من طريق غير ثابتة).
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: كأنَّه أراد بالمسند حديث كعب بن عجرة الذي ذكرناه.
فإن قلت: حديث كعب هذا رواه أبو داود، وصححه ابن حبان وابن خزيمة.
قلت: في إسناده اختلاف، فضعَّفه بعضهم بسببه، وقيل: ليس بين هذه الأحاديث معارضة؛ لأنَّ النَّهي إنَّما وَرَد عن فعل ذلك في الصلاة أو في المضي إلى الصلاة، وفعله عليه السَّلام ليس في الصلاة ولا في المضي إليها، فلا معارضة إذًا، وبقي كل حديث على حياله.
فإن قلت: في حديث أبي هريرة الذي في الباب وقع تشبيكه عليه السَّلام وهو في الصلاة.
قلت: إنَّما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه، فهو في حكم المنصرف من الصلاة، والرواية التي فيها النَّهي عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفة؛ لأنَّ فيها ضعيفًا ومجهولًا، وقد رواها ابن أبي شيبة، ولفظه: «إذا صلى أحدكم؛ فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشَّيطان، وإنَّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه».
وقال ابن المُنَيِّر: (التحقيق أنَّه ليس بين هذه الأحاديث تعارض؛ إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث إنَّما هو لمقصود التمثيل وتصوير المعنى في اللَّفظ) انتهى.
أي: فهو لمعنًى صحيح كإراحة الأصابع ونحوها.
(ولفظه) أي: الحديث المذكور (في «جمع الحميدي»)؛ أي: كتاب «الجمع بين الصَّحيحين» الذي جمعه أبو عبد الله محمَّد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد بن يصل الأزدي الحميدي الأندلسي، الحافظ المشهور، المتوفى ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربع مئة ببغداد، وليس هذا عبد الله بن الزُّبير الحميدي، فإنَّه شيخ المؤلف، توفي سنة تسع عشرة ومئتين؛ فافهم.
والظَّاهر أنَّ هذا من زيادات بعض الرواة، ورأيتها ثابتة في نسخة إمام الشَّارحين ملحقة بالحديث، فألحقتها تبعًا له حتى تتم الفائدة؛ لأنَّه قد شرحها في شرحه رضي الله عنه.
(في مسند ابن عمر)؛ أي: من رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب: (شبك النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أصابعه)؛ أي: أدخل أصابع يده في أصابع يده الأخرى، (وقال: كيف أنت يا عبد الله إذا بقِيت) بكسر القاف (في حُثالة) بِضَمِّ المهملة، وتخفيف المثلَّثة (من الناس)؛ أي: جهَّالهم وأوساخهم (قد مُرِحَت) بِضَمِّ الميم، وكسر الرَّاء، وفتح الحاء المهملة (عهودهم وأماناتهم)، قال أبو المعالي: (إذا لم تثبت وأمرحوها؛ إذا لم يوفوا بها وخلطوها، ومرحت أماناتهم: فسدت، ومرح الدِّين: اختلط واضطرب)، وفي «المحكم»: (مرح الأمر مرحًا، فهو مارح ومريح: التبس واختلط، ومرح أمره يمرحه: ضيَّعه، ورجل ممراح: يمرح أموره ولا يحكمها، ومرح العهد والدِّين والأمانة: فسد، وأمرح عهده: لم يف به) انتهى، (واختلفوا فصاروا هكذا) وإنَّما كان سبب اختلافهم فساد عهودهم وخيانة أماناتهم، (وشبك) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بين أصابعه)؛ أي: أدخل بعضها في بعض، فالإشارة إلى التشبيك، ويحتمل هذا من كثرة الفتن التي تحدث بهم، فهو إخبار بما سيقع، (قال) أي: عبد الله: (فكيف أفعل يا رسول الله؟)؛ يعني: إذا رأيت هذا الزمان وأهله هكذا؟ (قال) عليه السَّلام له: (تأخذ ما تعرف)؛ أي: تُقبِلُ على الذي تعرفه صحيحًا في الشريعة، (وتدع) أي: تترك (ما تنكر)؛ أي: الذي ينكره ويرده الشرع المطهر (وتقبل على خاصتك)؛ أي: خواص أهلك، أو خواص الناس، وهم الذين امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه، (وتدعهم) أي: بقية الناس؛ أي: تتركهم (وعَوَامَّهم)؛ بفتح العين المهملة والواو مع تشديد الميم؛ أي: الذين لا يقرؤون ولا يفهمون الشرع أو هم الخائضون في المعاصي المنهمكون في حب الدنيا على غير ما يرضي الله تعالى ورسوله عليه السَّلام، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وفي الحديث: «عليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة».
وقال إمام الشَّارحين: (مطابقة الحديث للتَّرجمة في أحد جزأيها، واكتفى البخاري بدلالته على بعض التَّرجمة حيث دل حديث أبي هريرة على تمامها) انتهى.
قلت: وعلى هذا لا معارضة لأحاديث النَّهي؛ لأنَّ المنهي عنه فعله على وجه الولع والذي في الحديث إنَّما هو لقصد التمثيل وتصوير المعقول بصورة المحسوس، كما فعله عليه السَّلام لابن عمر حيث شبك أصابعه؛ ليمثل له صفة اختلاطهم.
وقال إمامنا الشَّارح: (وحكمة النَّهي عن التشبيك أمور؛ أحدها: لكونه من الشَّيطان كما سبق في الحديث، الثاني: لأنَّه يجلب النَّوم وهو من مظان الحدث، الثالث: أنَّ صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف كما نبَّه عليه في الحديث المذكور، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في المنهي عنه، وهو قوله عليه السَّلام للمصلين: «ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم») انتهى.
وفي «المنحة»: (ويكره التشبيك في الصلاة وكذا في غيرها بلا حاجة) انتهى.
قلت: وهذا مذهب محمَّد بن إدريس، وقد أغفلناه فيما سبق؛ لأنَّ العجلوني لم يتعرض له؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (ذودن)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (الصلاة)، وهو سبق نظر.
==================
[1] في الأصل: (ذودن)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (ذودن)، وهو تحريف.
(1/805)
[حديث: إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا]
481# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا خَلَّاد) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللَّام (بن يحيى) هو ابن صفوان أبو محمَّد السلمي الكوفي، سكن مكة مات بها قريبًا من سنة ثلاث عشرة ومئتين (قال: حدثنا سفيان) هو الثَّوري الكوفي، (عن أبي بُردة)؛ بِضَمِّ الموحَّدة، واسمه بريد؛ مصغر برد، وفي رواية الكشميهني: (عن بريد) (بن عبد الله بن أبي بُردة)؛ بِضَمِّ الموحَّدة، ابن أبي موسى الأشعري الكوفي، (عن جده) هو أبو بردة بن أبي موسى الكوفي، الثِّقة قاضي الكوفة، واسمه الحارث، وقيل: عامر، وهو جد أبي بردة الأول، (عن أبي موسى) هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، (عن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنَّه (قال: إنَّ)؛ بكسر الهمزة، وسقطت لابن عساكر (المؤمن للمؤمن)؛ أي: في الحاجة والمصلحة يلتمسان قضاءها (كالبُنْيان)؛ بِضَمِّ الموحَّدة وسكون النُّون؛ أي: كالحائط، وبمعنى المصدر أيضًا من (بنى يبني) (يشُدُّ)؛ بِضَمِّ المعجمة مضارع، وفي رواية المستملي: (شد) على صيغة الماضي (بعضُه)؛ بالرفع فاعله (بعضًا)؛ بالنصب مفعوله، ويقرب منه قوله عليه السَّلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (وشبَّك) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (أصابعه)؛ أي: أدخل أصابع إحدى اليدين في أصابع الأخرى، وللأصيلي: (بين أصابعه)، والمقصود من هذا التمثيل: قوة تعاضد بعضهم لبعض، وفي السَّابق: تمثيل هيئة اختلاطهم
%ص 692%
تصويرًا للمعقول بالمحسوس، ومطابقته للتَّرجمة في إحدى جزأيها، واكتفى المؤلف به حيث دل حديث أبي هريرة على تمامها، كما ذكرنا.
وهذا الحديث مبني على سبب؛ وهو قصد التمثيل والتصوير في العقل بصورة المحسوس، فليس فيه دلالة على جواز التشبيك مطلقًا من غير كراهة، ولهذا قال الإمام الأعظم: ويكره تشبيك الأصابع في الصلاة، وحال السعي إليها، وحال انتظارها، وبه قال إبراهيم النخعي، ومالك، وأحمد ابن حنبل، والجمهور.
وقال في «المنحة»: (وفيه: جواز التشبيك، وهو كذلك حتى في الصلاة، لكنه فيها مكروه، وكذا في غيرها بلا حاجة) انتهى.
قلت: هو غير صحيح؛ لأنَّ الحديث ليس فيه أنَّه عليه السَّلام شبك أصابعه وهو في الصلاة، وليس في الحديث دليل على جوازه؛ لأنَّه عليه السَّلام شبك أصابعه؛ لأجل التمثيل، وهو غرض صحيح.
وقوله: (حتى في الصلاة ... ) إلخك تناقض ظاهر وليس هذا بمذهب إمامه الشَّافعي، وقد اختلط عليه الحكم، وقد ذكر الشَّافعية أنَّ التشبيك لا يكره إلا في الصلاة مطلقًا، أو وهو ينتظر في المسجد كما نقله غير واحد، فانظر هذا التهاون في النقل؛ فليحفظ.
==================
(1/806)
[حديث: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟]
482# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق) هو ابن منصور بن بهرام، كما جزم به أبو نعيم، وعليه درج إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر، والقسطلاني، والعجلوني.
قلت: وحيث وقع هنا غير منسوب؛ يحتمل هو ويحتمل أنَّه إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي المشهور بابن راهويه، المتوفى بنيسابور سنة ثمان وثلاثين ومئتين، ويؤيده ما قاله الجياني عن ابن السكن: إذا وقع في هذا الكتاب: (إسحاق) غير منسوب؛ فهو ابن راهويه، ولا يقدح هذا الاختلاف؛ لأنَّ كلًّا منهما يروي عنه المؤلف؛ فتأمل.
(قال: حدثنا ابن شُميل)؛ بِضَمِّ المعجمة، ولابن عساكر: (النَّضر بن شميل) هو البصري، تقدم في باب (حمل العنزة) (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (ابن عَوْن)؛ بالنُّون، وفتح العين المهملة، وإسكان الواو: هو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة، (عن ابن سيرين) هو محمَّد التَّابعي المشهور، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصَّحابي الجليل رضي الله عنه أنَّه (قال: صلى بنا) أي: معشر الصَّحابة (رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في مسجده النَّبوي (إحدى صلاتي)؛ بالتثنية، قال الكرماني: وفي بعضها: بالإفراد فهي للجنس (العشي) هكذا في أكثر الروايات، وفي رواية الحموي والمستملي: (العشاء)؛ بالمد، والظَّاهر أنَّه وهم؛ لأنَّه صح في رواية أخرى للبخاري: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظُّهر أو العصر).
وفي رواية مسلم: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر)، وفي أخرى له: (صلى ركعتين من صلاة الظُّهر ثم سلم).
وفي رواية أبي داود: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي؛ الظُّهر أو العصر).
وفي رواية الطَّحاوي: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي؛ الظُّهر أو العصر، وأكبر ظني أنَّه ذكر الظُّهر)، وقوله: (أكبر ظني أنَّه ذكر الظُّهر) هو قول ابن سيرين؛ أي: أكبر ظني أنَّ أبا هريرة ذكر صلاة الظُّهر، وكذا ذكره البخاري في «الأدب».
وأطلق على الظُّهر والعصر صلاة العشي؛ لأنَّ العشي يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب، كذا قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: (فإن قلت: قال الجوهري: العشي والعشية: من صلاة المغرب إلى العتمة.
قلت: الذي ذكره هو أصل الوضع، وفي الاستعمال يطلق على ما ذكرنا، وقال الأزهري: العَشِيُّ؛ بفتح العين المهملة، وكسر الشين المعجمة، وتشديد التحتية: ما بين زوال الشمس وغروبها) انتهى.
قلت: وما ذكره إمامنا الشَّارح من أنَّ رواية المستملي والحموي: (العشاء) وهم، قد تبعه عليه ابن حجر، والقسطلاني، وغيرهما.
واعترضهم العجلوني بما في «الصِّحاح»: (العشاء؛ بالمد والكسر: مثل العشي؛ من صلاة المغرب إلى العتمة، والعشاءان: المغرب والعتمة، وزعم قوم أنَّ العشاء: من زوال الشمس إلى طلوع الفجر)، وبما في «القاموس»: (والعشاء: أول الظلام، أو من المغرب إلى العتمة، أو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر)، ثم قال: (وبذلك تعلم صحة معنى هذه الرواية، فلا ينبغي التوهيم، وكلام الكرماني يومئ إلى التصحيح؛ فتأمل) انتهى.
قلت: وكلامه فاسد الاعتبار، فإنَّ عبارة «الصِّحاح» هي كلام الجوهري، وقد أجاب عنه إمام الشَّارحين بأنَّ ما ذكره هو أصل الوضع، وفي الاستعمال يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب، وآخر عبارة الجوهري في «الصِّحاح» الذي هي (وزعم قوم .. ) إلى آخره: هو الصَّواب في أصل الوضع والاستعمال، ومثله عبارة «القاموس»، على أنَّ أبا بكر الرازي قد اعترض على الجوهري في «مختصره» حيث قال: (قلت: وقال الأزهري: العشي: ما بين الشمس إلى غروبها، وصلاتا العشي: هما الظُّهر والعصر، فإذا غابت الشمس؛ فهو العشاء) انتهى، وكذلك الزبيدي والمنلا علي القاري اعترضا على صاحب «القاموس» واعتمدا على ما ذكره الأزهري؛ فليحفظ.
ولا يخفى عليك أنَّ ما ذكره إمام الشَّارحين من رواية البخاري، وكذا رواية مسلم، وكذلك رواية أبي داود والطَّحاوي؛ يدل صريحًا أنَّ المراد بصلاتي العشاء: هما الظُّهر والعصر، فإنَّ الأحاديث وكذا الروايات تفسر بعضها بعضًا، فثبت بذلك أنَّ رواية المستملي والحموي وَهَمٌ ألبتة غير صحيحة المعنى، والكرماني لم يتعرض لها، بل سكت عنها، وسكوته يدل على عدم رضاه بها، لا أنَّه يومئ إلى التصحيح كما زعمه، ويحتمل سكوته اشتباهه بالمعنى، وكأنَّه لم يقف على كلام الأزهري، ولا على كلام الرازي، والقاري، والزبيدي، ولو وقف على كلامهم؛ لم يتوقف بأنها وهم؛ فافهم، ولا تكن من الغافلين.
(قال ابن سيرين) هو محمَّد التَّابعي المشهور بالتعبير المذكور (قد سماها) أي: إحدى صلاتي العشي (أبو هريرة) أي: لنا، (ولكن نسيت) أي: غفلت عنها (أنا)؛ أي: دون أصحابي، والمراد: أنَّه نسي تعيينها، وقد سماها في رواية «مسلم»: أنَّها العصر، وفي رواية أخرى [1] لمسلم: أنَّها الظُّهر، وفي رواية أبي داود والطَّحاوي: أنَّها الظُّهر أوالعصر على الشك، كما أوضحه إمام الشَّارحين فيما ذكرناه عنه آنفًا؛ فافهم، (قال)؛ أي: أبو هريرة: (فصلى بنا)؛ أي: معشر الصَّحابة؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في مسجده ركعتين من الظُّهر أو العصر، (ثم سلم)؛ أي: من صلاته ساهيًا أنَّه أتمها، فهو في الصلاة حكمًا ما دام في المسجد ما لم يأت بمناف، (فقام) عليه السَّلام (إلى خشبة معروضة) أي: موضوعة بالعرض أو مطروحة (في المسجد)؛ أي: في ناحية منه، واللَّام فيه للعهد، وهو مسجده عليه السَّلام (فاتكأ)؛ بالهمز في آخره؛ أي: اعتمد (عليها) أي: على تلك الخشبة (كأنَّه غضبان)؛ بمعجمتين، ولعله رأى من بعض أصحابه شيئًا فأنكره فغضب؛ لأنَّه كان يغضب لله، ويرضى لله، لا يفعل ولا يقر إلا على الذي أوحي إليه من ربه عز وجل.
وفي حديث عمران بن حصين: (أنه عليه السَّلام دخل منزله)، ولا يجوز لأحد أن ينصرف عن القبلة، ويمشي وقد بقي عليه شيء من صلاته.
وأجيب: بأنه فعل ذلك وهو لا يرى أنَّه في الصلاة، لا يقال: إنَّه يلزم عليه أنَّه لو باع أو أكل وهو لا يرى أنَّه في الصلاة أنَّه لا يخرجه ذلك منها؛ لأنَّا نقول: هذا كله منسوخ، فلا يعمل به اليوم، انتهى.
قلت: والمقرر في الفروع: أنَّ السَّلام سهوًا لا يقطع الصلاة، فهو عليه السَّلام سلم ساهيًا أنَّه أتمها، ودخوله منزله لا ينافي ذلك؛ لأنَّ منزله _وهي حجرته_ داخل المسجد، والساهي لا تقطع صلاته ما لم يخرج من المسجد، فهو لم يخرج منه فهو في الصلاة حكمًا، والانصراف عن القبلة إنَّما يكون قاطعًا لها إذا كان يصلِّي في الصحراء، أمَّا المسجد؛ فلا يقطعها ذلك بل بالخروج منه، وبهذا يعلم الجواب عما ذكر؛ فليحفظ.
(ووضع يده اليمنى على اليسرى) ولأبي الوقت والأصيلي: (على يده اليسرى) (وشبَّك) بتشديد الموحَّدة (بين أصابعه)؛ أي: أدخل الأصابع بعضها بين بعض
%ص 693%
(ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى)؛ يعني: أنَّه بعدما شبَّك بين أصابعه؛ وضع بطن يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وهذا بيان وإيضاح للوضع الأول فلا تكرار كما توهمه العجلوني؛ لأنَّ قوله: (ووضع يده اليمنى على اليسرى) صادق بوضع الأصابع، ثم إنَّه شبك بينها، ثم وضع بطن اليمنى على ظهر اليسرى.
قال إمام الشَّارحين: (يحتمل أن يكون هذا الوضع حال التشبيك، وأن يكون بعد زواله وعند الكشميهني: «وضع خده الأيمن» بدل «يده اليمنى») انتهى، ومثله في الكرماني.
قلت: وعلى هذه الرواية أنَّه لما فرغ من التشبيك؛ وضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، واليمنى ليس لها وضع أو هي موضوعة وحدها، فيكون الوضع الأول حال التشبيك، والوضع الثاني _وهو وضع خده الأيمن_ بعد زواله وبهذا تعلم ما في عبارة العجلوني من الخفاء وعدم ظهور المراد؛ فافهم.
(وخرجت السرعانُ من أبواب المسجد)؛ أي: النَّبوي؛ أي: من أبواب الداخل منه وهو الحرم، لا الخارج عنه وهو البراني الذي أبوابه على الطريق؛ فافهم، وسرعان الناس؛ بالتحريك: أوائلهم، ويقال: أخفَّاؤهم والمستعجلون منهم الذين يتسارعون إلى الخروج من المسجد ولا يلبثون فيه للذكر بعد الصلاة، ويلزم الإعراب نونه في كل وجه؛ أي: فهو برفع النُّون فاعل، وهذا هو الصَّواب الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللُّغة وكذا ضبطه المتقنون، وقال ابن الأثير: السَّرَعان؛ بفتح السين والرَّاء المهملتين: أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة، ويجوز تسكين الرَّاء).
قلت: وكذا نقله القاضي عياض عن بعضهم، قال: وضبطه الأصيلي في «البخاري»: بِضَمِّ السين وإسكان الرَّاء، ووجهه: أنَّه جمع سريع؛ كقفيز وقفزان، وكثيب وكثبان، ومن قال: سِرَعان بكسر السين؛ فهو خطأ، ويقال أيضًا: سِرْعان؛ بكسر السين وسكون الرَّاء، وهو جمع سريع؛ كرعيل ورعلان، وأمَّا قولهم: سرْعانَ ما فعلت؛ ففيه ثلاث لغات: الضم والكسر والفتح، مع إسكان الرَّاء، والنُّون مفتوحة أبدًا، كذا قرره إمام الشارحين.
قلت: وما ذكره من أنَّ (سرْعانَ) فيه ثلاث لغات قد تبعه عليه صاحب «التنقيح» وغيره.
واعترضه الدماميني بأنَّ هذا في (سرْعانَ) اسم الفعل، وهي مبنية على الفتح دائمًا، لكنه عبر عنه بالنصب، وأمَّا هنا؛ فهو (سريع) معرب فنقل اللَّفظ في غير محله، انتهى.
قلت: واعتراض الدماميني متوجه على صاحب «التنقيح» ومن حذا حذوه، وأمَّا إمام الشَّارحين؛ فلم يخف عليه ذلك؛ حيث قال: (وأمَّا قولهم .. ) إلى آخره؛ فهذا كما رأيت يدل على أنَّه خارج عما هنا، ألا ترى إلى قوله في أول عبارته: (ويلزم الإعراب نونه ... ) إلى آخره؛ أي: فهو معرب، فلله دره من إمام، وحقيق بأن يقال له: إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(فقالوا)؛ أي: السرعان؛ تعجبًا من صلاته عليه السَّلام الظُّهر أوالعصر ركعتين، وسلم منها، وكان في مسجده غير مسافر: (قُصِرت الصلاة؟)؛ بِضَمِّ القاف وكسر الصَّاد المهملة على البناء للمفعول، وفي رواية: بفتح القاف وضم الصَّاد المهملة على البناء للفاعل؛ أي: خفَّت وقلَّت ركعاتها؛ لأنَّه من القصر، وهو القلة من الكثرة، والمراد به: التخفيف.
قال المنذري: (الأَولى: البناء للمفعول؛ لقوله: «لم تُقْصَر»؛ للبناء له، ولا خلاف فيه، فكذا الأول).
واعترضه الدماميني، فقال: (وبهذا الترجيح نظر)، ولم يذكر وجهه.
قلت: ولعل وجهه أنَّه لا يلزم من كون قوله: «لم تقصر» بالبناء للمفعول بلا خلاف أن يكون قوله: (قصرت) بالبناء للمفعول أولى من البناء للفاعل مع أنَّهما روايتان؛ الأولى رواية الأكثرين، والثانية رواية البعض، ولم يعزها إمام الشَّارحين ولا غيره لأحد من الرواة، بل قال: (ويروى) وهو كافٍ؛ فافهم.
واللَّام في (الصلاة) للعهد؛ أي: المعهودة للمقيم، وهي الأربع، وكأنَّهم ظنوا نزول الوحي أو حدوث شيء يوجب قصر الصلاة، وسؤالهم إنَّما كان لبعضهم بعضًا أو للقوم الحاضرين في المسجد الذين لم يسرعوا في الخروج.
(وفي القوم أبو بكر) أي: الصديق الأكبر (وعمر) أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما، والجملة حالية (فهاباه)؛ بضمير منصوب، ويروى بدونه لكنه مقدر، وهو عائد إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وضمير التثنية المرفوع يعود لأبي بكر وعمر، وهو من الهيبة؛ وهو الخوف والإجلال، وقد هابه يهابه، والأمر منه: هَبْ؛ بفتح الهاء، انتهى، (أن يكلماه)؛ أي: خاف أبو بكر وعمر أن يسألا النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم عن صلاته ركعتين في الفرض الرُّباعي؛ لما علما منه الغضب؛ لأنَّه انصرف من الصلاة كأنَّه غضبان أو إجلالًا له؛ لاحتمال نزول أمر عليه، فخافا السآمة، فلم يكلماه بذلك، وكلمة (أن): مصدرية، والتقدير من التكليم.
وقوله: (وفي القوم رجل): جملة اسمية وقعت حالًا (في يديه) بالتثنية (طول يُقال) بِضَمِّ التحتية أوله (له) أي: لذلك الرجل: (ذو اليدين)، والجملتان صفتان لرجل، أو الثانية حالية أو مستأنفة.
وفي رواية الإمام الحافظ أبي جعفر الطَّحاوي: (فقام رجل طويل اليدين، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه: ذا اليدين)، وفي رواية: (رجل من بني سليم)، وفي رواية: (رجل يقال له: الخرباق بن عمرو، وكان في يده طول)، وفي رواية: (كان رجل بسيط اليدين)، وقع ذلك في رواية الطَّحاوي في حديث عمران بن حصين: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى بهم الظُّهر ثلاث ركعات ثم سلَّم وانصرف، فقال له الخرباق: يا رسول الله؛ إنَّك صلَّيت ثلاثًا، قال: فجاء فصلَّى ركعة، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين للسهو، ثم سلَّم)، وأخرجه أحمد أيضًا في «مسنده»، والطَّبراني في «الكبير».
وخِرباق _بكسر الخاء المعجمة_ ابن عبد عمرو السلمي، وهو الذي يقال له: ذو اليدين، وذو الشمالين أيضًا، وكلاهما لقب عليه.
وقال السمعاني: (ذو اليدين، ويقال له: ذو الشمالين؛ لأنَّه كان يعمل بيديه جميعًا).
وقال ابن حبان في «الثقات»: ذو اليدين _ويقال له: ذو الشمالين أيضًا_ ابن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي.
وقال أبو عبد الله العدني في «مسنده»: قال أبو محمَّد الخزاعي: ذو اليدين أحد أجدادنا، وهو ذو الشمالين، ابن عبد عمرو بن ثور بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر.
وقال ابن أبي شيبة في «مصنفه»: حدَّثنا ابن فضيل، عن حصين، عن عكرمة قال: (صلَّى النَّبي عليه السَّلام بالناس ثلاث ركعات، ثم انصرف، فقال له بعض القوم: حدث في الصلاة شيء؟ قال: «وما ذاك؟»، قالوا: لم تصل إلا ثلاث ركعات، فقال: «أكذلك يا ذا اليدين؟»، وكان يسمى: ذا الشِّمالين، فقال: نعم؛ فصلَّى ركعة وسجد سجدتين).
وقال ابن الأثير: (ذو اليدين: اسمه الخِرباق، من بني سليم، كان ينزل بذي خشب من ناحية المدينة، وليس هو ذا الشمالين، خزاعي حليف لبني زهرة، قتل يوم بدر، وإنَّ قصة ذي الشمالين كانت قبل بدر، ثم أحكمت الأمور بعد ذلك).
وقال القاضي عياض في «شرح مسلم»: وأمَّا حديث ذي اليدين؛ فقد ذكر مسلم في حديث عمران بن الحصين: (أنَّ اسمه الخرباق، وكان في يديه طول)، وفي الرواية الأخرى: (بسيط اليدين)، وفي حديث أبي هريرة: (رجل من بني سليم)، ووقع للعذري: (سلم)، وهو خطأ، وقد جاء في حديث عبيد بن عُمَيْر مفسرًا، فقال فيه: (ذو اليدين أخو بني سليم)، وفي رواية الزهري: (ذو الشمالين رجل من بني زهرة)، وبسبب هذه الكلمة ذهب الحنفيون إلى أنَّ حديث ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود، قال: لأنَّ ذا الشمالين قتل يوم بدر فيما ذكره أهل السير، وهو من بني سليم؛ فهو ذو اليدين المذكور في الحديث، وهذا لا يصح لهم إن كان قتل ذو الشمالين يوم بدر، فليس هو الخِرباق، وهو رجل آخر حليف لبني زهرة، واسمه عُمَيْر بن عبد عمرو
%ص 694%
من خزاعة؛ بدليل رواية أبي هريرة حديث ذي اليدين ومشاهدته خبره، ولقوله: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... )، وذكر الحديث، وإسلام أبي هريرة بخيبر [بعد] يوم بدر بسنين [2]، فهو غير ذي الشمالين المستشهد ببدر، وقد عدوا قول الزهري فيه هذا من الوهم، وقد عدها بعضهم حديثين في نازلتين، وهو الصَّحيح ولاختلاف صفتهما؛ لأنَّ في حديث الخِرباق ذي الشمالين: أنَّه سلَّم من ثلاث، وفي حديث ذي اليدين: من اثنتين، وفي حديث الخِرباق: أنَّها العصر، وفي حديث ذي اليدين: أنَّها الظُّهر بغير شك عند بعضهم، وقد ذكر مسلم ذلك كله، انتهى، وتبعه أبو عمر [3] بن عبد البر تعصبًا.
وردَّ ذلك كله إمام الشَّارحين حيث قال: قلت: الجواب عن ذلك كله مع تحرير الكلام في هذا الموضع: أنَّه وقع في كتاب «النسائي»: أنَّ ذا اليدين وذا الشمالين واحد كلاهما لقب على الخِرباق، كما ذكرنا، حيث قال: أخبرنا محمَّد بن رافع: حدَّثنا عبد الرزاق: حدَّثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، عن أبي هريرة قال: (صلى النَّبي صلى الله عليه وسلم الظُّهر أو العصر، فسلم من ركعتين فانصرف، فقال له ذو الشمالين بن عمرو: أنقصت الصلاة أم نسيت؟ قال: «ما يقول ذو اليدين؟!»، قالوا: صدق يا رسول الله، فأتمَّ بهم الركعتين اللتين نقصتا)، وهذا سند صحيح متصل، صرح فيه بأنَّ ذا الشمالين هو ذو اليدين.
وقال النسائي أيضًا: حدثنا هارون بن موسى الفروي: حدثني أبو ضمرة، عن يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: (نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّم في سجدتيه، فقال ذو الشمالين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: «أصدق ذو اليدين؟»، قالوا: نعم، فقام فأتمَّ الصلاة)، وهذا أيضًا سند صحيح، صرح فيه أيضًا أنَّ ذا الشمالين هو ذو اليدين، وقد تابع الزهري على ذلك عمران بن أبي أنس وغيره.
وقال النسائي أيضًا: حدثنا عيسى بن حماد: حدثنا اللَّيث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يومًا فسلَّم في ركعتين ثم انصرف، فأدركه ذو الشمالين فقال: يا رسول الله؛ أنقصت الصلاة أم نسيت؟ فقال: «لم تنقص الصلاة ولم أنس»، قال: بلى والذي بعثك بالحق، قال رسول الله: «أصدق ذو اليدين؟» قالوا: نعم، وصلى بالناس ركعتين)، وهذا أيضًا سند صحيح على شرط مسلم.
وأخرج نحوه الإمام الطَّحاوي عن ربيع المؤذن، عن شعيب بن اللَّيث، عن اللَّيث، عن يزيد بن أبي حبيب ... إلى آخره.
وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في «مصنفه»؛ فثبت بهذا أنَّ الزهري لم ينفرد بذلك، وأنَّ المخاطب للنبي صلى الله عليه وسلم ذو الشمالين، وأنَّ من قال ذلك لم يهم، ولا يلزم من عدم تخريج ذلك في «الصَّحيحين» عدم صحته، فثبت أنَّ ذا اليدين وذا الشمالين واحد، كلاهما لقب على الخِرباق، وهذا أولى من جعله رجلين؛ لأنَّه خلاف الأصل في هذا الموضع.
فإن قلت: أخرج البيهقي حديثًا واستدل به على بقاء ذي اليدين بعد النَّبي عليه السَّلام، فزعم أنَّ الذي قُتِل ببدر هو ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة حليف بني زهرة من خزاعة، وأمَّا ذو اليدين الذي أخبر بسهوه عليه السَّلام؛ فإنَّه بقي بعده عليه السَّلام، كذا ذكره شيخنا أبو عبد الله، ثم خرج عنه بسنده إلى معدي بن سليمان، قال: حدثني شعيث [4] بن مطير عن أبيه ومطير حاضروصدقه، قال شعيث: يا أبتاه؛ أخبرتني أنَّ ذا اليدين لقيك بذي خشب فأخبرك: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ؛ الحديث، ثم قال البيهقي: (وقال بعض الرواة في حديث أبي هريرة: «فقال ذو الشمالين: يا رسول الله؛ أقصرت الصلاة؟»، وكان شيخنا أبو عبد الله يقول: كل من قال ذلك؛ فقد أخطأ، فإنَّ ذا الشمالين تقدم موته ولم يعقب، وليس له راوٍ).
قلت: هذا سنده ضعيف؛ لأنَّ فيه معدي بن سليمان، وقال أبو زرعة: (هو واهي الحديث)، وقال النسائي: (ضعيف الحديث)، وقال أبو حاتم: (يحدِّث عن ابن عجلان مناكير)، وقال أبو حيان: (يروي المقلوبات عن الثقات، والملزوقات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد).
وفي سنده أيضًا شعيث، وهو لم يعرف حاله، فهو مجهول، ووالده [5] مطير قال فيه ابن الجارود: لم يكتب حديثه، وذكره الذهبي في «الضعفاء»، وقال: (لم يصح حديثه)، وفي «الكاشف»: مطير بن سليم عن ذي الزوائد، وعنه ابناه شعيث وسليم، لم يصح حديثه، ولضعف هذا السند قال البيهقي في «المعرفة»: (ذو اليدين بقي بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما يقال)، ولقد أنصف في هذه العبارة.
ثم إنَّ قول شيخه أبي عبد الله: (كل من قال ذلك؛ فقد أخطأ): خطأ وغير صحيح، روى مالك في «موطئه» عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن سليمان، عن أبي خيثمة: بلغني أنَّه عليه السَّلام ركع ركعتين من إحدى صلاتي النهار؛ الظُّهر أو العصر، فسلَّم من اثنتين، فقال له ذو الشمالين _رجل من بني زهرة بن كلاب_: أقصرت الصلاة؟ ... ؛ الحديث، وفي آخره: مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن ... ؛ بمثل ذلك، فقد صرح في هذه الرواية: أنَّه ذو الشمالين، لا يقال: إنَّه مرسل؛ لأنَّا نقول: ذكر أبو عمر [6] في «التَّمهيد» أنَّه متصل من وجوه صحاح، والدليل عليه ما ذكرناه مما روى النسائي آنفًا.
وقول الحاكم عن ذي الشمالين: (لم يعقب) يفهم من ظاهره أنَّ ذا اليدين أعقب، ولا أصل لذلك كما قاله الحفاظ.
فإن قلت: إنَّ ذا اليدين وذا الشمالين إذا كانا لقبًا على شخص واحد على ما جزمتم به؛ فهو يدل على أنَّ أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة؛ لأنَّ ذا اليدين الذي هو ذو الشمالين قتل ببدر وأبو هريرة أسلم عام خيبر وهو متأخر بزمان كثير، ومع هذا فأبو هريرة يقول: (صلى بنا رسول الله ... )؛ الحديث، وفيه: (فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله)، أخرجه مسلم وغيره، وفي رواية: (صلى لنا رسول الله ... )؛ الحديث.
قلت: أجاب الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي: بأنَّ معناه: صلى بالمسلمين وهو ليس منهم، وهذا جائز في اللُّغة كما روي عن النزال بن سبرة قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف ... »؛ الحديث، والنزال لم ير [7] رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما أراد بذلك: قال لقومنا، وروي عن طاووس قال: قدم علينا معاذ بن جبل، فلم يأخذ من الخضراوات شيئًا، وإنَّما أراد: قدم بلدنا؛ لأنَّ معاذًا قدم اليمن من عهده عليه السَّلام قبل أن يولد طاووس، ومثله ما ذكره البيهقي: أنَّ النَّهي مخصوص ببعض الأمكنة عن مجاهد قال: (جاءنا أبو ذر ... ) إلى آخره، قال البيهقي: مجاهد لم يثبت له سماع من أبي ذر، وقوله: (جاءنا)؛ أي: جاء بلدنا؛ فافهم، انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: وعلى هذا فأبو هريرة كان حاضرًا تلك الصلاة، ولم يكن وقتئذٍ مسلمًا، وإطلاق قوله: (صلى لنا) أو (بنا) على قومه وغيرهم دونه شائع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السَّلام وهو معروف في اللُّغة، كما لا يخفى.
وقال القرطبي: (لا يجوز أن يقال: «صلى بنا» وهو كافر ليس من أهل الصلاة، ويكون ذلك كذبًا) انتهى.
قلت: ممنوع، فإنَّه إن أراد غير جائز في اللُّغة، فما قدمنا صريح في الرد عليه، وأنَّه جائز، وإن أراد في غيرها؛ فجائز أيضًا، فإنَّ المجاز في الكلام لم ينكره أحد من أولي الألباب، ولا مانع من كونه كان كافرًا؛ لأنَّه لعله قد اهتدى بتلك الصلاة وأسلم بعدها.
وكونه كذبًا لعله كان جائزًا في دينهم؛ لأنَّ الإخبار به صحيح، وأراد به: قومه لا نفسه، فإنَّ الكفار لا يبالون بالكذب؛ لأنَّه غير حرام عندهم، فما زعمه هذا باطل.
فإن قلت: روي في بعض روايات «مسلم»: أنَّ أبا هريرة قال في قصة ذي اليدين: (بينا أنا أصلي مع النَّبي صلى الله عليه وسلم)، وهذا صريح في أنَّه حضر تلك الصلاة وكان مسلمًا.
قلت: الروايات المشهورة: (صلى لنا) أو (بنا)، فيحتمل على
%ص 695%
هذه الرواية أنَّ بعض الرواة فَهِم من قوله: (صلى بنا): أنَّه كان حاضرًا وصلى معهم، فروى الحديث بالمعنى على زعمه، وقال: (بينا أنا أصلي)، والرواية بالمعنى جائزة بالشروط، ويحتمل أن يكون المعنى: بينا أنا أريد الصلاة مع النَّبي عليه السَّلام والحال هو لم يدخل في الإسلام بل أراده؛ لما رأى من حسن صلاته عليه السَّلام، فأبو هريرة قد شاهد تلك الصلاة ولم يصلِّ معهم؛ لأنَّه كان كافرًا؛ فافهم.
والحاصل بل الصَّواب: أنَّ ذا اليدين المذكور في هذا الحديث هو ذو الشمالين، فهما لقبان لواحد على الصَّحيح، والله تعالى أعلم.
(قال) وفي رواية: (فقال)؛ أي: الرجل: (يا رسول الله؛ أنَسِيت) بفتح النُّون وكسر السين المهملة المخففة (أم قَصُرت الصلاة؟)؛ بفتح القاف وضم الصَّاد المهملة؛ لأنَّه من باب (فَعُل يَفعُل)؛ بالضم فيهما، فما زعمه العجلوني من أنَّه بفتح القاف وكسر الصَّاد غير ظاهر كما لا يخفى؛ أي: هل خفَّت من الأربع إلى الركعتين في الرُّباعي أم نسيت؟
(قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم له: (لم أَنْسَ) بفتح الهمزة وسكون النُّون مجزوم بحذف الألف (ولم تُقصر)؛ بِضَمِّ الفوقية أوله مبنيًّا للمفعول؛ أي: الصلاة، وفي رواية مسلم: (كل ذلك لم يكن)، وفي رواية أبي داود: (وكل ذلك لم أفعل)، وزعم النَّووي أنَّ معناه: لم يكن المجموع ولا ينفي أحدهما، والصَّواب: أنَّ معناه: لم يكن لا ذاك ولا ذا في ظني، بل ظني أنِّي أكملت الصلاة أربعًا، ويدل عليه قوله: (لم تُقصر ولم أنس).
ويقال: (لم أنس): يرجع إلى السَّلام؛ أي: لم أنسه فيهإنَّما سلمت قصدًا، أو لم أنسه في نفس السَّلاموإنَّما سهوت عن العدد.
واعترضه القرطبي بأنَّه فاسد؛ لأنَّه حينئذٍ لا يكون جوابًا عما سئل عنه، ويقال: بين السَّهو والنِّسيان فرق [8].
وقيل: كان عليه السَّلام يسهو ولا ينسى، فلذلك نفى عن نفسه النِّسيان؛ لأنَّ فيه غفلة ولم يغفل، قاله القاضي.
وقال القشيري: (الفرق بين السَّهو والنِّسيان في الاستعمال ظاهر في اللُّغة، وكان يلوح من اللَّفظ أنَّ النِّسيان: عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسَّهو: عدم الذكر لأمر يتعلق بها، ويكون النِّسيان: الإعراض عن تفقد أمورها حتى يحصل عدم الذكر، والسَّهو: عدم الذكر لا لأجل الإعراض).
واعترضه القرطبي بأنَّا لا نسلم الفرق، ولئن سلم؛ فقد أضاف عليه السَّلام النِّسيان إلى نفسه في غير ما موضع بقوله: «إنَّما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني».
وقال القاضي عياض: إنَّما أنكر عليه السَّلام (نسيتُ) المضافة إلى نفسه، وهو قد نهى عن هذا بقوله: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا، ولكنه نُسِّي»، وقال أيضًا: «لا أنسى» على النَّفي «ولكن أُنَسَّى»، وقد شك بعض الرواة، فقال: (أنسى أو أُنسَّى)، وأن (أو) للشك أو للتقسيم، وأنَّ هذا يكون منه مرة من قبل شغله، ومرة يغلب ويجبر عليه، فلما سأله السائل بذلك؛ أنكره وقال: «كل ذلك لم يكن»، وفي الأخرى: «لم أنس ولم تقصر»، أمَّا القصر؛ فبيِّن، وكذلك لم أنس حقيقة من قبل نفسي ولكنَّ الله أنساني.
قال إمام الشَّارحين: (ويمكن أن يجاب عما قاله القاضي: أنَّ النَّهي في الحديث عن إضافة «نسيت» إلى الآية الكريمة؛ لأنَّه يقبح للمؤمن أن يضيف إلى نفسه نسيان كلام الله تعالى، ولا يلزم من هذا النَّهي الخاص النَّهي عن إضافته إلى كل شيء)؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (تحقيق الكلام في هذا المقام أنَّ قوله: «لم أنس ولم تقصر» مثل قوله: «كل ذلك لم يكن»؛ والمعنى: كل من القصر والنِّسيان لم يكن، فيكون في معنى: لا شيء منهما بكائن على شمول النَّفي وعمومه؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّ السؤال عن أحد الأمرين بـ «أم» يكون لطلب التَّعيين بعد ثبوت أحدهما عند التكلم لا على التَّعيين، غير أنَّه إمَّا بالتَّعيين أو بنفيهما جميعًا تخطئة للمستفهم، لا بنفي الجمع بينهما حتى يكون نفي العموم؛ لأنَّه عارف بأنَّ الكائن أحدهما.
والثاني: لما قال عليه السَّلام: «كل ذلك لم يكن»؛ قال له ذو اليدين: «قد كان بعض ذلك»، ومعلوم أنَّ الثبوت للبعض إنَّما ينافي النَّفي عن كل فرد لا النَّفي عن المجموع، وقوله: «قد كان بعض ذلك» موجبة جزئية، ونقيضها السالبة الكلية، ولولا أنَّ ذا اليدين فهم السلب الكلي؛ لما ذكر في مقابلته الإيجاب الجزئي.
وههنا قاعدة أخرى: وهي أنَّ لفظة «كل» إذا وقعت في حيز النَّفي؛ كان النَّفي يوجبها خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد؛ كقولك: ما جاء كل القوم ولم آخذ كل الدراهم، وقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ....
وإن وقع النَّفي في حيزها؛ اقتضى السلب عن كل فرد؛ كقوله عليه السَّلام: «كل ذلك لم يكن») انتهى كلام إمام الشَّارحين.
وهو الصَّواب الموافق للخطاب؛ فافهم، وكل ما قاله هؤلاء خارج عن المقام، وبعيد عن الأفهام إلا إمامنا الشَّارح، فإنَّه قد فهم موقع الخطاب، وتكلم بالصَّواب، فلله دره من إمام.
وقال الخطابي: («لم أنس ولم تقصر»: يتضمن أمرين: أحدهما: حكم في الدين، وهو لم تقصر _عصمه الله من الغلط فيه_؛ لئلا يعرض في أمر الدين إشكال، والآخر: حكاية عن فعل نفسه وقد جرى الخطأ فيه؛ إذ كان غير معصوم مما يدفع إليه البشر من الخطأ والنِّسيان، والأمر موضوع عن الناسي، وتلافي الأمر في المنسي سهل غير متعذر) انتهى.
قال العجلوني: (ومقتضاه: أنَّه «لم أنس» كذب، لكن محذور فيه، والأنزه أن يقال: لم أنس بحسب ظني فلا كذب؛ لأنَّ الظن هو الواقع والخبر مطابق له، فهو صدق) انتهى.
قلت: وهذا كله خارج عن المقام ولا يليق بهذا النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه وإن كان يجوز عليه الخطأ والنِّسيان لكن لا يقر عليه، بل يأتيه الوحي على الصَّواب، والأمر موضوع عن الناسي بالنسبة للأمة؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنِّسيان ... »؛ الحديث؛ أي: رفع إثم ذلك، أمَّا هو عليه السَّلام؛ فليس كذلك؛ لأنَّه وإن وقع منه، لكن لا يقره الله عليه، بل يوحي إليه بخلافه، ومع هذا فهو عليه السَّلام لم يقع في ظنه الخطأ والنِّسيان؛ لقوله: «كل ذلك لم يكن»، فإخباره عليه السَّلام كان موافقًا للواقع في ظنه، لكن لما كان الأمر على خلافه؛ يوهم أنَّه خطأ ونسيان بحسب الواقع، وهو لا يوصف بأنَّه كذب؛ لأنَّه كان على غير قصد، والكذب: ما أخبر به عن قصد على خلاف الواقع، ومن الواجب الاعتقاد بأنَّه عليه السَّلام معصوم من الكذب ألبتة، فما زعمه الخطابي والعجلوني غير صواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم.
ولهذا قال ابن حجر: (إنَّ العصمة ثابتة في الإخبار عن الله تعالى، وأمَّا إخباره عن الأمور الوجودية؛ فيجوز فيها النِّسيان) انتهى.
قلت: يعني: لكنَّه لا يقر عليه لوقوع الغلط في أمور الدين وهو محال؛ فليحفظ.
(فقال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم للقوم الحاضرين: (أكما)؛ بهمزة الاستفهام؛ أي: هل الأمر واقع كما (يقول ذو اليدين)؛ أي: من أنَّي صليت ركعتين في الفرض الرُّباعي؛ وهي صلاة القصر، ولهذا قال: أقصرت؟ (فقالوا) أي: القوم: (نعم)؛ أي: الأمر كما يقول، وفي رواية للبخاري: (فقال الناس: نعم)، وفي رواية أبي داود: (فأومؤوا أي نعم).
قال إمام الشَّارحين: (ويمكن الجمع بينهما بأنَّ بعضهم أومأ وبعضهم تكلم.
فإن قلت: كيف تكلم ذو اليدين والقوم وهم في الصلاة؟
قلت: لأنَّهم لم يكونوا على اليقين من البقاء في الصلاة؛ لأنَّهم كانوا مجوزين نسخ الصلاة من أربع إلى ركعتين، وفي رواية لأبي داود بإسناد صحيح: «أنَّ الجماعة أومؤوا _أي: أشاروا_ أي نعم»، فعلى هذه الرواية لم يتكلموا) انتهى.
وقال النَّووي: (هذا كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابًا، وذلك لا يبطل عندنا ولا عند غيرنا) انتهى.
قلت: هذا بعيد عن النَّظر؛ لأنَّه ولو كان خطابًا فهو مبطل، بل إنَّما المبطل
%ص 696%
ما كان عن قصد خطاب، والظَّاهر أنَّ قول الراوي: (فقالوا: نعم)؛ أي: أشاروا برؤوسهم أي نعم، ويدل عليه رواية أبي داود: (فأومؤوا)، فيكون الرواي روى ذلك بالمعنى على أنَّه يحتمل أنَّ الذي تكلم أمره عليه السَّلام بالإعادة بعده، وهو غير بعيد، هذا وسيأتي أنَّ الكلام في الصلاة كان مباحًا ثم مُنِع منها؛ لحديث: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنَّما هي التسبيح وقراءة القرآن»، فهذا كله منسوخ، ويدل له قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، كما سيأتي تحقيقه.
(فتقدم) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لمكانه الأول أو غيره على القوم، (فصلى ما ترك)؛ أي: الذي تركه من الركعتين (ثم سلَّم)؛ أي: من صلاته؛ لكونها قد تمت، (ثم كبر)؛ أي: لسجود السَّهو، وقول العجلوني؛ أي: للإحرام؛ غير ظاهر كما لا يخفى، (وسجد مثل سجوده) أي: للصلاة (أو أطول) أي: منه، (ثم رفع رأسه)؛ أي: من السُّجود مكبرًا، (ثم كبر)؛ أي: للسجود ثانيًا، وسقط لابن عساكر: (ثم كبر)، (وسجد مثل سجوده) أي: للصلاة (أو أطول)؛ أي: منه، فالسُّجود وقع منه مرتين؛ لأنَّ سجود السَّهو سجدتان، ففيه دليل على الاجتزاء بسجدتين عن السَّهوات؛ لأنَّه عليه السَّلام سها عن الركعتين وتكلم ناسيًا، واقتصر على السجدتين، وفيه دليل على أنَّ سجود السَّهو [9] سجدتان، وفيه: دليل وحجة للإمام الأعظم ومن قال بقوله: إنَّ سجدتي السَّهو [10] بعد السَّلام، وهو حجة على الشَّافعي في أنها قبل السَّلام، وكأنَّه لم يبلغه هذا الحديث؛ فافهم.
(ثم رفع رأسه وكبَّر)؛ أي: للرفع من السُّجود؛ أي: وسلم، كما سيأتي، وإنَّما فعل هذا؛ لأنَّه قد رجع إلى قول القوم في أنَّه صلى ركعتين، فأتمها، وهو دليل واضح لمذهب الإمام الأعظم في أنَّ الساهي يرجع إلى كلام القوم ويبني على غالب ظنه، وهو المرجح عن مالك.
وزعم الشَّافعية أنَّ الساهي يعمل بيقينه ولا يرجع إلى قول القوم، وهو رواية عن مالك، والحديث حجة عليهم، وأجاب النَّووي: بأنَّه عليه السَّلام سألهم؛ ليتذكر، فلما ذكَّروه؛ تذكر بعلم السَّهو، فبنى عليه لا أنَّه رجع إلى مجرد قولهم، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره؛ لرجع ذو [11] اليدين حين قال عليه السَّلام: «لم أنس ولم تقصر».
وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّ هذا ليس بجواب مخلص؛ لأنَّه لا يخلو من الرجوع إليهم سواء كان رجوعه للتذكير أو لغيره، وعدم رجوع ذي اليدين كان لأجل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا لأجل يقين نفسه) انتهى.
قلت: وعلى كل حال فالرجوع إلى قول القوم موجود يدل عليه أنَّه عليه السَّلام سأل القوم عما يقوله ذو اليدين، فحين قالوا: نعم؛ أخذ بقولهم وتقدم وتمم صلاته، فلو كان ذلك لأجل التذكير؛ لكان اقتصر على سؤال ذي اليدين ولم يسأل القوم؛ فافهم.
قال ابن عون: (فربما سألوه)؛ أي: ابن سيرين: هل في الحديث: (ثم سلم؟)؛ يعني: سألوا ابن سيرين: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا السُّجود هل سلم مرة أخرى أو اكتفى بالسَّلام الأول؟ وكلمة (رُبَّ) أصلها للتقليل، وكثر استعمالها في التكثير، ويلحقها كلمة (ما) فتدخل على الجمل، قاله إمام الشَّارحين.
ولم يبين أحد من الشراح السائل له عن ذلك، والظَّاهر أنَّه من دونه من الرواة؛ فافهم.
(فيقول)؛ أي: ابن سيرين، وللأصيلي: (يقول): (نُبئت)؛ بِضَمِّ النُّون مبنيًّا للمفعول؛ أي: أخبرت (أنَّ عمران بن حُصَين) بضم الحاء المهملة وفتح الصاد [12] (قال) أي: في روايته: (ثم سلم)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بعد هذا السُّجود مرة أخرى، وهذا يدل على أنَّ ابن سيرين لم يسمع: (ثم سلم) من عمران.
وقد بيَّن أبو داود في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران، فقال: حدثنا محمَّد بن يحيى بن فارس قال: حدثنا محمَّد بن عبد الله بن المثنى قال: حدثني الأشعث بن محمَّد بن سيرين، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهلب، عن عمران بن حصين: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم).
ورواية ابن سيرين عن خالد من رواية الأكابر عن الأصاغر، وكذا رواه النسائي، والترمذي وقال: (حسن غريب)، ورواه الطَّحاوي من حديث شعبة عن خالد الحذاء قال: سمعت أبا قلابة يحدِّث عن عمه أبي المهلب عن عمران بن حصين: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظُّهر ثلاث ركعات، ثم سلم وانصرف، فقال له الخِرباق: يا رسول الله؛ إنَّك صليت ثلاثًا، قال: فجاء فصلى ركعة، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين للسهو، ثم سلَّم).
وأبو قلابة: اسمه عبد الله بن زيد الحرمي، واسم عمه أبي المهلب عمرو بن معاوية، قاله النسائي، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النَّضر بن عمرو، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: ولا يقدح هذا الاختلاف؛ لأنَّه قد اشتهر بأبي المهلب؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على جواز تشبيك الأصابع في المسجد على ما ترجم عليه الباب.
وفيه دليل على أنَّ من قال ناسيًا: لم أفعل كذا، وكان قد فعله؛ أنَّه غير كاذب.
وفيه: جواز التلقيب الذي سبيله التعريف دون التهجين.
وفي الحديث: دليل على أنَّ الذي عليه السَّهو إذا ذهب من مقامه ثم عاد، وقضى ما عليه؛ أنَّه يصح ذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام تقدم فصلى، وفي رواية: (فرجع إلى مقامه)، وفي رواية عمران: (فجاء فصلى ركعة)، وهذا مجمل، وقد فصله الفقهاء رضي الله عنهم:
فذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين أنَّه إذا سلم ساهيًا على الركعتين وهو في مكانه لم يصرف وجهه عن القبلة ولم يتكلم؛ عاد إلى القضاء لما عليه، ولو اقتدى به رجل؛ يصح اقتداؤه، أمَّا إذا صرف وجهه عن القبلة، فإن كان في المسجد ولم يتكلم؛ فكذلك؛ لأنَّ المسجد كله في حكم مكان واحد؛ لأنَّه مكان الصلاة، وإن كان خرج من المسجد ثم تذكر؛ لا يعود إليه، وتفسد صلاته، وأمَّا إذا كان في الصحراء، فإن تذكر قبل أن يجاوز الصفوف من خلفه أو من قبل اليمين أو اليسار؛ عاد إلى القضاء لما عليه، وإن جاوزها؛ فلا يعود وتفسد صلاته، وإن مشى أمامه، فإن كان مشى قدر الصفوف التي خلفه؛ تفسد صلاته، وإن كان أقل؛ فلا تفسد، وعليه القضاء لما عليه، وهو مروي عن الإمام أبي يوسف؛ اعتبارًا لأحد الجانبين بالآخر، وقيل: إذا جاوز موضع سجوده؛ تفسد صلاته، وإن لم يجاوزه؛ لا تفسد، وعليه قضاء ما تركه، وهو الأصح.
وعند الشَّافعي وجهان؛ أحدهما: أنَّ الذي عليه السَّهو إذا ذهب من مقامه ثم عاد وقضى ما عليه؛ أنَّه يصح؛ لأنَّه ثبت في رواية مسلم: أنَّه عليه السَّلام مشى إلى الجذع وخرج السرعان، وفي رواية: (دخل منزله)، وفي رواية: (دخل الحجرة، ثم خرج ورجع الناس وبنى على صلاته).
والوجه الثاني وهو المشهور عنده: أنَّ الصلاة تبطل بذلك، وقال النَّووي: (وهذا مشكل، وتأويل الحديث صعب على من أبطلها) انتهى.
قلت: وكأنَّه استشكله هو وإمامه، واستصعبا التأويل؛ لأنَّ ما ذكره مخالف للحديث ومصادم له، كما لا يخفى.
أمَّا على مذهب الإمام الأعظم؛ فالأمر ظاهر بلا إشكال؛ لأنَّه صريح الحديث
%ص 697%
وموافق له، كما لا يخفى.
وعن مالك: أنَّه ما لم ينتقض وضوءه؛ يجوز له ذلك وإن طال الزمن، وكذا روي عن ربيعة مستدلين بحديث عمران.
قلت: هو مخالف للحديث؛ لأنَّه ليس فيه عدم نقض الوضوء، ولا تعرض إليه ولا إشارة إليه، بل الذي فيه أنَّه ما لم يخرج من المسجد؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يخرج منه، وخروجه إلى منزله أو حجرته ليس بمنافٍ؛ لأنَّ منزله من المسجد وفنائه، بدليل صحة الاعتكاف فيه كما قدمناه؛ فافهم.
واستدل بالحديث قوم على أنَّ الكلام في الصلاة من المأمومين لإمامهم إذا كان على وجه إصلاح الصلاة؛ لا يقطع الصلاة، وأنَّ الكلام من الإمام والمأمومين فيها على السَّهو؛ لا يقطع الصلاة، وهو قول مالك، وربيعة، والشَّافعي، وأحمد، وإسحاق.
قال ابن عبد البر: ذهب الشَّافعي إلى أنَّ الكلام والسَّلام ساهيًا في الصلاة لا يبطلها كقول مالك، وإنَّما الخلاف أنَّ مالكًا كان يقول: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها، وهو قول ربيعة وابن القاسم، وأنَّ الشَّافعي يقول: من تعمد الكلام وهو يعلم أنَّه لم يتم صلاته وأنَّه فيها؛ فسدت صلاته، فإن تكلم ناسيًا أو تكلم وهو يظن أنَّه ليس في الصلاة؛ لا يبطلها.
وقال أحمد ابن حنبل: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها؛ لم تفسد، فإن تكلم لغير ذلك؛ فسدت، ذكره الأشرم، وقال الخرقي عنه: أنَّ من تكلم عامدًا أو ساهيًا؛ بطلت صلاته إلا الإمام خاصة، فإنَّه إذا تكلم لمصلحة صلاته؛ لم تبطل صلاته.
وأجمع المسلمون على أنَّ الكلام عامدًا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنَّه في الصلاةولم يكن ذلك في إصلاح صلاته؛ أنَّه يفسد الصلاة إلا ما روي عن الأوزاعي أنَّه قال: من تكلم لإحياء نَفْسٍ أو مثله من الأمور الجسام؛ لا تفسد صلاته بذلك، انتهى.
قلت: وهذا الاستدلال فاسد، ولا سلف ولا خلف لهم في ذلك، والصَّواب من القول ما ذهب إليه الإمام الأعظم رأس المجتهدين وأصحابه والجمهور أنَّ الكلام في الصلاة يبطلها سواء كان ناسيًا أو جاهلًا، لإصلاحها أو لا، كيفما كان، وهو قول سفيان الثَّوري، وإبراهيم النخعي، وعطاء، والحسن البصري، وحمَّاد بن سليمان، وقتادة، وغيرهم.
قال الحارث بن مسكين: (أصحاب مالك كلهم على خلاف قول مالك في مسألة ذي اليدين إلا ابن القاسم وحده؛ فإنَّه يقول بقوله، وأمَّا أصحابه؛ فيأبونه ويقولون: إنَّما كان هذا في صدر الإسلام، فأمَّا الآن؛ فقد عرف الناس صلاتهم، فمن تكلم فيها؛ أعادها، وهو قول العراقيين، والثَّوري، والنخعي، وعطاء، والحسن، وحمَّاد، وقتادة، فإنَّهم ذهبوا إلى أنَّ الكلام في الصلاة يفسدها على أيِّ حال كان، وقالوا: إنَّ حديث أبي هريرة هذا في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن الأرقم، قالوا: وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام؛ فإنَّه أرسل حديث ذي اليدين، كما أرسل حديث: «من أدركه الفجر جُنبًا؛ فلا صوم له»، وكان كثير الإرسال) انتهى.
قلت: أمَّا حديث ابن مسعود؛ فرواه المؤلف ومسلم في «صحيحيهما» في (المناقب) في باب (هجرة الحبشة) وغيره: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نُسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي؛ سلمنا عليه، فلم يرد علينا، قلنا: يا رسول الله؛ كنا نسلم عليك في الصلاة، فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي؛ سلمنا، فلم ترد علينا، فقال عليه السَّلام: «إنَّ في الصلاة لشغلًا».
وأمَّا حديث زيد؛ فرواه أبو داود في «سننه» وغيره: عن زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأُمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام)، وقال جماعة: معنى قوله تعالى: {قَانِتِينَ}: ساكتين، وهو قول السدي؛ لأنَّ الآية نزلت في المنع عن الكلام في الصلاة، وكان مباحًا في صدر الإسلام.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه كما رواه أصحاب السنن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله أحدث من أمره ألَّا تكلموا في الصلاة».
وقال إمام الشَّارحين: والدليل على أنَّ الحديث منسوخ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان عليه السَّلام عمله يوم ذي اليدين، والحال أنَّه كان في من حضر يوم ذي اليدين، فلولا ثبت عنده انتساخ ذلك؛ لما عمل بخلاف ما عمل به النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا فإنَّ عمر رضي الله عنه قد فعل ذلك بحضرة الصَّحابةرضي الله عنه، ولم ينكر عليه منهم أحد، فصار ذلك منهم إجماعًا على النَّسخ.
وروى الحافظ الطَّحاوي ذلك عن ابن مرزوق قال: حدثنا أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود قال: سمعت عطاء يقول: (صلى عمر بن الخطاب بأصحابه، فسلَّم في ركعتين، ثم انصرف، فقيل له في ذلك، فقال: إنِّي جهزت عِيرًا من العراق بأجمالها وأحقابها حتى وَرَدت المدينة، قال: فصلى بهم أربع ركعات) انتهى.
قلت: وكأنَّ المخالف لنا لم يبلغه نزول الآية، ولا حديث ابن مسعود ولا زيد بن الأرقم، ولا صلاة عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وهذا ضرب من الإجماع، بل الإجماع كله؛ لأنَّ الذين أجمعوا على منع الكلام في الصلاة من أصحاب النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفتوا به؛ عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن الأرقم رضي الله عنهم.
ولم يُرْوَ عن أحد من الصَّحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل وأعيذوا من التحريف والتبديل خلاف هؤلاء الثلاثة بعد نزول الآية لا بإسناد متصل ولا منقطع، فكأنَّ الصَّحابة أجمعوا على أنَّ الكلام في الصلاة يفسدها على كل حال، وبه قال سليمان بن داود، وأبو خيثمة، وابن أبي شيبة، ومحمَّد بن نصر، ومحمَّد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمَّد بن إسماعيل، وغيرهم من أهل الحديث، والله تعالى أعلم.
وفي «العجلوني»: (وفيه: أنَّ من تكلم ناسيًا؛ لا تفسد صلاته؛ لأنَّه عليه السَّلام تكلم لظنه أنَّه أكمل الصلاة، وسبيله سبيل الناسي، وأمَّا ذو اليدين؛ فأمره متأول؛ لأنَّ الزمان زمان نسخ، فجرى منه مجرى من هو خارج الصلاة، وأمَّا كلام الشيخين؛ فإنَّه كان واجبًا عليهم إجابته؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]، فلم يقدح في صلاتهم) انتهى.
قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّه عليه السَّلام وإن كان ظنه أنَّه أكمل صلاته، فليس سبيله سبيل الناسي، فلا دليل فيه لما ذكر؛ لأنَّ بين الناسي وغيره فرقًا بيِّنًا، ولا عذر للناسي؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «رُفِع عن أمتي الخطأ والنِّسيان»؛ معناه: رفع إثمهما، على أنَّه قال: «عن أمتي»، ولم يقل: عني، والنِّسيان لا يضر عليه من الله تعالى.
وأمَّا ذو اليدين؛ فعلى ما ذكره؛ صلاته فسدت، فهو تناقض في كلامه، كما لا يخفى.
وأمَّا كلام الشيخين ... إلخ؛ فيه نظر، بل هو قادح في صلاتهم؛ لأنَّ الآية إنَّما هي [13] في الدعاء خارج الصلاة لا فيها؛ للقرينة الدَّالة على ذلك؛ لأنَّه [14] فيها ممنوع منه، كما لا يخفى.
وظاهر الحديث يدل على أنَّ العمل الكثير والخطوات في الصلاة لا تبطلها، واختلف في ذلك، ومذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين أنَّ العمل الكثير يبطل الصلاة، وكذا المشي فيها خطوات.
واختلف أيضًا في العمل الكثير؛ فظاهر الرواية عن الإمام الأعظم: أنَّه مفوض لرأي المصلي، فإن رآه كثيرًا؛ فكثير، وإن قليلًا؛ فقليل، وقيل: إنَّه ما استكثره الناظر، والقليل ما استقله، وقيل: إنَّه ما فعل ثلاث مرات متواليات في ركن واحد، وقد صححه غير واحد، وعلى هذا فالنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم رأى أنَّ هذا العمل قليل، وأنَّه غير مفسد، ولذلك بنى على صلاته وأتمها، ونقل النَّووي: أنَّ المشهور عن الشَّافعي أنَّ العمل الكثير يبطل الصلاة، وهو ثلاث حركات.
واعترضه الكرماني بأنَّ الذي رجحه في «التحقيق» أنَّها لا تبطل بذلك، واعترضه العجلوني بأنَّه ضعيف، بل الراجح أنَّها تبطل بالعمل الكثير وإن كان ناسيًا، انتهى.
قلت: قد نص الكرماني كلامه وعزاه إلى «التحقيق»، وأنَّه المرجح، وهو كتاب معتمد عندهم، ولعله قول
%ص 698%
الشَّافعي القديم، وهذا قوله في الجديد، وعلى كل حال؛ فهو مخالف للحديث؛ لأنَّ مشيه عليه السَّلام إلى الجذع ودخوله في منزله ومجيئه إلى المكان الأول هو زيادة على عشر حركات، كما لا يخفى.
وهذا الحديث قد تقدم في باب (التوجه نحو القبلة)، وسيأتي أيضًا إن شاء الله تعالى في باب (السَّهو) مع مزيد الكلام فيه، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (آخر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بسنتين)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (شعيب)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[5] في الأصل: (وولده)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (يرد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (فرقًا)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (السَّهوي).
[10] في الأصل: (السَّهوي).
[11] في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.
[12] في الأصل: (بفتح المهملتين)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[13] في الأصل: (هو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] زيد في الأصل: (في)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (آخر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بسنتين)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (شعيب)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[5] في الأصل: (وولده)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (يرد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (فرقًا)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (السَّهوي).
[10] في الأصل: (السَّهوي).
[11] في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.
[12] في الأصل: (بفتح المهملتين)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[13] في الأصل: (هو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (آخر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بسنتين)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (شعيب)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[5] في الأصل: (وولده)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (يرد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (فرقًا)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (السَّهوي).
[10] في الأصل: (السَّهوي).
[11] في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.
[12] في الأصل: (بفتح المهملتين)، والمثبت موافق لما في المصادر.
[13] في الأصل: (هو)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/807)
(89) [باب المساجد التي على طرق المدينة]
هذا (باب) بيان حكم الصلاة في (المساجد التي على طُرق)؛ بِضَمِّ الطاء المهملة، جمع طريق، ويجمع أيضًا على طرائق؛ وهو الشَّارع الموصل إلى (المدينة) المنورة، والمراد: الطرق التي يتوصل بها إلى المدينة من أيِّ ناحية كانت.
وزعم العجلوني: (أي: في نواحيها واقعة بينها وبين مكة) انتهى.
قلت: هذا ليس بقيد معتبر، بل هو تقييد من عنده، والمراد به الأعم، وهو ظاهر التَّرجمة؛ فافهم.
و (المدينة) تسمى أيضًا: طَيبة _بفتح الطاء المهملة_، وهو اسم من أسمائها، وقد روي: أنَّ لها في التوراة أحد عشر اسمًا، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، وكانت قبل الإسلام تسمى بـ (يثرب)؛ باسم رجل من العماليق؛ قبيلة منسوبة إلى عملاق كان يسكنها، فلما جاء الإسلام وسكنها النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ كره لها هذا الاسم؛ لما فيه من لفظ التثريب، فسماها: طَيبة، وقد جاء في القرآن لفظ (يثرب)، ولكن الله لم يسمِّها بذلك، وإنَّما قاله حكاية عن الكفار والمنافقين: {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13]، فنبه تعالى بما حكى عنهم أنَّهم قد رغبوا عن اسم سماها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوا إلا ما كانوا عليه من جاهليتهم، وقد سماها تعالى المدينة بقوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللهِ} [التوبة: 120]، وقد روي في معنى قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ}: أنَّه المدينة، وأنَّ {مخرج صِدْقٍ}: مكة، و {سُلْطَانًا نَّصِيرًا} [الإسراء: 80]: الأنصار، وقد وَرَد: (من سمى المدينة بـ «يثرب»؛ فليستغفر الله هي طابة هي طابة)، رواه أحمد ابن حنبل في «مسنده» عن البراء رضي الله عنه؛ فليحفظ.
قيل: وفي نسخة قبل باب (بسم الله الرحمن الرحيم).
قلت: الله أعلم بصحتها؛ لأنَّه ليس فيه استئناف كلام، بل هو ملحق بسابقه؛ فافهم.
وقوله: (والمواضع)؛ أي: وبيان حكم الصلاة في المواضع؛ أي: الأماكن (التي صلى فيها النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ولم تجعل مساجد، ثابت في أكثر الروايات، ساقط في بعضها، كما قاله إمامنا الشَّارح.
وتقديرنا: بيان حكم الصلاة؛ أولى وأظهر من تقدير صاحب «المنحة»: أي: باب مشروعية الصلاة فيها، وكذا أولى من تقدير العجلوني: (وذلك من حيث الصلاة فيها وبيانها) انتهى؛ لأنَّ الصلاة في هذه الأماكن والطرقات مشروعيتها معلومة من قوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، كما رواه المؤلف فيما سبق، وإنَّما المجهول حكم الصلاة فيها، فأراد المؤلف بما ترجم به بيان حكمها، فما زعمه في «المنحة» غير ظاهر.
وقول العجلوني: (وذلك ... ) إلى آخره: مقلق محتاج للبيان ولا معنى له؛ لأنَّ قوله: (من حيث الصلاة)؛ لم يبين ما معنى هذه الحيثية، فإن كان مراده جوازها؛ فهو ظاهر من الحديث السَّابق، وإن كان مراده مشروعيتها؛ فظاهر أيضًا منه.
وقوله: (وبيانها)؛ أي: بيان المواضع والطرقات، ففيه نظر ظاهر؛ لأنَّ المؤلف ليس مراده بيان ذلك، وليس في كلامه تعرض إليه، ولا إشارة عليه، وإنَّما مراده بيان حكم الصلاة في الطرق والأماكن؛ فافهم، ولا تكن من الغافلين.
==================
(1/808)
[حديث: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها]
483# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن أبي بكر المقدَّمي)؛ بتشديد الدَّال المهملة، اسم مفعول، نسبه لجده؛ لشهرته به؛ لأنَّه محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم البصري، المتوفى سنة أربع وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا فُضيل بن سُليمان)؛ بِضَمِّ أولهما مصغرين: هو النُميري _بضم النُّون_ البصري (قال: حدثنا موسى بن عُقْبَة)؛ بِضَمِّ العين المهملة وسكون القاف وفتح الموحَّدة: هو صاحب المغازي المشهور، ثقة، ولم يثبت أنَّ ابن معين ليَّنه، ذكره في «التقريب» (قال: رأيت سالم بن عبد الله) هو ابن عمر بن الخطاب القرشي المدني رضي الله عنهم (يتحرى)؛ أي: يجتهد ويقصد ويختار (أماكن): جمع مكان؛ وهو الموضع، ويجمع أيضًا على أمكنة، كما في «القاموس» (من الطريق): وهو مذكر ويؤنث، جمع أطرق، وطرق، وأطرقاء، وأطرقة، وطرائق: وهو الشَّارع الموصل إلى الشيء المقصود، والطرقة؛ بالضم: الظلمة والطمع، والمطاريق: القوم المشاة، وأطرق: سكت ولم يتكلم، وأرخى عينيه ينظر إلى الأرض (فيصلِّي فيها)؛ أي: الصلاة المفروضة أو النافلة، والظَّاهر الأول؛ لأنَّه كان مسافرًا؛ وهو لا يتنفل عادة، ويحتمل أنَّه يقصد الصلاة فيها، وعليه فالظَّاهر أنَّها النافلة، ويحتمل أنَّه يجمع بين الفرض والنفل فيها؛ فافهم، وسيأتي في الحديث الثاني في هذا الباب: أنَّه كان يصلِّي الظُّهر والصبح فيها (ويحدِّث)؛ بتشديد الدَّال المهملة؛ يعني: إذا سأله سائل: لِمَ خصصت هذه الأماكن بالصلاة؟ فيقول: (أنَّ أباه) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (كان يصلِّي فيها)؛ أي: في تلك الأماكن، وهذا ليس بجواب مخلص؛ لأنَّه مصدَّر بالتبعية للآباء، وإنَّما الجواب الواضح قوله: (وأنَّه)؛ أي: أباه عبد الله المذكور (رأى النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يصلِّي في تلك الأمكنة)؛ أي: الصلاة المفروضة، أو النافلة، أو كلاهما، وسيأتي في حديث الباب: أنَّه كان يصلِّي الظُّهر والصبح، فإنَّها أمكنة معظمة، وآثار مُعمَّرة، وتعظيمها إنَّما يكون بالصلاة فيها، فلهذا خصها عليه السَّلام بالصلاة بمحضر من ابن عمر وغيره من أصحابه، وهم أشد اتباعًا لآثاره وأفعاله عليه السَّلام.
وزعم العجلوني أنَّ لفظة (يصلِّي) ساقطة لابن عساكر، انتهى.
قلت: وإن كانت كذلك، لكنَّها مقدرة الوجود، ولا يصح المعنى إلا بها، كما لا يخفى؛ فافهم، وجمهور الرواة على وجودها ثابتة.
قال إمام الشَّارحين: (وأنَّه رأى) هذا مرسل من سالم إذ لم يتصل سنده، انتهى، وقال البرماوي: (إن كان الضمير لسالم؛ فمرسل) انتهى.
قلت: (وأنَّه) عطف على (ويحدِّث)؛ يعني: أنَّ سالمًا يحدَّث: أنَّ أباه رأى النَّبي عليه السَّلام يصلِّي، فلا يلزم من كونه مرسلًا أن يكون الضمير لسالم، بل الضمير راجع إلى أبيه عبد الله، ومع هذا فهو مرسل؛ لأنَّ قوله: (وأنَّه) معطوف على قوله: (ويحدِّث) كما ذكرنا؛ فافهم ذلك ولا تكن من الغافلين.
(وحدَّثني) بالإفراد (نافع) هو مولى ابن عمر، القائل ذلك هو موسى بن عقبة، وهو عطف على (رأيت)؛ أي: قال موسى: وحدثني ... إلخ، قاله إمام الشَّارحين.
وفي «المنحة»: (وفي نسخة قبل «وحدثني»: «ح»، فهو من كلام البخاري فيكون تعليقًا) انتهى.
قلت: قدَّمنا أنَّ إمام الشَّارحين قال: (القائل ذلك هو موسى)، ومثله في «الكرماني»، و «ابن حجر»، وغيرهما، ولم يتعرض أحد لهذه النُّسخة، فالله أعلم بصحتها.
وزعم ابن حجر أنَّه لم يسق البخاري [لفظ] فُضيل بن سُليمان، بل ساق لفظ أنس بن عياض، وكأنَّه اعتمده؛ لأنَّه أتقن من فُضيل، انتهى.
قلت: لا يلزم من سوقه [لفظ] أنس كونه أتقن من فضيل؛ لأنَّه أيضًا متقن ثبت، بل إنَّما ساق ذلك لأجل التفنن في السند، وذكر أشياخه كما هي عادته في أبوابه؛ فليحفظ.
(عن ابن عمر) هو عبد الله رضي الله عنهما (أنَّه) أي: ابن عمر (كان يصلِّي في تلك الأمكنة)؛ أي: لِمَا رآه من صلاته عليه السَّلام فيها، ففيه المطابقة للتَّرجمة.
وقوله: (وسألت سالمًا) أي: ابن عبد الله بن عمر، عطف على قوله: (رأيت)، فهو من كلام موسى بن عقبة (ولا أعلمه إلا وافق نافعًا) أي: مولى ابن عمر (في الأمكنة) أي: المواضع (كلها)؛ أي: التي حول المدينة، التي صلى فيها النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (إلَّا أنَّهما) أي: سالمًا ونافعًا (اختلفا في مسجد)؛ أي: هل صلى فيه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم
%ص 699%
أم لا؟ وهو الذي (بشرف)؛ بفتح المعجمة والرَّاء، آخره فاء: المكان العالي (الرَّوْحاء)؛ بفتح الرَّاء، وسكون الواو، آخره حاء مهملة، وبالمد: هي قرية جامعة لمزينة على ليلتين من المدينة، بينهما أحد وأربعون ميلًا، قاله البكري، وسميت روحاء؛ لكثرة رواحها، وفيها بناء يزعمون أنَّه قبر مضر بن نزار، قاله كثير، والنسب إليها: روحائي على غير قياس، وقد قيل: روحاوي على القياس، قاله أبو عبيد، والرَّوحاء: أربعة برد إلا ثلاثة أميال، قاله الزمخشري.
وثبت في «صحيح مسلم» في باب (الآذان): أنَّ بينها وبين المدينة ستة وثلاثون ميلًا.
وعند ابن أبي شيبة: على ثلاثين ميلًا.
وقال ابن قرقول: هي من عمل الفرع على نحو أربعين ميلًا من المدينة.
وقال أبو عبيد: روى نافع عن مولاه: أنَّ بهذا الموضع المسجد الصغير دون الموضع الذي بالشرف، قال: وروى أصحاب الزهري عنه، عن حنظلة بن علي، عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده؛ ليهلنَّ ابن مريم بفج الرَّوحاء حاجًّا أو معتمرًا أو ليثنينهما»، وفي رواية الأعرج عن أبي هريرة مثله.
وروى غير واحد: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال _وقد وصل المسجد الذي ببطن الروحاء عند عرق الظبية_: «هذا واد من أودية الجنة، وصلى في هذا الوادي قبلي سبعون نبيًّا عليهم السَّلام، وقد مر به موسى بن عمران حاجًّا أو معتمرًا في سبعين ألفًا من بني إسرائيل على ناقة له ورقاء عليها عباءتان قطويتان يلبي».
وحاصله: أنَّ ابن عمر كان يتبرك بهذه الأماكن المذكورة، فيصلِّي فيها، وتشديده بالإتباع مشهور، ولا يعارضه ما ثبت عن عمر بن الخطاب أنَّه كان في سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه، ويصلُّون فيه، ويقولون: صلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم فيه، فقال: «من عرضت له الصلاة؛ فليصلِّ، وإلا؛ فليمض، فإنَّما أهلك أهل الكتاب أنَّهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا»؛ لأنَّ ذلك محمول من عمر رضي الله عنه على أنَّه كره زيارتهم لمثلها بغير صلاة، وخشي أن يشكل على من لا يعرف حقيقة الأمر فيه، فيلتزم الناس الصلاة فيه، فيرى الناس ذلك واجبًا، وكلا الأمرين مأمون على ابن عمر، وكان يتبرك بتلك الأماكن، فالتبرك بآثار الصالحين ثابت، وفي «الصَّحيح» كما سبق صلاته عليه السَّلام في موضع من بيت عتبان؛ ليتخذه مصلى وغير ذلك، انتهى أفاده إمام الشَّارحين بزيادة.
==================
(1/809)
[حديث: أن رسول الله كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر]
484# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إبراهيم بن المنذِر)؛ بكسر الذَّال المعجمة: هو الحزامي المدني _بالزاي المعجمة_ نسبة إلى أحد أجداده، فإنَّه إبراهيم بن المنذِر بن عبد الله بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد الصمد بن قصي المديني، المتوفى سنة ست وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا أنس بن عِياض)؛ بكسر العين المهملة: هو المدني، المتوفى سنة ثمانين ومئة.
(قال: حدثنا موسى بن عقبة) هو صاحب المغازي، المدني المشهور الثِّقة، (عن نافع) هو أبو عبد الله المدني التَّابعي مولى ابن عمر رضي الله عنهما، المتوفى سنة عشرين ومئة: (أنَّ عبد الله)؛ بفتح الهمزة؛ زاد الأصيلي: (يعني: ابن عمر)، ولأبوي ذر والوقت: (أنَّ عبد الله بن عمر) هو ابن الخطاب القرشي المدني رضي الله عنهما (أخبره) أي: أخبر نافعًا (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الهمزة (كان) أتى بها لإفادة الدوام والاستمرار (ينزل بذي الحُلَيفة)؛ بِضَمِّ الحاء المهملة، وفتح اللَّام؛ وهو الميقات المشهور لأهل المدينة، وهو من المدينة على أربعة أميال، ومن مكة على مئتي ميل غير ميلين، وزعم الكرماني بينها وبين المدينة ميل أو ميلان، والميل: ثلث فرسخ، وهو أربعة آلاف ذراع ومنها إلى مكة عشر مراحل، وزعم ابن التين أنَّها أبعد المواقيت من مكة؛ تعظيمًا لأجر النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كذا في «عمدة القاري»، (حين يعتمر، وفي حجته حين حج)؛ أي: حجة الوداع، قيل: وفي نسخة: (حين يحج)، وعلى الأولى شرح إمام الشَّارحين، وقال: (إنَّما قال في العمرة بلفظ المضارع، وفي الحج بلفظ الماضي؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يحج إلا مرة واحدة، وتكررت منه العمرة) انتهى، وتبعه ابن حجر وغيره.
وزعم الكرماني أنَّ المضارع قد يفيد الاستمرار.
وردَّه إمامنا الشَّارح: (بأنَّ الماضي أقوى في إفادة الاستمرار من المضارع؛ لأنَّ الماضي قد مضى واستقر بخلاف المضارع) انتهى.
واعترضه ابن حجر تعصبًا بأنَّ من يستدل على الاستمرار بالاستقرار، فما له ولتعقيب كلام الناس؟ انتهى.
قلت: انظر إلى هذا الكلام الذي لا يصدر من ذوي الأفهام، والحال أنَّه لم يستدل بذلك، وإنَّما ذكر المعنى الذي يفيده اللَّفظ في الكلام على القواعد الموضوعة للنحاة الموافقة للمرام، وإنَّما قال ذلك في تعقيب كلام الناس عدم فهمهم الكلام بالمعاني والأساس.
ويدل على صحة ما قاله إمامنا الشَّارح أنَّ لفظ (كان) يفيد الدوام والاستمرار في الألفاظ المطلقة، ثم عبر بالعمرة بالمضارع المطلق، فأفاد التكرار، وعبر بالحج _في قوله: (وفي حجته)؛ أي: التي حجها، وهي حجة الوادع_ بالماضي المقيد، فأفاد عدم التكرار، والوقوع مرة واحدة، وهذا ظاهر اللَّفظ؛ فليحفظ، ولا عليك من لقلقة اللسان بغير حجة وبرهان؛ فافهم.
والنُّسخة الثانية الله أعلم بصحتها، ولم ينقلها أحد من الشراح غير العجلوني ذكرها ولم يَعزُها لأحد من الرواة، وهو نقل أوهى من بيت العنكبوت؛ لأنَّه من غير برهان ولا نعوت؛ فافهم.
(تحت سَمُرة)؛ بفتح السين المهملة، وضم الميم: وهي شجرة الطلح، وهو عظام الأشجار التي لها شوك، وتعرف عند الناس: بأم غيلان، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهي كثيرة في البساتين في ديارنا الشريفة الشامية، وتوضع في الحدود بينها؛ لأنَّها تُعمَّر كثيرًا كما يعهد من حالها.
(في موضع المسجد الذي بذي الحليفة) قيل: وفي نسخة: (الذي كان بذي الحليفة)، وهذا موضع التَّرجمة، ولهذا قال إمامنا الشَّارح: (ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة في الفصلين) انتهى، (وكان إذا رجع من غزوة)؛ بالتأنيث، وفي رواية: بحذف التَّاء؛ (وكان [1] في تلك الطريق)؛ أي: طريق ذي الحليفة، والجملة حالية بالواو، وفي رواية: بحذف الواو، فهي صفة
%ص 700%
للغزو، ووجه التذكير في (كان) باعتبار السفر، ويجوز أن يرجع الضمير فيه للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، قاله إمامنا الشَّارح، وما شرحنا عليه هو رواية الأصيلي وأبي ذر عن الحموي والمستملي، (غزوة وكان) بالتَّاء والواو، وعليها شرح إمام الشَّارحين، (أو حج أو عمرة هبط من بطن واد) هو وادي العقيق، وسقط كلمة (من) لأبوي ذر والوقت، وعند ابن عساكر: (هبط من ظهر واد)، والهبوط: النزول من الأعلى إلى الأسفل، وإنَّما لم يؤخر لفظ: (كان) في تلك الطريق عن الحج والعمرة؛ لأنَّهما لم يكونا إلا من تلك الطريق، (فإذا ظهر من بطن واد)؛ أي: علا في أعلاه وارتفع في وادي العقيق المذكور؛ (أناخ)؛ أي: أقعد راحلته، وهو جواب (إذا) (بالبطحاء) هو تراب لين السيول، والجمع: بطحاوات وبطاح، فإن اتسع وعرض؛ فهو الأبطح، والجمع: الأباطح، كما في «المحكم»،وقال بعضهم: الأبطح: لا ينبت [2] شيئًا، إنَّما هو بطن الوادي، وفي «الجامع»: (الأبطح والبطحاء والبطاح: الرمل المنبسط على وجه الأرض)، وفي «الواعي»: (البطحاء: حصى ورمل ينقل من مسيل الماء)، وقال النَّضر بن شميل: (بطحاء الوادي وأبطحه: حصاة اللين)، وقال أبو سليمان: (هي حجارة ورمل)، وقال الدَّاودي: (البطحاء: كل أرض منحدرة)، وفي «المنتهى»: (الأبطح: مسيل واسع، فيها دقاق الحصى، والجمع: الأباطح، وكذلك البطحاء)، وفي «الصِّحاح»: البطاح: على غير قياس، والبطيحة؛ مثل: الأبطح، كذا في «عمدة القاري».
(التي على شَفير الوادي)؛ بفتح الشين المعجمة؛ أي: طرفه، وقال ابن سيده: (شفير الوادي وشفره: ناحيته من أعلاه) (الشرقيةِ) بالجر: صفة (البطحاء)، (فعرَّس)؛ بتشديد الرَّاء، قال الأصمعي: (عرَّس المسافرون تعريسًا؛ إذا نزلوا نزلة في وجه السحر، وأناخوا إبلهم فروحوها ساعة حتى يرجع إليها أنفسها)، وعن أبي زيد: (عرَّس القوم تعريسًا في المنزل حيث نزلوا بأيِّ حينٍ كان من ليل أو نهار)، وفي «المحكم»: (المعرس: الذي يسير نهاره، ويعرِّس؛ أي: ينزل أول الليل)، وفي «الصِّحاح»: (أعرسوا لغة فيه قليلة، والموضع: مِعرس ومَعرس)، وفي «الغريبين»
==================
[1] في الأصل: (كان)، وأُثبتت الواو؛ لأنه شرح عليها.
[2] في الأصل: (يثبت)، ولعله تحريف.
(التعريس: نومة المسافر بعد إدلاج الليل)، وفي «المغيث»: (عرَّس؛ أي: نزل للنوم والاستراحة، والتعريس: النزول لغير إقامة)، أفاده إمام الشَّارحين.
قلت: وحاصله: أنَّ التعريس: نزول استراحة، وأكثره في آخر الليل، وخصَّه الأصمعي: بآخر الليل، وأطلق فيه أبو زيد؛ فليحفظ.
(ثَمَّ)؛ بفتح المثلَّثة، وتشديد الميم: اسم إشارة للمكان البعيد؛ أي: هنالك (حتى يُصبح)؛ بِضَمِّ المثناة التحتية؛ أي: يدخل في الصباح، وهي تامة لا تحتاج إلى الخبر، واستغنت بمرفوعها (ليس عند المسجد الذي بحجارةٍ، ولا على الأكَمة)؛ بفتح الهمزة والكاف: هي التل من القف من حجارة واحدة، قاله ابن سيده، وقيل: هي دون الجبال، وقيل: هي الموضع الذي قد اشتد ارتفاعًا مما حوله، وهو غليظ لا يبلغ أن يكون حجرًا، والجمع: أَكَم، وأُكُم، وأُكْم، وإكام، وآكام، وآكُم؛ كأَفْلُس، الأخيرة عن ابن جني، وفي «الواعي»: (الآكام: دون الضراب)، وفي «الصِّحاح»: (والجمع: أكمات، وجمع الأكم: آكام؛ مثل: عنق وأعناق) انتهى.
والحاصل: أنَّه يجمع على (أَكَم)؛ بفتحات؛ وهو على (إِكام)؛ بكسر الهمزة _كجبل وجبال [4]_؛ وهو على (أُكُم)؛ بضمتين _نحو: كِتَاب وكُتُب_؛ وهو على (آكام)؛ كعُنُق وأعناق؛ فافهم.
(التي عليها المسجد، كان ثَمَّ)؛ بفتح المثلَّثة، وتشديد الميم: اسم إشارة للمكان البعيد؛ أي: هنالك (خَلِيج)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللَّام، آخره جيم: واد عميق ينشق من آخر أعظم منه، قاله ابن التِّين، وفي «المنتهى»: (هو شرم من البحر اختلج منه، والخليج [5]: النهر العظيم، والجمع: خلجان، وربما قيل للنهر الصغير يخلج من النهر الكبير: خليج)، وفي «المحكم»: الخليج: ما انقطع من معظم الماء؛ لأنَّه يجبذ منه، وقد اختلج، وقيل: الخليج: شعبة تتشعب من الوادي تعير بعض مائه إلى مكان آخر، والجمع: خلج وخلجان، وقال الإمام الزمخشري: (جبل خليج: أحد جبال مكة) انتهى، (يصلِّي)؛ بتحتية أوله، وفي رواية: (فصلى) (عبد الله) أي: ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (عنده) أي: عند الخليج المذكور (في بطنه) أي: وسطه (كُثُب)؛ بِضَمِّ الكاف وضم الثَّاء المثلَّثة، جمع كثيب؛ هو رمل اجتمع وكل ما اجتمع من شيء وانهار؛ فقد انكثب فيه، ومنه اشتق: الكثيب من الرمل؛ في معنى: مكثوب؛ لأنَّه انصب في مكان واجتمع فيه، والجمع: كثبان؛ وهي تلال من رمل، قاله أبو المعالي، وفي «المحكم»: (الكثيب من الرمل: القطعة تبقى محدودبة، وقيل: هو ما اجتمع واحدودب، والجمع: أكثبة وكثب)، وفي «الجامع»: (إنَّما سمي كثيبًا؛ لأنَّ ترابه دقاق كأنَّه مكثوب؛ أي: منثور بعضه على بعض؛ لرخاوته)، كذا في «عمدة القاري».
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقوله: (ثَمَّ)؛ بفتح المثلَّثة؛ أي: هنالك، متعلق بقوله: (يصلِّي)، وهذا مرسل من نافع، كما قاله إمام الشَّارحين وغيره، (فدحا): الفاء للعطف، و (دحا)؛ بالدَّال والحاء المهملتين، مبنيًّا للفاعل، من الدحو؛ وهو البسط، يقال: دحا يدحوويدحى دحوًا، قاله ابن سيده، وفي «الغريبين»: كل شيء بسطته ووسعته؛ فقد دحوته، ومنه قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]؛ أي: بسطها ووسعها؛ للوقوف بها عند فصل القضاء، وبهذا تعلم فساد تفسير العجلوني: الدحي: بالرفع، فإنَّه غير موافق للُّغة ولا للقرآن العظيم؛ فافهم، بل هو تفسير من عنده، وهو غير مقبول، (السيل)؛ أي: المطر النازل من الجبال (فيه)، ولأبي ذر: (فدحا فيه السيل) (بالبطحاء): متعلق بـ (دحا)، وفي رواية الإسماعيلي: (فدخل)؛ بالخاء المعجمة واللَّام، وفي رواية: (قد جاء)؛ بكلمة (قد) للتحقيق، وكلمة (جاء) من المجيء فهما كلمتان؛ فليحفظ، (حتى دَفن)؛ بالبناء للفاعل؛ أي: السيل، قيل: وفي رواية: بالبناء للمفعول، فنائبه قوله: (ذلك المكان الذي كان عبد الله) أي: ابن عمر (يصلِّي فيه)؛ أي: غيَّبه وغيَّر صفته، فلم يظهر بعد ذلك.
(وأنَّ)؛ بفتح الهمزة، معطوف على قوله: (أنَّ عبد الله أخبره) (عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب (حدَّثه)؛ أي: حدَّث نافعًا مولاه، وهو من قول موسى بن عقبة، فهو موصول بالإسناد السَّابق، وهذا يجري في نظائره، وقال الكرماني: إنَّما قال في الأول: «أنَّ عبد الله أخبره»، وفي المرات الآتية: «أنَّ عبد الله حدَّثه»؛ للفرق عند بعضهم بأنَّ الإخبار: القراءة على الشيخ، والتحديث: قراءة الشيخ.
واعترضه العجلوني بأنَّ الظَّاهر أنَّهما بمعنًى، انتهى.
قلت: قد سبق ذلك في باب (العلم)، وأنَّ مذهب الجمهور _ومنهم المؤلف_ على أنَّه لا فرق بين (حدثنا)، و (أخبرنا)، و (أنبأنا)، وأنَّها بمعنًى، وبه قال ابن عيينة، والأئمة الكوفيون، ومالك، والحسن البصري، ويحيى القطان، وأهل الحجاز، فإذا كان هذا مذهب الجمهور؛ فكيف يدعي أنَّه الظَّاهر، فإنَّ الظَّاهر يقال
%ص 701%
في أحد قولين مرجحين، بل في قول قوي وقول ضعيف؛ لأنَّ الفرق قول ضعيف عند أهل النَّظر، وأمَّا المؤلف ههنا؛ فلم ينظر لهذا حتى زعم الكرماني ما زعم، بل إمَّا للتفنن في العبارة، أو ساق اللَّفظ بعينه، وإنَّما مذهبه عدم الفرق، كما ترجم به بباب مستقل؛ فافهم ولا تكن من الغافلين.
(أنَّ النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم صلى) أي: الفرض والنفل جميعًا (حيث) بالمهملة والمثلَّثة (المسجد الصغير): نعت لـ (المسجد)، وفي رواية: (صلى جَنْب)؛ بالجيم والنُّون والموحَّدة، وعلى الأولى؛ (المسجدُ): مرفوع خبر مبتدأ محذوف، و (الصغيرُ): مرفوع نعت له؛ لأنَّ (حيث) لا تضاف إلا إلى الجملة على الأصح؛ وتقديره: حيث هو بالمسجد ونحوه، وعلى الثانية؛ مجرور بالإضافة، و (الصغير): نعت له مجرور، أفاده الشَّارح.
(الذي دون المسجد)؛ أي: أنزل من المسجد (الذي بشرف) أي: أعلى (الروحاء)؛ بالمد: قرية جامعة على ليلتين من المدينة، وهي آخر السيالة للمتوجه إلى مكة والمسجد الأوسط في الوادي المعروف الآن بوادي بني سالم، (وقد كان عبد الله) أي: ابن عمر بن الخطاب (يُعلِّم)؛ بِضَمِّ التحتية أوله، من (أعلم) من العلامة في رواية أبوي ذر والوقت، وفي رواية غيرهما: (يَعلم)؛ بفتح التحتية من العِلْم، وفي رواية: (تَعلَّم)؛ بفتح الفوقية، وتشديد اللَّام المفتوحة (المكان الذي كان) وسقطت (كان) لابن عساكر (صلى فيه النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: صلاته الفرض والنفل جميعًا بمحضر من ابن عمر وغيره من الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين (يقول) أي: ابن عمر: (ثَمَّ)؛ بفتح المثلَّثة؛ أي: هنالك (عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافَة)؛ بتخفيف الفاء؛ أي: على جانب (الطريق)؛ أي: الشَّارع، وحافتا الوادي: جانباه (اليمنى): صفة لـ (حافَة)؛ أي: لا اليسرى، وقوله: (وأنت ذاهب إلى مكة): صفة لقوله: (حافَة) (بينه) أي: بين هذا المسجد (وبين المسجد الأكبر رمية حجر أو نحو ذلك)؛ أي: مقدار مسافة ذلك.
(وأنَّ) بفتح الهمزة معطوف على سابقه (ابن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهمابالإسناد المذكور، فهو من قول موسى بن عقبة (كان يصلِّي إلى العِرْق)؛ بكسر العين المهملة وسكون الرَّاء المهملة، وبالقاف؛ أي: عرق الظبية، وقال أبو منصور: (العِرْق: الجبل الصغير، ويقال أيضًا للأرض الملح التي لا تنبت)، وقال أبو عبيد: (هو واد معروف)، وقال ابن فارس: (ينبت الطرفاء، وقيل: ينبت الشجر)، وقال الخليل: (العِرْق: الجَبْل الرقيق من الرمل المستطيل مع الأرض)، وقال الدَّاودي: (هو المكان المرتفع)، أفاده في «عمدة القاري»، (الذي كان عند منصرَف الرَّوحاء)؛ بفتح الرَّاء المهملة فيهما مع [المد] في الثاني؛ وهي القرية الجامعة على ليلتين من المدينة؛ يعني: عند آخر الرَّوحاء (وذلك العِرْق انتهاء)؛ بالمد (طرفه
==================
[4] في الأصل: (وإجبال)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (والخلج)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] على حافَة)؛ أي: جانب (الطريق)، ولأبي ذر عن الكشميهني: (انتهى طرفه)؛ بالقصر، فعل وفاعل (دون المسجد الذي بينه وبين المنصرَف)؛ بفتح الرَّاء؛ أي: أنزل منه (وأنت ذاهب إلى مكة وقد ابتُني)؛ بِضَمِّ المثناة فوق على صيغة المجهول من الماضي (ثَمَّ)؛ بالمثلَّثة، متعلق به؛ أي: هنالك (مسجد) يحتمل أنَّ الباني له أحد من قريش من الجاهلية ممن يعبد الأصنام، ويشرك بالله غيره، ويدل على هذا قوله: (فلم يكن عبد الله) زاد الأصيلي: (ابن عمر) (يصلِّي في ذلك المسجد)؛ لعله لما فيه من الصور والأصنام كما ذكرنا، فلا وجه لقول العجلوني: (ولينظر من الباني له؟)؛ لأنَّه لا شك أنَّ الباني غير مسلم، بل مشرك أو منافق، ولهذا قال: (وكان) أي: ابن عمر، وللأصيلي: بإسقاط الواو (يتركه على يساره وورائه)؛ بالجر عطفًا على (يساره)، وبالنصب على الظرفية؛ بتقدير: (في) ظرفًا (يصلِّي) أي: ابن عمر (أمامه) أي: قدام المسجد (إلى العِرْق نفسه) أي: عرق الظبية، (وكان عبد الله) أي: ابن عمر (يروح) أي: يمر (من الرَّوحاء) بالمد (فلا يصلِّي الظُّهر حتى يأتي ذلك المكان فيصلِّي فيه الظُّهر) أي: اتباعًا حيث الوقت متسع، (وإذا أقبَل) بفتح الموحَّدة (من مكة فإن مرَّ) بتشديد الرَّاء (به) أي: بذلك المكان (قبْل) بسكون الموحَّدة (الصبح) أي: طلوع الفجر الصَّادق (بساعة): يحتمل أنَّها اللحظة والحصة من الزمان، ويحتمل الساعة المعلومة، وهي خمس عشرة درجة، (أو من آخر السحر): وهو عبارة عما بين الفجر الكاذب والصَّادق، والفرق بين العبارتين_أعني: قوله: (قبل الصبح بساعة)، وقوله: (آخر السحر) _ هو أنَّه أراد بـ (آخر السحر): أقل من ساعة، وأراد الإبهام؛ ليتناول قدر الساعة وأقل وأكثر منها، قاله الشَّارح في «عمدة القاري»، (عرَّس)؛ بتشديد الرَّاء، جواب (أنَّ)؛ أي: نزل للاستراحة في ذلك الوقت (حتى يصلِّي بها الصبح)؛ أي: بمكة؛ لفضل الصلاة فيها.
(وأنَّ) بفتح الهمزة، معطوف على سابقه (عبد الله) أي: ابن عمر (حدَّثه)؛ أي: حدَّث نافعًا بالإسناد المذكور، فهو موصول: (أنَّ النَّبي) الأعظم، ولابن عساكر: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحت سَرْحَة)؛ بفتح السين المهملة، وسكون الرَّاء، وفتح الحاء المهملة: وهو شجر عظام طوال (ضخمة)؛ أي: عظيمة، وقال أبو زيد: السَّرْح من العضاه، واحدته: سَرْحَة، والسَّرْح: طوال في السَّماء، وقد تكون السَّرْحة دوحة محلالًا [7] واسعة، يحل تحتها الناس في الصيف، ويبنون تحتها البيوت، وقد تكون منه العشة القليلة الفروع والورق، وللسرح عنب يسمى آءُ، واحدته: آءة، يأكله الناس أبيض، ويرببون منه الرب، ورقته صغيرة عريضة، تأكله الماشية لو تقدر عليه ولكن لا تقدر؛ لطوله، ولا صمغ له، ولا منفعة فيه أكثر من هذا إلَّا أنَّ ظله صالح، ومن ذلك قال الشاعر:
فيا سَرْحَة الركبان ظلك بارد ... وماؤك عذب لا يحل لشارب
وليس للسرح شوك، وقال أبو عمرو: السَّرْح يشبه الزيتون، وروى الفراء عن أبي الهيثم: أنَّ كل شجرة لا شوك فيها؛ فهي سَرْحَة، يقال: ذهب إلى السَّرْح؛ وهو السهل من كل شيء، وأخبرني أعرابي: أنَّ في السَّرْحة غبرة، وهي دون الأثل في الطول، وورقها صغار، وهي سبطة الأفنان [8]، وهي مائلة النبتة أبدًا، وميلها من بين جميع الشجر في شق اليمين، ولم أبل عليه كذبًا، وزعم بعضهم أنَّ السَّرْح من نبات القف، وقيل: من نبات السهل، وهو قول الأصمعي، وفي «المطالع»: (قيل: هي الدِّفلى)، وقال أبو علي: (هو نبت، يقال لها: هدب، وليس لها ورق، وهو يشبه الصوف)، قاله إمام الشَّارحين.
==================
[7] في الأصل: (مجلالًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (الأقنان)، وهو تصحيف.
(دون الرُّوَيْثَة)؛ أي: تحتها أو قريب منها، وهي بِضَمِّ الرَّاء، وفتح الواو، مع سكون التحتية، وفتح المثلَّثة
%ص 702%
على لفظ التصغير؛ وهي قرية جامعة بينها وبين المدينة سبعة عشر فرسخًا، ومن الرُّوَيْثَة إلى السقيا عشرة فراسخ، وعقبة العرج على أحد عشر ميلًا من الرُّوَيثة، وبينها وبين العرج ثلاثة أميال، وهي غير الرُّويثة؛ ماء لبني عجل بين طريق الكوفة والبصرة، ذكره ياقوت، كما في «عمدة القاري».
وقال الكرماني: (وفي بعض النُّسخ: «الرَّقْشة»؛ بفتح الرَّاء، وسكون القاف، وإعجام الشين)، وزعم الخطابي أنَّه اسم موضع، وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّ البكري لم يذكر إلا الرقاش، وقال: هو بلد) انتهى.
قلت: وليس هناك بلاد ولا بلد تسمى بالرَّقشة، ولا موضع يسمى بهذا الاسم، فالظَّاهر أنَّه تصحيف.
وقال القاضي عياض: («دون الرُّوَيثة» تصحيف، والصَّواب: بعواسج عن يمينك)، قال العجلوني: (إن ثبتت به الرواية؛ فهو أولى) انتهى.
قلت: الرواة كلهم على الأول، ولم يذكر أحد منهم ذلك أصلًا، ولئن ثبت؛ فهو ليس بأولى؛ لأنَّ المكان جامع لقرًى شتى، ولم يتبين المكان بعينه، بل إنَّما وقعت القصة من نزوله عليه السَّلام عند الشجرة، وهي بين القرى، وأقربها قرية الرويثة، فلا عليك من كلام القاضي والعجلوني؛ فافهم.
(عن يمين الطريق) أي: لا عن شماله (ووُجاه)؛ بِضَمِّ الواو وكسرها؛ بمعنى: تجاه (الطريق)؛ أي: مقابلها، و (وجاه)؛ بالجر عطفًا على (يمين)، أو بالنصب على الظرفية (في مكان بَطِح)؛ بفتح الموحَّدة، وكسر الطاء المهملة وبسكونها؛ أي: واسع (سهل) أي: لا وعر فيه ولا حجارة (حتى)؛ بالمثناة فوق، وللأصيلي وأبي ذر: (حين)؛ بالتحتية والنُّون (يُفضي)؛ بِضَمِّ أوله التحتية وبالفاء، من الإفضاء؛ بمعنى الخروج، يقال: أفضيت؛ إذا خرجت إلى الفضاء، أو بمعنى الدفع؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198]، أو بمعنى الوصول، والضمير في (يفضي) يرجع إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يرجع إلى المكان، كذا قرره إمام الشَّارحين.
وقال الكرماني: (وفي بعض النُّسخ بلفظ الخطاب) انتهى.
قلت: لم يعزها لأحد من الرواة، فالله أعلم بصحتها.
(من أَكَمة)؛ بفتح الهمزة والكاف؛ وهي التل العالي كما تقدم (دُوين)؛ بِضَمِّ الدَّال المهملة، مصغر الدُّون، وهو نقيض الفوق، ويقال: هو دون ذاك؛ أي: أقرب منه (بريد) هو المرتب واحدًا بعد واحد، والمراد به: موضع البريد، وقيل: المراد به: سكة الطريق (الرُّوَيثة) وسقط (البريد) لابن عساكر (بميلين)؛ يعني: بينه وبين المكان الذي ينزل فيه البريد بالرُّويثة ميلان، (وقد انكسر أعلاها)؛ أي: السَّرْحة، (فانثَنى)؛ بفتح المثلَّثة على صيغة المعلوم من الماضي؛ ومعناه: انعطف (في جوفها) أي: السَّرْحة (وهي قائمة على ساق)؛ أي: كالبنيان ليست متسعة من أسفل، ولا ضيقة من فوق (وفي ساقها كُثُب)؛ بضمتين، جمع كثيب؛ وهو الرمل المجتمع تلال كثيرة.
(وأنَّ عبد الله بن عمر) بفتح الهمزة معطوف على سابقه (حدَّثه) أي: حدَّث نافعًا بالإسناد المتقدم (أنَّ النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم صلَّى) أي: الصبح أو غيره من فرض ونفل (في طرف تَلْعَة)؛ بفتح المثناة الفوقية، وسكون اللَّام، وفتح العين المهملة: هي أرض مرتفعة عريضة، يتردد فيها السيل، والتَّلْعَة: مجرى [9] الماء من أعلى الوادي، والتَّلعة: ما انهبط من الأرض، وقيل: هي مثل الرحبة، والجمع في كل ذلك: تلع وتلاع، وعن بعضهم: التَّلعة: أرض مرتفعة غليظة، وربما كانت على غلظها عريضة، وفي «الجامع»: (التَّلعة من الوادي: ما اتسع من فوقه، وقيل: هي مسيل من الأرض المرتفعة إلى بطن الوادي، فإن صغر عن ذلك؛ فهي شعبة، فإذا عَظُم فكان نصف الوادي؛ فهي الميثاء، قيل: والأصل في التَّلعة الارتفاع)، كذا في «عمدة القاري»، (من وراء العَرْج)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الرَّاء، ثم جيم: قرية جامعة على طريق مكة من المدينة، بينها وبين الرُّويثة أربعة عشر ميلًا، قال السكوني: (المسجد النَّبوي على خمسة أميال من العَرْج وأنت ذاهب إلى الهضبة، عندها قبران أو ثلاثة، عليها زحم حجارة، قال كثير: إنَّما سمي العَرْج لتعريجه، وبين العرج إلى السقيا سبعة عشر ميلًا)، وقال ياقوت: (العَرْج: قرية جامعة من نواحي الطَّائف، والعَرْج: عقبة بين مكة والمدينة على جادة الطريق، تذكر مع السقيا، وسوق [10] العَرْج: بلد بين المحالب والمهجم)، وقال الزمخشري: (العرج: واد بالطَّائف، والعرج أيضًا: منزل بين المدينة ومكة، وجاء فيه فتح الرَّاء أيضًا)، كذا قرره إمامنا الشَّارح.
(وأنت ذاهب إلى هَضْبَة)؛ بفتح الهاء، وسكون الضَّاد المعجمة، وفتح الموحَّدة؛ وهي الجبل المنبسط على وجه الأرض، وقال أبو زيد: (الهضبة من الجبال: ما طال واتسع وانفرد، وهي الهضبات والهضاب)، وعن سيبويه: (وقد قالوا: هضبة وهضب)، وقال صاحب «العين»: (الهضبة: كل جبل خلق من صخرة واحدة، وكل ضخرة ضخمة صلبة راسية تسمى هضبة)، وفي «الجامع»: (هي القطعة المرتفعة من أعلى الجبل)، وفي «المجمل»: (هي أكمة ملساء قليلة النبات)، وفي «المطالع»: (هي فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل) انتهى.
(عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة على القبور رَضْم)؛ بفتح الرَّاء وسكون الضَّاد المعجمة، وللأصيلي: (رَضَم)؛ بفتحها (من حجارة)، قال الشَّارح: (الرضم: الحجارة البيض [11]،والرضمة: الصخرة العظيمة مثل الجزور [12]، وليست بثابتة، والجمع: رضم ورضام، ورَضَمَ الحجارة: جعل بعضها على بعض، وكل بناء بني بصخر: رضيم، ذكره ابن سيده، وفي «الجامع»: (ومرضوم) انتهى، (عن يمين الطريق)؛ أي: لا عن يساره، ولم يذكر أحد من الشراح أسماء أصحاب هذه القبور، والظَّاهر أنَّهم من قريش من الجاهلية (عند سَلِمات الطريق)؛ بفتح السين المهملة وكسر اللَّام، كذا في رواية أبي ذر والأصيلي، وفي رواية الباقين: بفتح اللَّام، قيل: هي بالكسر: الصخرات، وبالفتح: الشجرات، وقال أبو زياد: (من العضاه السلم: وهو سليب العيدان طولًا، يشبه القضبان، ليس له خشب وإن عظم، وله شوك دقاق طوال، حار إذا أصاب رِجل الإنسان، وكل شيء من السلمة مُرُّ يدبغ)، وقال غيره: السلمة: أطيب العضاه ريحًا، وبرمتها أطيب البرم ريحًا، وهي صفراء تؤكل، وقيل: ليس شجرة أذرى من سلمة، ولم يوجد في ذرى سلمة صرد قط، ويجمع على أسلام، وأرض مسلوماء؛ إذا كانت كثيرة السلم، وفي «الجامع»: (ويجمع أيضًا على سلامى) انتهى.
(بين أولئك السَّلِمات) وفي بعض النُّسخ: (من أولئك)، وهي في النُّسخة الأولى ظاهر التعلق بما قبله، وفي الثانية بما بعده، قاله الشَّارح، ومثله في «الكرماني»، قال العجلوني: (فتأمله) انتهى.
قلت: لا وجه للتأمل فيه، فإنَّ كلامه ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم؛ فافهم.
(كان عبد الله) أي: ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (يروح) من الرواح؛ وهو الذهاب؛ يعني: يذهب (من العَرْج بعد أن تميل الشمس من الهاجرة): متعلق بـ (يروح)؛
%ص 703%
وهي نصف النهار عند اشتداد الحر، (فيصلي الظُّهر)؛ لأنَّ ميلان الشمس عن كبد السَّماء دخول وقت الظُّهر والجمعة (في ذلك المسجد)؛ أي: للإتباع.
(وأنَّ عبد الله بن عمر) أي: ابن الخطاب، بفتح الهمزة معطوف على سابقه (حدَّثه) أي: حدَّث نافعًا بالإسناد المذكور، فهو موصول (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل) أي: عن راحلته (عند سَرحات)؛ بفتح الرَّاء، وبالحاء المهملة، جمع: سَرْحة؛ بسكون الرَّاء؛ وهي الشجرة العظيمة الضخمة كما سبق (عن يسار الطريق) أي: لا عن يمينه (في مَسِيل)؛ بفتح الميم، وكسر المهملة: واد منحدر مجوَّف يجري فيه الماء النازل من الجبال (دون هَرْشَى)؛ بفتح الهاء، وسكون الرَّاء، وفتح الشين المعجمة، مقصور، على وزن (فَعلى): هو جبل من بلاد تهامة، وهو على ملتقى طريق الشام والمدينة في أرض مستوية هضبة ململمة لا تنبت شيئًا، وهي قرية قريبة من الجحفة يرى منها البحر، ويقرب منها طَفِيل؛ بفتح الطاء المهملة، وكسر الفاء، وهو جبل أسود، على الطريق من ثنية هرشى ثلاثة أودية: غزال، وذو ذروان، وكلية، وكلها لخزاعة، وبأعلى كلية ثلاثة أجبل صغار، يقال لها: سنابك، وغدير خم: واد يصب في البحر، وفي «الموعب»: (هرشى: ثنية قرية من الجحفة)، وقال الزمخشري: (هرشى: هضبة دون المدينة)، وقال علي: (هرشى: نقب في حرة [13] بين الأخيمص وبين السقيا على طريق المدينة، ويليه [14] جبال يقال لها: طوال هرشى)، وفي «المغيث»: (سميت هرشى لمهارشة كانت بينهم، والتهريش: الإفساد بين الناس)، كذا في «عمدة القاري».
==================
[9] في الأصل: (مجرد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (وتسوق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] تكرر في الأصل: (والرضمة).
[12] في الأصل: (الجرور)، وهو تصحيف.
[13] في الأصل: (حزة)، وهو تصحيف.
[14] في الأصل: (وأيلية)، ولعل المثبت هو الصواب.
(ذلك المسيل لاصق بكُراع هرشى)؛ بِضَمِّ الكاف؛ أي: طرفها، يقال: كراع الأرض وأكارعها: أطرافها، كما في «القاموس»؛ أي: متصل بأطرافها غير فاصل، وكراعها: ما يمتد منها دون سفحها (بينه) [15]؛ أي: بين كراع هرشى (وبين الطريق قريبٌ من غَلوة سهم)؛ بفتح الغين المعجمة: وهي الغاية مقدار رمية، كما في «الصِّحاح»، وفي «المغيث»: (لا تكون الغَلوة إلا مع تصعيد السهم)، وقال ابن سيده: غلا بالسهم غَلْوًا وغُلُوًّا، وغالى به غلاء: رفع به يده يريد أقصى الغاية، وهو من التجاوز، فرجل غلاء: بعيد الغلو بالسهم، وغَلَا السهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى؛ وكذلك الحجر، وكل مرماة: غلوة، والجمع: غلوات وغلًا، وقد تستعمل الغَلوة في سباق الخيل، وقال الفقهاء: الغَلوة: أربع مئة ذراع، كذا في «عمدة القاري».
قلت: الذي في «المغرب»، وكذا في «الذخيرة» و «المستصفى»: أنَّه ثلاث مئة ذراع إلى أربع مئة ذراع، لكن لما كانت الأربع مئة هي الغاية؛ عبَّر بها، والسهم: واحد النبل.
وقد نظم ابن الحاجب مقدار البريد، والفرسخ، والميل، والباع، والذراع فقال:
==================
[15] في الأصل: (بيته)، وهو تصحيف.
~إنَّ البريد من الفراسخ أربع ... ولفرسخ فثلاث أميال ضعوا
والميل ألف أي من الباعات قُلْ ... والباع أربع أذرع فتتبع
ثم الذراع من الأصابع أربع ... من بعدها العشرون ثم الأصبع
ست شعيرات فظهر شعيرة ... منها إلى بطن لأخرى [16] توضع
ثم الشعيرة ست شعرات فقل ... من شعر بغل ليس فيه موضع
وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصَّواب.
(وكان عبد الله بن عمر) أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما (يصلي إلى سَرْحة)؛ بفتح السين المهملة، وسكون الرَّاء، وفتح الحاء المهملة؛ أي: شجرة ضخمة عظيمة (هي أقرب السَّرحات) أي: الشجرات (إلى الطريق) أي: الشَّارع، (وهي) أي: تلك السرحة (أطولهن)؛ أي: أطول تلك السَّرحات الموجودات هناك.
==================
[16] في الأصل: (الأخرى)، والمثبت موافق للوزن.
(وأنَّ عبد الله بن عمر) بفتح الهمزة معطوف على سابقه (حدَّثه) أي: حدَّث نافعًا بالإسناد المذكور، فهو موصول (أنَّ النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم كان) أتى بها لإفادة الدوام والاستمرار (ينزل) أي: عن راحلته إذا كان في سفر أو في حضر (في المَسيل)؛ بفتح الميم: المكان المنحدر (الذي في أدنى مَرِّ الظَّهران)؛ أي: في الأقرب منه، و (مَرَّ)؛ بفتح الميم، وتشديد الرَّاء: قرية ذات نخل وثمار، وقال البكري: بفتح أوله وتشديد ثانيه، مضاف إلى (الظَّهران)؛ بظاء معجمة، وبين مَرٍّ والبيت ستة عشر ميلًا، قال إمام الشَّارحين: (هو الوادي الذي تسميه العامة بطن مَرْو؛ بسكون الرَّاء، بعدها واو)، وقال كثير: (سميت مرًّا لمرارة مائها)، وقال أبو غسان: (سميت بذلك؛ لأنَّ في بطن الوادي بين [17]
==================
[17] في الأصل: (بئر)، وهو تحريف.
[مر] ونخلة كتابةٌ بعِرْقٍ [18] من الأرض أبيضَ هجاء: «مر» إلا أنَّ الميم غير موصولة بالرَّاء، وببطن مَرٍّ تخزعت خزاعة عن أخواتها، فبقيت [18] في الأصل: (معرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
بمكة، وسارت أخواتها إلى الشام أيام سيل العرم)، وقال الزمخشري: (مر الظَّهران بتهامة قريب من عرفة)، وعن صاحب «العين»: (الظَّهران: من قولك: من ظهرهم)، وقال الفراء: (لم أسمع إلا تثنية الظَّهران، ولم يُجمَع ولم يُوحَّد)، كذا في «عمدة القاري»، (قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحَّدة؛ أي: مقابل (المدينة حين يهبط)، وفي رواية: (حتى [19] يهبط) أي: ينحدر (من الصَّفْراوات)؛ بفتح الصَّاد المهملة، وسكون الفاء، جمع صفراء؛ ممدود؛ وهي الأودية والجبال التي بعد مر الظَّهران، قاله إمام الشَّارحين، وزعم الكرماني: (وفي بعض النُّسخ: من وادي الصفراوات)؛ بزيادة (وادي)، (ينزل)؛ بالمثناة التحتية كما في (الفرع) وغيره، قاله القسطلاني، وقال إمام الشَّارحين: (تنزل)؛ بلفظ الخطاب؛ ليوافق قوله: (وأنت ذاهب إلى مكة)، وتبعه الكرماني وغيره، وكأنَّها رواية غير (الفرع)؛ فافهم، (ليس بين مَنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ بفتح الميم؛ أي: مكان نزوله عن راحلته أو للاستراحة (وبين الطريق إلا رمية حَجر)؛ بفتح الحاء المهملة بعدها جيم، واحد الأحجار؛ أي: مقدار رميته.
(وأنَّ عبد الله بن عمر) بفتح الهمزة معطوف على سابقه (حدَّثه) أي: حدَّث نافعًا بالإسناد المذكور سابقًا (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل)؛ أي: عن راحلته أو للاستراحة (بذي طُوى)؛ بِضَمِّ الطاء المهملة في رواية الأكثرين، وفي رواية الحموي والمستملي: (بذي الطِّواء)؛ بزيادة الألف واللَّام، وقيده الأصيلي بالكسر، وحكى عياض وغيره الفتح أيضًا، وزعم النَّووي: (ذو طَوَى؛ بالفتح على الأفصح، ويجوز ضمها وكسرها، وبفتح الواو المخففة، وفيه لغتان: الصرف وعدمه، وهي عند باب مكة بأسفلها)، وزعم الجوهري (ذو طُوى)؛ بالضم: موضع بمكة، وأمَّا طِوى؛ فهو اسم موضع بالشام تكسر طاؤه وتضم، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قلت: وما رواه الأصيلي بالكسر، قال القسطلاني: (إنَّها رواية أبي ذر عن الكشميهني أيضًا)، وما رواه الحموي وغيره: (بذي الطِّواء)؛ بزيادة (أل) مع كسر الطاء والمد، وفي رواية «الفرع» و «أصله»: (طَوى) بفتح الطاء، وليس فيه ضم الطاء ألبتة، كما قاله القسطلاني، وبهذا ظهر فساد ما زعمه العجلوني من أنَّ الذي في «الفرع»
%ص 704%
ضم الطاء؛ فافهم، فإنَّه غلط؛ فاجتنبه.
(ويَبيت)؛ بفتح التحتية، من البيتوتة؛ وهي المبيت ليلًا؛ أي: كان يفعل ذلك بذي طوى (حتى يصبح) أي: يطلع الفجر (يصلِّي الصبح) أي: بها (حين يقدَم) بفتح الدَّال المهملة (مكة) أي: حاجًّا، أو غازيًا، أو غيرهما، (ومصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ بفتح اللَّام؛ أي: موضع صلاته (ذلك على أَكَمَة)؛ بفتح الهمزة والكاف والميم؛ أي: تلٍّ عالٍ من حجر واحد، أو موضع مرتفع ما حوله كما سبق، (غليظة) وفي نسخة: (عظيمة)؛ أي: ضخمة كبيرة (ليس في المسجد الذي بُني) بِضَمِّ الموحَّدة مبنيًّا للمفعول (ثَمَّ)؛ بفتح المثلَّثة؛ أي: هنالك مما بنوه الجاهلية أو غيرهم، (ولكن أسفل من ذلك)؛ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو أسفل، وبالنصب؛ أي: في أسفل ظرفًا (على أكمة غليظة)، وفي نسخة: (عظيمة)، وهذا بيان وإيضاح للأول لا تأكيد، كما توهمه العجلوني، فإنَّه غير مصيب؛ فافهم.
(وأنَّ عبد الله بن عمر) بفتح الهمزة معطوف على السَّابق (حدَّثه) أي: حدَّث نافعًا بالإسناد المذكور، فهو موصول كما سبق (أن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم استقبل فُرْضَتَيِ الجبل)؛ أي: توجه إليها وجعلها مقابل وجهه، وهي بِضَمِّ الفاء، وسكون الرَّاء، وفتح الضَّاد المعجمة، ومثناة فوقية مفتوحة وتحتية مكسورة؛ لالتقاء الساكنين، تثنية: فرضة؛ وهي مدخل الطريق إلى الجبل، وقيل: الشق المرتفع كالشرافة، ويقال أيضًا لمدخل النهر، وفرضة البئر ثلمته [20] التي يستقى منها، وفي «المحكم»: (فرضة النهر: مشرب الماء منه، والجمع: فرض وفراض)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قلت: ومثله في «مختار الصِّحاح» و «القاموس»، وذكر نحوه ابن حجر والقسطلاني، وبه ظهر فساد ما زعمه العجلوني من أنَّ الفرضة: ما انحدر من وسط الجبل، انتهى، لأنَّه ليس له أصل في كلام أهل اللُّغة، ومعناه فاسد أيضًا؛ لأنَّه قد يكون في جوانبه، أو أعلاه، أو غير ذلك؛ فليحفظ.
(الذي بينه) ولابن عساكر وأبي الوقت: (الذي كان بينه) أي الجبل المفروض (وبين الجبل الطويل)؛ أي: الذي ليس فيه فرضة، وقوله: (نحو الكعبة) _أي: ناحيتها_ متعلق بـ (الطويل)، أو ظرف للجبل، أو بدل من الفرضة، قاله إمام الشَّارحين.
وقوله: (فجعل) أي: عبد الله بن عمر (المسجد الذي بُني) بِضَمِّ الموحَّدة مبنيًّا للمفعول (ثَمَّ)؛ بالمثلَّثة المفتوحة؛ أي: هنالك (يسار المسجد): الظَّاهر أنَّه من كلام نافع، وفاعله عبد الله، و (يسار) مفعول ثان، كذا قاله في «عمدة القاري»، وبه جزم القسطلاني وغيره؛ فافهم، (بطرف الأَكَمَة)؛ بفتح الهمزة والكاف والميم: المكان المرتفع؛ أي: جانبها، وهو صفة للمسجد الثاني (ومصلَّى) بفتح اللَّام (النَّبي) الأعظم، وفي نسخة: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) أي: موضع صلاته (أسفل منه)؛ بالنصب على الظرفية، وبالرفع خبر لقوله: (ومصلَّى)، والجملة حالية، قاله العجلوني، وقال القسطلاني: وبالرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو أسفل منه، وهو مبني على نصب (ومصلى) بجعله معطوفًا على المسجد، ووجهه ظاهر، فلا حاجة لما زعمه العجلوني؛ فافهم، (على الأكمة) أي: التل العالي (السوداء): خبر بعد خبر أو حال، وقوله: (تدع) أي: تترك (من الأكمة عشرة أذرع)؛ بالذَّال المعجمة، ولأبي ذر: (عشر أذرع)؛ بدون التأنيث (أو نحوَها)؛ بالنصب معطوف على ما قبله؛ أي: دون العشرة؛ بيان لمصلى النَّبي عليه السَّلام.
وزعم العجلوني أنَّها جملة مستأنفة.
قلت: ليس فيه استئناف أصلًا، وإنَّما هو متعلق بما قبله على كونه بيانًا وأيضاحًاله؛ فافهم.
(ثم تصلي مستقبل)؛ بالنصب على الحال؛ أي: حال كونك مستقبل (الفُرْضتين)؛ بِضَمِّ الفاء وسكون الرَّاء، تثنية فرضة؛ وهي مدخل الطريق إلى الجبل كما سبق، ويدل عليه قوله: (من الجبل الذي بينك وبين الكعبة)؛ أي: حائلًا بينهما.
ففي الحديث: بيان وجه تتبع ابن عمر المواضع التي صلى فيها النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو أنَّه كان يستحب التتبع لآثاره عليه السَّلام والتبرك بها، ولم يزل الناس يتبركون بمواضع الصالحين.
وقد روى شعبة عن سليمان التيمي عن المعرور بن سويد قال: (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سفر، فصلى الغداة، ثم أتى على مكان، فجعل الناس يأتونه ويقولون: صلى فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنَّما هلك أهل الكتاب أنَّهم تتبعوا آثار أنبيائهم، فاتَّخذوها كنائس وبيعًا، فمن عرضت له الصلاة؛ فليصلِّ، وإلا؛ فليمض)، قالوا: وإنَّما كره ذلك عمر؛ لأنَّه خشي أن يلتزم الناس الصلاة في تلك المواضع، فيشكل ذلك على من يأتي بعدهم، فيرى ذلك واجبًا، وكذا ينبغي للعالم إذا رأى الناس يلتزمون النوافل التزامًا شديدًا؛ أن يترخص فيها في بعض المرات ويتركها؛ ليعلم بفعله ذلك أنها غير واجبة.
وهذا الباب قد اشتمل على تسعة أحاديث قد أخرجها الحسن بن سفيان في «مسنده» مفرقة سوى الثالث، وأخرج منها الإمام مسلم بن الحجاج الحديثين الأخيرين في (الحج)، وهذه المساجد لا يعرف اليوم منها غير مسجد ذي الحليفة، والمساجد التي بالرَّوحاء يعرفها أهل تلك النَّاحية.
واستفيد من صنيع ابن عمر استحباب تتبع آثار النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم والتبرك بها على الوجه الذي قدمناه.
وروى أشهب عن مالك: أنَّه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الشَّارع، فقال: ما يعجبني ذلك إلا في مسجد قباء؛ لأنَّه عليه السَّلام كان يأتيه راكبًا وماشيًا، ولم يفعل ذلك في تلك المواضع.
قلت: إنَّما لم يعجبه؛ لاحتمال اعتقاد العوام ذلك واجبًا، أمَّا إذا فعل ذلك لأجل التبرك؛ فمستحب، كما لا يخفى؛ فافهم.
وزعم البغوي من الشَّافعية أنَّ المساجد التي ثبت أنَّ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صلى فيها لو نذر أحد الصلاة في شيء منها؛ تعين عليه كالاعتكاف فيها؛ كما تتعين المساجد الثلاثة.
واعترضه العجلوني فقال: (هو ضعيف، فقد قال الرملي وغيره: وإلحاق البغوي بمسجد المدينة سائر مساجده عليه السَّلام مردودٌ، وبه يعلم رد إلحاق بعضهم مسجد قباء بالثلاثة) انتهى.
قلت: لم يبين وجه الرد على هذا لا من آية، ولا حديث، ولا غيرهما، فالظَّاهر عدم ضعفه، ولهذا نقله القسطلاني عنه وسلَّمه؛ لما أنَّه قول معتمد عندهم، والله أعلم.
ومذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه: أنَّ تعيين الزمان والمكان والدرهم والفقير ملغاة، فيجوز صوم رجب عن صوم شعبان، ويجوز صلاة ركعتين بمصر نَذَر أداءهما بمكة، ويجوز التصدق بدرهم عن درهم عينه له، ويجوز الصرف لزيد الفقير بنذره لعمرو، وقال الإمام زفر: إذا عيَّن ذلك؛ تعيَّن عليه.
ويستحب أن يأتي مسجد قباء فيصلِّي فيه ويدعو، كما صرح به في «إمداد الفتاح».
وقد ذكر المؤلف المساجد التي بطرف المدينة إلى مكة، ولم يذكر المساجد التي بالمدينة؛ لأنَّه لم يقع له إسناد في ذلك على شرطه، وقد ذكر عمر بن شبه النميري في «أخبار المدينة» المساجد والأماكن التي صلى فيها النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بالمدينة مستوعبًا لها، وقد أوضحها إمام الشَّارحين في «عمدة القاري» غاية الإيضاح، وذكرها [21] بأسانيدها؛ فارجع إليه، وقال: روى غير واحد من أهل العلم: أنَّ كل مسجد بالمدينة ونواحيها مبنيٌّ بالحجارة المنقوشة المطابقة؛ فقد صلى فيه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّ عمر بن عبد العزيز حين بنى مسجد المدينة سأل الناس وهم متوافرون عن ذلك، ثم بناها
%ص 705%
بالحجارة المنقوشة المطابقة، وأكثرها قد اندرس واندثر، وبقي من المشهورة الآن مسجد قباء، ومسجد الفضيح _وهو شرقي مسجد قباء_، ومسجد بني قريظة، ومشربة أم إبراهيم _وهي شمالي مسجد قريظة_، ومسجد بني ظفر _شرقي البقيع، ويعرف بمسجد البغلة_، ومسجد بني معاوية _ويعرف بمسجد الإجابة_، ومسجد الفتح _قريب من جبل سلع_، ومسجد القبلتين في بني سلمة، كذا في «عمدة القاري».
وإنَّما سمي بمشربة أم إبراهيم؛ لأنَّ مارية ولدت فيه إبراهيم، وأخرج أبو داود في «المراسيل» عن بكير بن عبد الله الأشج قال: (كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجده عليه السَّلام يسمع أهلها تأذين بلال، فيصلُّون في مساجدهم بأذانه؛ أقربها: مسجد بني عمرو بن مبذول، ومسجد بني ساعدة، ومسجد بني عبيد، ومسجد بني سلمة، ومسجد بني رابخ، ومسجد بني زريق، ومسجد غفار، ومسجد أسلم، ومسجد جهينة)، وقد أوضح ذلك الإمام الشَّارح في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، والله تعالى الهادي.
==========
[1] في الأصل: (كان)، وأُثبتت الواو؛ لأنه شرح عليها.
[2] في الأصل: (يثبت)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (العربيين)، وهو تصحيف.
[4] في الأصل: (وإجبال)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (والخلج)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (طرفة).
[7] في الأصل: (مجلالًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (الأقنان)، وهو تصحيف.
[9] في الأصل: (مجرد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (وتسوق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] تكرر في الأصل: (والرضمة).
[12] في الأصل: (الجرور)، وهو تصحيف.
[13] في الأصل: (حزة)، وهو تصحيف.
[14] في الأصل: (وأيلية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[15] في الأصل: (بيته)، وهو تصحيف.
[16] في الأصل: (الأخرى)، والمثبت موافق للوزن.
[17] في الأصل: (بئر)، وهو تحريف.
[18] في الأصل: (معرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[19] في الأصل: (حين)، والمثبت من هامش «اليونينية».
[20] في الأصل: (تلمته)، وهو تصحيف.
[21] في الأصل: (وذكر)، ولعل المثبت هو الصواب.
هذه (أبواب سترة المصلي)، وهذه التَّرجمة ساقطة في «اليونينية»، ولهذا أسقطها إمام الشَّارحين في شرحه؛ أي: هذه أبواب في بيان أحكام سترة المصلي.
قال الشَّارح: (ووجه المناسبة بين هذه الأبواب والأبواب التي قبلها من حيث إنَّ الأبواب السَّابقة في أحكام المساجد بوجوهها، وهذه الأبواب في بيان أحكام المصلين في غيرها، وهي خمسة أبواب متناسقة) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ هذه أعم، فإنَّ من صلى في المسجد متباعدًا عن جداره أو عن ساريته أكثر من ثلاثة أذرع؛ لا تكون صلاته محترمة، انتهى.
قلت: وهذا باطل؛ لأنَّه مبني على مذهبه، وهو غير صحيح؛ لأنَّ الصلاة في المسجد لا تحتاج إلى سترة من جدار، أو سارية، أو غيرهما، ولا تكون غير محترمة، بل هذه التَّرجمة خاصة بغير المساجد؛ بدليل أنَّ الأحاديث التي ذكرت في هذه الأبواب إنَّما هي في الصحراء، وهذا حديث ابن عبَّاس، وكذا حديث ابن عمر، وكذا ما بعدهما في الصلاة في الصحارى لا في المساجد، وهذا هو مراد المؤلف بهذه التَّرجمة، كما لا يخفى؛ فافهم.
==================
[19] في الأصل: (حين)، والمثبت من هامش «اليونينية».
[20] في الأصل: (تلمته)، وهو تصحيف.
[1] في الأصل: (كان)، وأُثبتت الواو؛ لأنه شرح عليها.
[2] في الأصل: (يثبت)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (العربيين)، وهو تصحيف.
[4] في الأصل: (وإجبال)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (والخلج)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (طرفة).
[7] في الأصل: (مجلالًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (الأقنان)، وهو تصحيف.
[9] في الأصل: (مجرد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (وتسوق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] تكرر في الأصل: (والرضمة).
[12] في الأصل: (الجرور)، وهو تصحيف.
[13] في الأصل: (حزة)، وهو تصحيف.
[14] في الأصل: (وأيلية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[15] في الأصل: (بيته)، وهو تصحيف.
[16] في الأصل: (الأخرى)، والمثبت موافق للوزن.
[17] في الأصل: (بئر)، وهو تحريف.
[18] في الأصل: (معرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[19] في الأصل: (حين)، والمثبت من هامش «اليونينية».
[20] في الأصل: (تلمته)، وهو تصحيف.
(1/810)
(90) [باب سترة الإمام سترة من خلفه]
هذا (باب) بالتنوين (سُترة الإمام)؛ أي: من يصلِّي بالناس إمامًا وبين يديه سترة؛ نحو: جدار، وعنزة، وغيرهما (سُترة لمن) وفي رواية: (من)؛ أي: من كان (خلفه)؛ أي: من المصلين، فبوجود الإمام لا يحتاجون إلى سترة.
والسُّترة؛ بِضَمِّ السين المهملة: ما يستتر به، والمراد بها هنا: عكازة، أو عصى، أو عنزة، أو نحو ذلك، ومثلها: الجدار، والعامود، والسارية المركوزة في بعض الأرض والبساتين، والحكمة فيها: كف النَّظر للمصلي عما وراءها؛ لئلا يتفرق خاطره، ومنع من يجتاز بقربه.
ولفظ (باب): مرفوع خبر لمبتدأ محذوف، كما قدرنا، ويكون (سترة) مرفوعًا على الابتداء، وخبره (سترة) الثاني، ويجوز جره بالإضافة؛ والتقدير: باب بيان كون سترة الإمام ... إلى آخره، وهو ظاهر؛ فافهم.
ولا يخفى أنَّ التَّرجمة مشتملة على شيئين؛ أحدهما: بالمطابقة؛ وهو أنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه، وثانيهما: بالالتزام؛ وهو أنَّ الإمام سترة لمن خلفه، والصف الأول سترة للصف الثاني وهكذا؛ فليحفظ.
==========
%ص 706%
==================
(1/811)
[حديث: أقبلت راكبًا على حمار أتان]
493# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي الدمشقي (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتْبة)؛ بِضَمِّ العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية: هو ابن مسعود المدني الصَّحابي أحد الفقهاء السبعةرضي الله عنه، (عن عبد الله بن عبَّاس): هو بحر العلم، وحبر الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنهما، وسقط (عبد الله) لابن عساكر: أنَّه (قال: أقبلت) حال كوني (راكبًا على حمار أَتان)؛ بفتح الهمزة، وبالمثناة الفوقية: الأنثى من الحمير.
ولما كان الحمار شاملًا للذكر والأنثى؛ خصَّه بقوله: (أتان)، وإنَّما لم يقل: حمارة ويكتفي عن تعميم (حمار) ثم تخصيصه؛ لأنَّ التَّاء تحتمل الوحدة، كذا زعمه الكرماني.
واعترضه البرماوي بأنَّ (حمارًا) مفرد لا اسم جنس جمعي؛ كتمر.
قال إمام الشَّارحين: (الأحسن في الجواب: أنَّ «الحمارة» قد تطلق على الفرس الهجين كما قاله الصغاني، فلو قال: على حمارة؛ لربما كان يفهم أنَّه أقبل على فرس هجين، وليس الأمر كذلك على أنَّ الجوهري حكى أنَّ «الحمارة» في الأنثى شاذة) انتهى.
و (أتانٍ)؛ بالجر والتنوين؛ كـ (حمار) على النعت له، أو بدل الغلط، أو بدل بعض من كل؛ لأنَّ الحمار يطلق على الجنس، فيشمل الذكر والأنثى، أو بدل كل من كل؛ نحو: {شَجَرَةٍ مباركة [1] زَيْتُونَةٍ} [النور: 35].
وقال ابن الأثير: (إنَّ فائدة التنصيص على كونها أنثى: الاستدلال على أنَّ الأنثى من بني آدم لا تقطع الصلاة بالطريق الأولى؛ لأنَّهن أشرف).
واعترض بأنَّ العلة ليست مجرد الأنوثة فقط، بل الأنوثة بقيد البشرية؛ لأنَّها مظنة الشهوة، انتهى.
قلت: العلة الأنوثة البشرية مع كونها في الصلاة الواحدة؛ فهي مظنة الشهوة لا مطلقًا؛ لأنَّ المس بلا حائل أو به يوجدها، بخلاف النَّظر، فإنَّه يمنع ذلك، كما لا يخفى.
(وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام)؛ أي: قاربت البلوغ بالاحتلام، والمعنى: أنَّه كان مراهقًا (ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي بالناس بمنًى) بالصرف وعدمه، والأجود الصرف، وكتابته بالألف، وسميت بذلك لما يمنى؛ أي: يراق بها من الدماء، كذا رواه مالك وأكثر أصحاب الزهري.
ووقع عند مسلم من رواية ابن عيينة: (بعرفة)، وجمع بينهما بأنَّهما قضيتان.
ورُدَّ بأنَّ الأصل عدم التعدد، لا سيما مع اتحاد مخرج الحديث.
وزعم بعضهم أنَّ رواية ابن عيينة شاذة، وكان ذلك في حجة الوداع لا في الفتح على الصَّحيح؛ فتأمله.
(إلى غير جِدار)؛ بكسر الجيم: هو الحائط، وهو متعلق بـ (يصلِّي)؛ أي: إلى شيء يستره غير جدار؛ كعصا أو عنزة.
وزعم ابن حجر أنَّ معناه: أي: إلى غير سترة أصلًا، كما قاله الشَّافعي، وعليه فلا مطابقة بين الحديث والتَّرجمة؛ لأنَّه ليس فيه أنَّه عليه السَّلام صلى إلى سترة، وقد بوَّب عليه البيهقي: (باب من صلى إلى غير سترة) انتهى.
وردَّه الشَّارح في «عمدة القاري»: بأنَّ مطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّ قوله: (إلى غير جِدار) مشعر بأنَّ ثمة سترة؛ لأنَّ لفظة (غير) تقع دائمًا صفة لمحذوف؛ تقديره: إلى شيء غير جِدار، وهو أعم من أن يكون عصا، أو عنزة، أو نحوها، وهذا القائل لم يقف على وجه الكلام، والبيهقي أيضًا لم يقف على هذه النُّكتة، والبخاري دقيقٌ نظره، فأورَد هذا الحديث في هذا الباب؛ للوجه الذي ذكرناه، على أنَّ ذلك معلوم من حال النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ المعروف من عادته أنَّه كان لا يصلِّي في الفضاء إلا والعنزة أمامه، ويؤيده ذكر الحديثين بعده المصرح فيهما بالسترة، فهو من باب حمل المطلق على المقيد.
وقول ابن عبَّاس: (فمررت بين يدي) أي: قدام (بعض الصف)، فالتعبير باليد مجاز، وإلا، فالصف لا يد له (فنزلت وأرسلت) ولأبي ذر: (فأرسلت)؛ بضمير المتكلم فيهما (الأتان ترتعُ)؛ أي: تأكل، و (ترتعُ) مرفوع، والجملة محلها نصب على الحال من (الأتان)، وهي حال مقدرة؛ لأنَّه لم يرسلها في تلك الحال، وإنَّما أرسلها قبل مقدرًا كونها على تلك الحال، وجوز ابن السيد فيه أن يريد: لترتع، فلما حذف الناصب؛ رُفِع؛ كقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64]،
%ص 706%
قاله الدماميني، وقيل: (ترتع): تسرع في المشي، والأول: أصوب، ويدل عليه رواية المؤلف في (الحج): (نزلت عنها فرتعت)، (ودخلت في الصف، فلم ينكر): على صيغة المعلوم من الإنكار؛ وهو الجحود؛ أي: فلم يجحد (ذلك) الفعل (عليَّ) بفتح التحتية (أحدٌ): بالرفع فاعله؛ أي: لم ينكر ذلك الفعل عليَّ النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ولا غيره من أصحابه، وهذا يشعر بحدوث أمر لم يعهدوه، فلو فرض هناك سترة غير الجدار؛ لم يكن لهذا الإخبار فائدة؛ إذ مروره حينئذٍ لا ينكره أحدٌ أصلًا.
قلت: وهذا ليس بشيء، وإنَّما لم ينكروا عليه ذلك؛ لعلمهم أنَّ سترة الإمام سترة لهم؛ بدليل عادته عليه السَّلام أنَّه لم يصلِّ في الصحراء إلا وأمامه سترة.
ومع هذا؛ فالكلام ونحوه ممنوع في الصلاة؛ لأنَّه منسوخ بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وبقوله عليه السَّلام: «إنَّ في الصلاة شغلًا»، كما في «مسلم» وغيره، وهذا هو المعهود عندهم، وفائدة هذا الإخبار: أنَّه لما مر بين يدي الصف ولم ينكر عليه أحد؛ تبين أنَّ سترة الإمام سترة لهم وأنَّ صلاتهم صحيحة، وأنَّه لم يقطعها عليهم حيث السترة موجودة؛ بدليل أنَّهم لم يؤمروا بالإعادة، فالحقُّ ما قاله إمام الشَّارحين، وهو أحكم الحاكمين؛ فافهم.
فإن قلت: لا يلزم مما ذكر اطلاعه عليه السَّلام على ذلك لاحتمال أن يكون الصف الأول حائلًا دون رؤيته له.
قلت: قد ثبت أنَّه عليه السَّلام كان يرى في صلاته من ورائه كما يرى من أمامه.
وعند المؤلف في (الحج): أنَّه مرَّ بين يدي بعض الصف الأول، فلم يكن حائل هناك دون الرؤية، وفي رواية البزار: (والنَّبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي المكتوبة ليس شيء يستره)، قالوا: هذا يؤيد عدم الحائل.
قلت: وهو ممنوع؛ لأنَّ ما رواه المؤلف في (الحج) لا يدل عليه؛ لأنَّ الصف الأول طويل وهو من المشرق إلى المغرب، وكان مروره في أوله أو في آخره، فلم يدرك السترة ولم يرها، وما رواه البزار لا يدل عليه أيضًا؛ لأنَّه لما نزل عن الحمار وهي ترتع؛ دهش، فلم ير السترة لدهشته لا سيما في مصلى النَّبي الأعظم عليه السَّلام على أنَّه في أكثر الروايات كما رواه المؤلف ههنا، وهو من باب حمل المطلق على المقيد، كما لا يخفى، ويحتمل أنَّ في الرواية طيًّا؛ وهو ليس شيء يستره غير سترته، وهذا الحديث بعينه قد تقدم في كتاب (العلم) في باب (متى يصح سماع الصغير)، وتقدم الكلام عليه هناك.
==================
(1/812)
[حديث: أن رسول الله كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة]
494# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق) ولا بن عساكر: (إسحاق؛ يعني: ابن منصور) هو ابن بهرام الكوسج، كذا جزم به خلف، وأبو نعيم، وغيرهما، وفي أكثر الروايات: (إسحاق) غير منسوب، فيحتمل أنَّه ابن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي المشهور بابن راهويه، ويؤيده ما قاله الجياني عن ابن السكن: أنَّه إذا وقع في هذا الكتاب إسحاق غير منسوب؛ فهو يكون ابن راهويه، لكن رواية ابن عساكر تعين الأول؛ فتأمَّل، (قال: حدثنا عبد الله بن نُمير)؛ بِضَمِّ النُّون مصغرًا: هو الكوفي (قال: حدثنا عبيد الله) بالتصغير (بن عمر) هو ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عثمان القرشي العدوي المدني، المتوفى سنة تسع وأربعين ومئة، وليس هو منسوبًا لجده الأعلى كما زعمه العجلوني، بل هذا أبوه وشهرته به؛ فليحفظ، (عن نافع) هو مولى ابن عمر المدني، (عن ابن عمر) هو عبد الله الصَّحابي المدني القرشي العدوي المشهور: (أنَّ) بفتح الهمزة (رسول الله صلى الله عليه وسلم كان) أتى بها لإفادة الدوام والاستمرار (إذا خرج يوم العيد)؛ أي: الأضحى والفطر إلى الصحراء لصلاة العيد؛ (أمر بالحربة)؛ أي: أمر خادمه بأخذها معه، وهو جواب (إذا)، والمراد بها: العنزة الآتية، وقيل: إنَّها غيرها، وإنَّه تارة كان يَركُز الحربة، وتارة العنزة، وهو الأصح؛ لما يأتي من إفراد كل منهما بباب، كذا قيل، وفيه بُعد؛ لأنَّه لا يلزم من إفراد كل منهما بباب أن يكون تارة يركز الحربة، وتارة العنزة؛ لأنَّ المؤلف مراده بيان الأحكام في تراجمه، وأنَّه كما يجوز وضع الحربة كذلك يجوز وضع العنزة، وإنَّما كان يوضع للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم العنزة، وإنَّما عبَّر هنا عنها بالحربة؛ لما أنَّ برأس العنزة حربة، فإنَّ العنزة عصا توضع الحربة برأسها، وقد لا توضع نادرًا، فعبَّر عن العنزة بالحربة من إطلاق البعض على الكل مجازًا؛ فافهم.
وعند المؤلف في (العيدين) عن نافع: (كان يغدو إلى المصلى والعنزة تحمل وتنصب بين يديه، فيصلِّي إليها)، وزاد ابن ماجه، وابن خزيمة، والإسماعيلي: (وذلك أنَّ المصلى كان فضاء ليس فيه شيء يستره)؛ فليحفظ.
(فتوضع بين يديه) بالتثنية (فيصلِّي إليها) أي: قريبًا منه؛ لما رواه أصحاب السنن عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم إلى سترة؛ فليدن منها ... »؛ الحديث، ويجعلها على جهة أحد حاجبيه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد إليها صمدًا؛ لما رواه أصحاب السنن أيضًا عن المقداد أنَّه قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلى عمود، ولا عود، ولا شجر إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، لا يصمده صمدًا)؛ أي: لا يقابله بل كان يميل عنه، وهذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور؛ فليحفظ.
(والناسُ)؛ بالرفع عطفًا على الضمير المستتر في (يصلِّي) الواقع فاعلًا؛ لوجود الفاصل، ويحتمل على بُعدٍ أنَّه مبتدأ، وخبره الظرف؛ أعني: قوله: (وراءَه)؛ فإنَّه منصوب على الظرفية، متعلق بـ (يصلُّون)، والجملة محلها نصب على الحال.
قلت: الأول أظهر، وهذا فيه تكلف وتعسف.
(وكان) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (يفعل ذلك)؛ أي: الأمر بوضع الحربة بين يديه والصلاة إليها (في السفر)؛ أي: على سبيل الدوام والاستمرار كما يفيده التعبير بـ (كان) حيث لا جِدار في الصحراء، فليس ذلك مختصًّا بيوم العيد، بل عام في الصلوات كلها، ولهذا قال الإمام محمَّد بن الحسن رضي الله عنه: (يستحب لمن يصلِّي في الصحراء أن يكون بين يديه شيء مثل عصًا ونحوها، فإن لم يجد؛ يستتر بشجرة ونحوها)، ويدل عليه حديث المقداد السَّابق قريبًا؛ فافهم.
وقوله: (فمِن ثَمَّ)؛ بفتح المثلَّثة؛ أي: فمن أجل ذلك (اتخذها) أي: الحربة أو هو الرمح الطويل العريض النصل (الأُمراء)؛ بِضَمِّ الهمزة، جمع أمير، (فعيل) بمعنى: (فاعل)؛ أي: أُمِّرَ على الناس، فيخرج بها بين أيديهم في العيد، والسفر، ونحوهما، من كلام نافع، كما أخرجه ابن ماجه بدون هذه الجملة.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة من وجوه:
أحدها: أنَّه لم ينقل وجود سترة لأحد من المأمومين، ولو كان؛ لنقل لتوفر الدواعي على نقل الأحكام الشرعية، فدل ذلك على أنَّ سترته عليه السَّلام كانت سترة لمن صلى خلفه.
والثاني: أنَّ قوله: (فيصلِّي إليها والناس وراءه) يدل على دخول الناس في السترة؛ لأنَّهم تابعون للإمام في جميع ما يفعله.
والثالث: أنَّ قوله: (وراءه) يدل على أنَّهم كانوا وراء السترة أيضًا، إذ لو كانت لهم سترة؛ لم يكونوا وراءه بل كانوا وراءها، كذا قرره إمام الشَّارحين.
ونقل القاضي عياض الاتفاق على أنَّ المأمومين يصلُّون إلى سترة الإمام، واختلفوا هل سترتهم سترة الإمام أو سترتهم الإمام نفسه؟ انتهى.
واعترضه ابن حجر،
%ص 707%
فزعم: فيه نظر؛ لما رواه عبد الرزاق عن الحكم بن عمرو الغفاري الصَّحابي: أنَّه صلى بأصحابه في سفر وبين يديه سترة، فمرت حمير بين يدي أصحابه، فأعاد بهم الصلاة، وفي رواية: أنَّه قال لهم: «إنَّها لم تقطع صلاتي، ولكن قطعت صلاتكم»، ويظهر أثر الخلاف: فيما لو مر بين يدي الإمام أحد، فعلى قول من يقول: إنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه؛ تضر صلاته وصلاتهم، وعلى قول من يقول: إنَّ الإمام نفسه سترة لمن خلفه؛ تضر صلاته ولا يضر صلاتهم، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (لا يَرِد هذا على ما نقله القاضي عياض من الاتفاق؛ لاحتمال أنَّه لم يقف على قوله عليه السَّلام: «سترة الإمام سترة لمن خلفه»، أخرجه الطَّبراني من حديث أنس، وكذا روي عن ابن عمر، أخرجه عبد الرزاق موقوفًا عليه، على أنَّ الرواية عن الحكم مختلفة، ومع هذا لا يقاوم ما روي عن ابن عمر.
وقوله: «وأثر الخلاف» ممنوع، بل سترة الإمام سترة مطلقًا بالحديث المذكور، فإذا وجدت سترة؛ لا تضر صلاة الإمام ولا صلاة المأمومين) انتهى؛ فليحفظ.
ثم قال رضي الله عنه: (وفي الحديث: الاحتياط وأخذ الآلة؛ لدفع الأعداء سيما في السفر.
وفيه: جواز الاستخدام وأمر الخادم.
وفيه: أنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه، وادعى بعضهم فيه الإجماع، نقله ابن بطال، قالوا: السترة عند العلماء سنة مندوب إليها، وقال الأبهري: سترة المأموم سترة إمامه، فلا يضر المرور بين يديه؛ لأنَّ المأموم تعلقت صلاته بصلاة إمامه.
قال: ولا خلاف أنَّ السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يأمن المرور بين يديه، وفي الأمن قولان عند مالك، وعند الشَّافعي مشروعة مطلقًا؛ لعموم الأحاديث؛ لأنَّها تصون البصر.
فإن كان في الفضاء؛ فهل يصلِّي إلى غير سترة؟ أجازه ابن القاسم؛ لحديث ابن عبَّاس المذكور، وقال مطرف وابن الماجشون: لا بد من سترة، وذكر عن عروة، وعطاء، وسالم، والقاسم، والشعبي، والحسن؛ أنهم كانوا يصلُّون في الفضاء إلى غير سترة، وقال الإمام محمَّد بن الحسن: يستحب لمن يصلِّي في الصحراء أن يكون بين يديه شيء مثل عصًا ونحوها، فإن لم يكن؛ يستتر بشجرة ونحوها.
وقال أصحابنا: المعتبر في مقدار السترة: ذراع فصاعدًا؛ لحديث طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل؛ فلا يضرك من مرَّ بين يديك»، رواه مسلم في «صحيحه».
وذكر شيخ الإسلام في «مبسوطه» في حديث أبي جحيفة الآتي ذكره: أنَّ مقدار العنزة طول ذراع في غلظ أصبع، ويؤيد ذلك قول ابن مسعود: ويجزئ من السترة السهم، وفي «الذخيرة»: طول السهم ذراع، وعرضه قدر أصبع.
واختلف أئمتنا الأعلام فيما إذا كانت السترة أقل من ذراع، وقال شيخ الإسلام: لو وضع قناة أو جعبة بين يديه وارتفع قدر ذراع؛ كان سترة بلا خلاف، وإن كان دونه؛ ففيه خلاف.
وفي «غريب الرواية»: النهر الكبير ليس بسترة كالطريق، وكذا الحوض الكبير.
وقال مالك: تجوز القلنسوة العالية والوسادة بخلاف السوط، وجوَّز في «العتبية»: التستر بالحيوان الطاهر، بخلاف الخيل، والبغال، والحمير، وجوَّز بظهر الرجل، ومنع بوجهه [1]، وتردد في جنبه، ومنع بالمرأة، واختلفوا في المحارم، ولا يستتر بنائم، ولا مجنون، ومأبون في دبره، ولا كافر) انتهى.
وعند أحمد ابن حنبل: تكره الصلاة بموضع يحتاج فيه إلى المرور، ويحرم مرور بين مصلٍّ وبين سترته، ولو بَعُدَ عنها، ومع عدمها يحرم المرور قريبًا منه، وحد القرب: ثلاثة أذرع فأقل بذراع اليد، فإن مرَّ بين يدي المأمومين هل يأثم؟ فيه قولان له، وليس وقوفه بمكروه، كذا في «شرح الكفاية».
وقال الإمام الشرنبلالي: (وإن لم يجد ما ينصبه؛ فليَخُطَّ خطًّا؛ لحديث أبي داود، ولفظه: «فإن لم يكن معه عصًا؛ فليخط خطًّا»، فقيل: يخط طولًا، وقيل: عرضًا مثل الهلال، ولو طرح سوطًا لصلابة الأرض؛ لم يعتد به، وقال شيخ الإسلام: ولا بأس بترك السترة إذا أمن المرور؛ لحديث ابن عبَّاس) انتهى، والله أعلم.
==================
(1/813)
[حديث: أن النبي صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة]
495# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو الوليد) هو هشام بن عبد الملك الطياليسي البصري (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن عَوْن) بفتح المهملة، وإسكان الواو (بن أبي جُحَيفة) بِضَمِّ الجيم، وفتح المهملة مصغرًا (قال: سمعت أبي) هو أبو جحيفة، واسمه وهب بن عبد الله السُّوائي _بضم المهملة_ الكوفي، وفي بعض النُّسخ: (يحدث): (أنَّ النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) بفتح الهمزة (صلى بهم) أي: بأصحابه (بالبطحاء)؛ أي: بطحاء مكة، ويقال له: الأبطح أيضًا؛ وهو كل أرض منحدرة أو مسيل واسع فيه دقاق الحصى، وقد سبق تحقيقه، (وبين يديه) بالتثنية (عَنَزة)؛ بفتح العين المهملة؛ وهي نصف الرمح، وخصها بعضهم بأنَّ سنانها في أسفلها، بخلاف الرمح؛ فإنَّ له سنانًا في الأعلى وفي الأسفل أيضًا، كما لا يخفى؛ فافهم، والجملة وقعت حالًا، (الظُّهرَ)؛ بالنصب مفعول (صلى) (ركعتين)؛ بالنصب بدل من المفعول أو حال منه، وإنَّما صلاه هكذا؛ لكونه خرج من مكة ناويًا السفر؛ ففرض المسافر ركعتين، (والعصرَ) بالنصب عطفًا على ما قبله (ركعتين): بدل أو حال أيضًا، وزاد في رواية آدم الآتية بعد بابين عن شعبة عن عون: (وذلك كان بالهاجرة)؛ وهي وقت اشتداد الحر عند الظهيرة، فكأنَّه عليه السَّلام خرج بالهاجرة فصلى الظُّهر، ثم دخل وقت العصر، فصلى العصر، فكان كل صلاة بوقتها.
وزعم النَّووي أنَّه يكون عليه السَّلام جمع بين الصلاتين في وقت الأولى، انتهى.
قلت: ليس كما قال، وليس الواقع هذا، وإنَّما قال ذلك استنصارًا لمذهبه، والحقُّ أنَّه صلى الظُّهر في وقتها، والعصر في وقتها، يدل عليه أنَّ ما رواه آدم لفظه: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأُتي بوضوء، فتوضأ، فصلى بنا الظُّهر والعصر ... )؛ الحديث، ولا ريب أنَّ (الهاجرة): اشتداد الحر وهو قريب العصر، وإتيانه بوضوء ووضوؤه [1] يحتاج إلى مدة من الزمن، فلما فرغ من الوضوء؛ صلى الظُّهر في وقتها، فلما فرغ منه؛ دخل وقت العصر، فقام فصلاه، فليس فيه الجمع بين الصلاتين كما زعمه؛ فليحفظ.
(يَمر) بمثناة تحتية مفتوحة أو بالفوقية (بين يديه) بالتثنية؛ أي: أمام النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (المرأة والحمار)؛ يعني: بين العنزة والقبلة لا بين المصطفى والسترة، يدل عليه أنَّ في رواية عمر بن زائدة في (الصلاة في الثوب الأحمر): (ورأيت الناس والدَّواب يمرون بين يدي العنزة)؛ فليحفظ، والجملة محلها نصب على الحال، والجملة الفعلية إذا وقعت حالًا وكان فعلها مضارعًا؛ يجوز فيها الواو وتركها.
قال إمام الشَّارحين: ومطابقة الحديث للتَّرجمة من الوجه الذي ذكرناه في الحديث السَّابق، وفيه: جعل السترة بين يديه إذا كان في الصحراء، وفيه: أنَّ مرور المرأة والحمار لا يقطع الصلاة، وهو قول عامة العلماء، وبه قال الإمام الأعظم، ومالك، والشَّافعي؛ لحديث الباب، فإنَّه يدل على عدم قطع الصلاة بمرور المرأة والحمار، وحديث
%ص 708%
«الصَّحيحين» عن عروة عن عائشة قالت: (كان رسول الله يصلِّي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة)، وقد روي هذا بوجوه؛ منها فيه: (وأنا حائض وأنا حذاءه)، ووجهه: أنَّ اعتراض المرأة خصوصًا الحائض بين المصلي وبين القبلة؛ لا يقطع الصلاة، فالمارة بالطريق الأولى.
وبوَّب أبو داود في «سننه»: (باب من قال: الحمار لا يقطع الصلاة)، وبوَّب أيضًا: (باب من قال: الكلب لا يقطع الصلاة)، ثم روى عن الفضل بن عبَّاس قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية ومعه عبَّاس، فصلى في الصحراء ليس بين يديه سترة وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك)، وأخرجه النسائي أيضًا.
وروي عن ابن عبَّاس: يقطع الصلاة الكلب الأسودوالمرأة الحائض.
وعن عكرمة: يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والخنزير، والمرأة، واليهودي، والنصراني، والمجوسي.
وروي عن أنس ومكحولوأبي الأحوصوالحسن: يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والمرأة.
وعن عطاء: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود والمرأة الحائض.
وعن أحمد ابن حنبل في المشهور عنه: يقطع الصلاة مرور الكلب الأسود البهيم [2]، وفي رواية أخرى عنه: يقطعها أيضًا الحمار، والمرأة، والبهيم.
وزعم ابن الملقن أنَّ عند أحمد: الكلب الأسود لا يقطع الصلاة، واعترضه العجلوني بأنَّ فيه نظر؛ لأنَّ في «شرح المنتهى» صرَّح أنَّ مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة بلا خلاف عندهم، وإنَّما الخلاف في المرأة والحمار، والصَّحيح: أنَّ مرورهما يقطعها، ثم قال العجلوني: (ولم أر في مذهبهم حكم ما إذا مرَّ بين السترة والمصلي، والظَّاهر أنَّ مروره لا يضر؛ لعدم التقصير منه) انتهى.
قلت: هو لم يُحطْ بمذهبه فضلًا عن مذهب أحمد على أنَّه هذه جرأة على المذهب؛ كيف يستظهر حكمًا لم يره عندهم؟ وانظر تعليله بعدم التقصير، وقد رأيت الحكم عندهم؛ ففي «الكفاية» و «شرحها»: (ويحرم مرور بين مُصلٍّ وبين سترته ولو بَعُدَ عنها، ومع عدمها _أي: السترة_ يحرم المرور بين يديه قريبًا منه، وحدُّ القُرْب: ثلاثة أذرع فأقل من قَدم المصلي بذراع اليد) انتهى.
فهذا كما رأيت قد صرح بحرمة المرور، وأنَّه لا يقطع الصلاة، فالحكم وإن كان مسطورًا في محله، إلا أنَّ الجرأة عليه مذمومة؛ للحديث الصَّحيح: «أجرؤكم على الفتياأجرؤكم على النَّار»؛ فانظر جرأة الشَّافعية على المذاهب، وما هذا إلا سوء الأدب؛ فافهم.
ويدل لما ذهب إليه هؤلاء ما رواه مسلم عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل: المرأة، والحمار، والكلب الأسود»، قلت: ما بال الأسود من الأحمر؟ قال: يا بن أخي؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: «الكلب الأسود شيطان».
قلت: ولا دليل فيه لاحتمال أنَّه منسوخ بحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنَّما هو شيطان».
وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني في «سننه»، وأبي أمامة وأنس عنده أيضًا، وجابر عند الطَّبراني في «الأوسط»، وهذه الأحاديث وإن تكلم فيها ابن الجوزي تعصبًا إلا أنَّ طرقها عديدة وبها تتقوى وترتقي إلى رتبة الصَّحيح أو الحسن؛ لأنَّه لا عبرة بوضع ابن الجوزي عند المحدثين على أنَّه قال النَّووي: وتأول الجمهور القطع في الحديث على قطع الخشوع جمعًا بين الأحاديث.
قال إمام الشَّارحين: (هذا جيد فيما إذا كانت أحاديث هذا الباب مستوية الأقدام، وأمَّا إذا قلنا: أحاديث الجمهور أقوى وأصح من أحاديث من خالفهم؛ فالأخذ بالأقوى أولى وأقوى) انتهى.
قلت: ما زعمه النَّووي غير جيد؛ لأنَّ الخشوع في الصلاة ليس شرطًا فيها حتى يحمل القطع على قطع الخشوع، فالصَّواب ما قاله إمام الشَّارحين أنَّ أحاديث الجمهور أقوى وأصح، والعمل بالأقوى والأصح متعين؛ فافهم.
لا يقال: إنَّ مرور حمار ابن عبَّاس كان خلف الإمام بين يدي بعض الصف والإمام سترة لمن خلفه؛ لأنَّا نقول: هو مردود بما رواه البزار: أن المرور كان بين يديه عليه السَّلام، وحديث أبي داود عن سعيد بن غزوان عن أبيه قال: أقبلت وأنا غلام حتى مررت بينه وبين النخلة، فقال عليه السَّلام: «قطع صلاتنا ... »؛ الحديث، فهو قد سكت عنه أبو داود، وقال غيره: إنَّه واهٍ، وعلى كل؛ فهو منسوخ بحديث ابن عبَّاس؛ لأنَّ ذلك كان بتبوك، وحديثه كان في حجة الوداع بعدها.
وفي الحديث: جواز قصر الصلاة الرُّباعية، بل هو أفضل من الإتمام، وهل هو رخصة أو عزيمة؟ فيه خلاف بين الإمام الأعظم وبين الشَّافعي على ما يأتي بيانه، والحقُّ ما قاله الإمام الأعظم: أنَّ القصر عزيمة؛ لقول عائشة: (إنَّ الصلاة فرضت ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فزيدت في الحضر وأقرت في السفر)، رواه أبو داود، فإذا أتم الرُّباعية؛ إن قعد القعود الأول؛ صحت مع الكراهة، وإن لم يقعد؛ فسدت صلاته، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (ووضوئه)، ولا يصح.
[2] في الأصل: (والبهيم)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ووضوئه)، ولا يصح.
[1] في الأصل: (ووضوئه)، ولا يصح.
(1/814)
(91) [باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلى والسترة]
هذا (باب) بيان (قدْرِ)؛ بإسكان الدَّال المهملة؛ بمعنى: مقدار (كم ينبغي) أي: يُطلَب شرعًا (أن يكون بين المصلِّي)؛ بكسر اللَّام، اسم فاعل؛ أي: الشخص الذي يريد الصلاة (والسُّترة)؛ أي: بينهما، وهي أعم من أن تكون عنزة، أو حربة، أو عصا، أو نحوها؛ وهي _بضم السين المهملة_: ما يستتر به عند الصلاة من المارين.
وزعم ابن حجر أنَّه يحتمل فتح اللَّام؛ أي: المكان الذي يُصَلَّى فيه.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (هذا الاحتمال أخذه قائله من كلام الكرماني حيث قال: «فإن قلت: الحديث دل على القدر الذي بين المصلَّى _بفتح اللَّام_ والسترة، والتَّرجمة بكسر اللَّام؛ قلت: معناهما متلازمان» انتهى.
قلت: لا يلزم من تلازمهما عقلًا اعتبار المقدار؛ لأنَّ اعتبار المقدار بين المصلي وبين السترة، لا بينهما وبين المكان الذي يصلِّي فيه) انتهى كلامه.
واعترضه العجلوني بأنَّه وارد؛ لأنَّ اعتبار المكان المصلَّى من حيث إنَّه مصلًّى فيه اعتبار المصلِّي فيه، والأمر سهل، انتهى.
قلت: هذا كلام فاسد التركيب والمعنى، فإنَّ اعتبار المصلِّي غير اعتبار المكان الذي يصلِّي فيه، وبينهما تنافٍ؛ لأنَّ التَّرجمة صريحة في أنَّ المراد بالمصلِّي؛ بكسر اللَّام: الشخص الذي يريد الصلاة؛ بدليل عطف (السترة) عليه، وهو يقتضي المغايرة؛ لأنَّ السترة إذا وضعت في المسجد الصغير؛ فمكانها يقال له أيضًا: مصلَّى؛ بفتح اللَّام، فيصير ذلك عامًّا في مكان السترة، وليس هذا بمراد للمؤلف، وإنَّما مراده: بكسر اللَّام: الشخص الذي يصلِّي أو يريد الصلاة؛ فافهم.
%ص 709%
قال إمامنا الشَّارح: (ولفظة «كم» سواء كانت استفهامية أو خبرية لها صدر الكلام، وإنَّما قدم لفظة «القدر» عليها؛ لأنَّ المضاف والمضاف إليه في حكم كلمة واحدة، ومميز «كم» محذوف؛ لأنَّ الفعل لا يقع مميزًا؛ والتقدير: كم ذراعًا ونحوه) انتهى.
==================
(1/815)
[حديث: كان بين مصلى رسول الله وبين الجدار ممر الشاة]
496# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَمرو) بالواو مع فتح العين المهملة (بن زُرارة)؛ بِضَمِّ الزاي، وبراءين بينهما ألف: هو أبو محمَّد النيسابوري، المتوفى سنة ثمان وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا) وفي رواية غير أبي ذر: (أخبرنا) (عبد العزيز بن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي، (عن أبيه)؛ أي: أبي حازم، واسمه سلمة بن دينار، ولأبي ذر: (أخبرني أبي)، (عن سهل) زاد الأصيلي: (ابن سعْد)؛ بإسكان العين المهملة: هو الساعدي الصَّحابي رضي الله عنه (قال: كان بين مصلَّى) بفتح اللَّام (رسول الله) وللأصيلي: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ وهو المكان الذي يصلِّي فيه، والمراد به: مقامه عليه السَّلام، وكذا هو في رواية أبي داود، قاله الشَّارح.
وزعم ابن حجر تبعًا للكرماني المراد بالمصلى: موضع القدم.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (يتناول ذلك موضع القدم وموضع السُّجود أيضًا) انتهى.
قلت: والتعميم أولى؛ فافهم.
(وبين الجدار)؛ أي: الحائط القبلي من المسجد النَّبوي، وفي (الاعتصام): (مما يلي القبلة) (ممرُّ الشاة)؛ بميمين وتشديد الرَّاء: هو موضع مرورها، وفي رواية أبي داود عن سهل قال: (كان بين مقام النَّبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ممر العنْز)؛ بسكون النُّون: وهو الماعز؛ أي: موضع مرورها.
قال الكرماني: و («ممر»: منصوب؛ لأنَّه خبر «كان»، والاسم: قدر المسافة أو الممر، والسياق يدل عليه) انتهى.
واعترضه البرماوي بأنَّ النصب يحتاج لثبوت الرواية حتى يحتاج للتأويل، انتهى.
قال العجلوني: (إذا لم تعلم الرواية يجوز ما تجوِّزه العربية على أنَّ صنيع الكرماني يقتضي ثبوت الرواية به؛ فتأمَّل) انتهى.
قلت: إذا لم تُعْلَم الرواية؛ لا يجوز النطق به؛ لئلا يدخل تحت الوعيد، والكرماني ليس في كلامه دلالة الاقتضاء، غاية كلامه توجيه النصب، وهو لا يقتضي ثبوت الرواية، وظاهر كلام غير واحد من الشراح أنَّ الرواية بالنصب للأكثرين، وبالرفع رواية البعض، كما يعلم من كلام إمام الشَّارحين والقسطلاني، ووجَّهَ الرفعَ في «عمدة القاري» بأن تكون (كان) تامة، ويكون (ممر الشاة) اسمها، ولا يحتاج إلى خبر، أو تكون ناقصة والخبر هو الظرف، انتهى.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة.
وفيه: استحباب القرب من السترة، ومذهب الإمام الأعظم: أنَّ السنة في ذلك ألَّا يزيد ما بينها وبينه على ثلاثة أذرع، كما قاله المحقق ابن أمير حاج.
قال السيد أحمد الطحطاوي: (والظَّاهر اعتبار هذا القَدْر من قَدَمه) انتهى.
قلت: فعلى هذا يكون من موضع السُّجود إلى موضع السترة مقدار موضع مرور الشاة، كما في الحديث.
وقد وَرَد الأمر بالدنو من السترة؛ منها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعًا: «إذا صلى أحدكم إلى سترة؛ فليَدْنُ منها لا يقطع الشَّيطان عليه صلاته».
وقال القرطبي: (بعض المشايخ حمل حديث ممر الشاة على ما إذا كان قائمًا، وحديث بلال: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى في الكعبة؛ جعل بينه وبين القبلة قريبًا من ثلاثة أذرع» على ما إذا ركع أو سجد)، قال: (ولم يحدَّ مالك في هذا حدًّا إلا أنَّ ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد ويتمكن من دفع من يمر بين يديه، وقيده بعض الناس بشبر، وآخرون: بثلاثة أذرع، وبه قال الشَّافعي وأحمد، وهو قول عطاء، وآخرون: بستة أذرع، وذكر السفاقسي: قال أبو إسحاق: «رأيت عبد الله بن مغفل يصلِّي بينه وبين القبلة ستة أذرع»، وفي رواية: «ثلاثة أذرع»، ونحوه في «مصنف ابن أبي شيبة» بسند صحيح) انتهى.
وقال ابن التين: (ويجمع بين حديث الباب وحديث بلال بأنَّه إذا قام؛ كان بينه وبين القبلة قدر ممر الشاة، وإذا سجد أو ركع؛ كان بينهما ثلاثة أذرع من موضع رجليه) انتهى.
وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
==========
%ص 710%
==================
(1/816)
[حديث: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزها]
497# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا المكي) زاد الأصيلي: (ابن إبراهيم) هو البلخي (قال: حدثنا يزيد بن أبي عُبيد)؛ بِضَمِّ العين المهملة مصغرًا: هو الأسلمي مولى سلمة ابن الأكوع، (عن سَلَمَة)؛ بفتحات: هو ابن الأكوع، واسمه سنان بن عبد الله الأسلمي المدني الصَّحابي، المتوفى بالمدينة سنة أربع وسبعين عن ثمانين سنة.
قال إمامنا الشَّارح: (ورجاله ثلاثة ذكروا في باب «إثم من كذب على النَّبي صلى الله عليه وسلم»، وهذا من ثلاثيات البخاري) انتهى.
(قال) أي: سَلمة: (كان جدار المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد (عند المِنبَر)؛ بكسر الميم وفتح الموحَّدة، من تتمة اسم (كان)؛ أي: الجدار الذي عند منبر النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وخبر (كان) جملة قوله: (ما كادت الشاة تجوزها)، ويجوز أن يكون الخبر قوله: (عند المنبر)، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا؛ تقديره: إذا كان الجدار عند المنبر فما مقدار المسافة بينهما؟ فأجاب بقوله: (ما كادت الشاة تجوزها)؛ أي: مقدار ما كادت الشاة تجوز المسافة، وليس بإضمار قبل الذكر؛ لأنَّ سوق الكلام يدل عليه، كذا قرره إمام الشَّارحين، وتبعه البرماوي، والقسطلاني، وجوز العجلوني أن تكون الجملة خبرًا ثانيًا.
قلت: الأظهر: الأول؛ فتأمَّل.
و (تجوزها): بالجيم والزاي، والضمير فيه عائد إلى المسافة، وهي ما بين الجدار والمنبر، و (كاد): من أفعال المقاربة، وخبره يكون فعلًا مضارعًا بغير (أن)، كما في هذه الرواية، وفي رواية الكشميهني: (أن تجوزها)، ووجهه: ما قاله الشَّارح: أن تكون (أن) تدخل على خبر (كاد)، كما تحذف من خبر (عسى)، إذ هما أخوان يتقارضان، لا يقال: إذا دخل حرف النَّفي على (كاد)؛ يكون للنَّفي كما في سائر أفعاله؛ لأنَّا نقول: القواعد النحوية تقتضي النَّفي، والموافق هنا الإثبات؛ للحديث الأول، انتهى.
ثم قال إمام الشَّارحين: (وهذا الحديث موقوف على سَلمة، لكنه في الأصل مرفوع، يدل عليه ما رواه الإسماعيلي من طريق أبي عاصم عن يزيد بن أبي عبيد بلفظ: «كان المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما يمر العنز») انتهى، ومثله في ابن حجر والقسطلاني.
ثم قال الشَّارح: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة من حيث إنَّه عليه السَّلام كان يقوم بجنب المنبر؛ لأنَّه لم يكن لمسجده محراب، فيكون مسافة ما بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار، فكأنَّه
%ص 710%
قال: الذي ينبغي أن يكون بين المصلي وسترته قدر ما بين منبره والجدار القبلي، وقيل غير ذلك، تركناه؛ لأنَّه [لا] طائل تحته) انتهى.
قلت: أشار بهذا إلى ما قاله ابن حجر وعبارته بعد كلام الكرماني: (وأوضح منه ما ذكره ابن رشيد: أنَّ البخاري أشار بهذه التَّرجمة إلى حديث سهل الذي سبق في باب «الصلاة على المنبر»، فإنَّ فيه: «أنَّه عليه السَّلام قام على المنبر وصلى عليه»، فاقتضى أنَّ ذكر المنبر يؤخذ منه موضع قيام المصلي، فإنَّ أكثر أجزاء الصلاة حصلت على المنبر، ونزوله عن المنبر؛ لأنَّ الدرجة لم تسع قدر سجوده، ولما سجد في أعلاه؛ صارت الدرجة العليا سترة له) انتهى.
قلت: هذا تكلف وكونه_البخاري_ أشار بترجمته إلى حديث سهل بعيد جدًّا؛ لأنَّه لو كان مراده هذا؛ لكان ذكر الحديث تحت ترجمته، وليس فيه اقتضاء كون المنبر قيام المصلي؛ لأنَّ المنبر ليس محلًّا للصلاة، ولا يسع المصلي عليه؛ لأنَّه درجات، فليس فيه مكان يسع أركان الصلاة، على أنَّه ليس لهذه التَّرجمة إشارة عليه ولا دلالة إليه، وهذا من هفوات ابن حجر وابن رشيد، ولهذا اعترضه العجلوني، فقال: (يتوقف في دعواه الأوضحية)؛ يعني: فإنَّه محل خفاء ظاهر من الحديث للتَّرجمة، وعلى كل حال؛ فكلامه لا طائل تحته؛ فافهم.
وفي الحديث: دلالة على استحباب القرب من السترة، ومذهب الأئمة الحنفية: أنَّ السنة ألَّا يزيد ما بين المصلي والسترة على ثلاثة أذرع من قدم المصلي كما بيناه.
وقال البغوي: (استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر مكان السُّجود، وكذلك بين الصفوف).
وقول ابن الصلاح: (قدروا ممر الشاة بثلاث أذرع)، لا يخفى ما فيه من البعد؛ فافهم.
ومذهب الشَّافعي وأحمد كما قاله القسطلاني: أن يكون بين المصلي والسترة أقل من ثلاثة أذرع.
وقال ابن القاسم عن مالك: (ليس من الصَّواب أن يصلِّي وبينه وبين السترة صفان).
وروى ابن المنذر عن مالك: (أنَّه تباعد عن سترة وأن شخصًا قال له: أيها المصلي؛ ألا تَدْنُ من سترة، فمشى الإمام إليها وهو يقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]).
وجمع ابن التين بين حديث الباب وحديث بلال بما إذا قام؛ كان بينه وبين القبلة قدر ممر الشاة، وإذا سجد أو ركع؛ كان بينهما ثلاثة أذرع من موضع رجليه، ولم يحدَّ في ذلك مالك حدًّا إلا بقدر ما يركع فيه ويسجد، ويتمكن من دفع المار فيه، وقد سبق في الحديث الأول، والله تعالى أعلم بالصَّواب.
==================
(1/817)
(92) [باب الصلاة إلى الحربة]
هذا (باب) حكم (الصلاة إلى) جهة (الحَرْبة)؛ أي: المركوزة بين المصلي وبين القبلة، و (الحَرْبة): بفتح الحاء، وإسكان الرَّاء المهملتين؛ وهي دون الرمح العريض النصل.
==========
%ص 711%
==================
(1/818)
[حديث: أن النبي كان يركز له الحربة فيصلي إليها]
498# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان، (عن عبيد الله)؛ بالتصغير: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري القرشي المدني العدوي (قال: أخبرني) بالإفراد (نافع) هو مولى ابن عمر المدني، (عن عبد الله) زاد أبو ذر: (ابن عمر) هو ابن الخطاب رضي الله عنهما: (أنَّ النَّبي) الأعظم، بفتح الهمزة (صلى الله عليه وسلم كان يُركَز)؛ بِضَمِّ التحتية أوله مبنيًّا للمفعول، ولأبي ذر والأصيلي: بالفوقية، من الركز بالزاي؛ وهو الغرز في الأرض؛ أي: تُغرَز (له الحَرْبة)؛ أي: عند إرادته الصلاة.
وقال أهل السير: كانت للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حربة دون الرمح يقال لها: العنزة، فكأنَّها صارت بالغلبة علمًا لها؛ قاله الشَّارح.
قلت: ويحتمل أنَّه أطلق عليها الحربة؛ لأنَّ برأسها حربة؛ من إطلاق البعض وإرادة الكل مجازًا، فإنَّ العنزة: هي العكازة، والغالب أن يكون برأسها حربة؛ وهي مقدار نصف الرمح كما قدمناه.
(فيصلِّي) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (إليها)؛ أي: يتوجه إليها ولا يصمد إليها صمدًا؛ لحديث أبي داود عن المقداد قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلى عود، ولا عمود، ولا شجر إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، لا يصمد [له] صمدًا)؛ أي: لا يقابله مستويًا مستقيمًا، بل كان يميل عنه، فالسنة: أنَّ يجعل السترة على أحد حاجبيه، وهو مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ فافهم.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة، وساقه في الباب قبله، وذكره هنا مختصرًا.
==========
%ص 711%
==================
(1/819)
(93) [باب الصلاة إلى العنزة]
هذا (باب) حكم (الصلاة إلى) جهة (العَنَزة)؛ بفتح العين المهملة والنُّون وبالزاي؛ أي: الحربة المركوزة بين المصلي وبين القبلة، وقيل: زُجُّها إلى أسفل، وهي نصف الرمح، وما قيل: إنَّها أقصر من الحربة؛ ممنوع؛ لتصريح أهل السير: بأنه عليه السَّلام كانت له حربة دون الرمح، يقال لها: العَنَزة، كما قدمناه؛ فافهم.
قيل: على المؤلف حذف أحد البابين؛ لوجود التكرار.
وأجيب: بأنَّه لا تكرار لهذا الباب مع سابقه، وفيه تأمل؛ فافهم.
==========
%ص 711%
==================
(1/820)
[حديث: خرج علينا رسول الله بالهاجرة فأتي بوضوء]
499# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا آدم)؛ بالمد: هو ابن أبي إياس (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج (قال: حدثنا عَون) بفتح العين المهملة وبالنُّون (بن أبي جُحيفة) بِضَمِّ الجيم مصغرًا (قال: سمعت أبي)؛ أي: أبا جُحيفة، واسمه وهب بن عبد الله السُّوائي (قال) وللأصيلي: (يقول): (خرج علينا رسول الله): ولأبوي ذر والوقت: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أي: إلى الصحراء ونحن هناك (بالهاجرة)؛ أي: فيها؛ وهي وقت اشتداد الحر عند الظهيرة، (فأُتي) بِضَمِّ الهمزة مبنيًّا للمفعول (بوَضوء)؛ بفتح الواو؛ أي: ماء للوضوء (فتوضأ)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: وضوءه للصلاة (فصلى) بالفاء، وفي رواية: بالواو (بنا) أي: معشر الصَّحابة (الظُّهرَ والعصرَ)؛ بالنصب على المفعولية والعطف؛ أي: صلى الظُّهر أولًا في وقتها، فلما فرغ منها؛ دخل وقت العصر، فقام فصلى بهم العصر، فتكون صلاته في وقتين حقيقة، وإنَّما عبر عنهما بوقت واحد ظاهرًا مجازًا؛ لقرب وقتهما، ولقلة الزمن بينهما، لا أنَّه عليه السَّلام جمع بينهما بوقت واحد كما يتوهمه المخالفون؛ لأنَّه ليس في الحديث ما يدل عليه؛ لأنَّه لما خرج بالهاجرة _وهي اشتداد الحر_، وهو قرب العصر؛ فاشتغل بالوضوء وصلاة الظُّهر، وهو يحتمل المدة، فلما فرغ من ذلك؛ دخل وقت العصر وهو في صلاة الظهر، أو حين فرغ منها، والصلاة إذا وقعت تحريمتها في الوقت؛ فهي أداء لا قضاء، وهذا ظاهر لمن له أدنى وقوف على معرفة
%ص 711%
معاني الكلام.
(وبين يديه) بالتثنية (عَنَزة)؛ بفتح العين المهملة والنُّون؛ وهي مقدار نصف الرمح، والجملة حالية، قال الشَّارح: (قيل: فيه تكرار؛ لأنَّ العنزة هي الحربة، ورُدَّ بأنَّ الحربة غير العنزة؛ لأنَّ الحربة: هي الرمح العريض النصل، والعنزة: مثل نصف الرمح) انتهى؛ فافهم.
(والمرأة والحمار يمرون من ورائها)؛ أي: العَنَزة، والجملة أيضًا حالية، قال إمام الشَّارحين: (كان القياس في ذلك أن يقال: يمران؛ بلفظ التثنية؛ لأنَّ المذكور مثنى، وهو المرأة والحمار، ووجهوا هذا بوجوه، وأوجهها ما قاله ابن التين: فيه إطلاق اسم الجمع على التثنية، قال: لأنَّ مثل هذا وقع في الكلام الفصيح) انتهى.
قلت: وعلى هذا فلا خلاف في الكلام ولا تقدير، وزعم العجلوني: ولا بد من حذف في الكلام؛ ليطابق (يمرون) بالجمع، وإلا؛ فالظَّاهر: يمران، أي: والمرأة والحمار وغيرهما؛ كقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10]؛ أي: ومن أنفق من بعده؛ والتقدير: والمرأة والحمار وراكبه.
قال ابن مالك: (فحذف الراكب؛ لدلالة الحمار عليه، وغلب تذكير الراكب أيضًا المفهوم على تأنيث المرأة، وكذا [1] الفعل على الحمار، فقال: «يمرون»؛ كقوله: راكب البعير طليحان؛ أي: البعير وراكبه طليحان) انتهى.
قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّ فيه حذفًا وتقديرًا، وعدم الحذف والتقدير أولى عند المحققين، وانظر تكرار كلامه بلا فائدة.
وقال إمام الشَّارحين: (وتوجيه ابن مالك فيه تعسف وبُعْدٌ عن الظَّاهر) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ ما وجهه ابن مالك واقع في الفصيح، وجَارٍ على القواعد، انتهى.
قلت: كيف يكون جاريًا على القواعد، والقاعدة عند النحاة: إذا اجتمع التقدير وعدمه؛ فعدم التقدير أولى، وكأنَّه لم يطلع على هذه القاعدة، وكون ما وجهه واقع في الفصيح مسلم، لكنه على سبيل القلة والندور، وما قاله ابن التين جار على الفصيح الكثير المشهور المتواتر، وإذا اجتمع المشهور والنادر؛ فالمشهور أولى عند المدققين.
وزعم ابن حجر أنه أراد الجنس، ويؤيده رواية: (والناس والدَّواب يمرون)، والظَّاهر أنَّ الذي وقع هنا من تصرف الرواة، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (قوله: «كأنَّه أراد الجنس»؛ هذا ليس بشيء؛ لأنَّه إذا أريد الجنس؛ يراد به: جنس المرأة وجنس الحمار، فيكون تثنية، فلا يطابق الكلام.
وقوله: «والظَّاهر ... » إلخ: هذا أيضًا ليس بشيء؛ لأنَّ فيه نسبتهم إلى ذكر ما [2] يخالف القواعد) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ الجنس في المرأة والحمار يصدق بأفراد كثيرة، فلا يكون تثنية، وكونه مخالفًا للقواعد فيه أنَّه موافق لها، وإن كان غيره هو الظَّاهر، انتهى.
قلت: هذا كلام بارد من ذهن شارد؛ لأنَّه وإن كان يصدق على أفراد، لكنه تثنية حقيقة؛ لأنَّ مسمى المرأة واحد، وكذا مسمى الحمار واحد، فلا يكون إلا تثنية على أنَّه لا يصح هنا إرادة الجنس؛ لأنَّه ليس هناك غيرها، فإرادة العهد صواب، ويدل عليه أنَّه عليه السَّلام خرج للصحراء، وهناك ليس بمقر للنساء والحُمُر، فالصَّواب: كون اللَّام فيه للعهد.
وكونه موافقًا للقواعد؛ ممنوع، فأي قاعدة توافق ما زعمه؟ فإنَّ الرواة يشترط فيهم الحفظ والأمانة، وما زعمه ينافيه؛ لأنَّهم لا يصدر منهم نقص في الألفاظ، ولا تغيير، ولا تبديل، وما زعمه ينافيه مع ما فيه من الجرأة وسوء الأدب بالصَّحابة الذين قال فيهم النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم» رضي الله عنهم أجمعين، فلا عليك من كلامه، ويجب اجتنابه؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (وذا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (إلى ما ذكر)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (وذا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (وذا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/821)
[حديث: كان النبي إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام ومعنا]
500# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن حاتِم) بكسر الفوقية (بن بَزِيْع)؛ بفتح الموحَّدة، وكسر الزاي، وسكون التحتية آخره مهملة: هو أبو بكر أو أبو سعيد البصري، نزيل بغداد، المتوفى سنة تسع وأربعين ومئتين (قال: حدثنا شاذان)؛ بالشين والذَّال المعجمتين، تثنية شاذ، هو ابن عامر البغدادي، (عن شعبة) هو ابن الحجاج، (عن عطاء) بالمد (بن أبي مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، بينهما تحتية، واسمه منيع، هو البصري الثِّقة أبو معاذ، المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومئة (قال) وفي رواية: (يقول): (سمعت أنس بن مالك) هوالأنصاري البصري رضي الله عنه (قال)؛ أي: أنس، والجملة فعلية محلها نصب مفعول ثان لـ (سمعت) أو حال (كان النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم إذا خرج)؛ أي: من حجرته، أو من بين الناس إلى الصحراء (لحاجته)؛ أي: للتخلي من البول أو الغائط؛ (تبعته)؛ أي: ذهبت معه، وذلك على الدوام والاستمرار كما يفيده التعبير بـ (كان)، وهذا قبل اتخاذ الكنف في البيوت، وهو جواب (إذا) (أنا)؛ بالرفع تأكيد للضمير المرفوع في (تبعته)، ويعطف عليه قوله: (وغلام): لم يعلم اسمه، وفي رواية الإسماعيلي في باب (من حمل معه الماء لطهوره): (أنا وغلام من الأنصار)، وعند المؤلف هناك: (وغلام منا)؛ أي: من قومنا أو من خدمه عليه السَّلام، ويحتمل أنَّ في التعبير قلبًا، وأصل الكلام: تبعته وأنا غلام؛ لأنَّ أنسًا كان يخدمه عليه السَّلام حين جاءت به أمه وهو صغير لم يبلغ الحلم، فقالت: خذ هذا يخدمك، وكانت تقول للنبي الأعظم: خويدمك [1] أنس ادع [2] له، فعلى هذا لم يكن معه أحد، لكن قد يقال: إنَّهما اثنان، ويدل عليه قوله: (ومعنا)؛ فإنَّه يدل على الجمع، وقد يقال: المراد بالجمع ما فوق الواحد، ويحتمل تعدد القصة؛ فافهم، (عُكَّازة): الجملة حالية، وهي _بضم العين المهملة، وتشديد الكاف، وبالزاي_ عصًا ذات زج من حديد في أسفلها، وقد تكون بدون زُج.
وزعم ابن المُنَيِّر: فيه دليل حَسَنٌ للصوفية على اتخاذ العكاز وما أدى نجوًا إلا هذا النجو، ثم اتبعهم أعرامهم فيه، انتهى.
قلت: فيه نظر، فإنَّ حمل العكازة يستحب لكل [من] بلغ سن الأربعين، وإنَّما خص المتصوفة؛ لأنَّهم يتجاهرون بحمل العكازة، ولبس الخرقة على رؤوسهم وأجسادهم وغير ذلك مما يدل على مقصدهم من الرياء والسمعة، ومشيهم في الأسواق؛ ليراهم الناس أنَّهم الزهاد في الدنيا وما هو إلا مخرفة وهزأة، لما يشاهد ممن ادعى ذلك كثرة الحب للدنيا والإقبال على أهلها وطلب ما بأيديهم، وهو خلاف فعلهم، كما لا يخفى.
وقوله: (وما أدى ... ) إلى آخره: ممنوع؛ لما رواه الدارقطني في «أفراده» عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله؛ أراك تدخل الخلاء ثم يجيء الرجل يدخل بعدك، فما يرى لما خرج منك أثرًا، فقال: «أما علمتِ أنَّ الله أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء؟».
وفي «الشفا»: عن ابن سعد عن عائشة أنَّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّك تأتي الخلاء، فلا نرى منك شيئًا من الأذى، فقال: «يا عائشة؛ أوما علمت أنَّ الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء، فلا يرى منه شيء؟» انتهى؛ فافهم.
وقد نقل العجلوني كلام ابن المُنَيِّر ولم يتكلم عليه، إمَّا من التعصب، وإمَّا من قلة البضاعة، والله أعلم؛ فافهم.
(أو قال) أي: أنس: (عصًا)؛ أي: بدل العكازة، وكلمة (أو) للشك
%ص 712%
من الراوي، والمراد بالعصا: عود صغير طول ذراع فأكثر في غلظ الإبهام فأكثر، وإنَّما قلنا هذا؛ ليحصل الفرق [بين] العصا والعكازة؛ لأنها وإن كان الغالب فيها زج حديد إلا أنَّها تكون بدونه، وهي يعتمد عليها في المشي والقيام ونحوهما، بخلاف العصا، فإنَّه لا يعتمد عليها؛ لعدم قوتها فتنكسر؛ فافهم، (أو عَنَزة)؛ بفتح العين المهملة والنُّون والزاي رواية الأكثرين، ففيه المطابقة للتَّرجمة، قال إمام الشَّارحين: (وفي رواية المستملي والحموي: «أو غَيْره»؛ بالغين المعجمة، وسكون التحتية، وبالرَّاء المهملة، فإن صح هذا؛ فليس فيه ما يطابق التَّرجمة، والضمير فيه يرجع إلى غير العكازة والعصا؛ والتقدير: أو غير كل واحد منهما) انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ هذه الرواية تصحيف.
وردَّه الشَّارح، فقال: (كيف يكون تصحيفًا وهي رواية المستملي والحموي، فكأنَّ هذا القائل ارتكب هذا؛ لئلا يقال: إنَّ الحديث لا يطابق التَّرجمة) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ القاضي عياض قال: (الصَّواب: الرواية الأولى؛ لموافقتها للأمهات)، قال: (وبه يندفع الاعتراض، وقد يقال: إنَّ المطابقة حاصلة على هذه الرواية أيضًا؛ لأنَّ «أو غيره»؛ _أي: غير المذكور من العصا والعكازة_ يشمل العنزة، أو هي في معنى أحد المذكورات) انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، وقول القاضي: (الصَّواب ... ) إلخ: لا يدفع هذا الاعتراض؛ لأنَّ فيه تسليم الرواية الثانية غاية ما فيه ترجيح الرواية الأولى، وهو غير دافع، على أنَّ المقرر عند المحدثين: أنَّ المستملي أحفظ الرواة، فكيف يقال فيه أنَّه مصحف مع رواية الحموي مثله؟ فالقول بأنَّهما تصحفا الرواية قول صادر من غير تأمل، ولا يعول عليه، ويجب اجتنابه.
وقوله: (وقد يقال ... ) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّه على ما زعمه، وإن كان يشمل العنزة على بُعْدٍ، لكنه غير مذكور في الحديث، وعليه فلا يطابق التَّرجمة، كما لا يخفى على أنَّه أتى بالعكازة والعصا بالتنكير، وهو يدل على الجنس، فيكون قوله: (أو غيره) على الرواية الثانية؛ أي: غير المذكور من جنس العصا والعكاز، وهو لا يشمل العنزة، فلا يطابق.
وقوله: (أو هي ... ) إلخ: ممنوع أيضًا؛ لأنَّ كونها في معنى المذكورات هي العصا والعكاز نفسهما غير أنَّه يحتمل التخالف في أنواع الشجر؛ كالعود من الرمان، أو الزيتون، أو النخل، أو نحوها، وعليه فلا مطابقة للتَّرجمة أيضًا، وهذا صريح في تسليمه عدم المطابقة، وعلى كل حال العنزة على الرواية الثانية غير مذكورة قطعًا، فلا مطابقة فيه للتَّرجمة؛ فافهم.
(ومعنا إِدَاوة)؛ بكسر الهمزة، وتخفيف الدَّال المهملة: إناء صغير من جلد؛ كالسطيحة مملوءة ماء، والجملة حالية أو مستأنفة (فإذا فرغ) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (من حاجته)؛ أي: البول والغائط؛ أي: قضائها؛ (ناولناه الإِداوة)؛ أي: ليتوضأ بالماء الذي فيها بعد استنجائه بالأحجار، ويحتمل أنَّه ليستنجي بالماء، والظَّاهر: الأول؛ لأنَّه عليه السَّلام من عادته الدوام على الوضوء؛ لمناجاة ربه، فلا يمكث على غير طهارة، وبقضاء حاجته انتقضت طهارته؛ فلذا أخذ الإداوة لأجل الوضوء، كما لا يخفى، واستظهر العجلوني تبعًا لابن الملقن الثاني تعصبًا، قال: (لأنَّ العادة في الوضوء الصب على اليد) انتهى.
قلت: هذا ممنوع؛ لأنَّ عادته عليه السَّلام أخذ الإداوة بيده، ويصب على الأخرى، فيجمع الماء فيها ويتوضأ، وهذه عادة شائعة عند الخاص والعام، وكون العادة في الوضوء الصب؛ ممنوع؛ لأنَّه فعل المترفهين المتكبرين لا يليق بالمتعبدين، والنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين، ويدل عليه الحديث المرفوع: «أنا لا أستعين في وضوء بأحد»، قاله عليه السَّلام لعمر بن الخطاب وقد بادر لصب الماء عليه؛ فافهم.
وقال ابن بطال: (فيه الاستنجاء بالماء).
وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّ هذا ليس بصريح؛ لأنَّ قوله: «فإذا فرغ من حاجته» يشمل الاستنجاء بالحجر، ويكون مناولة الماء لأجل الوضوء) انتهى.
قلت: وهذا هو الظَّاهر، كما قدمناه.
واعترضه العجلوني بأنَّه غير وارد؛ لأنَّه لم يدَّعِ الصراحة، انتهى.
قلت: ممنوع، بل هو وارد؛ لأنَّ اللَّفظ أعم شامل لكل منهما، وإن كان الظَّاهر الوضوء، وابن بطال لما جزم بقوله: (وفيه ... ) إلخ؛ دل هذا على دعواه الصراحة، على أنَّ إمامنا الشَّارح مراده أنَّ لفظ الحديث أعم، واقتصاره عليه دليل على أنَّه مدعي الصراحة؛ فافهم، ولا تغتر بكلام العجلوني، فإنَّه رأس المتعصبين؛ فاجتنبه.
وقال ابن بطال: (فيه: خدمة السلطان والعالم).
واعترضه الشَّارح، فقال: (حصره في الاثنين لا وجه له، والأحسن أن يقال: فيه خدمة الكبير) انتهى.
قال العجلوني: (تأمل قوله: «والأحسن» مع قوله: «لا وجه له») انتهى.
قلت: هذا القائل لم يقف على معاني الكلام، فإنَّ معنى قوله: (الأحسن ... ) إلخ؛ أي: الحسن والصَّواب، و (أفعل) التفضيل ليس على بابه، وليس في كلام ابن بطال حسن أصلًا؛ لأنَّه قاصر، والتعبير بالكبير هو الصَّواب؛ لأنَّه أعم وأشمل، وانظر تقديم السلطان على العالم، فإنَّ فيه سوء الأدب بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وهم الحكام على السلاطين والأمراء، كما لا يخفى.
وفي الحديث: استحباب اتخاذ العنزة ونحوها مع قاضي الحاجة؛ لأجل أن ينبش بها الأرض الصلبة؛ لئلا يعود عليه شيء من الرشاش، ولأجل أن يركزها المصلي أمامه يستتر بها عن المارين كما فعله عليه السَّلام.
ومذهب الإمام الأعظم رئيس الأئمة المجتهدين: يستحب للمصلي أن يغرز سترة؛ لما تقدم من الأحاديث، وتكون طول ذراع فصاعدًا؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «يجزئ من السترة قدر مؤخر الرحل، ولو بِدِقَّةِ شعر»، رواه الحاكم على شرط الشيخين، وتكون في غلظ الإصبع؛ لأنَّه أدنى ما يظهر للناظر، والمقصود أن يظهر للمارين، وفي أقل من ذلكلا يحصل، وقوله عليه السَّلام: «ولو بدقة شعر» خرج مخرج النادر على سبيل المبالغة في وضع السترة، يدل عليه حديث: «ليستتر أحدكم ولو بسهم»، فإن لم يجد ما ينصبه؛ فليَخُطَّ خطًّا بالعرض مثل الهلال؛ لما في السنن مرفوعًا: «إن لم يكن معه عصا؛ فليخط خطًّا»، وقيل: يخط مدور كالمحراب، كما في «شرح النقاية» للقهستاني و «الإمداد»، ومثله في «شرح المشكاة» لإمام المحدثين المنلا القاري.
وقال ابن بطال: (وقال مالك: أقل ما يجزئ المصلي من السترة غلظ الرمح والعصا وارتفاع ذلك قَدْر عظم الذراع، ولا يجيز الخط غير الشَّافعي) انتهى.
قلت: وحصره ممنوع، فإنَّ إمامنا الأعظم يقول به
%ص 713%
كما قدمناه للحديث، وهو قول أحمد ابن حنبل كما صرح به صاحب «المنتهى»، والسترة عنده؛ كما عند الحنفية والشَّافعية، وهو قول الثَّوري وعطاء، ومن المعلوم أنَّ الصلاة بدون سترة صحيحة، لكنها مكروهة؛ فانظر كيف حصر ابن بطال الجواز في الشَّافعي من عدم اطلاعه على الأحكام في المذاهب، وقدمنا الكلام عليه فيما سبق؛ فافهم.
==================
[1] في الأصل: (خودمك)، ولعله تحريف.
(1/822)
(94) [باب السترة بمكة وغيرها]
هذا (باب) حكم (السترة) المركوزة بين المصلى وبين الكعبة (بمكة وغيرها)؛ أي: من سائر الأماكن؛ لدرء المارين عنه، والمراد بالحكم الاستحباب؛ لحديث الباب.
قال إمام الشَّارحين: (إنَّما قيد بمكة؛ دفعًا لما يتوهم أنَّ السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة، وكل من يصلِّي في مكان واسع؛ فالمستحب له أن يصلِّي إلى سترة بمكة كان أو غيرها، إلا أن يصلِّي بمسجد مكة بقرب القبلة حيث لا يمكن لأحد المرور بينه وبينها، فلا يحتاج إلى سترة؛ إذ قبلة مكة سترة له، فإن صلى في مؤخر المسجد بحيث يمكن المرور بين يديه، أو في سائر بقاع مكة إلى غير جدار أو شجرة أو ما أشبهها؛ فينبغي له أن يجعل أمامه ما يستره من المرور بين يديه، كما فعل الشَّارع حين صلى بالبطحاء إلى عنزة، والبطحاء خارج مكة) انتهى.
==========
%ص 714%
==================
(1/823)
[حديث: خرج رسول الله بالهاجرة فصلى بالبطحاء]
501# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سليمان بن حَرْب) بفتح المهملة، وسكون الرَّاء، ضد الصلح (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عتيبة _بالتصغير_، التَّابعي الصغير الكوفي، (عن أبي جُحيفة)؛ بِضَمِّ الجيم مصغرًا: هو وهب بن عبد الله السُّوائي الكوفي (قال) وفي رواية: (يقول): (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم): يحتمل أنَّه من حجرته أو من مكة، وفي رواية تقدمت في باب (استعمال فضل وضوء الناس): أنَّ خروجه كان من قبة حمراء من أدم بالأبطح (بالهاجرة)؛ أي: في سفر؛ وهي وقت اشتداد الحر في وسط النهار، (فصلى بالبطحاء)؛ أي: بطحاء مكة، ويقال: الأبطح أيضًا، وهو خارج مكة (الظُّهر والعصر)؛ أي: أنَّه صلى الظُّهر أولًا، ثم دخل وقت العصر فصلاه؛ لأنَّ خروجه ووضوءه وصلاته الظُّهر يحتاج إلى مدة طويلة تستغرق وقت الظُّهر، فلما فرغ منها أو في أثنائها؛ دخل وقت العصر فصلاه، فليس فيه أنَّه جمع بينهما كما زعمه بعض الناس؛ لأنَّه مخالف لعادته عليه السَّلام؛ فافهم، وقوله: (ركعتين): يتعلق بكل واحد من الظُّهر والعصر؛ أي: كل واحدة منهما ركعتين قصرًا للسفر، (ونَصَبَ)؛ أي: أمر أن ينصب، وفي نسخة: بالبناء للمفعول (بين يديه) بالتثنية؛ أي: أمامه (عَنَزَة)؛ بفتح المهملة والنُّون والزاي: أقصر من الرمح، وأطول من العصا، وفيها زُجٌّ كزج الرمح، وإنَّما صلى إليها؛ لأنَّه عليه السَّلام كان في الصحراء، فإنَّ الصلاة في المسجد الكبير لا تحتاج إلى سترة، غاية ما فيه أنَّه يحرم المرور في موضع سجوده، وحد المسجد: أن يكون أربعين ذراعًا في أربعين ذراعًا؛ فافهم.
(وتوضأ)؛ أي: وضوءه للصلاة، ويحتمل في هذه الواو أن تكون للحال، ويحتمل أن تكون للعطف، وعلى الثاني لا يقال: كيف نصب العنزة والوضوء قبل الصلاة؟ فكيف عكس؟ لأنَّا نقول: إنَّ الواو للعطف لمطلق الجمع لا تفيد ترتيبًا، ولا تعقيبًا، ولا معية؛ كما هي الأصل، كما في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... }؛ الآية [المائدة: 6]، وقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ ... }؛ الآية [آل عمران: 55]، وأمثال ذلك في الفصيح كثير، (فجعل الناس) أي: الصَّحابة (يتمسحون بوَضوئه)؛ بفتح الواو؛ أي: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، وكأنَّهم اقتسموه بينهم، أو كانوا يتناولون من الذي يتقاطر حين التوضؤ، والأول أظهر بالسياق، وإنَّما كان تمسحهم به؛ لأجل التَّبرك به؛ لكونه مس جسده الشَّريف المقدس، ففيه: بيان أنَّ الماء المستعمل طاهر، وعلى الأول فالماء طاهر مع ما حصل له من التَّشريف والبركة بوضع يده فيه، والتَّمسح تفعل، كأنَّ كل واحد منهم مسح به وجهه ويديه مرة بعد أخرى؛ كقوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 17]؛ أي: يشربه جرعة بعد أخرى، أو هو من باب التكلف؛ لأنَّ كل واحد منهم لشدة الازدحام على فضل وضوئه كان يتعنَّى لتحصيله، ويتكلف بتناوله، كـ (تشجَّع) و (تصبَّر)، وجملة (يتمسحون): في محل نصب خبر (جعل) الذي هو من أفعال المقاربة.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة من قوله: (فصلى بالبطحاء)؛ لأنَّها في مكة، ولمَّا كان فضاء؛ نُصِب له بين يديه عنزة، فصلى إليها، وقد سبق في الباب قبله وفي باب (استعمال فضل وضوء الناس).
وفيه: التَّبرك بآثار الصالحين.
وفيه: استحباب وضع العنزة أمام المصلي في الصحراء؛ لدرء المارِّين.
قال ابن بطال: (المعنى في السترة للمصلي: دفع المارِّ بين يديه، فمن صلى في مكان واسع؛ فالمستحب له أن يصلِّي إلى سترة بمكة أو غيرها، ويكره له ترك ذلك) انتهى.
وزعم ابن حجر: (إنَّ الذي أظنه أنَّ البخاري أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد الرزاق بـ «باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء»، ثم أخرج عن المطلب أنَّه قال: «رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم _أي: الناس_ سترة»، وأخرجه أيضًا أصحاب «السنن»، وهو معلول وإن كان رجاله موثَّقين فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث، وأنَّه لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، وهذا هو المعروف عند الشَّافعية، ولا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها، واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطَّائفين دون غيرهم للضرورة، وعن بعض الحنابلة: جواز ذلك في جميع مكة) انتهى.
قلت: وفيه نظر، فإنَّ المؤلف في بيان أحكام سترة المصلي، ومن جملة المصلين المصلي بمكة، فأشار بترجمته إلى دفع ما يتوهم أنَّ مكة لا يحتاج المصلي فيها إلى سترة؛ لقرب القبلة إليه، وأراد أنَّه لا فرق في وضع السترة بين مكة وغيرها.
وكونه أشار إلى ضعف الحديث؛ ممنوع؛ لأنَّه لم يشر إليه في شيء، فهو بعيد عن النَّظر على أنَّه كيف يقول: رجاله موثَّقون، ويقول: إنَّه معلول، فهذا تناقض في الكلام والمعاني، وكون ما ذكره المعروف عند الشَّافعية، كذلك هو المعروف عند الأئمة الحنفية والمالكية، وإنَّما اغتفر بعض الفقهاء ذلك للطَّائفين، لم يبين ما هم، ولعل وجهه أن المسجد كبير حينئذٍ لا يحتاج إلى سترة، أو أنهم يصلُّون في مكان من جهة القبلة بحيث لا سبيل للمارِّين إليه، وتعليله بالضرورة فيه نظر؛ إذ لا ضرورة فيه، والله أعلم.
==========
%ص 714%
==================
(1/824)
(95) [باب الصلاة إلى الأسطوانة]
هذا (باب) حكم (الصلاة) مطلقًا (إلى) جهة (الأُسْطُوانة) إذا كان في موضع فيه أُسطُوانة، وهي بِضَمِّ الهمزة والطاء المهملة، وسكون المهملة بينهما؛ وهي السارية، معرَّب أستون، قال إمام الشَّارحين:
%ص 714%
(والنُّون فيها أصلية، ووزنها: «أُفعوالة»؛ مثل: أُقحوانة؛ لأنَّه يقال في أساطين: مسطنة، وقال الأخفش: وزنها «فعلوانة»، وهو يدل على زيادة الواو والألف والنُّون، وقال قوم: وزنها «أفعلانة»، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما جمع على أساطين؛ لأنَّ ليس في الكلام «أفاعين») انتهى.
وزعم ابن حجر الغالب أنَّ الأسطوانة تكون من بناء بخلاف العمود، فإنَّه من حجر واحد.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (الغالب لا طائل تحته، ولا نسلم أنَّ العمود يكون من حجر واحد؛ لأنَّه ربما يكون أكثر من حجر واحد، ويكون من خشب أيضًا) انتهى.
والمراد بالحكم: الاستحباب؛ للأحاديث السَّابقة واللاحقة.
وقال ابن بطال: (لمَّا تقدم أنَّه عليه السَّلام كان يصلِّي إلى الحربة؛ كانت الصلاة إلى الأسطوانة أولى؛ لأنَّها أشد سترة).
واعترضه ابن حجر، فقال: (إفادة ذلك بالنص على وقوعه أعلى من الفحوى) انتهى.
قلت: أراد بالنص حديثي الباب، وفيه أنَّه لمَّا تقدم أنَّه عليه السَّلام كان إلى الحربة يصلِّي؛ علم منه مشروعية السترة بالحربة، ولمَّا كانت الأسطوانة أشد سترة؛ علم أنَّها أولى بالستر من غيرها، وحديثي الباب ليس بصريح في ذلك، فلا يقال: إنَّه نصٌّ بذلك، كما لا يخفى، فكأنَّه لمَّا كان في الحكم سواء؛ أشار لما تقدم؛ لأنَّه أظهر، هذا معنى كلام ابن بطال، وبه اندفع ما زعمه ابن حجر؛ فافهم.
(وقال عمر) هو ابن الخطاب، أمير المؤمنين، ثاني خلفاء سيد المرسلين رضي الله عنه: (المصلون)؛ أي: الذين يدخلون المسجد لأجل الصلاة فيه، وكذلك تلاوة القرآن والذكر (أحق) أي: أولى (بالسواري)؛ أي: في التستر بها لصلاتهم، وهي جمع سارية؛ وهي الأسطوانة، كما قاله ابن الأثير والجوهري، والظَّاهر أن السارية من ذوات الياء، قاله إمام الشَّارحين (من المتحدثين إليها): متعلق بـ (المتحدثين) جمع متحدث؛ بمعنى المتكلم؛ أي: المتكلمين، ووجه الأحقية ما قاله الشَّارح: (أنَّ المصلين والمتحدثين مشتركان في الحاجة إلى السارية، فالمتحدثون إلى الاستناد إليها، والمصلون لجعلها سترة لصلاتهم لكن المصلين في عبادة، فكانوا أحق بها) انتهى.
قلت: وأفاد قوله: (أحق) إلى أنَّ المتكلمين في المسجد هم في عبادة؛ حيث إنَّهم ينتظرون الصلاة، فكأنَّهم في الصلاة حكمًا، يدل عليه قوله عليه السَّلام: «إنَّكم في صلاة ما انتظرتموها» كما سبق في «الصَّحيح»، والمصلون يصلُّون حقيقة، فهم أولى بها، وأفاد أنَّ التحدث في المسجد غير مكروه إذا كان مباحًا ولم يترتب عليه مفسدة؛ كغيبة ونحوها، وقد ابتلي به أكثر الناس.
قال الشَّارح: (وهذا التَّعليق وصله أبو بكر ابن أبي شيبة والحميدي من طريق هَمْدان _بَريد عمر؛ أي: رسوله إلى أهل اليمن_ عن عمر رضي الله عنه به، وهَمْدان؛ بفتح الهاء، وسكون الميم، وبالدَّال المهملة، ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّ السواري هي الأساطين) انتهى.
(ورأى) عبد الله (ابن عمر) هو ابن الخطاب رضي الله عنهما، كذا وقع بإثبات (ابن) في رواية أبي ذر، والأصيلي، وغيرهما، وعند البعض: (رأى عمر)؛ بحذف (ابن)، كذا قاله الشَّارح، وزعم ابن حجر أنَّ حذف (ابن) أشبه بالصَّواب؛ لأنَّه رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» من طريق معاوية بن قرة بن إياس عن أبيه_وله صحبة_ قال: (رآني عمر وأنا أصلي)، فذكر مثله سواء، ولكن زاد: (فأخذ بقفاي)، وبه عرف تسمية المبهم المذكور في التَّعليق، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (رواية الأكثرين أشبه بالصَّواب مع احتمال أن تكون قضيتان إحداهما عن عمر، والأخرى عن ابنه، ولا مانع لذلك، وقوله: «وبه عرف ... » إلخ، هذا إنَّما يكون إذا تحقق اتحاد القضية) انتهى.
قلت: والظَّاهر أنَّهما قضيتان، كما لا يخفى.
(رجلًا): سبق أنَّه قرَّة المزني على ما زعمه ابن حجر، وفيه ما علمت؛ فافهم (يصلِّي) أي: في المسجد النَّبوي (بين أُسْطُوانتين)؛ بِضَمِّ الهمزة والطاء، تثنية أُسطوانة؛ وهي السارية؛ أي: بغير سترة أمامه والناس يمرون أمامه (فأدناه)؛ أي: قربه من الإدناء [1]؛ وهو التقريب؛ أي: قرب عمر أو ابنه الرجل (إلى سارية)؛ أي: أُسطوانة من الذين صلى بينهما، (فقال) أي: عمر أو ابنه للرجل: (صلِّ إليها)؛ أي: متوجهًا إليها، وإنَّما كره عمر ذلك؛ لانقطاع الصفوف، قاله ابن التين، وقيل: أراد بذلك أن تكون صلاته إلى سترة، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والظَّاهر الثاني؛ لأنَّ الرجل كان يصلِّي وحده منفردًا، فلو كان يصلِّي بجماعة؛ لم يقل له ذلك؛ لأنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه كما ثبت فيما سبق، ويدل عليه قوله: (صلِّ إليها)، فلو كان مقتديًا؛ فسترته لا تفيد شيئًا، كما لا يخفى، فما زعمه ابن التين ليس بشيء؛ فافهم.
وفي الأثر المذكور: دليل على أنَّ المشي في الصلاة خطوة أو خطوتين غير مبطل للصلاة؛ لأنَّ عمر أدناه إلى إحدى [2] الساريتين وهو في الصلاة.
وفيه: جواز تكليم المصلي؛ لأنَّ عمر قال له: (صلِّ إليها) ولم يتكلم الرجل؛ لأنَّه ممنوع من الكلام؛ حيث إنَّه في الصلاة؛ فافهم.
وفيه: وجوب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
وفيه: أنَّ الإمام أو غيره إذا رأى منكرًا؛ يغيره بيده، كما فعل عمر رضي الله عنه، وإلا؛ فبلسانه، وإلا؛ فبقلبه، وهو أضعف الإيمان.
وزعم ابن حجر أنَّ البخاري أراد بإيراد أثر عمر: أنَّ المراد بقول سلمة: (يتحرى الصلاة عندها)؛ أي: إليها، وكذا قول أنس: (يبتدرون السواري)؛ أي: يصلُّون إليها، انتهى.
قلت: هذا ليس بشيء؛ لأنَّه لو كان مراده ما ذكر؛ لكان حقه أن يذكر الحديثين أولًا، ثم التَّعليق بعدهما؛ ليكون تفسيرًا لهما، ولمَّا قدَّم ذكر التَّعليق عليهما؛ عُلِم منه أنَّه لم يرد ذلك لا بإشارة ولا غيرها، وأنَّه جرى على عادته من ذكر التَّعاليق ثم الأحاديث تحت ترجمته، ومعلوم أنَّ الصلاة عندها؛ أي: إليها متوجهًا؛ لأنَّ المؤلف في معرض السترة للمصلي، فما زعمه بعيد عن النَّظر؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (الإدنان)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أحد)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (الإدنان)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الإدنان)، وليس بصحيح.
(1/825)
[حديث: رأيت النبي يتحرى الصلاة عندها]
502# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا المكي) زاد الأصيلي: (ابن إبراهيم) هو البلخي (قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد)؛ بالتصغير: هو الأسلمي مولى سلمة ابن الأكوع (قال: كنت) بصيغة المتكلم (آتي) بمد الهمزة للمتكلم من الإتيان (مع سَلَمَة)؛ بفتحات (ابن الأكوع): واسمه سنان بن عبد الله الأسلمي المدني، الصَّحابي المشهور؛ يعني: إلى المسجد النَّبوي للصلاة (فيصلي)؛ أي: سلمة، وفي نسخة: (فنصلي)؛ بالنُّون؛ أي: أنا وهو (عند الأُسطُوانة)؛ بِضَمِّ الهمزة؛ أي: السارية، فاللَّام فيها للعهد، وهي المتوسطة في الروضة، وتعرف بأُسطوانة المهاجرين (التي عند المصحف)؛ أي: المعهود الذي كان في المسجد، قال الشَّارح: وهذا يدل على أنَّه كان في المسجد النَّبوي موضع خاص للمصحف الذي كان ثمة من عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ووقع عند مسلم بلفظ: (يصلي وراء الصندوق)، وكأنَّه كان للمصحف صندوق يوضع فيه، انتهى.
وقوله: (فقلت) من كلام يزيد؛
%ص 715%
أي: قال: يزيد لابن الأكوع: (يا با مسلم): أصله (يا أبا): حذفت الهمزة تخفيفًا، وهذا كنية سلمة ابن الأكوع (أراك) أي: أبصرك (تتحرى) أي: تجتهد، وتختار، وتقصد (الصلاة عند هذه الأسطوانة)؛ أي: من بين أساطين المسجد، فتخصها بالصلاة عندها، (قال) أي: سلمة: (فإنَّي رأيت النَّبي) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: حين يصلِّي في مسجده (يتحرى) أي: يختار (الصلاة عندها)؛ أي: عند أُسطوانة المهاجرين، يحتمل أنَّه كان يخصها رأفة ورحمة بالمهاجرين، ويحتمل لأنَّها مقدمة في السترة على العنزة.
وقال الشَّارح: (وينبغي أن تكون الأسطوانة أمامه ولا تكون إلى جنبه؛ لئلا يتخلل الصفوف شيء ولا يكون له سترة.
ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة من قوله: «فيصلِّي عند الأسطوانة»، وقوله: «يتحرى الصلاة عندها») انتهى.
قلت: وفي الحديث: فضيلة الصلاة عند هذه الأُسطوانة، وروى ابن النجار في «تاريخ المدينة» عن عائشة رضي الله عنها أنَّها كانت تقول: (لو عرفها الناس؛ لاضطربوا عليها بالسهام)، وأنَّها أسرَّتها إلى ابن الزُّبير، فكان يكثر الصلاة عندها، وأنَّ المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، انتهى، ومثله في «أخبار المدينة» لمحمَّد بن الحسن؛ فافهم.
والجمهور على أنَّ المصاحف التي نسخت بأمر الإمام عثمان كانت أربعة، أرسل واحدًا للكوفة، وآخر للبصرة، وآخر للشام، وترك واحدًا عنده بالمدينة.
وقيل: كتب سبعة، بعث واحدًا إلى مكة، وآخر للشام، وآخر لليمن، وآخر للبحرين، وآخر للبصرة، وآخر للكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا.
فالمتفق عليها خمس: مصحف الشام، ومكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، واختلف في ثلاثة: مصر، واليمن، والبحرين.
والذي عليه الجم الغفير من العلماء وفضلاء الشام أنَّ المصحف الموجود الآن بالشام في الجامع الشَّريف الأموي في بيت الخطابة، هو الذي عليه دم سيدنا عثمان رضي الله عنه على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة: 137]، وهذا مما بلغ حد التواتر، وهو الصَّواب، وما زعمه أهل مصر أنَّه الموجود في قبة السلطان الغوري؛ فلا أصل له؛ لأنَّه لم يُبْعَث لهم مصحف على قول الجمهور، فكيف يكون عندهم هذا؟ ويدل للأول أنَّ بني أمية كانت سلطنتهم في الشام وكانوا يستصحبون هذا المصحف معهم في الخزائن، فهو هو بلا ريب، والله أعلم.
==================
(1/826)
[حديث: رأيت كبار أصحاب النبي يبتدرون السواري عند المغرب]
503# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قَبِيْصة)؛ بفتح القاف، وكسر الموحَّدة، وسكون التحتية: هو ابن عقبة الكوفي (قال: حدثنا سفيان) هو الثَّوري الكوفي، (عن عَمرو) بفتح العين المهملة (بن عامر) هوالأنصاري الكوفي، قال الشَّارح: (وليس هو والد أسد، فإنَّه بجلي، ولا عمرو بن عامر البصري، فإنَّه سلمي) انتهى، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك) هوالأنصاري خادم النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أنَّه (قال: لقد أدركت) هكذا في رواية المستملي والحموي، وفي رواية غيرهما: (لقد رأيت) (كِبار): جمع كبير؛ بمعنى: عظيم؛ ككريم وكِرام (أصحاب): جمع صاحب، أو اسم جمع له؛ بمعنى: صحابي (محمَّد) هو علم على النَّبي الأعظم نبينا، وفي نسخة: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) والمفعول الثاني لـ (رأيت) أو (أدركت) هو جملة قوله: (يبتدرون السواري)، جمع سارية، وهي الأُسطوانة؛ أي: يتسارعون إليها ليجعلوها سترة لصلاتهم (عند المغرب)؛ أي: عند أذان المغرب، كما صرح به مسلم والإسماعيلي، وهذا الابتدار هو الإجابة للصلاة بالفعل فلا حاجة لإجابة المؤذن حينئذٍ بالقول؛ لأنَّ في ابتدارهم إجابة وزيادة، وليس المراد: بعد إجابة المؤذن؛ لأنَّها مقدمة، كما زعمه العجلوني؛ لأنَّ المراد: أنَّهم لمَّا سمعوا الأذان؛ ابتدروا فهو إجابة بالفعل، وهي أبلغ من الإجابة بالقول.
(وزاد شعبة) هو ابن الحجاج، (عن عَمرو)؛ بفتح العين: هو ابن عامر المذكور، (عن أنس) هو ابن مالك: (حتى) وفي رواية: (حين) (يخرج النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من بعض حجر نسائه.
قال الشَّارح: (وهذا تعليق وصله البخاري في كتاب «الأذان» من طريق غندر، عن شعبة، عن عمرو بن عامر الأنصاري، وزاد فيه أيضًا: «يصلُّون الركعتين قبل المغرب») انتهى.
وبهذا أخذ الشَّافعي في استنان صلاة ركعتين خفيفتين قبل المغرب، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأهل الظَّاهر.
والمشهور عن أصحاب الشَّافعي عدم استنانهما، بل ولا استحبابهما، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وهو قول أبي بكر الصديق الأكبر، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وعلي الصديق الأصغر رضي الله عنه، وهو قول كثير من أصحاب النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبه قال مالك، وقال إبراهيم النخعي: هي بدعة، وسيأتي في بابه بقية الكلام عليه.
وفي الحديث: استحباب الصلاة أول وقتها.
وفيه: المبادرة للطاعات خصوصًا الصلاة.
وفيه: استحباب الصلاة إلى سترة، ولو كانت مغصوبة، خلافًا لأحمد.
واعلم أنَّ السترة للمصلي على وجوه؛ أحدها: نحو الأُسطوانة، والجدار، والعمود، الثاني: نحو العصا، والحربة المغروزة، والمتاع إذا كانت الأرض صلبة، الثالث: بسط مصلًّى؛ كسجادة مفروشة، الرابع: أن يخط أمامه خطًًا بالعرض مثل الهلال، وقيل: مدور شبه المحراب.
والسُّنة أن يقرب منها؛ لما رواه أبو داود مرفوعًا: «إذا صلى أحدكم إلى سترة؛ فليدن منها، لا يقطع الشَّيطان عليه صلاته»، ولا يزيد ما بينها وبينه على ثلاثة أذرع، واعتبار ذلك من عقب القدمين كما صرح به المحشي، وبه قال ابن حجر من الشَّافعية، وخالفه الرملي، وزعم أنَّه من الأصابع، ويجعل السترة على جهة أحد حاجبيه؛ لما رواه أبو داود وغيره عن المقداد أنَّه قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلى عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، لا يصمد [له] صمدًا)؛ يعني: لا يقابلها مستويًا مستقيمًا، بل كان يميل عنها إلى جهة اليمين، وروى أبو داود مرفوعًا: «إذا صلى أحدكم؛ فليجعل أمامه شيئًا، فإن لم يجد؛ فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا؛ فليخط خطًّا، ثم لا يضره ما مرَّ أمامه)، وقاس الأئمة السجادة على الخط، وقدم على الخط؛ لأنَّه أظهر للمارِّين.
ولا بدَّ في جميع هذه المذكورات أن تكون ذراعًا [1] فصاعدًا؛ لما رواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا: «يجزئ من السترة قدر مؤخر الرحل»، وروى أصحاب السنن عن عطاء قال: آخرة الرحل: ذراع فما فوقه).
وأن تكون السترة في غلظ الأصبع؛ لأنَّ بما دونها لا يظهر للناظر؛ لحديث أصحاب السنن مرفوعًا: «استتروا في صلاتكم ولو بسهم»، وإطلاق الأحاديث في الأمر بوضع سترة، والسهم ليس بأقل
%ص 716%
من غلظ الإصبع، بل غلظها بزيادة، وإطلاق السترة يفيد أن تكون تبدو للناظر ولا يبدو في أقل من ذلك، وهذا مذهب الإمام الأعظم ومالك، وهو حجة على الشَّافعي؛ حيث لم يشترط فيها عرضًا [2]، وهو شامل للخيط، وهو لا يسمى سترة شرعًا ولا لغةً ولا عرفًا؛ فافهم.
وقال الشَّافعي: لا بد أن تكون ثلثي ذراع فأكثر، وما رويناه حجة عليه؛ لأنَّ مؤخر الرحل أقل ما يكون ذراع كما ذكرنا.
وقال العلامة القهستاني: ويستتر بكل ما انتصب؛ كإنسان قائم أو قاعد أو دابة، وفي «القنية»: بظهر رجل لا بوجهه، وفي جنبه قولان، ولا يستر بامرأة غير محرم، واختُلف في المحارم، ولا يستر بنائم، ولا مجنون، ولا مأبون في دبره، ولا كافر، انتهى.
وسيأتي بيان دفع المار في بابه إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (ذراع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (عرض)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (ذراع)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ذراع)، وليس بصحيح.
(1/827)
(96) [باب الصلاة بين السواري في غير جماعة]
هذا (باب) حكم (الصلاة) المفروضة في المسجد (بين السواري) أي: الأساطين والأعمدة (في غير جماعة) قيد بها؛ لأنَّه لا تكره الصلاة بين السواري إذا كان منفردًا اتفاقًا، أمَّا مع الجماعة؛ فمكروهة إذا كان بين الأساطين، وهو شامل لما إذا كان وحده بين الأساطين مقتديًا بالإمام، ولما إذا كان مع جماعة مقتدين بالإمام بين الأساطين، والإمام في الصورتين ليس معهم، بل إمَّا في محرابه أو في قبلة الحائط، أو في تجاه سارية، لكن ظاهر كلام إمام الشَّارحين وغيره أنَّ المنفرد وحده بين الأساطين مقتديًا بالإمام الذي في محرابه ونحوه لا كراهة فيه؛ حيث قال: يعني: إذا كان منفردًا؛ لا بأس بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة، انتهى.
فهذا كما رأيت يشير إلى أنَّه لا كراهة في ذلك، فإنَّ كلامه جامع للصورتين الذين ذكرناهما، ومع هذا؛ فليس فيه ما يقتضي الكراهة كما سيأتي؛ لأنَّه اختلف في علة الكراهة؛ فقيل: إنَّ العلة النَّهي الوارد، وقال إمامنا الشَّارح: (قيد بـ «غير جماعة»؛ لأنَّ ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوبة) انتهى، وقيل: إنَّ العلة أنَّ بين السواري محل وضع النعال، وقيل: إنَّ العلة كونه موضع مصلى مؤمني الجن، وقيل: خشية أن يمر مار بين يديه.
قلت: وهذه العلل دائرة مع المعلول، فالظَّاهر أنَّ المكروه صلاته وحده منفردًا بين السواري مقتديًا بالإمام، أمَّا مع جماعة مقتدين بين السواري بالإمام؛ فلا كراهة فيه، كما لا كراهة إذا كان منفردًا وحده بين الأساطين بصلاة نفسه، فالصور ثلاثة: واحدة مكروهة، والأخريان لا كراهة فيهما، كما لا يخفى.
==========
%ص 717%
==================
(1/828)
[حديث: دخل النبي البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال]
504# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) هو ابن سلمة المنقري البصري البدري الذي يقال له: التَّبوذكي (قال: حدثنا جُويرية [1])؛ بِضَمِّ الجيم مصغرًا: هو ابن أسماء الضبعي، واسمه واسم أبيه من الأعلام المشتركة بين الرجال والنساء، (عن نافع) هو مولى ابن عمر، روى عنه هنا بلا واسطة، ويروي عنه أيضًا بواسطة مالك بن أنس، (عن ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهماأنَّه (قال: دخل النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم البيت)؛ أي: الكعبة المشرفة، وفي رواية ابن عمر في باب (الأبواب والغلق للكعبة والمساجد): (أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مكة _أي: عام الفتح_، فدعا عثمان بن طلحة ففتح الباب، فدخل النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم)؛ أي: البيت (وأسامة بن زيد) هو خادمه، (وعثمان بن طلحة) هو الحجبي صاحب مفتاح البيت، وإنَّما أذن له بالدخول ودخل معه حتى لا يتوهم الناس عزله عن سدانة البيت، (وبلال) هو مؤذنه وخادم أمر صلاته، زاد في رواية الباب السَّابق: (ثم أغلق الباب)، وذلك لئلا يزدحم الناس عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعال النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ليأخذوها عنه كما شاهدوا، فهذه الرواية دلت على أنَّ الرواية هنا كذلك، ويدل عليه قوله: (فأطال)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم المكث فيه لأجل الصلاة والدعوات، (ثم خرج)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البيت، ويستفاد التراخي من قوله: (فأطال)، فقوله: (ثم): للتأكيد، وفي رواية الباب السَّابق: (فلبث فيه ساعة، ثم خرجوا).
وقوله: (وكنت)؛ بالواو في رواية الأصيلي وابن عساكر، وبحذفها في رواية أبي ذر وكريمة إلى قوله: (أين صلى) من مقول ابن عمر (أول الناس دخل): جملة حالية، وكلمة (قد) مقدرة (على أَثَره)؛ بفتحتين؛ أي: على عقبه، وهي رواية «اليونينية»، وفي رواية: بكسرٍ فسكونٍ، ورواه الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: (ثم خرج ودخل عبد الله على إثره أول الناس)؛ أي: دخولًا البيت، (فسألت بلالًا) أي: المؤذن: (أين صلَّى)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؟ (قال)؛ أي: بلال، ولأبوي ذر والوقت: (فقال): صلَّى (بين العمودين المقدمين): وفي رواية الكشميهني: (المتقدمتين).
ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة.
وفي الحديث: أنَّ الصلاة بين السواري للمنفرد غير مكروهة، وأمَّا مع الجماعة؛ فمكروهة كما بيَّنَّاه، وقال الرافعي: احتج البخاري بحديث ابن عمر عن بلال على أنَّه لا بأس بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة، وأشار إلى أنَّ الأَولى للمنفرد أن يصلِّي إلى السارية، ومع هذه الأولوية فلا كراهة في الوقوف بينها، فأمَّا في الجماعة؛ فالوقوف بين الساريتين كالصلاة إلى السارية، انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ فيه نظر؛ لورود النَّهي الخاص عن الصلاة بين السواري، كما رواه الحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح، وهو في «السنن» الثلاثة، وحسَّنه الترمذي، انتهى.
قلت: حفظ هذا القائل شيئًا، وغاب عنه أشياء، فإنَّ حديث النَّهي المذكور محمول على ما إذا صلى وحده منفردًا بين السواري مقتديًا بالإمام، فصلاته مكروهة؛ لأنَّ ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوبة، أمَّا إذا صلى منفردًا بين الساريتين بغير جماعة؛ فلا كراهة فيه، كما لا كراهة في صلاة المقتدين بين السواري بالإمام في محرابه، وهذا معنى كلام الرافعي، وقال ابن حبيب: ليس النَّهي عن تقطيع إذا ضاق المسجد، وإنَّما نهي عنه إذا كان المسجد واسعًا.
وقال مالك: لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد، وكان سعيد بن جبيروإبراهيم التيمي وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين الأساطين، وهو قول الأئمة الكوفيين، وأجازه ابن سيرين والحسين.
وقال الطَّبري: كره قوم الصف بين السواري؛ للنَّهي الوارد، ومحل الكراهة عند عدم الضيق، والحكمة فيه إمَّا لأنَّه موضع النِّعال، أو لانقطاع الصف، وقال القرطبي: سبب كراهة ذلك أنَّه مصلى الجن المؤمنين.
وقال ابن بطال: إنَّما يكره أن يكون الصف تقطعه أُسطوانة إذا صلوا جماعة خشية أن يمر أحد بين يديه وإن كان الإمام سترة لمن خلفه، ويستحب أن تكون الأُسطوانة خلف الصف وأمامه يستتر
%ص 717%
بها المصلي في الجماعة، انتهى.
قلت: وكلامه مخالف للنص؛ وهو قوله عليه السَّلام: «سترة الإمام سترة لمن خلفه»، أخرجه الطَّبراني من حديث أنس، وكذا روي عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق، فإنَّ هذا نص على أنَّه إذا صلى الإمام في محرابه والمقتدون خلفه بين الأساطين؛ لا تكره صلاتهم وإن مرَّ أحد أو كلب أو غيرهما؛ لأنَّ سترة إمامهم سترة لهم بالنص، كما لا يخفى.
وقوله: (ويستحب ... ) إلخ: هذا إذا كان الإمام قدام الصف محكمًا، أما إذا كان الإمام في محرابه وخلفه صف وبعده صف آخر بين الأساطين؛ فلا كراهة في ذلك بالنص، على أنَّ هذا مذهبه، وهو لا يعارض الحديث، بل الحديث حجة عليه؛ فافهم.
ثم قال ابن بطال: واختلف السلف في الصلاة بين السواري؛ فكرهه أنس وقال: (كنا نتَّقيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي لفظ: (كنا نُنهى عن الصلاة بين السواري ونُطرد عنها)، صححها الحاكم، وقال ابن مسعود: (لا تصفوا بين الأساطين)، وكرهه حذيفة وإبراهيم وقال: (لا تصفوا بين الأساطين وأتموا الصفوف)، وسلفهم أثر عمر في ذلك، انتهى.
قلت: هذا محمول على العلة في النَّهي كما تقدم، إمَّا لأنَّها موضع وضع النِّعال، وهي دائرة، فإذا زالت العلة؛ انتفت الكراهة، وإمَّا لكون المسجد واسعًا، وإمَّا لانقطاع الصفوف، أو غير ذلك مما سبق، فالعلة دائرة مع المعلول، وحيث انتفت العلة انتفت الكراهة على أنَّ هذا روي موقوفًا، وهو لا يُقاوِم المرفوع؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (جويرة).
==================
(1/829)
[حديث: أن رسول الله دخل الكعبة وأسامة بن زيد]
505# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي الدمشقي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن نافع) هو المدني مولى ابن عمر، (عن عبد الله بن عمر) هو ابن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما، وسقط (عبد الله) لابن عساكر: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الهمزة (دخل الكعبة)؛ أي: بعد أن أمر عثمان بفتح بابها بعد قدومه إلى مكة عام الفتح كما بيَّنتْه الرواية السَّابقة (وأسامة بن زيد) هو خادمه عليه السَّلام، قال الشَّارح: بنصب (أسامة) عطفًا على (رسول)، ويجوز رفعه عطفًا على فاعل (دخل) (وبلال) هو المؤذن المدفون بمقبرة باب الصغير بديارنا الشريفة الشامية (وعثمان بن طلحة الحَجَبِي)؛ بفتح الحاء المهملة والجيم، وبالموحَّدة المكسورة؛ نسبة إلى حجابة الكعبة، وهو الذي بيده مفتاح الكعبة (فأغلقها)؛ أي: أغلق عثمان الحجبي الكعبة؛ أي: بابها بأمره عليه السَّلام (عليه)؛ أي: على النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه المذكورين، وإنَّما أغلق الباب عليهم؛ لئلا يزدحم الناس عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعال النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وإنَّما خَصَّ عثمان الحجبي بالغلق دون غيره من الموجودين؛ لأنَّه صاحب مفتاح الكعبة، أو [1] حتى لا يتوهم الناس عزله عن سدانة الكعبة؛ فافهم، (ومكَث) بفتح الكاف وضمها (فيها)؛ أي: الكعبةِ النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه المذكورون، وكان مكثه طويلًا، كما بيَّنتْه الرواية السَّابقة، وذلك لأجل الصلاة والدعوات.
وقوله: (فسألتُ) بضمير المتكلم (بلالًا حين خرج) أي: من الكعبة: (ما صنع النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم؟) _أي: في الكعبة_ من كلام ابن عمر، (قال) أي: بلال: (جعل) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (عمودًا عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه)؛ بالنصب على الظرفية، وذلك حين صلى في الكعبة، وإنَّما قدم اليسار على اليمين مع أنَّ اليمين أشرف؛ لأنَّ هذا حكاية الجعل المذكور عن هيئة الفعل في اللَّفظ مع قطع النَّظر عن الشرف في أحدهما، (وكان البيت يومئذٍ)؛ أي: يوم إذ دخله عليه السَّلام، وذلك عام الفتح (على ستة أعمدة)، وزعم الكرماني: وفي بعضها: (ستة)؛ بإسقاط لفظة: (على)، فهي مقدرة على طريق نزع الخافض، انتهى.
قلت: ويفهم منه أنَّ لفظ: (ستة) مجرور بـ (على) مقدرة، وفيه أنَّ حروف الجر لا تعمل مقدرة، وقوله: (على طريق نزع الخافض): مفهومه أنَّها منصوبة بنزع الخافض، وهذا تناقض في الكلام مع خفاء المعنى المرام على أنَّه لم يَعزُ هذه النُّسخة لأصل يعتمد عليه، ولا لرواية راوٍ يعول عليه، فالله أعلم بصحتها، وعلى تقدير صحتها؛ فالصَّواب أنَّ (ستة) منصوب، إمَّا على الحال أو على التمييز، ويحتمل على بُعدٍ أنَّه منصوب على طريق نزع الخافض على هذه النُّسخة؛ فافهم.
(ثم صلى)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين الأعمدة، ففيه: جواز الصلاة بين الأساطين من غير كراهة، وهو شامل للنفل والفرض مع جماعة وبدونها، فإنَّ لفظ الحديث مطلق، ولا مانع أنَّه عليه السَّلام قد صلى في الكعبة جماعة، فإنَّها تحصل بواحد فأكثر _وكان معه ثلاثة_ ولو كانت نفلًا؛ لأنَّ النفل بالجماعة مشروع ولو على سبيل التداعي، وهذا حجة على من كره ذلك مما قدمناه.
(وقال إسماعيل) هو ابن أبي أويس _كما في رواية أبي ذر والأصيلي_ ابن أخت مالك بن أنس، وفي رواية كريمة: (وقال لنا)، وهذه الرواية أحط رتبة ودرجة من (حدثنا)، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر والقسطلاني، وهذا يدل على أنَّ (لنا) ثابتة في رواية كريمة فقط، وزعم العجلوني أنَّها ثابتة في الروايتين، وليس كذلك كما لا يخفى؛ فافهم، وهذا موصول كما صرح به إمامنا الشَّارح؛ فافهم: (حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الأصبحي؛ أي: بهذا الحديث مع تتمة سنده السَّابق (وقال) ولأبي ذر: (فقال)؛ أي: في آخر الحديث: (عمودين عن يمينه)، فإن قلت: في رواية مالك إشكال؛ لأنَّه قال: (عمودًا عن يساره، وعمودًا عن يمينه)، وهذان اثنان، ثم قال: (وثلاثة أعمدة وراءه) فتكون الجملة خمسة، ثم قال: (وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة).
قلت: أجاب الكرماني: بأنَّ لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجمل بيَّنه مالك في رواية إسماعيل بن أبي أويس، وهي قوله: (وقال لنا إسماعيل: حدثني مالك، فقال: عمودين عن يمينه)، فحينئذٍ تكون الأعمدة ستة.
وأجاب ابن حجر: بأنَّه حيث ثنَّى؛ أشار إلى ما كان عليه البيت في الزمن النَّبوي، وحيث أفرد؛ أشار إلى ما كان عليه بعد ذلك، ويشير إليه قوله: (وكان البيت يومئذٍ)، فإنَّ فيه إشعارٌ [2] بتغيره عن هيئته الأولى.
وقال خلف: لم أجده من حديث إسماعيل، وقد اختلف عن مالك في لفظه، فرواه مسلم: (عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه) عكس رواية إسماعيل، وفي رواية البخاري: (عمودًا عن يساره، وعمودًا عن يمينه)، قال البيهقي: هو الصَّحيح، وفي رواية: (جعل عمودًا عن يمينه، وعمودين عن يساره) عكس ما سبق.
وقد ذكر الدارقطني الاختلاف على مالك فيه؛ فوافق الجمهور عبد الله بن يوسف في قوله: (عمودًا عن يمينه)، ووافق إسماعيل في قوله: (عمودين
%ص 718%
عن يمينه) ابن القاسم، ومحمَّد بن الحسن، والقعنبي، وأبو مصعب، وأبو حذافة، وكذا ابن مهدي في إحدى الروايتين عنه، وأجاب قوم عنه باحتمال تعدد الواقعة.
وفي رواية عن عثمان بن عمر عن مالك: (جعل عمودين عن يمينه، وعمودين عن يساره)، فعلى هذا تكون الأعمدة سبعة، ويردها قوله: (وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة) بعد قوله: (وثلاثة أعمدة وراءه)، وعن هذا قال الدارقطني: (لم يتابع عثمان بن عمر على ذلك).
وأجاب الكرماني بجوابين آخرين؛ الأول: هو أنَّ الأعمدة الثلاثة المقدمة ما كانت على سَمْتٍ واحد بل عمودان مُسَامتان، والثالث على غير سَمْتِهِمَا، ولفظ (المقدمين) في الحديث السَّابق يشعر به، فتعرض للعمودين المسامتين وسكت عن ثالثهما، والثاني: أن تكون الثلاثة على سمت واحد، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الوسطاني.
قلت: ويؤيد الوجه الأول منهما ما رواه مجاهد عن ابن عمر في باب: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فإنَّ فيها: (صلى بين الساريتين اللتين على يسار الداخل)، وهو يدل على أنَّه كان هناك عمودان على اليسار وأنَّه صلى بينهما، فيحتمل أنَّه كان هناك عمود آخر عن اليمين وعلى غير سمت العمودين، وعلى هذا فمن قال: (جعل على يمينه عمودين)، ومن قال: (جعل عمودًا عن يمينه)، كلاهما صحيح، وعلى الوجه الثاني يصح قول من قال: (جعل عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره)، وكأنَّه لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه، ومن قال: (عمودين) اعتبره.
وأجاب قوم: بأنَّه عليه السَّلام انتقل في الركعتين من مكان إلى مكان، ولا تبطل به الصلاة لقلته، وهذا ليس ببعيد؛ لأنَّ الصلاة في البيت إنَّما كانت للتبرك والفضل، والانتقال المذكور زيادة فضيلة وهو وجيه، واحتمال تعدد الواقعة بعيد؛ لاتحاد مخرج الحديث، وجزم البيهقي بترجيح رواية إسماعيل، وتمامه في الشرح، والله تعالى أعلم.
==========
[1] زيد في الأصل: (لأنه).
[2] في الأصل: (إشعارًا).
==================
[1] زيد في الأصل: (لأنه).
[1] زيد في الأصل: (لأنه).
(1/830)
(97) [بابٌ]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين، قال الشَّارح: (فإذا لم تقدر شيئًا؛ لا يكون معربًا؛ لأنَّ الإعراب يكون بالعقد والتركيب، كذا وقع لفظ «باب» بلا ترجمة في رواية الأكثرين، وليس لفظ «باب» في رواية الأصيلي، وعلى قول الأكثرين؛ هو كالفصل من الباب الذي قبله، وإنَّما فصله؛ لأنَّ فيه زيادة، وهي مقدار ما كان بينه وبين الجدار من المسافة) انتهى، يعني: وليس فيه تصريح بكون الصلاة وقعت بين السواري، وإنَّما فيه بيان المقدار المذكور.
وزاد الكرماني: أو لأنَّ الموضع المذكور من كونه مقابلًا للباب قريبًا من الجدار يستلزم كونها بين الأسطوانتين، انتهى.
قلت: هو غير ظاهر؛ لأنَّه لا يلزم ذلك؛ لأنَّه قد يكون ليس هناك أسطوانة ولا أسطوانتان، فالصَّواب ما علل به إمام الشَّارحين، وتبعه العجلوني، ولم يعزه إليه، ونسبه لنفسه، وهذه عادته، فلله در إمامنا رضي الله عنه.
==========
%ص 719%
==================
(1/831)
[حديث: أن عبد الله كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه]
506# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا) بالجمع، ولأبي الوقت بالإفراد (إبراهيم بن المنذر)، اسم فاعل من الإنذار، هو أبو إسحاق الحزامي المديني (قال: حدثنا أبو ضَمْرة)؛ بفتح الضَّاد المعجمة، وسكون الميم: هو أنس بن عياض اللَّيثي المدني، المتوفى سنة مئتين، كما مر في باب (التبرز في البيوت) (قال: حدثنا موسى بن عقبة) هو ابن أبي عياش المديني، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة، (عن نافع) هو مولى ابن عمر المدني: (أنَّ) بفتح الهمزة (عبد الله) زاد الأصيلي: (ابن عمر) هو ابن الخطاب القرشي العدوي المدني رضي الله عنهما (كان) أتى بها لإفادة الدوام والاستمرار (إذا دخل) أي: ابن عمر (الكعبة)؛ أي: البيت الحرام للصلاة فيه الفرض أو الواجب أو النفل، وقوله: (مَشى): جواب (إذا)؛ بفتح الميم، مصدر مشى يمشي مشيًا (قِبَل وجهه)؛ بكسر القاف وفتح الموحَّدة؛ أي: مقابل وجهه (حين يدخل)؛ أي: ابن عمر الكعبة؛ يعني: لا يقف، بل بمجرد الدخول يمشي؛ لأنَّه ليس لوقوفه فائدة؛ فافهم، (وجعل الباب) أي: باب الكعبة (قِبَل)؛ بكسر أوله وفتح ثانيه؛ أي: مقابل (ظهره)، وقوله: (فمَشى): الفاء فيه للتعقيب (حتى يكونَ)؛ بالنصب؛ أي: إلى أن يكون (بينه) أي: ابن عمر (وبين الجدار) أي: جدار الكعبة الجنوبي (الذي قِبَل)؛ بكسر أوله وفتح ثانيه؛ أي: مقابل (وجهه)؛ أي: وجه ابن عمر، وقوله: (قريبًا)؛ بالنصب، ويروى: بالرفع، وهو الأصل؛ لأنَّه اسم (يكون)، والظرف المقدم خبرها، ووجه النصب أن يكون اسمه محذوف؛ تقديره: يكون القَدْر أو المكان قريبًا من ثلاثة أذرع، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الكرماني، والبرماوي، وابن حجر، يعني: أنَّ (قريبًا) بالنصب خبر (كان) والاسم محذوف، وزعم الزركشي أنَّه خطأ.
قلت: رواية النصب لأكثر الرواة ثابتة لا محالة، ووجهها ظاهر، فخطؤه مردود عليه.
وعبارة ابن حجر تفيد أنَّ الرواية بالنصب لا غير، قلت: وفيه قصور، فإنَّ الرواية بالرفع ثابتة لبعض الرواة، بل قال في «التنقيح»: الصَّواب الرفع، ووجَّهه الدماميني بأنَّه على حذف الموصول وبقاء صلته؛ أي: حتى ما يكون، قال: ولكنه ليس بمقيس، انتهى، قلت: وما قَدَّر به إمامنا الشَّارح هو الصَّواب، والسياق يدل عليه، بخلاف تقدير الدماميني، فإنَّ فيه تعسفًا وخروجًا عن القواعد.
وزعم العجلوني أنَّ (بين) تتصرف قليلًا؛ كما في قوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في قراءة الرفع، فلو حمل ما هنا عليه؛ لكان وجيهًا؛ فتأمله.
(من ثلاثة أذرع)؛ بالتأنيث رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر: (ثلاث)؛ بالتذكير، ووجه التأنيث مع أنَّ الذراع مذكر: أنَّه شبهه بذراع اليد؛ وهو يجوز تذكيره وتأنيثه، قاله الكرماني.
وقال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: الذراع مذكر فما وجه تركه التَّاء؟
قلت: أجاب بعضهم: بأنَّ الذراع يذكر ويؤنث، وليس كذلك على الإطلاق، بل الذراع الذي يذرع به يذكر، وذراع اليد يذكر ويؤنث، وههنا شبهه بذراع اليد) انتهى.
قلت: مراده بقوله: (بعضهم): ابن حجر، فإنَّه قال: (الذراع يذكر ويؤنث)، ولم يقيده بشيء، وتبعه القسطلاني، وفيه نظر ظاهر لا يخفى؛ حيث لم يفرق بين الذي يذكَّر فقط وبين الذي يذكَّر ويؤنث؛ فافهم.
وأجاب العجلوني تعصبًا بأنَّه يمكن حمل كلام ابن حجر على ذراع اليد لا الآلة مع أنَّه مؤنث.
قلت: وهو ظاهر الفساد مع ما فيه من العناد؛ لأنَّ ظاهر اللَّفظ وصريحه يدل على أنَّ المراد ذراع الآلة؛ لأنَّه هو الذي يذرع به، وتمسح به الأرض، ويبتاع به العامة، وهو مذكَّر لا غير، فكيف يحمل على ما ذكر؟ وما ادعاه من أنَّ الذراع بمعنى الآلة مؤنث؛ ممنوع؛ لأنَّه لم يقل به أحد من أئمة اللُّغة ولا غيرهم، فهو تأنيث من عنده مردود عليه؛ فافهم.
وقوله: (صلى): جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا (يَتوخى)؛ بفتح التحتية أوله، وبالخاء المعجمة، آخره ألف وتكتب ياء؛ أي: يتحرَّى، يقال: توخيت مرضاتك؛ أي: تحريت وقصدت، والجملة محلها نصب على الحال (المكان) بالنصب على المفعولية من الكعبة المشرفة (الذي أخبره به) أي: بذلك المكان منها (بِلال)؛ بكسر الموحَّدة، مؤذن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (أنَّ) بفتح الهمزة (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وخبر (أنَّ) جملة قوله: (صلى فيه)؛ أي: في ذلك المكان الذي أخبره به بلال رضي الله عنه.
(قال) أي: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (وليس على أحدنا) ولابن عساكر: (وليس على أحد)؛ بحذف لفظة (نا)، وقوله: (بأس): اسم (ليس)؛ أي: شدة (إن صلى)؛ بكسر الهمزة، و (صلى)؛ بلفظ الماضي، وفي رواية الكشميهني: (أن يصلِّي) بفتح الهمزة، ولفظ المضارع؛ والتقدير: ولا بأس من أن يصلِّي، وحذف حرف الجر سائغ، كذا قرره إمام الشَّارحين، وتبعه الشَّارحون؛ فافهم، (في أيِّ نواحي) أي: في أيِّ جهات (البيت) أي: الكعبة المعظمة (شاء)؛ أي: فهو مخيَّر في الصلاة في أيِّ مكان شاء منها.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة في الباب السَّابق بطريق الاستلزام، وهو أنَّ الموضع المذكور من
%ص 719%
كونه مقابلًا للباب قريبًا من الجدار يستلزم كون صلاته بين الساريتين.
قلت: وفيه تعسف قدمنا وجهه قريبًا.
وفي الحديث: جواز الصلاة مطلقًا فرضها وواجبها ونفلها في البيت الحرام، وهو مذهب الأئمة الحنفية، وبه قال الشَّافعي، وتبعهم أحمد ابن حنبل في النفل، وخالفهم في الفرض، فمنع الفريضة فيها، والحديث حجة عليه.
وفيه: استحباب الدنو من السترة؛ لأنَّ الشَّارع قد أمر بالدنو منها؛ كيلا يتخلل الشَّيطان ذلك، والأمر هنا للاستحباب، كما لا يخفى.
وفيه: أنَّ السترة بين المصلي والقبلة ثلاثة أذرع، وادعى ابن بطال أنَّ الذي واظب عليه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في مقدار ذلك ممرُّ الشاة، كما جاء في الآثار، انتهى.
ولم يعترضه أحد من الشراح، وأقول: هذه دعوى لا دليل لها؛ لأنَّه قد جاء في الآثار تارة: (ثلاثة أذرع)، وتارة: (ممر الشاة)، بل الذي دلت عليه الآثار المواظبة على ثلاثة أذرع؛ لأنَّه هو الذي يتمكن المصلي من دفع المار بين يديه، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» بسند صحيح: (قال أبو إسحاق: رأيت عبد الله بن مغفل يصلِّي بينه وبين القبلة ستة أذرع)، وفي نسخة: (ثلاثة أذرع)، ولهذا لم يحدَّ مالك بن أنس في هذا حدًّا إلا أنَّ ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد؛ فافهم.
وفي الحديث: أنَّه لا يشترط في صحة الصلاة في البيت موافقة المكان الذي صلى فيه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه ابن عمر، ولكن الموافقة أولى، وإن كان يحصل الفرض بغيره، ففيه أنَّه تستحب الصلاة في ذلك المكان؛ لأجل الموافقة.
وقد قدمنا أنَّ الحديث لا يدل صريحًا على الصلاة بين الساريتين، وقد اختلف السلف في الصلاة بين السواري؛ فأجازه الأئمة الكوفيون، وبه قال الحسن البصري، وابن سيرين، وكان سعيد بن جبير وإبراهيم التيمي وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين الأساطين، وقال مالك: لا بأس بالصلاة بينها لضيق المسجد، وكرهها أنس بن مالك؛ لورود النَّهي بذلك، رواه الحاكم وصححه، وقال ابن مسعود: (لا تصفوا بين الأساطين وأتموا الصفوف)، قال ابن حبيب: ليس النَّهي عن تقطيع الصفوف إذا ضاق المسجد، وإنَّما نهي عنه إذا كان المسجد واسعًا، وقال القرطبي: سبب الكراهة أنَّه روي: أنَّ بين الأساطين مصلى الجن المؤمنين، انتهى.
قلت: وسبب الكراهة أنَّ بين الأساطين مكانٌ مُعدٌّ لوضع النعال، وهي ملوثة بالنجاسات غالبًا، فالتحرز عنها مطلوب، وقد يقال: إنَّ النعال تطهر بالدلك، فهي طاهرة عند الجمهور، وأقول: ولمَّا وَرَد: أنَّ بين الأساطين مصلى الجن؛ فلا مجال لإيراد سبب آخر؛ فافهم، والله أعلم.
==================
(1/832)
(98) [باب: الصَّلَاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ.]
هذا (باب) حكم (الصلاة) أي: بالتوجه (إلى الراحلة) قيل: وفي نسخة: (على الراحلة)، وهي بمعنى (إلى)؛ لأنَّ حروف الجر يستعار بعضها مكان بعض، ويأتي بعضها بمعنى بعض، وتقدير الحكم أولى من تقدير الجواز؛ لأنَّه أعم؛ فافهم.
والمراد بالحكم: الجواز لا الندب كما زعمه العجلوني، فإنَّه غير مصيب؛ لأنَّ المندوب الصلاة إلى سترة لا خصوص الراحلة ونحوها؛ فليحفظ.
والرَّاحلة: النَّاقة التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة، وتمام الخلق، وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل؛ عُرِّفت، والهاء فيه للمبالغة؛ كما يقال: رجل داهية وراوية، وقيل: إنَّما سميت راحلة؛ لأنَّها ترحل، كما قال تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [القارعة: 7]؛ أي: مرضية، وتجمع على رواحل، وقال الجوهري: الراحلة: الناقة التي تصلح لأن يوضع عليها الرحل، وقال الأزهري: الراحلة: المركب النجيب ذكرًا كان أو أنثى، انتهى.
(و) إلى (البعير) وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، يقال للجمل: بعير، وللناقة: بعير، وبنو تميم يقولون: بِعير وشِعير؛ بكسر الباء الموحدة والشين المعجمة، والفتح هو الفصيح، وإنَّما يقال له: بعير؛ إذا أجدع، والجمع: أبعرة في أدْنى العدد، وأباعر في الكثير، وأباعير وبعران، وهذه عن الفراء، ومعنى أجدع: إذا دخل في السَّنة الخامسة.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: إذا أطلق البعير على الناقة، والراحلة هي الناقة، فما فائدة ذِكر البعير؟ قلت: ذهب بعضهم إلى أنَّ الراحلة لا تقع إلا على الأنثى، ولأجل ذلك أردفه بالبعير، فإنَّه يقع عليهما) انتهى.
قلت: فعطف (البعير) على (الراحلة) من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ الراحلة خاصة بالناقة والبعير أعم، وسقط لفظ: (البعير) للأصيلي.
(و) إلى (الشجر) هو جمع شجرة؛ وهي ما له ساق من النباتات، (و) إلى (الرَّحْل)؛ بفتح الرَّاء، وسكون الحاء المهملة؛ وهو للبعير أصغر من القتب، وهو الذي يركب عليه، وهو الكُور، بِضَمِّ الكاف؛ كالسرج للفرس.
قال ابن بطال: وهذه الأشياء كلها تجوز الصلاة إليها، وكذا تجوز إلى كل شيء طاهر، انتهى.
قلت: وفي إطلاقه نظر؛ لأنَّ كل شيء غير ما ذكر يشترط فيه أن يكون طول ذراع فأكثر؛ لحديث عائشة عند النسائي قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: «مثل مؤخرة الرَّحْل»؛ فليحفظ.
==========
%ص 720%
==================
(1/833)
[حديث: أن النبي كان يعرض راحلته فيصلي إليها]
507# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن أبي بكر المقدَّمي) بتشديد الدَّال المهملة، اسم مفعول (البصري) وهي ساقطة في بعض النُّسخ (قال: حدثنا مُعتمر) بِضَمِّ الميم، اسم فاعل (بن سُليمان) بِضَمِّ السين المهملة، (عن عبيد الله) بالتصغير، زاد الأصيلي: (ابن عمر)، (عن نافع) هو مولى ابن عمر المدني، (عن ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني رضي الله عنهما، (عن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) وقوله: (إنَّه) بكسر الهمزة (كان)؛ أي: في بعض الغزوات، لا يقال: إنَّ لفظة (كان) للدوام والاستمرار؛ لأنَّا نقول: ليست هي في هذا المعنى في جميع الأوقات، بل تارة وتارة؛ بدليل أنَّه عليه السَّلام كان يصلِّي في المسجد النَّبوي لغير راحلة؛ فافهم، (يُعرِّض)؛ بِضَمِّ التحتية وتشديد الرَّاء، من التعريض؛ أي: يجعلها عرضًا، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه في «الفتح»، وفي رواية: (يَعْرُض)؛ بفتح أوله وسكون ثانية وضم ثالثه أو كسره، واستوجهها القاضي عياض كما في «التنقيح».
قلت: ولم يذكر وجهها أحد من الشراح، ولعله أنَّ الرواية الأولى تفيد المبالغة بخلاف الثانية، فيحتاج في الأولى إلى عمل كثير من تسويتها إمَّا بنفسه أو بغيره، بخلافه على الثانية فإنَّه لا يحتاج لشيء سوى وضعها تلقاء وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، وهو كان لحصول المقصود؛ فتأمَّل.
(راحلته)؛ أي: المخصوصة به عليه السَّلام في أسفاره بدليل إضافتها إليه، ولو قال: راحلة؛ بالتنكير؛ لاحتمل أن يجعل راحلة غيره من أصحابه، ولعله إنَّما كان يفعل ذلك لأجل التشريع من حيث إنَّ الإنسان إذا كان مسافرًا مع جماعة؛ يجعل راحلة نفسه دون غيره؛ لاحتمال نجاسة راحلة غيره، أو عدم إذنه، أو غير ذلك؛ فافهم (فيصلِّي إليها)؛ أي: يجعلها سترة في صلاته تلقاء وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم.
(قلت) من قول نافع لمولاه ابن عمر، كما صرح به إمام الشَّارحين حيث قال: (فإن قلت: مَنْ السائل هنا مِنَ المسؤول؟ قلت: الذي يدل [عليه] الظَّاهر أنَّه كلام نافع، وهو السائل، والمسؤول عنه: هو ابن عمر، لكن وقع في رواية الإسماعيلي من طريق عبيدة بن حميد عن عبيد الله بن عمر أنَّه كلام عبيد الله، والمسؤول نافع، فعلى هذا يكون هذا مرسلًا؛ لأنَّ فاعل «يأخذ» هو النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ولم يدركه نافع) انتهى.
قلت: وقد تمسك بهذه الرواية العجلوني، واعتمد أنَّ السائل عبيد الله والمسؤول نافع، ونفى القول بأنَّه من قول نافع والمسؤول ابن عمر، ولا يخفى أنَّ الظَّاهر يخالفه، فإنَّ سياق اللَّفظ يدل صريحًا على أنَّ السائل نافع، والمسؤول ابن عمر رضي الله عنهما، ورواية الإسماعيلي لا تدل على ذلك؛ لأنَّها من طريق آخر غير ما ذكر، فهي قصة أخرى غير هذه، فالصَّواب ما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ، ولا حاجة إلى دعوى الإرسال هنا؛ لأنَّه مخالف للظاهر كما لا يخفى، نعم؛ هو واقع في رواية الإسماعيلي، وهي قضية
%ص 720%
أخرى؛ فليتأمل.
(أفرأيت) الفاء عاطفة على مقدر بعد الهمزة؛ أي: أرأيت في تلك الحالة فرأيت في هذه الحالة الأخرى؟ والمعنى: أخبرني عن هذه، وفي رواية الأصيلي: (أرأيت)؛ بدون الفاء (إذا هبَّت)؛ بتشديد الموحَّدة؛ بمعنى: هاجت وتحركت، يقال: هبَّ الفحل؛ إذا هاج، وهبَّ البعير في السير؛ إذا نشط، وقال ابن بطال: هبَّت: زالت عن مواضعها وتحركت، يقال: هبَّ النائم من نومه؛ إذا قام، وقيده الأصيلي: بِضَمِّ الهاء على البناء للمفعول، والفتح أصوب، كذا في «عمدة القاري»، وفي بعض النُّسخ: (إذا هب)؛ بدون التَّاء، كما زعمه الكرماني، (الرِّكاب)؛ بكسر الرَّاء، وتخفيف الكاف: الإبل التي يسار عليها، والواحدة الراحلة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع: الركْب؛ مثل: الكتْب؛ بسكون ثانيه، وقال ابن بطال: هبَّت: زالت عن مواضعها وتحركت فشوشت على المصلي لعدم استقرارها، وجواب الاستفهام أو الشرط محذوف؛ تقديره: ما الذي يصنع المصلي؟ (قال)؛ أي: ابن عمر لنافع، لا نافع لعبيد الله: (كان)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم إذا أراد الصلاة في الصحراء؛ (يأخذ الرَّحل): هذه رواية الأكثرين، وفي رواية: (يأخذ هذا الرَّحل)؛ أي: يقيم الرَّحل عن الناقة، فيضعه على الأرض قِبَل وجهه الشريف؛ لأنَّه لو تركه عليها؛ لشوشت عليه من أجل حركتها، وعدم استقرارها، وزعم ابن بطال؛ أي: يتركه على الناقة، ونقله العجلوني عنه، وكلاهما غير مصيب؛ لأنَّ في تركه عليها تشويشًا كما ذكرنا، وليس المعنى كما زعمه بل ما ذكرناه، كما لا يخفى على من له أدنى فهم في المعاني، ويدل لما قلناه قوله: (فيُعَدِّله)؛ بِضَمِّ التحتية، وفتح العين المهملة، وكسر الدَّال المهملة المشددة، من التَّعديل؛ وهو تقويم الشيء، يقال: عدَّلته فاعتدل؛ أي: قومته فاستقام؛ والمعنى: أنَّه يقيمه تلقاء وجهه؛ لأنَّ الإبل إذا هاجت؛ شوشت على المصلي لعدم استقرارها، فحينئذٍ كان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يعدل عنها إلى الرَّحل، فيجعله سترة، كذا قاله إمامنا الشَّارح، وتبعه الشراح.
وضبطه ابن حجر: بفتح التحتية، وسكون العين، وكسر الدَّال؛ أي: يقيمه تلقاء وجهه، انتهى.
وهذا كما رأيت خلط وخبط، ولهذا ردَّه إمام الشَّارحين حيث قال: (والصَّواب ما ذكرناه؛ لأنَّه من باب «فعَّل»؛ بالتشديد، وقد يأتي بمعنى «فعَل»؛ بالتخفيف، كما يقال: زلته وزيلته، وكلاهما بمعنى: فرقته) انتهى.
قلت: فأفاد أنَّه قليل، والصَّواب الأول؛ فاعرفه، ولا تغتر بما زعمه ابن حجر؛ فافهم.
(فيصلِّي إلى أَخَرَته)؛ بفتح الهمزة والخاء المعجمة والرَّاء، بلا مد، ويجوز المد في الهمزة، ولكن بكسر الخاء؛ وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب؛ يعني: يصلِّي إلى آخرة الرَّحل فيجعلها على أحد حاجبيه، ولا يصمد [1] إليها صمدًا (أو قال: مُؤْخِرته)؛ بـ (أو) التي للشك، وهو من نافع لا من عبيد الله، وفيها وجوه؛ أحدها: بِضَمِّ الميم، وكسر الخاء، وسكون الهمزة، والثاني: بفتح الخاء المشددة، والثالث: إسكان الهمزة، وتخفيف الخاء، وقال أبو عبيد: يجوز كسر الخاء وفتحها، وأنكر ابن قتيبة الفتح، وقال ابن مكي: لا يقال: مقدِّم ومؤخِّر؛ بالكسر إلا في العين خاصة، وأمَّا في غيرها؛ فلا يقال إلا بالفتح فقط، وقال الجوهري: مؤخرة الرَّحل: لغة قليلة في آخرته، وقال ابن التين: رويناه بفتح الهمزة، وتشديد الخاء مع فتحها، وقال القرطبي: مُؤخِّرة الرحل: هو العود الذي يكون في آخر الرحل، بِضَمِّ الميم، وكسر الخاء، الرابع: روى بعضهم: بفتح الهمزة وتشديد الخاء، كذا قرره في «عمدة القاري».
(وكان ابن عمر يفعله) هو مقول نافع، والضمير المنصوب في (يفعله) راجع إلى كل واحد من التعريض والتَّعديل اللذين يدل عليهما قوله: (يعرِّض) وقوله: (فيعدِّله) من قبيل قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ فافهم.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: (فيعرض إلى راحلته فيصلِّي إليها)، وفي قوله: (كان يأخذ الرَّحل ... ) إلى آخره، وأمَّا البعير؛ فقد روى ابن أبي شيبة عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: (أنَّ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي إلى بعيره)، وأمَّا الصلاة إلى الشجر؛ ففي حديث علي بن أبي طالب قال: (لقد رأيتنا يوم بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كان يصلِّي إلى شجرة يدعو حتى أصبح)، رواه النسائي بإسناد حسن.
قلت: وهذا غير ظاهر.
وقال إمام الشارحين: (فإن قلت: حديث الباب لا يدل على الصلاة إلى البعير والشجر؛ قلت: كأنَّه وضع التَّرجمة على أنَّه يأتي لكل جزء منها بحديث، فلم يجد على شرطه إلا حديث الباب، وهو يدل على الصلاة إلى الراحلة أو الرحل، واكتفى به عن بقية ذلك بالقياس على الراحلة) انتهى.
وقد أخرج النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: «مثل مؤخرة الرحل»، وعلى كل حال فإحالة التَّرجمة في مطابقتها لحديث خارج عن بابها بل عن كتابها غير ظاهرة مع ما فيها من البعد.
وقال الكرماني: دلالة الحديث على الصلاة إلى البعير والشجر والرحل بالقياس على الراحلة.
وزعم ابن حجر: كأنَّه ألحق البعير بالراحلة للمعنى الجامع بينهما، ويحتمل أنَّه أشار إلى ما رواه أبو خالد الأحمر، عن عبيد الله، عن نافع بلفظ: (كان يصلِّي إلى بعيره)، وبه حصل المقصود، ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق: (أنَّ ابن عمر كان يكره أن يصلِّي إلى بعير إلا وعليه رحل)، وألحق الشجر بالرحل، انتهى ملخصًا.
قلت: وهذا كله لا يجدي، وما هو إلا مأخوذ من كلام الكرماني، ولم يبين المعنى الجامع بين البعير والراحلة، فإنَّا قد أسلفنا أنَّ الراحلة خاصة بالنَّاقة، والبعير: هو الذي دخل في سن الخامسة، فليس فيه معنًى جامعًا بينهما، بل بينهما عموم وخصوص.
وما ذكره من الاحتمال بعيد جدًّا؛ لأنَّه إحالة على غير موجود في الباب، بل ولا في الكتاب أصلًا، فكيف يشير إليه؟ وما زعمه من حصول المقصود والتأييد، أين المقصود الذي حصل؟ وأين التأييد؟ فإنَّ ما أخرجه عبد الرزاق يدل على منع الصلاة إلى البعير مجردًا عن رحله، والتَّرجمة صريحة في الصلاة إلى البعير مجردًا عن الرحل كما صرح به الحديث أيضًا؛ حيث قال: (كان يأخذ الرحل فيعدله)، وعلى كل حال؛ فما زعمه غير مفيد وغير ظاهر، بل الجواب الصَّحيح الموافق للصواب ما قاله إمام الشَّارحين رضي الله عنه؛ فافهم.
قال الخطابي: وفي الحديث: دليل على جواز السترة بما يثبت من الحيوان، انتهى.
وقال ابن بطال: وكذلك تجوز الصلاة إلى كل شيء طاهر.
وقال القرطبي: في هذا الحديث: دليل على جواز التستر بالحيوان، ولا يعارضه النَّهي عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأنَّ المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، وكراهة الصلاة حينئذٍ؛ إمَّا لشدة نتنها، وإمَّا لأنَّهم كانوا يَتخلَّون بينها مستترين، وقيل: علة النَّهي في ذلك كون الإبل خُلِقت من الشياطين، وقد سبق الكلام فيه، أفاده في «عمدة القاري».
قلت: فيحمل ما وقع منه في حالة السفر من الصلاة إليها على الضرورة، ونظير ذلك صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة؛ لأنَّ البيت كان حينئذٍ ضيقًا، وعلى هذا؛ فقول الأئمة الحنفية والشَّافعي: لا يستتر بامرأة ولا دابة؛ محمولٌ على حالة الاختيار لا حالة الاضطرار.
وروى عبد الرزاق بسنده إلى ابن عمر: (أنَّه كان يكره أن يصلِّي إلى بعير إلا وعليه رحل)، ولعله أنَّها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها عنه، والله تعالى أعلم.
قال القسطلاني: والحديث من الرُّباعيات، واعترضه العجلوني بأنَّه خماسي لا رباعي، انتهى.
قلت: بل هو رباعي؛ لأنَّ الحديث مشتمل على جُمَلٍ من الكلام، وقوله: (وكان ابن عمر يفعله) وقوله (قلت: أفرأيت) من كلام نافع، فهو من إطلاق الجزء على الكل مجازًا، فبهذا صح ما قاله القسطلاني، وفسد ما زعمه العجلوني؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (يصمت)، وهو تحريف.
==================
(1/834)
(99) [باب الصلاة إلى السرير]
هذا (باب) حكم (الصلاة إلى السرير)؛ أي: الذي عليه المرأة، والمراد: على السرير؛ لأنَّ كلمة (إلى) بمعنى (على)؛ لأنَّ حروف الجر يقام بعضها مقام بعض لا سيما هو واقع في الفصيح، قال الله تعالى: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]؛ أي: على جذوعها، وفي رواية ابن عساكر: (باب الصلاة على السرير)؛ فليحفظ، وتقدير: (حكم) أولى من تقدير الجواز؛
%ص 721%
لأنَّ الحكم أعم؛ فافهم.
==================
(1/835)
[حديث عائشة: أعدلتمونا بالكلب والحمار لقد رأيتني مضطجعةً على]
508# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عثمان ابن أبي شيبة): نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو عثمان بن محمَّد بن أبي شيبة _واسمه إبراهيم_ بن عثمان أبو الحسن العبسي الكوفي، أخو أبي بكر ابن أبي شيبة، المتوفي في المحرم سنة تسع وثلاثين ومئتين، وهو أكبر من أبي بكر بثلاث سنين (قال: حدثنا جَرير)؛ بفتح الجيم: هو ابن عبد الحميد الرازي، الكوفي الأصل، (عن منصور) هو ابن المعتمر _بلفظ الفاعل_ السُّلَمي الكوفي، (عن إبراهيم) هو ابن يزيد بن قيس النخعي الكوفي التَّابعي، (عن الأسود) هو ابن يزيد بن قيس النخعي الكوفي التَّابعي، خال إبراهيم المذكور، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق الأكبر أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبويها، وفي إسناد الحديث: رواته كوفيون، ورواية تابعي عن تابعي عن الصَّحابية، وهما موافقان في اسم الأب والجد والنسبة، ويفترقان من حيث إنَّ إبراهيم تابعي صغير، والأسود تابعي كبير، وإنَّما سمي الأسود؛ لأنَّه كان شديد السمرة، فلونه مائل إلى السواد، فسمي به، والله أعلم.
(قالت)؛ أي: لمن كان في حضرتها من الرجال والنساء لما قالوا: (يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار): (أَعَدَلتمونا)؛ بفتح الهمزة التي هي للاستفهام الإنكاري التوبيخي، وفتح العين المهملة والدَّال المخففة؛ معناه: لم عدلمتونا (بالكلب والحمار؟!)، وظاهر كلامها يدل على أنَّها تقول بأنَّ الكلب والحمار يقطعان الصلاة، وإنَّما أنكرت عليهم تسويتهم المرأة بهما مع شرفها وخستهما، (لقد) وفي رواية: (ولقد) (رأيتُني)؛ بِضَمِّ المثناة الفوقية للمتكلم، وكون ضميري الفاعل والمفعول عبارتين عن شيء واحد من جملة خصائص أفعال القلوب، قاله الكرماني، ومقتضاه أنَّها قلبية هنا، وهو بعيد، والظَّاهر أنها بصرية، ويدل عليه قول إمام الشَّارحين: المعنى: رأيت نفسي، حتى لا يقال: فيه كون الفاعل والمفعول واحدًا، أفاده العجلوني.
قلت: والصَّواب: أنها بصرية، والمعنى كما ذكره إمامنا الشَّارح، ومراده الرد على الكرماني؛ لأنَّه ذكر عبارته ثم ناقضها بما ذكر، وهو الحق، كما لا يخفى على أولي الألباب.
(مضطجعةً)؛ بالنصب على الحال؛ لأنَّ الرؤية هنا من رؤية العين، قاله الشَّارح، ويحتمل نصبه على أنَّه مفعول ثان؛ فافهم، (على السرير)، جمعه [1] أسرة وسُرُر: بِضَمِّ الرَّاء، وبعضهم يفتحها؛ وهو التخت المعروف، وكان في زمانهم يتخذ من الخوص وإلى الآن في الحجاز، وأمَّا في ديارنا الشريفة الشامية؛ فيتخذ من الخشب والدفوف، كما لا يخفى، (فيجيء النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إلى بيتها حتى يصل إلى السرير، (فيتوسط السرير)؛ أي: يجعل نفسه في وسط السرير، يدل عليه أنَّ البيوت وقتئذٍ ضيقة لا تسع غير السرير، كما روي في الأحاديث؛ فافهم.
وفسره العجلوني: أي: بالتوجه إليه من غير جلوس عليه.
قلت: وهو خلاف ظاهر اللَّفظ؛ لأنَّ المراد من توسطه السرير: الجلوس عليه، وهو الظَّاهر، وما رواه البخاري في (الاستئذان) كما يأتي لا يدل على ما زعمه؛ لأنَّ ما ذكر هنا قصة غير القصة التي ذكرت في (الاستئذان)، فافترقا، ويدل عليه اختلاف ألفاظهما متنًا وسندًا ورجالًا؛ فليحفظ.
(فيصلي)؛ أي: عليه، ففيه المطابقة للتَّرجمة؛ لأنَّ مراده فيها: الصلاة على السرير؛ فافهم (فأَكره)؛ بفتح الهمزة؛ أي: قالت عائشة رضي الله عنها: فأكره؛ أي: لا أحب (أن) بفتح الهمزة (أَسْنَحَه)؛ بفتح الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح النُّون والحاء المهملة، كذا في رواية (الفرع) و (أصله)، وفي فرع آخر: بِضَمِّ الهمزة، وفتح السين، وتشديد النُّون المكسورة، وفتح الحاء، وللأصيلي: بِضَمِّ الهمزة، وسكون السين، وكسر النُّون، وفتح الحاء، والرواية الأولى اقتصر عليها إمامنا الشَّارح، وكذا الكرماني وابن حجر، وتبعهم القسطلاني، وهذا يدل على أنَّه هو المعروف في اللُّغة، لكن قال ابن التين: بكسر النُّون فيما رويناه، ورواه غيره: بفتح النُّون، وقال الدماميني: بكسر النُّون وفتحها، والمعروف في اللُّغة الفتح، وقد جاء: (فأكره أن أستقبله)، وفي رواية: (فأكره أن أجلس فأؤذيه)، وقال في «عمدة القاري»: هو من قولك: سنح لي الشيء؛ إذا عرض، تريد: أنَّي أكره أن أستقبله ببدنه في صلاته، ومن هذا سوانح الظباء؛ وهو ما يعترض المسافرين فيجيء عن مياسرهم ويجوز إلى ميامنهم، والسانح عند العرب: ما يمر بين يديك عن يمينك، وكانوا يتيمنون به، ومنهم من قال: عن يسارك إلى يمينك؛ لأنَّه أمكن للرمي، والبارح عكسه، والعرب تتطير به، وقال صاحب «العين»: أسنحه: أي أظهر له، وكلما عرض لك؛ فقد سنح، انتهى.
(فأنسَلُّ)؛ بقطع الهمزة، وفتح السين المهملة، وتشديد اللَّام على صيغة المتكلم من المضارع عطفًا على (أكره)؛ أي: أخرج بخفية أو برفق (من قِبَل)؛ بكسر القاف وفتح الموحَّدة؛ أي: من جهة (رجلي السرير)؛ بلفظ التثنية مضافًا إلى (السرير) (حتى أنسَلَّ)؛ أي: أخرج بخفية أو برفق كسابقه إلا أنَّ هذا منصوب؛ أي: إلى أن أنسل (من لِحَافي)؛ بكسر اللَّام، وفتح الحاء المهملة؛ أي: ما يلتحف به الإنسان اتقاء البرد.
ففي الحديث: دليل على جواز الصلاة على السرير.
وفيه: دلالة على أنَّ مرور المرأة بين يدي المصلي لا يقطع صلاته؛ لأنَّ انسلالها من لحافها كالمرور بين يدي المصلي.
وفيه: جواز الصلاة بحضرة نائم أو مضطجع ولو امرأة.
وفيه: أنَّ المرأة إذا مست الرجل وبالعكس؛ لا ينقض الوضوء؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها مست بدنه عليه السَّلام وهو في الصلاة، ولم ينكر عليها؛ فافهم.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّ التَّرجمة في حكم الصلاة على السرير، وفي الحديث: (فيتوسط السرير، فيصلِّي فيه)، فهو يدل على أنَّه يصلِّي على السرير، كما نبَّه عليه الكرماني، وقال: حروف الجر يقام بعضها مقام البعض.
وقال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: وقوله: «فيتوسط السرير» يشمل ما إذا كان فوقه أو أسفل منه.
قلت: لا نسلم ذلك؛ لأنَّ معنى قوله: «فيتوسط السرير»: يجعل نفسه في وسط السرير.
فإن قلت: ذكر البخاري في «الاستئذان» حديث الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة: «كان يصلِّي والسرير بينه وبين القبلة»، فهذا يبين أنَّ المراد من حديث الباب أسفل السرير.
قلت: لا نسلم ذلك؛ لاختلاف العبارتين مع احتمال كونهما في الحالتين، فإذا علمت ذلك؛ علمت أنَّ قول الإسماعيلي: بأنَّه دال على الصلاة على السرير لا إلى السرير، غير وارد، يظهر ذلك بالتأمل) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أنَّ المراد: الصلاة إلى السرير بالتوجه إليه، كما يدل عليه رواية مسروق، فيكون قوله: (يتوسط السرير)؛ أي: أسفل منه، ونقله عن ابن حجر، ثم زعم وأيد كلامه بأنَّ الكلام في السترة والصلاة إليها لا في الصلاة على السرير، ورواية ابن عساكر يحتمل أن ترد (على) بمعنى (إلى) انتهى.
قلت: وهذا تعصب بارد من ذهن شارد؛ لأنَّ كون المراد ما زعمه خلاف الظَّاهر من اللَّفظ، فإنَّ التَّرجمة في الصلاة على السرير كما بينته رواية ابن عساكر، وهو يعين أنَّ الصلاة فوقه كما في قولك:
%ص 722%
صليت على الطنفسة، فإنَّه يكون المراد منه: أنَّه قد صلى فوقها، وهو المتعين في اللُّغة، فما زعمه خلاف اللَّفظ واللُّغة، كما لا يخفى، ورواية مسروق لا تدل لما زعمه؛ لاختلاف اللَّفظ متنًا وسندًا ورجالًا، وهو يدل على أنَّها قصة أخرى غير هذه، ولو كانت قصة واحدة؛ لكان البخاري ذكرها ههنا، واستدل بها لما ترجمه، ولكن لما كان مراد البخاري بترجمته: الصلاة فوق السرير؛ ذكر رواية الأسود واقتصر عليها؛ لما أنَّها مطابقة لترجمته، بخلاف رواية مسروق، فإنَّه لا تدل لما ترجم له فافترقا.
وما زعمه من أنَّ الكلام في السترة غير وارد؛ لأنَّ هذا المذكور حكم من أحكام الصلاة، والمؤلف بصدد أحكام الصلاة وما هنا منها، فبين في هذا الباب أنَّ الصلاة كما تجوز على الأرض كذلك تجوز على السرير؛ أي: فوقه؛ لأنَّ السرير له سترة في جوانبه، وهي تكفي المصلي، وبهذا فهو داخل تحت السترة، كما لا يخفى ورواية ابن عساكر تعين ما ذكرناه.
وما زعمه من الاحتمال بعيد جدًّا؛ لأنَّ (على) أصل معناها: الاستعلاء، وورودها بمعنى (إلى) خلاف معناها المذكور في الفصيح، كما لا يخفى، فما زعمه رجم بالغيب، وهو عليه معيب؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (جمع)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/836)
(100) [باب يرد المصلي من مر بين يديه]
هذا (بابٌ) بالتنوين (يَرُدُّ المصلي) ذكرًا كان أو أنثى (مَنْ) أي: الشخص الذي (يمر بين يديه)؛ أي: سواء كان المار ذكرًا أو أنثى آدميًا أو غيره، وهل يرده إذا مر بين يديه في موضع سجوده أو يرده مطلقًا؟ وهل له حد معلوم؟ وهل الرد واجب أم سنة أم مستحب؟ وهل هو مقيد بمكان مخصوص أو في جميع الأمكنة؟ وسيأتي ذلك مفصلًا إن شاء الله تعالى.
ومنه أنَّ اتخاذ السترة للمصلي مستحب، وهو مذهب الإمام الأعظم، وبه قال مالك بن أنس، ومحمَّد بن إدريس، وقال أحمد ابن حنبل: إنَّه واجب، وروي عن مالك: أنَّه يجوز تركه، وقال عطاء مثله، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
(وردَّ ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما؛ أي: المار بين يديه وهو في الصلاة، مما وصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة في «مصنفهما»، وذكرا أنَّ المار المذكور هو عَمرو بن دينار حال كون ابن عمر (في التشهد)؛ فالجار والمجرور حال؛ أي: حال كونه في تشهد الصلاة خارج الكعبة، وفيه المطابقة للتَّرجمة؛ لأنَّه ردَّه وهو في الصلاة.
وقوله: (وفي الكعبة): عطف على مُقدَّر؛ أي: وردَّ ابن عمر المار بين يديه عند كونه في الصلاة في داخل الكعبة وفي غيرها أيضًا، ويحتمل أن يراد به كون الرد في حالة واحدة؛ وهي جمعه بين كونه في التشهد وفي الكعبة، وعليه فلا حاجة إلى المقدر، قاله الكرماني وإمام الشَّارحين.
قلت: لكن ظاهر اللَّفظ أنَّه وقع منه الرد في حالتين؛ أحدهما: في تشهد الصلاة خارج الكعبة، وثانيهما: في الصلاة داخل الكعبة، وهو ما دل عليه رواية أبي نعيم وابن أبي شيبة؛ لأنَّهما وصلا الأثر المذكور في كتاب «الصلاة» لأبي نعيم شيخ المؤلف من طريق صالح بن كيسان قال: (رأيت ابن عمر يصلِّي في الكعبة، فلا يدع أحدًا يمر بين يديه يبادره، قال: يرده)، وروي من طريق عمرو بن دينار قال: (مررت بابن عمر بعدما جلس في آخر صلاته حتى أنظر ما يصنع، فارتفع من مكانه فدفع في صدري)، وفي رواية لأبي نعيم: (فانتهرني بتسبيحة)، وروى ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن دينار قال: (مررت بين يدي ابن عمر وهو في الصلاة، فارتفع من قعوده، ثم دفع في صدري)، فهذا يدل على أنَّه وقع ذلك مرتين في حالتين، لا ما زعمه الكرماني؛ فافهم.
وفي حديث يزيد الفقير شيخ الإمام الأعظم قال: (صليت إلى جنب ابن عمر بمكة، فلم أر رجلًا أكرَه أن يمر بين يديه منه).
ومطابقة الأثر للتَّرجمة ظاهرة، بقي أنَّه يدل على أنَّ المرور بين يدي المصلي ولو كان داخل الكعبة ممنوع، لكن حديث يزيد الفقير يدل على أنَّ ابن عمر كان يرد المار خارج الكعبة، وروى أحمد وأبو داود عن المطلب بن أبي وداعة: (أنَّه رأى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلِّي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة)، فهذا يدل على أنَّه لا يمنع المار داخل الكعبة؛ لأنَّها جميعها قبلة كما قدمنا، وعلى هذا لا يمنع المار داخل الكعبة، وخلف المقام، وحاشية المطاف، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابهرضي الله عنهم، والجمهور.
وقال الإشبيلي في «الجمع بين الصَّحيحين»: كذا وقع: (وفي الكعبة)، وقال ابن قرقول: وردَّ ابن عمر في التشهد وفي الركعة، وقال القابسي: (وفي الركعة) بدلًا من (الكعبة) هو الصَّواب، انتهى.
قلت: لكن رواية أبي نعيم أنَّه في الكعبة، وكذلك صرح الإشبيلي، كما سبق، وهي رواية الجمهور، على أنَّه ليس في رواية أبي نعيم ولا ابن أبي شيبة ذكر الركعة، بل الذي فيهما ذكر الكعبة والتشهد؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أن رواية الجمهور متجهة، وتخصيص الكعبة بالذكر؛ لئلا يخيل أنَّه يغتفر فيها المرور؛ لكونها محل المزاحمة، انتهى.
وردَّه إمامنا الشَّارح، فقال: (الواقع في نفس الأمر عن ابن عمر في الرد في غير الكعبة وفي الكعبة أيضًا، فلا يقال فيه التخصيص، والتعليل فيه بكون الكعبة محل المزاحمة غير موجَّه؛ لأنَّ في غير الكعبة أيضًا توجد المزاحمة سيما في أيام الجمع في الجوامع ونحو ذلك) انتهى.
واعترضه العجلوني تعصبًا، فزعم بأن المزاحمة في الكعبة كل يوم لأجل الزائرين، وكون الواقع في نفس الأمر كلا الأمرين لا ينافي التخصيص، انتهى.
قلت: هو تعصب بارد من ذهن شارد؛ لأنَّ رواية الجمهور: وقوع الرد من ابن عمر في حالتين: في الكعبة وخارجها، كما دل عليه رواية أبي نعيم وابن أبي شيبة، وعليه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص بالكعبة وما هي إلا غير مفيدة، وقد يدعى التخصيص على رواية (الركعة) بدل (الكعبة)، فيقال: إنَّما خص الكعبة بالذكر؛ لأنَّ جميعها قبلة، فلا يحتاج فيها إلى سترة، وهو غير مراد هنا.
وما زعمه من أن المزاحمة في الكعبة كل يوم؛ باطل؛ لأنَّ أيام المزاحمة ليست على الدوام، بل في بعض أيام الموسم على أنَّه قد لا تفتح الكعبة أصلًا، وقد تفتح في غير أيام الموسم، فليست كل يوم توجد المزاحمة كما زعمه، على أنَّه قد توجد المزاحمة في الجامع أكثر من الكعبة بكثير، والزائرون لا يوجد لهم الدخول إلا في بعض الأحيان في وقت غفلة الناس ليس في كل يوم [1]، وكون الواقع في نفس الأمر كلا الأمرين لا ينافي، بل هو مَنَافٍ كما ذكرنا؛ فافهم.
(وقال)؛ أي: ابن عمر أيضًا، مما وصله عبد الرزاق عنه، ولفظه عن ابن عمر قال: (لا تدع أحدًا يمر بين يديك، وأنت تصلي، فإن أبى إلا أن تقاتله؛ فقاتله)، ولفظ هنا موافق لرواية الكشميهني، كذا في «عمدة القاري»: (إن أبى) بكسر همزة (إن)، وفتحها في (أبى) مع فتح الموحَّدة؛ أي: إن امتنع المار من عدم المرور بكل وجه (إلا أن تقاتله)؛ بمثناة فوقية أوله للمخاطب؛ أي: إلا أن يقاتل المصلي المارَّ؛ (قاتله)؛ أي: ادفعه [2] بالسُّهولة أو بالقهر لا أنَّه يجوز قتله، فإن دم المسلم مضمون، والمقصود المبالغة في كراهة المرور كما وَرَد في الفصيح، قال تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97]؛ معناه: ومن لم يحج، ومنه الحديث: (من استطاع منكم الحج ولم يحج، فإن تهيَّأ أنْ يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا)، فلا يسع أحدًا أن يحكم على من لم يحج بالكفر بالإجماع، فالمراد به: التغليظ، وههنا مثله، وهذا مذهب الإمام الأعظم والجمهور، وشذت طائفة كما يأتي بيانه؛ فافهم.
قال الشَّارح: وقوله: (قاتله) على وجهين: أحدهما: أن يكون لفظ (قاتَلَه) بصيغة الفعل الماضي، وهذا عند كون لفظ: (إلا أن تقاتِلَه) بصيغة الفعل المضارع المعلوم، والضمير المرفوع فيه يرجع إلى المار الذي هو فاعل لفظة: (أبى)، والمنصوب يرجع إلى المصلي، والضمير المرفوع في (قاتَلَه) يرجع إلى المصلي، والمنصوب يرجع إلى المار.
والوجه الثاني: أن يكون لفظة: (إلا أن تقاتِلَه) بصيغة المخاطب؛ أي: إلا أن يقاتل المار، وقوله: (قاتِلْه) رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (فقاتِلْه)؛ بكسر المثناة الفوقية، وسكون اللَّام على صيغة الأمر للحاضر.
فإن قلت: لفظة: (قاتِلْه) في الوجه الثاني جملة أمرية، والجملة
%ص 723%
الأمرية إذا وقعت جزاءً للشرط؛ فلا بد فيها من الفاء.
قلت: تقدير الكلام: فأنت قاتله، انتهى.
وقال الكرماني: ويجوز حذف الفاء منها؛ نحو:
~من يفعل الحسنات اللهُ يشكرها~ ...........
وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّ حذف الفاء فيها لضرورة الوزن، فلا يقاس عليه، ويروى: «فقاتله»؛ بالفاء على الأصل) انتهى.
واعترضه العجلوني بأن حذف الفاء واقع في الاختيار بِقلَّة كما قاله المبرد، ومنه قوله عليه السَّلام: «فإن جاء صاحبها، وإلَّا؛ استمتع بها» انتهى.
قلت: وقوع الحذف اختيارًا قليل ونادر، وهو لا حكم له، بل هو في مقام العدم، فلهذا لم يذكره الشَّارح المحقق وغيره، والجمهور من النحاة أنَّه على التقديم والتأخير، فإذا قلت: إن قام زيد؛ أقوم؛ بالرفع، فما محل (أقوم)؟ ومذهب سيبويه: أن (أقوم) ليس هو الجواب، وإنما هو دليل الجواب، وهو مؤخر من تقديم، والجواب محذوف، والأصل: أقوم إن قام زيد، ومذهب الكوفيين: أنَّ (أقوم) نفس الجواب على إضمار الفاء والمبتدأ؛ والتقدير: فأنا أقوم، وتمامه في شرحنا على «الأزهرية» المسمى بـ «تاج الأسطوانية على شرح شرح الأزهرية»، ويقاس عليه ما ههنا، فلا عليك من العجلوني، فإنَّه بالتعصب مشهور؛ فليحفظ.
==========
[1] تكرر في الأصل: (يوم).
[2] في الأصل: (دفعه)، والمثبت موافق لما شرح عليه المصنف.
==================
[1] تكرر في الأصل: (يوم).
[1] تكرر في الأصل: (يوم).
(1/837)
[حديث: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس]
509# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو مَعْمَر)؛ بفتح الميمين: هو عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المقعد البصري، المتوفى بها سنة أربع وعشرين ومئتين، وقد سبق في باب (قوله عليه السَّلام: «اللهم علمه الكتاب») (قال: حدثنا عبد الوارث) هو ابن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري أبو عبيدة البصري، المتوفى بها في المحرم سنة ثمانين ومئة، تقدم أيضًا في هذا الباب (قال: حدثنا يونس) هو ابن عبيد _بالتصغير_ ابن دينار، أبو عبد الله البصري، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئة، (عن حُميد)؛ بِضَمِّ الحاء، تصغير الحمد (بن هِلَال)؛ بكسرالهاء، وتخفيف اللَّام: العدوي البصري، التَّابعي الجليل، لم يفضلوا عليه أحدًا في العلم في زمانه، (عن أبي صالح) هو ذكوان السَّمان التَّابعي المدني: (أن أبا سعيد) هو سعد بن مالك الخدري، الصَّحابي الجليل، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).
(ح): مهملة، إشارة إلى التحويل من إسناد إلى إسناد آخر قبل ذكر الحديث، وعلامته حرف الحاء المهملة المفردة، وهي ساقطة في «اليونينية»، ولا يضر في التحويل كون المحول إليه فيه زيادة قصة، والتفاوت بين الإسنادين أن الأول فيه: (عن أبي صالح أن أبا سعيد)، والثاني: (قال أبو صالح: رأيت أبا سعيد)، والثاني أقوى، فإن الاعتبار بالحديث، ولا تفاوت فيه بينهما، وقد ساق البخاري هذا الحديث في (بدء الخلق) بالإسناد الذي ساقه هنا من رواية يونس بعينه، وههنا من لفظ سليمان لا من لفظ يونس، كذا في «عمدة القاري» مع تغيير؛ فافهم.
(قال: حدثنا آدم)؛ بهمزة ممدودة، ولأبي الوقت: (آدم بن أبي إياس) هو العسقلاني (قال: حدثنا سليمان بن المُغيرة)؛ بِضَمِّ الميم: هو القيسي البصري، قال إمام الشَّارحين: (ولم يخرج المؤلف لسليمان شيئًا موصولًا غير هذا الحديث) انتهى.
وزعم ابن حجر أن لفظ الحديث في (بدء الخلق) مغاير لما هنا، وليس فيه تقييد الرفع بما إذا كان المصلي يصلِّي إلى سترة، والمطلق محمول على المقيد؛ لأنَّ المصلي إلى غير سترة مقصر لا سيما إن صلى في شارع المشاة، انتهى.
قلت: وفيه: أن ما هنا قصة غير القصة التي ذكرت في (بدء الخلق)، ولا يلزم الحمل المذكور؛ لأنَّ الرفع يطلب مطلقًا، ولو كان يصلِّي إلى غير سترة، كما إذا صلى في مكان ونسي أن يغرز سترة، أو صلى في مكان لا يظن فيه المرور، ثم جاء مار وأراد المرور؛ فليدفعه، فإنَّه في هذا غير مقصر؛ فليحفظ.
(قال: حدثنا حميد بن هلال) هو العدوي التَّابعي (قال: حدثنا أبو صالح السَّمان) هو المدني التَّابعي، ففي الإسنادين رواية تابعي عن تابعي عن صحابي (قال: رأيت) أي: أبصرت (أبا سعيد الخدري) هو سعد بن مالك، الصَّحابي الجليل المشهور رضي الله عنه، والمفعول الثاني هو قوله: (في يوم جمعة)، وقوله: (يصلِّي إلى شيء)؛ أي: عنزة ونحوها طول ذراع بغلظ إصبع (يستره من الناس)؛ أي: من مرورهم بين يديه، جملة محلها نصب على الحال، وهل هذه صلاة الجمعة أو غيرها؛ الظَّاهر: الثاني؛ كصلاة سنة الجمعة أو نفل أو غيرهما؛ لأنَّ صلاة الجمعة لا تؤدى إلا مع الإمام وهو يصلِّي في محرابه، وسترة الإمام سترة لمن خلفه، ويحتمل أنَّه كان يصلِّي في غير المسجد، وعلى كل حال؛ فهي غير صلاة الجمعة؛ فافهم، (فأراد شاب من بني أبي مُعَيْط)؛ بِضَمِّ الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، آخره طاء مهملة، وأبو معيط في قريش، واسمه أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية الأكبر، هو والد عقبة بن أبي مُعَيْط الذي قتله النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صبرًا، و (مُعَيْط): تصغير معط؛ وهو الذي لا شعر عليه، فالأمعط والأمرط سواء، قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
واختلف في اسم الشاب المذكور على أقوال؛ أحدها: أنَّه الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط؛ لما في كتاب (الصلاة) للبخاري من طريق شيخه أبي نعيم عن زيد بن أسلم قال: (بينما أبو سعيد قائمًا يصلِّي في المسجد، فأقبل الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، فأراد أن يمر بين يديه، فدفعه، فأبى إلا أن يمر، فدفعه).
الثاني: أنَّه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ لما في «مصنف ابن أبي شيبة» من طريق أبي معاوية، عن عاصم، عن ابن سيرين قال: (كان أبو سعيد قائمًا يصلِّي، فجاء عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمر بين يديه، فمنعه فأبى إلا أن يجيء، فدفعه أبو سعيد فطرحه، فقيل له: تصنع هذا بعبد الرحمن؟ فقال: والله لو أبى إلا أن آخذ بشعره؛ لأخذت).
الثالث: أنَّه داود بن مروان؛ لما رواه عبد الرزاق من طريق سليمان بن موسى، ولفظه: (أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد، ومروان يومئذ أمير بالمدينة ... )؛ فذكر الحديث، وبه جزم ابن الجوزي، وروى عبد الرزاق الحديث، عن معمر، عن زيد بن أسلم، وقال فيه: (فذهب ذو قرابة لمروان)، ومن طريق أبي العلاء فيه عن أبي سعيد، فقال فيه: (مَرَّ رجلٌ بين يدي أبي سعيد من بني مروان)، وللنسائي من وجه آخر: (فمر ابن لمروان).
ثم قال إمامنا الشَّارح بعد أن ساق الطرق: (والأحسن أن يقال بتعدد الواقعة لأبي سعيد مع غير واحد؛ لأنَّ في تعيين واحد من هؤلاء مع كون اتحاد الواقعة نظرًا لا يخفى) انتهى.
وتبعه ابن حجر وغيره، ونظر ابن حجر في القول الأول: بأن في الحديث: (أنه دخل على مروان)، وزاد الإسماعيلي: (ومروان يومئذٍ أمير على المدينة)، ولم يكن مروان أميرًا على المدينة إلا في خلافة معاوية، ولم يكن الوليد يومئذ فيها، وأيضًا لم يكن الوليد يومئذ شابًّا، بل في عشر الخمسين، فلعله كان فيه، فأقبل ابن للوليد بن عقبة فيتجه، وقال في الثالث: وفيه نظر؛ لأنَّ فيه أنَّه من بني أبي معيط وليس مروان من بنيه، بل أبو معيط ابن عم [1] والد مروان، لكن يحتمل أن داود نسب إلى ابن معيط من جهة الرضاعة، أو لكون جده لأمه عثمان بن عفان كان أخا الوليد بن عقبة لأمه، فنسب داود إليه مجازًا، وفيه بعد، والأقرب أن الواقعة تعددت لأبي سعيد مع غير واحد، انتهى.
قلت: وفيما قاله نظر؛ لأنَّ قوله: (ولم يكن مروان
%ص 724%
أميرًا على المدينة ... ) إلخ؛ لا ينافي ذلك، فإنَّه قد دخل على مروان لأجل الشكاية إليه وإن لم يكن أميرًا، فإن كثيرًا من الناس إذا وقع في أمر؛ يشكو أمره أولًا لصاحبه أو صديقه أو قريبه ثم يشكو للحاكم، فيجوز أن يكون الوليد شكا أمره أولًا لمروان.
وقوله: (ولم يكن يومئذ شابًّا ... ) إلخ: كلام متناقض على أنَّه قد استوجهه؛ فافهم.
وقوله في الثالث: (إنَّه بعيد): ليس كذلك؛ لأنَّه يجوز أن ينسب إلى ما ذكره؛ لشهرته به على طريقة المجاز، وهو سائغ في الكلام، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أن يجتاز)؛ بالجيم والزاي، من الجواز؛ أي: يمر، جملة محلها نصب مفعول (أراد) (بين يديه)؛ بالتثنية؛ أي: بين يدي أبي سعيد (فدفع) وفي بعض النُّسخ: (فدفعه)؛ بالضمير (أبو سعيد) أي: سعد بن مالك الخدري (في صدره) أي: في صدر الشاب المذكور (فنظر الشاب) يحتمل أنَّه نظر إليه متعجبًا من فعله به، ويحتمل أنَّه نظر طريقًا يمر فيه غيره، ويدل عليه قوله: (فلم يجد) أي: الشاب (مَسَاغًا)؛ بفتح الميم والسين المهملة، وبالغين المعجمة؛ أي: طريقًا يمكنه المرور منها، يقال: ساغ الشراب في الحلق؛ إذا نزل من غير ضرر، وساغ الشيء: طاب (إلا بين يديه) أي: أبي سعيد، (فعاد) أي: الشاب (ليجتاز) أي: ليمر بين يديه، (فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى)؛ أي: من المرة الأولى أو الدفعة الأولى، كما في «عمدة القاري»، (فنال)؛ بالفاء والنُّون؛ أي: فأصاب (الشاب من أبي سعيد): من عرضه بالشتم، وهو من النيل؛ وهو الإصابة، كذا قال الشراح.
قلت: وفيه: أن الشاب لم ينل من أبي سعيد شتمًا [2] في عرضه، وإنما أصابه منه شتم باليد المرة بعد أخرى.
(ثم) إن الشاب رجع ولم يمر بين يدي أبي سعيد حتى (دَخَل على مروان بن الحَكَم)؛ بفتحتين: الأموي أبو عبد الملك، يقال: إنَّه رأى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه شيئًا، وتوفي النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلموهو ابن ثمان سنين، توفي بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين عن ثلاث وستين سنة، وتقدم ذكره في باب (البزاق).
قلت: ودفن بباب الصغير رضي الله عنه.
(فشكى) أي: الشاب (إليه) أي: إلى مروان (ما لقِي)؛ بكسر القاف؛ أي: الذي لقيه (من أبي سعيد)؛ أي: من الدفع الذي دفعه أبو سعيد، وإنما شكى إليه؛ لأنَّه يحتمل أنَّه صديقه، أو صاحبه، أو لقرابته منه، ويحتمل أنَّه ابن زوجة مروان، وسماه ابنه مجازًا كما سبق، ويحتمل غير ذلك كما قدمنا؛ فليحفظ.
(ودخل أبو سعيد خلفه على مروان)؛ يعني: أن أبا سعيد لما رأى الشاب رجع وذهب إلى دار مروان؛ علم أنَّه يشتكي عليه إليه، فأتم صلاته وذهب خلفه حتى دخل على مروان؛ لأجل أن يعلمه أن المرور بين يدي المصلي غير جائز؛ لاحتمال أن الحديث لم يبلغهم؛ فافهم.
(فقال) أي: مروان (لأبي سعيد: ما لك ولابن أخيك): وكلمة (ما) مبتدأ، و (لك): خبره، (ولابن أخيك): عطف عليه بإعادة الخافض، وأطلق الأخوة باعتبار أن المؤمنين إخوة، وإنما لم يقل: ولأخيك؛ بحذف (الابن)؛ نظرًا إلى أنَّه كان شابًّا أصغر منه، قاله الشَّارح، (يا با سعيد؟) وهذا يدل على أنَّ المارَّ بين يدي أبي سعيد الذي دفعه غير الوليد بن عقبة؛ لأنَّ أباه عقبة قتل كافرًا، قاله المحقق بدر الدين العيني الحنفي رضي الله تعالى عنه، آمين.
(قال)؛ أي: أبو سعيد لمروان والشاب: لم أفعل الدفع المذكور من تلقاء نفسي لغرض هوًى، وإنما فعلته اتِّباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأني (سمعت النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وجملة: (يقول) محلها نصب على الحال، أو مفعول ثان لـ (سمعت) (إذا صلى أحدكم)؛ أي: في الصحراء أو في مسجد صغير دون أربعين ذراعًا في أربعين ذراعًا، كما قدمناه (إلى شيء يستره)؛ أي: كعنزة ونحوها مما طوله ذراع بغلظ إصبع (من الناس)؛ أي: من مرورهم بين يديه، أمَّا المسجد الكبير؛ فلا يحتاج المصلي فيه من السترة، كما سبق غير أنَّه إذا مر أحد بين يديه؛ يدفعه؛ فافهم، (فأراد أحد) من الناس (أن يجتاز) أي: يمر (بين يديه) أي: في موضع سجوده؛ (فليدفعه) وفي رواية مسلم: (فليدفع في نحره)؛ أي: بالأسهل والأخف، وقال القرطبي: بالإشارة ولطيف المنع، انتهى.
وهل الدفع المذكور مندوب أم واجب؟ قال النَّووي: وهذا الأمر أمر ندب متأكد، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء أوجبه، واعترضه الشَّارح: بأن أهل الظَّاهر قالوا بوجوبه؛ لظاهر الأمر، فكأنَّ النَّووي ما اطَّلع على هذا.
وقال ابن بطال: اتفقوا على دفع المار إذا صلى إلى سترة، فأمَّا إذا صلى إلى غير سترة؛ فليس له؛ لأنَّ التصرف والمشي مباح لغيره في ذلك الموضع الذي يصلِّي فيه، فلم يستحق أن يمنعه إلا ما قام الدليل عليه وهي السنة التي وَرَدت السنة بمنعها، انتهى.
قلت: هذا ليس على إطلاقه؛ لأنَّ المصلي بمكان يملكه من موضع قدميه إلى موضع سجوده سواء كان يصلِّي إلى سترة أو لا، فإذا صلى إلى سترة؛ فظاهر، وأمَّا إذا صلى لغير سترة؛ فليس لأحد أن يمر بين يديه، وله دفعه مطلقًا، كما إذا صلى ونسي وضع السترة أو في مكان لا يظنُّ المرور فيه، فجاء مار؛ فله دفعه، كما لا يخفى، وقد سبق ذلك؛ فافهم.
وقال إمامنا الشَّارح: (ولا يجوز للمصلي المشي من موضعه ليَرُدَّ المار، وإنما يدافعه ويرده من موضعه؛ لأنَّ مفسدة الشيء في الصلاة أعظم من مروره بين يديه، وإنما أبيح له قدر ما يناله من موقفه، وإنما يرده إذا كان بعيدًا منه بالإشارة والتسبيح، ولا يجمع بينهما) انتهى.
قلت: وظاهره أنَّ هذا مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، لكن قد ذكر في «المنية» و «شرحها» للحلبي البرهان: أن المشي في الصلاة خطوة أو خطوتين لا يضرها ولا يفسدها، انتهى.
وفي «عمدة القاري»: وفي «الكافي»: يدفعه ويصر على ذلك، وقيل: يدفعه دفعًا شديدًا أشد من الدرء، ولا ينتهي إلى ما يفسده صلاته، وهذا هو المشهور عن مالك وأحمد، وقال أشهب: إن قَرُبَ منه؛ درأه ولا ينازعه، فإن مشى له ونازعه؛ لم تبطل صلاته، وإن تجاوزه؛ لا يَرُدُّه؛ لأنَّه مرور ثان، وكذا رواه ابن القاسم عن مالك، وبه قال الشَّافعي وأحمد، وقال ابن مسعود وسالم: يردُّه من حيث جاء، وإذا مر بين يديه ما لا يؤثر فيه الإشارة كالهرة؛ قال مالك: دفعه برجله أو ألصقه إلى السترة، انتهى.
(فإن أبى)؛ أي: امتنع المار من الرجوع؛ (فلِْيقاتله)؛ بكسر اللَّام الجازمة وسكونها؛ أي: يزيد في دفعه الثاني أشد من الأول، قال القرطبي: وأجمعوا على أنَّه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح ولا بغيره؛ لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة والاشتغال بها، والخشوع فيها، وقال القاضي عياض: أجمعوا على أنَّه لا يلزمه مقابلته بالسلاح، ولا ما يؤدي إلى هلاكه، فإن دفعه بما يجوز، فهلك من ذلك؛ فلا قَوَدَ عليه باتفاق العلماء، وهل يجب ديته أم يكون هدرًا؟ فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان لمالك، وتجب الدية والكفارة عند سيدنا الإمام الأعظم؛ لأنَّ دم المسلم مضمون، والحديث محمول على التغليظ كما في آية الحج وحديثه، ولا دِية ولا كفارة عند الشَّافعي، وفيه الدية عند أحمد ابن حنبل، وقال ابن شعبان: عليه الدية في ماله كاملة، وقيل: هي على عاقلته، وقيل: هدر، والجمهور على أنَّ معنى: (فليقاتله): الدفع بالقهر لا جواز القتل؛ لأنَّ المقصود المبالغة في كراهة المرور، وفي «التَّمهيد»: العمل القليل في الصلاة جائز؛ نحو: قتل برغوث، وحك جسد، وقتل عقرب بما خفَّ من الضرب ما لم يكن كثيرًا، فإن كثر؛ يفسد الصلاة، وشذ جماعة من الشَّافعية، فزعموا إلى أنَّه يقاتله حقيقة، وردَّه ابن العربي، فقال: المراد: المدافعة.
وأبعد الباجي فزعم أن المراد بالمقاتلة: اللعن، وأنكره جماعة بأنه يستلزم التكلم في الصلاة؛ وهو مبطل، وأجاب بعضهم باحتمال أن يريد لعنه بالدعاء من غير خطاب، لكن فعل أبي سعيد يرده، وهو أدرى بالمراد.
قلت: وما هذا إلا خلاف الحق والصَّواب، فإنَّ لعن
%ص 725%
الكافر المعين؛ لا يجوز، فكيف بلعن المسلم الموحد لله الشاهد بالرسالة للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فإنَّ لعنه كبيرة من الكبائر، وكذلك لا يجوز لعنه بالدعاء من غير خطاب؛ لأنَّ اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، ولا يستحق ذلك إلا من أشرك في الله تعالى، أمَّا المسلم؛ فلعنه حرام كبيرة تغمس صاحبها في جهنم؛ فانظر هذه الجرأة الوخيمة من هؤلاء الذين يستحقون من الله العذاب الأليم، وقد أعمى الله أبصارهم عن قوله تعالى في آية الحج: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ}، وعن قوله عليه السَّلام: (من استطاع منكم الحج ولم يحج، فإن شاء أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا)، فإن الأئمة أجمعوا على أنَّ المراد به: التغليظ لا الكفر حقيقة، وما نحن فيه مثله، فإن مراده عليه السَّلام بالمقاتلة المدافعة، كما ذكره جمهور العلماء؛ فليحفظ.
وقوله: (فإنما هو) أي: المار (شيطان): بيان وتعليل للمقاتلة، قال في «عمدة القاري»: وهذا من باب التشبيه للمبالغة؛ أي: إنَّما هو كالشَّيطان، أو يراد به: شيطان الإنس، وإطلاق الشَّيطان على المارد من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112].
وقال الخطابي: (معناه: أن الشَّيطان يحمله على ذلك، ويحركه إليه، وقد يكون أراد بالشَّيطان: المار بين يديه نفسه، وذلك أن الشَّيطان: هو المارد الخبيث من الجن والإنس).
وقال القرطبي: ويحتمل أن يكون معناه الحامل له على ذلك الشَّيطان، ويؤيده حديث ابن عمر عند مسلم: (لا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى؛ فليقاتله، فإن معه القرين)، ومثله عند ابن ماجه.
وقال ابن المنكدر: (فإنَّ معه العُزَّى، وقيل: معناه: إنَّما هو فعل الشَّيطان لشغل قلب المصلي، كما يخطر الشَّيطان بين المرء ونفسه) انتهى.
وفي الحديث: طلب اتخاذ السترة للمصلي، وفيه خلاف؛ ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم: أنها مستحبة، وبه قال مالك والشَّافعي، ويجوز تركها عند مالك، وقال أحمد: إنها واجبة، فإن لم يجد؛ وضع خطًّا؛ لحديث ابن عمر الذي صححه الحاكم: (لا تصلوا إلا إلى سترة، ولا تدع أحدًا [3] يمر بين يديك)، وعند أبي نعيم: قال عمر بن الخطاب: (لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته؛ ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس)، وعند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: أنَّه ليقطع نصف صلاة المرء المرور بين يديه، وقال بالاستحباب جماعة؛ إبراهيم النخعي، وعطاء، والقاسم، وسالم، رواه ابن أبي شيبة.
وحدُّها: من قدمي المصلي إلى موضع سجوده، واختار شمس الأئمة السرخسي، وشيخ الإسلام، والإمام قاضي خان: أنَّه يكره المرور في موضع سجود المصلي، وقيل: مقدار صفين أو ثلاثة، وقيل: ثلاثة أذرع، وقيل: بأربعين ذراعًا، وقدره الشَّافعي وأحمد بثلاثة أذرع، ولم يحده مالك.
وكذلك يستحب في الصحراء أن يتخذ سترة، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم؛ فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد؛ فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا؛ فليخط خطًّا، ولا يضره ما مر أمامه»، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه»، وقال القاضي عياض: هذا حديث ضعيف، وضعفه ابن عيينة، وإسماعيل بن أمية، والشَّافعي، والنَّووي.
ويستحب أن تكون السترة قدر ذراع، وأن يكون بغلظ إصبع؛ لأنَّ ما دونه لا يبدو للناظر من بعيد، ويقرب المصلي من السترة، ويجعلها على أحد حاجبيه الأيمن أو على الأيسر، كما نص عليه أئمتنا الأعلام؛ لما روى أبو داود من حديث المقداد بن الأسود قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلى عمود، ولا عود، ولا شجر إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدًا)؛ يعني: لم يقصده قصدًا بالمواجهة، والصمد: القصد لغة، وسترة الإمام سترة لمن خلفه.
والمعتبر عندنا الغرز دون الخط والإلقاء؛ لأنَّ المقصود هو الدرء بالخط، والإلقاء لا يُحصِّلُ المقصود، وقال شيخ الإسلام في «المبسوط»: إنَّما يغرز إذا كانت الأرض رخوة، أمَّا إذا كانت صلبة؛ فيضع وضعًا، لكن يضع طولًا لا عرضًا، وفي «المحيط»: الخط ليس بشيء، وهو قول الجمهور، وجوَّزه أشهب، وبه قال سعيد بن جبير، والأوزاعي، والشَّافعي بالعراق، ثم قال بمصر: لا يخط، وحديث أبي هريرة المار ضعَّفه جماعة؛ عبد الحق، وابن حزم، وغيرهما، ولا يضر وضع سترة مغصوبة، فإنَّها معتبرة عندنا، وعند أحمد تبطل الصلاة، ومثله الثوب المغصوب، انتهى وتمامه في «عمدة القاري».
وفيه: أن المار كالشَّيطان في أنَّه يشغل قلب المصلي عن مناجاة ربه تعالى، وفيه: أنَّه يجوز أن يقال للرجل إذا فتن في الدين: إنَّه شيطان، وفيه: أن الحكم للمعاني لا للأسماء؛ لأنَّه يستحيل أن يصير المار شيطانًا بمروره بين يديه، وفيه: أن دفع الأمور بالأسهل فالأسهل، وفيه: أن المنازعات لا بد [فيها] من الرفع للحاكم، ولا ينتقم الخصم بنفسه، وفيه: أن رواية العدل مقبولة، وإن كان الراوي له منتفعًا به، انتهى، والله أعلم.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة.
==========
[1] في الأصل: (عمر)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (شتم)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أحد)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (عمر)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (شتم)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (عمر)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (شتم)، وليس بصحيح.
(1/838)
(101) [باب إثم المار بين يدي المصلي]
هذا (باب) بيان (إِثم المار بين يدي المصلِّي)؛ بكسر اللَّام، وأصل (المار): مارر، فأسكنت الرَّاء الأولى، وأدغمت في الثانية، والإدغام في مثله واجب، قاله الشَّارح، وهو من الكبائر إذا صلى إلى سترة في الصحراء، أو في المسجد الصغير، وكذا إذا صلى إلى غير سترة في المسجد الكبير، وإنما كان كبيرة؛ لذكر الوعيد عليه في الأحاديث؛ منها: حديث الباب، ومنها: حديث أنس بن مالك عند الترمذي: «لأَنْ يقف أحدكم مئة عام؛ خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلِّي»، ومنها: ما رواه ابن عبد البر موقوفًا: (لأن يكون الرجل رمادًا يذرى به؛ خير له من أن يمر بين يديه رجل متعمدًا وهو يصلِّي) انتهى، وهذا يدل على أنَّ المرور مكروه تحريمًا، فإن صلى إلى غير سترة في الصحراء أو في المسجد الصغير؛ فإن الكراهة تعود على المصلي دون المار؛ لتقصير المصلي في عدم السترة، وقد يقال: إنهما يشتركان في الإثم؛ لأنَّ المصلي مقصر كما علمت، وكذلك المار يكون مقصرًا؛ لأنَّه علم المصلي أنَّه في الصلاة ومر بين يديه، وكذا إذا مر في موضع سجوده في المسجد الكبير؛ فإن الإثم على المار كما قررناه، وتمامه في شرحنا على «القدوري».
==========
%ص 726%
==================
(1/839)
[حديث: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين]
510# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي الدمشقي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن أبي النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون الضَّاد المعجمة: هو سالم بن أبي أمية (مولى عُمر بن عُبيد الله) بِضَمِّ العين المهملة فيهما، (عن بُسْر) بِضَمِّ الباء الموحَّدة، وسكون السين المهملة (بن سعيد)؛ بالتحتية بعد العين المهملة مكبرًا: هو الحضرمي المدني الزاهد التَّابعي الثِّقة، المتوفى سنة مئة، ولم يخلف كفنًا، قلت: والبسر: أوله طلع؛ ثم خَلال _بالفتح_، ثم بَلَح _بفتحتين_، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر، وبابه (نصر): (أنَّ زيد بن خالد)؛ بفتح الهمزة: هو الجهني الصَّحابي رضي الله عنه (أرسله)؛ أي: جعله رسولًا؛ يعني: جعل زيدٌ بُسرًا رسولًا برسالته، كذا في «الصِّحاح»، فما فسره العجلوني: (أي: بعثه)؛ مخالف للُّغة؛ فافهم، (إلى أبي جُهَيم)؛ بِضَمِّ الجيم، وفتح الهاء: هو عبد الله بن جُهَيم، قال إمامنا الشَّارح: أبو جُهَيم _بالتصغير_ _مر في باب (التيمم في الحضر) _ ابن عبد البر راوي حديث التيمم هو غير راوي حديث المرور، وقال الكلاباذي: أبو جهيم، ويقال: أبو جهم بن الحارث، روى عنه البخاري في (الصلاة) و (التيمم)، وقال النَّووي: أبو جهيم راوي حديث المرور وحديث التيمم، عن أبي الجهم _مكبرًا_ المذكور في حديث الخميصة والإنبجانية؛ لأنَّ اسمه عبد الله وهو أنصاري، واسم ذلك عامر وهو عدوي، وقال الذهبي: (أبو الجهيم، ويقال: أبو الجهم بن الحارث بن الصمة، كان أبوه من كبار الصَّحابة)، ثم قال: (أبو جهيم: عبد الله بن جهيم، جعله وابن الصمة واحدًا أبو نعيم وابن منده، وكذا قاله مسلم في بعض كتبه، وجعلهما ابن عبد البر اثنين، وهو أشبه،
%ص 726%
لكن متن الحديث واحد) انتهى، قلت: وما ذكر من أنَّ المرسِل زيد، والمرسَل بسر، والمرسل إليه أبو جهيم في هذا الحديث هو ما ذكره في «الموطأ» لم يختلف فيه، وتابعه سفيان الثَّوري عن أبي النَّضر عند مسلم، وابن ماجه، وغيرهما، وخالفهما ابن عيينة عن أبي النَّضر فقال: عن بسر بن سعيد قال: أرسلني أبو جُهيم إلى زيد بن خالد أسأله ... ؛ فذكر هذا الحديث، قال ابن عبد البر: انقلب على ابن عيينة، وقال ابن معين: إنَّه خطأ، واعترضه ابن القطان، فقال: ليس بخطأ؛ لاحتمال أن يكون أبو جُهيم بعث بسرًا إلى زيد، وبعثه زيد إلى أبي جُهيم، انتهى، قلت: وفيه أنَّه لم يذكر ذلك في المتن، فالاحتمال بعيد.
وزعم ابن حجر أن قولهم: أخطأ فلان، مبني على غلبة الظن، ولا يشترط الخطأ في نفس الأمر، انتهى.
قلت: لا يخفى أن غلبة الظن منزَّلة منزلة اليقين عند المحققين، وأمَّا نفس الأمر؛ فلا يطَّلع عليه إلا رب العزة جلَّ وعلا؛ فافهم، والله أعلم.
(يسأله) أي: يسأل أبا جُهيم: (ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: عن الذي سمعه (في) حكم الشخص (المار بين يدي المصلي؟)؛ أي: أمامه في موضع سجوده، أو بينه وبينه ثلاثة أذرع أو رمية حجر؛ أقوال للعلماء، والصَّواب: الأول كما علمت، (فقال أبو جُهيم) بالتصغير: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في حق المار المذكور: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه)؛ أي: من الإثم والخطيئة، وفي رواية الكشميهني: (ماذا عليه من الإثم)، وليست [1] هذه الزيادة في شيء من الروايات غيره، وكذا في «الموطأ» ليست هذه الزيادة، وكذا في سائر المستندات والمستخرجات غير أنَّه وقع في «مصنف ابن أبي شيبة»: (ماذا عليه)؛ يعني: من الإثم، وعيب على الطَّبري؛ حيث عزا هذه الزيادة في (الأحكام) للبخاري، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال القسطلاني: (هذه الزيادة ثابتة في «اليونينية» من غير عزو) انتهى، وأنكر ابن الصلاح على من أثبتها، لكن قال النَّووي: في رواية رويناها في «الأربعين»: (ماذا عليه من الإثم) انتهى، قلت: وعلى كل فهي ثابتة، والمثبت مقدم على النافي.
وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن هذه الزيادة ذكرت في أصل «البخاري» حاشية، فظنها الكشميهني من الأصل؛ لأنَّه ليس من أهل العلم ولا الحفاظ، بل كان راوية، انتهى.
قلت: هذا متعسف؛ لأنَّه حيث ذكرت في الأصل؛ فلا ريب أنَّها منه، وظن الكشميهني معتبر، ويقال له: غلبة الظن، وهو بمنزلة اليقين، وكيف يزعم هذا القائل أنَّه ليس من أهل العلم ولا الحفاظ، وقد ذكر المحدثون: أن الرواي لا بد فيه من العدالة والإتقان والحفظ، فنفي العلم يستلزم الجهل، ونفي الحفظ يستلزم البلادة، وهما ينافي الراوي، وعليه فلا يجوز الرواية عنه، فكيف رُويت عنه الأحاديث الصَّحيحة؛ فانظر ما زعمه هذا القائل.
وقال إمامنا الشَّارح: (وكلمة «ما»: استفهام، ومحلها الرفع على الابتداء، وكلمة «ذا»: إشارة خبره، والأَولى أن تكون «ذا» موصولة؛ بدليل افتقاره إلى شيء بعده؛ لأنَّ تقديره: ماذا عليه من الإثم؟ ثم إن «ماذا عليه»: في محل نصبٍ سدَّ مسدَّ المفعولين لقوله: «لو يعلم»، وقد علق عمله بالاستفهام) انتهى.
قلت: وإنما أبهم الإثم في رواية الصَّحيح إشارة إلى أنَّ هذا الإثم عظيم كبير، لا يتقدر بقدر، ولا يوصف بوصف، ولا يدخل تحت عبارة؛ فافهم.
وما ذكره العجلوني هنا غير سديد؛ لأنَّ فيه خلطًا وخبطًا؛ فاجتنبه.
وقوله: (لكان أن يقف أربعين): جواب (لو)، وكلمة (أن): مصدرية؛ والتقدير: لو يعلم المار ما الذي عليه من الإثم من مروره بين يدي المصلي؛ لكان وقوفه أربعين خيرًا له من أن يمر؛ أي: مروره بين يديه، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الكرماني أنَّ جواب (لو) ليس المذكور؛ إذ التقدير: لو يعلم ماذا عليه؛ لوقف أربعين، ولو وقف أربعين؛ لكان خيرًا له.
وردَّه الشَّارح بأنَّه لا ضرورة إلى هذا التقدير، وهو تصرف فيه تعسف، وحق التركيب ما ذكرناه؛ فافهم، انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ ما ذكره الكرماني أدق وأتم في الارتباط، والمعنى يدل عليه، نعم؛ ليس هو بمتعين كما في «الفتح»، انتهى.
قلت: اعتراض الناقل والمنقول عنه؛ كلاهما غير صواب؛ لأنَّ ظاهر اللَّفظ يدل لما قاله إمامنا الشَّارح، بل الظَّاهر أنَّه متعين ههنا، وعليه المعنى ظاهر، وأمَّا ما زعمه الكرماني؛ فإنَّه قاصر فاسد التركيب، غير مرتبط كلامًا ومعنًى، فما زعمه العجلوني تبعًا لابن حجر تعصب بارد من ذهن شارد؛ فافهم.
(خيرًا له) قال الشَّارح: (فيه روايتان النصب والرفع؛ أمَّا النصب؛ فظاهر؛ لأنَّه خبر لـ «كان»، واسم «كان» هو قوله: «أن يقف»؛ لأنا قلنا: إن كلمة «أن» مصدرية، وأن التقدير: لكان وقوفه خيرًا له أربعين، وأمَّا الرفع؛ فقد قال ابن العربي: هو اسم «كان»، ولم يذكر خبره ما هو، وخبره هو قوله: «أن يقف»؛ والتقدير: لو يعلم المار ماذا عليه؛ لكان خير وقوفه أربعين) انتهى.
وزعم ابن حجر: (يحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها)، وردَّه الشَّارح: بأنَّه تعسف، واعترضه العجلوني بأن لا تعسف، بل كل في مركزه، ولا إخبار عن النكرة بمعرفة، وتقدير ضمير الشأن متداول، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّه فاسد الاعتبار والتركيب مع خفاء المعنى المراد منه، على أنَّه ليس كل في مركزه، كما لا يخفى، وليس فيه الإخبار عن النكرة بمعرفة مع أنَّه جائز عند جماعة، وضمير الشأن وإن كان تقديره متداولًا، لكنه في غير هذا، أمَّا ههنا؛ فغير متداول، بل غير ظاهر المعنى مع ما فيه من الخفاء وعدم ظهورالمراد؛ فافهم.
(من أن يمر)؛ أي: المار، متعلق بقوله: (خيرًا)، وكلمة (من): هي الجارة للمفضل عليه (بين يديه)؛ أي: يدي المصلي؛ أي: أمامه بالقرب منه، وإنما عبر باليدين؛ إمَّا لكون أكثر الشغل يقع بهما، وإمَّا لأنَّ المار يمر قرب يدي المصلي، فللقرب المذكور عبَّر بهما؛ فليحفظ، وإنما خص الوقوف _وهو تعذيب_ جزاءً لفعله وهو أهون؛ لأنَّ عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة.
وقد قال إمام الشَّارحين: وروى ابن ماجه عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «لأنْ يقوم أربعين خير له من أن يمر بين يديه»، قال سفيان: فلا أدري أربعين سنة، أو شهرًا، أو صباحًا، أو ساعةً، وفي «مسند البزار»: «لأنْ يقوم أربعين خريفًا خير له»، وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه معترضًا في الصلاة؛ كان لأن يقيم مئة عام خير له من الخطوة التي خطاها»، وفي «الأوسط» للطبراني عن عبد الله بن عَمرو مرفوعًا: «إن الذي يمر بين يدي المصلي عمدًا؛ يتمنى يوم القيامة أنَّه شجرة يابسة»، وفي «المصنف» عن عبد الحميد عاملِ عمر بن عبد العزيز: قال عليه السَّلام: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ما عليه؛ لأحب أن تنكسر فخذه ولا يمر بين يديه»، وقال ابن مسعود: (المار بين يدي المصلي أنقص من الممر عليه، وكان إذا مر أحد بين يديه؛ التزمه حتى يرده)، وقال ابن بطال: قال عمر رضي الله عنه: (لكان يقوم حولًا خير له من مروره)، وقال كعب الأحبار: لكان أن يُخسَف به خير له من أن يمر بين يديه، انتهى.
قلت: فهذا كله يدل على الوعيد
%ص 727%
الشديد، ولهذا قال الشَّارح: وفي الحديث: أن المرور بين يدي المصلي مذموم، وفاعله مرتكب الإثم.
وقال النَّووي: فيه: دليل على تحريم المرور، فإنَّ في الحديث النَّهي الأكيد، والوعيد الشديد، فيدل على ذلك.
قلت: فعلى ما ذكره ينبغي أن يكون المرور بين يدي المصلي من الكبائر، اختلف في تحديد ذلك؛ فقيل: إذا مر بينه وبين مقدار سجوده، وقيل: بينه وبينه ثلاثة أذرع، وقيل: بينهما قدر رمية حجر، وقد مر الكلام فيه، انتهى، قلت: والقول الأول هو الصَّواب، وعليه الجمهور من أولي الألباب.
(قال أبو النَّضْر)؛ بفتح النُّون، وسكون المعجمة: هو سالم بن أبي أمية المذكور في السند السَّابق: (لا أدري أقال)؛ بهمزة الاستفهام، ولأبي ذر: بإسقاطها، لكنها مقدرة، وفاعله بُسر بن سعيد، وهو من كلام مالك.
وزعم الكرماني أن فاعله بسر أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إما من كلام مالك؛ فهو مسند، وإما تعليق من البخاري.
وردَّه إمامنا الشَّارح، فقال: (الظَّاهر من اللَّفظ: أنَّه بُسر بن سعيد، وهو من كلام مالك وليس من تعليق البخاري؛ لأنَّه ثابت في «الموطأ» من جميع الطرق، وكذلك هو ثابت في رواية النَّووي وابن عيينة) انتهى، وتبعه ابن حجر، والقسطلاني، والعجلوني؛ فليحفظ.
(أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة؟): وللبزار: (خريفًا)، ولابن ماجه: (أربعين سنة أو شهرًا أو صباحًا أو ساعة)، ولابن حبان: (مئة عام)، كما قدمناه، وإنما ذكر هذا؛ لأنَّه ذكر العدد؛ أعني: (أربعين)، ولا بد له من مميز؛ لأنَّه لا يخلو عن هذه الأشياء، وقد أبهم ذلك ههنا، فإن قلت: ما الحكمة فيه؟ قلت: قال الكرماني: وأبهم الأمر؛ ليدل على الفخامة، وأنَّه مما لا يقادر قدره، ولا يدخل تحت العبارة، انتهى.
وردَّه الشَّارح، فقال: (الإبهام ههنا من الراوي، وفي نفس الأمر العدد معين، ألا ترى كيف تعين فيما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة: «لكان أن يقف مئة عام ... »؛ الحديث؟ وكذا عيَّن في «مسند البزار» من طريق سفيان بن عيينة: «لكان أن يقف أربعين خريفًا») انتهى.
وقال الكرماني: (فإن قلت: هل للتخصيص بالأربعين حكمة معلومة؟ قلت: هي أسرار، وأمثالها لا يعلمها إلا الشَّارع، ويحتمل أن يكون ذلك؛ لأنَّ الغالب في أطوار الإنسان أن كمال كل طور بأربعين؛ كأطوار النطفة، فإن كل طور منها بأربعين، وكمال عدل الإنسان في أربعين سنة، ثم الأربعة أصل جميع الأعداد؛ لأنَّ أجزاءه هي عشرة، ومن العشرات المئات، ومنها الألوف، فلما أريد التكثير؛ ضوعف كل واحد إلى عشرة أمثاله) انتهى.
واعترضه الشَّارح، فقال: (غفل الكرماني عن رواية المئة حيث قصر في بيان الحكمة على الأربعين).
وزعم ابن حجر في التنكيت على الكرماني: بأن هذه الرواية تشعر بأن إطلاق (الأربعين) للمبالغة في تعظيم الأمور لا لخصوص عدد معين.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (لا ينافي رواية المئة بيان وجه الحكمة في الأربعين، بل ينبغي أن يطلب وجه الحكمة في كل منهما؛ لأنَّ لقائل أن يقول: لم أطلق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر؟ ولِمَ لَمْ يذكر الخمسين أو الستين أو نحو ذلك؟ والجواب الشافي في ذلك: أن تعيين الأربعين الوجه الذي ذكره الكرماني، وأمَّا وجه ذكر المئة؛ فما ذكره الحافظ الطَّحاوي: أنَّه قيد بالمئة بعد التقييد بالأربعين؛ لزيادة في تعظيم الأمر على المار؛ لأنَّ المقام مقام زجر، وتخويف، وتشديد.
فإن قلت: من أين علم أن التقييد بالمئة بعد التقييد بالأربعين؟
قلت: وقوعهما معًا مستبعد؛ لأنَّ المئة أكثر عددًا من الأربعين، وكذا وقوع الأربعين بعد المئة؛ لعدم الفائدة، وكلام الشَّارع كله حكمة وفائدة، والمناسبة أيضًا تقتضي تأخير المئة عن الأربعين.
فإن قلت: قد علم وجه الحكمة في الأربعين، فما وجه الحكمة في تعيين المئة؟
قلت: المئة وسط بالنسبة إلى العشرات والألوف، وخير الأمور أوساطها، وهذا مما تفردت به) انتهى كلام إمامنا الشَّارح الحافظ بدر الدين العيني قدس سره العزيز، ونفعنا به في الدارين.
ثم قال: (وفي الحديث: عموم النَّهي لكل مُصلٍّ، وتخصيص بعضهم بالإمام والمنفرد؛ لا دليل عليه، وفيه: طلب العلم، والإرسال لأجله، وفيه: جواز الاستنابة، وفيه: أخذ العلماء بعضهم من بعض، وفيه: الاقتصار على النزول مع القدرة على العلو؛ لإرسال زيد بن خالد بُسَر بن سعيد إلى أبي جُهيم، ولو طلب العلو؛ لسعى هو بنفسه إلى أبي جُهيم، وفيه: قبول خبر الواحد) انتهى.
ومراده بقوله: (وتخصيص بعضهم ... ) إلى آخره: بعض المالكية؛ لأنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه فانتفى [2] المأموم، ورُدَّ بأنَّه لا يطابق المدعى؛ لأنَّ السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار، فاستوى في ذلك الإمام والمأموم والمنفرد.
وقال ابن بطال: فُهِم من قوله: (لو يعلم): أن الإثم يختص بمن يعلم بالمنهي وارتكبه، واعترضه ابن حجر: بأنَّه بعيد.
وردَّه الشَّارح: بأنَّه ليس فيه بُعد؛ لأنَّ (لو) للشرط، فلا يترتب الحكم المذكور إلا عند وجود العلم، انتهى.
قلت: ويدل عليه قول النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ عن أمتي الخطأ والنِّسيان وما استكرهوا عليه»؛ ومعناه: رفع الإثم عند الجمهور، فالذي لم يعلم مخطئ بالفعل المذكور، وهو غير مؤاخذ به؛ لعدم علمه، لا يقال: يعارضه قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]؛ لأنَّا نقول: إن معناه: فاسألوهم حين وجودهم، أمَّا عند عدم وجودهم؛ فالإثم مرفوع؛ للحرج، كما إذا كان في مفازة، أو في الصحراء، أو مسافرًا، أو في قرية، أو نحوها، وفي هذه الأماكن لا يوجد من أهل الذكر أحد، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فرفع عنه الإثم للحرج، كما لا يخفى.
وزعم ابن حجر أنَّ ظاهر الحديث أن الوعيد يختص بمن مر، لا بمن وقف عامدًا بين يدي المصلي أو قعد أو رقد، لكن إن كانت العلة التشويش على المصلي؛ فهو في معنى المار، انتهى.
قلت: ظاهر الحديث يخالفه، فإن من وقف بين يديه، أو جاء وقعد، أو جاء ورقد؛ فهو مار حقيقة وزيادة، فإن المار عابر سبيل، أمَّا هذا؛ فقد زاد؛ لأنَّه مر بين يديه، وزاد عليه الوقوف أو القعود أو الرقود، فهو مَارٌّ حقيقة، وليس العلة كما زعمه، وإنَّما العلة ما قاله النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «فإنَّما هو شيطان»، كما سبق.
وذكر ابن دقيق العيد: أنَّ بعض المالكية قَسَّم أحوال المار والمصلي أربعة أقسام؛ الأول: أن يصلِّي إلى سترة في غير مشرع وللمار مندوحة؛ فيأثم المار دون المصلي، الثاني: أن يصلِّي في مشرع مسلوك بغير سترة أو متباعدًا عن السترة ولا يجد المار مندوحة؛ فيأثم المصلي دون المار، الثالث: أن يصلِّي بغير سترة ويجد المار مندوحة؛ فيأثمان جميعًا، الرابع: أن يصلِّي إلى سترة، لكن لا يجد المار مندوحة؛ فلا يأثمان جميعًا، انتهى.
قلت: ونقل ذلك المحقق ابن أمير حاج الحلبي في «شرحه على المنية»، ثم قال: وقواعدنا لا تأباه، قلت: لكن في الصورة الرابعة ينبغي أن يأثم المار فقط؛ لأنَّه يمكنه
%ص 728%
أن ينتظر المصلي حتى يفرغ من صلاته أو يضع هو له سترة ثم يمر، وقد يقال: إنَّه في أمر مهم يخاف فوته إن انتظر، ولم يجد شيئًا يضعه سترة؛ فحينئذ لا يأثم للحرج، والأعمال بالنيات، والله يعفو عن الزلات، ويثيب على الحسنات، ويغفر السيئات.
==========
[1] في الأصل: (وليس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (فانتقى)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (وليس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (وليس)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/840)
(102) [باب استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلي]
هذا (باب) حكم (استقبال الرجل الرجل) وفي (الفرع) من غير تكرار (وهو يصلِّي)؛ أي: والحال أنَّه يصلِّي، فالواو للحال، والسين والتَّاء للطلب؛ أي: إقبال، وعلى الأولى هو من إضافة المصدر إلى فاعله، و (الرجل) مفعوله، وعلى الثانية من إضافة المصدر إلى مفعوله أو فاعله، وعليهما؛ فجملة: (وهو يصلِّي): محلها نصب على الحال من الفاعل المذكور أو المحذوف لا من المفعول فيهما، وقال الكرماني: يحتمل عود لفظ (هو) إلى الرجل الثاني، فيكون الرجلان متواجهين، وإلى الأول فلا يلزم التواجه، وذلك يتصور في الصلاة عند الكعبة، وللأربعة زيادة: (هل يكره أم لا؟)، وفي نسخة الصغاني: (استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلِّي)، وكذا في أصل الفرع.
وظاهر التَّرجمة يدل على أنَّ الاستقبال مكروه مطلقًا سواء شغل بال المصلي أو لا.
وزعم ابن حجر إلى التفصيل بين ما إذا ألهاه؛ فيكره، أو عدمه؛ فلا يكره، وإلى هذا جنح المصنف، وجمع بين ما ظاهره الاختلاف، انتهى.
قلت: هذا التفصيل لا دليل عليه وليس في التَّرجمة ولا في الآثار وغيرها ما يدل عليه ولا إشارة إليه، وإنما الذي جنح إليه البخاري ودلت ترجمته والآثار عليه؛ هو أنَّ الاستقبال في الصلاة مكروه مطلقًا شغل البال أو لا، ويدل عليه أنَّه يفيد التعظيم له، وهو يشبه الصلاة إليه، فيكون تشبهًا بأهل الكتاب، وهو مكروه؛ فافهم.
وعلل بعض أئمتنا الأعلام الكراهة بأنَّه تشبه بعبادة الصورة، قال القاضي عياض: وهو قول عامة العلماء، وقد روى البزار عن علي رضي الله عنه: (أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلِّي إلى رجل، فأمره بإعادة الصلاة)، قال أئمتنا الأعلام: إنَّما أمره بالإعادة؛ لإزالة الكراهة لا لفساد الصلاة، فما زعمه ابن حجر فاسد الاعتبار؛ فافهم، وسيأتي بقية الكلام عليه.
(وكره) بالتشديد والتخفيف (عثمان) هو ابن عفان، أحد الخلفاء الراشدين، الأموي شهيد الدار، القائم بالأسحار، الذي تستحي منه ملائكة الغفار رضي الله تعالى عنه (أن يُستقبل)؛ بِضَمِّ التحتية مبنيًّا للمفعول (الرجلُ)؛ بالرفع نائب فاعل، وقوله: (وهو يصلِّي): جملة اسمية محلها نصب على الحال من (الرجل)، ويجوز أن يكون قوله: (يَستقبل)؛ بفتح التحتية مبنيًّا للفاعل، و (الرجلُ): فاعله، والمفعول محذوف؛ تقديره: شخصًا آخر، وجملة: (وهو يصلِّي): محلها نصب على الحال من المفعول، وعلى الأول اقتصر الكرماني، وذكر الوجهين إمامنا الشَّارح، وتبعه القسطلاني، والعجلوني، وغيرهما.
ومطابقة هذا الأثر للتَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّه دال على كراهة استقبال الرجل الرجل، وهو يصلِّي.
وزعم ابن حجر: أن هذا الأثر عن عثمان لم أره، وإنما رأيت في «مصنف ابن أبي شيبة» و «مصنف عبد الرزاق» وغيرهما من طريق هلال بن يسار عن عمر بن الخطاب: (أنه زجر عن ذلك)، وفيهما أيضًا عن عثمان ما يدل على عدم كراهته ذلك؛ فليتأمل؛ لاحتمال أن يكون فيما وقع في الأصل تصحيف من (عمر) إلى (عثمان) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (لا يلزم من عدم رؤيته هذا الأثر عن عثمان ألَّا يكون منقولًا عنه، وليس بسديد زعم التصحيف بالاحتمال الناشئ عن غير دليل.
فإن قلت: روايةُ عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن عثمان بخلاف ما ذكره البخاري عنه دليلُ الاحتمال.
قلت: لا نسلم ذلك؛ لاحتمال أن يكون المنقول عنه آخرًا بخلاف ما نُقِل عنه أولًا؛ لقيام الدليل عنده بذلك) انتهى كلامه.
وقد نقل العجلوني عبارة إمامنا الشَّارح هنا باختصار مخل، ثم قال: ولو اعترض قوله: (لاحتمال أن ما وقع هنا تصحيف)؛ لكان أقوى مع أن الشَّارح قد اعترض قوله ذلك كما علمت، وإنما أوقع العجلوني اختصاره المخل؛ فافهم؛ يعني: أنَّ دعوى التصحيف لا دليل عليها، ولا ينبغي التكلم بها؛ لما يلزم منها سوء الأدب مع الرواة، ووقوع الخلل في كلامهم وروايتهم، وهو قول صادر من غير تأمل؛ فاجتنبه.
وقوله: (وهذا) كذا في رواية أبوي ذر والوقت، والأصيلي، ولغيرهم: (وإنَّما هذا)؛ أي: الذي كرهه عثمان رضي الله عنه (إذا اشتغل)؛ أي: المستقبل المصلي (به)؛ أي: بالرجل الآخر مطلقًا سواء كان مصليًا أو لا، فلا وجه لما زعمه العجلوني من التقييد بالمصلي؛ لأنَّ المصلي لا يشتغل بالمصلي، كما لا يخفى، وذلك عن الخشوع، وحضور القلب، ونحوهما من آداب الصلاة، (فأمَّا إذا لم يشتغل به)؛ أي: فلا بأس، فالجواب محذوف؛ لدلالة ما بعده عليه.
قال الشَّارح: (هو من كلام البخاري يشير به إلى التفصيل؛ وهو أن استقبال الرجل الرجل في الصلاة إنَّما يكره إذا اشتغل المستقبل المصلي؛ لأنَّ علة الكراهة هي كف المصلي عن الخشوع وحضور القلب، وأمَّا إذا لم يشغله؛ فلا بأس به) انتهى.
قلت: والغالب أن المستقبل المصلي يشتغل بالرجل الآخر الذي أمامه، وسواء كان مصليًا أو لا، ومن غير الغالب قد لا يشتغل، لكنه نادر، وهو لا حكم له، فبقيت الكراهة؛ فليحفظ.
واستدل البخاري لما ذكره بقوله: (فقد قال زيد بن ثابت) هوالأنصاري النجاري الفرضي، كاتب وحي النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (ما باليت)؛ أي: ما أكترث [1] بالاستقبال المذكور، يقال: لا أباليه؛ أي: لا أكترث له، وقوله: (إنَّ) بكسر الهمزة (الرجل لا يقطع صلاة الرجل): استئناف ذكر لتعليل عدم المبالاة.
وأقول: ما ذكره البخاري من أثر زيد بن ثابت لا ينهض دليلًا لما قاله؛ لأنَّ المراد بالقطع: الفساد لا الكراهة، ويدل عليه أنهم استعملوا القطع بمعنى الفساد في الأحاديث والآثار؛ فقد روى عبد الرزاق عن الحَكَم بن عمرو الغفاري الصَّحابي: (أنَّه صلى بأصحابه في سفر وبين يديه سترة، فمرت حَميرٌ بين يدي أصحابه، فأعاد لهم الصلاة، ثم قال لهم: لم تقطع صلاتي، ولكن قطعت صلاتكم)، وروى مسلم في «صحيحه» عن أبي ذر: (أن مرور الحمار يقطع الصلاة)، وفي حديث أبي داود: (أن الحمار والغلام يقطعان الصلاة)، فهذا يدل على أنَّ المراد بالقطع: الفساد لا الكراهة؛ لأنَّ الحَكَم قد أعاد الصلاة بأصحابه وعبَّر بالقطع، كما لا يخفى.
على أنَّه روى أبو نعيم في كتاب «الصلاة»: حدثنا مسعر قال: أراني أول من سمعه من القاسم قال: (ضرب عمر رضي الله عنه رجلين؛ أحدهما مستقبل، والآخر يصلِّي)، ثم روى عن سعيد بن جبير: (أنه كره أن يصلِّي وبين يديه مخنث محدث)، وقد ذكرنا عن عمر: أنه زجر عن ذلك، كما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة، ولا يخفى أن الضرب والزجر لا يكون إلا لأمر مكروه تحريمًا، وقدمنا عن البزار عن علي: (أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلِّي إلى رجل، فأمره بإعادة الصلاة)، وإنما أمره بذلك لإزالة الكراهة؛ لأنَّ كل صلاة أُديت مع الكراهة يطلب إعادتها، كما نص عليه أئمتنا الأعلام رضي الله عنهم أجمعين.
وكره ابن مسعود رضي الله عنه الصلاة خلف المتحدثين، وقال نافع: (كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلًا إلى سارية المسجد؛ قال لي: ولِّ ظهرك)، وهو قول مالك، وقال ابن سيرين: لا يكون الرجل سترة للمصلي، وكان ابن عمر لا يستقبل من يتكلم إلا بعد الجمعة.
والإمام الأعظم
%ص 729%
وأصحابه والجمهور على كراهة استقباله بوجهه، وقال في «الدر المختار»: (وتكره صلاته إلى وجه إنسان ككراهة استقباله، فالاستقبال لو من المصلي؛ فالكراهة عليه، وإلا؛ فعلى المستقبل، ولو كان بعيدًا ولا حائل) انتهى.
وفي «الذخيرة» قال محمَّد: (وإن شاء الإمام استقبل الناس بوجهه إذا لم يكن بحذائه رجل يصلِّي، ولم يفصِّل بين ما إذا كان المصلي في الصف الأول أو الأخير، وهذا ظاهر المذهب) انتهى.
وأجاز الثَّوري والأوزاعي الصلاة خلف المتحدثين، وقال الحسن وقتادة: يستره إذا كان جالسًا، وعن الحسن: يستره، ولم يشترط الجلوس ولا تولية الظَّهر، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (أكثرت)، وهو تصحيف، وكذا في الموضع اللاحق.
==================
(1/841)
[حديث: قد جعلتمونا كلابًا؟! لقد رأيت النبي يصلي وإني لبينه وبين]
511# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسماعيل بن خليل) هو أبو عبد الله الخزاز _بمعجمات_ الكوفي (قال: حدثنا) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: (أخبرنا) (علي بن مُسهِر) بِضَمِّ الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء: الكوفي، كلاهما قد ذُكرا في باب (مباشرة الحائض) (عن الأعمش) هو سليمان بن مهران الكوفي، وسمي بذلك؛ لعمش كان في عينيه (عن مسلم) بِضَمِّ الميم، وكسر اللَّام المخففة، كذا لأبي ذر وابن عساكر، وعند غيرهما: (يعني: ابن صُبيح) بالتصغير.
وزعم الكرماني: أنَّه مسلم البطين، وردَّه الشَّارحفقال: (الظَّاهر أنَّه مسلم بن صبيح أبو الضُّحى) انتهى.
قلت: ويدل لما قاله رواية أبي الوقت والأصيلي، فإنَّها صرحت بأنه ابن صبيح؛ فافهم.
(عن مسروق) هو ابن الأجدع الكوفي، وسمي مسروقًا؛ لأنَّه سرقه سارق في صغره (عن عائشة) هي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أنَّه) بفتح الهمزة؛ أي: الشأن (ذُكر) بِضَمِّ أوله؛ مبني للمجهول (عندها) أي: ذكر بعض الصَّحابة بحضرة عائشة (ما يقطع الصلاة)؛ أي: المار الذي يقطعها، وكلمة (ما) موصولة، أو نكرة موصوفة، ومحلها رفع نائب الفاعل، والجملة حال أو صفة، (فقالوا) أي: الذاكرون، ولأبي ذر: (قالوا): (يقطعها) أي: الصلاة (الكلب والحمار والمرأة)؛ أي: مرورها بين يدي المصلي، ولم يذكر إمام الشَّارحين ولا غيره أسماء الذين ذكروا ذلك عندها، والظَّاهر أنهم: أبو هريرة وعروة وأبو ذر، يدل عليه أنَّه روى مسلم من رواية عروة: (قالت عائشة: ما يقطع الصلاة؟ قال: قلت: المرأة والحمار ... )؛ الحديث، وفي «مصنف ابن عبد البر» من رواية القاسم قال: (بلغ عائشة أنَّ أبا هريرة يقول: إنَّ المرأة تقطع الصلاة)، وروى مسلم من حديث أبي ذر: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ... )؛ الحديث، فهذا يدل على [ما] قلناه؛ فافهم.
(قالت)؛ أي: عائشة، ولأبوي ذر والوقت: (فقالت)؛ أي: عائشة لهم: (قد جعلتمونا كلابًا؟!)؛ أي: كالكلاب في حكم قطع الصلاة بمرورنا بين يدي المصلي، وظاهر كلام السيدة عائشة يفيد أنَّها تقول: بأنَّ الكلب والحمار يقطعان الصلاة، وإنَّما أنكرت عليهم تسويتهم المرأة بهما مع شرفها وخسَّتهما، وهذا الحديث تقدم في باب (الصلاة على السرير) وفيه قالت لهم: (أعدلتمونا بالكلب والحمار؟!)، وهذا من التشبيه البليغ، (لقد رأيت) أي: أبصرت (النَّبي) الأعظم وللأصيلي: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) وجملة (يصلِّي): محلها نصب مفعول ثان، والظَّاهر أنها النافلة؛ للقرينة الحالية والمقالية [الدَّالة] على ذلك (وإني لبينه) بكسر الهمزة؛ أي: بين النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (وبين القبلة) والجملة محلها نصب على الحال، وقوله: (وأنا مضطجعة) جملة حالية (على السرير) جمعه [1] أسرَّة وسُرُر: بِضَمِّ الرَّاء، وقيل بفتحها؛ وهو التخت المعروف المتخذ في زمان النَّبي الأعظم وأصحابه صلى الله عليه وعليهم وسلم من الخوص، وفي زماننا من الخشب والدف والحديد، كما لا يخفى، (فتكون لي الحاجة)؛ أي: فتعرض لي حاجة الإنسان، ويحتمل الأعم منها، (فأكرَه) بالفاء رواية الكشميهني، وفي رواية الأكثرين: (وأكره) بالواو العاطفة، أوالحالية، كذا ذكر الروايتين هكذا إمام الشَّارحين، وعكس في ذلك العجلوني فجعل الواو رواية الكشميهني، والفاء للأكثرين، وهو غير مصيب؛ فافهم، (أن أستقبله)؛ أي: لا أحب استقباله وهو في الصلاة (فأنسَلُّ انسلالًا) بقطع الهمزة وفتح السين المهملة، وتشديد اللَّام على صيغة المتكلم من المضارع، وهو عطف على قوله (فأكره)؛ أي: أخرج بخفية أو برفق.
(وعن الأعمش) هو سليمان، وهذا معطوف على الإسناد الذي قبله، فهو موصول كما في «عمدة القاري» و «الفتح»، وليس هو معلق كما زعمه الكرماني، (عن إبراهيم) هو النخعي، (عن الأسود) هو ابن يزيد النخعي أيضًا، (عن عائشة) قال الشَّارح: ونبَّه به على أنَّ ابن مسهر قد روى هذا الحديث عن الأعمش بإسنادين إلى عائشة؛ أحدهما: عن مسلم، عن مسروق، عنها باللَّفظ المذكور، والآخر: عن إبراهيم، عن الأسود، عنها بالمعنى، وأشار إليه بقوله: (نحوَه) بالنصب مفعول (أخبرنا).
فإن قلت: لفظ (نحو) يقتضي المماثلة بينهما من كل الوجوه، وليس ههنا كذلك.
قلت: لا نسلم أنَّه كذلك، بل يقتضي لفظ (نحو) المشاركة في أصل المعنى المقصود فقط، وعلى هذا يحمل لفظ: (مثل) الواقع في بعض النُّسخ على لفظ: (نحو)؛ فليحفظ.
واعلم أنَّ مطابقة الحديث للتَّرجمة مختلف فيها، والصَّواب ما ذكره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري»: أنَّ عائشة رضي الله عنها كانت مضطجعة على السرير، وكانت بين النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبين القبلة فيكون استقبال الرجل المرأة في الصلاة، ولم تكن تشغله عليه السَّلام، فدل على عدم الكراهة، ولا يقال: التَّرجمة في استقبال الرجل الرجل، وفيما ذكر استقبال الرجل المرأة؛ لأنَّا نقول: حكم الرجال والنساء واحد في الأحكام الشرعيةإلا ما خصه الدليل، وقد ذكرنا أن التَّرجمة رويت على ثلاثة أوجه، وهذا الوجه الواحد، وأما الأخريين؛ فالتطابق فيهما ظاهر، انتهى.
وزعم ابن المُنَيِّر لا مطابقة بين حديث [2] عائشة والتَّرجمة، لكنه يدل على المقصود بالأولى وإن لم يكن فيه تصريح بأنها كانت مستقبلة، فلعلها كانت منحرفة أو مستديرة، انتهى.
قلت: المطابقة بينهما ظاهرة، ولم يذكر وجه الأولوية، وعائشة كانت مستقبلة؛ لأنَّ قولها: (وإني لبينه وبين القبلة وأنا مضطجعة) يدل عليه، كما لا يخفى.
وزعم ابن رشيد: (غرض البخاري أن شُغْل المصلي بالمرأة في قبلته على أي حال كان أشد من شغله بالرجل، ومع ذلك فلم تضر صلاته عليه السلام؛ لأنَّه غير مشتغل بها، فكذلك لا تضر صلاة من لم يشتغل بها، فالرجل من باب أولى) انتهى.
قلت: وفيه أن هذا يدل على الكراهة؛ لأنَّ المرأة إذا كانت في قبلة المصلي ومثلها الرجل؛ فيخشى اشتغال المصلي بالنَّظر إليها عن صلاته، ولا يقدر أحد ما كان يقدر عليه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم من حفظ النَّظر والخاطر، وذكر نحوه الكرماني.
والحاصل: أن المطابقة فيه ظاهرة على الوجه الذي ذكرناه عن إمامنا في «عمدة القاري»، والله الهادي.
==========
[1] في الأصل: (جمع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الحديث)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 730%
==================
[1] في الأصل: (جمع)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (جمع)، وليس بصحيح.
(1/842)
(103) [باب الصلاة خلف النائم]
هذا (باب) حكم (الصلاة) فرضها، وواجبها، ونفلها (خلف) الشخص (النائم) هل يكره أم لا؟ وتقدير الحكم أولى من تقدير الجواز؛ لأنَّه أعم؛ فافهم.
ويجوز تنوين (باب) ويكون (الصلاة) مبتدأ والخبر محذوف؛ تقديره [1]: جائزة، والمراد بالشخص: الرجل والمرأة والصبي والصبية، فهو أعم.
==========
[1] في الأصل: (تقدير).
%ص 730%
==================
(1/843)
[حديث: كان النبي يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه]
512# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُسدد) بِضَمِّ الميم: هو ابن مُسرهد البصري (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان (قال: حدثنا هشام)؛
%ص 730%
بكسر الهاء: هو ابن عروة (قال: حدثني) بالإفراد (أبي) هو عروة بن الزُّبير بن العوام (عن) خالته (عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما، زوج النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، (قالت: كان النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) هذا التركيب وأمثاله يفيد الدوام والاستمرار؛ لوجود لفظة (كان) فإنَّها لإفادة ذلك؛ فافهم، (يصلِّي)؛ أي: صلاته من الليل، وقوله: (وأنا راقدة)؛ أي: نائمة، جملة حالية، وقوله: (معترضة): صفة لـ (راقدة)، أو خبر بعد خبر، وقوله: (على فراشه): متعلق بـ (راقدة) أو بـ (معترضة) والأظهر: الأول، وهل اعتراضها كان بين النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وبين القبلة، أو كانت منحرفة عنه؟ والظَّاهر: الأول؛ لما سبق من حديثها: أنها كانت تعترض بينه وبين القبلة، ولأن البيوت كانت وقتئذ ضيقة لا تسع غير الفراش أو الفراشين؛ فتأمل، (فإذا أراد أن يوتر)؛ أي: فإذا فرغ من صلاته النافلة وأراد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يصلِّي الوتر الواجب في آخر الليل؛ (أيقظني) من الإيقاظ؛ أي: نبهني من النَّوم؛ لأجل أن أصلي معه (فأوترتُ معه)؛ بتاء المتكلمة لا الغائبة؛ أي: صلَّيت معه الوتر، ففيه: استحباب تأخير الوتر إلى آخر الليل لمن يثق بالانتباه، وفيه: أن صلاة الوتر إمامًا في غير رمضان إذا كانت على سبيل التداعي؛ غير مكروهة، وهذا مذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وأصحابه، والجمهور.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة، لا يقال: إن التَّرجمة خلف النائم، والحديث خلف [1] النائمة؛ لأنَّا نقول: حكم الرجال والنساء واحد في الأحكام الشرعية إلا ما خصَّه الدليل، على أنَّه إذا جاز خلف النائمة؛ فخلف النائم بالطريق الأولى، وأراد بـ (النائم): الشخص النائم ذكرًا كان أو أنثى، ففي الحديث: دليل على أنَّ الصلاة خلف النائمين جائزة بلا كراهة عندنا.
وقال ابن بطال: الصلاة خلف النائم جائزة إلا أن طائفة كرهتها؛ خوف ما يحدث من النائم فيشتغل المصلي به أو يضحكه؛ فتفسد صلاته، وقال مالك: لا يصلِّي إلى نائم إلا أن يكون دونه سترة، وهو قول طاووس، وقال مجاهد: أصلي وراء قاعد أحب إلي من أن أصلي وراء نائم، انتهى.
قلت: وما قالت به الطَّائفة من الكراهة وتعليلهم بالخوف؛ أمر موهوم غير محقق، والأحكام لا تبنى على الوهم، وما قاله مالك؛ فيه نظر؛ لأنَّه ليس للسترة فائدة، فإن مشروعية السترة درء المارين، ولا نعهد نائمًا يمشي، فإن كان مراده بنفي الصلاة إلى النائم: الكراهة وبوجود السترة تنتفي الكراهة؛ فلا وجه له؛ لأنَّ علة الكراهة: ظهور شيء يشغل المصلي أو يضحكه، وإن كان مراده أنه لا بدَّ من السترة؛ فهي لا تفيد شيئًا، وليست مشروعة، كما لا يخفى.
وروى أبو داود عن ابن عبَّاس: أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث»، وأخرجه ابن ماجه أيضًا، وروى البزار عن ابن عبَّاس أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: «نهيت أن أصلي إلى النيام والمتحدثين»، وروى ابن عدي عن ابن عمر نحوه، وروى الطَّبراني عن أبي هريرة نحوه.
وأجاب الإمام البخاري وأشار بهذه التَّرجمة إلى ضعف هذه الأحاديث، ولهذا قال أبو داود: طرق حديث ابن عبَّاس كلها واهية، كما في «عمدة القاري».
وقال الخطابي: حديث ابن عبَّاس لا يصحُّ؛ لضعف سنده، قال إمام الشَّارحين في «عمدة القاري»: وفي سند أبي داود رجل مجهول، وفيه عبد الله بن يعقوب لم يسمِّ مَنْ حدَّثه، وفي سند ابن ماجه أبو المقدام هشام بن زياد البصري لا يحتج بحديثه، وحديث أبي هريرة وابن عمر واهيان أيضًا، وروى البزار عن محمَّد ابن الحنفية عن أبيه علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلِّي إلى رجل، فأمره أن يعيد الصلاة، قال: يا رسول الله؛ إني صليت وأنت تنظر إلي)، قال: هذا حديث لا نحفظه إلا بهذا الإسناد، وكأنَّ هذا المصلي كان مستقبل الرجل بوجهه؛ فلم يتنح عن حياله.
وروى أبو بكر ابن أبي شيبة عن مجاهد: (أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلَّى خلف النُّوام والمتحدثين)، وفي سنده عبد الكريم بن أمية؛ وهو متروك الحديث، انتهى.
والحاصل: أن هذه الأحاديث ضعيفة لا يحتج بها، لا يقال: إنها تتقوى بتعدد طرقها واختلاف أسانيدها؛ لأنَّا نقول: إن تقوت؛ فهي محمولة على ما إذا كان للمتحدثين أصوات يخاف منها التغليط أو الشغل للمصلي، وعلى ما إذا [2] كان للنائمين شيء يظهر فيضحك المصلي فيفسد صلاته، وفي الحديث: استحباب إيقاظ النائم للطاعة، وفيه: أن الوتر يكون بعد النَّوم، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (خالف)، ولعله تحريف.
(1/844)
(104) [باب التطوع خلف المرأة]
هذا (باب) حكم صلاة (التطوع)؛ أي: النافلة، ومثلها الفريضة والواجبة (خلف المرأة) ومثله خلف الرجل بالأولى، هل هو جائز مع الكراهة أو بدونها؟ ويجوز التنوين في لفظة: (باب) فـ (التطوع): مبتدأ، والظرف خبره متعلق بخاص؛ نحو: جائز؛ للقرينة على ذلك، وما قدرناه هو ما ارتضاه إمامنا الشَّارح في «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني، وهو أولى مما زعمه العجلوني؛ لأنَّه قاصر، وفيه ركاكة مع خفاء المعنى المراد منه؛ فافهم.
==================
(1/845)
[حديث: قالت كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته]
513# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المنزل [1] الدمشقي المولد (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن أبي النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون المعجمة: هو سالم المدني (مولى عمر بن عبيد الله)؛ بالتصغير: هو التيمي المدني، (عن أبي سَلَمَة)؛ بفتحات: هو عبد الله (بن عبد الرحمن) هو ابن عوف رضي الله عنه، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (زوجِ النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ورضي الله عنهما، وهو بالجر صفة لـ (عائشة) (أنها قالت: كنت أنام) أي: في حجرتي (بين يدي) بالتثنية (رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو في حجرتها يصلي التهجد ليلًا (ورجلاي) بصيغة التثنية (في قبلته) جملة اسمية وقعت حالًا؛ أي: في مكان سجوده، (فإذا سجد)؛ أي: فإذا أراد عليه السَّلام السُّجود؛ (غمزني): من الغمز باليد أو ضربني بيده من غير حائل، كما هو الأصل، وفي «الصِّحاح»: غمزت الشيء باليد وغمزته بعيني، قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30]، وفي «القاموس»: غمزه بيده: شِبْهُ لهزه، شِبْهُ نخسه، وبالعين والجفن والحاجب: أشار، انتهى، فالمراد ههنا: الغمز باليد، قال الكرماني: فالغمز قبل السُّجود لا فيه؛ لأنَّ (إذا) للاستقبال، انتهى.
وروى أبو داود من حديث أبي سلمة عن عائشة أنها قالت: (كنت أكون نائمة ورجلاي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل، فإذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجلي، فقبضتها، فسجد)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذه الرواية أصرح في المقصود؛ لأنَّها بيَّنت أن المراد بالغمز: الضرب باليد، وهو الموافق لما في كتب اللُّغة؛ فليحفظ.
وزعم القسطلاني عند قوله: (غمزني بيده)؛ أي: مع حائل، انتهى.
قلت: وهذا تفسير من عنده، ذكره ترويجًا لما ذهب إليه الشَّافعي: من أن المسَّ باليد مبطل للوضوء، والحق الصَّواب: أن هذا فاسد الاعتبار؛ لأنَّ قولها: (غمزني)؛ أي: بيده بدون حائل فإنَّه الأصل، ولو كان ثمة حائل؛ لصرَّحت به، على أنَّه _الرِّجْل واليد عند أهل التحقيق_ كانتا بغير حائل، بل كان ذلك بالمسِّ؛ البشرة على البشرة، ويدل لذلك رواية أبي داود فإنَّها مصرحة
%ص 731%
بذلك؛ حيث قالت: (ضرب رجلي)، ومن المعلوم أن الضرب لا يكون بحائل، بل بدونه، كما لا يخفى، فبهذا ظهر أن الصَّواب: ما عليه الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور: أن مس المرأة غير ناقض للوضوء؛ فليحفظ.
(فقبضت رجلَيَّ)؛ بفتح اللَّام، وتشديد التحتية، بصيغة التثنية؛ أي: ضممتهما عن مكان سجوده عليه السَّلام، يعني: أخَّرتهما عنه؛ ليسجد مكانهما، (فإذا قام) عليه السَّلام؛ أي: من السُّجود؛ (بسطهما)؛ بضمير التثنية؛ أي: رددتهما إلى مكانهما، (والبيوت): مبتدأ، جمع بيت؛ وهو اسم للمكان الذي يبات فيه ليلًا (يومئذ) معناه: وقتئذ؛ أي: وقت إذ كان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حيًّا.
وقوله: (ليس فيها) أي: البيوت (مصابيح): خبر المبتدأ، والجملة حالية أو مستأنفة، والمصابيح: جمع مصباح، قال إمام الشَّارحين: وإنما فسرنا قوله: (يومئذ) هكذا؛ لأنَّ المصابيح من وظائف الليل؛ فلا يمكن إجراء اليوم على حقيقة [2] معناه، وقد يذكر اليوم ويراد به الوقت، كما في قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16]، وهذا اعتذار من عائشة عن نومها على هذه الهيئة، والمعنى: لو كانت المصابيح موجودة؛ لقبضت رجلي عند إرادته السُّجود، ولما احتجت إلى غمزي بيده، انتهى.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّه قد علم من عادة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن صلاته للفرائض والواجبات كانت في المسجد بالجماعة، فتكون صلاته في بيته ليلًا نافلة تطوعًا.
وفي الحديث: دليل على أنَّ الصلاة خلف النائم ذكرًا كان أو أنثى جائزة من غير كراهة، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور.
وزعم ابن حجر: وفيه: إشارة إلى عدم الاشتغال بها فمَنْ أَمِنَ ذلك؛ لم يكن في حقه، انتهى.
قلت: وفيه بعدٌ؛ فإن المؤلف ليس مراده الاشتغال وعدمه بترجمته، وإنما مراده حكم صلاة التطوع خلف المرأة، وقد بين في الباب قبله حكم الصلاة خلف النائم، على أنَّه ليس في ذلك اشتغال أصلًا؛ لأنَّ البيوت لم يكن فيها مصابيح، وإن كان _كما في زماننا_؛ فإن المصلي يحبس نظره وخاطره في موضع سجوده، ولهذا لم تضر صلاته عليه السَّلام؛ فليحفظ.
وقال الكرماني: فإن قلت: لفظ التَّرجمة يقتضي أن يكون ظهر المرأة إلى المصلي؛ فما وجه دلالة الحديث عليه؟! قلت: لا نسلِّم ذلك الاقتضاء، ولئن سلَّمنا؛ فالسنة للنائم التوجه إلى القبلة، والغالب من حال عائشة أنها لا تتركها، انتهى.
واعترضه ابن حجر فقال: ولا يخفى تكلُّفه، وسنة ذلك للنائم في ابتداء النَّوم لا في دوامه؛ لأنَّه قد ينقلب وهو لا يشعر، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه وليس فيه تكلف؛ لأنَّ غمزه عليه السَّلام لعائشة إنَّما كان في ابتداء نومها، وهي لا تترك النَّوم على القِبْلة، ويدلُّ عليه أنها كانت راقدة لمَّا غمزها؛ قَبضَت رجليها، فلو كانت مستغرقة في النَّوم؛ لم تشعر بذلك؛ لأنَّ النائم لا يدرك شيئًا سواء كان في البيت مصابيح أو لم يكن؛ فافهم.
ثم زعم ابن حجر: والذي يظهر أن معنى: (خلف المرأة): وراءها، فتكون هي نفسها أمام المصلي لا خصوص ظهرها، ولو أراده؛ لقال: خلف ظهر المرأة، والأصلعدم التقدير، انتهى.
قلت: واعترضه العجلوني فقال: الذي استظهره أشار إليه الكرماني أولًا، ولا يخفى ما في قوله: ولا يخفى تكلفه ... إلخ؛ فتدبر، انتهى.
قلت: لقد أنصف العجلوني هنا، والعجب من الشَّارح المحقق حيث لم يتعرَّض إليه ولا عجب، فإن ما زعمه ابن حجر لا يقوله من شمَّ أدنى رائحة في العلم من تناقضه وركاكته، فلذا لم يعرِّج عليه، وعلى كل حال فما زعمه هذا القائل هو قد أخذه من كلام الكرماني، بل هو عينه، لكن قد غير عبارته بعبارة ركيكة، فلا حاجة إلى شغل الفكر لبيان ردها، كما لا يخفى؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أن هذه الحالة غير الحالة التي تقدمت في صلاته عليه السَّلام إلى السرير التي كانت عليه؛ لأنَّه في تلك الحالة غير محتاج لأن يسجد مكان رجليها، وهو أولى من حمله على حالة واحدة، كما جنح إليه الإسماعيلي فيما سبق بأن يقال: كانت صلاته فوق السرير لا أسفل منه، انتهى.
قلت: وهذا بعيد جدًّا، فإن هذه الحالة هي عين الحالة التي تقدمت في صلاته إلى السرير؛ لأنَّ قولها هناك: فيجيء النَّبي صلى الله عليه وسلم فيتوسط السرير؛ معناه: يجعل نفسه في وسط السرير، كما يدل عليه اللَّفظ، وفي هذه الحالة يحتمل أنها كانت تقبض رجليها حتى يسجد مكانهما، ويحتمل أن السرير واسع لا يحتاج فيه إلى ذلك، والحمل على الحالة الواحدة هو الصَّواب لما ذكرناه، وما زعمه من الأولوية مردود؛ لعدم ما يدل عليها من شيء، والإسماعيلي أدرى بالمراد من الحديث، فجعله صلاته فوق السرير لا أسفل منه هو الصَّواب، كما لا يخفى؛ فافهم.
وفي الحديث: جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته، وفيه: أن العمل في الصلاة غير قادح إذا كان يسيرًا، وهو مفوَّض إلى رأي المصلي، أو ما يعده الناظر يسيرًا، أو ما كان دون ثلاث حركات، وفيه: جواز الصلاة إلى النائم، وفيه أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء، وهذا الحديث مع بقية مباحثه قد تقدم في باب (الصلاة على الفراش)، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حقيقته)، ولعله تحريف.
==================
[1] في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.
(1/846)
(105) [باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء]
هذا (باب) بيان قول: (من قال لا يقطع) أي: لا يفسد (الصلاة شيء)؛ أي: من غير فعل المصلي أو من مرور الكلب، والمرأة، والحمار، وغيرها، وأشار المؤلف بهذه التَّرجمة إلى الردِّ على من يقول: يقطع الصلاة مرور هذه الثلاثة، وإنما لم يخصها بالترجمة، بل عمَّم؛ ليشملها وغيرها، والمراد بالقطع: الفساد والبطلان، وهذه التَّرجمة لفظ حديث أخرجه الدارقطني عن سالم مرفوعًا، ورواه أبو داود عن أبي سعيد مرفوعًا، ورواه الدارقطني عن أنس وأبي أمامة، ورواه الطَّبراني عن جابر مرفوعًا، ورواه سعيد بن منصور عن علي وعثمان موقوفًا.
فإن قلت: إذا كانت التَّرجمة لفظ حديث مرفوع؛ كان عليه أن يترجم بغيره ويذكر الحديث على عادته.
قلت: الحديث المذكور ليس على شرطه، على أنَّه قد نصَّ الحُفَّاظ على ضعف أسانيده، لكن ما رواه سعيد بن منصور إسناده صحيح، لكنه موقوف، فإذا كان الأمر كما ذكرنا؛ اختار الإمام البخاري أن يجعل الحديث ترجمة لِبابٍ مستقل؛ فافهم.
==========
%ص 732%
==================
(1/847)
[حديث: شبهتمونا بالحمر والكلاب والله لقد رأيت النبي]
514# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عُمر بن حفص)؛ بِضَمِّ العين، زاد أبو ذر: (ابن غياث) (قال: حدثنا أبي) هو حفص بن غياث، (قال: حدثنا الأعمش) هو سليمان بن مهران الكوفي، (قال: حدثنا إبراهيم)، ولابن عساكر: (عن إبراهيم) هو النخعي، (عن الأسود) هوابن يزيد النخعي، وهو خال إبراهيم، (عن عائشة): هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما.
(وقال الأعمش)؛ بالواو العاطفة على الإسناد السَّابق، فهو موصول مقول حفص، وتردَّد الكرماني فقال: هذا إما تعليق وإما داخل تحت الإسناد الأول سواء كان بكلمة (ح) مهملة كما في بعض النُّسخ أو لم يكن، انتهى، لكن جزم الشراح بأنه موصول داخل تحت الإسناد الأول، وظاهر اللَّفظ يدل عليه، فلا وجه لتردُّده؛ فافهم، (حدثني)؛ بالإفراد، وهذا تحويل من سند إلى سند آخر سواء كان بكلمة (ح) مهملة كما في بعض النُّسخ أو لم يكن، (مسلم) هو أبو الضُّحى ابن صبيح، (عن مسروق) هو ابن الأجدع، (عن عائشة): هي الصديقة بنت الصديق
%ص 732%
الأكبر رضي الله عنهما، (قال)؛ أي: إن مسروقًا قال: (ذُكِر)؛ بِضَمِّ الذَّال مبني للمفعول (عندها) أي: بحضرة عائشة (ما يقطع) أي: يبطل (الصلاة)، وكلمة (ما) موصولة، ويجوز فيها وجهان؛ أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبره قوله: (الكلب) والجملة محلها النصب مفعول ما لم يسم فاعله؛ وهو (ذُكِر) على صيغة المجهول، وثانيهما: أن يكون (ما) مفعول ما لم يسم فاعله، ويكون قوله: (الكلب) بدلًا منه، أفاده الشَّارح، (الكلبُ)؛ بالرفع، كما ذكرنا، ويجوز أن يكون (الكلب) فاعلًا لفعل محذوف، يدل عليه رواية علي بن مسهر: (ذكر عندها ما يقطع الصلاة فقالوا: يقطعها الكلب) (والحمار والمرأة)؛ بالرفع فيهما، وزعم العجلوني أنه يجوز نصب (الكلب) وما بعده مفعول لمحذوف نحو: فذكروا الكلب، وقد صرح بهذا الفعل في بعض الأصول الصَّحيحة، انتهى.
قلت: الروايات الصَّحيحة كما ذكرنا، وما زعمه إن ساعدته الرواية؛ فله وجه، وكون الفعل مصرَّحًا به؛ الله أعلم به؛ لأنا لم نر أحدًا من الشراح قد ذكر هذا؛ فتدبر، والذاكرون عندها هم ابن أختها عروة، وأبو هريرة، وأبو ذر، وابن عبَّاس رضي الله عنهم؛ لما في «مسلم» من طريق عروة: (قالت عائشة: ما يقطع الصلاة؟ قال: قلت: المرأة والحمار ... )؛ الحديث، وفي «ابن عبد البر» من رواية القاسم قال: بلغ عائشة أن أبا هريرة يقول: إن المرأة تقطع الصلاة، وحديث أبي ذر عند مسلم، وحديث ابن عبَّاس عند ابن ماجه؛ فليحفظ.
(قالت) أي: عائشة رضي الله عنها: (شبهتمونا بالحمير والكلاب؟!)؛ بالجمع فيهما، ورواه مسلم عنها بلفظ: (قالت: عدلتمونا بالكلاب والحمير؟!)، وهما بمعنًى، وتقدم من طريق علي بن مسهر بلفظ: (جعلتمونا كلابًا؟!) وهو تشبيه بليغ، وخطابها إنَّما كان لابن أختها عروة، ولأبي هريرة، ولأبي ذر، وابن عبَّاسرضي الله عنه، كما دلت عليه الروايات السَّابقة.
قال ابن مالك: في هذا دليل على جواز تعدي المشبه به بالباء، والمشهور تعدية مشبه إلى مشبه ومشبه به بدون باء، كقول امرئ القيس:
فشبهتهم في الآل لما تكمشوا ... حدائق دوم أو سفينًا مُقيرًا
وقد كان بعض المعجبين يخطِّئ سيبويه وغيره في قولهم: شبه كذا بكذا، وليس زعمه صحيحًا، بل سقوط الباء وثبوتها جائزان، وسقوطها أشهر في كلام القدماء، وثبوتها لازم في عرف العلماء المتأخرين، انتهى.
وأخرج الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي هذا الحديث من سبع طرق صحاح، وروى مسلم، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي؛ فإنَّه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل؛ فإنَّه يقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود» قلت: يا أبا ذر؛ ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر ومن الكلب الأصفر؟ قال: يا بن أخي؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: «الكلب الأسود شيطان»، وأخرجه الأربعة أيضًا مختصرًا ومطولًا، وقيَّد الكلب في روايته بالأسود.
وروى ابن ماجه من حديث ابن عبَّاس عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: «يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض»، وقيَّد المرأة بالحائض في روايته، فهذا يدل على أنَّ الكلب الأسود والمرأة الحائض والحمار يقطع الصلاة، وهو مروي عن أنس، ومكحول، وأبي الأحوص، والحسن، وعكرمة، وعن عكرمة: (يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والخنزير، والمرأة، واليهودي، والنصراني، والمجوسي)، وعن عطاء: (لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود والمرأة الحائض)، وقال أحمد ابن حنبل: (يقطع الصلاة الكلب الأسود والبهيم)، وعنه: (يقطعها أيضًا الحمار والمرأة)، وقال الظَّاهرية: يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والمرأة؛ للحديث المذكور.
وقال الأئمة الحنفية وتبعهم المالكية والشَّافعية: إنَّه لا يقطع الصلاة الكلب الأسود، ولا الحمار، ولا المرأة ولو حائضًا؛ لما رواه البخاري عن ابن عباس قال: (أقبلتُ راكبًا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الحُلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس يمضي إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف؛ فلم ينكر ذلك عليَّ أحد)، وأخرج أيضًا عن عون بن أبي جحيفة قال: (سمعت أبي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء _وبين يديه عنزة_ الظُّهر ركعتين والعصر ركعتين يمر بين يديه المرأة والحمار)، وكذلك حديثي الباب، وأخرج أبو داود عن الفضل بن عبَّاس قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية ومعه ابن عبَّاس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه فما بال ذلك؟)، وأخرجه النسائي أيضًا، وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم؛ فإنما هو شيطان»، وروى الدارقطني عن ابن عمر مثله، وأبي أمامة وأنس نحوه، وروى الطَّبراني في «الأوسط» عن جابر نحوه.
فإن قلت: حديث أبي سعيد، وابن عمر، وأبي أمامة، وأنس رضي الله عنهم زعم ابن الجوزي أنَّه لا يصح منها شيء، وزعم ابن حبان أنه لا يحل الاحتجاج بها.
قلت: نصَّ الحفاظ وغيرهم أنَّه لا عبرة بوضع ابن الجوزي فإنَّه متعصِّب، ومثلهابن حبان، على أنَّه قد رويت بطرق مختلفة عن عدة صحابة وبه تتقوى وترتقي، وليس يتعين علينا الاستدلال بها، بل يكفينا ما روى البخاري.
وقال النَّووي: (وتأوَّل الجمهور القطع المذكور على قطع الخشوع جمعًا بين الأحاديث) انتهى.
قلت: وفيه نظر لأنَّ الخشوع ليس بشرط في الصلاة، ولا يلزم الجمع؛ لأنا نقول: أحاديث الجمهور أقوى وأصح من أحاديث من خالفهم، والأخذ بالأقوى أولى؛ فافهم، فإن حديث ابن عبَّاس صريح في الاستدلال؛ لأنَّ حماره قد مرَّ بين يدي النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما رواه البزار، ودل حديث عائشة المذكور على أنَّ المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، وكذلك دل حديث أم سلمة وميمونة بنت الحارث،؛ فأخرج الإمام الطَّحاوي حديث أم سلمة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: (كان يُفرَش لي حِيَال مُصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وإني حياله)، وأخرجه أحمد في «مسنده»، وأخرج الطَّحاوي حديث ميمونة عن عبد الله بن شداد قال: حدثتني خالتي ميمونة بنت الحارث قالت: (كان فراشي حِيَال مُصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فربما وقع ثوبه عليَّ وهو يصلي)، وأخرجه أبو داود ولفظه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد، وكان يصلي على الخُمرة)، والمصلَّى؛ بفتح اللَّام؛ وهو الموضع الذي كان يصلي فيه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في بيته، وهو مسجده الذي عينته للصلاة فيه، والخُمرة؛ بِضَمِّ الخاء المعجمة: حصير صغير يُعمَل من سعف النخل وينسج بالسيور والخيوط، وهي على قدر ما يوضع عليه الوجه والأنف.
فإن قلت: ما استدل به الجمهور مطلق، وحديث القطع مقيدن وهو يقضي على المطلق.
قلت: أجاب الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي فقال: قد تواترت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على أنَّ بني آدم لا يقطعون الصلاة، وقد جعل كل مار بين يدي المصلي شيطانًا في حديثي ابن عمر وأبي سعيد، وأخبر أبو ذر: أن الكلب الأسود إنَّما يقطع الصلاة؛ لأنَّه شيطان، فكانت العلة التي لها جعلت لقطع الصلاة قد جعلت من بني آدم أيضًا، وقد ثبت عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: أنهم لا يقطعون الصلاة، فدل على أنَّ كل مار بين يدي المصلي سوى بني آدم كذلك أيضًا لا يقطع الصلاة، والدليل على صحة ما ذكرنا: أن ابن عمر مع روايته ما ذكرنا عنه عليه السَّلام قد روي عنه من بعده: حدثنا يونس: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم قال: قيل لابن عمر: إن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة يقول: (يقطع الصلاة الكلب والحمار)، فقال ابن عمر: (لا يقطع
%ص 733%
صلاة المسلم شيء)، فقد دل هذا على ثبوت نسخ ما كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار ما قال به أولى عنده من ذلك، انتهى.
وزعم ابن حجر: وتعقب بأنَّ النَّسخ لا يصار إليه إلا إذا علم التاريخ وتقدر الجمع، والتاريخ هنا لم يتحقق والجمع لم يتعذر، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: لا نسلم ذلك؛ لأنَّ مثل ابن عمر رضي الله عنهما بعدما روي عنه: أن المرور يقطع قال: لا يقطع صلاة المسلم شيء، فلو لم يثبت عنده نسخ ذلك؛ لم يقل بما قال: من عدم القطع، ومن الدليل على ذلك: أن ابن عبَّاس الذي هو أحد رواة القطع روي عنه: أنَّه حمله على الكراهة؛ قال البيهقي: روى سماك عن عكرمة: قيل لابن عبَّاس: أتقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار؟ فقال: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفع، فما يقطع هذا، ولكن يكره، انتهى.
وقال الإمام الحافظ الطَّحاوي: وقد روي عن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن مرور بني آدم وغيرهم بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، ثم أخرج عن سعيد بن المسيب بإسناد صحيح: أن عليًا وعثمان رضي الله عنهماقالا: لا يقطع صلاة المسلم شيء وادرؤوا ما استطعتم، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة، وأخرج الطَّبراني من حديث عَلِيٍّ مرفوعًا: «لا يقطع الصلاة شيء إلا لحدث» انتهى.
وقال الشَّافعي: تأول القطع بنقص الخشوع، قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الخشوع في الصلاة غير شرط اتفاقًا.
وقال بعضهم: حديث أبي ذر مقدَّم؛ لأنَّ حديث عائشة على أصل الإباحة، قلت: وهذا مبني على أنَّ حديث عائشة ناسخ لحديث أبي ذر؛ لأنَّه متأخر عنه، كما حققه الحافظ الطَّحاوي.
وزعم العجلوني أن قول بعضهم مبني على أنَّهما متعارضان ولا تعارض؛ لإمكان الجمع بنقص الخشوع.
قلت: ما زعمه فاسد الاعتبار فإن ظاهر اللفظ يدل على أنَّ هذا مبني على النَّسخ لا على التعارض؛ لأنَّ قوله: (حديث أبي ذر مقدَّم) يعلم منه حقيقة أن حديث عائشة هو المتأخر، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، وما زعمه من عدم التعارض لإمكان الجمع؛ فاسد أيضًا؛ لأنَّ الجمع بنقص الخشوع باطل؛ لأنَّه غير شرط، كما ذكرنا، فالحق والصَّواب ماقلناه؛ فليحفظ.
فإن قلت: إنكار عائشة على من ذكر المرأة مع الحمار والكلب فيما يقطع الصلاة مع أنها روت الحديث عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ كما رواه أحمد ابن حنبل، ولفظه: «لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة»، فقالت عائشة: يا رسول الله؛ لقد قُرِنَّا بذوات سوء.
قلت: إن عائشة لم تنكر الحديث ولم تُكذِّب أبا هريرة، وإنما أنكرت بقاء الحكم وعدم المصير إلى النَّسخ؛ لأنَّها كانت ترى نسخ الحكم، ولهذا قالت: (والله لقد رأيت) أي: بصرت (النَّبي) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) وجملة (يصلي): محلها نصب مفعول ثان؛ أي: النافلة ليلًا، ومع هذا كانت عائشة تكره أن يذكر المرأة مع الحمار والكلب؛ لشرفها وخستهما، ولهذا قالت: يا رسول الله؛ لقد قُرنَّا بذوات سوء؛ فافهم، وفي هذا دليل على جواز الحلف بدون استحلاف، وفيه: استحباب قيام الليل بالصلاة، والذكر، وتلاوة القرآن، ولو بحضرة أهله وهم نيام؛ لما في ذلك من الثواب الجزيل، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، (وإنِّي)؛ بكسر الهمزة وتشديد النُّون، بعدها ياء المتكلم، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: (وأنا) (على السرير)، وفي رواية: (إلى السرير)؛ أي: عليه، فكلمة (إلى) بمعنى: على، وحروف الجر يستعار بعضها مكان بعض، كما لا يخفى على أولي الألباب، والجملة اسمية محلها نصب على الحال من عائشة، وكذلك قولها: (بينه وبين القبلة)؛ أي: أمامه بالقرب من موضع سجوده؛ جملة حالية، وقوله: (مضطجعةٌ)؛ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: وأنا مضطجعة، وعلى هذا تكون الجملة أيضًا حالًا، ويجوز أن يكون (مضطجعةٌ)؛ بالرفعخبرًا لقوله: (وأنا) أو (إني)؛ أي: والحال أني مضطجعة على السرير، فعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير مبتدأ، وأما وجه النصب في (مضطجعة)؛ فعلى أنَّه حال من عائشة أيضًا، ثم يجوز أن يكون هذان حالان مترادفين، ويجوز أن يكونا متداخلين، كذا حققه إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
قلت: وكون (مضطجعةً) بالنصب رواية أبي ذر، والوجهان في «اليونينية».
والحاصل: أنه يجوز فيها وجهان: الرفع والنصب؛ فالرفع له وجهان، والنصب له وجه واحد؛ فافهم.
(فتبدوا)؛ أي: تظهر (لي الحاجة)، وفي «مسند السراج»: (فيكون لي حاجة)؛ أي: حاجة الإنسان ويحتمل الأعم منها، (فأكره)؛ بفتح الهمزة؛ أي: لا أحب (أن أجلس)؛ أي: مستقبل النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وذكر في باب (الصلاة على السرير): (فأكره أن أسنحه)، وفي باب (استقبال الرجل): (فأكره أن استقبله)، والمقصود من ذلك كله واحد، لكن باختلاف [1] المقامات اختلفت العبارات، قاله الشَّارح، (فأؤذي)؛ بلفظ المتكلم من المضارع، وفاعله: الضمير فيه، وهو معطوف على (أجلس)، وقوله: (النَّبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ بالنصب مفعول (أؤذي)، وعند النسائي من طريق شعبة، عن منصور، عن الأسود، عن عائشة في هذا الحديث: (فأكره أن أقوم فأمر بين يديه)، قلت: وعلى هذا فالمراد بالإيذاء في حديث الباب: هو المرور بين يديه، وذلك لأنَّه عليه السَّلام في مقام المناجاة لربه تعالى، فربما بمرورها يحصل له قطع ذلك، وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
(فأنسلُّ)؛ بالرفع عطفًا على (فأكره) لا على (أجلس) ولا (فأؤذي)؛ لفساد المعنى؛ فتأمل، قاله العجلوني.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه يجوز عطفه على (فأؤذي) وعليه فالمعنى به صحيح؛ لأنَّ وجه انسلالها عدم إيذائه عليه السَّلام، وكذا يجوز عطفه على (أجلس) والمعنى به صحيح؛ لأنَّ علة انسلالها هو عدم جلوسها؛ لعدم إيذائها النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، لكن فيه تكلف، وإلى هذا أشار العجلوني بالتأمل.
فالحاصل: أن (فأنسل) يجوز فيه الرفع والنصب؛ ومعناه: أي: أمضي بتأنٍّ وتدريج وخفية ورفق، وفي رواية الطَّحاوي وكذا المؤلف: (فأنسل انسلالًا) (من عند رجليه)؛ بالتثنية؛ أي: من جهتهما، فإذا كانت المرأة لا تقطع الصلاة مع أن النفوس تشتغل بها أكثر، فغيرها من الكلب والحمار بالطريق الأولى، وروى الشيخان عن عروة عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة)، وفي رواية: (وأنا حذءاه)، وفي أخرى: (وأنا حائض)، ولا يخفى أن اعتراض المرأة خصوصًا الحائض بين المصلي وبين القبلة لا يقطع الصلاة؛ فغيرها من الحمار والكلب بالأولى.
وزعم ابن حجر أن التشويش بالمرأة وهي قاعدة يحصل منه ما لا يحصل بها وهي راقدة من جهة الحركة والسكون، انتهى.
قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ المرأة سواء كانت قاعدة أو راقدة لا تشوش على المصلي، وليس بين القاعدة والراقدة فرق أصلًا، فإنَّه كما تتحرك القاعدة كذلك تتحرك الراقدة، فإن النائم لا ينام على جنب واحد طول نومه، بل ينقلب يمينًا وشمالًا، ويدل على [ما] قلناه أن عائشة قالت: (فأكره أن أجلس فأؤذي)، إنَّما كَرِهَت الجلوس؛ لأنَّه بجلوسها تستقبل وجهه عليه السَّلام، كما دلت عليه رواية باب (استقبال الرجل)، فإنَّها صرحت هناك بقولها: (فأكره أن أستقبله)، ومعلوم أن الاستقبال منهي عنه في حديث ما؛ فافهم.
ثم زعم ابن حجر أن الظَّاهر: أن عائشة إنَّما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات لا المرور بخصوصه، انتهى.
قلت: الظَّاهر من حال عائشة: أنها أنكرت مساواة المرأة للحمار والكلب، وأنكرت حكم قطع
%ص 734%
الصلاة بالمرأة، والحمار، والكلب، وأنكرت على الذي لم يقل بنسخ الحكم، فإنكارها إنَّما كان لبقاء الحكم وعدم المصير إليه، وأما المرور؛ فإنما أنكرت فعله؛ لعلمها بحديث المار وماذا عليه من الإثم؛ لأنَّه عليه السَّلام لمَّا شرع في الصلاة؛ لم يضع سترة؛ لأنَّه ليس في بيته سوى عائشة وهي راقدة، فلا تلزم السترة حينئذ، فلما أفاقت عائشة ولم تر السترة بين يديه؛ كرهت أن تجلس فتستقبله وتؤذيه بالمرور بين يديه؛ فانسلت، ويدل عليه رواية النسائي: (فأكره أن أقوم فأمر بين يديه)، فالمراد بالإيذاء: المرور، والأحاديث يفسِّر بعضها بعضًا، وذلك لأنَّ الصلاة مناجاة الرب، فالنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم له المقامات العالية في المناجاة، فخشيت أن تشغله أو تلهيه بمرورها؛ فانسلت، إذا علمت هذا؛ علمت أن عبارته قاصرة؛ فافهم.
فإن قلت: التَّرجمة عامة والحديث خاص، فما مطابقته للتَّرجمة؟
قلت: أجاب إمامنا الشَّارح: بأن عائشة أنكرت على من ذكر عندها أن الصلاة يقطعها الكلب، والحمار، والمرأة؛ بكونها على السرير بين يديه عليه السَّلام وبين القبلة وهي مضطجعة، ولم يجعل ذلك عليه السَّلام قاطعًا لصلاته؛ فهذه الحالة أقوى من المرور، فإذا لم يقطع في هذه ففي المرور بالطريق الأولى، ثم المرور عامٌّ من أي حيوان كان؛ لأنَّ الشَّارع جعل كل مارٍّ بين يدي المصلي شيطانًا، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم، وهو بعمومه يتناول بني آدم وغيرهم، ولم يجعل نفس المرور قاطعًا، وإنما ذمَّ المار حيث جعله شيطانًا من باب التشبيه، انتهى، قلت: وهو وجيه فاحفظه.
وزعم الكرماني: (فإن قلت: دل الحديث على أنَّ المرأة لا تقطع فقط، والتَّرجمة أعم من ذلك، قلنا: المراد من «الشيء» هذه الثلاثة، والقرائن تدل على التخصيص) انتهى.
قلت: وعلى هذا فلا مطابقة بين الحديث والتَّرجمة، وهو فاسد الاعتبار فإن لفظة (شيء) في التَّرجمة عامة تشمل بني آدم والحيوانات؛ لأنَّها نكرة في مقام النَّفي، فتَعُم، والحديث دال على ذلك؛ لأنَّ عائشة لمَّا أنكرت على من يقول: بقطع الصلاة بهذه الثلاثة؛ شمل إنكارها المرأة جميع بني آدم، والكلب والحمار جميع الحيوانات؛ لأنَّ الألف واللَّام في كل منها للجنس ويلحق بها ما عداهما من كل ما يدبُّ على وجه الأرض، وذلك بحكم المرور، كما بيَّنه حديث أبي سعيد: (إن المار شيطان)، وهو عام، فيعمُّ؛ فافهم.
ثم زعم الكرماني: (فإن قلت: غرض عائشة دفع المساواة بينها وبين الحمار والكلب، وعليه لزم المساواة في عدم القطع لا فيه؛ قلت: غرضها نفي المساواة في الشر لا مطلق المساواة، أو لعل مذهبها أن الكلب والحمار يقطعان) انتهى.
قلت: وهذا ليس بشيء فإن غرضها عدم المساواة من حيث إنَّ المرأة لا تذكر مع الكلب والحمار؛ لشرفها وخستهما، ويدل عليه ما رواه أحمد عنها: (لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة، فقالت عائشة: يا رسول الله؛ لقد قُرنَّا بذوات سوء)، وليس مذهبها: أنهما يقطعان؛ لأنَّ حديث الباب دال على ذلك؛ لأنَّها أنكرت بقاء حكم قطع الصلاة بهذه، وأنكرت عدم النَّسخ، يدل عليه قولها: (والله لقد رأيت ... ) إلخ، فإنَّه دال على أنَّها كانت ترى نسخ الحكم، وأنكرت بقاء الحكم وعدم المصير إليه؛ فافهم.
وقال الكرماني: (فإن قلت: القائلون بقطع الصلاة بمرورهم من أين قالوا به؟ قلت: إما باجتهادهم، ولفظ: «شبهتمونا» يدل عليه، وإما بما ثبت عندهم من قول الرسول بذلك) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا السؤال سؤال من لم يقف على الأحاديث التي فيها القطع، وأحد شقي الجواب غير موجه؛ لأنَّه لا مجال للاجتهاد عند وجود النصوص) انتهى.
ثم قال الكرماني: فإن قال الرسول به؛ فلم لا نحكم بالقطع؟ قلت: إما لأنها رجحت خبرها على خبرهم من جهة أنها صاحبة الواقعة، أو من جهة أخرى، أو أنها أولت القطع بقطع الخشوع ومواظبة القلب اللسان في التلاوة لا قطع أصل الصلاة، أو جعلت حديثها وحديث ابن عبَّاس من مرور الحمار والأتان ناسخين له، وكذا حديث أبي سعيد؛ حيث قال: (فليدفعه فليقاتله) من غير حكم بانقطاع الصلاة بذلك.
فإن قلت: لم لا تعكس بأن تجعل الأحاديث الثلاثة منسوخة به؟ قلت: للاحتراز عن كثرة النَّسخ؛ إذ نسخ حديث واحد؛ أهون من نسخ ثلاثة أو لأنها كانت عارفة بالتاريخ وتأخرها عنه) انتهى.
قلت: الجواب الأول: (أنها رجحت خبرها ... ) إلخ، لم يذكر وجه الترجيح سوى أنها صاحبة الواقعة وهو لا يفيد الترجيح، والجواب الثاني: فاسد الاعتبار؛ لأنَّ الخشوع في الصلاة غير شرط اتفاقًا، والجواب الثالث؛ وهو النَّسخ هو الصَّواب، فإنَّها قد أنكرت بقاء حكم القطع، ورأت النَّسخ فيه، ويدل عليه قولها: (والله لقد رأيت ... ) إلخ.
والجواب في الثاني: (للاحتراز ... ) إلخ: فيه نظر، فإن الأحاديث الثلاثة في حكم واحد وحديثها في حكم واحد، ففيه نسخ حكم وإثبات حكم، فليس فيه كثرة النَّسخ، والجواب الثاني: إن كان معناه أن حديثها هو المتأخر عن حديثهم؛ فهو صواب، وإن كان حديثهم هو المتأخر عن حديثها؛ فليس بشيء؛ لأنَّ عائشة جعلت حديثها ناسخًا لأحاديثهم سواء كان مقدمًا أو مؤخرًا، بل الظَّاهر: أن حديثها هو المتأخر، وأن أبا هريرة وأبا سعيد لم يبلغهم النَّسخ إلا منها، يدل عليه أن الحافظ الطَّحاوي أخرج عن ابن المسيب بإسناد صحيح أن عليًّا وعثمان قالا: (لا يقطع صلاة المسلم شيء ... )؛ الحديث، ولا يخفى أن مثل هذا لا يقال بالرأي، بل بالسَّماع من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّهما من الملازمين لأفعال المصطفى وأقواله رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
==================
(1/848)
[حديث: لقد كان رسول الله يقوم فيصلي من الليل]
515# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم) هو الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، هذه رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: (إسحاق) غير منسوب، وجزم ابن السكن بأنه ابن راهويه، وقال: كل ما في «البخاري»: (عن إسحاق) غير منسوب؛ فهو ابن راهويه، وزعم أبو نعيم أنَّه إسحاق بن منصور الكوسج، قال الكلاباذي: (إسحاق بن إبراهيم وإسحاق بن منصور كلاهما يرويان عن يعقوب)، كذا حققه صاحب «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر والقسطلاني، وزعم العجلوني أن رواية أبي ذر: (إسحاق بن منصور)؛ وهو خطأ ظاهر؛ فاجتنبه، (قال أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (يعقوب بن إبراهيم)، زاد أبو ذر وأبو الوقت: (ابن سعد) هو المدني، (قال: حدثني)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (حدثنا) بالجمع، ولأبي ذر: (أخبرنا) (ابن أخي ابن شهاب) هومحمَّد بن عبد الله بن مسلم الزهري المدني: (أنه) بفتح الهمزة (سأل عمه) هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري المدني (عن الصلاة) مطلقًا (يقطعها)؛ بحذف همزة الاستفهام؛ أي: أيقطعها، وسياق الكلام يدل عليه، قيل: وفي نسخة: أيقطعها _بإثبات الهمزة_ (شيء)؛ أي: من مرور الكلب، والحمار، والمرأة، (فقال) أي: ابن شهاب، وللأصيلي: (قال) (لا يقطعها شيء)؛ أي: لا يقطع الصلاة شيء، وهذا عام مخصوص بالأمور الثلاثة التي وقع النزاع فيها؛ لأنَّ القواطع في الصلاة كثيرة؛ مثل القول والفعل الكثير وغيرهما، وما من عام إلا وقد خص، قاله إمامنا الشَّارح، قلت: وقد يقال في معناه: لا يقطعها شيء؛ أي: من غير فعل المصلي، وفيه: أنَّه لو ألقى أحد عليه نجسًا مانعًا؛ يقطع صلاته مع أنَّه من غير فعل المصلي؛
%ص 735%
فتأمل.
(أخبرني عروة بن الزُّبير) هو من تتمة مقول ابن شهاب، قاله الشَّارح في «عمدة القاري» وتبعه الكرماني وكذا ابن حجر والقسطلاني، وخالفهم العجلوني فزعم أنَّه من قول عم ابن شهاب، قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ ظاهر اللَّفظ يخالفه؛ فافهم: (أن عائشة زوجَ النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) بفتح همزة (أن) ونصب (زوج) صفة لـ (عائشة) (قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأفادت لفظة (كان) الدوام والاستمرار (يقوم فيصلي من الليل)؛ أي: النافلة؛ ومعناه: يقوم فيصلي النافلة بعض الليل، فإنما أتت بكلمة (من) إشارة إلى أنَّه يقوم بعض الليل لا الليل كله، وزعم العجلوني: (من الليل)؛ أي: فيه، كقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]؛ أي: فيه، انتهى، قلت: وفيه نظر، ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ} [المزمل: 20]؛ فافهم، (وإني) بكسر الهمزة (لمعترضة بينه) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم (وبين القبلة) والجملة اسمية مؤكدة بـ (إن) واللَّام، في موضع نصب على الحال، (على فراش أهله)، كذا في رواية الأكثرين، وهو متعلق بـ (يصلي)، وهو يدل على أنَّ صلاته كانت على الفراش، ويحتمل تعلقه بـ (يقوم)، وهو متعين في رواية المستملي: (عن فراش أهله)؛ بكلمة (عن)، أفاده الشَّارح بزيادة.
ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة في قول الزهري، وأما في قول عائشة؛ فإن اعتراضها بينه وبين القبلة غير قاطع لصلاته، واعتراضها شامل لمسها ونومها ورقودها، فالمارة لا تقطع بالطريق الأولى، وهذا يدل على أنَّ حديث: (يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار) منسوخ بهذا؛ لأنَّه عليه السَّلام قد صلى وهي معترضة، فلم تضر صلاته.
وزعم ابن حجر أن الدلالة من هذا الحديث أن حديث: (يقطع الصلاة المرأة ... ) إلخ: يشمل ما إذا كانت مارة، أو قائمة، أو قاعدة، أو مضطجعة، فلما ثبت أنَّه عليه السَّلام صلى وهي مضطجعة أمامه؛ دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، ففي الباقي بالقياس عليه، وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور الثلاثة، وفرَّق بعضهم بين المرور وغيره فقال: المرور حرام، فكان قاطعًا للصلاة بخلاف غيره، ونازع بعض آخر في الاستدلال بأن العلة في قطع الصلاة بالمرأة التشويش من رؤيتها، وهذا مأمون في حديث عائشة حيث قالت: (والبيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح)، وبأن المرأة في غير حديث عائشة مُطلَقة، وفي حديثها مقيدة بالزوجة، فيحمل حديث غيرها على حديثها، ويكون القطع مقيدًا بالأجنبية خشية الافتتان بها، وبأن حديث عائشة واقِعةُ حال بخلاف حديث أبي ذر؛ فإنَّه سيق للتشريع العام، انتهى.
قلت: وكل هذا منظور فيه؛ لأنَّ شمول الحديث لما ذكره غير ظاهر؛ لأنَّه غير مذكور في الحديث ولا يفيده ولا يشير إليه، بل الحديث شامل لمسها، ونومها، ورقودها، وقعودها؛ لأنَّ المضطجع تارة يكون نائمًا، وتارة يكون راقدًا، وتارة يكون قد عرض عليه القعود، كما لا يخفى، ولمَّا ثبت أنَّه عليه السَّلام قد صلى وهي مضطجعة أمامه؛ دل هذا على النَّسخ ألبتة في المضطجع، وفي غيره بالقياس عليه، وهو مساوٍ له؛ لأنَّ الحادثة واحدة، والحكم واحد، والواقعة واحدة، فصح القياس وثبتت المساواة بينهما.
وتفريق بعضهم بين المرور وغيره وأن المرور حرام؛ غير ظاهر؛ لأنَّ المرور وإن كان حرامًا، لكن في نفسه لا يتعدى إلى غيره من قطع الصلاة، فإن القطع حكم آخر وهو منسوخ بدليل آخر، وهو حديث الباب ومنازعة البعض لا تخلو عن نظر، فإن كان العلة التشويش؛ فيرده صلاته عليه السَّلام وعائشة معترضة بينه وبين القبلة ولم تضر صلاته.
وزعمه بأن التشويش مأمون في حديث عائشة؛ لعدم المصابيح؛ ممنوع، فإن وجود المصابيح ليس بعلة؛ لأنَّه قد يخطر بخاطر الإنسان وإن لم يكن مصابيح، على أنَّه _المصلي_ إذا كان في صلاته مشتغلًا بها لا يخطر بباله شيء آخر غيرها، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4].
وما زعمه من أن حديث عائشة مقيد بالزوجية وغيره مطلق؛ ممنوع، فإنَّه لا فرق بين الزوج والأجنبية في الصلاة، والحمل غير ظاهر، وحديث عائشة ليس واقعة حال، بل هو عام سيق للتشريع، وأما حديث أبي ذر؛ فالظَّاهر: أنَّه واقعة حال، على أنَّه منسوخ بحديثها؛ لأنَّها أعلم من أبي ذر بالأحكام مع ملازمتها لأقوال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وأفعاله، فلو لم تعلم بالنَّسخ؛ لما أنكرت على الذين ذكروا عندها قطع الصلاة.
والحاصل: أن أحاديث قطع الصلاة منسوخة، والعناد بعد ذلك مكابرة.
وادعى ابن بطال أن ذلك من خصائصه عليه السَّلام؛ لأنَّه يملك إربه بخلاف غيره، انتهى.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ دعوى الخصوصية لا بد لها من دليل يدل عليها ولم يوجد ما يدل عليها، وكون غيره لا يملك إربه؛ ممنوع، فإنَّه قد ثبت عنه عليه السَّلام: «الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة»، فإذا كانت الخيرية باقية في أمته؛ فلا شك أن المصلي يملك إربه؛ فافهم.
وقيل: الحكمة في تخصيص القطع بالثلاثة: أن الجميع في معنى الشَّيطان؛ الكلبُ بنَصِ الحديث، والمرأة من جهة أنها تقْبِل في صورة شيطان وتُدْبِر كذلك وأنها من حبائل الشَّيطان، وأما الحمار؛ فلِمَا جاء من اختصاص الشَّيطان به في قصة نوح عليه السَّلام في السفينة، انتهى.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّه إذا ثبت أن حكم قطع الصلاة بهذه الثلاثة منسوخ؛ فلا حاجة إلى إبداء حكمة لذلك، على أنَّه قد نص الحديث أن الكلب الأسود شيطان لا مطلق الكلب، كما لا يخفى، ومع هذا فقد ثبت في «الصَّحيحين»: أن الشَّيطان عَرَض للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في صلاته ولم يضرها ولا قطعها، وقد تقدم أن الشَّيطان نفسه لو مر بين يدي المصلي؛ لم تفسد صلاته بدليل الحديث المذكور.
فإن قلت: في الحديث أنَّه جاء ليقطع صلاته.
قلت: قد بينت رواية مسلم أن سبب القطع مجيء الشَّيطان بشهاب من نار ليجعله في وجهه عليه السَّلام، وأما مجرد المرور؛ فقد حصل ولم تفسد به الصلاة؛ فافهم.
وفي الحديث: أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل، وفيه: جواز الصلاة إلى المرأة، وكرهه بعضهم، وفيه: استحباب صلاة الليل، وفيه: جواز الصلاة على الفراش، والله أعلم.
==================
(1/849)
(106) [باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة]
هذا (باب) بيان حكم (من حمل) زاد الأربعة: (في الصلاة)، وفي نسخة (بابٌ) بالتنوين (إذا حمل)؛ أي: المصلي، (جارية صغيرة على عنقه) هل تفسد صلاته أم لا؟
وقال ابن بطال: أدخل البخاري هذا الحديث هنا؛ ليدل على أنَّ حمل المصلي الجارية على العنق لا تضر صلاته؛ لأنَّ حملها أشد من مرورها بين يديه، فلما لم يضر حملها؛ كذلك لا يضر مرورها، قال الشَّارح: قلت: فلذلك ترجم البخاري هذا الباب بهذه التَّرجمة وبينه وبين الأبواب التي قبله مناسبة من هذا الوجه، انتهى.
وزعم ابن حجر: وتقييد المصنف بكونها صغيرة قد يشعر بأن الكبيرة ليست كذلك، انتهى.
قلت: تقييد البخاري الصغيرة مبني على الأغلب الكثير أن الصغير يحمل عادة مع أن حكم حمل الكبيرة كذلك؛ لأنَّ المعتبر هو
%ص 736%
العمل في الصلاة، فإن كان يسيرًا؛ فلا فساد، وإن كان كثيرًا؛ تفسد صلاته، وهو مفوض لرأي المصلي، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، إذا علمت هذا؛ ظهر لك فساد ما زعمه ابن حجر؛ فافهم، وقد خفي عليه أن القيود تارة تذكر لبيان الواقع، وتارة لبيان الغالب، وتارة للاحتراز، وما هنا من الوسط، والعالم النحرير يفرق بين ذلك؛ فليحفظ.
==================
(1/850)
[حديث: كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله]
516# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المنزل [1] الدمشقي المولد (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن عامر بن عبد الله بن الزُّبير)؛ بِضَمِّ الزاي: هو ابن العوام المدني، (عن عَمرو) بفتح العين المهملة (ابن سُليم) بِضَمِّ السين المهملة (الزُرَقي)؛ بِضَمِّ الزاي وفتح الرَّاء: هو الأنصاري، نسبة إلى زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج، (عن أبي قتادة) هو الحارث بن ربعي السلمي (الأنصاري) توفي بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي بن أبي طالب، وقيل: اسمه النعمان، وفي رواية أحمد عن عمرو بن سليم: (أنَّه سمع أبا قتادة يقول): (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) بكسر الهمزة (كان يصلي)؛ أي: في بعض الأوقات، لا يقال: إنَّ (كان) تفيد الاستمرار والدوام؛ لأنَّا نقول: ليست هي كذلك دائمًا، بل تذكر لأمر نادر، كما هنا للقرينة الحالية والمقالية الدَّالة على ذلك؛ فافهم، (وهو حاملٌ أُمامةَ): الواو للحال، والجملة اسمية محلها نصب على الحال، و (حاملٌ): بالتنوين، و (أمامةَ): بالنصب، وهو المشهور، ويروى بالإضافة؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]؛ بالوجهين في القراءة، قاله الشَّارح، وقال الكرماني: فإن قلت: قالت النحاة: فإن كان اسم الفاعل للماضي؛ وجبت الإضافة، فما وجه عمله؟ قلت: إذا أريد به حكاية الحال الماضية؛ جاز إعماله؛ كما في قوله تعالى: {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18]، انتهى، و (أُمَامَة): بِضَمِّ الهمزة وتخفيف الميمين (بنتَ زينبَ)؛ بالفتح والكسر صفة لـ (أمامة) على الوجهين، (بنتِ رسول الله)، وفي رواية: (ابنةِ رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ بالجر لا غير، نَعتٌ لـ (زينب)، وجُوِّز القطع نصبًا ورفعًا؛ فتأمل.
قال الشَّارح: ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة.
فإن قلت: أين الظهور وقد خصص بالتَّرجمة الحمل بكونه على العنق، ولفظ الحديث أعم من ذلك؟
قلت: كأن البخاري أشار بذلك إلى أن الحديث له طرق أخرى؛ منها لمسلم من طريق بكير بن الأشج عن عمرو بن سليم، وصرح فيه: (على عنقه)، وكذا في رواية أبي داود، وفي رواية له: (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على عاتقه)، وفي رواية لأحمد من طريق ابن جريج: (على رقبته) انتهى.
قال الشَّارح: وكانت زينب أكبر بنات النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وكانت فاطمة أصغرهن وأحبهن إليه، وأولاده عليه السَّلام كلهم [2] من خديجة سوى إبراهيم، فإنَّه من مارية القبطية، تزوجها قبل البعثة، قال الزهري: وكان عمره عليه السَّلام يومئذٍ إحدى وعشرين سنة، وقيل: خمس وعشرين سنة، زمان بنيت الكعبة، وقيل: ثلاثين، وكان عمرها أربعين، وقيل: خمسًا وأربعين، فولدت له القاسم وبه كان يكنى، والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
وتزوج بزينب أبو العاص فولدت منه عليًّا وأمامة هذه، وتزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة فولدت منه محمَّدًا، وكانت وفاة زينب سنة ثمان، ولهذا قال: (ولأبي العاص) عطف على زينب بإظهار اللَّام المقدرة في المعطوف عليه، قاله إمام الشَّارحين والكرماني، وتبعهما ابن حجر والقسطلاني.
وزعم العجلوني: ولو جعل خبرًا لمحذوف؛ أي: وهي لأبي العاص؛ لم يمتنع، انتهى.
قلت: بل هو ممنوع لأنَّ هذه الصيغة تفيد أن أمامة ليست بنتًا لأبي العاص، بل تخصه مثل أن تكون ربيبة أو خادمة أو نحوها، بخلاف العطف، فإنَّه يقتضي المشاركة بين المعطوف والمعطوف عليه، فما زعمه غير ظاهر، والأول: هو الظَّاهر؛ فافهم.
وإنما نسبها إلى أمها أولًا؛ لما زعمه ابن العطار من أن الولد ينسب إلى أشرف الأبوين دينًا ونسبًا؛ لأنَّ والد أمامة كان يومئذ مشركًا، ثم بيَّن أنها من أبي العاص؛ تبيينًا لحقيقة نسبها، كذا في «العجلوني».
قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الولد ينسب إلى أبيه، وقد صرح القرآن العظيم بذلك قال تعالى: {ادْعُوَهُمْ لآبَائِهِمْ ... }؛ الآية [الأحزاب: 5]، وما زعمه من أن الولد ينسب إلى أشرف أبويه؛ ممنوع هنا؛ لأنَّ هذا في السبايا إذا سبيت الصغار وأسلم آباؤهم؛ فيتبعونهم، أو أمهاتهم؛ فكذلك، فهو خاص بأهل الحرب بخلاف ما هنا، ألا ترى أن عليًّا ينسب إلى أبيه أبي طالب وهو قد مات على الكفر، ويدل لما ذكرنا: أن هذا الحديث رواه مسلم وغيره، وفيه: فنسبوها إلى أبيها ثم بينوا أنها بنت زينب، ورواه أحمد عن عمرو بن سليم، وفيه: (يحمل أمامة بنت أبي العاص وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فهذا كما رأيت قد نسبوها إلى أبيها وجعلوا أمها تبعًا؛ للبيان؛ فافهم.
قال إمامنا الشَّارح: واختلف في اسم أبي العاص؛ بدون ياء بخلاف عمرو بن العاصي؛ فإنَّه بالياء على الأشهر، فقيل: اسمه لقيط؛ بالتكبير، وقيل: مقسم، وصححه الكرماني، وقيل: القاسم، قال الشَّارح: وهو أكثر في اسمه، وقيل: مهشم، وقيل: هشيم، وقيل: ياسر، ويعرف بجَرْوِ البطحاء، وأم أبي العاص: هالة [3]، وقيل: هند بنت خويلد أخت خديجة لأبيها وأمها، وأبو العاص أسلم قبل الفتح وهاجر وَرَدَّ عليه النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ابنته زينب وماتت معه؛ أي: في عصمته سنة ثمان.
وقال ابن إسحاق: (وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالًا وأمانة وتجارة، وكانت خديجة هي التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه [4] بابنتها زينب، وكان لا يخالفها وذلك قبل الوحي، والإسلام فرَّق بينهما).
وقال ابن كثير: (إنَّما حرم الله المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وكان أبو العاص في غزوة بدر مع المشركين، ووقع في الأسر)، قال ابن هشام: (وكان الذي أسره خراش بن الصمة أحد بني حرام)، وقال ابن إسحاق عن عائشة: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم [5]؛ بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداءأبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا الذي لها؛ فافعلوا»، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردَّوا عليها الذي لها.
وقال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب؛ يعني: أن تهاجر إلى المدينة؛ فوفى أبو العاص بذلك ولحقت بأبيها، وأقام أبو العاص بمكة على كفره، واستمرت زينب عند أبيها بالمدينة، ثم آخر الأمر أسلم، وخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عبَّاس: (رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على النكاح الأول لم يحدث شيئًا)، والله أعلم، انتهى.
(بن الربيع)؛ بدون هاء، وفي رواية: بهاء (ابن عبد شمس) نسبه لجده، وإلا فأبوه عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، والذي عن مالك: (ابن ربيعة) بالهاء، والصَّواب: (ابن الربيع) بدون هاء، وأصلحه ابن وضاح في رواية يحيى، قال الأصيلي: هو ابن ربيع بن ربيعة، فنسبه مالك إلى جده، قال القاضي عياض: وهذا غير معروف، ونسبه عند أهل الأخبار باتفاقهم: أبو العاص بن الربيع
%ص 737%
بن عبد العزى بن عبد شمس.
قال ابن حجر: والمخالفة فيه من مالك لا من البخاري، وغفل الكرماني فقال: خالف البخاري القوم من جهتين فقال: (ربيعة)؛ بحرف التأنيث، وعندهم: (الربيع)؛ بدونه، وقال: (ربيعة بن عبد شمس)، وهم قالوا: (ربيع بن عبد العزى بن عبد شمس) انتهى، وكذلك اعترض الكرمانيَّ إمامُ الشَّارحين فقال: لو اطلع الكرمانيُّ على كلام القوم؛ لما قال ذلك، وتمامه فيه.
وزعم العجلوني بأنه لا غفلة من الكرماني؛ لأنَّه يصح أيضًا نسبة الغفلة إلى البخاري وإن كان تابعًا لمالك فيها، وأن الاعتراض في الأصل من ابن الأثير؛ فتدبر، انتهى.
قلت: الغفلة من الكرماني محققة، كما لا يخفى؛ لأنَّه لم يفرق، ولا يصح أن تكون الغفلة من البخاري؛ لأنَّه كثيرًا ما يذكر أشياخه في سنده وينسبهم إلى أجدادهم؛ لشهرتهم به، على أنَّه إذا كان البخاري تابعًا لمالك؛ فالغفلة من مالك قطعًا، والله أعلم.
(فإذا سجد) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (وضعها)؛ أي: أمامة على الأرض، كذا في رواية مالك، (وإذا قام) أي: من السُّجود (حملها)؛ أي: أمامة على عنقه، أو على عاتقه، أو على رقبته، كما سبق من الروايات في ذلك، وفي رواية مسلم، وأحمد، والنسائي، وابن حبان عن عامر بن عبد الله: (فإذا ركع؛ وضعها)، وفي رواية أبي داود عن عمرو بن سليم: (حتى إذا أراد أن يركع؛ أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد حتى إذا أفرغ من سجوده فقام؛ أخذها فردها في مكانها)، كذا في «عمدة القاري».
وفي الحديث أحكام:
أحدها: أنَّه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان في صلاة الفرض، والواجب، والنفل، ويجوز ذلك للإمام والمقتدي والمنفرد، وهو مذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وأصحابه، والجمهور.
قال صاحب «البدائع»: إذا أخذ المصلي قوسًا ورمى به؛ فسدت صلاته، وكذا لو حملت امرأة صبيها فأرضعته؛ تفسد؛ لوجود العمل الكثير، وأما إذا حملت الصبي بدون الإرضاع؛ فلا يوجب الفساد، ثم روى حديث الباب وقال: هذا الصنيع لم يكره منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه كان محتاجًا إلى ذلك؛ لعدم من يحفظها أو لبيانه الشرع بالفعل، وهذا غير موجب للفساد، ومثل هذا لا يكره لواحد منا أن يفعله عند الحاجة، أمَّا بدونها؛ فمكروه، انتهى.
وقال النَّووي: وعند الشَّافعي يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان في صلاة الفرض والنفل للإمام، والمنفرد، والمأموم، انتهى.
وقال أحمد: يجوز ذلك، قال الأشرم: سئل أحمد: أيأخذ الرجل ولده وهو يصلي؟ قال: نعم، واحتجَّ بحديث أبي قتادة.
وقال مالك: لا يجوز حمل الصبي ونحوه في الصلاة الفريضة، وأمَّا حديث الباب؛ فمحمول على صلاة النفل، قال ابن عبد البر: ومن الدليل على صحة ما قاله إني لا أعلم خلافًا أن مثل هذا العمل في الصلاة مكروه، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، فإن حديث الباب صريح في جواز ذلك في الفرض والنفل، وما زعمه من الحمل غير صحيح، كما سيأتي، وما زعمه ابن عبد البر فاسد الاعتبار؛ لأنَّه لا يلزم من عدم علمه الخلاف في كراهة الصلاة بذلك أن يكون دليلًا لمدعاه، ألا ترى أن مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، والشَّافعي وأصحابه، وأحمد ابن حنبل: أن هذا الفعل جائز من غير كراهة لا سيما وقد فعله النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفعله لا يوصف بكراهة، بل هو شرع لنا إلى قيام الساعة، وكأنَّه أراد بنفي الخلاف الإجماع على كراهة هذا الفعل، ولا يخفى أن الأمة لا تجتمع على حكم مخالف لما فعله الشَّارع، وإن أراد إجماع مذهبهم؛ فهو غير معتبر ولا مقبول، على أنَّه إنَّما قالوا ما قالوا تعصُّبًا وترويجًا لما ذهب إليه إمامهم، وهو باطل، والحق أحق أن يتبع؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: روى سفيان بن عيينة بسنده إلى أبي قتادة الأنصاري قال: (رأيت النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يؤمُّ الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي بنت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه)؛ فهذا صريح في أنَّه عليه السَّلام كان في صلاة الفرض، ولأن الغالب في إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الفرائض دون النوافل.
وفي رواية أبي داود عن أبي قتادة الأنصاري قال: (بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة في الظُّهر أوالعصر وقد دعاه بلال للصلاة؛ إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت ابنته على عنقه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلَّاه وقمنا خلفه ... )؛ الحديث، وفي كتاب «النسب» للزبير بن بكار، عن عمرو بن سليم: (أن ذلك كان في صلاة الصبح).
قال الشيخ تقي الدين: روي عن مالك: أنَّه منسوخ، قال أبو عمر [6] بن عبد البر: ولعل هذا نسخ بتحريم العمل والاشتغال بالصلاة، وقد ردَّ هذا بأن قوله عليه السَّلام: «إن في الصلاة لشغلًا» كان قبل بدر عند قدوم عبد الله بن مسعود من الحبشة، وأن قدوم زينب وابنتها إلى المدينة كان بعد ذلك، ولو لم يكن الأمر كذلك؛ لكان فيه إثبات النَّسخ بمجرد الاجتهاد، انتهى.
قلت: والنَّسخ بالاجتهاد غير مقبول على أنَّ الجمهور من أهل العلم قالوا: إن هذا الفعل عمل غير متوالٍ، وليس فيه حركات ثلاث متوالية، والطمأنينة في الأركان موجودة قطعًا، فأين الفساد والكراهة؟ فافهم.
وروى أشهب وابن نافع عن مالك: أن هذا الفعل كان للضرورة، وادعى بعضهم أنَّه خصوصية، وردَّه النَّووي بأنَّ هذا دعوى باطلة مردودة؛ لأنَّه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع؛ لأنَّ الآدمي طاهر، وما في جوفه معفوٌّ عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم على الطهارة، ودلائل الشرع متضافرة على أنَّ هذه الأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلَّت أو تفرَّقت، وفعله عليه السَّلام هذا بيانًا للجواز وتنبيهًا عليه، انتهى.
وزعم الخطابي يشبه أن يكون صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عن قصد وتعمد في الصلاة، ولعل الصبية لطول ما ألفته واعتادته من ملابسته في غير الصلاة كانت تتعلق به حتى تلابسه وهو في الصلاة؛ فلا يدفعها عن نفسه ولا يبعدها، فإذا أراد أن يسجد وهي على عنقه؛ وضعها بأن يحطَّها أو يرسلها إلى الأرض حتى يفرغ من سجوده، فإذا أراد القيام وقد عادت الصبية إلى مثل الحالة الأولى؛ لم يدافعها ولم يمنعها حتى إذا قام؛ بقيت محمولة معه، هذا عندي وجه الحديث، ولا يتوهَّم عليه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعمَّد لحملها ووضعها وإمساكها في الصلاة تارة بعد أخرى؛ لأنَّ الكل في ذلك قد يكثر فيتكرر، والمصلي يشتغل بذلك عن صلاته، وإذا كان علم الخميصة يشغله عن صلاته حتى يستبدل بها الأنبجانية؛ فكيف لا يشتغل عنها بما هذا صنيعه وصفته من الأمر؟!
وقد رد هذا إمام الشَّارحين في «عمدة القاري» والنَّووي؛ فقال الشَّارح: فقوله في الحديث: «فقام، فأخذها، فردها في مكانها»: صريح في أن الحمل والوضع كان منه عليه السَّلام لا من أمامة، وقال النَّووي: وما ذكره الخطابي باطل ودعوى مجردة، ومما يرده [7] قوله في «صحيح مسلم»: (فإذا قام؛ حملها)، وقوله: (فإذا رفع من السُّجود؛ أعادها)، وقوله في غير رواية مسلم: (خرج علينا حاملًا أمامة فصلى ... )، وذكر الحديث، وأما قضية الخميصة؛ فلأنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنَّه يشغل القلب، وإن سلمنا؛ فيترتب عليه فوائد وقواعد، كما ذكرناها، بخلاف الخميصة،
%ص 738%
فالصَّواب الذي لا معدل عنه: أن الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه على هذه الفوائد، فهو جائز لنا وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين، انتهى.
وزعم بعض أصحاب مالك أنَّه عليه السَّلام لو تركها؛ لبكت وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها.
قلت: وهذه الدعوى مردودة؛ لأنَّه عليه السَّلام قد وضعها، ثم ركع وسجد، كما رواه مسلم، وأبو داود، وغيرهما، ولم يذكر أحد من الرواة أنَّه حين وضعها بكت، والأصل العدم وبقاء ما كان على ما كان، فهذا يدل على أنَّ حمله عليه السَّلام إياها لبيان الجواز؛ فافهم.
وقال الباجي: (إن وجد من يكفيه أمرها؛ جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد؛ جاز فيهما) انتهى.
قلت: وهذه أيضًا مردودة؛ لأنَّه لم يفرق في الحديث بين الفرض والنفل، بل هما على السواء، فقد كان عليه السَّلام يحملها في الفرض إمامًا وفي النفل، فإذا جاز في الفرض؛ فالنفل أولى، على أنَّه عليه السَّلام كان إذ ذاك له نسوة وبنات وجوارٍ، ولم يأمر أحدًا منهن بحملها، بل تولَّى ذلك بنفسه في صلاته؛ لبيان الشرع.
وقال الفاكهاني: كان السرُّ في حمله عليه السَّلام أمامة في الصلاة دفعًا لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن، وخالفهم في ذلك حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّه لا يلزم أن يكون ذلك في الصلاة، بل يكون خارجها، وأما السر في ذلك؛ فهو [8] بيان الجواز والتشريع؛ فليحفظ.
والثاني من الأحكام: فيه جواز إدخال الصغار في المساجد.
والثالث: جواز صحة صلاة من حمل آدميًّا، وكذا من حمل حيوانًا طاهرًا.
والرابع: فيه تواضعه عليه السَّلام، وشفقته على الصغار، وإكرامه لهم؛ جبرًا لهم ولوالديهم، أفاده الشَّارح.
وقال الشَّافعي: فيه دليل على ترجيح العمل بالأصل على الغالب، وردَّه الشيخ ابن دقيق العيد بأنَّ حكاية الأحوال لا عموم لها.
وفي الحديث: دليل على أنَّ لمس البنات غير مبطل للصلاة ولا للطهارة، وهو مذهب الجمهور.
وزعم الشَّافعية أنَّها مَحرَم، أو واقعة حال، أو مع حائل.
قلت: هذه دعاوى باطلة مردودة؛ لأنَّه لا دليل عليها، فقد كان عليه السَّلام يقبِّل عائشة ويمس غيرها من زوجاته ويصلي ولم يتوضأ؛ كما ثبت في «الصَّحيحين» وغيرهما، وقد تكرر منه عليه السَّلام هذا الفعل في الفريضة والنَّافلة في حال الإمامة والانفراد، واحتمال الحائل ممنوع؛ لأنَّ الأصل عدمه، ولو كان؛ لذكره الرواة، واحتمال المَحرَميَّة باطل؛ فإن الزوجة ليست بمَحرَم، وكونها واقعة حال باطلة؛ لأنَّ هذا الحكم سيق للتشريع بأن يبقى ليوم القيامة؛ فافهم.
وحاصله: أن هذه محاولة ذكرت ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (كلها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (هدلة)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (يزوجها)، ولا يصح.
[5] في الأصل: (أسرهم).
[6] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (يرد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (هو)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (كلها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (هدلة)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (يزوجها)، ولا يصح.
[5] في الأصل: (أسرهم).
[6] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (يرد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (كلها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (هدلة)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (يزوجها)، ولا يصح.
[5] في الأصل: (أسرهم).
[6] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (يرد)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/851)
(107) [باب إذا صلى إلى فراش فيه حائض]
هذا (بابٌ) _بالتنوين_ يذكر فيه حكم ما (إذا صلى) أي: الرجل (إلى فِراش)؛ بكسر الفاء: ما يفرش _أي: يبسط_ على الأرض (فيه حائض)؛ أي: امرأة حائض، هل تصحُّ صلاته أم لا؟ وهل تكره أم لا؟
وتقدير الحكم أولى من الجواز؛ لأنَّه أعم، كما لا يخفى، وزعم الكرماني: باب هذه المسألة _وهي ما يقوله الفقهاء_: إذا صلَّى كذا وكذا؛ كيف يكون حكمه؟ وردَّه الشَّارح بأنَّ هذا تعسُّف، ولو قال: معناه: إلى فراش فيه حائض كيف يكون حكمه؟ يكره أم لا؟ وحديث الباب يدل على عدم الكراهة، انتهى.
قلت: وقد فرغ المؤلِّف من بيان أحكام المار بين يدي المصلي، وهذا شروع في بيان فروع من أحكام الصلاة؛ فافهم.
==========
%ص 739%
==================
(1/852)
[حديث: كان فراشي حيال مصلى النبي فربما وقع ثوبه عليَّ]
517# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَمرو) بفتح العين المهملة (بن زُرارة)؛ بِضَمِّ الزاي، ثم بالرَّاء المكررة: هو أبو محمَّد النيسابوري (قال: أخبرنا هُشيم)؛ بِضَمِّ الهاء مصغرًا: هو ابن بُشير _بِضَمِّ الموحَّدة_ الواسطي المتوفى ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومئة، (عن الشيباني) هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفي، وما زعمه العجلوني من أنَّه سليمان بن إسحاق؛ خطأ ظاهر؛ فافهم، (عن عبد الله بن شداد بن الهادِ)؛ بتخفيف الدَّال المهملة، واسمه أسامة اللَّيثي الكوفي، (قال: أخبرتني خالتي مَيْمُونة) بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، بينهما تحتية ساكنة (بنت الحارث)؛ بالمثلَّثة، إحدى زوجات النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، (قالت: كان فِراشي)؛ بكسر الفاء؛ أي: ما أفترشه حال إرادة النَّوم (حِيَال)؛ بكسر الحاء المهملة، وفتح التحتية؛ أي: بجنبه، كما في الحديث الذي بعد هذا، فهو ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر (كان)؛ أي: كائنًا في حذاء (مُصلَّى) بِضَمِّ الميم، وفتح اللَّام (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: الموضع الذي كان يصلي فيه في بيته؛ وهو مسجده الذي عينته للصلاة فيه، (فربما وقع ثوبه) أي: أصاب ثوب النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (عليَّ)؛ بتشديد التحتية المفتوحة؛ أي: حال صلاته، (وأنا على فراشي)؛ أي: نائمة، وفي رواية: (وأنا حائض)؛ أي: متلبسة بالحيض، فلم ينكر علي النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم تضر صلاته، وإفادة كلمة (رُبَّ): أن كثيرًا ما يقع هذا الفعل له عليه السَّلام؛ لأنَّ (رُبَّ) عند سيبويه وجماعة: حرف تكثير، وعند ابن درستويه وجماعة: أنها للتكثير دائمًا، كما في «المغني»، بل نقل الحلبي عن جماعة: أنها لا تفيد التقليل إلا بقرينة، انتهى، وإذا زيدت كلمة (ما) بعدها؛ فالغالب أن تكفَّها عن العمل، وأن تهيئها للدخول على الجمل الفعلية، وأن يكون الفعل ماضيًا لفظًا ومعنًى، كما في الحديث؛ ومنه قول الشاعر:
~ ... ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات
وتمامه في شرحنا على «الأزهرية».
وفي الحديث: المطابقة لما ترجم له المؤلف، واعترض على المؤلف بوجهين؛ الأول: كيف دل على التَّرجمة التي هي كون المصلي منتهيًا إلى الفراش؛ لأنَّه قال: إذا صلى إلى الفراش، وكلمة (إلى) لانتهاء الغاية؟ والثاني: أن الحديث يدل على اعتراض المرأة بين المصلي وقبلته؛ فهذا يدل على جواز القعود لا على جواز المرور.
وأجاب شارحنا في «عمدة القاري» عن الأول: (بأنه لا يلزم أن يكون الانتهاء من جهة القبلة، وكما أنها منتهية إلى جنبه عليه السَّلام، فكذلك هو عليه السَّلام أيضًا منتهيًا إليها وإلى فراشها)، وعن الثاني: (بأن ترجمة الباب ليست معقودة للاعتراض؛ فإن المتعلق بالاعتراض قد تقدم، والذي قصده البخاري بيان صحة الصلاة ولو كانت الحائض بجنب المصلي ولو أصابتها ثيابه، لا كون الحائض بين المصلي وقبلته) انتهى.
قلت: فإن البخاري قد شرع هنا في بيان مسائل الصلاة صحة، وفسادًا، وكراهةً وعدمها، بعد أن تمَّم أحكام السترة، والمار بين يدي المصلي.
وفي الحديث أحكام؛ منها: استحباب صلاة الليل، ومنها: جواز الصلاة بحضرة النائم، وأنه لا كراهة فيه، ومنها: أن المصلي إذا أصاب ثوبه الحائض؛ لا تضر صلاته، ولا كراهة عليه؛ لأنَّه عليه السَّلام قد أصاب ثوبه ميمونة وهي حائض؛ فلم تضر صلاته، وفيه: استحباب وضع السجادة للصلاة عليها، وقد سبق هذا الحديث في باب: (إذا أصاب ثوب المصلي امرأته في السُّجود)، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 739%
==================
(1/853)
[حديث: كان النبي يصلي وأنا إلى جنبه نايمة]
518# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو النُّعمان)؛ بِضَمِّ النُّون: هو محمَّد بن الفضل السدوسي _بمهملات_ المعروف بعارم، (قال: حدثنا عبد الواحد بن زِيَاد)؛ بكسر الزاي، وتخفيف التحتية: هو البصري، (قال: حدثنا الشيباني)، زاد في رواية غير الأصيلي وابن عساكر: (سليمان) هو ابن فيروز التَّابعي الكوفي، (قال: حدثنا عبد الله بن شَدَّاد)؛ بفتح المعجمة، والمهملتين أولاهما مشددة: هو ابن الهاد؛ واسمه أسامة، اللَّيثي المدني، وهذا الإسناد بعينه سبق في باب (مباشرة الحائض)، (قال: سمعت) خالتي (مَيْمُونة)؛ بفتح الميم أولى، وضم الثَّانية، بينهما تحتية ساكنة: هي بنت الحارث، وجملة (تقول) من الفعل والفاعل: محلها نصب مفعول ثان لـ (سمعت)، أو حال: (كان النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وأفادت لفظة (كان): الاستمرار والدوام (يصلي): جملة محلها نصب خبر (كان)؛ أي: في حجرته النافلة ليلًا، (وأنا إلى جنبه نائمةٌ)؛ بالرفع خبر (وأنا) المتعلق به (إلى جنبه)، والجملة حالية، وفي رواية باب (إذا أصاب ثوب المصلي امرأته في السُّجود) قالت: (وأنا حذاؤه)؛ أي: والحال أنا بإزائه ومحاذيه، وقد بينت رواية الباب هنا أن المراد: أنها نائمة بجنبه،
%ص 739%
(فإذا سجد) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في صلاته؛ (أصابني ثوبه)، وفي رواية المستملي والكشميهني: (ثيابه)؛ بالجمع، وفي رواية أبي ذر: (أصابتني ثيابه)؛ بتاء التأنيث في (أصابتني)، وإنما كان يصيبها؛ لقربها منه عليه السَّلام، وجملة (وأنا حائض): حالية، ثابتة في رواية أبي ذر، ساقطة عند غيره.
و (حائض)؛ بدون تاء، قال الكرماني: (فإن قلت: قالوا: إذا أريد الحدوث؛ يقال: حائضة، وإذا أريد الثبوت وأن من شأنها الحيض؛ يقال: حائض، ولا شك أن المراد ههنا: كونها في حالة الحيض؟ قلت: معناه: أن «الحائضة» مختصة بما إذا كانت فيه، و «الحائض» أعم منه) انتهى.
وردَّه الشَّارح، فقال: (لا فرق بين الحائض والحائضة، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا؛ فهي حائض وحائضة، وأنشد الفراء:
كحائضة يزني بها غير حائض ...
وفي اللُّغة: لم يفرق بينهما، غير أن الأصل فيه التأنيث، ولكن لخصوصية النساء به، وعدم الالتباس؛ ترك التَّاء) انتهى، فاعرفه.
وقوله: (زاد مُسدد)؛ بِضَمِّ الميم: هو ابن مسرهد البصري، (عن خالد) هو ابن عبد الله الطَّحان الواسطي (قال: حدثنا سليمان الشيباني) هو ابن إسحاق المدني: (وأنا حائض) مقدمة في بعض النُّسخ، مؤخرة على حديث أبي النعمان، وفي بعضها لفظ: (باب) قبل حديث أبي النعمان، ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة كما قدمناه؛ فافهم.
وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز مخالطة الحائض، وقد كان بنو إسرائيل يخصون الحائض في النَّوم والأكل والشرب، ولا يخالطونها بشيء أصلًا، وقد نسخ هذا.
الثاني: فيه طهارة بدن الحائض وثيابها.
الثالث: فيه إذا أصاب ثوبُ المصلي المرأةَ الحائضةَ؛ لا تضر صلاته.
الرابع: فيه أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء؛ لأنَّه عليه السَّلام قد أصاب ثوبه ميمونة، والغالب أن المصلي يرفع ثيابه إذا أصابت غيره فتصيب يده بدنها لا سيما وهي نائمة بجنبه.
الخامس: اخترعه بعض المتعصبين: أن الصلاة لا تبطل بمحاذاة المرأة.
قلت: وليس في الحديث ما يدل على هذا أصلًا غير أنَّه فيه: أنَّه عليه السَّلام صلى بجنب ميمونة وهي نائمة، وهو قائم، وقاعد، وساجد، فأين المحاذاة؟ وكأنَّ هذا القائل مراده الغمز في مذهب رأس المجتهدين وسيدهم أبي [1] حنيفة الإمام الأعظم: أن محاذاة المرأة تفسد الصلاة، وقد حفظ شيئًا هذا القائل وغاب عنه أشياء؛ فإن المحاذاة المفسدة عنده أن يكون الرجل والمرأة مشتركين في الصلاة أداءً وتحريمة، وغير ذلك من الشروط المقررة في كتب الفروع، والمرأة في هذا الحديث ليست كذلك، بل ليست بطاهرة أصلًا؛ فهذا كلام من لم يشم شيئًا من رائحة العلم، بل شم التعصب، والتعنت، والعناد، ألم يعلم أن الإمام الأعظم حين أخذ الحكم في هذه المسألة كان إمامهم منيًا في ظهر أبيه؛ فعليك بالأدب تنل [2] أعالي الرتب؛ فافهم، وتمامه فيما سبق.
==================
[1] في الأصل: (أبو)، وليس بصحيح.
(1/854)
(108) [باب: هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد]
هذا (بابٌ) بالتنوين (هل يَغمِز)؛ بفتح أوله، وكسر الميم من باب (ضرب)؛ أي: ينخس باليد (الرجل) وهو في الصلاة (امرأته) النائمة (عند) إرادة (السُّجود) في الصلاة (لكي يسجد) في مكان اضطجاعها؟ فإن فعل ذلك ما حكمه؟
قال إمام الشَّارحين: (يعني: إذا غمزها؛ فلا يترتب عليه من فساد الصلاة شيء، وبيَّن البخاري في هذا الباب صحة الصلاة ولو أصابها بعض جسده، وبيَّن في الباب السَّابق صحتها ولو أصابها بعض ثيابه) انتهى.
==================
(1/855)
[حديث: بئسما عدلتمونا بالكلب والحمار!]
519# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَمرو بن عَلي)؛ بفتح العين فيهما: هو الباهلي الفلاس، (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان البصري، (قال: حدثنا عُبيد الله)؛ بالتصغير: هو ابن عبد الله العمري المدني، (قال: حدثنا القاسم) هو ابن محمَّد بن أبي بكر الصديق الأكبر رضي الله عنهما، (عن عائشة): هي عمته الصديقة أم المؤمنينزوج النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (قالت)؛ أي: في جواب من قال: (يقطع الصلاة الحمار، والكلب، والمرأة)؛ أي: مرورها بين يدي المصلي، والذي قال ذلك: هو أبو هريرة، وأبو ذر، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم بحضرة عائشة رضي الله عنها، فقالت لهم: (بئسما) وكلمة (بئس) من أفعال الذم، كما أن كلمة (نِعْم) من أفعال المدح، وشرطهما: أن يكون الفاعل المظهر فيهما معرَّفًا باللَّام، أو مضافًا إلى المعرف بها، أو مضمرًا مميزًا بنكرة منصوبة، وههنا يجوز الوجهان؛ الأول: أن يكون (ما) بمعنى: الذي، ويكون فاعلًا لـ (بئس)، والجملة _أعني قوله: (عدَلتمونا)؛ بتخفيف الدَّال؛ أي: شبَّهتمونا، كما في رواية باب (لا يقطع الصلاة شيء)، أو جعلتمونا أو تسويتكم إيانا_ صلة الموصول، ويكون المخصوص بالذم محذوفًا؛ والتقدير: بئس الذي عدلتمونا (بالكلب والحمار) ذلك الفعل، والوجه الثاني: أن يكون فاعل (بئس) مضمرًا مميزًا، وتكون الجملة بعده صفة له، والمخصوص أيضًا محذوف؛ والتقدير: بئس شيئًا ما عدلتمونا بالحمار شيء، وفي الوجهين المخصوص بالذم مبتدأ، وخبره الجملة التي قبله؛ كذا قرره إمام الشَّارحين؛ والمعنى: لم شبهتمونا بهما مع شرف المرأة وخستهما؟!
ثم استدلت على ما أنكرته بقولها: (لقد رأيتُني)؛ بِضَمِّ الفوقية، واللَّام موطئة للقسم؛ والتقدير: والله لقد رأيتني، وكون الفاعل والمفعول ضميرين لشيء واحد من خصائص أفعال القلوب؛ والتقدير: رأيت نفسي، كذا أفاده الشَّارح.
وقال الكرماني: (إن كانت الرؤية بمعناها الأصلي؛ فلا يجوز حذف أحد مفعوليه، وإن كانت بمعنى: الإبصار؛ فلا يجوز اتحاد الضميرين).
وأجاب العلامة الفاضل الزمخشري في قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا}: (جاز حذف أحدهما؛ لأنَّه مبتدأ في الأصل، فيحذف كالمبتدأ)، وهذا مخالف لما ذكره في «المفصل»، و «الكشاف»: (لا يجوز الاقتصار على أحد مفعولي الحسبان).
وأجيب: بأنه قد روي عنه أيضًا: أنَّه إذا كان الفاعل والمفعول عبارة عن شيء واحد؛ جاز الحذف، وأمكن الجمع بينهما بأن القول بجواز الحذف فيما إذا اتحد الفاعل والمفعول معنًى، والقول بعدمه فيما إذا كان بينهما الاختلاف، والحديث من القسم الأول؛ والتقدير: رأيت نفسي معترضة مثلًا، أو أعطى للرؤية التي بمعنى الإبصار حكم الرؤية التي من أفعال القلوب، انتهى.
(ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي): جملة اسمية وقعت حالًا على الأصل؛ أعني بالواو؛ أي: صلاته من الليل (وأنا مضطجعة): جملة حالية أيضًا؛ أي: نائمة (بينه وبين القبلة)؛ أي: معترضة بينهما أمامه وليس بينه وبينها سترة؛ لأنَّها حينئذٍ غير مشروعة؛ لأنَّ السترة شرعت لدفع المار، ولا مار في ذلك الوقت، والنائم ليس له قوة على المشي ونحوه، (فإذا أراد) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (أن يسجد) أي: السُّجود في صلاته؛ (غمز رجليَّ)؛ بالتثنية، قال في «الصِّحاح»: غمزت الشيء بيدي؛ ومنه قوله:
وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما
وغمزته بعيني؛ قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30]، والمراد ههنا: الغمز باليد، وفي رواية للبخاري: (فإذا سجد؛ غمزني)، وفي رواية أبي داود: (فإذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجليَّ)، فبينت هذه الرواية أن المراد من الغمز: الضرب باليد، وهو الموافق لما قاله أهل اللُّغة، (فقبضتهما)؛ أي: أخرتهما عن مكان سجوده؛ ليسجد مكانهما،
%ص 740%
وبهذا صرَّح الطَّحاوي في روايته؛ حيث قالت: فإذا سجد؛ غمزني فرفعتهما فقبضتهما، فإذا قام؛ مددتهما، وللبخاري: (فإذا سجد؛ غمزني فقبضت رجليَّ، وإذا قام؛ بسطهما)، ولأبي داود: (فإذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجليَّ فضممتهما إليَّ ثم سجد)، ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة.
ففيه أن الرجل المصلي إذا غمز امرأته وهي نائمة عند السُّجود لأجل أن يسجد مكان رجليها؛ لا يفسد الصلاة، وليس فيه كراهة، وجه عدم الفساد: أن الغمز حركة أو حركتان لا ثالث لهما، وهو غير مفسد للصلاة، ووجه عدم الكراهة: أنَّه عليه السَّلام قد فعله، وهو لا يوصف بالكراهة، ولو كان مكروهًا؛ لما فعله أو لنهى عنه.
وفي الحديث: دليل على أنَّ لمس المرأة غير ناقض للوضوء، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور سلفًا وخلفًا؛ لأنَّه عليه السَّلام قد لمس عائشة بيده الشريفة ومضى في صلاته.
وتأوَّل الشَّافعية أنَّه عليه السَّلام مس عائشة بيده مع الحائل ويحتمل الخصوصية.
قلت: إنَّما زعموا هذا؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم: أن المس ناقض، ولا دليل لهم في ذلك، فإن قولها في الحديث: (غمزني) يدل على أنَّه بدون حائل؛ لأنَّه الأصل، ولو كان ثمة حائل؛ لصرحت بذلك، ولا يخفى أن اليد والرجل عند أهل الصرف واللُّغة كانتا بغير حائل، بل المس: وَقْعُ البشرة على البشرة، ويدل لذلك رواية أبي داود: (ضرب رجليَّ)، ولا يخفى أن الضرب لا يكون بحائل، بل بدونه، كما هو التحقيق.
ودعوى الخصوصية باطلة؛ لأنَّه لا بدَّ لها من دليل ولم يوجد، بل هذا الحكم عام، ويدل عليه أنَّه قد تكرَّر منه عليه السَّلام هذا الفعل، وهو يدل على العموم، ومن ادعى الخصوصية؛ فعليه الدليل، وتمامه فيما قدمناه.
فظهر أن الصَّواب: ما قلناه والعناد بعد ذلك مكابرة.
وفي الحديث: جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته.
وفيه: استحباب صلاة الليل.
وفيه: استحباب إيقاظ النائم لحاجة.
وفيه: دليل على أنَّ المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه، وهو قول الجمهور سلفًا وخلفًا، وبه قال الإمام الأعظم، وتبعه مالك والشَّافعي، ولا يخفى أن اعتراضها بين يديه أشد من مرورها.
وقال أحمد: يقطع الصلاة الكلب الأسود؛ لحديث أبي سعيد: (أن الكلب الأسود شيطان)، وذهب جماعة: إلى أن الصلاة يقطعها مرور الكلب، والحمار، والمرأة، وفي ذلك حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي ذر.
والجواب عنها من وجهين:
أحدهما: أن المراد بالقطع النقص؛ أي: نقص الخشوع؛ لشغل القلب بمرورها، وليس المراد إبطالها؛ لأنَّ المرأة يتغير [1] الفكر فيها، والحمار ينهق، والكلب يهوش، فلما كانت هذه الأشياء آيلة للقطع؛ أطلق عليها القطع مجازًا.
والثاني: أن الأحاديث الواردة في ذلك منسوخة بحديث: «لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم»، أخرجه الطَّحاوي، وبوَّب عليه البخاري، وقد صلى الشَّارع عليه السَّلام وبينه وبين القبلة عائشة، وكانت الأتان ترتع بين يديه ولم ينكره أحد، كما أخرجه البخاري عن ابن عبَّاس، فدل هذا على النَّسخ، ولهذا أنكرت عائشة رضي الله عنها على الذي ذكر عندها القطع بهذه الأشياء، وإنما أنكرت؛ لعلمها أن هذا الحكم منسوخ، فالظَّاهر: أنهم لم يبلغهم النَّسخ إلا منها.
وذهب عطاء وغيره: إلى أنَّه يقطعها المرأة الحائض، ورُدَّ بأن قد جاء في روايات هذا الحديث قالت: (وأنا حائض)، وحديث: (يقطع الصلاة اليهودي، والنصراني، والمجوسي، والخنزير)، ضعيف لا يحتج به.
وفي الحديث: أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، وهو حركة أو حركتان، والثلاث كثير.
وفيه: جواز الصلاة إلى النائم، وحديث ابن عبَّاس أنَّه عليه السَّلام قال: «لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث»، نص الحفاظ على أنَّ طرقه واهية وهو ضعيف لا يحتج به، فهو لا يقاوم ما روي في «الصَّحيح»، على أنَّ ما في «الصَّحيح» ناسخ له، وقد وَرَد أحاديث في النَّهي عن الصلاة خلف النائم أو المتحدث، ونص الحفاظ على أنَّها ضعيفة واهية؛ فافهم.
وفي الحديث: جواز الصلاة على الفراش، ومذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: على أنَّه تجوز الصلاة على البساط والطنفسة والفراش إذا كان يجد الساجد عليه حجم الأرض عند السُّجود، وبه قال الشَّافعي.
وزعم المالكية أن الصلاة على الطنفسة وشبهها مكروهة، ولا سَنَدَ لهم في ذلك، والحجة عليهم قول النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وفعله؛ ففي «البخاري» من حديث ميمونة قالت: (وكان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلي على الخُمرة)، وروى أبو نعيم عن ابن عبَّاس: (أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صلى على البساط)، فهذا دليل على أنَّ الصلاة على ذلك غير مكروهة، والأفضل الصلاة على الأرض وعلى ما تنبته الأرض، كما فعله الشَّارع وليس بعد النص إلا الرجوع إليه، والله تعالى أعلم، وهذا الحديث قد مضى مع ما يتعلق به في باب (الصلاة على الفراش)، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (تغير).
==================
(1/856)
(109) [باب المرأة تطرح عن المصلى شيئًا من الأذى]
هذا (بابٌ) بالتنوين (المرأة) مبتدأ (تطرح)؛ أي: ترمي، خبره (عن المصلي شيئًا من الأذى) وكلمة (من) بيانية؛ أي: النجس، كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]؛ أي: نجس، واقتصر إمام الشَّارحين على تنوين (باب)، وزعم العجلوني أنَّه يجوز تركه، وعليه؛ فالجملة حال من المضاف إليه، أو مستأنفة، انتهى، قلت: الظَّاهر: أنَّه بالتنوين فقط؛ لأنَّه على عدمه يختل التركيب والمعنى؛ فافهم.
قال ابن بطال: (هذه التَّرجمة قريبة من التراجم التي قبلها؛ لأنَّ المرأة إذا تناولت ما على ظهر المصلي؛ فإنَّها تقصد إلى أخذ ذلك من أي جهة كانت، فإن لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها بين يديه؛ فليس دونه) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن هذه التَّرجمة مستقلة بنفسها لا تَعلُّق لها بالأبواب والتراجم التي قبلها، فإن أحكام السترة والمرور قد أتمها البخاري وأكملها، وقد ذكر في هذا الباب والذي قبله مسائل في أحكام الصلاة؛ لأنَّه من تتمة كتاب (الصلاة)، وليس في الحديث مرور غير أنها قد تناولت القذر من ظهر المصلي، وهو ليس بمرور أصلًا، ومراد البخاري بهذا الباب: أن المرأة إذا طرحت قذرًا عن ظهرالمصلي؛ هل تفسد صلاته أم لا؟ فالفساد ناشئ من وقوع الأذى على ظهره وهو يصلي، هل يمضي في صلاته أم يقطعها؟
وذكر حديث الباب في باب مستقل وترجم له: (باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة؛ لم تفسد عليه صلاته)، ذكره في (الطهارة)، وإنما أعاده هنا لبيان اختلاف العلماء في ذلك، ولأن عادته تكرار الأحاديث؛ لأخذ الأحكام منها مع تغيير السند والمتن؛ فافهم.
==========
%ص 741%
==================
(1/857)
[حديث: اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش]
520# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد بن إسحاق) هو ابن الحصين بن جابر السلمي (السُّرْماري)؛ بِضَمِّ المهملة وسكون الرَّاء؛ كذا في «التقريب» و «لب الألباب»؛ نسبة إلى سرمار قرية من قرى بخارى، وهو الذي يضرب بشجاعته المثل، قتل ألفًا من الترك، مات سنة اثنتين وأربعين ومئتين، قاله الشَّارح، قلت: هو غير منسوب رواية الأكثرين، ولابن عساكر ما ذكرنا، ولأبي ذر والأصيلي: (السُّوْرَمارِي)؛ بِضَمِّ المهملة، وسكون الواو، مع فتح الرَّاء، بعدها ميم ثم راء مكسورة بينهما ألف، وقال الشَّارح: السَِّرْماري؛ بكسر المهملة وفتحها وسكون الرَّاء الأولى، ومثله في «الكرماني» و «ابن حجر»، (قال: حدثنا عُبيد الله) بالتصغير (بن موسى) هو ابن باذام الكوفي (قال: حدثنا إسرائيل) هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، (عن أبي
%ص 741%
إسحاق) هو عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي التَّابعي، تقدَّما في كتاب (العلم)، (عن عَمرو) بفتح العين (بن مَيْمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، بينهما تحتية ساكنة: هو أبو عبد الله الأَوْدِي _بفتح الهمزة وبالدَّال المهملة_ الكوفي، أدرك زمن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ولم يَلْقَه، وحج مئة حجة وعمرة، وأدَّى صدقته إلى عمال رسول الله عليه السَّلام، وهو الذي رأى قردة زنت في الجاهلية فاجتمعت عليها القردة ورجموها، توفي سنة خمس وسبعين، أفاده شارحنا في باب (إذا ألقي على ظهر المصلي قذر)، قلت: وعلى هذا فهو تابعي مخضرم، وهو غير عمرو بن ميمون المخزومي؛ فافهم، (عن عبد الله) هو ابن مسعود، الصَّحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة، وكان قصيرًا دقيق الساقين، وكان الريح يأخذه حين يمشي، فرآه بعض الصَّحابة فتبسم، فقال له النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «لَسَاق عبد الله بن مسعود في الميزان أثقل من أحُد»، وإنما أطلقه البخاري ولم ينسبه لأبيه؛ لأنَّه المراد عند الإطلاق، كما أنَّه إذا أُطلِق الإمام الأعظم؛ فالمراد به: أبو حنيفة النعمان الكوفي التَّابعي رأس المجتهدين وسيدهم؛ فافهم، (قال: بينما)؛ بالميم ظرف مضاف إلى الجملة بعده، والعامل فيه معنى المفاجأة التي في (إذ قال قائل)، ولا يجوز أن تعمل فيه (يصلي)؛ لأنَّه حال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المضاف إليه (بين)، فلا يعمل فيه.
وزعم العجلوني (بينما) بالميم الكافة لـ (بين) عن الإضافة، انتهى.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ (بينا) بالألف كـ (بينما) بالميم مكفوفان عن الإضافة إلى المفرد ومضافان إلى الجملة، وهو مذهب الجمهور، وذهب قوم إلى أن (ما) والألف كافتان عن الإضافة، والجملة بعدهما لا محل لها من الإعراب، وذهب آخرون إلى أن الألف لا تكف عن الإضافة إلى الجملة، بخلاف (ما)، والصَّحيح الأول، أفاده السيوطي في «همع الهوامع»، إذا علمت هذا؛ ظهر لك فساد ما زعمه العجلوني من وجوه لا نطيل بذكرها؛ فافهم.
(رسول الله صلى الله عليه وسلم): مبتدأ خبره قوله: (قائم) حال كونه (يصلي)؛ أي: منفردًا ليس معه أحد من أصحابه، ويحتمل أنها الضُّحى، أو نفلًا محضًا، أو ركعتي الطواف، ويدل عليه قوله: (عند الكعبة)؛ أي: البيت الحرام؛ أي: مقابل الكعبة (وجمعُ قُرَيْش)، وفي (الفرع): (وجمعٌ من قُرَيْش)؛ بِضَمِّ القاف، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، مصغر قرش، وتصغيره للتعظيم، المراد بهم الأربعة المذكورون قريبًا؛ يعني: المراد الكفار منهم، فهو عام أريد به الخصوص بقرينة القصة، لا يقال: كيف جاز الدعاء على كل قريش وكان فيهم مسلمون كالصديق الأكبر رضي الله عنه وغيره؛ لأنَّا نقول: اللَّفظ لا عموم له، ومراده بالكفار منهم، ففيه: أن لفظ (قريش) موضوع لهذه القبيلة على العموم؛ فتأمل، (في مجالسهم): جمع مجلس، و (قريش): مأخوذ من التقرش؛ وهو التجمع لاجتماعهم بعد افتراقهم، وقيل: من القرش؛ وهو الكسب؛ لأنَّهم كانوا تجارًا، وقد سأل سيدنا الإمام معاوية الكبير خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحقيق سيدنا عبد الله بن عبَّاس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن لم سميت قريش؟ فقال: سميت بدابة في البحر يقال لها: القرش، تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا يعلى عليها.
وأجمعوا على أنَّه إذا أريد به الحي؛ صرف، وإن أريد به القبيلة؛ منع من الصرف، كما في سائر أسماء القبائل، فقريش: هم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من ولد النضر؛ فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه، وربما قالوا: قرشي [1]، وقيل: قريش: بنو فهر بن مالك بن النضر، فمن لم يلده؛ فهو ليسبقرشي، والأصح الأول، قال تبع:
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تترك [2] ... فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلًا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي يكثر ... القتل فيهم والخموشا [3]
وتمامه في شرحنا على «الأزهرية» عند إعراب قوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1].
(إذ قال قائل منهم) هو أبو جهل كما صرح به مسلم في روايته، وقدمنا أن ما في (إذ) من معنى المفاجأة هو العامل في (بينما)، ولا يصح أن يعمل فيه (يصلي)؛ لأنَّه حال من رسول الله صلى الله عليه وسلم المضاف إليه (بين)، فلا يعمل فيه، وهذا ما ذكره إمام الشَّارحين والكرماني، وتبعهما البرماوي.
ونظر فيه العجلوني بأن (ما) كافة لها عن الإضافة إلى المفرد، وزعم ابن حجر أن الظَّاهر: أن المضاف إليه (بين) هو الجملة الاسمية، و (ما) زائدة على كل حال، انتهى.
قلت: قد نقلنا عن «الهمع» آنفًا أن (بينا) و (بينما) يضافان إلى الجملة عند الجمهور، وهو الأصح، فما زعمه العجلوني وابن حجر مبني على القول الشاذ، فلا يعول عليه؛ فافهم، وتمامه في «إيضاح المرام فيما وقع في الفتح من الأوهام».
(أَلا تنظرون)؛ بفتح الهمزة، أداة استفتاح مراد بها التنبيه (إلى هذا المرائي): اسم فاعل من الرياء؛ وهو التعبد في الملأ دون الخلوة؛ ليراه الناس، وهذه الجملة والتي بعدها مقول القول، والذي قال هذا هو أبو جهل، كما صرح به مسلم من رواية زكريا، وزاد فيه: (وقد نُحِرَت جزور بالأمس) (أيُّكم) بتشديد التحتية استفهامية (يقوم إلى جَزُور)؛ بفتح الجيم وضم الزاي، من الإبل يقع على الذكر والأنثى، وهي تؤنث، والجمع: الجزر، يقال: جزرت الجزور أجزُرها؛ بالضم، واجتزرتها؛ إذا نحرتها، قاله إمامنا الشَّارح هناك.
وزعم ابن حجر أن الجزور ما يجزر؛ أي: يقطع، وردَّه شارحنا في «عمدة القاري»، فقال: (لا يدرى من أيِّ موضع نقله؟) واعترضه العجلوني فزعم أنَّه نقله من كتب اللُّغة، ففي «الصِّحاح»: جزرت الجزور أجزُرها؛ بالضم، واجتزرتها؛ إذا نحرتها، وفي «المحكم»: الجزور: الناقة المجزورة، والجمع: الجزائر، وفي «القاموس»: الجزور: البعير، أو خاص بالناقة المجزورة، انتهى.
قلت: هذا مبلغه من العلم، وما زعمه مردود عليه، فإنَّه لم يصرح أحد من أئمة اللُّغة أن معناه القطع، كما زعمه ابن حجر، فظهر أنَّه تفسير من عنده لا مستند له فيه ولا يعول عليه، بل ما ذكر من هذه النقول يشهد لما قاله إمامنا الشَّارح، فهذا دليل له لا عليه؛ فانظر التعصب البارد من ذي الذهن الشارد، وتمامه في «إيضاح المرام»؛ فافهم.
(آل فلانٍ) بالتنوين، اسم مبهم لقبيلة من قبائل العرب لم تعرف أسماؤهم، قاله الشَّارح، وزعم ابن حجر يشبه أن يكونوا آل أبي معيط؛ لمبادرة عقبة بن أبي معيط إلى إحضار ما طلبوه منه، انتهى.
قلت: هذا رجم بالغيب؛ لأنَّه ليس له دليل، والدعوى بدون برهان لا تسمع، ومبادرة عقبة لذلك لا يدل على ما زعمه؛ لأنَّه لا يلزم من مبادرته أن يكون الجزور لآل أبي معيط، وإنما كان المبادر لأجل أن يفوز بهذه الشقاوة حتى يرضي أبا جهل، ويكون عنده مقدمًا مقربًا، على أنَّه قد اختلف في الذي بادر؛ فقيل: إنَّه أبو جهل نفسه؛ لقوله في الحديث: «فانبعث أشقاهم»، ولا ريب أنَّه أشقاهم، كما سيأتي؛ فافهم.
(فيَعمِدُ) بالرفع عطف على (يقوم)، ويروى بالنصب؛ لأنَّه وقع بعد الاستفهام، قاله إمامنا الشَّارح، وهو بفتح التحتية وكسر الميم،
%ص 742%
من باب (ضرب)، لكنه يتعدى باللَّام، كما ذكره في «الصِّحاح»؛ حيث قال: عمدت للشيء أعمد عمدًا: قصدت له؛ أي: تعمدت، انتهى، (إلى فرثها)؛ أي: لفرثها على ما في «الصِّحاح» (ودمها)، والفرث: التفل الذي في الكرش، وقال ابن عبَّاس: إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كونها؛ كان أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا، وأعلاه دمًا؛ يعني: أن أوسطه يكون مادة اللبن، وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن؛ لأنَّهما لا يكونان في الكرش، بل الكبد يجذب صفارة الطعام المهضم في الكرش، وكل حيوان له كرش إلا بني آدم، فإنَّه ليس له كرش، بل معدة وبها يجتمع المأكول وينهضم ويتولد دمًا وبلغمًا وسودًا وصفرًا، ويجري كل واحد إلى مكانه، فالدم مقره القلب، وسلطانه الدماغ، وتمامه في كتب الطب، وقد أغفل هذا المعنى العجلوني ولم يتعرض له ولم يصب في ذلك؛ لأنَّه مهم؛ فافهم، (وسَلَاها)؛ بفتح السين المهملة واللَّام، وبالقصر؛ وهي الجلدة التي يكونفيها الولد، والجمع: أسلاء، وخص الأصمعي السلى بالماشية، وفي الناس بالمشيمة، وفي «المحكم»: السلى: يكون للناس والخيل، وفي «الصِّحاح»: السلى؛ مقصور: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي، إن نزعت عن وجه الفصيل بساعة؛ يولد، وإلا؛ قتلته، وكذلك إذا انقطع السلى في البطن، وألف (السلى) منقلبة عن ياء تحتية، ويقويه ما حكاه أبو عبيد عن بعضهم أنَّه يقول: سليت الشاة؛ إذا نزعت سلاها، أفاده شارحنا الهمام هناك، وتخصيص الكرماني (السلى) بما يكون فيه ولد الناقة؛ تفسير وتخصيص من عنده مردود عليه؛ لأنَّه مخالف لأئمة اللُّغة؛ فليحفظ، (فيجيء به) أي: بما ذكر، (ثم يمهلُه)؛ بالرفع أو النصب تبعًا لـ (يعمد)، وهو من الإمهال؛ وهو الانتظار؛ يعني: ينتظره (حتى إذا سجد)؛ أي: إلى أن يسجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فهو غاية للإمهال [4]؛ (وضعه)؛ أي: ما ذكر، وهو جواب (إذا)، زاد المؤلف سابقًا: (على ظهره) (بين كتفيه)؛ بالتثنية على الإضافة، كما قدمناه، وكأنَّه أمره أن يقف خلف ظهره، فلم يدر إلا وقد وضعه عليه، (فانبعث أشقاهم)؛ أي: انتهض وأشرع، وهو مطاوع (بعث)، يقال: بعثه وانبعثه بمعنًى؛ فانبعث؛ أي: أشقى القوم؛ وهو عقبة بن أبي مُعَيط؛ بضم أوله، وفتح ثانيه، كما سماه شعبة عند مسلم، وكذا الإسماعيلي، ورواه أبو داود في «مسنده» بلفظ: (فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهره)، وقال الدَّاودي: أشقى القوم: هو أبو جهل، قلت: وعليه فكونه أشقاهم ظاهر في نفس الأمر، لكن الذي تولى ذلك هو عقبة؛ فافهم، والصَّحيح الأول، وعليه الشَّارحون وإمامهم، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشد كفرًا منه؛ لأنَّه مع مشاركتهم في الكفر انفرد عقبة بالمباشرة فكان أشقاهم، ولهذا قتلوا في الحرب وهو قُتِلَ صبرًا، كما سيأتي.
(فلمَّا سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في صلاته؛ (وضعه) أي: ما ذكر على ظهره (بين كتفيه)؛ بالتثنية والإضافة.
فإن قلت: لم لم يره النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حين وضعه، وقد وَرَد أنَّه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه؟
قلت: يحتمل أنَّه لم يره؛ لأنَّه مشغول بالعبادة ومستغرق فيها، ويحتمل أنَّه رآه وتركه حتى فعل ما فعل؛ لينفذ قضاء الله تعالى فيهم، أو لأنَّه كان الإسلام وقتئذ ضعيفًا فخشي وقوع الفتنة فتركه، والله أعلم.
(وثبت) أي: استقام أو استمر (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في صلاته (ساجدًا)؛ أي: لا يرفع رأسه، كما [في] رواية المؤلف هناك؛ أي: من السُّجود بل أبطأ فيه، (فضحكوا)؛ أي: الجمع من قريش؛ أي: استهزاءً، قاتلهم الله تعالى (حتى مال بعضهم إلى)؛ بمعنى: على، كما في رواية الأربعة، أو بالعكس (بعض من الضحك)؛ أي: من كثرته، وكأنَّه وصل إلى حد القهقهة، عليهم الغضب.
وزعم العجلوني أن في رواية غير هذا الموضع: (حتى مال بعضهم إلى بعض من كثرة الضحك).
قلت: فيه خفاء؛ لأنَّه لم يبين أن هذه في «البخاري» أم في غيره؟ وفي أي بحث هي؟ ومن رواها؟ والجهل في ذلك غير مقبول؛ فافهم.
(فانطلق منطلق): لم يعرف اسمه، وزعم ابن حجر يحتمل أنَّه ابن مسعود الراوي، انتهى، قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّه لو كان هو؛ لقال: فانطلقتُ، وإنما مراده أن المنطلق غيره، ويدل عليه رواية المؤلف في (الطهارة)، ولفظه هناك: قال _أي: ابن مسعود_: (فانبعث أشقى القوم به فنظر حتى إذا سجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئًا لو كان لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة)، فهذا يدل على أنَّ ابن مسعود قد كان حاضرًا وقتئذٍ، واستمر حضوره حتى جاءت فاطمة ونظر ما فعلته، وأن المنطلق غيره؛ لقوله: (وأنا أنظر)؛ أي: إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأنه قد ثبت ساجدًا وهو على ظهره إلى أن جاءت فاطمة، فهذا يدلُّ على أنَّه لم يفارقه، وأنَّه لم ينطلق، بل كان غيره؛ فليحفظ، (إلى فاطمة) هي ابنة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (وهي جويرية [5])؛ أي: صغيرة، وهو تصغير جارية، قاله الشَّارح، والظَّاهر: أنَّها كانت دون عشر أو دون البلوغ، وتزوجها علي بن أبي طالب وكان سنُّها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، بعد وقعة أحد، توفيت بعد أبيها بستة أشهر بالمدينة يوم الثُّلاث، لثلاث خلون من رمضان، ودفنت ليلًا، وفضائلها كثيرة، وكفى بها شرفًا كونها بضعة من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، أفاده الشَّارح هناك، (فأقبلت) أي: على أبيها عليه السَّلام (تسعى) أي: تمشي إليه بلين ورفق، وزعم العجلوني؛ أي: تسرع، قلت: هو تفسير من عنده؛ لأنَّ السعي ليس بمعنى: الإسراع، بل معناه: المشي عادة، كما ذكرنا، ويدلُّ عليه قوله عليه السَّلام: «إذا أتيتم الصلاة؛ فائتوها وأنتم تسعون، ولا تأتوها هرولة»، ولا يخفى أن الإتيان إلى الصلاة بالإسراع مكروه، وهو الهرولة، أما السعي؛ فهو بلين ورفق، وهو مراد الحديث وحديث الباب؛ لأنَّ الصلاة المطلوب فيها التذلل والخضوع في المشي إليها، والإسراع ينافيه؛ فافهم، (وثبت النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم ساجدًا)؛ أي: استقام أو استمر في صلاته حالة كونه ساجدًا لا يرفع رأسه من السُّجود، بل أبطأ فيه، (حتى ألقته)؛ أي: رمت ما وضعوه عن ظهره عليه السَّلام، وعند المؤلِّف سابقًا: (فطرحته عن ظهره)، وإنَّما لم يطرحه ابن مسعود رضي الله عنه مع أنَّه كان حاضرًا وقتئذٍ؛ لأنَّه لم يكن له بمكة عشيرة؛ لكونه هذليًّا حليفًا، وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارًا، فخاف من أذاهم له، ويدلُّ عليه ما عند المؤلف قال: (وأنا أنظر لو كان لي منعة) _أي: عزٌّ وجاه_؛ (لطرحته)، كما صرح به مسلم، وعند البزار: (وأنا أرهب منهم)؛ فافهم.
(وأقبلت) أي: فاطمة (عليهم) أي: على الجمع من قريش (تسُبهم)؛ بِضَمِّ السين المهملة؛ أي: تشتمهم، زاد البزار في روايته: (فلم يردُّوا عليها شيئًا)، ففيه: دليل على قوة نفس فاطمة الزهراء مع صغرها؛ لشرفها في نفسها وقوتها؛ لكونها صرَّحت بشتمهم وهم من رؤساء قريش، فلم يردُّوا عليها؛ خوفًا من أن تطرحه عليهم؛ لشدَّة تغيُّظها من هذا الفعل القبيح، قاتلهم الله تعالى، وهذا بعض أفعال الكلب المملوءة بالمكر والحسد والفجور، كما بيَّنتُ ذلك في كتابي «إنجاء الغريق المحزون [6]»؛ فافهم، (فلما قضى رسول الله) وللأصيلي: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم الصلاة)؛ أي: فرغ من صلاته وأتمَّها، وعند البزار: (فلما قضى صلاته)، وكذا للمؤلف في (الطهارة)، ونحوه لمسلم والنسائي؛ (قال اللهم) أي: يا الله (عليك بقريش)؛ أي: بهلاكهم، أو ألصق عذابك بكفار قريش، أو عليك بقريش الكفار، فهو على حذف مضاف أو صفة، وزاد البزار من رواية زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق: (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد) (اللهم عليك بقريش) والمراد: الكفار منهم، أو من سمَّى منهم؛ وهم أبو جهل وأصحابه، فهو عامٌّ أريد به الخصوص بقرينة القصة، لا يقال: كيف جاز الدعاء على كل قريش وفيهم مسلمون؟ لأنا نقول: لا عموم للَّفظ؛ فافهم، (اللهم عليك بقريش) وعند أبي داود عن شعبة في هذا الحديث قال ابن مسعود: (لم أره دعا عليهم إلا يومئذٍ)، وإنما استحقُّوا الدعاء حينئذٍ؛ لما قدموا عليه من التهكُّم والإيذاء حال عبادة
%ص 743%
ربِّه سبحانه وتعالى (ثلاثًا)؛ أي: قال هذه الجملة وكررها ثلاث مرات، وزاد مسلم في رواية زكريا: (وكان إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، وإذا سأل؛ سأل ثلاثًا)، وعند المؤلف في (الطهارة): (فيشق ذلك _أي: الدعاء_ عليهم؛ إذ دعا عليهم، قال _أي: ابن مسعود_: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة)؛ يعني: كان اعتقادهم إجابة الدعوة لا من جهة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، بل من جهة المكان؛ لشرف البلد ولتعظيمهم له مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم الخليل عليه السَّلام، وعند مسلم من رواية زكريا: (فلما سمعوا صوته؛ ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته)، ففيه: معرفة الكفار صدق النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لخوفهم من دعائه، ولكنْ لأجل شقائهم الأزلي؛ حملهم الحسد والعناد على ترك الانقياد له عليه السَّلام.
وفيه: جواز الدعاء على الظالم، وفصَّل بعضهم فقال: محلُّه ما إذا كان كافرًا، أمَّا المسلم؛ فيستحب الاستغفار له والدعاء له بالتوبة، قاله الشَّارح هناك.
وزعم ابن حجر أنَّه لو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر؛ لما كان بعيدًا؛ لاحتمال أنَّه عليه السَّلام اطَّلع عليهم أنَّهم لا يؤمنون، والأَولى أن يُدْعَى لكلِّ حيٍّ بالهداية، انتهى.
قلت: وفيه نظر، بل الحديث دالٌّ على جواز الدعاء على الكافر والظالم، ويدلُّ عليه عموم قوله تعالى حكاية عن نوح: {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وقوله تعالى: {أَلا لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، لأنَّ في الدعاء بالهلاك لهم تخليص الناس من شرِّهم وأذاهم لا سيما من يتظاهر في زماننا في إيذاء المسلمين ويتجاسرون عليهم بالفجور والشرور، فلا ريب أن الدعاء عليهم جائز، بل لو قيل بوجوبه؛ لم يبعد لا سيما جماعة الكلب العقور المحشوَّة بالمكر والحسد والشرور، اللهم أحسن عاقبتنا.
(ثم سمَّى) أي: عيَّن أفرادَ الجمع من قريش النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في دعائه ما كان أجمله أولًا، ودعاؤه عليه السَّلام عليهم المجمل والمفصل إنَّما كان خارج الصلاة بعد الفراغ منها؛ لقوله فيما تقدم: (فلما قضى الصلاة)، ولمسلم: (فلما قضى صلاته)، وكذلك عند البزار وأبي داود، لكن في «مسلم»: أنَّه كان مستقبل القبلة، وذلك من عادته عليه السَّلام في الدعاء أنَّه يدعو دبر الصلاة مستقبل القبلة، ووقع عند المؤلف في (الطهارة): (فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه ثم قال: اللهم ... )؛ الحديث، ففيه: أنَّه قد يُتوَّهم أن الدعاء وقع في الصلاة؛ وهو ممنوع، فإنَّ تصريح المؤلف هنا ومسلم وغيرهما بقوله: (فلما قضى الصلاة) يدلُّ على أنَّه وقع بعد الفراغ من الصلاة، على أنَّ [7] كلمة (ثم) تشعر بمهلة بين الرفع والدعاء، وقد وقع بهذه المهلة بقية أفعال الصلاة، ويحتمل أن الراوي اختصر ذلك، والصَّواب: أن الرواية هناك مختصرة من الرواية هنا، ويدلُّ لها ما في «مسلم» وغيره، والروايات تفسِّر بعضها بعضًا؛ فليحفظ.
فقال: (اللهم عليك بعَمرو بن هشام)؛ بفتح العين: المخزومي، وعند المؤلف في (الطهارة): (اللهم عليك بأبي جَهل)؛ بفتح الجيم، وهو كنية عمرو بن هشام، فلعله عليه السَّلام سمَّاه وكنَّاه معًا.
قلت: بل سمَّاه تارة، وكنَّاه أخرى؛ لأنَّه عليه السَّلام من عادته إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، كما في «مسلم»، ويعرف أيضًا بابن الحنظلية، وكان أحول مأبونًا؛ لقول عتبة بن ربيعة فيه: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره، وكان يكنَّى في الجاهلية: بأبي الحكم، فكنَّاه عليه السَّلام بأبي جهل، وفيه يقول الشاعر:
الناس كنَّوه أبا حكم ... والله كنَّاه أبا جهل
وقيل: يكنَّى أبا الوليد، ولمَّا رآه عليه السَّلام؛ قال: «هذا فرعون هذه الأمة».
(وعُتْبةَ) بِضَمِّ العين، وسكون الفوقية، والجر بالفتحة، (بن رَبيعة)؛ بفتح الرَّاء، بالجر بالفتحة، ابن عبد شمس، (وشيبة بن ربيعة) هو أخو عتبة، (والوَلِيد بن عُتْبة)؛ بِضَمِّ العين وسكون المثناة الفوقية، وواو الوَلِيد مفتوحة ولامه مكسورة، وهو المذكور آنفًا، ووقع عند مسلم من رواية زكريا: (والوليد بن عقبة)؛ بالقاف، وهو وهَمٌ نبَّه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق شيخ مسلم على الصَّواب، أفاده إمامنا الشَّارح هناك، (وأُمَيَّةَ)؛ بالجر بالفتحة عطفًا على المجرور، وهو بِضَمِّ الهمزة، وتخفيف الميم، وتشديد التحتية (بن خلف) هو ابن صفوان بن أمية، وعند المؤلف في (الطهارة): (أو أُبَي بن خلف) بالشك من شعبة، والصَّحيح: أميَّة؛ لأنَّ المقتول ببدر أميَّة بإطباق أصحاب المغازي عليه، وأخوه أُبَي بن خلف قُتِلَ بأُحُد، قاله الشَّارح، (وعُقْبة) بِضَمِّ العين وسكون القاف (بن أبي مُعَيْط)؛ بِضَمِّ الميم، وفتح المهملة، وسكون التحتية، آخره طاء مهملة، واسمه أبان بن أبي عمرو لعنه الله، (وعُمَارة) بِضَمِّ العين المهملة، وتخفيف الميم (بن الوَلِيد)؛ بفتح الواو مع كسر اللَّام، ابن المغيرة، وعند المؤلف في (الطهارة): (وعد السَّابع فلم يحفظه)، قال إمامنا الشَّارح: ولم يذكره الراوي هناك، وههنا ذكره؛ لأنَّه هناك نسيه وهنا تذكره، انتهى، وقد خبط الكرماني هنا وخلط؛ فاجتنبه، ونقله العجلوني عنه؛ فافهم.
(قال عبد الله) أي: ابن مسعود رضي الله عنه: (فوالله) وعند المؤلف: (فوالذي نفسي بيده)، وعند مسلم: (والذي بعث محمَّدًا بالحق) وعند النسائي: (والذي أنزل عليه الكتاب)، والمراد باليد: القدرة؛ أي: بقدرته، ولعلَّ ابن مسعود قال ذلك كله تأكيدًا وتأسيسًا لكلامه، ففيه: جواز الحلف من غير استحلاف، وإنما صدَّر كلامه باليمين؛ لشدَّة تثبُّته فيما يقوله فيهم لعنهم الله، (لقد رأيتهم)؛ أي: الجمع من قريش، زاد المؤلف: (لقد رأيت الذين عدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) (صرعى): جمع صريع، كجرحى جمع جريح، مفعول ثانٍ لـ (رأيت)، قاله إمامنا الشَّارح وتبعه القسطلاني؛ أي: مقتولين.
وزعم العجلوني أنَّه ينبغي أن يكون حالًا؛ فإنَّ (رأيت) بصرية، وإن أمكن توجيه الأول بمعنى: مقتول، انتهى.
قلت: وفيه بُعد؛ لأنَّ الصَّواب: كونه مفعولًا ثانيًا؛ لأنَّ (رأيت) علمية؛ بمعنى: اعتقدت؛ أي: صِدْقه عليه السَّلام في الدعاء عليهم حيث إنَّه نفذ فيهم قريبًا، ولهذا أكَّده بالأيمان؛ فافهم.
(يوم بدر): هي اسم موضع الغزوة العظمى المشهورة، وهي ماء معروف على نحو أربع مراحل من المدينة مذكرًا ومؤنثًا، وقيل: بدر: بئر كانت لرجل يسمى بدرًا، فسميت باسمه، انتهى، (ثم سُحِبوا)؛ بِضَمِّ أوله على البناء للمفعول؛ أي: جُرُّوا كما يُجرُّ الكلب المنتن (إلى القَلِيب)؛ بفتح القاف وكسر اللَّام، وهو البئر قبل أن تطوى، يذكَّر ويؤنَّث، وقال أبو عبيد: هي العادية القديمة من لدن عاد لا يعرف صاحبها، وقال ابن سيده: هي البئر مطلقًا، وجمع القلة: أقلبة [8]، والكثرة: قُلُب، أفاده إمامنا الشَّارح، (قَلِيبِ بدر)؛ بالجر بدل من سابقه؛ على حد قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 16 - 17]، ويجوز فيه الرفع والنصب من جهة العربية، أمَّا الرفع؛ فعلى أنَّه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هو قليب بدر، وأمَّا النصب؛ فعلى تقدير: أعني قليبَ بدر، قاله إمام الشَّارحين، فأفاد أن الرواية بالجر فقط، وبهذا ظهر فساد تعميم العجلوني الأوجه الثلاثة مع عدم بيان الرواية منها؛ فافهم.
زاد شعبة في روايته: (إلا أميَّة فإنَّه تقطَّعت أوصاله؛ لأنَّه كان بادنًا؛ أي: سمينًا، وإلا عمَارة فإنَّه مات في خلافة عمر رضي الله عنه في أرض الحبشة)، فعلى هذا يحمل قوله: (لقد رأيتهم)؛ أي: رأيت أكثرهم؛ فتأمل، وقد يقال: إنَّه رآهم جميعًا صرعى؛ أي: مطرحين في القَلِيب ولا يدري هل قتلوا جميعًا أم أكثرهم؟ فأخبر عمَّا رآه منهم؛ فهو على إطلاقه؛ فتدبَّر.
واعلم أن أبا جهل قتله معاذ بن عمرو بن
%ص 744%
الجموح ومعاذ بن عفراء [9]، كما ذكره في «الصَّحيحين»، ومرَّ عليه ابن مسعود رضي الله عنه وهو صريع، فاحتزَّ رأسه، وأتى به النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رأس عدوِّ الله، فنَفَّله النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بسيفه، وقال: «الحمد لله [الذي] أخزاك يا عدوَّ الله، هذا كان فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر»، وفي رواية البيهقي: (فخرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدًا)، قلت: ففيه: دليل على استحباب سجدة الشُّكر، وأنَّها مشروعة، وعلى أنَّ الإنسان إذا كان له عدوٌّ فهلك، أو حاجة قضيت؛ أن يحمد الله ويسجد لله تعالى شكرًا لما أنعمه عليه؛ فليحفظ.
وأمَّا عتبة بن ربيعة؛ فقتله حمزة، وقيل: علي.
وأمَّا شيبة بن ربيعة؛ فقتله حمزة أيضًا.
وأمَّا الوليد بن عتبة؛ فقتله عبيدة بن الحارث وقيل: علي.
وأما أميَّة بن خلف؛ فقيل: قتله رجل من الأنصار، وقيل: قتله خارجة بن زيد، وقيل: حبيب بن أساف، وفي السِّيَر من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن بلالًا رضي الله عنه خرج إليه ومعه نفر من الأنصار، فقتله، وذكر ابن الجوزي أنَّه عليه السَّلام قتله وكان بدينًا؛ أي: سمينًا، فلما قتل؛ انتفخ، فألقوا عليه التراب حتى غيبه، ثم جُرَّ إلى القليب فتقطَّع قبل وصوله إليه، وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى في حقهم خطابًا لنبيِّه الأعظم صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، وفيه نزل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، وهو الذي كان يعذب بلالًا رضي الله عنه في مكة.
وأما عقبة بن أبي معيط؛ فقتله علي رضي الله عنه، وقيل: عاصم بن ثابت، والأصح: أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قتله بعد انصرافه من بدر على ثلاثة أميال مما يلي المدينة، فهو لم يقتل ببدر، بل حمل منها أسيرًا، فقتله عليه السَّلام بهذا الموضع، ويسمَّى عرق الظبية، وهو من الروحاء، وقيل: إنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتقتلني من بين سائر قريش؟ قال: «نعم»، ثم قال: «بينا أنا بفناء الكعبة وأنا ساجد خلف المقام؛ إذ أخذ بمنكبي، فلف ثوبه على عنقي، فخنقني خنقًا شديدًا، ثم جاء مرة أخرى بسلى جزور بني فلان»، وكان عقبة من المستهزئين أيضًا، وذكر ابن حبيب أنَّه من زنادقة قريش.
وأمَّا عمارة بن الوليد؛ فإنَّه مات بأرض الحبشة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وله قصة مع النجاشي، وحاصلها: أن عمارة قد تعرض لامرأة النجاشي فأمر ساحرًا فنفخ في إحليل عمارة من سحره عقوبةً له، فتوحش وصار مع البهائم إلى أن هلك لعنه الله.
(ثم قال رسول الله) وللأصيلي: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بعد سحبهم وإلقائهم في القليب مع غيرهم؛ لأنَّ الذين ألقوا فيه بضعة وعشرون رجلًا، كما رواه قتادة عن أنس عن أبي طلحة، وفي رواية: (أربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فألقوا في طوًى من أطواء بدر)، وكلمة (ثم) تشعر بها.
وزعم العجلوني؛ أي: بعد قتلهم.
قلت: وفيه بُعد؛ لأنَّهم لم يصيروا من أصحاب القليب إلا بعد إلقائهم فيه؛ فافهم.
(وأُتْبع أصحاب القليب لعنة): (وأُتبع)؛ بِضَمِّ الهمزة، إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّ الله أتبعهم اللعنة؛ أي: كما أنهم مقتولون في الدنيا مطرودون عن رحمة الله في الآخرة، ويروى: (وأَتبع)؛ بفتح الهمزة، ويروى: بلفظ الأمر، فهو عطف على قوله: (اللهم عليك بقريش)؛ أي: قال في حياتهم: اللهم أهلكهم، وقال في هلاكهم: أتْبِعْهم اللعنة، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: فيكون على الأول فعلًا ماضيًا مبنيًّا للمفعول، و (أصحاب): مرفوع نائب فاعل، وعلى الثاني: منصوب، والله أعلم.
فإن قلت: إلقاؤهم في البئر دفنٌ لهم، والحربيُّ لا يجب دفنه، بل يترك في الصحراء، وهم كانوا حربًا.
قلت: إلقاؤهم في البئر كان تحقيرًا لهم؛ لئلا يتأذى الناس برائحتهم، ولم يكن دفنًا.
فإن قلت: في «سنن الدارقطني»: من سننه عليه السَّلام في مغازيه: إذا مرَّ بجيفة إنسان؛ أمر بدفنه ولا يسأل عنه مؤمنًا كان أو كافرًا.
قلت: إنَّما كان لا يسأل؛ لأنَّه كان يعلم بالوحي أنَّه إذا كان مؤمنًا؛ كان يستحقُّ الدفن؛ لكرامته، وإن كان كافرًا؛ فلئلا يتأذى الناس برائحته، على أنَّ المراد بدفنه ليس دفنًا شرعيًّا، بل صبُّ التراب عليه؛ للمواراة.
فإن قلت: صبُّ التراب عليهم كان يقطع رائحتهم.
قلت: كان إلقاؤهم في البئر أيسر عليهم في ذلك الوقت مع زيادة التحقير لهم.
فإن قلت: كيف كان إلقاؤهم في البئر والناس ينتفعون بمائها؟
قلت: البئر لم يكن فيها ماء، وكانت عادية [10] مهجورة، وقيل: إنَّه وافق أنَّه كان حفرها رجل من بني النار، اسمه بدر بن قريش بن مخلد بن النضر بن كنانة، الذي سميت قريش به على أحد الأقوال، فكان ذلك فألًا مقدمًا لهم، انتهى.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة؛ حيث إنَّ فاطمة رضي الله عنها ألقت وطرحت عن أبيها عليه السَّلام الأذى وهو في الصلاة ولم تضر صلاته، كما ذكرناه أول الباب.
قال الكرماني: وفي الحديث: الدعاء على الكفار إذا آذوا المؤمنين، وكان هؤلاء ممن لا يرجى دخولهم في الإسلام، وأجاب الله دعوته فيهم، وأنزل في شأنهم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ}، وأمَّا من رُجي منهم الإسلام؛ فلم يدع عليهم، بل دعا لهم بالهداية والتوبة والدخول في الإسلام، انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ليس في الحديث ما ذكره من التفصيل، وليس فيه أنَّه كان يدعو بالهداية والتوبة، وإن كان ذُكِر في غيره، وما ذكره من أنَّه إن رجي إسلامه؛ لا يدعو عليه؛ مخصوص بزمن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه ينزل عليه الوحي بذلك، أما في زماننا؛ فلا وحي، ورجاء الإسلام من الكفار مستحيل؛ لما يشاهد من عنادهم في كفرهم ونفاقهم؛ لأنَّ كثيرًا [11] ما قد دخل بعضهم في الإسلام، ثم ارتدَّ _والعياذ بالله_، ورجع إلى كفره وضلاله، ولم يثبت واحد منهم على الإسلام، فإذا كان الأمر كذلك؛ جاز الدعاء عليهم بالهلاك مطلقًا سواء رجي أم لا، كما قدمناه؛ فافهم.
وفي الحديث: دلالة على أنَّ من عرض له في أثناء صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء؛ لا تفسد صلاته، كما لو عرضت له نجاسة فأزالها في الحال ولا أثر لها، فإنَّها لا تفسد صلاته بالاتفاق، فيحتمل أنَّ فاطمة طرحته قبل مضي زمان أداء ركن، ويحتمل أنَّه قد فرغ من صلاته وسجد بعدها شكرًا لله تعالى، أو كان عليه سجود سهو فسجده وهو ساجد؛ جاء عقبة فطرحه عليه، والسجدة لا توصف وحدها بصلاة، ويدل على هذا ما عند المؤلف في (الطهارة): (فرفع رأسه _أي: من السُّجود_ ثم قال: «اللهم»)، وللبزار: (فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد؛ اللهم عليك»)، فهذا يدلُّ على أنَّ الدعاء وقع عقيب الرفع من السُّجود وأنَّ المطروح كان في حال السُّجود؛ الشُّكر أو السَّهو، وهذا لم يضر صلاته، والروايات التي فيها: (فلما قضى صلاته) ظاهرة أيضًا؛ لأنَّه قد قضى صلاته وانتقل إلى سجود الشُّكر أو السَّهو، وهو توفيق بين الروايات، وتصحيح لحكم الصلوات؛ فتأمل.
وزعم الخطابي أنَّ أكثر العلماء على أنَّ السَّلى نجس، وتأولوا معنى الحديث على أنَّه عليه السَّلام لم يكن تُعُبِّد إذ ذاك بتحريمه؛ كالخمر كانوا يلابسون الصلاة وهي تصيب ثيابهم وأبدانهم قبل نزول التحريم، فلمَّا حرمت؛ لم تجز الصلاة فيها، واعترضه ابن بطال بأنَّه لا شكَّ أنَّها كانت بعد نزول قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ لأنَّها أول ما نزل عليه من القرآن قبل كل صلاة، ورُدَّ عليه بأنَّ الفرث ورطوبة البدن طاهران، والسَّلى من ذلك.
قال النَّووي: وهذا ضعيف؛ لأنَّ روث ما يؤكل لحمه ليس بطاهر؛ لأنَّه يتضمن النَّجاسة من حيث إنَّه لا ينفكُّ من الدم في العادة، ولأنه ذبيحة عبدة الأوثان، فهو نجس، انتهى.
قلت: وهذا ليس بضعيف؛
%ص 745%
لأنَّ روث مأكول اللحم طاهر، يدلُّ عليه ما رواه المؤلف في باب (الصلاة في مرابض الغنم)، عن أنس قال: (كان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم)، وروى في باب (الصلاة في مواضع الإبل)، عن نافع قال: (رأيت ابن عمر رضي الله عنهمايصلي إلى بعيره، وقال: رأيت النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يفعله)، فهذا يدل على طهارة روث مأكول اللحم وبوله؛ لأنَّ المرابض لا تخلو عن الروث والبول، فدلَّ على أنَّهم كانوا يباشرونها في صلاتهم، فلا تكون نجسه، وحاله عليه السَّلام أجلُّ وأعظمُ من أن يصلي في مكان نجس، وهذا قول الإمام محمَّد بن الحسن، ومالك، والشعبي، والنخعي، وعطاء، والزهري، والثَّوري، وابن سيرين، وابن المنذر، وابن حبان، وابن خزيمة، والروياني، والإصطخري من الشَّافعية، وجماعة، وكفى بهؤلاء قدوة، فكيف يكون ضعيفًا؟!
وقوله: (ولأنَّه ذبيحة عبدة الأوثان)، قال إمامنا الشَّارح: لو كان كما ذكر؛ كان جميع أجزائها نجسة.
قلت: وهذا إنَّما كان قبل التعبُّد بتحريم ذبائحهم.
واعترض أنَّه يحتاج إلى تأريخ، ولا يكفي فيه الاحتمال.
قلت: الاحتمال الناشئ عن دليل كافٍ، ولا شكَّ أن تماديه عليه السَّلام في هذه الحالة قرينة تدلُّ على أنَّه كان قبل تحريم ذبائحهم؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يستقر على أمر غير مشروع ولا يقرر غيره عليه؛ لأنَّ حاله أجلُّ وأعظم من ذلك، انتهى.
ثم قال النَّووي: والجواب عن الحديث: أنَّه عليه السَّلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده؛ استصحابًا للطهارة، وما يدرى هل كانت هذه الصلاة فريضة فيجب إعادتها، أو غيرها فلا يجب؟ وإن وجبت الإعادة؛ فالوقت يوسع لها، فلعله أعادها، انتهى.
واعتُرض عليه بأنَّه لو أعاد؛ لنُقل، ولم ينقل عنه الإعادة.
وأجاب عنه إمام الشَّارحين: بأنَّه لا يلزم من عدم النقل عدم الإعادة في نفس الأمر، بل يجوز أنَّه أعادها لمَّا علم من فاطمة أنَّها [12] طرحت عنه الأذى وهو في الصلاة.
فإن قلت: كيف لا يعلم بما وضع على ظهره وأن فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه؟
قلت: لا يلزم من إزالة فاطمة إياه عن ظهره إحساسه عليهالسلام بذلك؛ لأنه كان إذا دخل في الصلاة؛ استغرق باشتغاله بالله تعالى [13]، ولئن سلمنا إحساسه به، فقد يحتمل أنَّه لم يتحقق نجاسته، والدليل عليه أن شأنه أعظم من أن يمضي في صلاته وبه نجاسة، وقد يقال: إن الفرث والدم كانا داخل السلى [14] وجلده الظَّاهر طاهر، فكان كحمل القارورة المرصَّعة، انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن هذا الجواب غير صحيح؛ لأنَّ حمل النَّجاسة في الصلاة ولو في قارورة طاهرة غير جائز، انتهى.
قلت: هذا مردود عليه، بل هذا الجواب صحيح؛ لأنَّ النَّجاسة ما دامت في معدنها تجوز فيها الصلاة، ألا ترى أن الإنسان يصلي والحال أنَّه حامل في بطنه أرطالًا من النَّجاسة ولا يسع أحدًا أن يحكم بعدم صحة صلاته؟! قال في «الفتاوي الظهيرية»: الصبي إذا كان ثوبه نجسًا أو هو نجس فجلس على حجر المصلي وهو يستمسك بنفسه أو الحمَام النجس إذا وقع على رأس المصلي وهو يصلي؛ جازت صلاته؛ لأنَّه لم يصر المصلي حاملًا للنجاسة، كذا في «البحر الرَّائق»، وكذا لو مسَّ المصلي نحو حائط نجس بيابس في الصلاة لا يضرُّه؛ لأنَّه لا يعدُّ حاملًا للنجاسة، كما في «شرح النقاية» للقهستاني، وكذا لو صلى وفي كمِّه بيضة مزرة قد صار مخُّها دمًا؛ جازت صلاته؛ لأنَّه في معدنه، والشيء مادام في معدنه لا يعطى له حكم النَّجاسة، كذا في «المحيط».
فالحاصل: أن الفرث والدم كانا داخل السلى [15] وجلدته الظَّاهرة طاهرة، فالنَّجاسة في معدنها، والشيء ما دام في معدنه لا يعطى له حكم النَّجاسة؛ فليحفظ.
وزعم أشهب أن الحديث حجَّة على أنَّ إزالة النَّجاسة ليست بواجبة، قاله القرطبي.
وردَّه إمامنا الشَّارح بأنَّ الدلائل القطعية توجب إزالتها عن ثوب المصلي وبدنه والمكان الذي يصلي فيه، فهي ترد عليه، انتهى.
وهذا الحديث قد سبق في باب (إذا ألقي على المصلي قذر؛ لا تفسد صلاته)، وتقدم الكلام [عليه]، والله تعالى أعلم.
==========
[1] زيد في الأصل: (وهو العباس)، ولعل الصواب حذفه.
[2] في الأصل: (تزل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (والحمق بشا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (للإمهار)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (جويرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (المخزون)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (أقبلة)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (غفراء)، وهو تصحيف.
[10] في الأصل: (عادته)، وهو تصحيف.
[11] في الأصل: (كثير)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (أنَّه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[13] زيد في الأصل: (أعلم).
[14] في الأصل: (الصلاة)، وليس بصحيح.
[15] في الأصل: (الصلاة)، وليس بصحيح.
==================
[1] زيد في الأصل: (وهو العباس)، ولعل الصواب حذفه.
[2] في الأصل: (تزل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (والحمق بشا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (للإمهار)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (جويرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (المخزون)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (أقبلة)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (غفراء)، وهو تصحيف.
[10] في الأصل: (عادته)، وهو تصحيف.
[11] في الأصل: (كثير)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (أنَّه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[13] زيد في الأصل: (أعلم).
[14] في الأصل: (الصلاة)، وليس بصحيح.
[1] زيد في الأصل: (وهو العباس)، ولعل الصواب حذفه.
[2] في الأصل: (تزل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (والحمق بشا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (للإمهار)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (جويرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (المخزون)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (أقبلة)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (غفراء)، وهو تصحيف.
[10] في الأصل: (عادته)، وهو تصحيف.
[11] في الأصل: (كثير)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (أنَّه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[13] زيد في الأصل: (أعلم).
[14] في الأصل: (الصلاة)، وليس بصحيح.
(1/858)
((9)) [كتاب مواقيت الصلاة]
هذا (كتاب) أحكام (مواقيت الصلاة)، ولمَّا فرغ من بيان الطهارة بأنواعها التي هي شرط الصلاة؛ شرع في بيان الصلاة بأنواعها التي هي المشروطة، والشرط مقدم على المشروط، وقدَّمها على الزكاة، والصوم، وغيرهما؛ لمَا أنَّها تاليةُ الإيمان، وثانية في الكتاب والسنة، ولشدَّة الاحتياج وعمومه إلى تعلُّمها؛ لكثرة وقوعها ودورانها، بخلاف غيرها من العبادات، كذا في «عمدة القاري».
قلت: لا يقال: إنَّه تقدَّم كتاب (الصلاة)؛ لأنَّا نقول: ما قدَّمه تابع لكتاب (الطهارة)؛ بدليل ذكر أحكام النجاسات وغيرها فيه، أمَّا هنا؛ فهو كتاب مستقل؛ لبيان أحكام الصلاة وأوقاتها؛ فليحفظ.
و (الكتاب): مصدر بمعنى الجمع لغة، بمعنى: المكتوب، فهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، فالمصدر كتب وكتابة وكتبًا، والجمع: ضم شيء إلى شيء، ومنه: كتبت البغلة: إذا جمعت بين شفريها بشعرة، ثم جعل شرعًا عنوانًا لمسائل مستقلة مطلقًا، وهو شامل لما كان تحته نوع واحد أو أكثر، كلُّ نوع يسمى بابًا، وكلُّ باب يشتمل على صنف من المسائل أو أكثر، وقيد الإطلاق مخرج للباب؛ لأنَّه طائفة من المسائل اعتبرت مستقلة مع قطع النَّظر عن تبعيَّتها للغير أو تبعيَّة الغير لها.
فالفرق بين الكتاب والباب: أن الكتاب قد يكون تابعًا وقد لا يكون، بخلاف الباب فإنَّه لا بدَّ أن يكون تابعًا أو متتبعًا، وتمامه فيما قدمناه وفي «شرحنا على القدوري»، وقلت فيه: والصلاة: اسم مصدر (صلَّى)، والمصدر: التصلية، وإنما عدلوا عن المصدر إلى اسمه؛ لإيهامه خلاف المراد والمقصود، وهو التصلية بمعنى: التعذيب بالنَّار، فإنَّه مصدر مشترك بين (صلَّى)؛ بالتشديد بمعنى: دعا، و (صلَى)؛ بالتخفيف بمعنى: أحرق، ووزنها (فعلة)، واللام: واو؛ بدليل الجمع على (الصلوات)، فقلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وإنما رسمت في القرآن بالواو؛ لأجل التفخيم والتعظيم.
واختلف في حقيقتها لغة؛ فقال الفاضل الزمخشري: إن حقيقة (صلَّى) حرَّك الصلوين [1]؛ لأنَّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ويقال للداعي: مصليًا؛ تشبيهًا في تخشُّعه بالراكع والساجد، واختاره أبو علي واستحسنه ابن جني، والصلْوان؛ بالسكون: العظمان الناتئان في أعالي الفخذين اللذان عليهما الأليتان، والجمهور على أنَّ حقيقتها: الدعاء، فهي فيه حقيقة، وتستعمل في غيره مجازًا، وبهذا جزم الجوهري وغيره، والقرآن ورد بلغة العرب قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]؛ أي: ادع لهم، وإنما عُدِّي بـ (على)؛ باعتبار لفظ الصلاة، وفي الحديث في إجابة الدعوة: «وإن كان صائمًا؛ فليصلِّ»؛ أي: فليدع لهم بالخير والبركة، ومنه: الصلاة على الميت، ومنه: قول الأعشى:
تقولُ بنتي وقد قربتُ مرتحَلا ... يا ربِّ جنِّبْ أبي الأوصابَ والوجعا
عليك مثلَ الذي صليت فاغتمضي ... نومًا فإنَّ لجنب المرء مضطجعا
وفي الشريعة: عبارة عن الأركان والأفعال المخصوصة المعهودة؛ أي: حقيقة، وفي الدعاء مجازًا، فهي في اللُّغة: حقيقةٌ في الدعاء مجازٌ في العبادة، وفي الشرع: حقيقةٌ في العبادة مجازٌ في الدعاء، ففي المعنى الشرعي: المعنى اللغوي وزيادة، فتكون من الأسماء المغيرة لا المنقولة، وتمامه فيه؛ فليحفظ.
وقال إمامنا الشَّارح: والمواقيت: جمع ميقات على وزن (مِفْعَال)، وأصله: موقات؛ قلبت الواو ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، من وقَّت الشيء يقَّته إذا بيَّن حده، وكذا وقَّته يوقِّته، ثم اتسع فيه، فأطلق على المكان في الحجِّ، والتوقيت: أن يُجعَل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، وكذلك التأقيت، وقال السفاقسي: الميقات: هو الوقت المضروب للفعل والموضع، وفي «المنتهى»: كل ما جعل له حين وغاية؛ فهو موقت، ووقَّته ليوم كذا؛ أي: أجَّله، وفي «المحكم»: وقت موقوت وموقَّت: محدود، انتهى.
@%ص 746%
(بسم الله الرحمن الرحيم) هي ثابتة في رواية الأكثرين، ساقطة في رواية كريمة، (باب مواقيت الصلاة وفضلها)، كذا في رواية أبي ذر عن المستملي و (الفرع) و (أصله)، وفي رواية الحموي: البسملة ثم كتاب ثم باب، وللأصيلي: تقديم البسملة ثم كتاب ولم يذكر باب، وتمامه في «عمدة القاري».
ومن العادة المستمرة عند المصنفين: أن يذكروا الأبواب بعد لفظ الكتاب، فإنَّ الكتاب يشمل الأبواب والفصول، و (الباب): هو النوع، وأصله: البوب؛ قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح
%ص 746%
ما قبلها، ويجمع على أبواب، وقد قالوا: أبوبة، وإنما جُمِعَ في قول القتال الكلابي:
~هتَّاك [2] أخبية ولَّاج أبوبة .........
للإزدواج، ولو أفرده؛ لم يجز، ويقال: أبواب مبوَّبة، كما يقال: أصناف مصنَّفة، والبابة: الخصلة، والبابات: الوجوه، قال ابن السكيت: البابة عند العرب: الوجه، انتهى.
(وقولِ الله عز وجل)؛ بالجر عطفًا على (مواقيت)؛ أي: هذا باب مواقيت الصلاة وباب بيان قوله ... إلخ، وللأصيلي: (وقولِه عزَّ وجلَّ).
وزعم العجلوني أنَّه يجوز فيه الرفع، كما في بعض الأصول، ووجهه ظاهر، انتهى.
قلت: وجهه غير ظاهر؛ لأنَّه إذا جعل عطفًا على (كتاب) أو (باب) أو غيرهما؛ يكون تكلفًا، ولا يجوز جعله خبر مبتدأ محذوف؛ لوجود الواو العاطفة مع تعلقها بما قبلها وما بعدها، وكونها في بعض الأصول؛ لم يبين ما هذا الأصل من أيَّ راوٍ هو؟ والذي عليه الجمُّ الغفير من الشَّارحين أنَّه بالجر فقط لا سيما إمامهم صاحب «العمدة»، فإنَّه اقتصر على الجر، فلو كان ثمة رواية بالرفع؛ لذكرها؛ فافهم.
({إِنَّ الصَّلاةَ}) أي: الشرعيَّة ({كَانَتْ}) فيه: دليل على أنَّ الصلاة كانت على الأمم السالفة كلها، قلت: وعلى هذا لم تكن الصلاة من خصائص هذه الأمة، وفيه: أن صلاتهم كانت بركوع دون سجود، فالسُّجود من خصائص هذه الأمة، كما حقَّقه شيخ مشايخنا الفاضل الرحمتي في «حواشي الدر المختار»، قلت: والجمهور على أنَّه السُّجود؛ لأنَّ الركوع كان في شريعة موسى عليه السَّلام، ومما اختص به نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم مجموع الصلوات الخمس، ولم تجتمع لأحد من الأنبياء غيره، فإنَّ الأمم السالفة كانت تصلي عند الطلوع وعند الغروب فقط، وتمامه في «شرحنا على القدوري»، ({عَلَى المُؤْمِنِينَ})؛ أي: مفروضة على جميع المكلفين، فهي فرض عين على كلِّ مكلَّف بعينه، وهو المسلم البالغ العاقل ذكرًا كان أو أنثى حرًا كان أو عبدًا، وفيه: دليل على أنَّ الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، وفيه خلاف، فعند الإمام الأعظم رضي الله عنه: هم مخاطبون بها، وهو قول مالك وأكثر أصحابه، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمَّد بن الحسن غير مخاطبين، وبه قال الشَّافعي، ({كِتَابًا}): مصدر بمعنى المفعول؛ أي: مكتوبًا مفروضًا، ({مَوْقُوتًا}) [النساء: 103]؛ أي: موجبًا مفروضًا، قاله ابن عبَّاس، ووافقه مجاهد وغيره، فـ {مَوْقُوتًا} تأكيد لـ {كِتَابًا}، وقيل: معناه: محدودًا، كما سيأتي، يعني: أن الصلاة فريضة من الله مفروضة لأوقات معلومة، كلما مضى وقت واحدة؛ جاء وقت واحدة أخرى، ليست كالصوم الذي هو مفروض في السنة مرة واحدة، والحج الذي هو مفروض العمر مرة واحدة، وذلك لتأكُّدها وجلالة أمرها، ولهذا كانت فارقة بين المسلم والكافر.
وثبوتها: بالكتاب، والسنة، والإجماع، فيكفر جاحدها، وتاركها عمدًا تكاسلًا فاسق؛ يحبس حتى يصلي؛ لأنَّه يحبس لحقِّ العبد، فحقُّ الحقِّ أحقُّ، لا يقال: إنَّ حقَّه تعالى مبنيٌّ على المسامحة؛ لأنَّا نقول: لا تسامح في شيء من أركان الإسلام، وقال الإمام المحبوبي: لو تركها تكاسلًا؛ يضرب حتى يسيل منه الدم، وهو ظاهر المذهب، وكذا الذي يفطر في رمضان يُحبَس حتى يُحدِثَ توبة، هذا مذهب الإمام الأعظم والجمهور، وقال مالك والشَّافعي وأحمد: إذا أقرَّ بها، وتركها تكاسلًا؛ يقتل، قيل: حدًّا، وقيل: كفرًا، وقد نظم ذلك بعض الأفاضل فقال وأجاد:
في حكم من ترك الصلاة وحكمه ... إن لم يقر بها كحكم الكافر
فإذا أقر بها وجانب فعلها ... فالحكم فيه للحسام الباتر
وبه يقول مالك والشَّافعي ... والحنبلي تمسُّكًا بالظَّاهر
وأبو حنيفة لا يقول بقتله ... ويقول بالحبس الشديد الزاجري
المسلمون دماؤهم معصومة ... حتى تراق بمستنيرٍ باهر
مثل الزنى والقتل في شرطيهما ... وانظر إلى ذاك الحديث الساخر
هذي مقالات الأئمة كلهم ... وأصحها ما قلته [3] في الآخر
أي: وهو قول الإمام الأعظم إمام الأئمة ورأس المجتهدين.
والحسام: السيف، فإنَّ دم المسلم معصوم، ولا يخرجه من الإسلام إلا جحود ما أدخله فيه، ولم يوجد دليل على جواز قتل المسلم التَّارك لها تكاسلًا لا من الكتاب ولا السنة غير أنَّ فيهما التأكيد على الفرضية؛ فافهم.
وروى القاضي إسماعيل في «أحكامه» في هذه الآية من طريق حمران عن عثمان مرفوعًا: «من علم أن الصلاة عليه حقًّا يقينًا مكتوبًا؛ دخل الجنة»، فهذا يدل على أنَّه يدخل الجنة بمجرد علمه بذلك وإن تركها تكاسلًا.
ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها الشرعي بغير عذرٍ شرعيٍّ أصلًا في أيِّ حالٍ كان، ولو كان في حال الخوف، ووجود العدو، والتحام الحرب، فليس ذلك بعذر، ولهذا شرعت صلاة الخوف، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه الإمام أبي يوسف والإمام محمَّد بن الحسن، وكافَّة أصحابه، ومن يقول بقوله، وهو مذهب العلماء كافَّة، كما هو مسطور في كتب المذهب المعظَّم.
وزعم العجلوني أن عند الإمام أبي يوسف يجوز تأخير الصلاة عن وقتها عند التحام الحرب، فيصليها قضاءً عند الاطمئنان، انتهى.
قلت: وما زعمه فاسد الاعتبار يجب الإعراض عنه، فإن الإمام أبا يوسف لا يقول بذلك أصلًا، ولم ينقل أحد من علماء المذهب عنه ذلك أصلًا، غير أنَّ الإمام فخر الدين الزيلعي في «شرحه على الكنز» ذكر عنه روايتين في صلاة الخوف، هل هي مشروعة في زماننا أم خاصَّة في زمن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؟ فروي عنه: أنها مشروعة في زماننا وهي المشهورة عنه، وفي رواية أخرى: أنها ليست بمشروعة في زماننا، وهي رواية شاذة، واستدل لها بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] فهو خطاب للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم على الخصوص، والمعنى: أنهم يتحرون الصلاة خلفه عليه السَّلام، وزال ذلك حين قبض عليه السَّلام، فانتسخ، ولم يذكر هذه الرواية غيره، فهي شاذة، وعليها فإنَّه لا يقول بترك الصلاة، بل يؤدُّون الصلاة ركبانًا فرادى بالإيماء أو رجالًا واقفين إلى أيِّ جهة قَدرُوا؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، على أنَّ قوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] يدلُّ على أنَّ حالة الخوف لا تصحُّ الصلاة.
هذا وقد ترك النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أربع صلوات في غزوة الأحزاب، وقال: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملأ الله قبورهم نارًا»، كما ثبت ذلك في «الصَّحيحين»، والله تعالى أعلم، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في محلِّه، فما زعمه باطل.
وكذا ما زعمه البيضاوي من نسبة ذلك للإمام الأعظم؛ خطأ ظاهر يجب الإعراض عنه، فإنَّ هذه مجازفة وبهتان عظيم على إمام أئمة المسلمين ورأس المجتهدين رضي الله تعالى عنه.
ثم إنَّ البخاري فسَّر قوله تعالى: {مَوْقُوتًا} بقوله: (وقَّته عليهم)؛ أي: وقَّت الله الكتاب_أي: المكتوب_ الذي هو الصلاة عليهم؛ أي: على المسلمين، وليس هذا بإضمار قبل الذكر؛ لوجود القرينة، ووقع في أكثر الروايات: (موقوتًا موقَّتًا وقَّته عليهم)، وليس في بعض النُّسخ لفظ (موقَّتًا)؛ يعني: بالتشديد.
واستشكل ابن التين تشديد القاف من (وقَّته) وقال: المعروف في اللُّغة التخفيف.
قلت: ليس فيه إشكال؛ لأنَّه قد جاء في اللُّغة: (وقَّته)؛ بالتشديد، و (وقَته)؛ بالتخفيف، فكأنَّه ما اطلع على ما في «المحكم» وغيره، كذا قرره إمامنا الشَّارح، لا يقال: مراد ابن التين: أن التخفيف هو المشهور لغة، والتشديد قليل، لأنا نقول: إنَّه خلاف المفهوم من كلامه، على أنَّه غير مسلَّم له قلَّة التشديد؛ لذكرهما في كتب اللُّغة كثيرًا على السواء؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أن قوله: (موقَّتًا): بيان لقوله: {مَوْقُوتًا}.
وردَّه الشَّارح بأنَّ هذا كلام واهٍ، وليس في لفظ {مَوْقُوتًا} إيهام حتى يبيِّنه بقوله: (موقَّتًا)، وعن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {مَوْقُوتًا}؛ يعني: مفروضًا، وقيل: يعني: محدودًا، انتهى.
واعترضه العجلوني بأن {مَوْقُوتًا} جاء بمعنى: مفروضًا، وبمعنى: محدودًا، والمراد: الثاني؛ لئلا يتكرر مع {كِتَابًا}، وهذا اعتراض على البخاري أيضًا، انتهى.
قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ {مَوْقُوتًا}؛ معناه: مفروضًا عند الجمهور من المفسِّرين وغيرهم، وكونه جاء بمعنى محدودًا عند البعض _وهو شاذٌّ_ لا يعتمد عليه؛ لأنَّه مخالف للجمهور من أهل التفسير واللُّغة وغيرهم، فلا يعتدُّ به، على أنَّه المراد: المفروض، لا كما زعمه؛ لأنَّه يكون تأكيدًا لـ {كتابًا}، والمقام يقتضي التأكيد والحث عليها، فناسب هذا المعنى بذلك، فلا يكون تكرارًا.
وأمَّا المحدود؛ فلا معنى له في ذلك، على أنَّه لم يذكر أحد من العلماء أنَّ المراد: المحدود، وهذا يتوجه على القائل به سواء كان البخاري أم غيره؛ فافهم.
ونقل ابن رجب عن الشَّافعي: أنَّ {مَوْقُوتًا} معناه: الوقت الذي تصلى فيه وعددها، انتهى.
قلت: بيان الأوقات لم يثبت بهذه الآية، ولم يتعرض أحد لهذا المعنى وهو غريب، وكذا قوله: (وعددها)، فمن أين ظهر العدد؟ ولهذا قال العجلوني: لعله أخذ العدد بِضَربٍ
%ص 747%
من التجوز، وهو نقل غريب، انتهى.
==========
[1] في الأصل: (الصلويين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (هتاخ)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (قتله)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (الصلويين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (هتاخ)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الصلويين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (هتاخ)، وليس بصحيح.
(1/859)
[حديث: مواقيت الصلاة وفضلها]
521# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلَمَة)؛ بفتحات: هو القعنبي المدني (قال: قرأت على مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري المدني: (أنَّ) بفتح الهمزة (عمر بن عبد العزيز) هو ابن مروان الأموي، أمير المؤمنين، وأحد الخلفاء الراشدين المهديين، ويقال له: الأشج، ولُقِّب بذلك؛ لِشَجَةٍ كانت بجبينه، وقد عُبِّر عنه وعن يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بقولهم: الأشج والناقص أعدلا بني مروان؛ أي: عادلاهم، فالأشج: هو عمر رضي الله عنه، والناقص: هو يزيد، لقب به؛ لأنَّه نقص أرزاق الجند، توفي عمر في خامس وعشرين رجب سنة إحدى ومئة، قيل: بدير سمعان بحمص، وقيل: بدمشق بمحلة القنوات، وتقدم أول كتاب (الإيمان)، (أخَّر الصلاة يومًا): هي صلاة العصر، كما رواه المؤلف في (بدء الخلق) من طريق اللَّيث عن ابن شهاب قال: (أخَّر العصر شيئًا)، ويدلُّ عليه قول عروة الآتي: (ولقد حدثتني عائشة ... )؛ الحديث.
قال إمامنا الشَّارح: و (يومًا)؛ بالتنكير ليدلَّ على التقليل، ومراده: يومًا ما، لا أن ذلك كان سجيته؛ كما كانت ملوك بني أمية تفعله لا سيما العصر، فقد كان الوليد بن عقبة يؤخرها في زمن عثمان رضي الله عنه، وكان أبو مسعود ينكر عليه، وقال عطاء: أخَّر الوليد مرة الجمعة حتى أمسى، وكذا كان الحجاج يفعله، انتهى، وكذلك قال ابن عبد البر: إن عمرما فعل ذلك إلا يومًا لا أنَّه عادته، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شهاب: أنَّه أخَّر الصلاة مرَّة يعني: العصر.
وزعم ابن حجر أنَّه كان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد، وكذا عمل المغيرة وغيره من الصَّحابة، انتهى.
قلت: لا يخفى أن المغيرة وعمر وغيرهما من الصَّحابة كانوا يرون المفاضلة؛ لأنَّهم أشدُّ اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والظنُّ بهم خلاف ذلك افتراء ومخالفة للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولكن إنَّما تطلب المفاضلة إذا كان الرجل غير مشغول بأمر مهم، أمَّا المشغول بأمور مهمَّة؛ كمعاشه والسعي على عياله، لا سيما عمر رضي الله عنه؛ فإنَّه مشغول بأمور المسلمين وتدبير أحوالهم؛ فلا ريب أن ذلك غير مطلوب في حقه؛ لأنَّ درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح؛ فافهم.
ثم قال إمام الشَّارحين: وأمَّا عمر بن عبد العزيز؛ فإنَّه قد أخَّرها عن الوقت المستحب المُرغَّبِ فيه لا عن الوقت، ولا يعتقد ذلك فيه؛ لجلالته، وإنكار عروة عليه إنَّما وقع؛ لتركه الوقت الفاضل الذي صلى فيه جبريل عليه السَّلام، وما رواه الطَّبراني عن ابن شهاب في هذا الحديث قال: (دعا المؤذن لصلاة العصر، فأمسى عمر بن عبد العزيز قبل أن يصلِّيها)، فمعناه: أنَّه قارب المساء لا أنَّه دخل فيه، انتهى، وكذلك قال ابن عبد البر: المراد: أنَّه أخَّرها حتى خرج الوقت المستحب، لا أنَّه أخرها حتى غربت الشمس، انتهى.
وزعم العجلوني أن هذا متعين في حق الصَّحابة بخلاف غيرهم؛ فلا مانع أن عمر أخرها حتى خرج الوقت بالكلية لا سيما وهو كان أميرًا على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك، والناس على دين ملوكهم، وكان ذلك عادة بني أمية، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ فإن عمر رضي الله عنه قد أجمع العلماء على عدالته وجلالته وعلو قدره، وقد شهد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصَّحيح: أن خير القرون قرنه ثم الذين يلونهم، فلا ريب أن عمر تابعي كان في عصر الصَّحابة، وقد شهد لهم عليه السَّلام بالخيرية، فكيف يظن به ذلك؟! على أنَّه قد وقع عليه نظر الصَّحابة رضي الله عنه، وبه كفاية، فقد منع مما زعمه هذا القائل موانع، ولا يلزم من كونه أميرًا من قبل الوليد أن يكون يؤخر الصلاة عن وقتها مثله، ألا ترى أن معاوية بن يزيد قد أجمعت الأمة على فضيلته، وعلو درجته، وكثرة عبادته، وزهده، وأجمعت على قبح أبيه ولعنه وطرده، وكون الناس على دين ملوكهم؛ هذا ليس بحديث، بل هو مَثَلٌ جارٍ على ألسنة الناس، فلو كان كما ذكر؛ فقد انتفت الخيرية في هذه الأمة، وقد أثبتها النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بقوله: «الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة»، كما ثبت في «الصَّحيحين»، ولا يلزم من كون عادة بني أمية تأخير الصلاة أن يكون هو مثلهم، ويدل على ما قلناه قوله هنا: (يومًا)، وفي «بدء الخلق»: (شيئًا)، فإنَّه قد أتى بهما بالتنكير وهو يدل على التقليل؛ فعلى الأولى أن التأخير وقع مرة واحدة، وعلى الثانية وقع يسيرًا؛ لقوله: (شيئًا)؛ يعني: أخَّر الصلاة تأخيرًا يسيرًا، وهذا لا يبلغ خروج الوقت، بل أخَّرها عن الوقت المستحب، هذا هو الصَّواب، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم؛ فإنَّه قد كان سالكًا مسلك جدِّه من الأمهات عمر بن الخطاب في هديه، ورشده، وشدته في الدين، وزهده المتين، ولم ينقصه أحد في عبادته غير هذا القائل، فقد زاد في الطنبور نغمات ووقع في الهفوات، وخاض الذلات، اللهم احفظ ألسنتنا عن الخوض في عبادك الصالحين، وارزقنا الأدب في حقهم، وحقق في قلوبنا حبهم يا أرحم الراحمين.
وزعم ابن حجر في باب (تضييع الصلاة) أنَّه كان على طريقة أهل بيته حتى أخبره عروة بذلك، انتهى.
قلت: وهذا فاسد وواهٍ؛ لأنَّه مقول بغير دليل ولا مستند؛ فهو مردود؛ لأنَّه من أين علم ذلك؟ فهل أخبره بذلك جبريل أو إبليس؟! وعمر رضي الله عنه إذا غفل عن قول عروة لم يغفل عن قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى} [البقرة: 238]؛ فإنَّه كان أعلم من غيره بكثير في معاني القرآن والسنة، فهذا القائل قد خاض ووقع في الذلات، والله أعلم.
(دخل عليه) أي: على عمر رضي الله عنه (عُروة بن الزُّبير)؛ بِضَمِّ العين في الأول والزاي في الثاني: هو ابن العوام المدني، (وأخبره أن المُغيرة بن شُعبة)؛ بِضَمِّ الميم والشين المعجمة، الصَّحابي الجليل تقدم في آخر (الإيمان) (أخر الصلاة يومًا) هي العصر، كما رواه عبد الرزاق، والمراد: أنَّه أخرها عن وقتها المستحب المرغب فيه لا أنَّه أخرها حتى غربت الشمس، ويدل عليه قوله: (يومًا)، فإنَّه نكَّره، والتنكير يدل على الندرة والمرة الواحدة، وقوله: (أخر)، فإنَّه يدل على ما قلنا؛ لأنَّه لو كان المراد الثاني؛ لقال: أخرج، وهذا يدل لما قدمناه أيضًا؛ فليحفظ، (وهو بالعراق): جملة اسمية وقعت حالًا من المغيرة مقرونة بالواو، وكان المغيرة إذ ذاك أميرًا على الكوفة من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، والمراد به: عراق العرب؛ وهو من عبادان إلى الموصل طولًا، ومن القادسية إلى حلوان عرضًا، وفي رواية القعنبي وغيره عن مالك: (وهو بالكوفة)، وكذا أخرجه الإسماعيلي، والكوفة من جملة العراق العربي، كذا قرره إمامنا الشارح، قلت: فالتعبير (بالكوفة) أخص من التعبير (بالعراق)؛ لأنَّها من جملته، وقال في «القاموس»: سميت بها؛ لتراسخ عراق النخل والشجر فيها، أو لأنَّه استكفى أرض العرب، أو سمي بعراق المزادة؛ لجلدة تجعل على طرفي ملتقى الجلد إذا خرز في أسفلها؛ لأنَّ العراق بين الريف والبر، أو لأنَّه على عراق دجلة والفرات؛ أي: شاطئهما، أو معرب (إيران) اسم لشهر قبطي؛ ومعناه: كثرة النخل والشجر، والعراقان: الكوفة والبصرة، انتهى.
(فدخل عليه) أي: على المغيرة بن شعبة (أبو مسعود) هو كنية عقبة بن عمرو البدري الأنصاري الصَّحابي، تقدم في آخر (الإيمان)، (فقال) أي: أبو مسعود (للمغيرة) أي: ابن شعبة المذكور: (ما هذا) استفهام توبيخي؛ أي: أي شيء هذا التأخير الذي وقع منك (يا مغيرة؟)، وقوله: (أليس قد علمت): قال إمامنا الشَّارح: الرواية وقعت هكذا: (أليس)، وكان مقتضى الكلام أن يقول: (ألست)؛ بالخطاب، قال القشيري: الرواية جائزة إلا أن المشهور في الاستعمال: (ألست)؛ بالخطاب، انتهى، وقال البرماوي: الأفصح (ألست)، وزعم ابن حجر كذا الرواية وهو استعمال صحيح، لكن الأكثر في الاستعمال في مخاطبة الحاضر: (ألست)، وفي مخاطبة الغائب: (أليس)، انتهى، ونحوه للزركشي، وإمامنا الشَّارح لم يفصل هذا التفصيل، وقد علمت عبارته، فما زعمه العجلوني فاسد الاعتبار؛ فافهم.
واعترض صاحب «المصابيح» على ابن حجر بأنَّه يوهم جواز استعمال [1] هذا التركيب مع إرادة أن يكون ما دخلت عليه ضمير المخاطب، وليس كذلك، بل هما تركيبان مختلفان، وليس أحدهما بأفصح من الآخر، فإنَّه يستعمل كل منهما في مقام خاص، فإن أريد إدخال (ليس) على ضمير المخاطب؛
%ص 748%
تعين (ألست قد علمت)، وإن أريد إدخالها على ضمير الشأن مخبرًا عنه بالجملة التي أسند فعلها إلى المخاطب؛ تعين (أليس)، انتهى.
وقال العجلوني: ليتأمل معنى قول ابن حجر: مخاطبة الغائب، فإن الغائب لا يكون مخاطبًا، إلا أن يقال: مراده بذلك الإخبار عن ضمير الشأن الغائب بجملة مسند فعلها إلى المخاطب، كما يشير إليه كلام «المصابيح»، وقد يقال مراده ما في «المصابيح»، انتهى.
قلت: كل ذلك فيه ركاكة وخروج عن الظَّاهر، وكونه أراد الإخبار عن ضمير الشأن؛ بعيد عن الأفهام؛ لأنَّ المغيرة حاضر فكيف يخبر عنه بالغائب، وكونه مراده ما في «المصابيح»؛ بعيد جدًّا؛ فتأمل.
وقال القاضي عياض: يدل ظاهر قوله: (قد علمت) على عِلْمِ المغيرة بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الظن من أبي مسعود؛ لعلمه بصحبة المغيرة، قال إمامنا الشَّارح: ولأجل ذلك ذكره بلفظ الاستفهام في قوله: (أليس)، ولكن يؤيد الوجه الأول رواية شعيب عن ابن شهاب عند البخاري في (غزوة بدر) بلفظ: (فقال: لقد علمتَ)؛ بغير الاستفهام، ونحوه عن عبد الرزاق عن معمر وابن جريج، انتهى.
قلت: فإن ما ذكره المؤلف في (المغازي) وكذا عبد الرزاق يدل صريحًا على علم المغيرة بذلك؛ لعدم أداة الاستفهام، بخلاف الرواية هنا، فإن ظاهرها ما قاله القاضي، لكن يحمل ما هنا على ما هناك، والروايات تفسر بعضها بعضًا؛ فليحفظ.
(أنَّ جبريل) _عليه السَّلام_ بفتح الهمزة (نزل)؛ أي: صبيحة ليلة الإسراء التي فرضت فيها الصلوات، كما بيَّنته رواية ابن إسحاق في «المغازي»، وعبد الرزاق في «مصنفه» بسندهما: (لمَّا أصبح النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به؛ لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس فأمر فَصِيْحَ بأصحابه: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلى به جبريل، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ... )؛ الحديث.
وزعم ابن حجر أن فيه ردًّا على من زعم أن بيان الأوقات إنَّما وقع بعد الهجرة، والحقُّ أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، انتهى.
قلت: وفيه تناقض؛ لأنَّ بين البيانين صار مدة، ولا يمكن أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بعد بيان جبريل عليه السَّلام له الأوقات أن يتأخر عن بيانها لأمته، فقد كان من عادته عليه السَّلام إذا نزل عليه جبريل بحكم من الأحكام فمتى جلا عنه الوحي؛ يُبلِّغ الحكم من غير تأخير؛ فافهم.
(فصلى)؛ أي: جبريل الظُّهر؛ أي: صلاته، زاد أبو الوقت: (برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وسقط (فصلى) لابن عساكر، والفاء فيه: للتعقيب؛ لأنَّ صلاة جبريل عقب نزوله حين زاغت الشمس، ويحتمل أن تكون للسببية، قيل: وفي الكلام حذف معطوف يقدر في المواضع الخمسة؛ بنحو: والناس؛ أي: وصلى الناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه رواية جابر الآتية إن شاء الله تعالى، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: الظُّهر بصلاة جبريل متابعًا له في كل ركن لا مقتديًا به حقيقة؛ لأنَّ المراد تعليمه كيفيتها وقد حصلت بهذا، ويحتمل أنَّه عليه السَّلام صلى بعد فراغ جبريل، ووجهه [2] ظاهر، وقال القاضي عياض: ظاهره أن صلاته كانت بعد فراغ جبريل، لكن المنصوص في غيره أنَّ جبريل أمَّ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فيحمل قوله: (صلَّى، فصلَّى): على أنَّ جبريل كان كلما فعل جزءًا من الصلاة؛ تابعه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ففعله، انتهى.
قال إمامنا الشَّارح: (ومبنى كلام القاضي على أنَّ الفاء في الأصل للتعقيب، فيدل على أنَّ صلاته عليه السَّلام كانت عقيب فراغ جبريل عليه السَّلام من صلاته، وحاصل جوابه: أنَّه جعل الفاء على أصلها وأوَّله بالتأويل المذكور) انتهى، قلت: وبه جزم النَّووي، ويدل عليه ما رواه المؤلف من طريق اللَّيث: «نزل جبريل فأمَّني، فصليت معه».
وقال إمامنا الشَّارح: (وذهب بعضهم إلى أن الفاء هنا بمعنى: الواو؛ لأنَّه عليه السَّلام إذا ائتمَّ بجبريل؛ يجب أن يكون مصليًا معه لا بعده، وإذا حملت الفاء على حقيقتها؛ وجب ألَّا يكون مصليًا معه، واعترض عليه بأنَّ الفاء إذا كانت بمعنى الواو؛ يحتمل أن يكون النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صلى قَبْلَ جبريل؛ لأنَّ الواو لمطلق الجمع، والفاء لا تحتمل ذلك.
قلت: مجيء الفاء بمعنى الواو لا ينكر؛ كما في قوله:
... بين الدخول فحومل
فإنَّ الفاء فيه بمعنى الواو، والاحتمال الذي ذكره المعترض يُدفَع بأن جبريل هنا مُبينٌ لهيئة الصلاة التي فرضت ليلة الإسراء، فلا يمكن أن يكون صلاته بعد صلاة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وإلا؛ لا يبقى لصلاة جبريل فائدة، ويمكن أن تكون الفاء هنا للسببية؛ كما في قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]) انتهى كلام إمام الشَّارحين، وقد ذكر عبارته العجلوني ونسبها لنفسه؛ فافهم.
وقال في «المغني»: وتفيد الفاء العاطفة ثلاثة أمور: الترتيب، والتعقيب، والسببية، وهذا غالب في العاطفة جملة أو صفة؛ نحو: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}، ونحو: {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ*فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ*فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ} [الواقعة: 53 - 55]، انتهى، فالتعقيب والسببية من إفادات الفاء العاطفة وهي هنا كذلك، وجعلهم كل واحد قولًا مستقلًا، أجيب عنه: بأنَّ السببية قد تنفك عن التعقيب؛ فتدبره.
(ثم صلى)؛ أي: جبريل العصر، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: العصر معه، (ثم صلى)؛ أي: جبريل المغرب، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: المغرب معه، (ثم صلى)؛ أي: جبريل العشاء، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: العشاء معه، (ثم صلى)؛ أي: جبريل الفجر، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: الفجر معه، بتكرير صلاتهما خمس مرات.
وعبر بـ (الفاء) في صلاة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها متعقبة لصلاة جبريل بالمعنى الذي قدمناه، وعبر بـ (ثم) في صلاة جبريل؛ لتراخيها عن سابقتها إلا الصلاة الأولى، فإنَّها كانت عقب نزوله، كما ذكرناه، فلذا عطفها بالفاء أيضًا، وأمَّا مفعولات الأفعال؛ فمحذوفة؛ لدلالة المقام عليها، كما ذكرناها فيما سبق، ويحتمل تنزيلها منزلة اللازم.
قال ابن الملقن: ولم يذكر هنا الأوقات للصلوات، وإنما ذكر عددها؛ لأنَّها كانت معلومة عند المخاطب فأبهمها، وقال ابن رجب: وليس في الحديث ذكر بيان شيء من الأوقات.
قلت: وسيأتي للمؤلف بيان كل وقت صلاة على التَّعيين ابتداءً وانتهاءً، ولكن من فعل النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم دون بيان جبريل، لكن ذكر غير المؤلف بيانها من بيان جبريل، فقد روى النسائي عن جابر رضي الله عنه، كما نقله ابن الأثير في «جامع الأصول»، ولفظه: (أنَّ جبريل أتى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى الظُّهر حين زالت الشمس، وأتاه حين صار الظل مثل الشخص، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت [3] الشمس، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى العشاء، ثم أتاه حين سطع الفجر، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى الغداة، ثم أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل [4] الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الظُّهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثلي شخصه _بالتثنية_، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصلى المغرب، فنمنا، ثم قمنا، ثم نمنا، ثم قمنا، فأتاه فصنع كما صنع، فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصلى الغداة، ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت).
وفي رواية قال: (جاء جبريل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم حين زالت الشمس، فقال: قم يا محمَّد؛ فصلِّ الظُّهر، فصلاها حين مالت الشمس، ثم جاءه جبريل حين كان فيء الرجل مثليه، فقال: قم يا محمَّد؛ فصلِّ العصر، ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس، فقال: قم فصلِّ المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، فقال: قم فصلِّ العشاء، ثم جاءه حين أسفر جدًّا، فقال: قم فصلِّ، فقام فصلى الفجر،
%ص 749%
فقال: ما بين هذين وقت كله) انتهى.
قلت: في الحديث بروايته البيان بالقول.
%ص 750%
==========
[1] في الأصل: (الاستعمال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ووجه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (وجبب)، وهو تصحيف.
[4] في الأصل: (الظل)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (الاستعمال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ووجه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (وجبب)، وهو تصحيف.
[1] في الأصل: (الاستعمال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ووجه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (وجبب)، وهو تصحيف.
(1/860)

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي

 مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيت...