3
الكتاب3: أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)
[حديث: لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة]
176# وبه قال: (حدثنا آدم)؛ بالمد، أي: ابن أبي إياس؛ بكسر الهمزة، كما صرح به في رواية (قال: حدثنا ابن أبي ذئب)؛ بالهمز، نسبه لجده الأعلى؛ لشهرته به، وإلا فهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب _واسمه هشام_ بن شعبة (قال: حدثنا سعيد)؛ أي: ابن أبي سعيد؛ بكسر العين فيها (المقبُري)؛ بتثليث الموحدة والضم أشهر، وفي رواية: (عن سعيد المقبري)، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (قال: قال النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم: لا يزال العبد)؛ أي المؤمن وكذا المرأة (في صلاة) خبر (يزال)؛ أي: في ثواب صلاة، والقرينة على ذلك قوله: (ما كان)، وفي رواية: (ما دام) (في المسجد) أي مسجد كان، فـ (أل) فيه للجنس، وهو شاملٌ للمكان المُعَدِّ للصَّلاة في داره أو بيته أو غيرهما؛ لأنَّ الثواب المترتب سببه الانتظار؛ فافهم، ولذا قال: (ينتظر الصلاة) جملة محلها النصب خبر للفعل الناقص (كان) أو (دام)، وإما حال و (في المسجد) الخبر، ويجوز العكس، وإنما نكَّر (الصلاة)؛ لأنَّه قصد به التنويع؛ ليُعلَم أن المراد نوع صلاته التي ينتظرها، مثلًا لو كان في انتظار صلاة الظهر كان في صلاة الظهر، وهلمَّ جرًّا، وأمَّا تعريف (المسجد)، فلأن المراد به المسجد الذي هو فيه مطلقًا، كما قلنا، والتقدير في ذلك: لا يزال العبد في ثواب صلاة ينتظرها ما دام ينتظرها، والقرينة على ذلك لفظالانتظار، ولو كان يجري على ظاهره وكان المراد حقيقتها؛ لما جاز له أن يتكلَّم، ولا أن يأتي بما لا يجوز فعله في الصلاة، فيقرأ القرآن، أو يسبِّح، أو يهلل، أو يَتَنَفَّل في غير وقت مكروه لا أنَّه يتكلم بكلام الناس كالمباح، فإنَّه ورد أنَّ الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فيظنُّ نفسه أنَّه قد فعل طاعة وحَصَّلَ ثوابًا، والحال أنه قد فعل مكروهًا وذهبت حسناته، وهذا فضلًا عما اعتيد في زماننا من الكلام المُحَرَّمِ في المسجد كالغيبة التي صارت في زماننا فاكهة المجالس، وكذا النميمة والكذب وغيرها من المحرمات التي لا يجوز فعلها في كلِّ مكان فضلًا عن المسجد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(ما لم يُحْدِثْ)؛ أي: ما لم يأت بالحدث، وهو أعم من أن يكون فُسَاءً أو ضُرَاطًا أو غيرهما من النواقض للوضوء من المجمع عليها والمختلف بها، وكلمة (ما) مصدرية زمانية، والتقدير: مدة دوام عدم الحدث، كما في قوله تعالى: {مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]؛ أي: مدة دوامي حيًّا، فحُذِفَ الظرفُ وخَلِفَتْهُ (ما) وَصِلَتُها.
(فقال رجل) هذا مدرج من سعيد (أعجمي)؛ وهو الذي لا يُفْصِح، ولا يبين كلامه، وإن كان من العرب، والعجم: خلاف العرب، والواحد: عجمي، وقال الجوهري: (لا تقل: رجل أعجمي؛ فتنسبه إلى نفسه إلا أن يكون أعجم وأعجمي؛ مثل: دوار ودواري)، قال في «عمدة القاري» بعد نقله ذلك: (فهم من كلامه أن الياء المثناة التحتية في «أعجمي» ليست للنسبة كما زعمه ابن حجر، وإنما هي للمبالغة) انتهى، قلت: وهو في غاية التحقيق؛ فافهم.
(ما الحَدَثُ يا أبا هريرة؟ قال: الصوت؛ يعني: الضرطة) ونحوها من المفسدات للطهارة المجمع عليها والمختلف بها؛ لأنَّ لفظ (الحدث) عامٌّ في سائر النواقض، وإنما خصص الحدث بالضرطة؛ لأنَّ الغالب أنَّ الخارج في المسجد حالة الانتظار إنَّما هو الريح المعبر عنه بالضرطة، فوقع الجواب طبق السؤال، ولكن فهم أبو هريرة أنَّ مقصود هذا السائل الحدث الخاص، وهو الذي يقع في المسجد حالة الانتظار، والعادة أنَّ ذلك لا يكون إلا الضرطة فوقع الجواب طبق السؤال، وإلا فأسباب النقض كثيرة، كذا في «عمدة القاري»، وهو الظَّاهر، كما في «القسطلاني» و «العجلوني»،والله أعلم.
%ص 146%
==================
(1/317)
[حديث: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا]
177# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي، أو هشام بن عمار، والمكنَّى بأبي الوليد أيضًا، وهو يروي أيضًا عن ابن عيينة، ويروي عنه المؤلف، لكن الأكثر على أنه الأول، كذا في «عمدة القاري» (قال: حدثنا ابن عيينة) أي: سفيان؛ كما صرح به في رواية، (عن الزهري) محمد بن مسلم ابن شهاب، (عن عبَّاد)؛ بتشديد الموحدة (بن تميم) الأنصاري، (عن عمه) عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: لا ينصرفْ)؛ بالجزم؛ أي لا يخرج المصلِّي من صلاته، وفي رواية: (لا ينفتل)؛ بالفاء والمثناة الفوقية [1] واللام، وهو بمعنى: لا ينصرف، وقد سبق الحديث تامًّا في باب (لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن)، ولفظه: أنَّه شكى إلى النبي عليه السلام الرجل الذي يخيل إليه أنَّه يجد الشيء في الصلاة، فقال عليه السلام: «لا ينصرف أو لا ينفتل» على الشك (حتى) للغاية؛ أي: إلى أن (يسمع) بالنصب بتقدير (أن) الناصبة (صوتًا)؛ أي: خارجًا من دُبُرِه، (أو يجد ريحًا)؛ أي: منه أيضًا، وإنما ذكر سماع الصوت ووجدان الرائحة حتى يتناول الأصم والأخشم، والمراد تحقق وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بالإجماع؛ لأنَّ الأصم لا يسمع شيئًا، والأخشم: الذي ذهبت منه حاسة الشم لا يشم أصلًا، وإنما خص النوعين بالذِّكر، وإن كان غيرهما كذلك؛ لأنَّه خرج على حرف المسألة التي سأل عنها السائل، وإنما عبر بالوجدان دون الشم؛ ليشمل ما لو لمس المحل بيده، ثمَّ شم يده، وفيه دليل على أنَّ لمسَ الدُّبرِ والذَّكَرِ غيرُناقض للوضوء؛ فليحفظ، وقد سبق تقريره.
==================
(1/318)
[حديث علي: كنت رجلًا مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله]
178# وبه قال: (حدثنا قُتيبة)؛ بضم القاف، هو ابن سعيد (قال: حدثنا جرير) هو ابن عبد الحميد، (عن الأعمش) هو سليمان بن مهران، (عن منذر أبي يعلى) هذه كنيته، واسم أبيه يعلى أيضًا (الثَّوري) بفتح المثلثة، (عن محمد ابن الحنفية)؛ هو ابن علي بن أبي طالب: أنه (قال: قال عليٌّ) أي: ابن أبي طالب أبوه رضي الله عنه: (كنت رجلًا مذَّاء)؛ بتشديد الذال المعجمة، والمد على وزن: (فعَّال)؛ أي: كثير المَذْي، بوزن: ظَبْي، وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند الشهوة لا بشهوة، ولا دفق، ولا يعقبه فُتُور، وربما لا يحس بخروجه، وهو أغلب في النساء من الرجال، وهو من النساء يسمى القَذَى_بفتحتين_ كذا في «منهل الطلاب» عن «البحر»، وظاهره: أنَّ هذه الحالة مستدامة له رضي الله عنه، ولذا أتى بقوله: (كنت)؛ فإنَّها تشعر بالاستدامة؛ فافهم، ويدلُّ لذلك ما في «سنن البيهقي الكبير» من حديث ابن جريج عن عطاء: أن عليًّا كان يدخل في إحليله الفتيلة من كثرة المذي، ففيه استحباب وضع الفتيلة إن اضطر [1] إليها في حال الاستنجاء، (فاستحييت)؛ بمثناة أو بمثناتين (أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عن حكم المذي؛ لمكان ابنته فاطمة رضي الله عنها، (فأمرت المقداد ابن الأسود)؛ هذا مجاز؛ لأنَّ أباه في الحقيقة ثعلبة البهراني، وإنَّما نسب إلى الأسود؛ لأنَّه تبنَّاه، أو حالفه، أو لغير ذلك، أن يسأله عليه السلام عن ذلك، (فسأله)، وفي رواية: (فأمرت رجلًا)، وعند النسائي: (فأمرت عمَّار بن ياسر)، وعند ابن خزيمة: (أن عليًّا سأل)، وطريق الجمع بين الروايات: أن عليًّا أمرهم بالسؤال، ثم ذهب وسأل بنفسه، وما قيل: إنَّه يحتمل المجاز أو الحقيقة غير ظاهر؛ فافهم، (فقال) عليه السلام؛ مجيبًا له: (فيه الوضوء)؛ أي: بخروج المذي يجب الوضوء لا الغسل، فقدَّم الخبر؛ للحصر، ولو وَجَبَ فيه الغسل؛ يلزم الحرج، وفي حديث غسَّان الضبعي عند أبي موسى المديني في «معرفة الصحابة» قال عليه السلام: «لو اغتسلتم من المذي؛ كان أشدَّ عليكم من الحيض»، وإسناده لا بأس به.
(ورواه) ولابن عساكر: بإسقاط الواو؛ أي: هذا الحديث (شعبة) أي: ابن الحجاج، (عن الأعمش) سليمان بن مهران عن منذر ... إلى آخر السَّند المذكور، ووصله الطيالسي في «مسنده» عن شعبة كذلك، وهذا التعليق من المؤلف ذكره متابعة، وحديث المقداد في المذي مجمعٌ عليه أنَّ فيه الوضوء، وليس له مطابقة للترجمة؛ لأنَّه خارج عن أحد المخرجين، كذا في «عمدة القاري» وابن حجر.
==========
[1] في الأصل: (أضر)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 147%
==================
(1/319)
[حديث زيد بن خالد: أرأيت إذا جامع فلم يمن؟]
179# وبه قال: (حدَّثنا سعْد بن حفص)؛ بسكون العين، رواية الجميع إلا القابسي، فقال: (سعيد)؛ بالمثناة التحتية، وسعد هذا هو الكوفي الطلحي _بالمهملتين_ الضخم، المتوفى سنة خمس عشرة ومئتين، ولعلَّ القابسي اشتبه عليه بما في «النسائي»: (سعيد بن حفص) _بزيادة المثناة التحتية_ النفيلي، المتوفى سنة سبع وثلاثين ومئتين، قلت: والظاهر: أنَّه سهو من القابسي، ولذا اقتصر جميع الشرَّاح على الأول؛ فافهم، (قال: حدثنا شَيْبان)؛ بفتح الشين المعجمة، وسكون التحتية، بعدها موحدة، هو ابن عبد الرحمن، أبو معاوية النحوي، (عن يحيى)؛ هو ابن أبي كثير البصري التابعي الصغير، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام، عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف التابعي: (أن عطاء بن يَسار)؛ بفتح التحتية أوله، بعدها سين مهملة، التابعي المدني (أخبره)؛ أي: أخبر عطاءٌ أبا سلمة: (أن زيد بن خالد) الجهني المدني الصحابي (أخبره)؛ أي: أخبرَ زيدٌ عطاءً: (أنه سأل عثمان بن عفان) رضي الله عنه (قلت): قائله زيد بن خالد لعثمان، فهو بصيغة المتكلم، وإنما لم يقل: (قال) كما قال: (أنه سأل)؛ لأنَّ فيه نوع التفات، وهو نوع من محاسن الكلام؛ لأنَّ فيه اعتبارين، وهما عبارتان عن أمر واحد، ففي الأول: نظر إلى جانب الغيبة، وفي الثاني: إلى جانب المتكلم، كذا في «عمدة القاري».
(أرَأيت)؛ بفتح الرَّاء؛ ومفعوله محذوف؛ أي: أَخبِرْني أنه توضأ أم لا؟ (إذا جامع)؛ أي: الرجل امرأته _مثلًا_ أو بطَّن، أو فخَّذ (فلم) وفي رواية: (ولم)؛ بالواو (يُمنِ)؛ بضم التحتية رواية، وقد تفتح وتسكن الميم لغة، وقد تفتح الميم وتشدد النُّون مع ضم أوله لغة ثالثة، يقال: منى، وأمنى، ومنى، وأشهرها وأفصحها الوسطى، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} [القلم: 58].
(قال عثمان)؛ أي: ابن عفان رضي الله عنه: (يتوضأ) إنَّما أمره بالوضوء؛ لأجل الاحتياط؛ لأنَّ الغالب خروج المذي من المُجَامع وإن لم يشعر به (كما يتوضأ للصلاة) أشار به إلى أن المراد بالوضوء: الوضوء الشرعي لا اللغوي، ففيه أن المباشرة الفاحشة تنقض الوضوء، وهي أن يتجردا معًا متعانقين متماسين الفرجين من جهة القبل أو الدبر مع انتشار آلة الرجل بالنسبة إليه في نقض وضوئِه لا المرأة، فإنَّه لا يشترط في نقض وضوئها انتشار آلته، وسواء كانت المباشرة بين امرأتين، أو رجلين، أو رجل وامرأة، أو رجل وغلام، فيشترط أن يكون تماس الفرجين من شخصين مشتهيين؛ لأنَّه لا ينتقض الوضوء ولا يجب الغسل بوطءِ صغيرةٍ لا تُشْتَهى، فإذا حصلت المباشرة بين الشخصين؛ انتقض وضوء المباشِر والمباشَر ولو بلا بلل على المعتمد، كما في «الدر المختار»، وهو قول الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف؛ لأنَّها لا تخلو عن خروج مذي غالبًا، وهو كالمتحقق في مقام وجوب الاحتياط، وهو المعوَّلُ عليه في المذهب كما في سائر المتون، كما في «شرح الملتقى» للباقاني، وقال الإمام محمد: (لا ينتقض الوضوء ما لم يظهر شيء)، وصححه في «الحقائق» وغيره، لكن قال في «البحر» و «النهر»: (هذا التصحيح لا يُعَوَّلُ عليه، ولا يُعْتَمَدُ عليه؛ لمخالفته للمتون) انتهى.
قلت: وقد اختلف الصحيح، وما قاله الإمام الأعظم صاحب المذهب هو المذهب، وإلى غيره لا يُذهَب؛ فليحفظ.
(ويغسل ذَكَره) إنَّما أمره بذلك؛ لتنجُّسه بالمذي الذي يغلب خروجه حينئذٍ، وظاهره: أنه يجب غَسْلُ كل الذَّكَر، وبه قال مالك، وقال الإمام الأعظم وأصحابه والشافعي: لا يجب إلا غسل ما تنجَّس منه؛ لأنَّه يرتفع وينزوي المذي فلا يخرج، ويدلُّ لذلك ما في «صحيح مسلم»: «توضأ وانضح فرجك»، لا يقال: الغسل مقدَّم على التوضؤ، فلمَ أخَّره؟ لأنَّا نقول: الواو لا تدل على الترتيب، بل هي للجمع المطلق عند المحققين، فلو توضَّأ قبله؛ يجوز ولا يَنْتَقِضُوضوءُه، وفيه: دليل واضح على أن مسَّ الذَّكَر لا ينقض الوضوء؛ لأنَّه لو توضأ أولًا، كما هو ظاهر الحديث، ثم غسل ذَكَره، لابدَّ له من أن يمسَّ ذَكَره حتى يتم الغسل؛ لأنَّه لو لم يمسَّه بيده؛ لم يتمَّ الغسل؛ لأنَّ المذي يعلو على رأس الذَّكَر ويقف ويتجمد، فيلزمه حتَّه ودعكه بالماء حتى يزول
%ص 147%
المذي النجس، وقد نفى الشافعي في آية الوضوء أن معنى الواو: الجمع المطلق، وأثبته هنا، وليس ذلك إلا تناقضًا، فإن الواو في الآية وهنا وغيرها لمطلق الجمع عند المحققين لا تفيد الترتيب؛ فليحفظ.
(قال عثمان)؛ أي: ابن عفان رضي الله عنه: (سمعته)؛ أي: جميع ما تقدم (من النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وقوله: (فسألت عن ذلك)؛ أي: عمن جامع ولم يمن، (عليًّا)؛ أي: ابن أبي طالب، (والزُّبير)؛ بضم الزاي؛ أي: ابن العوام، (وطلحة)؛ أي: ابن عبيد الله، (وأُبي بن كعب) رضي الله عنهم (فأمروه)؛ أي: أمر الصحابة المذكورونالمجامع المذكور، فالضمير المرفوع فيه راجع إلى هؤلاء الصحابة الأربعة، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى المجامع؛ لأنَّ قوله: (إذا جامع)؛ أي: الرجل، يدل على المجامع ضمنًا؛ على حد قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ أي: العدل أقرب، دلَّ عليه: {اعْدِلُوا}؛ فليحفظ.
(بذلك)؛ أي: بالوضوء، (وغسل ذَكَرُه) من مقول زيد بن خالد لا من مقول عثمان بن عفان.
ففي الحديث: دلالة على وجوب الوضوء لا الغسل على من جامع ولم يُنْزِل، وهذا الحكم منسوخ بالإجماع، فإنَّ أئمة الفتوى مجمعون على وجوب الغسل دون الوضوء من مجاوزة الختان؛ لأمر النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو زيادة بيان على ما في هذا الحديث يجب الأخذ بها؛ لأنَّ الغالب حينئذٍ سَبْقُ الماء، فالتزم المسلمون الغسل من تغيُّب الحشفة بالسُّنَّة الثابتة في ذلك.
فإن قلت: إذا كان الحديث منسوخًا، فكيف يصحُّ الاستدلال به؟
وأجيب: بأنَّ المنسوخ منه عدم وجوب الغسل لا عدم الوضوء، فحكمه باقٍ، ولذا قلنا: إنَّ السنَّة للمغتسل أن يبدأ أولًا بالوضوء، ثم يغتسل، والحكمة في الأمر بالوضوء قبل أن يجب الغسل؛ لكون الجماع مظنَّة خروج المذي غالبًا، والغالب كالمتحقق، فدلالته على الترجمة من هذه الجزئية، وهي وجوب الوضوء من الخارج المعتاد لا على الجزء الأخير، وهو عدم الوجوب في غير المنسوخ، ولا يلزم أن يدل كلُّ حديث في الباب على كلِّ الترجمة، بل تكفي دلالة البعض على البعض؛ فتأمل، والله أعلم.
==================
(1/320)
[حديث: إذا أعجلت أو قحطت فعليك الوضوء]
180# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية: بالإفراد (إسحاق هو ابن منصور) وفي رواية إسقاط: (هو)، ولكريمة: إسقاطها وما بعدها؛ أي: ابن بَهرام _بفتح الموحدة_ المعروف بالكوسج المروزي، وهو الأصح، كما نص عليه في «عمدة القاري»؛ معزوَّا [1] لأبي نعيم في «المستخرج».
(قال: أخبرنا النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون الضَّاد المعجمة، ابن شُميل [2]_بضم المعجمة_ أبو الحسن المازني، البصري (قال: أخبرنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتح الحاء المهملة وفتح الكاف، هو ابن عتيبة، تصغير: عتبة الباب، (عن ذَكوان)؛ بفتح المعجمة، (أبي صالح) الزيَّات المدني، (عن أبي سعيد الخدري)؛ هو سعد بن مالك الأنصاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى رجل من الأنصار)؛ أي: ليحضر عنده، ولمسلم وغيره: (مر على رجل)، قال في «عمدة القاري»: فيُحْمَل على أنه مر به، فأرسل إليه، وسمى مسلمٌ هذا الرجل في روايته من طريق أخرى، عن أبي سعيد عِتْبان _بكسر العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، بعدها موحدة، فألف، فنون_ ولفظه من رواية شريك ابن أبي نمر، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله عليه السلام إلى قباء حتى إذا كنا في بني سالم؛ وقف رسول الله عليه السلام على باب عِتْبان، فخرَّ يجر إزاره ... ؛ فذكر الحديث بمعناه، وعِتْبان المذكور هو ابن مالك، الأنصاري، الخزرجي، السالمي، البدري، ووقع في رواية في «صحيح أبي عوانة»: أنه ابن عتبان، قال في «عمدة القاري»: والأول أصح، ورواه ابن إسحاق في «المغازي» قال: فهتف برجل من أصحابه يقال له: صالح، فإن حُمِلَ على تعدد الواقعة، وإلا فطريق مسلم أصح، كما في «عمدة القاري»، وقد وقعت القصة أيضًا لرافع بن خديج وغيره، أخرجه أحمد وغيره، ولكن الأقرب في تفسير المبهم: أنَّه عِتْبان، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فجاء)؛ أي: الرجل المذكور، (ورأسه يقطر)؛ جملة اسمية وقعت حالًا من الضمير الذي في (جاء)، ومعنى (يقطر): ينزل منه الماء قطرة قطرة من أثر الاغتسال، وإسناد القطر إلى الرأس مجاز؛ من قبيل (سال الوادي)، كما في «عمدة القاري».
(فقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: للرجل المذكور: (لعلَّنا)؛ كلمة (لعلَّ) هنا؛ لإفادة التحقيق؛ فمعناه: قد (أعجلناك)؛ أي: عن فراغ شغلك وحاجتك من الجماع أو الغسل، وقوله: (فقال)؛ أي: الرجل للنبي الأعظم عليه السلام، وفي رواية: بإسقاط الفاء: (نعم)؛ أي: أعجلتني؛ مقرر للتحقيق، وقيل: إن (لعلَّ) للاستفهام، ويدل له جوابها بـ (نعم)، وقيل: للإشفاق، ولا يمكن أن تكون (لعلَّ) هنا على بابه للترجي؛ لأنَّه لا يحتاج إلى جواب، وهنا قد أجاب الرجل بـ (نعم)، و (أعجلناك): من الإعجال، يقال: أعجله إعجالًا، وعجَّله تعجيلًا؛ إذا استحثه، أفاده في «عمدة القاري» بزيادة.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أُعجِلت)؛ بضم الهمزة على البناء المجهول، وفي رواية: (إذا عَجِلت)؛ بفتح العين، وكسر الجيم المخففة، بدون همزة، وفي أخرى: (إذا عُجِّلت)؛ بدون همزة وتشديد الجيم على صيغة المجهول، (أو قُحِطت)؛ بضم القاف وكسر الحاء المهملة، وزعم ابن الجوزي: (أن أصحاب الحديث يقولون: قَحطت؛ بفتح القاف)، لكن في «عمدة القاري» نقلًا عن شيخه: (الصواب: ضم القاف)، وفي «مسلم»: (أقحَطت) بالهمزة وفتح الحاء المهملة، وفي رواية: بضم الهمزة وكسر الحاء، والروايتان صحيحتان، ومعنى الإقحاط هنا: عدم الإنزال في الجماع، وهو استعارة من قحوط المطر، ومعناه: انحباسه، وقحوط الأرض: وهو عدم إخراجها النبات، قال التيمي: (ووقع في «الكتاب»: قحطت، والمشهور: أقحطت؛ بالألف، يقال للذي أعجل من الإنزال في الجماع قارف ولم ينزل الماء، أو جامع فلم يأته الماء: أقحط)، قال الكرماني: (فعلى هذا التقدير لا يكون لقوله: «أعجلت» فائدة، اللهم؛ إلا أن يقال: إنه من باب عطف العام على الخاص) انتهى.
قلت: وعلى كون (أو) للشك من الراوي، لا يرد الاعتراض؛ فليحفظ.
قال الكرماني: («أو» هنا للشك من الراوي، أو تنويع الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال في «عمدة القاري»: (والثاني هو الظاهر، ومراده: بيان أن عدم الإنزال سواء كان بأمرٍ خارج عن ذات الشخص كالإعجال، أو كان من ذاته كالإقحاط؛ لا فرق بينهما في الحكم في أن الوضوء عليه فيهما) انتهى، فقول ابن حجر: (قال الكرماني: «ليس «أو» للشك») خطأ بل النُّسَخُ الصحيحة من «شرح» الكرماني أن (أو) للشك؛ فليحفظ.
(فعليك الوضوء)؛ برفع (الوضوء) ونصبه، أما الرفع؛ فعلى أنه مبتدأ وخبره قوله: (عليك)، والنصب على أنه مفعول لقوله: (عليك)؛ لأنَّه اسم فعل؛ نحو: عليك زيدًا، ومعناه: فالزم الوضوء، فهو مفيد للإغراء، وليس الإغراء هنا وجهًا زائدًا في الإعراب، كما توهمه القسطلاني؛ فافهم، ويحفظ.
وفي الحديث: جواز الأخذ بالقرائن؛ لأنَّ الصحابي لمَّا أبطأ عن الإجابة مدة الاغتسال؛ خالف المعهود منه، وهو سرعة الإجابة للنبي عليه السلام، فلمَّا رأى عليه السلام أثر الغسل؛ دلَّ على أنَّه كان مشغولًا بجماع.
وفيه: أنَّه يستحب الدوام على الطهارة؛ لكونه عليه السلام لم يُنْكِرْ عليه تأخير إجابته، وكان ذلك قبل إيجابها؛ لأنَّ الواجب لا يؤخر للمستحب، كما في «عمدة القاري».
وفيه: أنَّ من جامع ولم يُنْزِلْ عليه الوضوء لا الغسل، وهو منسوخ، ولم يقل بعدم نسخه إلا ما روي عن هشام بن عروة، والأعمش، وابن عيينة، وداود، وقال الثوري: وقد أجمعت الأمة الآن على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن معه إنزال، وعلى وجوبه بالإنزال.
وكانت جماعة من الصحابة على أنَّه لا يجب إلا بالإنزال، ثم رجع بعضهم، وانعقد الإجماع بعد الآخرين، وروي إيجاب الغسل عن عائشة أم المؤمنين، وأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن عمر، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، والمهاجرين، وبه قال الإمام الأعظم، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم، وبعض أهل الظاهر، والنخعي، والثوري، فلا يجوز العمل بما روي عن بعض الصحابة من عدم الغسل؛ لأنَّهمنسوخ.
%ص 148%
(تابعه وهب)؛ أي: تابع النضرُ بنُ شميل وهبَ بنَ جرير بن حازم البصري، المتوفى على ستة أميال من البصرة سنة ست ومئتين، وقد وصل هذه المتابعة أبو العباس السراج في «مسنده»، عن زياد بن أيوب عنه (قال)؛ أي: وهب، وسقط في رواية لفظ (قال): (حدثنا شعبة)؛ أي: ابن الحجاج، وفي رواية: (عن شعبة)؛ أي: عن الحكم عن ذكوان ... إلى آخر السند بمثل ما ذكر، فرواية وهب عن شعبة أخرجها الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي، وهذا تعليق من المؤلف وإن احتمل السماع؛ لأنَّ المؤلف كان ابن اثنتي عشرة سنة عند وفاة وهب.
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، وسقطت هذه الجملة في رواية، لكنها المراد، سواء ذكر أو لا: (ولم يقل غندر) هو محمد بن جعفر، (ويحيى)؛ أي: ابن سعيد القطان، في روايتهما لهذا الحديث، (عن شعبة)؛ أي: ابن الحجاج: (الوضوء)؛ يعني: رويا هذا الحديث بهذا الإسناد والمتن، لكن لم يقولا فيه لفظ: (الوضوء)، بل قالا: (فعليك) فقط بحذف المبتدأ، وجاز ذلك؛ لقيام القرينة عليه، والمُقدَّرِ عند القرينة كالملفوظ، كذا قاله الكرماني، لكن قال في «عمدة القاري»: (يعني: أن غندرًا ويحيى رَوَيَا هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد والمتن، لكن لم يقولا فيه: «عليك الوضوء»، فأمَّا يحيى؛ فهو كما قال قد أخرجه أحمد في «مسنده» عنه، ولفظه: «فليس عليك غسل»، وأمَّا غندر؛ فقد أخرجه أحمد أيضًا في «مسنده» عنه، لكنه ذكر الوضوء، ولفظه: «فلا غسل عليك، عليك الوضوء»، وهكذا أخرجه مسلم، وابن ماجه، والإسماعيلي، وأبو نعيم من طرق عنه، وكذا ذكر أكثر أصحاب شعبة كأبي داود الطيالسي وغيره عنه، فكأن بعض مشايخ المؤلف حدثه به عن يحيى وغندر معًا، فساقه له على لفظ يحيى)، قال: (قلت: أما كلام الكرماني؛ فلا وجه له؛ لأنَّ معنى قوله: «عليك» فقط _كما قرره_: يحتمل أن يكون عليك الغسل، ويحتمل أن يكون عليك الوضوء، والاحتمال الأول غير صحيح؛ لأنَّ في رواية يحيى في «مسند أحمد» التصريح بقوله: «فليس عليك غسل»، والاحتمال الثاني هو الصحيح؛ لأنَّ في رواية غندر: «عليك الوضوء»، فحينئذ قوله: «لم يقل غندر ويحيى عن شعبة: الوضوء»؛ معناه: لم يذكر لفظ: «عليك الوضوء»، وهذا كما رأيت في رواية أحمد عن يحيى ليس فيها: «عليك الوضوء»، وإنما لفظه: «فليس عليك غسل».
فإن قلت: كيف قال المؤلف: «لم يقولا عن شعبة: الوضوء»، فهذا في رواية غندر ذكر «عليك الوضوء»؟
قلت: كأَّنه سمع من بعض مشايخه أنَّه حدثه عن يحيى وغندر كليهما، فساق شيخه له على لفظ يحيى، ولم يَسُقْهُ على لفظ غندر، فهذا تقرير ما قاله ابن حجر، ولكن فيه نظر على ما لا يخفى) انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (معزيًّا).
[2] في الأصل: (شهيل)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (معزيًّا).
[1] في الأصل: (معزيًّا).
(1/321)
(35) [باب الرجل يوضئ صاحبه]
هذا (باب) حكم (الرجل) ومثله المرأة (يُوضِّئ)؛ بتشديد الضاد المعجمة، (صاحبُه)؛ أي: غيره وما في حكمه، ويحتمل تنوين (باب)، فـ (الرجل) مبتدأ.
==========
%ص 149%
==================
(1/322)
[حديث: المصلى أمامك]
181# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية: بالإفراد (محمد بن سَلَام)؛ بتخفيف اللام وفتح السين المهملة، وقيل: بتشديد اللام، والأول الأصح، وفي رواية سقط لفظ (محمد) فقط، (قال: أخبرنا يزيد بن هارون)؛ بالنُّون، أحد الأعلام، (عن يحيى)؛ هو ابن سعيد الأنصاري، التابعي، (عن موسى بن عُقْبة)؛ بضم العين المهملة وسكون القاف، الأسدي المدني التابعي، (عن كُريب)؛ بضم الكاف، بالتصغير، (مولى ابن عباس) التابعي، (عن أسامة بن زيد) الحِبِّ بن الحِبِّ رضي الله عنهما، ووقع لابن المنيِّر هنا في الإسناد وهَمٌ بيَّنه في «عمدة القاري»: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أفاض)؛ أي: رجع أو دفع (من عرفة)؛ أي: في وقوف عرفة؛ لأنَّ عرفة اسم الزمان، والدفع كان من عرفة؛ لأنَّه اسم المكان، وقيل: جاء عرفة أيضًا اسمًا للمكان، فعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير، وقال الجوهري: (قول الناس: نَزَلْنَا عرفة، شبيه بمولَّد، وليس بعربي محض)، كذا في «عمدة القاري».
(عَدَلَ)؛ أي: توجَّه، جواب: (لما) (إلى الشِّعب)؛ بكسر الشين المعجمة: الطريق في الجبل، (فقضى حاجته)؛ أي: بال أو تغوط، (قال أسامة)؛ أي: ابن زيد، كما صرح به في رواية: (فجعلت أصُب) بضم الصَّاد المهملة (عليه)؛ أي: الماء، فمفعوله محذوف، والجملة خبر (جعلت)؛ لأنَّه من أفعال المقاربة، (ويتوضأ)؛ جملة محلها النصب على الحال، وجاز وقوع المضارع المثبت حالًا من الواو، قال جار الله الزمخشري في قوله تعالى: {وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]: حال، ويجوز أن يقدر مبتدأ و (يتوضأ) خبره، والتقدير: وهو يتوضأ، وحينئذ تكون الجملة اسمية أو تكون الواو للعطف، انتهى.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (فجعلت أصبُّ ... ويتوضأ)، ففيه: رد لما روي عن ابن عمر وعلي أنهما نهيا أن يُستَقى لهما الماء لوضوئهما، وقالا: نكره أن يشْرِكَنا في الوضوء أحد، ورَوَيَا ذلك عن النبي الأعظم عليه السلام، وهذا لم يصح عنهما؛ لأنَّه ثبت وصحَّ عنهما خلافه، فروى شعبة عن أبي بشر، عن مجاهد: أنَّه كان يسكب على ابن عمر الماء، فيغسل رجليه، وهذا أصحُّ؛ لأنَّ راوي المنع رجل اسمه أيفع، وهو مجهول، والحديث عن عليٍّ لا يصحُّ؛ لأنَّ رواية النضر بن منصور عن أبي الجنوب عنه، وهما غير حجة في الدين، ولا يعتد بنقلهما، قال البزار: (لا نعلمه يروى عن النبي عليه السلام إلا من حديث النضر عن أبي الجنوب عقبة بن علقمة)، وتمام الحديث أخرجه البزار وأبو يعلى من طريق النضر بن منصور، عن أبي الجنوب قال: رأيت عليًّا يستقي الماء لطَهوره، فبادرت أستقي له، فقال: مه يا أبا الحسن؛ فإني رأيت رسول الله عليه السلام يستقي الماء لوضوئه، فبادرت أستقي له، فقال: «مه يا علي؛ فإني لا أريد أن يُعينني على وضوئي أحد»، وقال الطبري: صح عن ابن عباس أنَّه صب على يد عمر رضي الله عنهما الوضوء بطريق مكة حين سأله عن اللتين تظاهرتا، وقيل: صبُّ ابن عباس على يدي عمر أقرب للمعونة من استقاء الماء، ومُحال أن يمنع عمر رضي الله عنه استقاء الماء، ويُبيح صبَّ الماء عليه للوضوء مع سماعه من النبي عليه السلام الكراهة لذلك، ولقائل أن يقول: أسامة تبرع بالصب، وكذا غيره من غير أمره عليه السلام لهم، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(فقلت: يا رسول الله؛ أتصلي؟)؛ أي: في هذا المكان أو في هذا الوقت؟ (فقال) وفي رواية: (قال)؛ بإسقاط الفاء؛ أي: قال النبي الأعظم عليه السلام: (المُصلَّى)؛ بضم الميم وتشديد اللام المفتوحة؛ أي: مكان الصلاة (أَمامَك)؛ بفتح الهمزة وفتح الميم الثانية؛ لأنَّه ظرف خبر (المصلي)؛ أي: قدَّامك، قال ابن بطال: واستدل المؤلف من صب الماء عليه: أنه يجوز للرجل أن يُوَضِّئَه غيره؛ لأنَّه لما لزم المتوضئ اغتراف الماء من الإناء بأعضائه؛ جاز له أن يكفيه ذلك غيرُه بدليل صب أسامة، والاغتراف بعض أعمال الوضوء، فلذلك تجوز سائر أعماله، وهذا من باب القربات التي يجوز أن يعملها الرجل من غيره بخلاف الصلاة، ولما أجمعوا على أنه جائزٌ للمريض أن يُوَضِّئَه غيرُه ويُيَمِّمَه إذا لم يستطع ولا يجوز أن يصلي عنه إذا لم يستطع؛ دلَّ على أن حكم الوضوء بخلاف حكم الصلاة.
قال في «عمدة القاري»: ولم يبين المؤلف في هذه المسألة الجواز ولا عدمه، لكن لما عقد هذا الباب وترجم له؛ يعلم منه جواز ذلك، وإن لم يصرح به، وقال ابن المنير: قاس المؤلف تَوْضِئَةَ الرجل غيره على صبِّه عليه؛ لاجتماعهما في الإعانة، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا قياس بالفارق، والفرق ظاهر.
قلت: وحَمْلُه الترجمة على غسل الأعضاء ليس بلازم؛ لجواز أن يراد بها الاستعانة في الصب على المتوضِّئ، ولهذا قال النووي:
%ص 149%
(وفي الحديث دليل على جواز الاستعانة في الوضوء، وهي على ثلاثة أقسام؛ أحدها: في إحضار الماء، فهذا لا كراهة فيه، والثاني: في غسل الأعضاء، فيستعين في غسلها ويباشر الأجنبي بنفسه غسل الأعضاء، فهذا مكروه إلا لحاجة، والثالث: أن يصب عليه، فهذا مكروه في أحد الوجهين، والأولى تركه).
واعترضه الكرماني: (بأن فيه حزازة؛ لأنَّ ما فعله عليه السلام لا يقال فيه: الأولى تركه؛ لأنَّه عليه السلام لا يتحرى إلا ما فِعلُه أولى، وإذا قلنا: الأولى تركه، كيف ينازع في كراهته وليس حقيقة المكروه إلا ذلك؟!) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ المكروه في حقِّنا لا يكره فعله في حق النبي الأعظم عليه السلام، كما صرحوا به؛ لأنَّه يفعله؛ لبيان الجواز، وهو واجب في حقِّه، بقي أن قوله: (وإذا قلنا: الأولى تركه ... إلخ) هذا حقيقة المكروه تنزيهًا لا المكروه تحريمًا؛ لأنَّ مرجعَ كراهة التنزيه خلافُ الأولى، كما في «فتح القدير»؛ فافهم، وأما قوله: (من أنَّ الاستعانة في إحضار الماء لا كراهة فيها) ينافيه أنَّه خلاف الأولى والأفضل تركه؛ فليحفظ.
وأمَّا ما روي مرفوعًا: «أنا لا أستعين في وضوئي بأحد»، وأنَّه قاله عليه السلام لعمر لما بادر لصَبِّ الماء عليه؛ فقال في «شرح المهذب»: (إنه حديث باطلٌ لا أصل له)، وقال في «عمدة القاري»: ذكره الماوردي في «الحاوي» بسياق آخر، فقال: رُوي أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه همَّ بصبِّ الماء على يد النبيِّ عليهالسلام، فقال: «إني لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد»، وهذا الحديث لا أصل له، والذي وقع على زعم الراوي كان لعمر دون أبي بكر رضي الله عنهما، ثم قال: فإن قلت: هل يجوز أن يستدعي الإنسان الصَّبَّ من غيره بأمره؟ قلت: نعم يجوز؛ لما روى الترمذي محسنًا من حديث ابن عقيل عن الرُّبيِّع قال: أتيت رسول الله عليه السلام بميْضَأَة، فقال: «اسكبي»؛ فسكبت، فذكرَتْ وضوءه عليه السلام، ورواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: لم يحتج المؤلف بابن عقيل، وهو مستقيم الحديث متقدم في الشرف [1]، وروى ابن ماجه بسند صحيح على شرط ابن حبان من حديث صفوان بن عسال قال: «صببت على النبي عليه السلام الماء في السفر والحضر في الوضوء»، وعنده أيضًا بسند معلل عن أم عياش، وكانت أمَة لرقية بنت النبي عليه السلام قالت: «كنت أوضِّئ النبي عليه السلام أنا قائمة وهو قاعد»، وممن كان يستعين على وضوئه بغيره [2] من السلف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال الحسن: رأيته يُصَبُّ عليه من إبريق، وفعله عبد الرحمن بن أبزى، والضحاك بن مزاحم، وقال أبو الضحى: لا بأس للمريض أن يوضئه الحائض، قلت: ومثلها النفساء والمستحاضة، فهذا دليل واضح على أن الاستعانة بغيره غير مكروهة سواء كانت بالصب أو ببقية غسل الأعضاء، وإن كان الأفضل تركها، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بعشرة)، ولعله تحريف عن المثبت.
==================
[1] في الأصل: (الرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/323)
[حديث: كان مع رسول الله في سفر وأنه ذهب لحاجة له]
182# وبه قال: (حدثنا عَمرو بن عَلي)؛ بفتح العين فيهما، الفلاس، أبو الفضل، الصيرفي الباهلي البصري، المعروف جدُّه بالسَّقَّاء، المتوفى بالعسكر أو بسر من رأى سنة تسع وأربعين ومئتين (قال: حدثنا عبد الوهاب)؛ هو ابن عبد المجيد الثقفي البصري، المتوفى سنة أربع وتسعين ومئة عن ثمانين سنة (قال: سمعت يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين المهملة، الأنصاري التابعي (قال: أخبرني) بالإفراد (سعْد) بسكون العين، (بن إبراهيم)؛ هو ابن عبد الرحمن بن عوف القرشي التابعي، قاضي المدينة المتوفى بها سنة سبع وعشرين أو خمس وعشرين عن اثنتين وسبعين سنة: (أنَّ نافع بن جُبير) بضم الجيم والتصغير (بن مُطْعِم)؛ بضم الميم، وسكون الطاء، وكسر العين المهملتين، النوفلي التابعي المدني، المتوفى بالمدينة سنة تسع وتسعين (أخبره)؛ أي: أخبر نافعٌ سعدًا: (أنه سمع عروة بن المُغيرة بن شعبة) الثقفي الكوفي (يحدث عن المُغيرة)؛ بضم الميم وكسرها، أبو عروة المذكور (بن شعبة) الصحابي المشهور، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة الكوفة، توفي سنة خمسين على الصحيح، و (المغيرة) باللام مثل (الحارث) في أنه علَم يدخله اللام للتعريف على سبيل الجواز لا مثل (النجم) للثريا، فإن التعريف باللام لازم فيه، ودخلت اللام في مثل (المغيرة)؛ لإفادة لمح الوصفية، أفاده في «عمدة القاري»: (أنه) أي: المغيرة (كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأدَّى عروة كلام أبيه بعبارة نفسه، وإلا فكان يقتضي أن يقول: (قال أبي: كنت) (في سفر)؛ أي: مصاحبًا له في تلك السفرة، (وأنه) عليه السلام (ذهب لحاجة له) عليه السلام؛ أي: للبول أو للغائط، (وأن مغيرة) وفي رواية: (وأن المغيرة)؛ باللام التي للَّمح، فأدى عروة كلام أبيه بعبارة نفسه، كما سبق (جعل)؛ أي: طفق، من أفعال المقاربة (يصبُّ الماءَ عليه) وفي رواية بإسقاط لفظ: (الماء) الذي هو مفعول (يصب)، لكن القرينة دالة عليه، وإنما أتى بلفظ المضارع؛ إشعارًا لحكاية الحال الماضية، ولو كان عروة يريد حكايةً للفظ أبيه؛ لقال: (وإني جعلت أصبُّ)، ولو لم يراع الحكاية؛ قال: (وإن أبي)، قلت: ولعلَّ فيه التفاتًا على رأي السكاكي؛ فتأمل.
(وهو)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (يتوضأ) جملة اسمية وقعت حالًا، (فغسل وجهه ويديه)؛ بالتثنية، والفاء فيه هي الفاء التي تدخل بين المجمل والمفصَّل؛ لأنَّ المفصَّل كأنه يعقب المجمل؛ كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: {فَإِن فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]؛ لتفصيل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} [البقرة: 226]، وإنما قال: (فغسل) بلفظ الماضي، ولم يقل بلفظ المضارع المناسب للفظ: (يتوضأ)؛ لأنَّ الماضي هو الأصل، وعدل في (يتوضأ) إلى المضارع؛ حكاية عن الحال الماضية.
(ومسح برأسه ومسح على الخفين) إنَّما ذكر في الأول حرف الإلصاق؛ لأنَّه الأصل، وفي الثاني بكلمة (على)؛ نظرًا للاستعلاء، كما يقال: مسح إلى الكعب؛ نظرًا إلى الانتهاء، بحسب المقاصد تختلف صلات الأفعال، وإشارة إلى أن المسح إنَّما يكون على أعلى الخفين لا على جوانبه ولا على أسفله، وقد قال علي رضي الله عنه: (لو كان الدين بالرأي؛ لكان المسح على الخفين على أسفله لا على أعلاه)، وإنما كرر لفظ (مسح)، ولم يكرر لفظ (غسل)؛ لأنَّه يريد بذكر المسح على الخفين بيان تأسيس قاعدة شرعية، فصرَّح استقلالًا بالمسح عليهما، بخلاف قضية الغسل، فإنها مقررة بنص القرآن، ففيه جواز الاستعانة بغيره في الوضوء، لكن من ادَّعى أن الكراهة مختصة بغير المشقة والاحتياج؛ لا يتم له الاستدلال بهذا الحديث؛ لأنَّه كان في السفر، وفيه: أن من الأدب خدمة الصغير للكبير، ولو كان لا يأمر بذلك، كذا في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
وفي يوم الجمعة يوم السادس عشر محرَّم سنة سبع وسبعين ومئتين وألف، قد ضاق حال الناس أشد الضيق، وسُكِّرت أبواب البلد بسبب قتل النصارى وأخذ أموالهم، فأتى للشام فؤاد باشا ناظر الخارجية، وعبد الحليم باشا سر عسكر، ومحمد معمر باشا والي البلد، ومحمد أفندي قاضي الروملي؛ لأجل هذه المصلحة، فأمروا بمسك كل من أتى لهم بأموال من النصارىوحبسوه، ولا ندري ما يفعل به، ونسأل الله الحنان المنان أن يرفع هذه الشدة، ويفرج هذه الرزية العظيمة التي تذوب منها الأكباد يا ستار.
وفي ليلة الرابع عشر من تلك الشهر والسنة كسف القمر بين العشاءين، وكان في تموز، وفي أول تموز كسفت الشمس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولو أوفينا الكلام؛ لبلغ مجلدات كثيرة، والله المستعان.
==========
%ص 150%
==================
(1/324)
(36) [باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره]
هذا (باب) جواز (قراءة القرآن) العظيم (بعد الحدث)؛ أعم من الأصغر والأكبر؛ لأنَّه المراد منهما عند الإطلاق، وأمَّا قراءة القرآن بعد الأصغر؛ فتجوز دون الأكبر، وقال ابن حجر وتبعه العجلوني: (إن المراد بالحدث: الأصغر فقط)، ولا وجه لذلك؛ لأنَّه إن أراد أن المؤلف تعرض هنا إلى حكم القراءة بعد الأصغر دون الأكبر؛ فممنوع؛ لأنَّ عادة المؤلف أنه يُبَوِّبَ الباب بترجمة، ثم يذكر جزءًا مما يشتمل عليه تلك الترجمة،
%ص 150%
وههنا كذلك، فإن المؤلف ذكر أولًا تعليق منصور وحماد، وكل واحد منهما يدل صريحًا على الحدث الأكبر، والحديث بعده يدل على الحدث الأصغر، فتفسير الحدث بالأكبر والأصغر مُتَعيِّن؛ لأنَّه المراد للمؤلف، فمن خصَّصه بالأصغر؛ فلم يُصِبْ؛ فافهم، (وغيره)؛ بالجر؛ عطفًا على لفظ: (القرآن)، وبالنصب؛ عطفًا على محله، فضمير (وغيره) يرجع إلى (القرآن)، والمراد بـ (غيره): مثل كتابة القرآن، وهو شامل للقولي والفعلي؛ يدل لذلك تعليق المؤلف قول منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي، فإنَّه مشتمل على القسمين؛ أحدهما: قراءة القرآن بعد الحدث، والثاني: كتابة الرسائل في حالة الحدث، كذا قرره العلَّامة في «عمدة القاري»، وجرى عليه الشارح القسطلاني.
وأمَّا قول الكرماني: («وغيره»: أي: نحو السلام وسائر الأذكار)، وتبعه العجلوني؛ فغير صحيح، واللفظ لا يقتضيه، ويدلُّ لذلك أنَّ المحدث إذا جاز له قراءة القرآن؛ فالسلام وسائر الأذكار تجوز له بالطريق الأولى، فالتمثيل غير متجه، وفساده ظاهر.
وأمَّا قول ابن حجر: («وغيره»: أي: من مظان الحدث)؛ فليس بشيء؛ لأنَّ عود الضمير لا يصح إلا إلى شيء مذكور لفظًا أوتقديرًا بدلالة القرينة اللفظية أو الحالية، على أنَّه لم يبيِّن ما مظان الحدث؟ ومظنة الحدث على نوعين؛ أحدهما مثل الحدث، والآخر ليس مثله، فإن كان مراده النوع الأول؛ فهو داخل في قوله: (بعد الحدث)، وإن كان الثاني؛ فهو خارج عن الباب، فإذن لا وجه لما قاله على ما لا يخفى، كذا قرره في «عمدة القاري»، وجرى عليه الشارح القسطلاني، فما قاله العجلوني محاولة، وتعصب، وخروج عن الظاهر، فلا حاجة في الاشتغال بردِّه.
(وقال منصور): هو ابن المعتمر السلمي الكوفي، (عن إبراهيم): هو ابن يزيد النخعي الكوفي الفقيه، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة، وروى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور مثله؛ فافهم: (لا بأس بالقراءة) للقرآن (في الحمَّام)، وروى سعيد بن منصور أيضًا، عن محمد بن أبان، عن محمد بن أبي سليمان قال: سألت إبراهيم عن القراءة في الحمَّام، فقال: يكره ذلك، فما في المتن يدلُّ على عدم الكراهة، فظهر أنَّ عن إبراهيم روايتان؛ في رواية: يكره، وفي رواية: لا يكره لكن تركه أَوْلى؛ لأنَّه عبَّر بقوله: (لا بأس)، وهي تستعمل فيما تركه أَوْلى، وإنما ذكر المؤلف الأثر الذي فيه ذكر الحمَّام، والتبويب أعمُّ منه؛ لأنَّ الغالب أنَّ أهل الحمام أصحاب الأحداث الكبار، والغالب كالمتحقق، واختلفوا في ذلك؛ فعن الإمام الأعظم: أنه يكره قراءة القرآن في الحمام، وعن الإمام محمد بن الحسن: أنه لا يكره، وبه قال مالك، وإنما كره الإمام الأعظم قراءة القرآن في الحمام؛ لأنَّه محلُّ مجتمع الأقذار من النجاسات، وكشف العورات، والأغسال، والمياه المستعملة، فإن الماء المستعمل عند الإمام الأعظم نجس، ولا شك أن القرآن ينبغي أن يقرأ في مكان طاهر، خالٍ عن النجاسات، وأوساخ الناس، ساتر العورة، مستقبل القبلة، وهذا كله غير موجود في الحمَّام، فلذا كرهه الإمام الأعظم، وهو الذي يدلُّ عليه كلام إبراهيم المذكور؛ فافهم، على أنَّه روى ابن المنذر عن علي رضي الله عنه قال: (بئس البيت الحمَّام، ينزع فيه الحياء، ولا يقرأ فيه آية من كتاب الله)، فهذا يدل على الكراهة أيضًا؛ لما ذكرناه.
وهذا إذا قرأ داخل الحمام محل الاغتسال، أمَّا لو قرأ القرآن في خارج الحمَّام في محل خلع الثياب؛ فإنَّه لا كراهة في ذلك؛ لعدم شيء ممَّا ذُكِر، ومثل القراءة الصلاة، فإنها في محل الاغتسال تُكرَه، وفي محل خلع الثياب لا تُكرَه، والله تعالى أعلم.
(وبكَتب)؛ بالموحدة وفتح الكاف (الرسالة) فإنَّ (الكتب) مصدر دخلت عليه الباء الموحدة حرف الجر، وهو معطوف على قوله: (لا بأس بالقراءة)، والتقدير: ولا بأس بكتب الرسالة (على غير وضوء)؛ وفي رواية: (ويكتب الرسالة) على صيغة المجهول من المضارع، والوجه الأول أوجه، وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن الثوري أيضًا عن منصور قال: سألت إبراهيم: أأكتب الرسالة على غير وضوء؟ قال: نعم، كذا في «عمدة القاري» مع أنَّ الغالب تصديرها؛ بنحو: البسملة، والحمدلة، والصلاة على رسوله عليه السلام، على أنَّه الحروف كلها وحدها معظَّمة، وهي قرآن أنزل على سيدنا هود عليه السلام، كما صرَّحوا به؛ فلا وجه لما قاله بعض الشافعية: من أنَّه يجوز الاستنجاء بالتوراة والإنجيل؛ لأنَّها محرَّفة ومتبدِّلة، ولا يخفى أنَّ هذا مجازفة، ألا ترى أنهم هل علموا ذلك بنصٍّ قاطع أنَّهم بدَّلوها عن آخرها، ولا يقول ذلك إلا مبتدع ومخالف للحق؛ فافهم.
وزعم ابن حجر بأنَّ قوله: (على غير وضوء) يتعلق بالكتابة لا بالقراءة في الحمام.
وردَّه في «عمدة القاري»: (بأنَّا لا نسلِّم ذلك، فإن قوله: «ويكتب الرسالة» على الوجهين متعلق بالقراءة، وقوله: «على غير وضوء» يتعلق بالمعطوف والمعطوف عليه؛ لأنَّهما كالشيء الواحد) انتهى، وقد جرى عليه القسطلاني والعجلوني؛ لأنَّ ذلك متعين؛ لظهور المعنى، وما قاله ابن حجر غير ظاهر المعنى، فهو ممنوع؛ فافهم، فيكره للجُنُب أو الحائض أن يكتب الكتاب الذي في بعض سطوره آية من القرآن، وإن كانا لا يقرأان شيئًا؛ لأنَّهما منهيَّان عن مسِّ القرآن، وفي الكتابة يحصل المس؛ لأنَّه يكتب بقلمه، وهو في يده، وهو مسٌّ صورة، وفي «المحيط»: لا بأس لهما بكتابة المصحف إذا كانت الصحيفة على الأرض عند الإمام أبي يوسف؛ لأنَّه لا يمسُّ القرآن بيده، وإنما يكتب حرفًا حرفًا، وليس الحرف الواحد بقرآن، وقال الإمام محمد: (أَحبُّ إليَّ ألَّا يكتب؛ لأنَّه في الحكم مباين للحروف، وهي بكلِّيتها قرآن)، وبه أخذ علماء بخارى، كذا في «الذخيرة البرهانية»، وقد أوضحناه في «منهل الطلاب»؛ فليحفظ.
قال في «التبيين»: (ويكره للجنب أو الحائض أو النفساء أن يكتبوا كتابًا فيه آية من القرآن؛ لأنَّه يكتب بالقلم وهو في يده، كذا في «الفتاوى السمرقندية»، وذكر الإمام أبو الليثأنَّه لا يكتبه، وإن كانت الصحيفة على الأرض، ولو كان مادون الآية، وذكر الإمام القدوري أنَّه لا بأس به إذا كانت الصحيفة على الأرض، وهو قول الإمام أبي يوسف) انتهى، وقال الإمام محمد: (أحب إلي ألَّا يكتب؛ لأنَّه في حكم الماسِّ للقرآن)، كما في «الحلية» عن «المحيط»، قال في «فتح القدير»: (وقول الإمام أبي يوسف أَقْيَس؛ لأنَّها إذا كانت على الأرض كان مسُّها بالقلم، وهو واسطة منفصلة، فكان كثوب منفصل، إلا أن يكون يمسه [1] بيده) انتهى.
قال في «شرح المنية»: (وينبغي التفصيل؛ فإن كان لا يمس الصحيفة بأن وضع عليها ما يحول بينها وبين يده؛ يؤخذ بقول الإمام أبي يوسف؛ لأنَّه لم يمس المكتوب ولا الكتاب، وإلَّا؛ فبقول الإمام محمد؛ لأنَّه إن لم يمس المكتوب؛ فقد مسَّ الكتاب) انتهى، ومشى على هذا التفصيل في «الدر المختار»، ولا يخفى أنَّ هذا مأخوذ مما ذكرنا عن «فتح القدير»، ووفَّق بعضهم بين القولين بما يرفع الخلاف بحمل قول الإمام أبي يوسف على الكراهة التحريمية، وقول الإمام محمد على التنزيهية بدليل قوله: (أحب إليَّ ... ) إلخ؛ فتأمل، كذا في «منهل الطلاب».
(وقال حماد) بالحاء المهملة، هو ابن سليمان، فقيه الكوفة، وشيخ الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنهما، المتوفى سنة ست وعشرين ومئة، (عن إبراهيم)؛ أي: النخعي مما وصله الثوري في «جامعه»، مجيبًا لمن سأله عن حكم السلام على من كان في الحمام متجرِّدًا عن الثياب، فقال: (إن كان عليهم) أي: على من أردت السلام عليهم وهم في الحمام (إزار): هو ما يلبس في النصف الأسفل يذكَّر ويؤنَّث، والمراد أنهم إن كانوا ساترين العورة من السرة إلى الركبة؛ (فسلَّم عليهم)، وفي رواية: إسقاط لفظ: (عليهم)، وهي مرادة لا بدَّ من تقديرها؛ فافهم، (وإلا)؛ أي: وإن لم يكن عليهم إزار؛ (فلا تسلم)؛ أي: عليهم إهانة لهم؛ لكونهم على بدعة، أو لكون السلام يستدعي ذكر السلام الذي هو من أسمائه تعالى مع وقوعه في القرآن العظيم، ولاشتغالهم بالاغتسال، وغسل النجاسة والاستنجاء، وقيل: لأنَّه مأوى الشياطين، ومفاده: أنَّه لا يسلَّم على من في السوق؛ لأنَّه محل الشياطين، لكنه يسنُّ السلام على من كان فيه، ويلزمهم الردُّ، وأمَّا ما رواه مسلم عن ابن عمر من كراهة ذكر الله تعالى
%ص 151%
بعد الحدث؛ فليس على شرط المؤلف.
وزعم ابن حجر أنَّ قوله: («إن كان عليهم»؛ أي: على من في الحمام، والمراد: الجنس) تعقَّبه في «عمدة القاري»: بأنَّ هذا عام يتناول القراءة فيه، والقاعدين في ثيابهم في مسلخ الثياب، فكيف يطلق كلامه على من في الحمام على سبيل العموم؟! والسلام على القاعدين بثيابهم لا خلاف في جوازه، انتهى.
وأجاب القسطلاني: (بأن المسلخ وإن أطلق عليه اسم الحمام؛ فمجاز، والحمام في الحقيقة: ما فيه الماء الحميم) انتهى.
واعترض: بأن الحمام الآن اسم لما فيه الماء الحميم ولمكان خلع الثياب؛ وهو المسلخ حقيقة عرفية، ألا ترى أنَّ الرجل إذا دخل مسلخ الحمام، وسألته أين كنت؟ فيقول: في الحمام، على الإطلاق، فالحمام في الحقيقة العرفية اسم للمسلخ ولما فيه الماء الحميم على العموم، والحقيقة اللغوية مهجورة، فجواب القسطلاني مردودعليه؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (مسته)، وهو تحريف.
==================
(1/325)
[حديث ابن عباس: أنه بات ليلة عند ميمونة]
183# وبه قال: (حدثنا إسماعيل): هو ابن [أبي] أويس الأصبحي (قال: حدثني) بالإفراد (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، خال إسماعيل، (عن مَخْرَمة) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الرَّاء (بن سليمان) الوالبي المدني، (عن كُرَيب) بضم الكاف، وفتح الرَّاء، آخره موحدة (مولى ابن عباس) التابعي: (أن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما، والإسناد كله مدنيون (أخبره)؛ أي: أخبر ابنُ عباس كريبًا: (أنَّه) أي: ابن عباس (بات ليلة عند ميمونة زوج النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وجملة قوله: (وهي) أي: ميمونة (خالته)؛ أي: خالة ابن عباس أخت أمه؛ حالية، والظاهر: أنها من كلام كريب، (فاضطجعت)؛ أي: وضعت جنبي على الأرض، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: (اضطجع) بصورة الماضي الغائب، كما قال: (بات)، أو قال: (بتُّ)، كما قال: (فاضطجعت) بصورة المتكلم فيهما، ولكنَّه قصد بذلك التفنن في الكلام، وهو نوع من أنواع الالتفات، والقاصد لذلك كريب؛ لأنَّه الذي نقل كلام ابن عباس، والظاهر: أن اختلاف العبارتين من ابن عباس ومن كريب؛ لأنَّ كريبًا أخبر أولًا عن ابن عباس: (أنه بات ... ) إلخ، ثم أضمر لفظة: (قال) قبل (فاضطجعت)، فيكون الكلام على أسلوب واحد، كذا في «عمدة القاري»، (في عَرْض)؛ بفتح العين المهملة وسكون الرَّاء، كما في «الفرع»، وهو المشهور، وقال السفاقسي: (ضمُّ العين غير صحيح، ورويناه بفتحها عن جماعة)، وفي «المطالع»: (الفتح عند أكثر مشايخنا، ووقع عند جماعة؛ منهم: الداودي والطرابلسي والأصيلي: بضم العين)، قال في «عمدة القاري»: والأول أظهر، وقال النووي: هو الصحيح، وأنكر الباجي الضم، وهو مردود؛ لثبوت الرواية به عن جماعة، كما علمت، (الوسادة): المخدة، وهو ما يتوسَّد به عند النوم، وهو المتكأ، كما في «الصحاح» و «المجمل» وغيرهما، وزعم ابن التين أنَّ (الوساد): الفراش الذي ينام عليه، وهو باطل؛ كما قاله في «عمدة القاري» عن النووي.
(واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله) أي: زوجته أم المؤمنين ميمونة (في طولها)؛ أي: الوسادة، وهذا يقتضي: أن يكون عرض الوسادة محلًّا لاضطجاع ابن عباس؛ فتأمل.
(فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى)؛ للغاية؛ أي: إلى أن (انتصف)، وفي رواية: (حتى إذا انتصف) (الليل أو قبله) أي: قبل انتصافه (بقليل أو بعده)؛ أي: بعد انتصافه، (بقليل استيقظ)؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في رواية، فإن جعلت (إذا) ظرفية؛ فقوله: (أو قبله) ظرف لقوله: (استيقظ)؛ أي: استيقظ وقت انتصاف الليل أو قبل انتصافه، و (أو) للتشكيك، وإن جعلت (إذا) شرطية؛ فيكون (قبله) متعلقًا بفعل مقدر، و (استيقظ): جواب الشرط، والتقدير: حتى إذا انتصف الليل أو كان قبل الانتصاف؛ استيقظ، كذا في «عمدة القاري».
(فجلس) عليه السلام، وفي رواية: (فجعل) (يمسح النوم) ففي الأول: يكون (يمسح) التي هي جملة من الفعل والفاعل محلها النصب على الحال من الضمير في (فجلس)، وفي الثاني: تكون الجملة خبرًا لقوله: (فجعل)؛ لأنَّه من أفعال المقاربة، ومسح النوم من العينين من باب إطلاق اسم الحال على المحلِّ؛ لأنَّ المسح لا يقع إلا على العينين، والنوم لا يمسح، كذا في «عمدة القاري»، (عن وجهه بيده)؛ بالإفراد، والمراد: الجس؛ أي: يمسح بيديه، وزعم ابن حجر أن المراد: يمسح أثر النوم من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، قال في «عمدة القاري»: أثر النوم من النوم؛ لأنَّه نفسه، فكيف يكون من هذا الباب؟! انتهى، وأجاب القسطلاني وتبعه العجلوني: بأن الأثر: ارتخاء الجفون من النوم، انتهى، قلت: وما أجابا به هو عين الاعتراض، فإنَّ ارتخاء الجفون لا ريب أنَّه من النوم؛ لأنَّه نفسه، فقد أثبتا الاعتراض المذكور، على أنَّ ارتخاء الجفون لا يقال له: أثر؛ لأنَّ النوم فترة طبيعية لا أثر لها، وأمَّا ارتخاء الجفون والاضطجاع ونحوه؛ إنَّما هي هيئات وصفات لحصول تلك الفترة، ألا ترى أن بعض الناس ينامون وأعينهم مفتوحة، وبعض البهائم كذلك؛ فافهم.
ثم قال العجلوني معترضًا على صاحب «عمدة القاري»: (بأنه إذا كان النوم من العينين؛ كيف يلتئم مع قوله «عن وجهه»؟!).
قلت: وهو ظاهر الالتئام، فإنَّ العينين في الوجه، وهو كالظرف لهما، فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض؛ لأنَّ النوم غالبًا لا يظهر إلا من العينين، فما قاله العجلوني مردود عليه؛ فافهم.
(ثم قرأ) عليه السلام (العشر الآيات)؛ بإضافة العشر إلى الآيات، ويجوز دخول لام التعريف على العدد عند الإضافة؛ نحو: (الثلاثة الأبواب)، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، كذا في «عمدة القاري» (الخواتيمَ)؛ أي: الأواخر، بالنصب؛ لأنَّه صفة (العشر)، وهو جمع خاتمة (من سورة آل عمران)، وهي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي: لذوي العقول {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًاوَعَلَى جُنُوبِهِمْ}، والمراد به: الإكثار من ذكر الله عزَّ وجلَّ، ففي الحديث: «من أحبَّ أن يرتع في رياض الجنة؛ فليكثر ذكر الله»، وفي حديث آخر: «إذا مررتم برياض الجنة؛ فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر»، فلا دلالة فيه للشافعي في أنَّ المريض يصلي مضطجعًا؛ لأنَّ المراد من الآية: ذكر الله عزَّ وجلَّ، لا الصلاة، فإن قوله: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}؛ أي في حال اضطجاعهم للنوم، ويدلُّ لذلك قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، والتفكُّر في ذلك لا يكون في حال الصلاة، وإنما يطلب فيها الخشوع والخضوع لله عزَّ وجلَّ، ويدل لذلك قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فهو دليلٌ ظاهر على أن المراد: التفكر خارج الصلاة حال الاضطجاع للنوم، فإنه يتفكر في النجوم التي في السماء، ويتفكَّر في ظلمة القبر، وعذاب النار، وغير ذلك، ويدلُّ له قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ*رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} المراد به: النبي الأعظم عليه السلام {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ*رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ*فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ*لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا [فِي الْبِلَادِ] * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ* لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ الله
%ص 152%
وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ*وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِله لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواِ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواِ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 190 - 200]، وتفسير ذلك يطلب من «تفسير أبي السعود» و «الزمخشري»، والله تعالى أعلم.
(ثم قام) عليه السلام (إلى شِنٍّ)؛ بكسر الشين المعجمة وتشديد النُّون، وهو وعاء الماء إذا كان من أدم فأَخْلَق، وجمعه شِنان؛ بكسر المعجمة، (معلقة)؛ بالجرِّ، صفة (شن)، وقد سبق هذا الحديث في باب (التخفيف)، وذكر فيه مالفظه: (فتوضَّأ من شنٍّ معلَّق وضوءًا خفيفًا)؛ بتذكير وصف: (شن) وتوصيف الوضوء بالخفة، وهنا أنَّث الوصف؛ حيث قال: (معلقة)، وقال: (فتوضأ منها) أي: من الشن، (فأحسن وضوءه) والمراد به: الإتمام والإتيان بجميع مندوباته، فما وجه الجمع بينهما؟ أجاب في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: الشَّنُّ: يذكَّر ويؤنَّث، فالتذكير باعتبار لفظه أو باعتبار الأدم أو الجلد، والتأنيث باعتبار القربة، وإتمام الوضوء لا ينافي التخفيف؛ لأنَّه يجوز أن يكون أتم بجميع مندوباته مع التخفيف، أو هذا كان في وقت، وذاك في وقت) انتهى، فافهم.
(ثم قام يصلي) عليه السلام (قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع): النبي الأعظم عليه [السلام]؛ أي: توضأت نحوًا مما توضأ، كما صرح به في باب (التخفيف)، ويحتمل أن يريد به أعم من ذلك، فيشمل النوم حتى انتصاف الليل، ومسح العينين من النوم، وقراءة العشر الآيات، والقيام إلى الشن، والوضوء، وإحسانه، كذا في «عمدة القاري».
(ثم ذهبت فقمت إلى جنبه) عليه السلام؛ أي: الأيسر، (فوضع) أي: النبي الأعظم عليه السلام (يده اليمنى على رأسي؛ فأخذ) أي: ثم أخذ (بأُذْني)؛ بضم الهمزة وسكون الذال المعجمة (اليمنى)؛ أي: بعد أن دارني، وجملة قوله: (يفتلها)؛ أي: يدلكها ويعركها حال أو خبر (أخذ)، ولم يكن فتله لأذنه إلا لأجل أنَّه لما وقف بجنبه اليسار؛ أخذ أذنه وعركها وأداره إلى يمينه، وما قاله القسطلاني والعجلوني: من أنَّه لأجل التأنيس له عليه السلام؛ لكون ذلك كان ليلًا؛ فيه نظر؛ لأنَّه عليه السلام لا يستوحش وحده؛ لكونه دائمًا بمراقبة ربه عز وجل، وإذا لم يكن ابن عباس موجودًا عنده؛ بمن كان يستأنس؟! فما قالاه مردود عليهما؛ فافهم.
(فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين)، فلفظ (ركعتين) مكرر ست مرات، فيكون المجموع اثنَتيْ عشرة ركعة، ففيه دليل للإمام أبي يوسف والإمام محمد، وهو رواية عن الإمام الأعظم: أن صلاة الليل مثنى مثنى، (ثم أوتر)؛ أي: بثلاث ركعات لا بواحدة؛ لأنَّه قد ورد: النهي عن البتيراء؛ وهو التنفل بركعة واحدة، وهو حجة على الشافعي، كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى، وهذا تقييد وتفسير للمطلق الذي ذُكٍر في باب (التخفيف) حيث قال هناك: (فصلى ما شاء الله تعالى)، (ثم اضطجع) عليه السلام؛ أي: نام حتى نفخ، كما صرح به في باب (التخفيف) (حتى) أي: إلى أن (أتاه المؤذن)؛ أي: بلال رضي الله عنه؛ أي: فأيقظه وأعلمه بالصلاة، (فقام) عليه السلام (فصلى ركعتين خفيفتين)، وهما سنة الصبح، (ثم خرج)؛ أي: من الحجرة إلى المسجد، (فصلى الصبح)؛ أي: فرضه بأصحابه رضي الله عنهم، ففيه: دليل على استحباب قيام الليل، والصلاة فيه وقراءة الآيات المذكورة بعد الانتباه من النوم، وعلى تخفيف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح مع مراعاة أدائها، وعلى جواز عرك أذن الصغير؛ لأجل التأديب، وعلى استحباب مجيء المؤذن إلى الإمام وإعلامه بإقامة الصلاة، وعلى جواز الاضطجاع عند المَحْرَم وإن كان زوجها عندها، وعلى استحباب إقامة المقتدي على يمين الإمام، وعلى استحباب أداء السنن في البيت والفرائض في المسجد، وقال ابن بطال: (فيه دليل على ردِّ من كره قراءة القرآن على غير طهارة لمن لم يكن جنبًا، وهي الحجة الكافية؛ لأنَّه عليه السلام قرأ العشر الآيات بعد قيامه من النوم قبل الوضوء)، واعترضه الكرماني: (بأنه ليس ذلك حجَّة كافية؛ لأنَّ قلبه عليه السلام لا ينام ولا ينتقض وضوءه به)، وتبعه ابن المنير، ثم قال: (وأمَّا كونه توضأ عقيب ذلك؛ فلعلَّه جدَّد الوضوء، أو أحدث بعد ذلك فتوضأ)، واستحسن ابن حجر كلامه بالنسبة إلى كلام ابن بطال حيث قال: (بعد قيامه من النوم)، ثم قال: (لأنَّه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لمَّا عقَّب ذلك بالوضوء؛ كان ظاهرًا في كونه أحدث، أو لا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه ألَّا يقع منه حدث وهو نائم، نعم؛ إن وقع؛ شعر به، بخلاف غيره، وما ادَّعوه من التجديد وغيره؛ الأصل عدمه) انتهى.
واعترضه في «عمدة القاري» كما هي عادته في بيان ما هو الصواب؛ حيث قال: (قلت: وقوله: «لا يلزم من كون نومه ... » إلى آخره: غير مسلَّم، وكيف يمنع عدم الملازمة؟! بل يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه ألَّا يقع حدثٌ في حالة النوم؛ لأنَّ هذا من خصائصه عليه السلام، فيلزم من قول هذا القائل ألَّا يفرَّق بين نوم النبي الأعظم عليه السلام ونوم غيره، وهو ممنوع).
وقوله: «وما ادَّعوه من التجديد وغيره؛ الأصل عدمه» قال: (قلت: وهذا عند عدم قيام الدليل على ذلك، وههنا قام الدليل بأنَّ وضوءه عليه السَّلام لم يكن لأجل الحدث، وهو قوله عليه السلام: «تنام عيناي ولا ينام قلبي»، فحينئذ يكون تجديد وضوئه؛ لأجل طلب زيادة النور حيث قال: «الوضوء على الوضوء نور على نور») انتهى.
قلت: وهو كلام في غاية التحقيق:
إذا قالت حزام فصدِّقوها ... فإن القول ما قالت حزام
فليحفظ.
واعلم أن مطابقة الحديث للترجمة في قراءة القرآن بعد الحدث؛ لأنَّه عليه السلام قرأ العشر الآيات بعد قيامه من النوم قبل وضوئه، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه كيف يقال هذا ونومه عليه السلام لا ينقض وضوءه؟!
وزعم ابن حجر تبعًا للسبكي أنَّ مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن مضاجعة الأهل في الفراش لا تخلو من الملامسة، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّ هذا بعيد؛ لأنَّا لا نسلِّم ذلك على التحقيق، ولئن سلَّمنا؛ فمراده من الملامسة: اللمس باليد أو الجماع، فإن كان الأول؛ فلا نقض للوضوء أصلًا سيما في حقه عليه السلام؛ لأنَّه قد ثبت عنه عليه السلام أنَّه كان يقبِّل بعض أزواجه ثمَّ يصلي، ولم يتوضأ، كما رواه أبو داود والنَّسائي وغيرهما، وإن كان الثاني؛ فيحتاج إلى الاغتسال، ولم يوجد هذا في هذه القصة، انتهى بزيادة.
وأجاب القسطلاني وتبعه العجلوني عن الأول بأنَّ المذهب الجزم بانتقاض الوضوء بالمس باليد، انتهى.
قلت: أي: في مذهب الشافعي، وهذا ليس بجواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ لأنَّ المذهب لا يعارض الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي الأعظم عليه السلام، ومهما اجتهد الشافعي لا يصل إلى مقام المعارضة للأحاديث، فإن أجابوا بأحاديث تدل [في] ظاهرها على أن المسَّ ينقض الوضوء؛ فأحاديث عدم النقض أصحُّ وأرجح من وجوه شتَّى، على أنَّ أحاديث النقض مثبتة، وعدم النقض نافية، والقاعدة عند المحققين: أن المثبِت مقدَّم على النافي، على أنَّ أحاديث عدم النقض أقوى وطرقها عديدة؛ فهي أولى، على أنَّ الشافعي استدلَّ بالنقض بالآية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، وإجماع أهل اللغة _وهو المروي عن جميع الصحابة_ أن المراد بالمسِّ: الجماع؛ لأنَّه كناية، كما كنَّى عن قضاء الحاجة: بـ {الغائط}، فلا دليل يظهر له في ذلك، والله تعالى أعلم وأحكم.
==================
(1/326)
(37) [باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل]
هذا (باب: من لم يتوضأ)؛ أي: من لم يَرَ الوضوء (إلا من الغَشْي)؛ بفتح الغين المعجمة، وسكون الشين المعجمة، آخره ياء، يقال: غشي عليه غشية، وغشية، وغشيانًا، فهو مغشي عليه، والغشي: مرض يعرض من طول التعب والوقوف، وهو ضرب من الإغماء، إلا أنَّه أخف منه، وقد يكون من نحو مرض، وقال صاحب «العين»: (غشي عليه: ذهب عقله)، وفي التنزيل: {كَالَّذِي يُغْشَى
%ص 153%
عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} [الأحزاب: 19]، وقال تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، وقوله: (المُثقل): صفة الغشي، وهو بضم الميم، من أثقل يثقل إثقالًا، فهو مثقل؛ بكسر القاف للفاعل، وبفتحها للمفعول.
فإن قلت: كيف يجوز هذا الحصر وللوضوء أسباب أُخَر غير الغَشْي؟
قلت: إنَّما يقع مثل هذا الحصر؛ فالمراد أنه ردُّ لاعتقاد السامع حقيقةً أو ادَّعاءً، فكأن ههنا من يعتقد وجوب الوضوء من الغشي مطلقًا سواء كان مثقلًا أو غير مثقل وأشركهما في الحكم، فالمتكلم حصر على أحد النوعين من الغشي، فأفرده بالحكم مزيلًا للشركة، ومثله من قبيل قصر الأفراد، ومعناه: أنه [1] لم يتوضأ إلا من الغَشْي المثقل لا من الغَشْي الغير المثقل، وليس المعنى: من توضَّأ من الغشي المثقل، لا من سبب آخر من أسباب الحدث، أو أنه استثناء مفرَّغ، فلا [بدَّ] من تقدير المستثنى منه مناسبًا له؛ فتقديره: من لم يتوضأ من الغشي إلا من الغشي المثقل، كذا قرره في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (أن)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/327)
[حديث: ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا]
184# وبه قال: (حدثنا إسماعيل)؛ أي: ابن أبي أويس (قال: حدثني)؛ بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي خال إسماعيل المذكور، (عن هِشام بن عُروة)؛ بكسر الهاء، وضم العين المهملة؛ أي: ابن الزبير بن العوَّام _بتشديد الواو_ القرشي، (عن امرأته) أي: هشام (فاطمة)؛ أي: بنت المنذر بن العوام، (عن جدتها أسماء) على وزن (حمراء) (بنت أبي بكر)؛ أي: الصديق الأكبر، وزوجة الزبير بن العوام، وفي رواية: (عن جدته)؛ بتذكير الضمير، وكلاهما صحيحان بلا تفاوت في المعنى؛ لأنَّ أسماء جدة لهشام ولفاطمة كليهما؛ لأنَّها أم عروة والد هشام وأم المنذر أبي فاطمة: (أنها) أي: أسماء (قالت: أتيت عائشة)؛ أي: أختها الصديقة (زوج النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ورضي عنها (حين) ظرف لـ (أتيت) (خَسَفَتِ الشمس)؛ بالبناء للفاعل، وأطلقت على الكسوف خسوفًا، إمَّا حقيقة أو مجازًا، قيل: يقال أيضًا: كسفت، ويقالان للقمر أيضًا، ويقال أيضًا: خُسفا وكُسفا؛ بضم أولهما، وانخسفا وانكسفا، قال ثعلب: والأجود: كسفت الشمس وخسف القمر، وهو ذهاب ضوئهما كله أو بعضه، وقيل: الخسوف في الكل، والكسوف في البعض، وقيل: الخسوف ذهاب لونهما، والكسوف تغيره، (فإذا الناس قيام يُصَلَّون)؛ أي: صلاة الكسوف ركعتين، (وإذا هي)؛ أي: عائشة رضي الله عنها (قائمة تصلي)؛ أي: صلاة الكسوف.
(فقلت) أي: قالت أسماء لعائشة: (ما للناس؟)؛ أي: قائمين يصلون، (فأشارت) أي: عائشة (بيدها نحو السماء)؛ أي: رفعتها تريد إعلامها بذلك، وهو غير مفسد ولا مكروه للصلاة، لكنه ينافي الخشوع، (وقالت)؛ أي: عائشة، وفي رواية: (فقالت)؛ بالفاء: (سبحان الله!)، وقولها ذلك أيضًا غير مفسد ولا مكروه؛ لأنَّه من أعمال الصلاة، وجملة: (فقلت: آية؟)؛ أي: أهي علامة لعذاب الناس؟ من القول، ومقوله من كلام أسماء، (فأشارت)؛ أي: عائشة برأسها كما في الرواية السابقة في كتاب (العلم) (أن)، وفي رواية: (أي)، وهما حرفا تفسير، (نعم) آية للعذاب، قالت أسماء [1]: (فقمت)؛ أي: وقفت في الصلاة (حتى) أي: إلى أن (تجلَّاني)؛ بالجيم؛ أي: غطَّاني، (الغَشِيُّ)؛ بفتح الغين المعجمة، وكسر الشين المعجمة، وتشديد التحتية، أو بفتح، فسكون، قال ابن بطال: (الغشي: مرض يَعْرِض من طول التعب والوقوف، وهو ضرب من الإغماء، إلا أنَّه دونه) انتهى، قلت: وقد يكون من نحو مرض الصفراء تصعد إلى رأس الشخص، فمن شدة بخارها وغلظه يحصل ذلك، وفي قوله: (ضرب من الإغماء) مع قوله: (إلا أنه دونه) نوع تدافع؛ فتأمل، ويطلق الغشي على ذهاب العقل، كما قاله صاحب «العين»، كما سبق.
وفي قولها: (وجعلت أصُبُّ) بضمِّ الصَّاد المهملة (فوق رأسي ماء) كان بقربها؛ إشارةٌ إلى أنَّه لم يكن مثقلًا، وأنَّ حواسها بقيت مُدْرِكة، وإلَّا فالإغماء المستغرق ينقض الوضوء إجماعًا، وكان صبُّها الماء فوق رأسها؛ ليزول عنها الغشي بحركة أو حركتين أو حركات لا تبطل الصلاة، والظَّاهر: أنَّ المراد: أخذ الماء بيدها وبلها ووضعها على رأسها، لا أنَّه تأخذه بإناء وتصبُّه؛ لأنَّ ذلك ممَّا يتلف ثيابها، وهذا فيه منفعة عظيمة لأرباب الصفراء في زوال ألم الرأس منها، ووجه الاستدلال بفعلها: من جهة أنَّها كانت تصلي خلف النبي الأعظم عليه السلام، وكان يرى من خلفه كما يرى من أمامه وهو في الصلاة، ولم يُنْقَل أنَّه أنكر ذلك عليها وأمرها بالوضوء، وفيه تحصل المطابقة للترجمة، كذا قاله الشارحان، وفيه نظر، فإنَّ الذي رآه عليه السلام منها هو صبُّ الماء فوق رأسها، وأمَّا الغشي؛ فإنَّه أمر باطني خفي لا يدرك بالنظر، على أنَّه هي كانت في حجرتها، والنبي عليه السلام يصلي في المسجد، وهو يرى من خلفه من أصحابه لا من في الحجر.
والوجه الصحيح أن يقال: فوجه المطابقة للترجمة في قولها: (حتى تجلاني الغشي)؛ لأنَّه لو كان مثقلًا؛ لكان ينتقض الوضوء منها؛ لأنَّه كالإغماء، والدليل على أنَّه لم يكن مثقلًا أنَّها صبَّت الماء على رأسها؛ ليزول الغشي، وذلك يدلُّ على أنَّ حواسها كانت حاضرة، وهو يدلُّ على عدم انتقاض وضوئها، فأخبرت بذلك النبي الأعظم عليه السلام، فأقرَّها ولم يُنْكِر عليها؛ فليحفظ.
(فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من الصلاة لا من المسجد وإن جرى [عليه] كثير من الشراح؛ لأنَّه يبعده قوله: (حمد الله وأثنى عليه) ... إلى آخره؛ لأنَّ ذلك لا يكون إلا عقب الصلاة، وهو في المسجد، وهذا من باب عطف العام على الخاص، (ثم قال) عليه السلام: (ما من شيء) أي: من الأشياء (كنت لم أره إلا قد رأيته)؛ أي: رؤية عين حقيقة، وتقدَّم بيان المراد من (الشيء)، وأنَّه عام أو خاص مع بقية المباحث، وقوله: (في مَقامي هذا)؛ بفتح الميم، حال من فاعل (رأيته) (حتى الجنةَُِ والنارَُِ)؛ برفعهما ونصبهما وجرهما، (ولقد أُوحي)؛ بضم الهمزة، (إليَّ) أي: في هذا المقام (أَنكم تفتنون)؛ بفتح [همزة] (أن)؛ لأنَّها مع ما بعدها نائب فاعل (أوحي)؛ أي: تمتحنون وتختبرون (في القبور) وللأصيلي: (في قبوركم) (مثل) فتنة المسيح الدجال (أو قريبًا)؛ بالتنوين، وفي رواية: (قريبَ)؛ بتركه، وفي أخرى بإثبات [2] التنوين فيهما (من فتنة) المسيح (الدجال)؛ أي: الكذاب، من الدجل؛ وهو الكذب، والمسيح: بالحاء المهملة، وقيل: هو بالخاء المعجمة؛ فرقًا بينه وبين عيسى عليه السلام.
(قالت فاطمة: لا أدري أي ذلك قالت أسماء)؛ أي: مثل أو قريبًا، و (ذا): قد يشار بها إلى المثنى، كما هنا، (يُؤتَى أحدكم)؛ أي: يأتيه منكر ونكير، وقيل: مبشر وبشير للمؤمنين، ومنكر ونكير للكافرين، (فيقال له)؛ أي: فيقولان له، أو يقول أحدهما ويسكت الآخر، محتمل، والثاني: أظهر: (ما علمك بهذا الرجل؟)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، وظاهره: أنَّ السؤال يكون بهذه الجملة، ويحتمل أن يكون بغيرها لكن بكلام عربي، وقيل: إنَّ السؤال يكون بالسرياني، ولكنَّه غريب، (فأما) للتفصيل (المؤمن أو الموقن)؛ أي: بنبوته عليه السلام، قالت فاطمة: (لا أدري أي ذلك) أي: (المؤمن) أو (الموقن) (قالت أسماء) فالمشار إليه المثنى، كما مر، (فيقول)؛ أي: المسؤول في قبره: (هو محمد رسول الله، جاءنا بالبينات)؛ أي: المعجزات الدَّالة على نبوته (والهدى) الموصِل للمراد، (فأجبنا وآمنَّا واتَّبعنا)؛ بحذف الضمير في الأفعال الثلاثة، لكن بعد حذف الجار في (آمنا)؛ لأنَّ الأصل: آمنا به؛ فافهم.
(فيقال: نم)؛ بالنُّون، من النوم؛ أي: فيقول له الملكان أو أحدهما على ما سبق، وللحمُّوي زيادة: (له) (صالحًا)؛ بالنصب، حال من فاعل (نم)؛ أي: فإنَّك موصوف بالصلاح وقد نجوت من العذاب، (فقد علمنا إن كنت لموقنًا)؛ أي: لمصدَّقًا به، وتقدَّم جواز الكسر والفتح في همزة (أن) خلافًا للدماميني حيث أوجب الفتح، (وأما المنافق)؛ أي: الغير المصدِّق بقلبه بنبوته عليه السلام، (أو المرتاب)؛ أي: الشاك، وقوله: (لا أدري أي ذلك) أي: (المنافق) أو (المرتاب) (قالت أسماء) مقول فاطمة بنت المنذر: (فيقول)؛ أي: المسؤول في قبره: (لا أدري) هذا الرجل، بل إني (سمعت الناس يقولون شيئًا، فقلته) على سبيل الموافقة لهم غير مصدِّق به، ففي الحديث: إثبات وجود عذاب القبر، وفيه: ثبوت سنية صلاة الكسوف، وأن الحركات القليلة لا تُبْطِلِ الصلاة، وكثرتها مفوض لرأي
%ص 154%
المبتلى به، أو ما يستكثره الناظر أو ثلاث فما دونها قليل، وأنَّ الكسوف آية من آيات الله يخوِّف الله بها عباده، وأنَّ رشَّ الماء على المصلي في الصلاة غير مُفْسِد ولا مكروه، وفيه: ثبوت خروج الدجال في آخر الزمان، وغير ذلك من الأحكام، والله أعلم.
==========
[1] (قالت أسماء) جاء في الأصل سابقًا قبل قوله: (نعم).
[2] في الأصل: (بترك)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] (قالت أسماء) جاء في الأصل سابقًا قبل قوله: (نعم).
[1] (قالت أسماء) جاء في الأصل سابقًا قبل قوله: (نعم).
(1/328)
(38) [باب مسح الرأس كله]
هذا (باب مسح الرأس كله) في الوضوء، وسقط في رواية لفظ: (كله) فقط، ومراده: وجوب استيعاب الرأس بالمسح في الوضوء، لكن من اكتفى بالربع منه؛ فقد أجاب عما استدل به، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى؛ (لقوله تعالى)، وفي رواية: (سبحانه وتعالى)، وفي أخرى: (عز وجل): ({وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}) [المائدة: 6]؛ بناءً على أن الباء زائدة؛ أي: امسحوا رؤوسكم كلها، كما قال به مالك وأحمد.
(وقال) سعيد (ابن المسيِّب)؛ بكسر المثناة التحتية وفتحها: (المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها)؛ أي: جميعه، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة بلفظ: (المرأة والرجل في مسح الرأس سواء)، لكنه ليس صريحًا في وجوب التعميم، إلا إن ثبت عنه أنه يوجب التعميم في الرجل، فيُحْتَمَلُ أنهما سواء في أصل المسح، وعلى الأول هذا الأثر لا يساعد المؤلف في ثبوته لمسح كل الرأس، ونقل عن أحمد أنه قال: (يكفي المرأة مسح مقدَّم رأسها)؛ فتأمل.
(وسُئِلَ) على صيغة المجهول (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، والسائل له: إسحاق بن عيسى بن الطباع، كما بيَّنه ابن خزيمة في «صحيحه» من طريقه، ولفظه: (سألت مالكًا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه، أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم ردَّ يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله)، قلت: وهذا السياق أصرح للترجمة من الذي ساقه المؤلف بقوله: (أيَجزي)؛ بفتح المثناة التحتية، من جزى يَجزي؛ أي: كفى، والهمزة فيه للاستفهام، أو بضم التحتية وهمز آخره، من الإجزاء: وهو الأداء الكافي لسقوط التعبد به، كذا في «عمدة القاري» ن قال ابن التين: (قرأناه غير مهموز، وضُبِطَ في بعض الكتب؛ بالهمز وضم الياء على أنَّه رباعي من أجزأ)؛ فتأمل، (أن يمسح بعض) ولابن عساكر: (ببعض)؛ بباءين على تعلقه بـ (يجزي) (الرأس؟)؛ أي: رأسه، كما في رواية الأكثرين، و (أن يمسح ... ) إلخ: فاعل (يجزي) ومفعوله كفاعل (يمسح) محذوف عائد إلى المتوضئ المدلول عليه بالمقام.
(فاحتجَّ)؛ أي: مالك على أنَّه لا يجزئ مسح بعض رأسه (بحديث عبد الله بن زيد) الذي ساقه المؤلف هنا، والمعنى: لما سُئِلَ عن مسح الرأس؛ روى هذا الحديث واحتجَّ به على أنَّه لا يجوز أن يقتصر على بعض الرأس، قال ابن حجر: (موضع الدلالة من الحديث والآية: أنَّ لفظ الآية مجمل؛ لأنَّه يحتمل أن يراد بها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي عليه السلام أنَّ المراد الأول).
واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه لا إجمال في الآية، وإنما الإجمال في المقدار دون المحل؛ لأنَّ الرأس وهو معلوم وفعله عليه السلام كان بيانًا للإجمال الذي في المقدار، وهذا القائل لو علم معنى الإجمال؛ لما قال: لفظ الآية مجمل، انتهى.
واعترضه العجلوني بأن إجمال المقدارِ كافٍ في كون الآية مجملة.
قلت: ورُدَّ بأن إجمال المقدار خارج عن الآية بدليل أنَّه فهم من الحديث بيانه، فلفظ الآية مُبَيِّنٌ لأصل وجوب المسح، فلا إجمال فيها، والسنة بينت مقداره، فالإجمال في المقدار لا في الآية؛ فافهم.
قلت: وأجاب الجمهور: بأن الأصل عدم الزيادة، وكلامه تعالى وحروف كلامه تصان عن الزيادة بلا فائدة، بل الباء هنا للإلصاق؛ وهو معناها الأصلي عند المحققين.
وقال العلَّامة البغوي: (القرآن يوجب مسح الجميع، والسنة خصَّصته بقدر الناصية، فلا يسقط الفرض بأقل من قدر الناصية)، واعترضه الكرماني بأنَّ كلام العرب يشهد لعدم العموم؛ لأنَّهم يقولون: مسحت المنديل؛ فيفيد العموم، ومسحت به؛ فيفيد البعض.
قلت: وهو ممنوع، فإنَّ النبي الأعظم عليه السلام هو أفصح العرب قد فسَّر ذلك بفعله، وهو أنَّه مسح على ناصيته، وكيف يُستدَّل بكلام العرب ويُتْرَك تفسير أعرب العرب؟! فإنه إذا وجد تفسير النبي الأعظم عليه السلام؛ يتعين المصير إليه؛ لأنَّه الشارع، وإنما يصار إلى كلام العرب عند عدم تفسيره عليه السلام.
والحاصل: أنَّ ما ذهب إليه الإمام الأعظم وأصحابه من وجوب مسح الناصية يشهد له الآية من حيث أصل المسح، والحديث من حيث بيان أنه مقدار الناصية، وأمَّا ما ذهب إليه مالك وأحمد من وجوب الاستيعاب؛ يشهد له الآية من حيث الأصل، والحديث من حيث إن ظاهره أنَّه يدل على الاستيعاب، وأمَّا ما ذهب إليه الشافعي من وجوب بعض المسح، وهو قدر شعرة أو شعرتين [1]؛ يشهد له الآية على أن معنى الباء: التبعيض، وهو ضعيف، وأمَّا الأحاديث؛ فلم يوجد فيها شيء يدل على التبعيض، فلا ريب أنَّ ما ذهب إليه إمامنا أرجح وأقوى، واستدلال الشافعي بكلام العرب ليس بشيء مع وجود الأحاديث الدَّالة على بيان المقدار في وجوب المسح؛ فافهم ذلك.
==========
[1] في الأصل: (شعره)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 155%
==================
(1/329)
[حديث عبد الله بن زيد في مسح الرأس كله]
185# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا) (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن عَمرو بن يحيى)؛ بفتح العين المهملة، ابن عُمَارة؛ بضمها وتخفيف الميم (المازني) الأنصاري، (عن أبيه): يحيى المذكور بن عمارة بن أبي حسن واسمه تميم، وله صحبة، وكذا لعمارة ولده فيما جزم به ابن عبد البر، قال أبو نعيم فيه نظر، وقال الذهبي: عمارة بن أبي حسن المازني له صحبة، وقيل: أبوه بدري وعقبي، كذا في «عمدة القاري»: (أن رجلًا): هو عمرو بن أبي حسن، كما سيأتي في الحديث الآتي من طريق وهيب (قال لعبد الله بن زيد)؛ أي: ابن عاصم الأنصاري المازني، ووقع في رواية مسلم: (عن عبد الله بن زيد قال: قيل له: توضأ لنا) ... ؛ فذكر الحديث، (وهو)؛ أي: الرجل المفسَّر بعمرو بن أبي حسن (جدُّ عمرو بن يحيى)؛ أي: المذكور، لكن مجازًا لا حقيقة؛ لأنَّه عم أبيه، وأطلق عليه (جدًّا)؛ لكونه في منزلته، قال في «عمدة القاري»: ووهم من زعم أنَّ المراد بقوله: (وهو) عبد الله بن زيد؛ لأنَّه ليس جدًّا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازًا، وأما قول صاحب «الكمال»: (إن عمرو بن يحيى ابن بنت عبد الله بن زيد)، فغلط توهَّمه من هذه الرواية، وذكر ابن سعد: (أن أمَّ عمرو بن يحيى هي حميدة بنت محمد بن إياس بن بكير)، وقال غيره: (هي أم النعمان بنت أبي حبة)،
==================
واختلف رواة «الموطأ» في تعيين السائل، فأبهمه أكثرهم، وقال معن بن عيسى، عن عمرو، عن أبيه يحيى: أنه سمع أبا حسن، وهو جد عمرو بن يحيى قال لعبد الله بن زيد وكان من الصحابة ... ؛ فذكر الحديث، وقال محمد بن الحسن الشيباني، عن مالك: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه يحيى: أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد، وكذا ساقه سحنون في «المدونة»، وقال الشافعي في «الأم»: (عن مالك، عن عمرو، عن أبيه، قال لعبد الله بن زيد)، قال في «عمدة القاري» أيضًا: فإن قلت: هل يمكن أن يجمع هذا الاختلاف؟ قلت: يمكن أن يقال: اجتمع عند عبدِ الله بن زيد ابنُ أبي حسن الأنصاري وابنُه عمرو وابنُ ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن،
[فسألوه عن صفة وضوء النبي، وتولى السؤال منهم له عمرو [1] بن أبي حسن] [2]
==================
[1] في «عمدة القاري»: (عمارة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مستفاد من «عمدة القاري».
فحيث نُسِب إليه السؤال؛ كان على الحقيقة، ويؤيِّده رواية سليمان بن بلال عند المؤلف في باب (الوضوء من التور) قال: (حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان عمي _يعني: عمرو بن أبي حسن_ يُكْثِرُ الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد: أخبرني ... )؛ فذكره، وحيث نُسِب السؤال إلى أبي حسن، فعلى المجاز؛ لكونه كان الأكبر، وكان حاضرًا، وحيث نُسِب السؤال ليحيى بن عمارة، فعلى المجاز أيضًا؛ لكونه ناقل الحديث، وقد حضر السؤال أيضًا، ويؤيِّد هذا الجمع ما في رواية الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد الواسطي بلفظ: (قلنا له) بلفظ الجمع الدَّال على أنَّهم كلهم اتفقوا على السؤال، غير أن السائل منهم كان عمرو بن أبي حسن، ويؤيده أيضًا ويوضِّحه ما رواه أبو نعيم في «المستخرج» من حديث الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد ... ؛ فذكر الحديث، انتهى.
ومثله ذكره ابن حجر وتبعهما العجلوني، وأمَّا القسطلاني؛ فاقتصر، فلم يوضِّح هذا الإيضاح، فلله درُّ صاحب «عمدة القاري» ما أغزر
%ص 155%
علمه، وأوفر فهمه، والله يختصُّ برحمته من يشاء.
(أتستطيع)؛ الهمزة للاستفهام؛ أي: هل تستطيع (أن تريني)؛ كلمة (أن): مصدرية، والجملة محلها نصب على أنها مفعول (تستطيع)، والتقدير: هل تستطيع الإراءة إياي (كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟)، فجملة (يتوضأ): محلها النصب على أنها خبر (كان)، ويجوز أن تكون تامة، وتكون جملة (يتوضأ): محلها نصب على الحال، وسبب استفهامه تجويزه أن يكون الصحابي نسي ذلك؛ لبعد عهده، وفيه ملاطفة الطالب للمعلم، وكأنَّه أراد أن يريه ذلك بالفعل؛ ليكون أبلغ في التعليم.
(فقال عبد الله بن زيد)؛ أي: الأنصاري المازني المتقدم: (نعم): مقول القول، وهو يكون جملة، والتقدير: نعم أستطيع أن أريك كيفية وضوء النبي الأعظم عليه السلام؛ لأنَّي أحفظ ذلك، كما شاهدته، (فدعا) أي: عبد الله بن زيد (بماء)؛ الفاء للتعقيب، وفي رواية وهيب الآتية في الباب بعده: (فدعا بتور من ماء)، وسيأتي الخلاف في تفسير (التور)، وللمؤلف في باب (الغسل) في أول هذا الحديث: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في تور من صفر) والتور المذكور يحتمل أن يكون هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد لمَّا سئل عن صفة وضوئه عليه السلام، فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها، ويحتمل غيره لكن ما قلناه؛ فافهم.
(فأفرغ)؛ الفاء للتعقيب أيضًا؛ أي: صبَّ من الماء (على يديه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (على يده)؛ بالإفراد على إرادة الجنس، وفي رواية موسى عن وهيب: (فأكفأ)؛ بهمزتين، وفي رواية سليمان بن حرب في باب (مسح الرأس) عن وهيب: (فكفأ)؛ بهمز آخره فقط، وهما لغتان بمعنًى، يقال: كفأ الإناء وأكفأه؛ إذا أماله، وقال الكسائي: (كفأت الإناء: كببته، وأكفأته: أملته، والمراد في الموضعين: إفراغ الماء من الإناء على اليد)، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فغسل يده)؛ بالإفراد، وللأربعة: بالتثنية، والفاء للتعقيب، (مرتين) كذا في رواية مالك، لكن لغيره من الحفاظ: (ثلاثًا)، كما عند مسلم وغيره، فهي مقدمة على رواية الحافظ الواحد، وإنما لم يُحْمَلْ هذا على واقعتين؛ لأنَّ المخرج واحد، والأصل عدم التعدد، كذا في «عمدة القاري»، ثم قال: (وغسل اليدين قبل شروعه في الوضوء فيه أقوال:
الأول: أنَّه سنة، وهو المشهور عندنا، كما في «المحيط» و «المبسوط»، ويدل عليه أنه عليه السلام لم يتوضأ قطٌّ إلا غَسَلَ يديه، وذكر في «النافع» تقديم غسلهما إلى الرسغين سنة تنوب عن الفرض؛ كالفاتحة تنوب عن الواجب وفرض القراءة، واختاره في «الكافي»، وقال شمس الأئمة السرخسي: «إنه سنة لا تنوب عن الفرض، فيعيد غَسْلهما ظاهرهما وباطنهما»، قال: «وهو الأصح»، والذي اختاره الجمهور: أنه فرض وتقديمه سنة، واختاره في «فتح القدير»، وفي الحواشي: تقديم غسل اليدين للمستيقظ؛ لأجل التبرِّك بالحديث، وإلا فسببه شامل له ولغيره، قال في «النهر»: «والأصح الذي عليه الأكثر: أنه سنة مطلقًا للمستيقظ وغيره، لكنه عند تَوَهِّم النجاسة سنة مؤكدة، كما إذا نام لا عن استنجاء، أو كان على بدنه نجاسة، وغير مؤكدة عند عدم توهمهما، كما إذا نام لا عن شيء من ذلك، أو لم يكن مستيقظًا عن نوم» انتهى.
الثاني: أنه مستحبٌّ للشاكِّ في طهارة يديه، وهو المروي عن مالك.
الثالث: أنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، قاله أحمد.
الرابع: أنه واجب فيما إذا شكَّ هل أصابته نجاسة أم لا؟ فيجب غسلهما في مشهور قول مالك.
الخامس: أنه واجب على المنتبه من النوم مطلقًا، وبه قال داود وأصحابه).
(ثم تمضمض، واستنثر) وفي رواية: (مضمض واستنشق) (ثلاثًا)، ومعنى (استنثر): إذا استنشق الماء ثم استخرجه بنَفَس الأنف، والنثرة: الخيشوم وما والاه، وتنشَّق واستنشق الماء في أنفه: صبَّه فيه، ويقال: نثر وانتثر واستنشق: إذا حرَّك النثرة، وهي طرف الأنف.
وزعم ابن حجر أن الاستنثار مستلزم للاستنشاق بلا عكس، وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: لا نسلِّم ذلك، فقد قال ابن الأعرابي وابن قتيبة وغيرهما: «الاستنشاق والاستنثار واحد») انتهى.
قلت: وقد قدَّمنا في باب (الوضوء ثلاثًا): أن بعض أهل اللغة على عدم اتحادهما لغة، وأما اصطلاحًا؛ فلا خلاف في تغايرهما، فكأن ابن حجر اعتمد قول هذا البعض، وقدمنا أنه شاذٌّ لا يعوَّل عليه، وهذا دأبه في اعتماده على الأقوال الشاذة، ولعلَّه اختلط عليه ما قاله أهل اللغة بما قال أهل الاصطلاح، وتمامه في «كشف الحجاب عن العوام»، وقد تعرَّض لذلك أيضًا في «منهل العليل المطل» فافهم.
فالمضمضة والاستنشاق: سُنَّتان في الوضوء فرضان في الغُسْل، وبه قال الإمام الأعظم، وأصحابه، وسفيان الثوري، وغيرهم، وقال الشافعي: سُنَّتان فيهما، وعنه أنهما واجبتان فيهما، وهو قول ابن أبي ليلى، وحماد، وإسحاق، وقال أبو ثور: (الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة)، وبه قال أحمد في رواية، وأبو عبيد، وزاد في رواية وهيب بعد (ثلاث): (بثلاث غَرفات)، وهي تفيد: أنه تمضمض ثلاثًا بثلاث غَرفات، واستنشق ثلاثًا بثلاث غَرفات، ويدل له ما رواه الترمذي عن علي الصديق الأصغر رضي الله عنه، وفيه: مضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، وقال: (حديث حسن صحيح)، ولم يُحْكَ فيه أن كل واحد من المضامض والاستنشاقات بماء واحد، لكن مضمونه ظاهر، وهو أنه أخذ لكل واحدة منهما ماء جديدًا، وكذا روى البويطي عن الشافعي: (أنه يأخذ ثلاث غَرفات للمضمضة، وثلاث غَرفات للاستنشاق).
(ثم غسل وجهه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، ولم تختلف الروايات في ذلك، وكلمة (ثم) في ستة مواضع في الحديث بمعنى: الواو، وليست على معناها الأصلي؛ وهو الإمهال، كذا قاله ابن بطال.
وقال في «عمدة القاري»: («ثم» في هذه المواضع؛ للترتيب؛ لأنَّها تُسْتَعمل لثلاثة معان؛ التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، مع أن في كل واحد منها فيه خلاف، والمراد من الترتيب: هو الترتيب في الإخبار، لا الترتيب في الحكم، مثل ما يقال: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب؛ أي: ثم أخبرك؛ أي: الذي صنعته أمس أعجب) انتهى.
قلت: فلا دلالة في الحديث على وجوب الترتيب؛ لأنَّ المراد به: الإخبار، ويدل عليه الإتيان في الآية بالواو؛ وهي لمطلق الجمع اتفاقًا، لا تفيد الترتيب، فمن أوجب الترتيب؛ فقد زاد على النص، والزيادة عليه لا تجوز، على أنه لو ادَّعى أن الحديث يفيد وجوب الترتيب؛ يقال له: إن الحديث خبر الواحد، وهو يفيد السنية لا الوجوب، فثبت بذلك مذهب الإمام الأعظم والجمهور أنَّ الترتيب سنَّة لا واجب، وهو الحقُّ؛ فليحفظ.
(ثم غسل يديه)؛ بالتثنية، (مرتين مرتين)؛ بتكرار (مرتين)، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين مرتين، وفي رواية مسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد: (أنه رأى رسول الله عليه السلام توضأ، فمضمض، ثم استنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويده اليمنى ثلاثًا، والأخرى ثلاثًا، ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وغسل رجليه حتى أنقاهما)، قال في «عمدة القاري»: (فيحمل على أنه وضوء آخر، لكن مخرج الحديثين غير متحد) انتهى، وتبعه العجلوني، وذكر القسطلاني رواية مسلم المذكورة في شرح قوله: (فغسل يده مرتين)، وهو غير مناسب؛ لأنَّه يوهم خلاف المراد؛ فافهم.
وهل يغسل يديه هنا من أول الأصابع أو يغسل الذراعين لا غير؛ لتقدم غسل اليدين إلى الرسغ؟ وفي «الذخيرة»: الأصح عندي: أنَّه يعيد غسل اليدين ظاهرهما وباطنهما؛ لأنَّ الأول كان سنة افتتاح الوضوء فلا ينوب عن فرض الوضوء، وهذا ما صحَّحه شمس الأئمة السرخسي، والذي اختاره الجمهور: أنَّ الغسل الأول فرض وتقديمه سنة، وسبق؛ فتأمل.
(إلى المَرفِقين)؛ بالتثنية، وبفتح الميم، وكسر الفاء، وفي رواية: (إلى المرفق)؛ بالإفراد على إرادة الجنس، وهو مفصل الذراع والعضد، سمي بذلك؛ لأنَّه يُرْتَفَقُ به في الاتِّكاء، وهو يدخل في غسل اليدين عند الجمهور، خلافًا للإمام زفر وأبي بكر بن داود، وهو رواية عن مالك.
واستُدِل للجمهور: بأن {إلى} [المائدة: 6] في الآية بمعنى: (مع) كقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]؛ أي: معها، ورُدَّ بأنه خلاف الظاهر، وأجيب: بأن القرينة دلَّت عليه، وهي كون ما بعدها من جنس ما قبلها، وقال ابن القصار: (اليد: تُطْلَقُ من رؤوس الأصابع إلى الإبط؛ لحديث عمار أنه تيمم إلى الإبط، وهو من أهل اللغة، ولفظ {إلى} حد للمتروك لا للمغسول، وردَّ بأن السياق ينافيه.
وقال العلَّامة جار الله الزمخشري: («إلى»: لمطلق الغاية، وأمَّا دخولها في الحكم وخروجها عنه؛ فيدوران
%ص 156%
مع الدليل كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فيدل على عدم الدخول للنهي عن صوم الوصال، وقول القائل: «حفظت القرآن من أوله إلى آخره» يدل على الدخول؛ لكون الكلام مَسُوقًا لحفظ القرآن جميعِه، ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين بخصوصه، فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن) انتهى.
قال في «عمدة القاري»: (ويمكن أن يُسْتَدَلَّ لدخولها بفعله عليه السلام، ففي «الدارقطني» بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة وضوئه عليه السلام: «فغسل يديه إلى المرفقين حتى مسَّ أطراف العضدين»، وفيه أيضًا من حديث جابر: «كان عليه السلام إذا توضأ؛ أدار الماء على مرفقيه»، وفي «البزار» و «الطبراني» من حديث وائل بن حجر وفيه: «وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق»، وفي «الحافظ الطحاوي» و «الطبراني» من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعًا: «ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه») انتهى.
قلت: فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، وقال ابن راهويه: ({إلى} في الآية تحتمل الغاية ومعنى «مع»، فبيَّنت السنة أنَّها بمعنى «مع»).
وقال الشافعي في «الأم»: (لا أعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء)، قال ابن حجر: (فعلى هذا؛ فزفر محجوج بالإجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحًا، وإنما حكى عنه أشهب كلامًا محتملًا) انتهى.
قلت: وقوله: (لا أعلم مخالفًا): ليس حكاية منه للإجماع الذي يكون غيره محجوجًا به، ففي دعوى الإجماع نظر، ولذا قال العجلوني بعد كلام ابن حجر: (وأقول قول «الأم» لا ينافي وجود خلاف، فلا إجماع) انتهى، وقد نقل غير واحد عن أشهب عن مالك قولًا واحدًا: أن المِرْفق غير داخل في الوضوء، كما قاله الإمام زفر وداود، فقول ابن حجر: (ولم يثبت عن مالك) فيه نظر، وقد يقال: لم يثبت عن مالك في غير رواية أشهب، وأمَّا في رواية أشهب؛ فإنه يثبت القول بذلك؛ فافهم.
وقال في «شرح المنية»: (إنَّ غسل المرفقين والكعبين في الوضوء ليس بفرض قطعي، بل هو فرض عملي لا يكفر جاحده)، قال في «النهر»: (فلهذا لا يحتاج إلى دعوى الإجماع؛ لأنَّ الفروض العملية لا يحتاج في إثباتها إلى القاطع، فيحتاج إلى الإجماع) انتهى.
قلت: ولهذا لم يتعرض في «عمدة القاري» إلى دعوى الإجماع، بل استدلَّ بالأحاديث التي أوردناها؛ فافهم.
(ثم مسح رأسه) زاد ابن الصباغ في روايته: (كله)، كما في حديثه المروي عند ابن خزيمة في «صحيحه»، وفي رواية خالد بن عبد الله: (مسح برأسه)؛ بزيادة الباء الموحدة، (بيديه)؛ بالتثنية، فاحتجَّ به مالك وأحمد في رواية على أنَّ مسح جميع الرأس فرض، واختلف أصحاب مالك؛ فقال أشهب: (يجوز مسح بعض الرأس)، وقال غيره: (والثلث فصاعدًا)، وعندنا وعند الشافعي: (الفرض مسح بعض الرأس)، فقال أئمتنا: وذلك البعض هو ربع الرأس؛ لحديث المغيرة بن شعبة: (أنه مسح على ناصيته)، والناصية: تبلغ ربع الرأس كما قاله أهل اللغة؛ لأنَّ الكتاب مجمل في حق المقدار فقط؛ لأنَّ الباء في {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]؛ للإلصاق عند المحققين باعتبار أصل الوضع، وجميع معانيها ترجع إلى الإلصاق، فإذا قُرِنت بآلة المسح؛ يتعدَّى الفعل بها إلى مسح المسح، فيتناول جميعه، كما تقول: مسحت الحائط بيدي، ومسحت رأس اليتيم بيدي، فيتناول كله، وإذا قُرِنَتْ بمحلِّ المسح؛ يتعدَّى الفعل بها إلى الآلة، وهو لا يقتضي الاستيعاب، وإنما يقتضي إلصاق الآلة بالمحل، وذلك لا يستوعب الكل عادة، بل يقتضي استيعاب اليد دون الرأس، واستيعابها ملصقة بالرأس لا تستغرق غالبًا سوى ربعه، فتعين الربع مرادًا في الآية، وهو المطلوب، فالآية مجملة محتاجة للبيان، وقد بيَّنتها السنة، ففي «صحيح مسلم» من حديث المغيرة: (أنه عليه السلام توضأ، ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين).
فإن قلت: إنَّما استدللت بالحديث على أنَّ المقدار في المسح هو قدر الناصية، وتركت بقية الحديث وهو المسح على العمامة.
قلت: لو عملنا بكل الحديث؛ يلزم به الزيادة على النص؛ لأنَّ هذا خبر الواحد، والزيادة به على الكتاب نسخ؛ وهو لا يجوز، وأمَّا المسح على الرأس؛ فقد ثبت بالكتاب، فلا يلزم ذلك، وأمَّا مسحه على العمامة؛ فأوَّله البعض بأن المراد به ما تحتها [3]، من قبيل إطلاق اسم الحال على المحل، وأوَّله البعض: بأن الراوي كان بعيدًا عن النبي الأعظم عليه السلام، فمسح على رأسه ولم يضع العمامة من رأسه، فظنَّ الراوي أنه مسح على العمامة.
وقال القاضي عياض: (وأحسن ما حَمَلَ عليه أصحابنا حديث المسح على العمامة: أنه عليه السلام لعلَّه كان به مرض في رأسه، فمنعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة التي يمسح عليها للضرورة).
وقال ابن حجر: (فإن قيل: فلعلَّه اقتصر على مسح الناصية لعذر؛ لأنَّه كان في السفر، وهو مظنَّة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية، كما هو ظاهر سياق مسلم من حديث المغيرة؛ قلنا: قد رُوِيَ عنه مسح مُقَدَّم الرأس من غير مسح العمامة، وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء: «أنه عليه السلام توضأ، فحَسَرَ العمامة عن رأسه، ومسح مقدَّم رأسه»، وهو مرسل، لكنه اعتضد من وجه آخر موصولًا أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، فقد اعتضد كلٌّ من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة) انتهى، وتبعه القسطلاني.
واعترضهما في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: قول هذا القائل من أعجب العجائب؛ لأنَّه يدَّعي أن المرسل غير حجة عند إمامه، ثم يدَّعي أنه اعتضد بحديث موصول ضعيف باعترافه هو، ثم يقول: وحصلت القوة من الصورة المجموعة، فكيف تحصل القوة من شيء ليس بحجة، وشيء ضعيف؟! فإذا كان المرسل غير حجة؛ يكون في حكم العدم، ولا بقي إلا الحديث الضعيف وحده، فكيف تكون الصورة المجموعة قوية؟!) انتهى، وتمامه في «كشف الحجاب عن العوام».
وقول ابن حجر: (فلعلَّه اقتصر على مسح الناصية لعذر؛ لأنَّه كان في سفر): ممنوع؛ لأنَّ حديث المغيرة صريح في أنه عليه السلام لم يكن في السفر، ولفظه: (أنه عليه السلام أتى سباطة قوم، فبال، وتوضأ، ومسح على ناصيته وخفَّيه)، رواه ابن ماجه والنسائي، وروى أبو داود عن أنس قال: (رأيت النبي عليه السلام يتوضَّأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدَّم رأسه)، وروى البيهقي عن عطاء: (أنه عليه السلام توضأ، فحسر العمامة، ومسح مقدَّم رأسه، أو قال: ناصيته)، وكل هذه الأحاديث تدل على بطلان ما زعمه ابن حجر، على أن دعوى العذر ممنوعة؛ لأنَّ حالة العذر حالة ضرورة، وفي حالة الضرورة تقدَّر بقدرها، فهي دعوى باطلة لا دليل عليها، وهي بعضها متصل وبعضها مرسل، وهو حجَّة عندنا لا سيما وقد اعتضد بالمتصل.
واعترض بأن الباء المتنازعة فيها موجودة في حديث مسلم، فيبقى النزاع، كما في الآية.
قلت: لا نزاع في الحديث أصلًا؛ لأنَّ رواية أبي داود، وابن ماجه، والنسائي، والبيهقي، وغيرهم: بدون الباء، وهي أحاديث متصلة، وحديث مسلم وإن كان في روايته زيادة الباء؛ فهي زيادة من الراوي زادها موافقة للفظ الآية، وإلا فلفظ الحديث بدون الباء كما رواه الجمهور، ولو سُلِّم وجودها؛ فما قيل في معنى الباء التي في الآية؛ يقال فيها أيضًا، وتعداد الرواة في حديث مسح الناصية وتعدُّد طرقه يدلُّ صريحًا على أنه عليه السلام من حين نزول الآية كان يمسح على الناصية، فهو بيان لإجمالٍ في الآية، وهو ما قرَّره المحققون.
وقال الشافعي: (الباء في الآية معناها: التبعيض، فيُطْلَقُ على أدنى ما يُطْلَقُ عليه المسح، وهو يتأدَّى بشعرة أو شعرتين).
واعترض بأن أهل اللغة قد أنكروا كون الباء للتبعيض، وقال ابن برهان: (من زعم أن الباء تفيد التبعيض، فقد جاء أهلَ اللغة بما لا يعرفونه)، وقد جعل المحقِّق الجرجاني معنى الإلصاق في الباء أصلًا، وإن كانت [4] تجيء لمعان كثيرة، فإنها ترجع إلى الإلصاق؛ لأنَّه
%ص 157%
معناها الأصلي عند المحققين.
وقال ابن هشام: أَثْبَتَ مجيء الباء للتبعيض الأصمعي، والفارسي، وابن مالك، وجعلوا منه قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} [الإنسان: 6]، قيل: ومنه: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، والظاهر: أن الباء فيهما للإلصاق، ويدل لذلك قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ} [البقرة: 29]، والطواف لا يصح بالبعض إجماعًا، فكذا هذا، وقيل: الباء في الآية للاستعانة، وأن في الكلام حذفًا وقلبًا، فإنَّ «مسح» يتعدى إلى المزال عنه بنفسه وإلى المزيل بالباء، فالأصل: امسحوا رؤوسكم؛ بالماء [5].
فإن قلت: أليس في التيمم حكم المسح ثبت بقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: 6]، ثم الاستيعاب فيه شرط؟
قلت: عُرِف الاستيعاب فيه إما بإشارة الكتاب؛ وهو أن الله أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذره، والاستيعاب فرض بالنصِّ وكذا فيما قام مقامه، أو عُرشف ذلك بالسنة؛ وهو قوله عليه السلام لعمار رضي الله عنه: «يكفيك ضربتان: ضربة للوجه وضربة للذراعين»، وأما على رواية الحسن عن الإمام الأعظم: أنه لا يُشْتَرَطُ الاستيعاب، فلا يردشيء، وجاحدُ أصل المسحِ كافر؛ لأنَّه قطعي، وجاحدُ المقدار لا يُكفَّر؛ لأنَّه في حق المقدار ظنَّي، وتمامه فيما أوردناه في آية الوضوء؛ فافهم.
(فأقبل بهما) أي: بيديه (وأدبر)؛ أي: بهما، وقوله: (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما) أي: بيديه (إلى قفاه ثم ردَّهما) أي: يديه (إلى المكان الذي بدأ منه)؛ بيان لقوله: (فأقبل وأدبر)، فلذا لم تدخل الواو عليه، وهذا من الحديث، وليس مُدْرَجًا من كلام مالك، كذا في «عمدة القاري»، ففيه: أنَّ السنة البداءة بمُقَدَّم الرأس حالة المسح، والذهاب بهما إلى القفا، وردهما إلى المقدَّم، وهذه الكيفية المسنونة شاملة لمن كان على رأسه شعر، أو محلوقه، أو غيره؛ لأنَّ لفظ الحديث عام لم يفصل بينهما، لا يقال: إن هذه الكيفية خاصَّة بمن على رأسه [6] شعر دون غيره ينقلب لطوله كما كان له عليه السلام، بخلاف غيره ممن ليس له شعر، فلا يسن ردُّ اليدين إلى المبدأ؛ لأنَّا نقول: لفظ الحديث عام لم يفصِّل بين ما كان على رأسه شعر أو لم يكن، وتخصيص هذه الكيفية بمن كان على رأسه شعر تخصيص بلا مخصِّص؛ لأنَّه لم يرد ذلك في الأحاديث، وكون النبي الأعظم عليه السلام فعل ذلك والحال أن على رأسه الشريف شعر لا يدل على التخصيص؛ لأنَّه عليه السلام قد ورد عنه أنَّه قال: «احلقوه كلَّه أو اتركوه كلَّه»، فخيَّر بين الحلق والترك، فكأنَّه عليه السلام بيَّن هذه الكيفية، وخيَّر في الحلق وعدمه، فدلَّ ذلك على العموم من غير تفصيل، ولا يقال: إن الماء صار مستعملًا حيث إنه ردَّ اليدين إلى المكان الذي بدأ به منه؛ لأنَّ الماء لا يُحْكَم عليه بالاستعمال إلَّا أن ينفصل عن العضو، وهنا لم ينفصل، فبقي على أصل الطهارة والطهورية؛ فافهم.
وزعم ابن حجر: (وهذه الكيفية حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمُؤَخَّر الرأس إلى أن ينتهي إلى مُقَدَّمِه).
وردَّه في «عمدة القاري» بأنه لا يقال: إن مثل هذا حجة عليه؛ لأنَّه ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة، فعند النسائي من حديث عبد الله بن زيد: (ثم مسح رأسه بيده، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه)، وعند ابن أبي شيبة من حديث الربيع: (بدأ بمؤخره ثم ردَّ يديه على ناصيته)، وعند الطبراني: (بدأ بمؤخر رأسه، ثم جرَّه إلى قفاه، ثم جرَّه إلى مؤخره)، وعند أبي داود: (يبدأ بمؤخره، ثم بمقدمه، وبأذنيه كليهما)، وفي لفظ: (مسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية لمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته)، وفي لفظ: (مسح رأسه وما أقبل وما أدبر وصدغيه)، وعند البزار من حديث أبي بكرة يرفعه: (توضأ ثلاثًا ثلاثًا)، وفيه: (مسح برأسه يقبل بيده من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه)، وعند ابن قانع من حديث أبي هريرة: (وضع يده على النصف من رأسه، ثم جرَّهما إلى مقدم رأسه، ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه وجرهما إلى صدغيه)، وعند أبي داود من حديث أنس: (أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه)، وفي «كتاب ابن السكن»: (فمسح باطن لحيته وقفاه)، وفي «معجم البغوي» و «ابن أبي خيثمة»: (مسح رأسه إلى ما سالفته)، وعند النسائي عن عائشة وصفت وضوءه عليه السلام: (فوضعت يدها في مقدم رأسها، ثم مسحت إلى مؤخره، ثم مدت بيديها بأذنيها، ثم مدت على الخدين)، فهذه أوجه كثيرة يختار المتوضئ أيها شاء، واختار أئمتنا الأعلام رواية عبد الله بن زيد، فالذي قال: (السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس) اختار الوجه الذي فيه البداءة بمؤخر الرأس، وله أيضًا أن يقول: (هذا الوجه حجة عليك أيها المختار في البداءة بالمقدم) انتهى؛ فافهم.
قال الكرماني: (وفي الاستدلال بذلك على وجوب مسح الجميع نظر؛ إذ ليس كل ما ذكر واجبًا كالمضمضة والاستنشاق، ومن أوجبهما؛ فمحجوج بأمور بعضها سبق وبعضها يأتي، ولئن سلَّمنا؛ فالتثليث والتثنية في البعض مذكورات ولا يجبان اتفاقًا، ولا يقال: هو بيان للآية، وهو واجب، فبيانه واجب؛ لأنَّا نقول: كان يجب الرد إلى المكان الذي بدأ منه، ولا يجب اتفاقًا، ويلزم أن يكون التثنية والتثليث واجبين أيضًا؛ لأنَّهما بيان أيضًا؛ لقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، وأيضًا لو كان التعميم واجبًا؛ لما جاز الاكتفاء بمسح الناصية، وقد ثبت في الأحاديث الصحاح: أنه مسح على ناصيته، فالحق: أنه أمر بإيجاد ماهية المسح سواء كان في ضمن الجميع أو الناصية، وهذا الحديث إنَّما ورد في كمال الوضوء بدليل الأحاديث الأخر التي ليس فيها إقبال ولا إدبار) انتهى.
(ثم غسل رجليه) أطلق الغسل فيهما، ولم يذكر تثليثًا ولا تثنية _كما مر_ إشارة إلى أن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة، وبعضه بمرتين، وبعضه بثلاث، وإن كان الأكمل التثليث في الكل؛ ففعله عليه السلام ذلك في بعض الأحيان دليل للجواز، فهو أفضل في حقه، وإن كان عدم التثليث في حقنا لغير عذر؛ مكروه، والبيان وإن أمكن بالقول لكن الفعل أوقع في النفس وأبعد من التأويل لبيان الحكم.
وفي رواية: (إلى الكعبين)؛ تثنية كعب، وهو العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، هذا تفسير أهل اللغة، وهو قول الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والإمام محمد، والإمام الحسن، والإمام زفر، والجمهور.
وروى ابن القاسم عن مالك: (أنَّه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك)، ونسب جماعة من المتعصبين هذا القول إلى الإمام الأعظم، وهو خطأ ظاهر، وافتراء من مكابر، فإنه لم يقل به الإمام الأعظم ولا أصحابه أصلًا قطعًا، وإنما ذكر الإمام محمد في المُحْرِم: أنه إذا لم يجد النعلين؛ فليقطع الخفين إلى الكعبين، وفسَّر الكعب في ذلك، فأخذ تلميذه هشام ذلك، ونقله إلى الوضوء، وقد أجمع عامة أهل المذهب متونًا، وشروحًا، وفتاوًى على تخطئة هشام، وأن مراد الإمام محمد ذلك في المُحْرِم، كما هو مصرَّح به في كتابه «السير الكبير»، وكذا في «السير الصغير»، و «الجامع الكبير»، و «الجامع الصغير»، وغيرها المسماة بكتب ظاهر الرواية، فهؤلاء المتعصبون يتفقدوا قولًا إما شاذًّا أولا أصل له عن الإمام الأعظم، وينسبونه إليه، ويطيلون ألسنتهم الحداد عليه، ولا غروَ؛ فإنَّ مثل هذا الإمام الذي هو رئيس المجتهدين وسيِّدهم التابعي الجليل، بحر لا يفسده ولوغ الكلاب، ونقيٌّ لا يغيِّره مقل الذباب، وليس مثلهم إلا كمثل الذباب وقع تحت ذنب جواد في حالة كرِّه وفرِّه، ولله درُّ القائل:
يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيكْلِمَهُ ... أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
وفي الحديث فوائد؛ منها: جواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة، وأن الاغتراف من الماء القليل لا يصيِّر الماء مستعملًا؛ لأنَّ في رواية وهيب وغيره: (ثم أدخل يده)، وتمامه في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم الحليم.
==================
[3] في الأصل: (تحته).
[4] في الأصل: (كان).
[5] في الأصل: (بالباء)، ولعله تحريف عن المثبت.
(1/330)
(39) [باب غسل الرجلين إلى الكعبين]
هذا (باب: غسل الرجلين إلى الكعبين)؛ أي: في الوضوء.
==========
%ص 158%
==================
(1/331)
[حديث عبد الله بن زيد في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم]
186# وبالسند قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) أي: التبوذكي (قال: حدثنا وهيب)؛ بالتصغير، ابن خالد الباهلي، (عن عَمرو)؛ بفتح العين؛ أي: ابن يحيى السابق، (عن أبيه)؛ أي: يحيى بن عمارة بن أبي حَسن _بفتح الحاء_ أنه قال: (شهدت) أي: حضرت (عمرو بن أبي حَسن) بفتح الحاء، هذا جدُّ
%ص 158%
عمرو بن يحيى، وتقدَّم أن السائل هو جده، وهذا يدل على أنه أخو جده، ولا منافاة في كونه جدًّا له من جهة الأم عمًّا لأبيه، كذا قاله الكرماني، قال ابن حجر: (وهذا غريب)، وقدَّمنا أن أم عمرو بن يحيى ليست بنتًا لعمرو بن أبي حسن، واعترضه في «عمدة القاري» بأن هذا ليس بغريب؛ فإن صاحب «الكمال» قال ذلك، وقد مضى الكلام فيه؛ فافهم، انتهى.
ورواه المؤلف في باب (من مضمض واستنشق من غَرْفة واحدة)؛ بإسقاط عمرو بن أبي حسن؛ فاعرفه.
(سأل) أي: عمرُو بن أبي حسن (عبد الله بن زيد) الأنصاري السابق في الباب قبله (عن وضوء النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم، فدعا) أي: عبد الله بن زيد (بتَوْر)؛ بفتح المثناة الفوقية، وسكون الواو، آخره راء، هو الطشت، وقال الجوهري: (إناء يشرب منه)، وقال الدراوردي: قدح، وقيل: يشبه الطشت، وقيل: مثل القدر من صُفْر أو حجارة، والصُفْر _بضم الصَّاد المهملة وسكون الفاء_: صنف من جيِّد النحاس، سمي به؛ لأنَّه يشبه الذهب، ويسمَّى أيضًا الشَّبَه؛ بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: (من ماء)؛ بيان؛ لقوله: (بتَوْر)؛ فالمراد: الماء الذي فيه، (فتوضأ لهم)؛ أي: لأجلهم، فاللام للتعليل، وهم السائل وأصحابه (وضوء النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: مثل وضوئه، وأطلق عليه وضوءه؛ لأجل المبالغة، (فأكفأ)؛ بهمزتين لغة في (كفأته)؛ أي: قلبته وصببته، حكاهما ابن الأعرابي، وقال الكسائي: (كفأته: قلبته، وأكفأته: أملته)، والمراد: أنه أفرغ الماء (على يده) بالإفراد (من التور)؛ أي: من ماء التور المذكور، (فغسل يديه)؛ بالتثنية قبل أن يُدْخِلَها في التَّوْر، وفي رواية: (فغسل يده) بالإفراد، على إرادة الجنس، (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، (ثم أدخل يده) بالإفراد (في التَوْر) أيضًا؛ أي: فأخرج ماء منه، (فمضمض، واستنشق، واستنثر)، وعطف (استنثر) على سابقه عطف تفسير؛ لأنَّ الاستنشاق والاستنثار واحد، كما قاله ابن الأعرابي وابن قتيبة، وهو الصواب، (ثلاث)، وفي رواية: (بثلاث) (غرفات)؛ بفتحتين، أو بضم أوله وثانيه، أو بفتح الثاني، أو سكونه، و (الثلاث) يحتمل أن تكون لهما معًا، ويحتمل أن تكون المضمضة ثلاثًا والاستنشاق ثلاثًا، وهو الظاهر، يدلُّ عليه أنه قد ثبت فيما رواه الترمذي وغيره: (أنه تمضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا)، وروى البويطي عن الشافعي: أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة، وثلاث غرفات للاستنشاق، وكل ما روي من خلاف هذا، فهو محمول على بيان الجواز؛ فافهم، ومع وجود النص لا مجال للرأي والاستظهار؛ فافهم.
(ثم أدخل يده)؛ بالإفراد، يدل على أنه اغترف بإحدى يديه، هكذا هو في باقي الروايات وفي «مسلم» وغيره، لكن وقع في رواية ابن عساكر وأبي الوقت من طريق سليمان بن بلال الآتية: (ثم أدخل يديه)؛ بالتثنية، وليس ذلك في رواية أبي ذر ولا الأصيلي، ولا في شيء من الروايات خارج «الصحيح»، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ولعلَّه كان الإناء صغيرًا، فاغترف بإحدى يديه، ثم أضافها إلى الأخرى، كما تقدم نظيره في حديث ابن عباس؛ ليكون ذلك أسهل عليه وأقرب للتناول؛ فافهم.
(فغسل وجهه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، ويدخل فيه غسل جميع اللحية، فإنَّه فرض عملًا لا اعتقادًا على المذهب المصحَّح المفتى به المرجوع إليه، وفي رواية عن الإمام الأعظم: (أنه يُفْتَرَضُ مسح جميع اللحية)، ويدل لذلك ما في «كتاب ابن السكن» عن النبي الأعظم عليه السلام وفيه: (فمسح باطن لحيته وقفاه)، ويدلُّ للأول أحاديث مشهورة لا نطيل بها لشهرتها؛ فافهم.
(ثم أدخل يديه)؛ بالتثنية؛ أي: في الإناء فأخرج ماء، (فغسل يديه)؛ بالتثنية، (إلى المِرْفَقين)؛ بكسر الميم، وسكون الرَّاء، وفتح الفاء، تثنية مرفق، وهو العظم الناتئ في الذراع، و (إلى)؛ بمعنى: مع؛ أي: مع المرفقين، (مرتين)؛ أي: كل يد مرتين، لا أنهما لهما لكل يد مرة، كما قد يُتَوَهَّم بدليل رواية مالك: (ثم غسل يديه مرتين مرتين)، فليس المراد: توزيع المرتين على اليدين لكل يد مرة واحدة؛ فافهم.
(ثم أدخل يده)؛ بالإفراد؛ أي: في الإناء (فمسح رأسه)؛ أي: جميعه، كما هو ظاهر اللفظ، لكنَّه ليس على طريق الوجوب، بل على طريق السنية المؤكَّدة على الصحيح من المذهب، وفي رواية عن الإمام الأعظم وهو قول الشافعي: أنَّه مستحب، وعند مالك وأحمد: أنَّه فرض، (فأقبل بهما) أي: بيديه (وأدبر) أي: بهما أيضًا (مرة واحدة)، واقتصاره على المرة الواحدة دليل ظاهر على عدم سنية التثليث، ويدلُّ لذلك ما رواه أصحاب «السنن» الأربعة عن علي الصديق الأصغر في حكاية وضوء النبي الأعظم عليه السلام: أنَّه مسح على رأسه مرة واحدة، وأحاديث عثمان بن عفان الصحاح تدلُّ على ذلك أيضًا؛ فافهم، فإنَّهم ذكروا الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، وقالوا: (ومسح برأسه)، ولم يذكروا عددًا، فدلَّ على الاقتصار على المرة الواحدة، ولأنَّ التثليث في المسح لا يفيد؛ لأنَّ التكرار في الغسل لأجل المبالغة في التنظيف، ولا يحصل ذلك بالمسح، فلا يفيد التكرار، ومثله: مسح الخف، والجبيرة، والتيمم، وما روي من الأحاديث ممَّا يدل ظاهره على التثليث؛ فهو محمول على أنه بماء واحد؛ جمعًا بين الأحاديث، وهل يُكْرَهُ التثليث بماء واحد أو لا؟ فقال في «المحيط» و «البدائع»: إنَّه مكروه؛ للأحاديث التي ذكرناها، وقال في «الخانية»: (لا يُكْرَهُ، ولا يُسَنُّ، ولا يكون أدبًا) انتهى، وقال في «شرح المنية»: إنه مكروه على الأوجه؛ لأنَّ الأحاديث التي فيها ذكر المسح مرة واحدة أقوى وأرجح، لا تقاوم ما ظاهره التثليث، على أن أحاديث التثليث قد تٌكلِّم في سندها، ولا ريب أن الصحيح لا يقاوم الضعيف، فالأخذ بالصحيح متعين، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وكيفية المسح والاستيعاب: أن يبلَّ كفيه بالماء وأصابعه ثم يلصق الأصابع؛ أي: يضمها، ويضعها على مُقَدَّم رأسه من كل يد ثلاثة أصابع؛ أي: الخنصر والبنصر والوسطى، ويمسك إبهاميه وسبابتيه مرفوعات، ويجافي بطن كفيه عن رأسه، ويمدهما _أي يديه_ إلى القفا، ثم يضع كفيه على جانبي الرأس، ويمسحهما _أي: جانبي الرأس_ بكفيه، ويمسح ظاهر أذنيه بباطن إبهاميه وباطن أذنيه بباطن مسبحته؛ كذا ذكره في «المحيط»؛ تحرُّزًا عن الاستعمال.
واعترضه في «فتح القدير» بأنَّ الاستعمال لا يثبت قبل الانفصال والأذنان من الرأس، وقال في «شرح المنية»: واتفقوا على أنَّ الماء ما دام على العضو لا يكون مستعملًا، فالأظهر في كيفية استيعاب مسح الرأس ما ذكره الإمام فخر الدين الزيلعي في «التبيين» أن يضع كفيه وأصابعه على مقدم رأسه، ويمدُّهما إلى القفا على وجه يستوعب جميع الرأس، ثم يمسح أذنيه بإصبعيه قال: (ولا يكون الماء مستعملًا بهذا؛ لأنَّ الاستيعاب بماء واحد لا يكون إلا بهذا الطريق) انتهى، وأقرَّه في «البحر»، و «النهر»، و «شرح المنية»، وغيرها، فكان هو المذهب، وإلى غيره لا يُذهَب؛ لموافقته لحديث الباب وغيره من الأحاديث الصحاح.
ولا يُسَنُّ أخذ ماء جديد لمسح الأذنين، بل يمسحهما بماء الرأس؛ لأنَّه السنة؛ لأنَّ الأذنين من الرأس، كما في الحديث، وأمَّا إذا انعدمت البلة من اليدين وهما على الرأس؛ فلا بدَّ من أخذ ماء جديد لهما، وكذا إذا كانت البلة باقية بأن مسح رأسه بيديه، ثم رفعهما قبل مسح الأذنين؛ فلابد من أخذ ماء جديد، ولو كانت البلة باقية؛ لأنَّها مستعملة؛ كما مر، وكيفية مسحهما: أن يمسح بالسبابتين داخلهما وبالإبهام خارجهما، وهو المختار، كما في «المعراج»، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنَّه يدخل الخنصرين في أذنيه ويحركهما، وهو قول شيخ الإسلام، كذا في «منهل الطلاب»، ولم يذكر في الحديث مسح الأذنين، وذكره في «سنن النسائي» عن عائشة وصفت وضوءَه عليه السلام، وفيه: (ثم مدَّت بيديها بأذنيها)، وعند أبي داود: (ثم مسح برأسه وبأذنيه
%ص 159%
كليهما)، وفيه أحاديث أخر لا نطيل بذكرها.
(ثم غسل رجليه إلى الكعبين)؛ أي: معهما، وهما العظمان الناتئان عند ملتقى الساق والقدم، هكذا فسره أهل اللغة، والدليل عليه: قول النعمان بن بشير حين قال النبي الأعظم عليه السلام: «أقيموا صفوفكم»: لقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وبهذا قال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم وجميع أصحابه، وقال مالك: (الكعب: هو الملصق بالساق، والمحاذي للعقب)، وما نسبه ابن حجر والعجلوني إلى الإمام الأعظم، من أنه الشاخص في ظهر القدم، فلا أصل له، وهو خطأ ظاهر، وافتراء على هذا الإمام، وإنما قال الإمام محمد الشيباني في المُحْرِم: (إذا لم يجد النعلين؛ فيلبس الخفين، ويقطعهما أسفل من الكعبين)، وفسر الكعب في ذلك: (بأنه الذي في ظهر القدم عند مَعْقَدِ الشراك)، فأخذ ذلك هشام تلميذ الإمام محمد ونقله إلى الوضوء على طريق الغلط والسهو، فتمسك بذلك المتعصبون المتعنتون، ونسبوه إلى الإمام الأعظم، وقد اتفق الشراح والمتون والفتاوى على أنَّ تفسير هشام لذلك خطأ من هشام، وليس ذلك بمراد للإمام محمد، كما صرَّح بذلك في كتبه؛ ظاهر الرواية الستة، فمن زعم ذلك ونسبه للإمام الأعظم؛ فهو مخطئ ومفترٍ، ويكفيه أنه كاذب فيما قاله؛ فافهم.
وفي المجيء بالغاية في الآية دليل لكونهما مغسولتين لا ممسوحتين؛ لأنَّ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة، والخلاف في غسل الكعبين مع الرجلين كالخلاف في غسل المرفقين مع الذراعين، كما قدمناه؛ فافهم، والله أعلم.
==================
(1/332)
(40) [باب استعمال فضل وضوء الناس]
هذا (باب: استعمال فضل وَضوء) بفتح الواو (الناس) في التطهير وغيره، يحتمل أن المراد من فضل الوضوء: هو ما يبقى في الظرف بعد الفراغ من الوضوء وغيره كالشرب والطبخ والعجين، أو فَضَل عن غسل ثوب أو إناء طاهر، وهذا لا خلاف في طهارته وجواز التوضؤ والتطهير به، ويحتمل أن يراد به: الماء الذي يتقاطر من أعضاء المتوضئ، وهو الماء المستعمل، وسببه: رفع الحدث أو لأجل القربة أي: الثواب، والظاهر أن هذا هو المراد، واختلف فيه؛ فروي عن الإمام الأعظم ثلاث روايات، فروى الإمام أبو يوسف عنه: أنه نجس مخفف، وحكى الشافعي في «الأم» عن شيخه محمد بن الحسن: أن أبا يوسف رجع عنه، ثم رجع إليه بعد شهرين، وروى الإمام الحسن بن زياد عن الإمام الأعظم: أنه نجس مغلظ، وروى الإمام محمد بن الحسن، والإمام زفر، وعامر، عن الإمام الأعظم: أنه طاهر غير طهور.
وجه رواية النجاسة: ما رواه المؤلف ومسلم وأصحاب «السنن» الأربعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلَنَّ فيه من الجنابة»، وفي رواية: «ثم يغتسل فيه من الجنابة»، وفي أخرى: «لا يغتسل فيه من الجنابة»، وذلك أنه حرم الاغتسال في الماء القليل؛ لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام، فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة؛ لم يكن للنهي معنًى؛ لأنَّ إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر؛ فحرام، فكان هذا نهيًا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال، وهذا يقتضي التنجيس به.
لا يقال: يحتمل أنه نهيٌ؛ لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرًا من غير ضرورة، وذلك حرام؛ لأنَّا نقول: الماء القليل إنَّما يخرج عن كونه مطهرًا باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبًا عليه كماء الورد، أما إذا كان مغلوبًا؛ فلا، وههنا الماء المستعمل: ما يلاقي البدن، ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل، فكيف يخرج به من أن يكون مطهرًا، أمَّا ملاقاة النجس الطاهر؛ فتوجب تنجيس الطاهر، وإن لم يغلب على الطاهر؛ لاختلاطه بالطاهر على وجه لا يمكن التمييز بينهما، فيحكم بنجاسة الكل، فثبت أن النهي لما قلنا.
ولا يقال: يحتمل أنه نهي؛ لأنَّ أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية، وهي توجب تنجيس الماء القليل؛ لأنَّا نقول: الحديث مطلق، فيجب العمل بإطلاقه، ولأن النهي عن الاغتسال ينصرف إلى الاغتسال المسنون؛ لأنَّه المتعارف بين المسلمين، والمسنون منه: إزالة النجاسة قبل الاغتسال، على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيدت بالنهي عن البول فيه، فيوجب عمل النهي على الاغتسال فيه؛ لما ذكرنا؛ صيانة لكلام الشارع عن الإعادة الخالية عن الفائدة.
لا يقال: القِرَان في النظم لا يوجب القِرَان في الحكم، فلا يلزم تنجيس الماء بالاغتسال؛ لأنَّا نقول: إنَّ مطلق النهي للتحريم خصوصًا إذا كان مُؤكَّدًا بنون التأكيد؛ لا باعتبار القران، على أنَّ القِران معتبر هنا، فإنَّه عليه السلام قد قرن المستعمل بالبول، وهو نجس إجماعًا، فدل على أن الاغتسال فيه كالبول فيه، وللقران في الحكم شواهد كثيرة من القرآن العظيم، والأحاديث الشريفة، ويدل عليه أنَّه تعالى عقب الأمر بالوضوء والتيمم: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، فدل إطلاق التطهير على ثبوت النجاسة في أعضاء الوضوء، ودل الحكم بزوالها بعد التوضؤ على انتقالها إلى الماء، فيجب الحكم بالنجاسة، لكنِ الإمامُ أبو يوسف جعل النجاسة خفيفة، وذلك لعموم البلوى فيه؛ لتَعَذُّرِ صيانة الثياب عنه، ولكونه محل اجتهاد، فأوجب ذلك تخفيفًا في حكمه.
ووجه رواية التغليظ: أنها نجاسة حكمية، وهي أغلظ من الحقيقية؛ بدليل أنه لا يعفى عن شيء قليل منها، وأمَّا الحقيقية، فيعفى عن قليلها، فهي أغلظ، وقد أطال في «فتح القدير»، و «البحر الرائق» في الاستدلال، ورجح رواية التخفيف؛ فراجعهما، ولولا الإطالة؛ لذكرناه.
ورواية الطهارة هي المعتمدة، وهي قول الإمام محمد، وبه قال زفر والشافعي في القديم، وهو الأصح عنده، وأحمد على الراجح؛ على أن الماء المستعمل طاهر غير طهور، وبه أخذ أكثر أئمتنا، واختارها المحققون وعلماء العراق، ونفوا الخلاف، وقالوا: إنه طاهر عند الكل، وقد قال في «المجتبى»: (صحت الرواية عن الكل أنه طاهر غير مطهِّر، فالاشتغال بتوجيه التغليظ والتخفيف مما لا جدوى له)، كذا في «النهر»، وممن صرح بأن رواية الطهارة ظاهر الرواية وعليها الفتوى صاحبُ «الكافي» و «المصفى» و «الذخيرة»؛ كما قاله في «شرح الدرر» وفي «شرح المنية»، وهو ظاهر الرواية وعليه الفتوى وهو الصحيح، كما في «الجوهرة» و «شرح الهاملية»، وهو المختار، كما في «الملتقى»، وعليه الفتوى، كما في «فتح القدير» و «النهر»، وقال في «الفتاوى البزازية»: (الصحيح أن الإمام الأعظم قائل بالطهارة، كما قاله الإمام محمد)، والفتوى عليه، كما في «التقريب»، و «الخلاصة»، و «المفيد»، وغيرها من الكتب المعتبرة؛ لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا المستعمل في أسفارهم القليلة الماء ليتطهروا به، بل عدلوا إلى التيمم، فلو كان طهورًا لجمعوه، فدل على أنه لا يجوز استعماله مرة ثانية.
فإن قيل: تركوا الجمع؛ لأنَّه لا يُجمَع منه شيء؛
%ص 160%
للمشقة.
وأجيب: بأنَّا لا نسلِّم ذلك، ولئن سلَّمناه في الوضوء؛ لا نسلِّم ذلك في الغسل.
فإن قيل: لا يلزم من عدم جمعه منع الطهارة به، ولهذا لم يجمعوه للشرب والطبخ والتبرد.
قلت: إنَّما تركوا جمعه للشرب وغيره؛ للاستقذار، فإن النفوس تعافه للعادة، وإن كان طاهرًا، فالظاهر: أنَّ علة الطهارة عموم البلوى، يدل لذلك ما في «الفتاوى الولوالجية»: ولمَّا كان دليل النجاسة قويًّا؛ كان هو المختار، إلا أنَّ البلوى عمت في الماء المستعمل في الحدث الأصغر، فأفتى العلماء بالطهارة؛ للضرورة، وذكر نحوه في «الهداية» وغيرها؛ فافهم.
وقال الإمام زفر: (إن كان مستعمِله طاهرًا؛ فهو طاهر وطهور، وإن كان محدثًا؛ فهو طاهر غير طهور).
وقال مالك والشافعي في القديم ورواية عن أحمد إلى أنَّه طاهر وطهور، وهو قول النخعي، والحسن البصري، والزهري؛ لوصف الماء بالطهور في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، المقتضي تكرار الطهارة؛ كـ (ضَرُوب) لمن يتكرر منه الضرب.
وأجيب: بأن تكرار الطهارة حاصل بما يتردد على العضو دون المنفصل عنه؛ جمعًا بين الدليلين، أو أنه يطهر الحدث ثم يطهر الخبث، فالتكرار من هذا الوجه لا لما ذكروه؛ لأنَّه غير مراد.
وقال ابن بطال: (وأجمعوا على أن الإنسان غير مأخوذ عليه بما يرتش عليه الماء المستعمل، فلو كان نجسًا؛ لوجب التحرز عنه، فهو طاهر، وما لم يتغير طعمه، ولا لونه، ولا ريحه؛ لم يؤثر في الاستعمال في عينه، فلم يؤثر في حكمه، وهو طاهر لاقى طاهرًا، فجاز أن يسقط به الفرض مرة أخرى؛ كالماء الذي غسل به ثوب طاهر، فهو طاهر مطهر) انتهى.
قلت: وفيه نظر، فإن الذي يرتش عليه إنَّما جُعِل عفوًا للضرورة؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه قطعًا، وهو لا يدلُّ على طهارته، وقوله: (ما لم يتغير ... ) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّه قد حصل له الكلال، والضعف، واجتماع الأوساخ فيه، والأدران التي في البدن، وقوله: (كالماء الذي غسل به ثوب ... ) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّه قياس مع الفارق، والفرق: أنَّ الثوب الطاهر خالي عن الأوساخ، فإذا غسل به لا تأثير له، بخلاف الماء المستعمل؛ فإنه قد أثر فيه البدن من ارتفاع الحدث، فإنه ماء الذنوب، وقد رأى الإمام الأعظم جماعة يتوضؤون، فينزل الماء منهم بعضه أسود وبعضه أحمر وبعضه كدر، ولا يدرك ذلك إلا أصحاب القلوب السليمة التي نوَّرها الله بالكشف الإلهي، وقد نزع الله تعالى من الماء البركة؛ بسبب اختلاطه بذنوب الناس؛ كالخمر، فإنه مباح في العهد الأول، وفيه النفع، ولمَّا حرم في شريعتنا؛ نزعت منه ذلك النفع، وبقي نجسًا مضرًّا، وستأتي بقية المباحث في ذلك.
(وأمر جرير بن عبد الله أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه) فيما وصله ابن أبي شيبة والدارقطني وغيرهما عنه، ولفظ الدارقطني: «كان يقول لأهله: توضؤوا من آلة أدخل فيه سواكي»، وفي بعض طرقه: كان جرير يستاك، ويغمس رأس سواكه في الماء، ثم يقول لأهله: (توضؤوا بفضله) لا يرى به بأسًا، وهذه الرواية مبينة للمراد.
قال في «عمدة القاري»: (هذا الأثر غير مطابق للترجمة أصلًا، وأن الترجمة في استعمال الماء الذي يَفْضُلُ من المتوضئ، والأثر: هو الوضوء بفضل السواك، ثم فضل السواك إن كان ما ذكره ابن التين وغيره: من أنَّه هو الماء الذي يُنْقَع فيه السواك، فلا مناسبة له للترجمة؛ لأنَّه ليس بفضل الوضوء، وإن كان المراد: أنه الماء الذي يغمس فيه المتوضئ سواكه بعد الاستياك؛ فذلك لا يناسب الترجمة، وقال بعضهم _أي: ابن حجر_: أراد المؤلف أن هذا الصنيع لا يغير الماء، فلا يمنع التطهر به، قلت: من له أدنى ذوق من الكلام لا يقول هذا الوجه في تطابق الأثر للترجمة).
أي: لأنَّ تغير الماء هو معنًى آخر خارج عما نحن بصدده، ومراد المؤلف: التوضؤ بما يَفْضُلُ عن المتوضئ الآخر، فلا وجه لهذا الكلام هنا.
ثم قال في «عمدة القاري»: (وقال ابن المنير: إن قيل: ترجم على استعمال فضل الوضوء، ثم ذكر حديث السواك والمجة، فما وجهه؟ قلت: مقصوده: الرد على من زعم أنَّ الماء المستعمل في الوضوء لا يُتطَهر به، قلت: هذا الكلام أبعد من كلام هذا القائل؛ فأي دليل دلَّ على أن الماء في خبر السواك والمجة فضل الوضوء؟ وليس فضل الوضوء إلا الماء الذي يَفْضُلُعن وضوء المتوضئ، فإن كان لفظ «فضل الوضوء» عربيًّا؛ فهذا معناه، وإن كان غير عربي؛ فلا تعلق له.
وزعم الكرماني فقال: وفضل السواك: هو الماء الذي ينقع فيه السواك ليترطب ويلين، وسواكهم الأراك.
قلت: بيَّنت لك أنَّ هذا كلامٌ واهٍ، وأنَّ فضل السواك لا يقال له: فضل الوضوء، وهذا لا ينكره إلا معاند ومكابر).
قال: (ويمكن أن يقال: بالجر الثقيل أنَّ المراد من فضل السواك: هو الماء الذي في الظرف، والمتوضئ يتوضأ منه، وبعد فراغه من تسوكه عقيب فراغه من المضمضة يرمى السواك الملوث بالماء المستعمل فيه) انتهى.
وقد أجاب بهذا الجواب القسطلاني ونسبه لنفسه لكونه في غاية التحقيق للمناسبة والمطابقة للترجمة.
قال العجلوني متعصبًا لابن حجروقد زاد عليه في الطنبور نغمة: (كلام بعضهم صحيح؛ لقياسه ماء الوضوء، حيث لم يتغير على الذي وضع فيه سواك ليترطب به ولم يتغير، وهو قياس صحيح؛ لوجود الجامع بينهما؛ وهو عدم التغيير) انتهى.
قلت: وهذا القياس فاسد، فإن السواك الذي يستاك به إذا وضع في الماء لا ريب أنه يتغير من الذي عليه من أوساخ الفم والأسنان، ولا يقال له: إنه فضل الوضوء قطعًا، فأين الجامع بينهما؟ على أنه أوَّلًا يصحح كلام ابن حجر، ثم يبين القياس؟ ولا ريب أن كلام ابن حجر غير ظاهر المعنى؛ لأنَّه في وادٍ والمؤلف في وادٍ آخر، والعجلوني مثله كمثل من وضع قطنًا على أرض وجاء آخر يبني عليه بالحجارة، فلا ريب أنَّ ما قاله الإمام بدر الدين العيني هو الصواب، وإليه المرجع والمآب.
==================
(1/333)
[حديث أبي جحيفة في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم]
187# وبه قال: (حدثنا آدم)؛ هو ابن أبي إياس؛ بكسر الهمزة (قال: حدثنا شعبة)؛ أي: ابن الحجاج (قال: حدثنا الحَكَم)؛ بفتحتين؛ أي: ابن عُتَيْبَة _بضم العين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة_ فهو تابعي صغير، وليس له سماع من أحد من الصحابة إلا أبا جحيفة، وقيل: روى عن ابن أبي أوفى أيضًا، كما في «عمدة القاري» (قال: سمعت أبا جُحَيْفة)؛ بضم الجيم، وفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية، بعدها فاء، واسمه: وهب بن عبد الله الثقفي الكوفي السُّوائي _بضم المهملة_ المتوفى سنة أربع وسبعين (يقول)؛ جملة محلها النصب على أنها مفعول ثان لـ (سمعت) على قول من يقول: إن السماع يستدعي مفعولين، والأظهر: أنها حال، كذا في «عمدة القاري»: (خرج علينا النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) (من قُبَّةٍ حمراءَ من أدم بالأبطح بمكة)، كما صرح به في رواية، (بالهاجرة)؛ أي: في الهاجرة، فالباء فيه ظرفية بمعنى: (في)، وهي نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر، أو عند زوال الشمس إلى العصر، وقيل في كل ذلك: إنه شدة الحر، وفي «الأنواء»: (الهاجرة: بالصيف قبل الظهيرة بقليل أو بعدها بقليل، والهويجرة: قبل العصر بقليل، وسميت: الهاجرة؛ لهروب كل شيء منها)، وفي «المغيث»: الهاجرة؛ بمعنى: المهجورة؛ لأنَّ السير هجر فيها كـ {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]؛ بمعنى: مدفوق، وأما قول النبي الأعظم عليه السلام: «والمُهَجِّر كالمُهْدِي بدنة»؛ فالمراد: التبكير إلى كلِّ الصلوات، وعن الخليل: (التهجير إلى الجمعة: التبكير، وهي لغة حجازية)، وتمامه في «عمدة القاري».
(فأُتِي)؛ بضم الهمزة وكسر التاء (بوَضوء)؛ بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ منه، (فتوضأ)؛ أي: من ذلك الماء، (فجعل الناس) أي: الصحابة (يأخذون) في محل
%ص 161%
النصب على أنه خبر (جعل) الذي هو من أفعال المقاربة (من فضل وَضوئه)؛ بفتح الواو: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، وكأنَّهم اقتسموه بينهم، أو أنَّهم كانوا يتناولون ما سال من أعضائه عليه السلام، (فيتمسحون به)؛ أي: بذلك الماء، فإن كان المراد المعنى الأول؛ فلا دلالة فيه على طهارة الماء المستعمل؛ لأنَّهم أخذوا [1] ما فضل من وضوئه في الإناء، فيكون المراد منه: التبرك بذلك، والماء طاهر، فازداد طهارة ببركة وضع النبي الأعظم عليه السلام يده المباركة فيه، وإن كان المراد المعنى الثاني؛ فلا دلالة فيه أيضًا على طهارة الماء المستعمل؛ لأنَّ الماء لا يُحْكَم عليه بالاستعمال إلا إذا انفصل عن العضو واستقر في مكان، وهنا ليس كذلك، على أنَّ ظاهر اللفظ يدل على الأول، فإن جُعِل (الوضوء) اسمًا لمطلق الماء؛ فلا دلالة فيه على الطهارة، وإن أُريدَ بـ (وضوئه): فضل مائه الذي توضأ ببعضه ولم يستعمله في أعضائه؛ فلا دلالة أيضًا، ومع هذه الاحتمالات لا يثبت دليل الطهارة، فتثبت النجاسة، وأخذ الصحابة ذلك الماء للتبرك؛ لأنَّه لا شكَّ في طهارته؛ لأنَّ إمامنا الأعظم رضي الله عنه قال بطهارة فضلاته، فكيف بماء وضوئه؟! بالأولى.
والتمسيح: من باب (التفعيل)، وهي تأتي لمعان، ومعناها هنا: العمل؛ ليدل على أن أصل الفعل حصل مرة بعد مرة؛ نحو: تَجَرَّعَهُ؛ أي: شربه جرعة بعد جرعة، والمعنى هنا كذلك؛ لأنَّ كل واحد منهم يمسح به وجهه ويديه مرة بعد أخرى، ويحتمل أن تكون للتكلف [2]؛ لأنَّ كل واحد منهم لشدة الازدحام على فضل وضوئه كان يتعانى لتحصيله كـ (تشجع) و (تصبَّر).
(فصلى النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، والعصر ركعتين) مقصورتين؛ لأنَّه كان في السفر، (وبين يديه) خبر مقدم، والجملة حالية، وقوله: (عَنَزَة)؛ بالرفع مبتدأ مؤخر، وهي بفتحات: أقصر من الرمح وأطول من العصا، وفيه زج كزج الرمح، وإنما صلَّى إليها؛ لأنَّه عليه السلام كان في الصحراء.
وفي الحديث: دلالة على جواز التبرك بآثار الصالحين، وفيه: قصر الرباعية في السفر، وفيه: نصب العَنَزَةَ بين يدي المصلي إذا كان في الصحراء، والله أعلم.
188# (وقال أبو موسى)؛ أي: عبد الله بن قيس الأشعري، مما وصله المؤلف في (المغازي) وأوله: عن أبي موسى قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ومعه بلال، فأتاه أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ قال: «أبشر» ... ؛ الحديث، وفيه ما اقتصر عليه المؤلف هنا على موضع الاستشهاد، فقال: (دعا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم بقَدَح)؛ بفتحتين: الإناء الذي يؤكل فيه، قاله ابن الأثير، وقال في «عمدة القاري»: (في استعمال الناس اليوم: الإناء الذي يشرب فيه)؛ فتأمل، (فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه) أي: في الإناء، (ومج فيه)؛ أي: صبَّ ما تناوله من الماء بفيه في الإناء، (ثم قال) عليه السلام (لهما)؛ أي: لبلال وأبي موسى، وكان بلال مع أبي موسى حاضرًا عند النبي الأعظم عليه السلام، كما دل عليه الحديث في (المغازي): (اشربا)؛ بهمزة وصل من (شرب) (منه)؛ أي: من ذلك الماء، (وأَفرِغا)؛ بهمزة قطع مفتوحة من الرباعي؛ أي: صُبَّا من الماء (على وجوهكما ونحوركما)؛ بالنُّون، جمع نحر، وهو الصدر.
قال الإسماعيلي: (ليس هذا من الوضوء في شيء، وإنما هو مثل من استشفى بالغسل له، فغسل)، قال في «عمدة القاري»: (أراد بهذا الكلام أنه لا مطابقة له للترجمة، ولكن فيه مطابقة من حيث إنه عليه السلام لمَّا غسل يديه ووجهه في القدح؛ صار الماء مستعملًا، ولكنَّه طاهر؛ لأنَّه لو لم يكن طاهرًا؛ لما أمر بشربه وإفراغه على الوجه والنحر، وهذا الماء طاهر وطهور أيضًا بلا خلاف، ولكن إذا وقع مثل هذا من غيره عليه السلام؛ يكون الماء على حاله طاهرًا، ولكن لا يكون مطهِّرًا على ما عُرِف).
وقال الكرماني: (فيه دلالة على طهارة الماء المستعمل، وفيه جواز المج في الماء)، قال في «عمدة القاري»: (هذا في حق النبي الأعظم عليه السلام؛ لأنَّ لعابه أطيب من المسك، ومن غيره مُتَقَذَّر؛ ولهذا كرهه العلماء، والنبي عليه السلام لعابه أعظم، وكانوا يتدافقون على نخامته ويدلكون بها وجوههم؛ لبركتها وطيبها، وخَلوفه ما كان يشابه خَلوفَ غيره، وذلك لمناجاته الملائكة، فطيَّبَ الله نكهته، وخَلوفَ فمه، وجميع رائحته).
وقال ابن القطاع: (فيه دليل على أن لعاب البشر ليس بنجس، ولا بقيَّة شربه، وذلك يدل على أنَّ نهيه عليه السلام عن النفخ في الطعام والشراب ليس على سبيل أنَّ ما تطاير فيه من اللعاب نجس، وإنَّما هو خشية أن يتقذَّره الآكل منه والشارب، فأمر بالتأدُّب في ذلك، وحديث أبي موسى يحتمل أن يكون عليه السلام أمر بالشرب من الذي مجَّ فيه والإفراغ على الوجوه والنحور من أجل مرض أو شيء أصابهما)، واعترضه الكرماني: (بأنه لم يكن ذلك من أجل ما ذكره، بل كان لمجرد التيمُّن والتبرك)، قال في «عمدة القاري»: فعلى هذا لا تطابق بينه وبين ترجمة الباب، وقد قدمنا وجه المطابقة؛ فافهم، والله أعلم.
==================
[1] في الأصل: (أخذ).
(1/334)
[حديث: وإذا توضأ النبي كادوا يقتتلون على وضوئه]
189# وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو ابن المديني (قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعْد) بسكون العين المهملة (قال: حدثنا أبي)؛ أي: إبراهيم المذكور، (عن صالح) هو ابن كيسان، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري: أنه (قال: أخبرني) وفي رواية: (حدثني) بالإفراد فيهما (محمود بن الرَّبيع) بفتح الرَّاء (قال)؛ أي: ابن شهاب: (وهو) أي: محمود (الذي مَجَّ)؛ أي: رمى، والمُجاج: الريق الذي تمجه من فِيْك، (رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من فمه الشريف ماءً (في وجهه)؛ أي: ليمازحه؛ إيناسًا له (وهو غلام) جملة اسمية وقعت حالًا، وقوله: (من بئرهم) متعلق بقوله: (مج)، أو حال من المفعول المحذوف، والظاهر الأولى، كما لا يخفى، والضمير في (بئرهم): يعود لمحمود وقومه بدلالة القرينة عليه.
والذي أخبر به محمود هو قوله: (عَقَلْتُ من النبي صلى الله عليه [وسلم] مجَّة مجَّها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين من دلو)، وقوله: (وهو الذي مج ... ) إلى قوله: (بئرهم)؛ كلام لابن شهاب ذكره تعريفًا أو تشريفًا، وهذا الحديث لا يطابق الترجمة، وإنما يدلُّ على ممازحة الطفل بما قد يصعب عليه؛ لأنَّ مجَّ الماء قد يَصْعُبُ عليه، وإن كان قد يستلذ به؛ فافهم.
وقد أخرجه المؤلف في كتاب (العلم) في باب (متى يصح سماع الصغير)، وقد سبق الكلام عليه مستوفًى من جميع الوجوه.
(وقال عروة)؛ هو ابن الزبير بن العوام، مما وصله المؤلف في كتاب (الشروط) [في باب (الشروط] في الجهاد) (عن المِسْوَر)؛ بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الواو، وهو ابن مَخْرَمة _بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الرَّاء_ الزهري، ابن بنت عبد الرحمن بن عوف، قُبِضَ النبي الأعظم عليه السلام وهو ابن ثمان سنين، وصح سماعه منه، فهو صحابي صغير، فأصابه حجر من أحجار المنجنيق وهو يصلي في الحِجر، فمكث خمسة أيام، ثم مات زمن محاصرة الحجاج مكة سنة أربع وستين، والألف واللام فيه كالألف واللام في (الحارث) يجوز إثباتهما ويجوز نزعهما، وهو في الحالتين علَمٌ، كذا في «عمدة القاري» (وغيره) عطف على (المِسْوَر)، والمراد بالغير: هو مروان بن الحكم، كما صرَّح به المؤلف في هذا الحديث المطول في (الجهاد)، وقول الكرماني: (ولا يضر الإبهام؛ لأنَّ الغالب أن عروة لا يروي إلا عن عدلوأيضًاذكر المتابعة فيغتفر فيها الجهالة [1]) قد رده في «عمدة القاري»: (بأن هذا غير وارد من أصله؛ لأنَّ هذا التعليق أخرجه المؤلف موصولًا، وبين فيه أن المراد من قوله: «وغيره» مروان، فإذا سقط السؤال؛ فلا حاجة إلى الجواب) انتهى.
وجملة: (يصدق كل واحد منهما)؛ أي: من المِسْوَر ومروان (صاحبه)؛ أي: كل واحد منهما يوافق الآخر على ما حدَّث به؛ حال من (المِسْوَر وغيره) لا أنه مقول ابن شهاب، كما زعمه الكرماني، كذا نبه عليه في «عمدة القاري».
والحاصل: أن قوله: (وقال عروة: ... ) إلخ: تعليق، وأن ضمير (منهما) عائد إلى المِسْوَر
%ص 162%
ومروان، وزعم الكرمانيأن ضمير (منهما) يعود إلى محمود والمِسْوَر؛ وهو فاسد؛ لمخالفته لصنيع أئمة هذا الشأن، بل هو تجويز عقلي مخالف للنقل الذي تقدم عن المصنف، كذا نبه عليه في «عمدة القاري»، ولفظ الحديث: (حدثنا عبد الله بن محمد: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري قال: أخبرني عروة، عن المِسْوَرِ بن مَخْرَمة ومروان يصدق كل واحد منهما صاحبه؛ قالا: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن ... » الحديث، وهو طويل إلى أن قال: «ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي عليه السلام بعينيه قال: فوالله ما تنخَّم رسول الله عليه السلام نخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم، فدَلَكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم؛ ابتدروا أمره ... » إلى آخره)، والمراد من قوله: (ثم إن عروة) هو عروة بن مسعود أرسله كفَّار مكة إلى رسول الله عليه السلام زمن الحديبية، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: (وإذا توضأ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم؛ كانوا) وفي رواية: (كادوا)؛ بالدَّال المهملة؛ أي: الصحابة (يقتتلون على وَضوئه)؛ بفتح الواو: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء؛ ليس من قول المِسْوَر وغيره، كما زعمه وتوهمه الكرماني؛ لأنَّهما صحابيان صغيران لم يحضرا القصة، ولا من مقول عروة بن الزبير؛ لأنَّه تابعي، بل هو من مقول عروة بن مسعود الثقفي المشاهد لذلك؛ لأنَّه هو القائل بذلك والحاكي به عند مشركي مكة.
وزعم ابن حجرأن رواية (كادوا) هي الصواب؛ لأنَّه لم يقع بينهم قتال، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: كلاهما سواء، والمراد به: المبالغة في ازدحامهم على نخامة النبي عليه السلام وعلى وضوئه) انتهى، قلت: وهذا ظاهر لمن له أدنى تأمل؛ فافهم.
وذكر ابن طاهر أن هذا الحديث معلول؛ لأنَّ المِسْور ومروان لم يُدْرِكا هذه القصة التي كانت بالحديبية سنة ستٍّ؛ لأنَّ مولدهما كان بعد الهجرة بسنتين، كما أجمع عليه المؤرخون، وأمَّا ما في «مسلم» عن المسور قال: (سمعت رسول الله عليه السلام يخطب الناس على هذا المنبر وأنا يومئذ محتلم)، فيحتاج إلى تأويل لغوي؛ بمعنى: أنه كان يعقل، لا الاحتلام الشرعي، أو أنه كان سمينًا غير مهزول، فيما ذكره القرطبي، وقال صاحب «الأفعال»: (حلم حلمًا؛ إذا عقل)، وقال غيره: (إذا تحلَّم الغلام؛ صار سمينًا)، وهو معدود في صغار الصحابة، مات سنة أربع وستين، كذا في «عمدة القاري».
وفي الحديث دلالة على طهارة الماء المستعمل إذا كان المراد من قوله: (يقتتلون على وضوئه): الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، لكنه بعيد، والظاهر: أن المراد به: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء؛ لأنَّ اللفظ يدل عليه، وهو غير مستعمل، ولا شكَّ في طهوريته، أمَّا المستعمل؛ فلا يجوز استعماله في الأحداث، أمَّا استعماله في تطهير الثوب والبدن من النجاسة؛ فيجوز، لكنه مكروه، وكذا يُكْرَهُ شربه، كما في «البزازية»؛ لأنَّ النفس تعافه؛ لتدنُّسه بأوساخ البدن، قال في «البحر»: (ولا يخفى أن الكراهة على رواية الطهارة، أمَّا على رواية: أنه نجس؛ فحرام؛ لأنَّه من الخبائث، فلا يجوز استعماله مطلقًا) انتهى، ووفَّق في «الدر» تبعًا «للنهر»: (بأنه على رواية الطهارة: يُكْرَهُ شربه والعجن به تنزيهًا؛ للاستقذار، وعلى رواية النجاسة تحريمًا؛ لأنَّ المطلق منها ينصرف إليها) انتهى، وإنما يُكْرَهُ تنزيهًا على رواية الطهارة؛ لأنَّه اكتسب زخومة البدن بالاستعمال؛ لأنَّه ربما يَضُرُّ المعدة، كما قالوا في الماء المشمَّس: إنَّه يُكْرَهُ التوضؤ به؛ لأنَّه يورث البرص، وكما قالوا في الشرب قائمًا: إنَّه مكروه؛ لأنَّه يورث داء الكباد، ولا شكَّ أن النَّفس تعافه وتتقذَّر منه، وتمامه في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (للجهالة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(باب)؛ بالتنوين، بلا ترجمة ثابت في رواية المستملي، ساقط في رواية الباقين وهو الأولى؛ لمناسبة حديثه للباب السابق من غير فصل بينه وبين سابقه، ولهذا تركه في «عمدة القاري»؛ لظهور وجهه.
==================
(1/335)
[حديث السائب: ذهبت بي خالتي إلى النبي فقالت: يا رسول الله]
190# وبه قال: (حدثنا عبد الرحمن بن يونس بن هاشم)؛ هو أبو مسلم البغدادي، المستملي لسفيان بن عيينة وغيره، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين فجأة (قال: حدثنا حاتِم) بالحاء المهملة وكسر المثناة الفوقية (بن إسماعيل) الكوفي، نزيل المدينة، المتوفى بها سنة ست وثمانين ومئة في خلافة هارون، (عن الجَعْد)؛ بفتح الجيم وسكون العين المهملة، وللأكثر وهو المشهور: (الجعيد)؛ بالتصغير، ابن عبد الرحمن بن أوس، الكندي المدني الثقة (قال: سمعت السائب) اسم فاعل _بالمهملة والهمز_ من السيب؛ بالمهملة والتحتية والموحدة، (بن يزيد) من الزيادة، الكندي، ويقال: الهذلي، أو الليثي، أو الأسدي، وأبوه صحابي، قال: (حجَّ بي أبي مع النبي عيه السلام حجة الوداع، وأنا ابن سبع سنين)، ولد في السنة الثانية من الهجرة، فهو ندب ابن الزبير والنعمان بن بشير في قول بعضهم، وخرج مع الصبيان إلى ثنية الوداع؛ لتلقِّي النبي عليه السلام مَقْدمه من تبوك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة إحدى وتسعين أو ثمانين أو ست وثمانين، قيل: هو الصحيح، وقيل: سنة ثمان وثمانين، وهو ابن أربع أو ست وتسعين سنة، قال جعيد: (رأيت السائب ابن أربع وتسعين جلدًا معتدلًا، قال: قد علمت ما مُتِّعْتُ به من سمعي وبصري إلا بدعاء النبي الأعظم عليه السلام)، وكان عاملًا لعمر على سوق المدينة مع عبد الله بن عتبة بن مسعود، روي له خمسة أحاديث؛ ذكرها كلها المؤلف، لا ستة، كما زعمه القسطلاني؛ فافهم.
(يقول: ذهبَتْ) أي: مضتْ (بي خالتي)؛ لم أقف على اسمها، قال في «عمدة القاري»: (والفرق بين «ذهب به» و «أذهبه»: أن معنى: «أذهبه» أزاله وجعله ذاهبًا، ومعنى: «ذهب به»: استصحبه، ومضى به معه) انتهى، قلت: هذا مذهب المبرد، ولعلَّه الأصح، وقال سيبويه: (الباء في مثله كالهمزة والتضعيف، فمتى ذهبتَ به؛ أذهبته، وتجوز المصاحبة وعدمها)؛ كذا نصَّ عليه سعد الدين في «شرح التقريب»، وعلى مذهب المبرد؛ فيحتاج أن يقال: هو أغلبي، وإلا؛ فقد ورد في التنزيل: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، وقد يقال: هذا محله فيمن له اختيار؛ نحو: ذهبت بزيد، وقيل: على تضمين (أذهب)، فلا ترد الآية؛ فتأمل (إلى النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إن ابن أختي)؛ أي: عُلبَة _بضم العين المهملة، وسكون اللام وفتح الموحدة_ بنت شريح (وَقِعٌ)؛ بفتح الواو وكسر القاف وبالتنوين، وفي رواية: بفتح القاف على لفظ الماضي، وفي أخرى: (وَجِعٌ)؛ بفتح الواو وكسر الجيم، وعليه الأكثر، ومعنى: (وَقِعٌ)؛ بكسر القاف: أصابه وجع في قدميه، وزعم ابن سيده: أنه يقال: وقع الرجل والفرس وقعًا؛ فهو وَقِعٌ: إذا حَفِيَ من الحجارة والشوك، وقد وقعه الحجر، وحافرٌ وقيعٌ: وقعته الحجارة فقصت منه، ثم استعير للمشتكي المريض، يبينه قولها: (وجع)، والعرب تسمي كل مرضٍ وجعًا، وفي «الجامع»: (وقع الرجل موقع: إذا حفي من مَشْيِهِ على الحجارة، وقيل: هو أن يشتكي لحم رجليه من الحفى)، وقال ابن بطال: (ومعناه: أنه وقع في المرض)، وقال الجوهري: (وقع؛ أي: سقط، والوقع أيضًا: الحفى)، كذا في «عمدة القاري».
(فمسح) أي: النبي الأعظم عليه السلام (رأسي)؛ أي: بيده الشريفة المباركة، (ودعا لي بالبركة)؛ أي: بأن قال: اللهم بارك فيه، أو اللهم اجعل فيه البركة، وهي شاملة لصحة حواسه، وحسن ماله، ووجود أولاده، وطول عمره؛ لقول جعيد: (رأيت السائب ابن أربع وتسعين جلدًا معتدلًا، قال: قد علمت ما مُتِّعْتُ به من سمعي وبصري إلا بدعائه عليه السلام)، ففيه أنه يطلب الدعاء بالبركة للصغير ومسح رأسه.
(ثم) دعا بماء و (توضأ) وضوءه للصلاة؛ أي: الوضوء الشرعي يدل عليه قوله: (قمت خلف ظهره)؛ فافهم، (فشربت من وَضوئه)؛ بفتح الواو؛ أي: بأن النبي الأعظم عليه السلام أمره بشربه؛ لأجل الشفاء من المرض، أو هو شرب وقصد الشفاء من غير أن يأمره؛ يحتمل الأمرين، لكن الظاهر الثاني، يدل عليه إسناده الشرب لنفسه، ولو كان الأول؛ لقال: وأمرني أن أشرب من وضوئه، فقوله: (من وضوئه) يحتمل أن المراد به: الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، فيدل على طهارة الماء المستعمل، ويحتمل أن المراد به: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، فيدل على نجاسة الماء المستعمل، وزاد في الطنبور نغمة ابن حجر حيث قال: (هذه الأحاديث
%ص 163%
التي في هذا الباب ترد على أبي حنيفة؛ لأنَّ النجس لا يُتَبَرَّكُ به)، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: قصد هذا القائل التشنيع على الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وسيدهم بهذا الرد البعيد؛ لأنَّه ليس في الأحاديث المذكورة ما يدل صريحًا على أنَّ المراد من فضل وضوئه: هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، وكذا في قوله: «كانوا يقتتلون على وضوئه»، وكذا في قوله: «فشربت من وضوئه»، بل اللفظ يدل على أنَّه الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، والمعنيان محتملان، لكن يتعين الثاني بكون ظاهر اللفظ يدل عليه، وهي القرينة، والأول لا دليل يدل عليه، ولئن سلَّمنا أن المراد: هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة؛ فإمامنا المعظم الإمام الأعظم لا يُنْكِرُ هذا، ولا يقول بنجاسة ذلك حاشاه رضي الله تعالى عنه، وكيف يتصور أن يقول بهذا، وهو يقول بطهارة بوله الشريف، وسائر فضلاته الشريفة؟! ومع هذا قد قلنا: لم يصح عن الإمام الأعظم تنجيس الماء المستعمل، ولا فتوى الأئمة الحنفية عليه، فانقطع شغب المعاند) انتهى بزيادة من العبد الضعيف.
وقد زاد في الشطرنج جملًا ابن المنذر حيث قال: (وفي إجماع أهل العلم على أنَّ البلل الباقي على أعضاء المتوضِّئ وما قطر منه على ثيابه دليل قوي على طهارة الماء المستعمل)، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: المثل: «حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء»، والماء الباقي على أعضاء المتوضئ لا خلاف لأحد في طهارته؛ لأنَّ من يقول بعدم طهارته إنَّما يقول بالانفصال عن العضو، بل عند بعضهم: الانفصال والاستقرار في مكان، وأمَّا الذي قطر منه على ثيابه؛ فإنما سقط حكمه؛ للضرورة؛ لتعذر الاحتراز عنه)؛ فافهم، والله أعلم.
ثم قال ابن حجر في «الانتقاض» معترضًا على اعتراض صاحب «عمدة القاري» عليه حيث قال: (الرجوع إلى الحقِّ خير من التمادي في الباطل، والبخاري لم يُعيِّنْ من قال بذلك، فردُّهُ متوجهٌ على من قال به كائنًا من كان) انتهى.
قلت: انظروا وتعجبوا من كلام هذا القائل، فإن قوله: (الرجوع إلى الحق ... ) إلخ؛ دليل على أنه قد تمادى في الباطل، ولم يرجع إلى الحقِّ، وقد قال في التنزيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، وقوله: (والبخاري ... ) إلخ، نعم؛ بل هذا القائل قد عين من قال بذلك، ولم يُعْهَد سوء أدب من البخاريِّ على أحد فضلًا على الإمام الأعظم رئيس المجتهدين التابعي الجليل الذي هو أفضل من مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وقد عهدنا سوء الأدب من هذا القائل كثيرًا حتى مع النبي عليه السلام، حيث قالت الشافعية: (إن شعره عليه السلام نجس) حاشاه عليه السلام من ذلك الافتراء والجرأة على الله ورسوله، ولا ريب أنهم قد دخلوا في عموم الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ} ... ؛ الآية [الأحزاب: 57]، ولا ريب أن النقي لا يغيره مقل الذباب، وأن البحر لا يفسده ولوغ الكلاب، ولله درُّ القائل:
يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيكْلِمَهُ ... أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
والمرء لا يرجع عن طبعه ولو طرش الدم من حلقه، وإنما منشأ هذا التعصب، والتعنت، وعدم الحياء، وعدم الأدب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(ثم قمت خلف ظهره) عليه السلام؛ أي: في الصلاة، ولعلها كانت صلاة الوضوء النافلة، وإنما تَرَكَهُ عليه السلام خلف ظهره، ولم يجذبه إلى يمينه كما فعل في ابن عباس، ولعله إنَّما تركه؛ لبيان الجواز، أولحكمة أخرى، وهي رؤياه الخاتم الشريف، ولذا قال: (فنظرت إلى خاتِم النبوة)؛ بكسر التاء؛ أي: فاعل الختم، وهو الإتمام والبلوغ إلى الآخر، وبفتح التاء؛ بمعنى: الطابَع؛ أي: آلة الطبع، ومعناه: الشيء الذي هو دليل على أنَّه لا نبي بعده عليه السلام، وقال البيضاوي: (خاتم النبوة: أثر ناتئ بين كتفيه، نُعِت به في الكتب المتقدمة، وكان علامة يُعْلَمُ بها أنَّه النبي عليه السلام، وصيانة لنبوته عن تَطَرُّقِ القدح إليها صيانة الشيء المستوثق بالختم) انتهى، واعترض: بأنَّ ما ذكره أولًا تفسير لحقيقة الخاتم، لكن يحتاج إلى الفرق بين فاعل الختم والطابع من حيث الماصدق، وفرقه المذكور ينافيه قول أهل اللغة: (الفتح والكسر في الخاتم كالطابع لغتان بمعنًى واحد)؛ فتأمل.
(بين كتفيه)؛ تثنية كتف، فيه لغات (فخذ) سوى الإِتْباع، وفي رواية أحمد من حديث عبد الله بن سرجس: (ورأيت خاتم النبوة في نُغْضِ كتفه اليسرى، كأنه جُمْع، فيه خِيْلان سود، كأنها التآليل)، و (النغْض)؛ بضم النُّون وفتحها، وسكون الغين المعجمة، آخره ضاد معجمة؛ وهو أعلى الكتف، أو هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقوله: (جُمْع)؛ بضم الجيم وسكون الميم معناه: مثل جمع الكف، وهو أن يجمعَ الأصابع ويضمَّها، و (الخِيْلان)؛ بكسر الخاء المعجمة وسكون الياء: جمع خال، و (التآليل) جمع تؤلول، وهو الحبة التي تظهر في الجلد كالحمصة فما دونها، ولا ينافي هذا ما هنا من أنه بين كتفيه؛ لجواز أنه أقرب إلى الجانب الأيسر، وحكمة جعله على نغضه؛ لأنَّه يقال: هو الموضع الذي يدخل منه الشيطان إلى باطن الإنسان، فكان هذا عصمة له عليه السلام من الشيطان، وقال القاضي عياض: (هذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه)، واعترضه النووي: (بأن هذا باطل؛ لأنَّ شق الملكين إنَّما كان في صدره)، وأجيب: بأن قوله: (بين كتفيه) ليس متعلقًا بالشق، كما زعمه النووي، بل متعلق بأثر الختم، وعليه فليس ما قاله القاضي بباطل، وذلك لأنَّه لما وقع الشق وخيط حتى التأم، ووقع الختم بين كتفيه؛ كان ذلك أثر الختم؛ فتأمل.
واختلف في الخاتم هل وُلِد به أم لا؟ فقيل: وُلِد به، كما في حديث ... [1]، وقيل: إنه وُضِع بعد ميلاده، ويدل له ما في «الدلائل» لأبي نعيم: (أنه عليه السلام لما وُلِد؛ ذكرت أمه: أن الملَك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج خرقة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم، فضرب به على كتفه كالبيضة المكنونة تُضيء كالزهرة)، فهذا صريح في وضعه بعد ولادته؛ فافهم.
(مِثلَ)؛ بكسر الميم وفتح اللام؛ منصوب على الحال، وقول القسطلاني: (مفعول «نظرت») فيه نظر، كما لا يخفى، وفي روايةٍ بالجرِّ على أنَّه نعت أو بدل من المجرور؛ لأنَّه اسم فاعل بحسب الأصل، فلا يتعرف بالإضافة لـ (مِثل) بخلافه على فتحها، فإنه يتعرف، فلا يصح نعته بـ (مثل)، ولذا اعترض الدماميني على الزركشي، في كون الجر نعتًا لـ (خاتم)، لكن إطلاقه الاعتراض ليس على ما ينبغي، وفي روايةٍ بالرفع على تقدير مبتدأ؛ أي: هو مثلُ (زِرٍّ)؛ بكسر الزاي المعجمة وتشديد الرَّاء المهملة: واحد أزرار القميص، ويقال للرجل الحسن الرعية للإبل: إنه لزر من أزرارها، كذا في «الصحاح»، وفي «القاموس»: (الزر؛ بالكسر: الذي يوضع في القميص، والجمع: أزرار، وزرور، وعظمٌ تحت القلب وقوامه، والنقرةُتدور [2] فيها وابلة الكتف، وطرفُ الورك في النقرة، وخشبةٌ من أخشاب الخباء، وحدُّ السيف، وزر الدين: قوامه، وبالفتح: شد الأزرار، والطرد، والطعن، والنتف، والعض، وتضييق العينين، والجمع الشديد، ونفض المتاع، وزُرزُر [3] بن صهيب؛ بالضم، مُحَدِّث) انتهى.
قال في «عمدة القاري» كـ «الكرماني»: (روي أيضًا بتقديم الرَّاء على الزاي، ويكون المراد منه: البيض، يقال: أرَزَّت الجرادة؛ بفتح الرَّاء وتشديد الزاي: إذا كبست ذنبها في الأرض؛ فباضت) انتهى؛ فافهم.
(الحَجَلَة)؛ بالحاء المهملة والجيم واللام مفتوحات، بعدها تاء، واحدة الحجال؛ وهي بيوت تُزَيَّنُ بالثياب والأسرة والستور، لها عرًى وأزرار، وقال ابن الأثير: (الحجلة؛ بالتحريك: بيت كالقبة يُسْتَر بالثياب، ويكون له أزرار كبار، ويجمع على حجال، وقيل: المراد بالحجلة: الطير، وهي التي تسمى القبجة، وتسمى الأنثى حجلة، والذكر يعقوب، وزرها بيضها، ويؤيد هذا أن في حديث آخر: «مثل بيضة الحمامة»، وجمع الحجلة: حَجَل؛ بفتحتين، وحِجْلى؛ بكسر الحاء وسكون الجيم، ولم يجئ على «فِعلى» _بالكسر_ إلا هذا وظِربى)، وقال في «عمدة القاري» نقلًا عن محمد بن عبد الله شيخ المؤلف: (إنَّ الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه، وفي بعض نسخ المغاربة: «الحُجْلة» بضم الحاء المهملة وسكون الجيم) انتهى.
ثم قال في «عمدة القاري»: (وجاءت في صفة خاتم
%ص 164%
النبوة روايات كثيرة، ففي «مسلم» عن جابر بن سمرة: (ورأيت الخاتم عند كتفيه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده)، وفي رواية لأحمد من حديث أبي رمثة التميمي [4] قال: (خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله عليه السلام، فرأيت برأسه رَدْع حناء، ورأيت على كتفه مثل التفاحة، فقال أبي: إني طبيب، ألا أبطها لك؟ قال: «طيَّبها الذي خلقها»)، وقوله: (رَدْع حناء)؛ بفتح الرَّاء وسكون الدَّال آخره عين مهملة؛ أي: لطخ حناء، والحِنَّاء؛ بالكسر والتشديد وبالمد معروف، والحناه: أخص منه، وقوله: (ألا أبطها) من البط، وهو شق الدمَّل والخرَّاج، وفي «صحيح الحاكم»: (شعر مجتمع)، وفي «كتاب البيهقي»: (مثل السلعة)، وفي «الشامل»: (بَضعة ناشزة)، والبضعة؛ بفتح الموحدة: هي القطعة من اللحم، و (ناشزة)؛ بالنُّون والشين والزاي المعجمتين؛ أي: مرتفعة عن الجسم، وفي حديث عمرو بن أحطب: (كشيء يختم به)، وفي «تاريخ ابن عساكر»: (مثل البندقة)، وفي «الترمذي»: (كالتفاحة)، وفي «الروض»: (كأثر المحجم القابض على اللحم)، وفي «تاريخ ابن أبي خيثمة»: (شامة خضراء محتفرة في اللحم)؛ أي: غائصة فيه، وأصله من حفر الأرض، وفيه أيضًا: (شامة سوداء تضرب إلى الصفرة، حولها شعرات متراكبات كأنها عُرْفُ الفرس)، وفي «تاريخ القضاعي»: (ثلاث مجتمعات)، وفي كتاب «المولد» لابن عابد: (كأن نورًا يتلألأ)، وفي «سيرة ابن أبي عاصم»: (عذرة كعذرة الحمامة)، قال أبو أيوب: (يعنى: قرطمة الحمامة)، وفي «تاريخ نيسابور»: (مثل البندقة من لحم، مكتوب فيه باللحم: محمد رسول الله)، وعن عائشة رضي الله عنها: (كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة، وكانت مما يلي القفا، قالت: فلمسته حين توفي، فوجدته قد رفع)، وذكر أبو دحية الحافظ: (كان الخاتم الذي بين كتفي النبي عليه السلام كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها: الله وحده، وفي ظاهرها: توجه حيث شئت؛ فإنك منصور)، ثم قال: (حديث غريب مستنكر)، ولا منافاة بين هذه الروايات؛ لاحتمال أنَّه عليه السلام متَّصف بجميعها، قال في «المواهب»: (واختلفت أقوال الرواة في خاتم النبوة، وليس ذلك باختلاف، بل كلٌّ شبَّه بما سنح له، وكلها ألفاظ مرادها واحد)، وقال القاضي عياض: وهذه الروايات متقاربة متفقة على أنه شاخص في جسده الشريف.
وليس الخاتم مختصًا به عليه السلام، فقد أخرج الحاكم في «المستدرك» عن وهب بن منبه أنه قال: (لم يبعث الله نبيًّا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنى إلا نبينا عليه السلام؛ فإن شامات النبوة كانت بين كتفيه بإزاء قلبه)، وعلى هذا فيكون وَضْعُ الخاتم بين كتفيه بإزاء قلبه مما اختصَّ به على سائر الأنبياء عليهم السلام، والله تعالى أعلم.
وفي يوم الأربعاء السابع عشري محرم سنة سبع وسبعين قد أمر فؤاد باشا المحقق بشنق أربعة في كل شارع واحد، فشنقوا بعد الظهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي ثاني يومٍ الخميس أمر بإخراج أرباب البيوت التي في زقاق القنوات من البوابة التي عند بيت جعفر آغا إلى قنطرة نهر قنوات، وهي تبلغ مئة ونيف وعشرين بيتًا، فأخرجوا في الحال، والظاهر: لأجل أن يسكن فيها النصارى التي في القلعة، ونسأل الله الحنَّان المنَّان أن يفرج عنَّا وعن المسلمين كلَّ غمٍّ وهمٍّ وكربٍ بجاه النبي الأعظم عليه السلام، وهو أرحم الراحمين.
==================
[1] أخلى بياضًا في الأصل.
[2] في الأصل: (يزرر)، والمثبت من «القاموس».
[3] في الأصل: (وزر)، والمثبت من «القاموس».
(1/336)
(41) [باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة]
هذا (باب: من تمضمض)؛ بإضافة (باب) إلى (مَن)، وهي موصولة، أو نكرة موصوفة بقوله: (تمضمض)، وفي رواية: (مضمض)؛ بحذف المثناة الفوقية أوله (واستنشق من غرفة واحدة): متعلق بكل من الفعلين على التنازع؛ لاتفاق أهل الكوفة والبصرة على جواز إعمال كلٍّ منهما، وعلى مذهب الكوفيين، فهو متعلق بـ (تمضمض)، وحذف متعلق (استنشق)؛ تقديره: منها، وعلى مذهب البصريين متعلق بـ (استنشق)، وحذف متعلق (تمضمض)؛ تقديره: منها، ومذهب الكوفيين هو الأَولى؛ فافهم، و (الغَرفة)؛ بفتح الغين المعجمة أو بضمها وبهما قُرئ في قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ} [سبأ: 37]، والثاني: أظهر، وهذا صادق بثلاث صور: بأن يتمضمض ثلاثًا ولاءً ثم يستنشق كذلك؛ كلاهما من غرفة واحدة، وبأن يتمضمض مرة ثم يستنشق مرَّة يفعل كذلك من غرفة واحدة، وبأن يتمضمض ثم يستنشق من غرفة واحدة، ثم يتمضمض ويستنشق من غرفة ثانية كذلك، ثم ثالثة كذلك، وهذه الصورة هي الأَولى والأحسن؛ لموافقتها لظاهر اللفظ؛ فافهم.
==========
%ص 165%
==================
(1/337)
[حديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء النبي وفيه: مضمض واستشق من كفة]
191# وبه قال: (حدثنا مسَدَّد)؛ بالسين والدَّال المشددة المهملتين المفتوحتين: هو ابن مسرهد (قال: حدثنا خالد بن عبد الله)؛ أي: ابن عبد الرحمن الواسطي، أبو الهيثم الطحان، المتصدِّق بزنة بدنه فضة ثلاث مرات، المتوفى سنة تسع وستين ومئة، كذا في «عمدة القاري»، وفي «التقريب»: (وكان مولده سنة عشر ومئة، ومات سنة اثنتين وثمانين ومئة)، وفي «الكرماني» وتبعه القسطلاني: (أنَّه مات سنة تسع وسبعين)، ففي مقدار عمره اختلاف؛ فافهم (قال: حدثنا عَمرو) بفتح العين المهملة (بن يحيى)؛ أي: المازني الأنصاري، (عن أبيه)؛ أي: يحيى بن عمارة، (عن عبد الله بن زيد)؛ أي: ابن عاصم بن كعب الأنصاري المازني، أبو محمد الصحابي المشهور، قيل: قتله مسيلمة الكذاب، واستشهد بالحرَّة سنة ثلاث وستين (أنَّه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: بأنَّ عبد الله بن زيد، ويحتمل كسرها؛ أي: قائلًا يحيى: إنَّ عبد الله (أفرغ) أي: صبَّ الماء (من الإناء على يديه فغسلهما)؛ أي: معًا ثلاثًا أو مرتين على ما سبق، لكنَّ أكثر الرواة على الأول؛ فافهم.
(ثم غسل)؛ أي: عبد الله فمه؛ لأجل المضمضة، فالمفعول محذوف (أو مضمض) شكٌّ من الراوي أيًّا كان، وقال الكرماني: (الظاهر: أنَّ الشكَّ من يحيى التابعي)، قال ابن حجر: (وهو غريبنم، والظاهر: أن الشك من مسَدَّد شيخ المؤلف)، قال في «عمدة القاري»: (كل منهما محتمل، وكونه من الظاهر من أين؟ بلا قرينة) انتهى، واستند ابن حجر في «الانتقاض» للاستظهار الذي قاله بما في «مسلم»، عن محمد بن الصباح، عن خالد بسنده هذا من غير شك بلفظ: (ثم أدخل يده، فاستخرجها، فمضمض واستنشق)، وبما أخرجه الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد كذلك؛ فإنه لا شكَّ في روايتهما عن التابعي، فينبغي حمل كلام المؤلف عليهما وأن الشك من غيره، فهذا قرينة، واحتمال أن التابعي رواه بالشك تارة وبغيره أخرى مرجوح؛ إذ الأصل عدم التعدد، انتهى.
قلت: وما استند به لا ينهض دليلًا لما قاله، فإن ما ذكره مسلم والإسماعيلي هو عين ما أورده المؤلف في باب (غسل الرجلين إلى الكعبين) عن شيخه موسى بن إسماعيل، فهذا دليل على أن الشك من يحيى التابعي، وأنَّه رواه هناك عن أبيه عن عبد الله بدون الشك، وهنا بالشك؛ لأنَّ الراوي يروي الذي سمعه بدون زيادة ولا نقص، وهذا لا يكون قرينة على ما ذكره؛ لأنَّ الرواة مختلفة، فكلٌّ روى ما سمعه، وقوله: (فينبغي ... ) إلخ: لا حاجة لهذا الانبغاء المقول بالرأي الفاسد بعد العلم بأن اللفظين مختلفان، وقوله: (واحتمال ... ) إلخ: ممنوع، فهذا الاحتمال على زعمه هو عين اليقين في تغاير اللفظين، فلا يكون هذا الاحتمال مرجوحًا، كما زعمه، بل هو الواقع حقيقة، وقوله: (الأصل: عدم التعدد): ممنوع؛ لأنَّ حجتنا مثبِتة، وكلامه ناف، والمثبِت مقدَّم على النافي عند المحققين، فلا وجه لما ذكره هذا القائل، كما لا يخفى على أولي الألباب.
(واستنشق من كَفة واحدة)؛ بفتح الكاف وضمها_لا بكسرها؛ لأنَّه لغة في كِفة الميزان لا في واحد الأكف_ آخره هاء تأنيث، وفي رواية الأكثرين: (من كفٍّ)؛ بلا تاء، وفي أخرى: (من كفٍّ واحدة)؛ بالتأنيث، وفي أخرى: (من كفأة) مهموزًا، وفي أخرى: (من غرفة واحدة)، قال ابن بطال: (والمراد بالكفة؛ أي: الحفنة، فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى، ولا يعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث في «الكف»)، وقال ابن التين: (اشتق ذلك من اسم الكف، فسمي الشيء باسم ما كان فيه)، وقال في «المطالع»: (هي بالضم والفتح مثل: غرفة؛ أي: ملء كفِّه من ماء).
وزعم ابن حجر أنَّ محصَّل ذلك أنَّ المراد من قوله: (كفة): (فعلة) في أنها تأنيث الكف.
واعترضه في «عمدة القاري»: (بأنَّ هذا محصَّل غير حاصل، فكيف يكون «كفة» تأنيث «كف»، والكف مؤنث،
%ص 165%
والأقرب إلى الصواب ما ذكره ابن التين) انتهى.
وقال العجلوني: (عبارة ابن حجر هكذا: ومحصله: أن «كفة» «فعلة» لا أنها تأنيث الكف) انتهى.
قلت: ولفظة: (لا) زاده من عنده؛ ترميمًا لعبارة ابن حجر حتى لا يرد عليه الاعتراض، وإلا؛ فالنسخ الصحيحة التي عليها خطوط العلماء لفظة: (في) بدل (لا)؛ كما نقلها في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(ففعل) أي: عبد الله (ذلك)؛ أي: المضمضمة والاستنشاق، على حدِّ قوله تعالى: {لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] (ثلاثًا)؛ أي: من غرفة واحدة، يأخذ غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يأخذ ثانية كذلك، ثم ثالثة كذلك، ويدل لذلك لفظ السياق، ويكون آتيًا بسنية المضمضة والاستنشاق، لكنَّه يكون تاركًا سنِّية التجديد لهما، وكل ما روي في ذلك مما يخالفنا، فليس بحجة علينا، بل هو محمول على بيان الجواز؛ لأنَّ الكل نقل عن النبي الأعظم عليه السلام.
(فغسل وجهه ثلاثًا) أتى بالفاء للتنبيه على الموالاة، وعبَّر في غسل اليدين بـ (ثم)؛ لوجود التراخي، وأن الموالاة سنة، وإمَّا لأنَّ (ثمَّ) نائبة عن الفاء، كما في قوله: جرى في الأنابيب ثم اضطرب.
فقال: (ثم غسل يديه) بالتثنية (إلى) أي: مع (المرفقين مرتين مرتين)؛ بتكرار (مرتين)؛ للتنبيه على الغسل مرتين في كل يد، وفي أكثر الروايات: (ثلاثًا ثلاثًا)، وما هنا محمول على الجواز، (ومسح برأسه)؛ الباء للإلصاق أو زائدة، والأظهر: الأول، وكونها للتبعيض فيه ضعف، ويدلُّ للأظهر قوله: (ما أقبل وما أدبر)؛ أي: من الرأس مرة واحدة، و (ما): نعت للرأس أو بدل، ولا بدَّ من اجتماع الأمرين حتى يحصل الاستيعاب سواء كان عليه شعر أم لا؛ لأنَّ اللفظ عام، فيشملهما؛ لأنَّه عليه السلام خير في حلق الرأس وتركه، واختار عليه السلام ترك الحلق؛ لأنَّ عادة العرب هكذا، والقول مقدَّم على الفعل عند المحققين؛ فافهم، (وغسل رجليه إلى) أي: مع (الكعبين، ثم قال)؛ أي: عبد الله بن زيد بعد فراغه من الوضوء: (هكذا وُضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ بضمِّ الواو.
قال العجلوني: (ولعل التراخي غير مراد؛ فتأمل)، قلت: نعم؛ غير مراد على حقيقته، وإنما هو في كل شيء بحسبه، وأتى به؛ لإفادة أنَّ المولاة غير واجبة، بل هي سنة، وليس في الحديث بيان غسل الوجه ثلاثًا على ما قالوا، ولا بيان مقدار مسح الرأس، ولا الرجلين مرة، أو مرتين، أو ثلاثًا، ففيه اختصار، والظاهر: أنَّه من الراوي يحيى التابعي، كما أنَّ الشكَّ منه على ما مرَّ، ويدل لذلك ما رواه المؤلف في (باب غسل الرجلين إلى الكعبين) السابق قريبًا من طريق موسى بن إسماعيل، وما يأتي عقب هذا الباب من طريق سليمان بن حرب عن عبد الله بن زيد فيهما، والسائل له فيهما أيضًا: عمرو بن أبي حسن فقال _واللفظ لما تقدم_: (فتوضأ لهم وضوء رسول الله عليه السلام، فأكفأ على يده من التور، فغسل يديه ثلاثًا، ثم أدخل يده في التور، فمضمض، واستنشق، واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده، فغسل وجهه ثلاثًا، ثم أدخل يديه، فغسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم أدخل يده، فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين) انتهى، قلت: إذا علمت هذا فلا حاجة إلى قول ابن حجر والقسطلاني: (لم يذكر غسل الوجه، وهو ثابت في رواية «مسلم» وغيره) انتهى؛ لأنَّه ثابت عند المؤلف، كما علمت.
وقال القاضي زكريا: (حذف هنا غسل الوجه؛ اختصارًا أو يستفاد من قوله: «ثم غسل»؛ أي: وجهه، وتجعل «أو» في «أو مضمض»؛ بمعنى الواو؛ لأنَّها لا تدلُّ على الترتيب).
قلت: وهو الجواب أقرب إلى الصواب.
وقال الكرماني: (فإن قلت: أين ذُكِرَ غسل الوجه؟ قلت: هو من باب اختصار الحديث، وذكر ما هو المقصود مما ترجم له مع زيادة بيان ما اختلف فيه من التثليث في المضمضة والاستنشاق، وإدخال المرفق في اليد، وتثنية غسل اليد، ومسح ما أقبل وما أدبر من الرأس، وغسل الرجلين منتهيًا إلى الكعبين، وأمَّا غسل الوجه؛ فأمره ظاهر لا احتياج له إلى بيان، والتشبيه في «هكذا وضوء رسول الله عليه السلام» ليس من جميع الوجوه، بل في حكم المضمضة والاستنشاق ونحوه) انتهى.
وردَّه في «عمدة القاري»: (بأن هذا جواب ليس فيه طائل، وتصرُّفٌ غير موجَّه؛ لأنَّ هذا في باب التعليم لغيره صفة الوضوء، يشهد بذلك قوله: «هكذا وضوء رسول الله عليه السلام»، ويؤيِّد ذلك ما جاء في حديثه الآخر عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه: أنَّ رجلًا قال لعبد الله بن زيد وهو جدُّ عمرو بن يحيى: «أتستطيع أن تُرِيَني كيف كان رسول الله عليه السلام يتوضَّأ؟ ... »؛ الحديث، وقد مرَّ عن قريب، وكلُّ ما روي عن عبد الله بن زيد في هذا الباب حديث واحد، وقد ذكر غسل الوجه فيه، وكذا ثبت ذلك في رواية مسلم وغيره، فإذا كان هذا في باب التعليم؛ فكيف يجوز له ترك فرض من فروض الوضوء وذكر شيء من الزوائد؟ والظاهر: أنَّه سقط من الراوي، كما أنه شكَّ في قوله: «ثم غسل أو مضمض»، وقوله: «وأما غسل الوجه؛ فأمره ظاهر»؛ غير ظاهر، وكونه ظاهرًا عند عبد الله بن زيد لا يستلزم أن يكون ظاهرًا عند السائل له عنه، ولو كان ظاهرًا؛ لما سأله، وقوله: «وذكر ما هو المقصود»؛ أي: ذكر المؤلف ما هو المقصود عنده، وهو الذي ترجم له الباب، قلت: كان ينبغي أن يقتصر على المضمضمة والاستنشاق فقط، كما هو عادته في تقطيع الحديث؛ لأجل التراجم، فيترك اختصارًا ذكر فرض من الفروض القطعية، ويذكر رواية لا تطابق الترجمة) انتهى كلامه، وهو في غاية من التحقيق والبيان، كما لا يخفى على أئمة أهل هذا الشأن.
ثم قال الكرماني: (وقد يجاب أيضًا: بأن المفعول المحذوف؛ وهو الوجه؛ أي: ثم غسل وجهه، وحذفه؛ لظهوره، فـ «أو»؛ بمعنى الواو في قوله: «أو مضمض»، و «من كفة واحدة» متعلق بـ «مضمض» و «استنشق» فقط) انتهى.
قال في «عمدة القاري»: (قلت: هذا أقرب إلى الصواب؛ لأنَّه لا يقال في الفم في الوضوء إلا: مضمض، وإن كان يطلق عليه الغسل) انتهى، قال ابن حجر: (وجواب الكرماني الثاني بعيد)، قلت: وهو ممنوع، فإن كون (أو)؛ بمعنى: الواو كثير شائع في كلام العرب لا بُعْدَ فيه أصلًا، كما لا يخفى، ولو لم يكن هذا الجواب صحيحًا؛ لما أجاب به القاضي زكريا، كما قدمناه قريبًا؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==================
(1/338)
(42) [باب مسح الرأس مرة]
هذا (باب: مسح الرأس مرة) هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الأصيلي: (مسحة) بدل (مرة)، وفي رواية أخرى له: (مرة واحدة).
==========
%ص 166%
==================
(1/339)
[حديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء النبي وفيه: ومسح براسه]
192# وبه قال: (حدثنا سليمان) بالتحتية مصغرًا (بن حَرْب)؛ بفتح الحاء المهملة وسكون الرَّاء وبالموحدة (قال: حدثنا وهيب)؛ بالتصغير: هو ابن خالد (قال: حدثنا عَمرو بن يحيى)؛ بفتح العين المهملة، (عن أبيه): يحيى المذكور ابن عمارة المازني الأنصاري (قال: شهِدت) بكسر الهاء من المشاهدة (عَمرو بن أبي حَسن)؛ بفتح أولهما، ويدل لذلك أنه في الباب السابق أسقط عمرو بن أبي حسن؛ فافهم (سأل) أي: عمرُو بن أبي حسن (عبدَ الله بن زيد) أي: الأنصاري (عن وُضوء) بضم الواو (النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عن صفته، (فدعا)؛ أي: عبد الله بن زيد (بتَوْر)؛ بموحدة أوله، وبعدها مثناة فوقية مفتوحة، وسكون الواو: إناء يُشْرَب فيه، أو إناء من صفر أو حجر كالإجانة، والمراد: ما فيه؛ بدليل بيانه بقوله: (من ماء)، وفي رواية: (فدعا بماء)؛ بإسقاط لفظ: (بِتَوْر)، (فتوضأ)؛ أي: عبد الله (لهم) اللام للتعليل؛ أي: لأجل السائل ومن معه، (فكفأ)؛ بهمز آخره؛ أي: عبدُ الله الإناءَ؛ أي: أماله، وفي رواية: (فكفأه)؛ بزيادة هاء المفعول، وفي أخرى: (فأكفأه)؛ بهمز أوله وآخره وهاء المفعول (على يديه) بالتثنية (فغسلهما) أي: اليدين إلى الرسغين (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، والمراد: تكرار الغسلات لا الغرفات، (ثم أدخل يده) بالإفراد (في الإناء) الذي فيه الماء، فأخذ منه ماء،
%ص 166%
(فمضمض واستنشق)، وقوله: (واستنثر) عطف تفسير للاستنشاق؛ لأنَّ الاستنشاق والاستنثار واحد، كما قاله ابن الأعرابي، وابن قتيبة، كما تقدم، (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، (بثلاث غَرفات)؛ بفتح الغين المعجمة أو بضمها (من ماء)؛ أي: بكل غرفة يتمضمض ويستنشق مرة واحدة، ثم ثانية، ثم ثالثة كذلك، (ثم أدخل يده)؛ بالإفراد، وفي رواية: (ثم أدخل يده في الإناء) (فغسل وجهه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، والمراد: تكرار الغسلات لا الغرفات، وإن كان الظاهر أن قوله: (ثلاثًا) قيد في (أدخل) و (غسل)، لكن المراد: تكرار الغسلات؛ ليشمل ما إذا طمس وجهه في الماء ثلاث مرات، كما اعتاده طلبة زماننا، فإنه كافٍ، لكن يحتاج للتحريك في الماء حتى يكون غسلًا مسنونًا؛ فافهم.
(ثم أدخل يده) بالإفراد (في الإناء)؛ أي: فأخذ منه ماء، (فغسل يديه) بالتثنية (إلى) أي: مع (المِرْفقين)؛ بميم مكسورة، تثنية مِرفق؛ بكسرها أيضًا، (مرتين مرتين)؛ بالتكرار؛ أي: غسل كل واحدة منهما مرتين، ولعل عبد الله فعل الغسلة الثالثة في كل منهما، والراوي لم يَشْهَدْها، فعبر بما شاهد؛ لأنَّ في رواية مسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد، وفيه: (ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويده اليمنى ثلاثًا، والأخرى ثلاثًا)، وقد يقال: إنه وضوء آخر؛ لأنَّ مخرج الحديثين غير متَّحد؛ فتأمل.
(ثم أدخل يده) بالإفراد (في الإناء)؛ أي: فأخذ منه ماء، (فمسح برأسه فأقبل بيده)؛ بالإفراد على إرادة الجنس، (وأدبر بها)، وفي رواية: (فأقبل بيديه)؛ بالتثنية، (وأدبر بهما)؛ أي: كلاهما مسحة واحدة، (ثم أدخل يده)؛ أي: في الإناء؛ كما صرَّح به في رواية، (فغسل رجليه)؛ أي: إلى الكعبين.
وبه قال: (حدثنا)، وفي رواية: (وحدثنا) بالواو (موسى) أي: ابن إسماعيل التبوذكي (قال: حدثنا وهيب)؛ بالتصغير: هو ابن خالد الباهلي، وتمام هذا الإسناد كما ذكر أول الباب، وفي باب (غسل الرجلين إلى الكعبين)، وذكر الحديث إلى أن قال: (وقال)؛ بالواو، وفي رواية: (قال) بدون الواو: (مسح رأسه)، وفي رواية: (برأسه) (مرة)؛ أي: واحدة، كما تقدم التصريح بها في باب (غسل الرجلين)، والتفاوت بين حديثي البابين أنه كرَّر لفظ: (مرتين) ههنا، وزاد الباء في (برأسه) على رواية، ولفظ (الإناء)، لكن هناك ذكر (التور) في أحد الروايتين، ونقص هنا (واحدة) في الآخر، ونقص فيما قبله (مرة واحدة) ولفظ: (إلى الكعبين)، والمذكور من حديث الجماعة: هو مسح الرأس مرة واحدة؛ ولهذا قال أبو داود في «سننه» [1]: (أحاديث عثمان بن عفان الصحاحتدل على مسح الرأس أنَّه مرة واحدة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثًا، وقالوا فيها: مسح رأسه، ولم يذكروا عددًا كما ذكروا في غيره)، ووصف عبد الله بن زيد وضوءَه عليه السلام قال: (مسح برأسه مرة واحدة)، متفق عليه، وحديث علي رضي الله عنه، وفيه: (مسح رأسه مرة واحدة)، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وكذا وصف عبد الله بن أبي أوفى، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، والربيع كلهم قالوا: (ومسح برأسه مرة واحدة)، ولم يصح في أحاديثهم شيء صريح في تكرار المسح، وبها أخذ الإمام الأعظم والجمهور من الصحابة والتابعين، فالمسح على الرأس مرة واحدة سنة مؤكدة، كما في أكثر الكتب، وما ذكره الإمام القدوري من أنَّه مستحب ضعيف، والصحيح الأول.
قال في «فتح القدير»: (إنَّه إذا داوم على ترك الاستيعاب بلا عذر؛ يَأْثَمُ لظهور رغبته عن السنة) انتهى، ويسن أن يكون الاستيعاب بماء واحد؛ لما قدمناه من أن أكثر الأحاديث لم يذكروا عددًا، ولأن التثليث في المسح لا يُفيد؛ لأنَّ تكراره في الغسل لأجل المبالغة في التنظيف، ولا يحصل ذلك بالمسح، فلا يفيد التكرار، وكذا في مسح الخف والجبيرة والتيمم، فلو ثلَّث المسح بماء واحد، فالأوجه أنَّه مكروه، كما في «شرح المنية»، و «المحيط»، و «البدائع»، وفي «الخانية»: (لا يُكْرَهُ، ولا يُسَنُّ، ولا يكون أدبًا) انتهى، لكن المعتمد الأول، وقال الشافعي: (المسنون ثلاث مسحات)، قال ابن بطال: (والحجة عليه أنَّ المسنون يحتاج إلى شرع)، وأجاب الكرماني بأنَّ الشرع الذي دل على تثليث المسح ما رواه أبو داود عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثًا ومسح رأسه ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله عليه السلام فعل هذا.
قلت: وهذا لا يدل على ما قاله؛ لأنَّ البيهقي قال: (وروي من أوجه غريبة عن عثمان ذكر التكرار في مسح الرأس إلا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة، وإن كان بعض أصحابنا يحتج بها) انتهى.
وقال العجلوني: ويدل للتعدد ظاهر رواية مسلم: (أنه عليه السلام توضأ ثلاثًا ثلاثًا).
قلت: وهو لا يدل على التعدد، كما زعم؛ لأنَّ قوله: (توضأ ثلاثًا ثلاثًا)؛ أي: في الأعضاء المغسولة لا في مسح الرأس، كما بيَّنَتْها الروايات الأُخَر، فإنها مقيدة بأنَّ المسح مرة واحدة، فيجب حمل المطلق على المقيد، كما لا يخفى.
وروى الدارقطني في «سننه»: عن محمد بن محمود الواسطي، عن شعيب بن أيوب، عن أبي يحيى الحماني، عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه: (أنه توضأ ... )؛ الحديث، وفيه: (ومسح برأسه ثلاثًا)، ثم قال: (هكذا رواه أبو حنيفة عن خالد بن علقمة، وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات عن خالد بن علقمة، فقالوا فيه: «ومسح رأسه مرة واحدة»، ومع خلافه إياهم قال: «إن السنة في الوضوء مسح الرأس مرة واحدة»).
قال في «عمدة القاري»: (قلت: الزيادة عن الثقة مقبولة، ولا سيما من مثل الإمام الأعظم التابعي الجليل، وأمَّا قوله: «فقد خالف في حكم المسح»؛ غير صحيح؛ لأنَّ تكرار المسح مسنون عند الإمام الأعظم أيضًا، صرَّح بذلك في «الهداية»، ولكن بماء واحد) انتهى، قلت: هذه رواية الإمام الحسن عن الإمام الأعظم، وهي رواية ضعيفة، كما يدل لذلك عبارة «الهداية».
وقال في «فتح القدير»: (وروى الحسن عن الإمام الأعظم في «المجرد»: «إذا مسح ثلاثًا بماء واحد؛ كان مسنونًا») انتهى؛ أي: وأن المعتمد ما قدمناه، لا يقال: إن الزيادة تَرِدُ على الإمام الأعظم في قوله: (لا يسنُّ التثليث بماء واحد)؛ لأنَّا نقول: هذا لا يرد عليه أصلًا، وإن كان رواه؛ لما ترجح عنده أن رواية المسح مرة أرجح.
ويدل لذلك ما قاله الدارقطني: (وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات عن خالد، وقالوا: ومسح برأسه مرة واحدة)، فهو دليل على أرجحية رواية: المسح مرة علىالمسح ثلاثًا.
قال القسطلاني كابن حجر: وروى أبو داود من طريقين صحح أحدهما ابن خزيمة من حديث عثمانبتثليث مسح الرأس،
%ص 167%
والزيادة من الثقة مقبولة، قال العجلوني: (فيُحْمَلُ قول أبي داود أيضًا: «الروايات الصحيحة عن عثمان ليس فيها عدد لمسح الرأس»؛ أي: في غير هذين الطريقين [2]) انتهى.
قلت: وهذا تخصيص بلا مخصص، فإنَّ قولَ أبي داود: (الروايات ... ) إلخ لفظٌ عام في جميع الروايات، والحمل لا بدَّ له من تقييد وقرينة تدل عليه ولم يوجد، فالحمل غير صحيح.
وقال الكرماني: الدليل على التعدد القياس على سائر الأعضاء، انتهى.
وأجيب: بأن المسح مبني على التخفيف بخلاف الغسل، ولو شرع التكرار؛ لصار بصورة المغسول، وقد ثبت الإجماع على كراهة غسل الرأس بدلًا عن المسح، وإن كان مجزئًا؛ لمخالفته النص.
وأجيب: بأنَّ الخفة تقتضي عدم الاستيعاب، وهو مشروع بالاتفاق، فليكن العدد كذلك، قاله القسطلاني والعجلوني، ورده ابن حجر في «الفتح» بالحديث المشهور الذي رواه ابن خزيمة وغيره وصححوه من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة الوضوء؛ حيث قال النبي عليه السلام بعد أن فرغ من الوضوء: «من زاد على هذا؛ فقد أساء وظلم»؛ فإن في رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل ذلك على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة الواحدة غير مستحبة، ويُحْمَلُ ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح _إن صحَّت_ على إرادة الاستيعاب بالمسح لا أنَّها مسحات مستقلة لجميع الرأس؛ جمعًا بين هذه الأدلة، انتهى، ويفهم من قوله: (إن صحت) على أنها ضعيفة، وهو كذلك، كما قاله الحفاظ الثقات، وقال في «عمدة القاري»: (وفيه نظر؛ لأنَّ الاستيعاب بالمسح لا يتوقَّف على العدد؛ أي: بل إنه يحصل بمرة واحدة، ولو لم يحصل بها؛ لما ورد في الأحاديث الصحاح، وإن كان نص في بعض الروايات على التثليث، لكنه قد أنكرها الحفاظ الثقات، ولئن سُلِّم؛ فهي ضعيفة لا يعوَّل عليها)، ثم قال: (والصواب أن يقال: الحديث الذي فيه المسح ثلاثًا لا يقاوم الأحاديث التي فيها المسح مرة واحدة) انتهى؛ أي: لقوتها وأرجحيتها وضعف الحديث، ولا ريب أن الصحيح لا يقاوم الضعيف، ولهذا قال الترمذي: (والعمل على أن المسح مرة واحدة عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله عليه السلام ومن بعدهم).
وقال أبو عمر [3] بن عبد البر: (كلهم يقول: مسح الرأس مسحة واحدة)، وقال الكرماني: (ودلالة الحديث على الترجمة من حيث إنه أطلق «مسح برأسه» من غير تقييد بعدد، ومن حيث حمله على الرواية السابقة، وعلى الأخيرة المصرَّح فيها بـ «مرة»، وهي ظاهرة في الوحدة، ولعل اختيار المؤلف رواية سليمان؛ لأنَّه ساق الكلام فيها لهذا الغرض دون رواية وهيب) انتهى.
قال العجلوني: (وفيه تأمل، ولم يذكر وجهه)، قلت: ولعل وجهه أنه لم يَظْهَرْ فرقٌ بين الروايتين من حيث السند إلا أن الرواية الأولى عن موسى وهنا عن سليمان، وكل واحد منهما شيخ للمؤلف من غير فرق بينهما، وسياق الكلام هنا عن سليمان لا يدل على اختيار المؤلف لها؛ لأنَّ عادة المؤلف تكرار الحديث؛ لأجل التراجم بروايات مختلفة؛ للتنبيه على كثرة أشياخه لا أنه اختار رواية سليمان على رواية وهيب؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (ستة)، ولعله تحريف عن المثبت.
[2] في الأصل: (الطريق).
(1/340)
(43) [باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة]
هذا (باب) جواز (وُضوء)؛ بضم الواو؛ لأنَّ المراد منه الفعل (الرجل مع امرأته) من إناء واحد، وفي رواية: (مع المرأة)، وهو أعمُّ من أن تكون امرأته أو غيرها، (وفضلِ)؛ بالجر؛ عطفًا على قوله: (وضوء الرجل) (وَضوء)؛ بفتح الواو؛ لأنَّ المراد به: الماء الفاضل في الإناء بعد فراغ (المرأة) من الوضوء وحدها، أو بالرفع، والظرف لغو للمصدر لا حال من (الرجل).
(وتوضأ عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنه، مما رواه ابن أبي شيبة والدارقطني بلفظ: كان عمر يُسَخَّنُ له ماء في حميم ثم يغتسل منه، قال الدارقطني: (إسناده صحيح)، ووصله أيضًا سعيد بن منصور، وعبد الرزاق، وغيرهما بإسناد صحيح بلفظ: (أن عمر رضي الله عنه كان يتوضأ بالحَميم ويغتسل منه)، وهو بفتح الحاء المهملة، وهو الماء المسخَّن، أو الماء السخين؛ (فعيل) بمعنى: (مفعول)، ومنه سُمِّي الحمَّام حمَّامًا؛ لإسخانه من دخله، والمحموم محمومًا؛ لسخونة جسده.
وروى الطبراني [1] في «الكبير»، والحسن بن سفيان في «مسنده»، وأبو نعيم في «المعرفة»، والمشهور من طريق الأسلع بن شريك قال: (كنت أرحل ناقة رسول الله عليه السلام، فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله عليه السلام أن يرحل، وأنا جنب، وخشيت أن اغتسل بالماء البارد، فأموت أو أمرض، فأمرت رجلًا من الأنصار يرحلها، ووضعت أحجارًا فأسخنت بها ماء، فاغتسلت، ثم لحقت رسول الله عليه السلام، فذكرت له فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} إلى قوله: {غَفُورًا} [النساء: 43])، وفي سنده الهيثم بن زريق الراوي له عن أبيه، عن الأسلع مجهولان، والعلاء بن الفضل راويته [2] عن الهيثم فيه ضعف، وقيل: إنه تفرَّد به، وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة منهم عمر، كما ذكره المؤلف، ومنهم: سلمة بن الأكوع: (أنَّه كان يسخن الماء يتوضأ به)، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ومنهم: ابن عباس أنه قال: (إنا نتوضأ بالحميم، وقد أغلي على النار)، رواه ابن أبي سلمة في «مصنفه»، ومنهم: ابن عمر (كان يتوضأ بالحميم)، رواه عبد الرزاق، قال ابن المنذر: (وأجمع أهل العراق وأهل الحجاز جميعًا على الوضوء بالماء المسخن غير مجاهد؛ فإنه كرهه، رواه عنه ليث بن أبي سليم).
قلت: نعم يُكْرَهُ استعماله إن كان شديد السخونة كشديد البرودة؛ لأنَّه يمنع إسباغ الوضوء والغسل.
قال في «عمدة القاري»: (هذا الأثر المعلق ليس له مطابقة للترجمة أصلًا)، وهذا ظاهر، كما ترى، وتبعه القسطلاني حيث قال: (ولم تظهر لي مناسبته للترجمة)، فلا يخفى عدم مناسبته.
وقال ابن حجر: (مناسبته للترجمة من جهة أن الغالب أنَّ أهل الرجل تَبَعٌ له فيما يفعل، فأشار المؤلف إلى الرد على من منع المرأة أن تتطهر بفضل الرجل؛ لأنَّ الظاهر: أن امرأة عمر كانت تغتسل بفضله أو معه، فناسب قوله: «وضوء الرجل مع امرأته في إناء واحد»).
قال في «عمدة القاري»: (من له ذوق أو إدراك لا يقول هذا الكلام البعيد، فمراده من قوله: «إنَّ أهل الرجل تبع له فيما يفعل» في كلِّ الأشياء أو في بعضها، فإن كان الأول؛ فلا نسلم ذلك، وإن كان الثاني؛ فيجب التعيين، وقوله: «لأنَّ الظاهر ... » إلى آخره: أيُّ ظاهر دل على هذا؟ وهل هذا إلا حدس وتخمين) انتهى.
قلت: على أن ما ذكره في وجه المطابقة خلط فاحش من حيث إنه جعل قوله: (وتوضأ عمر ... ) إلخ أثر واحد، والحال أنَّهما أثران، كما يأتي التنبيه عليه، وقد خبط وخلط العجلوني أيضا هنا، كما ستقف على عبارته؛ فافهم.
وقال الكرماني: (ووجه مناسبته للترجمة من حيث إن غرض المؤلف في هذا الكتاب ليس منحصرًا في ذكر متون الأحاديث، بل يريد الإفادة، وهي أعم من ذلك، ولهذا يذكر آثار الصحابة، وفتاوى السلف، وأقوال العلماء، ومعاني اللغات وغيرها، فقصده هنا بيان التوضؤ بالماء المسخن بلا كراهة؛ دفعًا لما قاله مجاهد).
وردَّه في «عمدة القاري» بأن هذا عجيب وغريب، وكيف يطابق هذا الكلام، وقد وضع أبوابًا مترجمة، ولا بدَّ من رعاية التطابق بين تلك الأبواب وبين الآثار التي يذكرها فيها، وإلا فيعدُّ هذا من التخابيط، وكونه يذكر فتاوى السلف، وأقوال العلماء، ومعاني اللغات لا يدل على ترك المناسبات والمطابقات، وهذه الأشياء أيضًا إذا ذكرت بلا مناسبة؛ يكون الترتيب مخبطًا، فلو ذكر شخص مسألة في الصلاة مثلًا في كتاب «الطهارة» أو مسألة من كتاب «الطهارة» في كتاب «التطليق» [3] أو «العتاق» مثلًا؛ نسب إلى التخبيط)؛ فافهم.
(و) وتوضأ عمر أيضًا (من بيت نصرانية)، فهو عطف على قوله: (بالحميم)، وهذا أثر ثان وصله عبد الرزاق، والشافعي، وغيرهما، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: (أن عمر توضأ من ماء نصرانية)،
%ص 168%
==================
[1] في الأصل: (الطبري).
[2] في الأصل: (روايته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (التعليق)، ولعل المثبت هو الصواب.
وهذا لفظ الشافعي، وقال الحافظ أبو بكر الحازمي: (رواه خلَّاد بن أسلم عن سفيان بسنده، فقال: «من ماء نصراني»؛ بالتذكير، والمحفوظ ما رواه الشافعي: «نصرانية»؛ بالتأنيث)، وفي «الأم» للشافعي: (من جر نصرانية)؛ بالهاء في آخرها، وفي «المهذب» لأبي إسحاق: (جر نصراني)، وقال: (صحيح)، وذكر ابن فارس في «حلية العلماء»: هذا سلاخة عرقوب البعير يُجْعَل وعاء للماء.
ولا بأس باستعمال الماء الذي في أواني أهل الكتاب وغيرهم للتوضؤ والاغتسال؛ لأنَّ الأصل: الطهارة ما لم يتيقن النجاسة، وكذا لا بأس باستعمال ثيابهم والصلاة بها؛ لأنَّ الأصل الطهارة، واحتمال النجاسة أمر مشكوك فيه، واليقين لا يزول بالشك، أمَّا إذا علم نجاستها؛ فلا شك بفساد الصلاة معها، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأصحابه، وقال ابن المنذر: (لا أعلم أحدًا كرهه إلا أحمد وإسحاق)، قال في «عمدة القاري»: (قلت: وتبعهما أهل الظاهر، واختلف قول مالك في هذا، فقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز مع الكراهة، وانفرد النخعي بكراهة فضل المرأة إذا كانت جُنُبًا) انتهى.
ووقع في رواية كريمة: بحذف الواو من قوله: (ومن بيت)، قال في «عمدة القاري»: (وهذا غير صحيح؛ لأنَّهما أثران مستقلان، كما سبق).
فإن قلت: ما وجه تطابق هذا الأثر للترجمة؟!
قال الكرماني: (هو مناسب لترجمة الباب من فعل عمر رضي الله عنه ذكر الأمر الأول أيضًا، وإن لم يكن مناسبًا لها؛ لاشتراكهما في كونهما من فعله؛ تكثيرًا للفائدة، واختصارًا في الكتاب، ويُحْتَمَلُ أن يكون هذا قضية واحدة؛ أي: توضأ من بيت نصرانية بالماء الحميم، ويكون المقصود ذكر استعمال سؤر المرأة النصرانية، وذكر الحميم إنَّما هو لبيان الواقع، فتكون المناسبة للترجمة ظاهرة).
ورده في «عمدة القاري» بأن هذا منه لعدم اطلاعه على كتب القوم، فظن أنه أثر واحد، وقد عرفت أنهما أثران مستقلان، ثم ادَّعى أن الأمر الأخير مناسب للترجمة، فهيهات أن يكون مناسبًا؛ لأنَّ الباب في وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة، فأي واحد من هذين مناسب لهذا وأثر واحد من هذين لا يدل على ذلك؟! أما توضؤ عمر بالحميم؛ فلا يدل
[على شيء من ذلك ظاهرًا، وأمَّا توضؤ عمر من بيت نصرانية؛ فهل يدل على أن وضوءه كان من فضل هذه النصرانية؟ فلا يدل] [4] ولا يستلزم ذلك، فمن ادَّعى ذلك؛ فعليه البيان بالبرهان.
وقال ابن حجر: (الثاني مناسب لقوله: «وفضل وضوء المرأة»؛ لأنَّ عمر توضأ بمائها، وفيه دليل على جواز التطهير بفضل وضوء المرأة المسلمة؛ لأنَّها لا تكون أسوأ حالًا من النصرانية).
ورده في «عمدة القاري»: (بأن الترجمة: فضل وضوء المرأة، والنصرانية هل لها فضل وضوء حتى يكون التطابق بينه وبين الترجمة؟ وقوله: «من بيت نصرانية» لا يدل على أن الماء كان من فضل استعمال النصرانية، ولا أنَّ الماء كان لها، وما سبق من الروايات: «من ماء نصرانية»، أو «في جر نصرانية»، وهو أيضًا لا يدلُّ على أنه كان من فضل استعمالها، والذي يدلُّ عليه [5] هذا الأثر جواز استعمال مياههم، ولكن يُكْرَهُ استعمال أوانيهم وثيابهم سواء فيه أهل الكتاب وغيرهم) انتهى.
وتبعه القسطلاني حيث قال: (ولم يظهر لي مناسبته للترجمة؛ لأنَّ توضؤ عمر من بيت النصرانية لا يدلُّ على أنَّه كان من فضل ما استعملته، بل الذي يدل عليه جواز استعمال مياههم، ولا خلاف في استعمال سؤر النصرانية؛ لأنَّه طاهر خلافًا لأحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر) انتهى كلامه.
واعترضه العجلوني وقال: (يمكن الجواب عن الأول: بأنَّ النصرانية إذا طُلِبَ منها الغسل لتحل لحليلها المسلم؛ فيُطلَبُ منها الوضوء؛ لأجل الغسل، وحينئذ فيحتمل أن يكون الماء من فضل استعمال وضوئها، فيندفع الاعتراض الثاني أيضًا، ولئن قلنا: إنَّما لا يُطْلَبُ منها الوضوء، فهي يطلب منها الغسل، وحكم الباقي من مائه حكم الباقي من الوضوء، أو يراد بالوضوء: الوضوء اللغوي؛ فتأمل).
قلت: وهذا خبط وخلط، فأي دليل على أنَّ النصرانية التي أخذ من بيتها عمر الماء كانت تحت مسلم؟! فهذه دعوىولا بدَّ لها من بيان ببرهان، ولئن سلَّمنا أنَّها كانت تحت مسلم؛ فمن أين يطلب منها الوضوء لأجل الغسل وهي كافرة غير مخاطبة بفروع الشريعة؟ كما ذكره أهل الأصول، على أنَّه الواجب على المسلمة الغسل إذا كانت جنبًا أو حائضًا، والوضوء ليس بواجب عليها، فالكافرة التي غير مخاطبة بالأولى، وقوله: (ولئن قلنا ... ) إلخ: هذا قول مردود أيضًا، فإنَّها لا يُطْلَبُ منها الغسل أيضًا، فلو كانت حائضًا [6] وانقطع دمها لدون العشرة؛ يسع زوجها وطؤها ووسعها أن تتزوج بآخر؛ لأنَّه لا اغتسال عليها؛ لعدم الخطاب، كما في «منهل الطلاب»، وقوله: (أو يراد بالوضوء اللغوي): ممنوع، فإنَّ المراد هنا: الوضوء الشرعي، والكلام فيه لا اللغوي، كما لا يخفى على أولي الألباب.
==================
[4] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري».
[5] في الأصل: (على)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/341)
[حديث: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله جميعًا]
193# وبه قال: ([حدثنا] عبد الله بن يوسف) أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن نافع) مولى ابن عمر، (عن عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب، وفي رواية: (عن ابن عمر) رضي الله عنهما: (أنه قال: كان الرجال والنساء)؛ أي: جنسهما؛ لما تقرر في الأصول أن الجمع المحلى بالألف واللام للاستغراق ما لم يدل دليل على الخصوص، فإن دل عليه؛ فهو له كما هنا؛ للقرينة العادية التي تخصِّصه بالبعض، قاله الكرماني، قال في «عمدة القاري»: الجمع مثل «الرجال» و «النساء» وما في معناه من العام المتناول المجموع، ثم إذا عُرِّف باللام؛ يكون مجازًا عن الجنس، مثلًا إذا قلت: فلان يركب الخيل، ويلبس الثياب البيض؛ يكون للجنس؛ للقطع بأن ليس القصد إلى عهد واستغراق، فلو حلف لا يتزوج النساء، ولا يشتري العبيد، ولا يكلم الناس؛ يحنث بالواحد إلا أن ينوي العموم، فلا يحنث قط؛ لأنَّه نوى حقيقة كلامه، ثم هذا الجنس بمنزلة النكرة تخصُّ في الإثبات، كما إذا حلف لا يركب الخيل؛ يخصُّ البر [1] بركوب واحد، ثم قول ابن عمر رضي الله عنهما: (كان الرجال والنساء) إثبات، فيقع على الأقل بقرينة العادة وإن كان يحتمل الكل، وقوله: (جميعًا) ينافي وقوعه على الأقل، قلت: معناه مجتمعين، فالاجتماع راجع إلى حالة كونهم يتوضؤون لا إلى كون الرجال والنساء مطلقًا؛ فافهم.
وقال الزمخشري: (الألفاظ ليست في وضعها للعموم ولا للخصوص، بل هي موضوعة للجنس، لكن يُسْتَفَادان من القرائن والأمور الخارجية المنضمة إليهما) انتهى، لا يقال: إنه لا يصح التمسك بهذا؛ لأنَّ المراد: البعض؛ لقيام القرينة عليه بذلك، واجتماع الكل متعذِّر، فلا يكون حجة لعدم الإجماع؛ لأنَّا نقول: ليس التمسك بالإجماع؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّر الإجماع إلا بعد وفاة الرسول عليه السلام، بل بأن الرسول عليه السلام قرَّرهم على ذلك، ولم يُنْكِرْ عليهم، فيكون ذلك حجة للجواز، وقد ذكر أهل الأصول أن قول الصحابة: (كان الناس يفعلون) ونحو ذلك حجة في العمل ولا سيما إذا قيد الصحابي ذلك بزمنه عليه السلام، فيكون حكمه الرفع عند الجمهور، أفاده في «عمدة القاري».
وقوله: (يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم): جملة محلها النصب خبر (كان)، وقوله: (جميعًا)؛ بالنصب على الحال من فاعل (يتوضؤون)؛ أي: يتوضؤون مجتمعين من إناء واحد، كذا زاده ابن ماجه، وأخرجه أبو داود وزاد فيه: (ندلي فيه أيدينا)، وعند الدارقطني بلفظ: (من الميضأة)، وفي رواية القعنبي زاد فيه بلفظ: (في الإناء الواحد).
قال في «عمدة القاري»: (ولا شك أن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، وظاهر الحديث: يدل على جواز تناول الرجال والنساء الماء في حالة واحدة، وحكى ابن التين عن قوم: أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعًا من موضع واحد؛ هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة، قلت: الزيادة في الحديث، وهي قوله: «من إناء واحد» يرد عليهم، وكأنهم استبعدوا اجتماع الرجال والنساء الأجنبيات، وأجاب ابن التين عن ذلك بما حكاه عن سحنون أن معناه: كان الرجال يتوضؤون ويذهبون، ثم تأتي النساء فيتوضأن، قلت: هذا خلاف الذي يدل عليه قوله: «جميعًا»؛ فإن الجميع لغة: ضد التفريق، ومع هذا؛ فقد جاء صريحًا وحدة الإناء في «صحيح ابن خزيمة» في هذا الحديث من طريق معتمر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أنه أبصر النبي عليه السلام وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد يتطهر كلهم منه، وهذا محمول على ما قبل نزول آية الحجاب، وأمَّا بعده؛ فيختص بالزوجات والمحارم، كذا قرره في «عمدة القاري».
قال ابن حجر: (يستفاد من الحديث أن المؤلف يرى ذلك).
ورده في «عمدة القاري»: (بأن المؤلف وضع هذا المروي لبيان جواز وضوء الرجال والنساء من إناء واحد،
%ص 169%
ومع هذا لا يطابق الحديث للترجمة؛ لأنَّ المذكور فيها شيئان، والحديث ليس فيه إلا شيء واحد).
وقال الكرماني: (يدل على الأول صريحًا، وعلى الثاني التزامًا) انتهى؛ أي: لأنَّ الرجال والنساء إذا توضؤوا من إناء واحد؛ فإن الرجل يكون مستعملًا لفضل المرأة، قاله العجلوني.
قلت: وفيه نظر؛ فإن الرجال والنساء إذا توضؤوا من إناء واحد؛ لا يخلو إمَّا أن يكونوا على التعاقب واحدًا بعد آخر، أو كلهم سواء، فإن كان الأول؛ فإن كان النساء قبل الرجال؛ فدلالته على الترجمة ظاهرة، لكن يرده قوله: (جميعًا)، فإن معناه: عدم التفريق، وإن كان الثاني؛ فلا يكون فيه دلالة، ولا يكون الرجل توضأ من فضل المرأة؛ فافهم.
ومع هذا، فإنه روي: (أنه عليه السلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة)، وأجيب: بأن حديث الباب الدَّال على الإباحة أصح، فإن قيل: مقتضاه الإباحة إذا استعملا جميعًا، والتنازع إنَّما هو في فضل وضوء المرأة، وأجيب: بأن النهي للاستحباب، أو المراد بالنهي عن فضل أعضائها: هو ما تساقط من أعضائها، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابي والنووي، قلت: وإذا حُمِلَ النهي على المتساقط؛ لم يبقَ للتخصيص بها فائدة، بل الرجل مثلها، ففيه دلالة على نجاسة الماء المستعمل؛ فافهم.
وما أجاب به العجلوني: (من أن النجاسة إذا وقعت في الماء قبل أن يتوضأ أو معه حكمها سواء، فكذا أن وضوء كل واحد منهما مع الآخر لا يفسد عليه الماء؛ فكذا وضوءها قبله، فالقبلية والمعية سواء) فيه نظر، وهذا قياس مع الفارق، والفرق أنهم إذا توضؤوا جميعًا من إناء واحد؛ لا يفسد الماء، أمَّا إذا توضؤوا على التعاقب؛ فالباقي مستعمل؛ فتأمل.
قال في «عمدة القاري»: وفيه: دليل على جواز وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد، وأمَّا توضؤ الرجل من فضل المرأة سواء خلت به أم لا؛ فمذهب الإمام الأعظم، ومالك، والشافعي: أنه يجوز، قال البغوي وغيره: «ولا كراهة فيه للأحاديث الصحيحة»، وقال أحمد وداود: «لا يجوز إن خلت به»، وروي هذا عن عبد الله بن سرجس والحسن البصري، وروي عن أحمد كمذهبنا، وعن ابن المسيب والحسن: كراهة فضلها مطلقًا، وحكى أبو عمرو فيها خمس مذاهب؛ أحدها: أنه لا بأس أن يغتسل الرجل بفضلها ما لم تكن جنبًا أو حائضًا، والثاني: يكره أن يتوضأ بفضلها وعكسه، والثالث: كراهة فضلها له والرخصة في عكسه، والرابع: لا بأس بشروعهما معًا ولا خير في فضلهما، وهو قول أحمد، والخامس: لا بأس بفضل كل منهما شرعا جميعًا وخلا كل واحد منهما به، وعليه فقهاء الأمصار.
أمَّا اغتسال الرجال والنساء من إناء واحد؛ فقد نقل الحافظ الطحاوي، والقرطبي، والنووي الاتفاق على جواز ذلك، قال ابن حجر: (وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة: أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم)، قال في «عمدة القاري»: (قلت: في نظره نظر؛ لأنَّهم قالوا الاتفاق دون الإجماع، فهذا القائل لم يعرف الفرق بين الاتفاق والإجماع) انتهى، وقد حذا حذو هذا القائل العجلونيُّ حيث قال: (والمعروف عدم الفرق بينهما لغة واصطلاحًا) انتهى، قلت: ولعل عدم الفرق معروف عند أهل عجلون، أما عند العلماء الأعلام من أهل اللغة والاصطلاح؛ فالفرق بينهما ظاهر، أما الإجماع لغة؛ فالعزم على الشيء، يقال: أجمع على كذا؛ أي: عزم عليه، وفي الاصطلاح: فقال أهل الأصول: هو اتفاق مجتهدي عصر من أمَّة محمد عليه السلام على أمر شرعي، فهذا مخصوص بالمجتهدين فما فوقهم إلى وفاته عليه السلام، وأمَّاالاتفاق؛ ففي اللغة: التعاهد، يقال: اتفقوا على كذا؛ أي: تعاهدوا عليه، وفي الاصطلاح: اتفاق أصحاب المجتهدين على أمر شرعي، قاله أحد المجتهدين، مثاله: انعقاد الإجماع على انتقاض الطهارة عند وجود القيء والمس معًا، فمأخذ الانتقاض عندنا: القيء، وهو بالاتفاق ناقض، وعند الشافعي: المس ناقض اتفاقًا، فلو قُدِّرَ عدم كون القيء ناقض؛ فنحن لا نقول بالانتقاض بالمس، فلم يبق الإجماع، ولو قُدِّرَ عدم كون المس ناقضًا؛ فالشافعي لا يقول بالانتقاض، فلم يبق الإجماع أيضًا.
والحاصل: أن الإجماع مخصوص بما بعد وفاة النبي الأعظم عليه السلام إلى عصر المجتهدين، والاتفاق مخصوص بأصحاب المجتهدين؛ فافهم واحفظ.
ثم قال في «عمدة القاري»: (وروي جواز اغتسال الرجال والنساء من [إناء] واحد عن تسعة من الصحابة؛ وهم علي بن أبي طالب عند أحمد قال: «كان عليه السلام وأهله يغتسلون [2] من إناء واحد»، وحديث ابن عباس عند الطبراني في «الكبير» من حديث عكرمة عنه: «أنه عليه السلام وعائشة اغتسلا من إناء واحد من جنابة وتوضأا جميعًا للصلاة»، وحديث جابر عند ابن أبي شيبة في «مصنفه» قال: «كان عليه السلام وأزواجه يغتسلون من إناء واحد»، وحديث أنس عند المؤلف قال: «كان عليه السلام هو والمرأة من نسائه يغتسلون من الإناء الواحد»، ورواه الطحاوي عن أبي بكرة القاضي، وحديث أبي هريرة عند البزار في «مسنده» قال: «كان عليه السلام وأهله يغتسلون من إناء واحد»، وحديث عائشة عند الطحاوي والبيهقي قالت: «كنت اغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد، فيبدأ قبلي»، وحديث أم سلمة عند الطحاوي وابن ماجه قالت: «اغتسلت أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد»، وحديث أم هانئ عند النسائي: «أنه عليه السلام اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين»، وحديث ميمونة عند الترمذي عن ابن عباس قال: قالت: «كنت اغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد من الجنابة»، وقال: «حديث حسن صحيح»؛ فهذه الأحاديث كلها حجة على من يَكْرَهُ أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، أو تتوضأ المرأة بفضل الرجل.
وبقي الكلام في ابتداء أحدهما قبل الآخر، وحديث عائشة المار وقولها: «فيبدأ قبلي» يدل على كراهة توضؤ الرجل من فضل المرأة، ويردُّه ما في أبي داود عن ابن عباس: أن بعض أزواجه عليه السلام اغتسلت من جنابة، فجاء عليه السلام ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله؛ إني كنت جنبًا، فقال عليه السلام: «إن الماء لا يجنب»، وروى الطحاوي وابن ماجه عن أم صفية الجهنية قالت: «ربما اختلفت يدي ويد رسول الله عليه السلام في الوضوء من إناء واحد»، وهذا في حق الوضوء، قال الحافظ الطحاوي: «وهذا يدل على أن أحدهما كان يأخذ من الماء بعد صاحبه»).
ثم قال في «عمدة القاري»: (وروي عن عبد الله بن سرجس قال: نهى النبي عليه السلام أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان [3] جميعًا، وأخرجه الحافظ الطحاوي والدارقطني، وروي أيضًا من حديث الحكم بن عمر الغفاري قال: «نهى النبي عليه السلام أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة»، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والطحاوي.
والبيهقي قال: «نقل عن أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهير بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة»، قال: «لكن صح عن الصحابة المنع فيما إذا دخلت به»، ولكن يعارض هذا ما روي بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة الذين ذكرناهم، وأشهر الأحاديث عند المانعين حديث عبد الله بن سرجس، وحديث الحكم الغفاري، أمَّا حديث ابن سرجس؛ فإنه روي موقوفًا ومرفوعًا، قال البيهقي: «الموقوف أولى بالصواب»، وقال المؤلف: «أخطأ من رفعه»).
قال في «عمدة القاري»: (الحكم للرافع؛ لأنَّه زاد، والراوي قد يفتي بشيء ثم يرويه مرة أخرى، ويجعل الموقوف فتوى، فلا يعارض المرفوع، وصححه ابن حزم مرفوعًا من حديث عبد العزيز بن المختار الذي في «مسنده»، والشيخان أخرجا له، ووثقه ابن معين وأبو زرعة، فلا يضره وقف من وقفه، وأما حديث الحكم الغفاري؛ فقال الترمذي: «حديث حسن»، ورجحه ابن ماجه، وصححه ابن حبان، والفارسي، وابن قدامة، فقول النووي: «اتفق الحفاظ على ضعفه» غريب) انتهى، وقدمنا وجه الجمع بينهما؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==================
[1] كذا في الأصل، وفي «عمدة القاري»: (إذا حلف أن يركب الخيل؛ يحصل البر).
[2] في الأصل: (يغتسلوا).
(1/342)
(44) [باب صب النبي وضوءه على المغمى عليه]
هذا (باب صبِّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم وَضوءه)؛ بفتح الواو: الماء الذي توضأ به، مفعول المصدر المضاف لفاعله، وقوله: (على المُغْمَى عليه)؛ بضم الميم، وإسكان المعجمة، وفتح الميم؛ متعلق به، مِن (أُغمي عليه)، يقال: أُغمي عليه _بضم الهمزة_ فهو مغمًى عليه، وغُمِي عليه _بضم الغين المعجمة وتخفيف الميم_ فهو مغمي عليه؛ بصيغة المفعول؛ لأنَّ
%ص 170%
أصله: مغموي على وزن (مفعول)، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأُدْغِمَتِ الياء في الياء فصار: مغمُيٌّ _بضم الميم الثانية وتشديد الياء_ ثم أبدلت من ضمة الميم كسرة؛ لأجل الياء، فصار: مغمي.
قال الكرماني: (والإغماء والغشي بمعنى واحد)، ورده في «عمدة القاري»: (بأن الغشي مرض يحصل من طول التعب، وهو أخف من الإغماء، والفرق بينه وبين الجنون والنوم: أن العقل يكون في الإغماء مغلوبًا، وفي الجنون يكون مسلوبًا، وفي النوم يكون مستورًا) انتهى؛ فافهم، وهذا موافق لما قاله في «القاموس» و «الكليات»، وقد تصدى العجلوني للانتصار للكرماني بما في «القاموس»، ومن نظر عبارة «القاموس»؛ وجدها تدل لما قاله في «عمدة القاري»، وترد على العجلوني والكرماني؛ فافهم.
==================
(1/343)
[حديث: جاء رسول الله يعودني فتوضأ وصب علي من وضوئه]
194# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي، (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج، (عن محمد بن المنكدر) التيمي القرشي التابعي المشهور، وكان المنكدر خال عائشة رضي الله عنها، فشكا إليها الحاجة، فقالت له: (أول شيء يأتيني أبعث به إليك)، فجاءها عشرة آلاف درهم، فبعثت بها إليه، فاشترى منها جارية، فولدت له محمدًا إمامًا متابعًا، مات سنة إحدى وثلاثين ومئة، كذا في «عمدة القاري».
(قال: سمعت جابرًا)؛ أي: ابن عبد الله الصحابي المشهور (يقول)؛ جملة وقعت حالًا: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني)؛ جملة وقعت حالًا أيضًا، (وأنا مريض)؛ جملة وقعت حالًا أيضًا، والجملتان من (رسول الله) مترادفتان، أو الثانية متداخلة، أو من مفعول (يعودني)، وجملة (لا أعقِل)؛ بكسر القاف؛ أي: لا أفهم، خبر بعد خبر، أو صفة (مريض)، أو حال من ضميره، وحذف مفعول (أعقل) إما للتعميم؛ أي: لا أعقل شيئًا، وبه صرَّح المؤلف في (التفسير)، وله في (الطب): (فوجدني قد أغمي عليَّ)، أو لجعله كالفعل اللازم، كذا في «عمدة القاري»، قلت: لا مانع من تقدير مفعول؛ أي: شيئًا مثلًا؛ فتأمل.
قال في «عمدة القاري»: (ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة) انتهى، قلت: لأنَّ المراد من قوله: (لا أعقل)؛ أي: قد أغمي علي؛ فافهم.
(فتوضأ)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، (وصبَّ عليَّ)؛ بالتشديد لآخر الكلمتين (من وَضوئه)؛ بفتح الواو، قال في «عمدة القاري»: (معناه: من الماء الذي توضأ به أو مما بقي منه، وأخرج في «الاعتصام» عن علي بن عبد الله: «ثم صب وضوءه عليَّ»، ولأبي داود: «فتوضأ وصبه علي») انتهى، وعلى هذا، فالظاهر: الأول؛ فافهم.
(فعقَلت)؛ بفتح القاف؛ أي: انجلى عني ففهمت، ففيه: دليل على أن بركة يد النبي الأعظم عليه السلام وآثاره تزيل كل علة، ولاشكَّ في ذلك، فإن هذا من بعض آثاره عليه السلام، (فقلت: يا رسول الله؛ لمن الميراث؟) مبتدأ وخبر، واللام فيه عوض عن ياء المتكلم؛ أي: لمن ميراثي؟ ويؤيده ما أخرجه في (الاعتصام) أنَّه قال: (كيف أصنع في مالي؟)، وفي رواية: (ما تأمرني أن أصنع في مالي.)، وفي أخرى: (إنما يرثني سبع أخوات)، وفي أخرى: (كيف أقضي في مالي؟)، وجوَّز الكرماني أن تكون اللام للعهد عن المتكلم، (إنما يرثني كلالة)؛ الجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا أو بيانيًّا، و (الكَلَالَة)؛ بفتح الكاف وتخفيف اللامين، وقد اختلف فيها على أقوال؛ أصحها: أنها غير الوالد والولد، وفيه حديث صحيح من طريق البراء بن عازب، وقيل: إنها غير الولد خاصة، وقيل: الإخوة للأم، وقيل: بنو العم ومن أشبههم، وقيل: العصبات كلهم وإن بعدوا، ثم قيل للورثة، وقيل للميت، وقيل لهما، وقيل للمال الموروث، وقال الجوهري: (الكَلُّ: الذي لا ولد له ولا والد، يقال: كَلَّ الرجل يكلُّ كَلًّا)، وقال جار الله الزمخشري: (ينطلق «الكلالة» على ثلاثة: من لم يُخَلِّفْ ولدًا ولا والدًا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد)، وقال التيمي: (الكلالة في هذا الحديث: اسم للوارث، وهو الأخوات هنا، وهذا اللفظ يقع على الوارث والموروث منه).
(فنزلت آية الفرائض) جمع: فريضة، والمراد هنا: الحصص المقدرة في كتاب الله تعالى للورثة، وهي قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ ... } إلى آخر السورة [النساء: 176]، كما بيَّنها المؤلف في (التفسير)، وفي رواية: (فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11])، وهي آية المواريث مطلقًا.
وفي الحديث من الفوائد: استحباب عيادة المريض وإن كان مغمى عليه إذا كان عنده من يراعي حاله؛ لئلَّا تنكشف عورته، وقيل: إن كان الزائر صالحًا؛ فله ذلك، وإلا كُرِه.
وفيه: التبرك بآثار الصالحين لا سيما سيد المرسلين.
وعيادة [الضعفاء].
وفيه: فضيلة عيادة الأكابر للأصاغر.
وفيه: رقية الصالحين للماء ومباشرتهم إياه، وذلك مما يُرْجَى بركته.
وفيه: أن ما يُقْرَأُ على الماء مما ينفع، كذا في «عمدة القاري».
قال ابن بطال: (فيه: دليل على طهورية الماء الذي توضأ به؛ لأنَّه لو لم يكن طاهرًا لما صبَّه عليه) انتهى، قال في «عمدة القاري»: (ليس فيه دليل؛ لأنَّه يحتمل أنَّه صبَّ عليه من الباقي في الإناء) انتهى، وذكر مثله الكرماني، واعترضه العجلوني بما في «أبي داود»: (فتوضأ وصبه عليَّ)؛ فتأمل.
قلت: وليس في هذا دليل لما قاله ابن بطال؛ لأنَّ الضمير في (صبه) يحتمل أن يعود على الماء الباقي في الإناء بعد الفراغ من الوضوء، ففيه: دليل على نجاسة الماء المستعمل ولو سلم أنه عليه السلام صب عليه مما اجتمع من تقاطره؛ فهو محمول على الخصوصية له عليه السلام، لا يقال: إن الأصل عدم الخصوصية؛ لأنَّا نقول: الخصوصية ثابتة ومستفادة من هذا الحديث، ومن نفاها؛ فعليه البيان بالبرهان، والله تعالى الكريم الحنَّان المنان [أسأل] أن يفرِّج عنا ما نحن فيه وعن المسلمين.
وفي يوم الاثنين الثالث من صفر سنة سبع وسبعين شُنِق ستة وخمسون نفرًا؛ منهم: مصطفى بيك الحواصلي، ومحمود ركاب، وابنه راغب، وحسن بيك بن ناصوح باشا، وحسن النشواتي، وعلقوا في الشوارع، وفيه قتلوا مئة وعشرة أنفار في المرجة بالرصاص؛ منهم: محمد بن شيخ قطنا، وحسن البهنسي، وأحمد البغجاتي، ومصطفى بيك وأخوه إبراهيم بيك وَلَدَيْ عاكف بيك ناصوح باشا وغيرهم، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسألك يا ربنا بجاه نبيك محمد وآله وأصحابه عليهم السلام أن تفرج عنا هذا البلاء، وأن تكشف عنا هذا الهمَّ والغمَّ برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
==========
%ص 171%
==================
(1/344)
(45) [باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة]
هذا (باب: الغُسل والوُضوء)؛ بضم الغين المعجمة في الأول، وضم الواو في الثاني، قال العجلوني: (وجوَّز الكرماني فيهما الفتح أيضًا)، قلت: لكن المشهور الأول؛ لأنَّ المراد به هنا الفعل؛ فافهم، (من المِخْضب)، وفي رواية: (في) بدل (من)، وهو بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، آخره موحدة، شبه الإجانة، أو إناء يُغْسَلُ فيه الثياب، ويقال له: المِرْكَن _بالنُّون أخره_ كـ (مِنْبَر)، وهو يكون من أي جنس ولو صغيرًا، (والقَدَح)؛ بفتحتين: إناء معروف، واحد الأقداح التي للشرب، وقيل: القَدَح: الذي يؤكل فيه، وأكثر ما يكون من الخشب مع ضيق فيه، (والخَشَب)؛ بفتح المعجمتين، جمع خشبة، وكذا الخُشُْب؛ بضمتين وبسكون الشين، ومراده: الإناء من الخشب، (و) الإناء من (الحِجارة)؛ بكسر المهملة؛ لأنَّ الأواني تكون من الخشب، والحجر، وسائر جواهر الأرض كالحديد، والصفر، والنحاس، والذهب، والفضة، فقوله: (والخشب) يتناول سائر الأخشاب، وقوله: (والحجارة) يتناول سائر الأحجار من التي لها قيمة والتي لا قيمة لها، والحجارة: جمع حجر، وهو جمع نادر؛ كالجمالة: جمع جمل، وكذا حجار _بدون الهاء_ وهما جمع كثرة، وجمع القلة: أحجار.
فإن قلت: ما وجه عطف الخشب والحجارة على المخضب والقدح؟
قلت: هو من باب عطف التفسير؛ لأنَّ المخضب والقدح قد يكونان من الخشب، وقد يكونان من الحجارة، وقد صرح في الحديث المذكور في هذا الباب: (بمِخْضَبٍ من الحجارة)، كما يأتي عن قريب، والدليل على صحة ذلك ما وقع في رواية: (في المخضب والقدح).
وقال ابن حجر: (ليس من عطف العام على الخاص فقط، بل بين هذين وهذين [1] عموم وخصوص من وجه).
وردَّه في «عمدة القاري»
%ص 171%
بأن قصارى فهم هذا القائل أنه ليس من عطف العام على الخاص، ثم أضرب عنه إلى بيان العموم والخصوص من وجه بين هذه الأشياء، ولم يبيِّن وجه العطف ما هو، وقد وقع في بعض النسخ بعد قوله: (والحجارة): (والتَّور)؛ بفتح المثناة فوق، قال الجوهري: (هو إناء يشرب فيه)، زاد العلامة المطرزي: (صغير)، وفي «المغيث»: (هو إناء شبه إجانة من صفر أو حجارة يتوضأ فيه ويؤكل [2] فيه، وقيل: هو مثل قدح من الحجارة)، كذا في «عمدة القاري».
وما شرحنا عليه من قوله: (من المِخْضَبِ) أحسن؛ لأنَّها أنسب بالمعطوفات، وفي رواية: (في المخضب)، ولم يطلع ابن حجر على رواية: (من المخضب)، فقال ما قال من التكلفات؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (بل من هذين وهذان)، ولعله تحريف عن المثبت.
[2] في الأصل: (ويكل).
==================
[1] في الأصل: (بل من هذين وهذان)، ولعله تحريف عن المثبت.
[1] في الأصل: (بل من هذين وهذان)، ولعله تحريف عن المثبت.
(1/345)
[حديث أنس: حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار]
195# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مُنِيْر)؛ بضم الميم، وكسر النُّون، وسكون التحتية، آخره راء، الحافظ الزاهد السهمي المروزي، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئتين، قال في «عمدة القاري»: (ووقع في رواية الأصيلي: «ابن المنير»؛ بالألف واللام)، قال: (قلت: يجوز كلاهما، كما عرف في موضعه، وقد يلتبس هذا بابن المُنَيِّر الذي له كلام في تراجم البخاري، وهو بضم الميم، وفتح النُّون، وتشديد التحتية، وهو متأخر عن ذلك بزهاء أربعمئة سنة، وهو أبو العباس أحمد بن أبي المعاني محمد كان قاضي إسكندرية وخطيبها) انتهى: (أنه سمع عبد الله بن بَكْر)؛ بفتح الموحدة وسكون الكاف، أبا وهب البصري، نزل بغداد وتوفي بها سنة ثمان ومئتين في خلافة المأمون (قال: حدثنا حُمَيد)؛ بالتصغير، ابن أبي حميد الطويل، المتوفى وهو قائم يصلي سنة ثلاث وأربعين ومئة، (عن أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه (قال: حضرت الصلاة)؛ أي: صلاة العصر، وكان بالمدينة، (فقام من كان) في محل الرفع فاعل (قام) (قريب الدار إلى أهله) يتعلق بقوله: (فقام)، وذلك القيام كان لتحصيل الماء والتوضؤ به، (وبقي قوم)؛ أي: عند النبي الأعظم عليه السلام في مجلسه، ولم يكونوا على الوضوء أيضًا، وإنما توضؤوا من المخضب الذي أُتي به رسول الله عليه السلام، ولذا قال: (فأُتي)؛ بضم الهمزة على صيغة المجهول (رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِخْضَب)؛ بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الضَّاد المعجمة، آخره موحدة: إناء متخذ (من حجارة) كلمة (من) للبيان، (فيه ماء)، لكنه قليل، (فصغُر) بضم الغين المعجمة (المخضب أن يبسُط) بضم السين المهملة (فيه كفه) الشريف؛ أي: لم يسع بسط الكف فيه؛ لصغره، وقد علم من ذلك: أن المخضب يكون من حجارة وغيرها، ويكون صغيرًا وكبيرًا، وفي رواية: (فلم يستطع أن يبسط كفَّه من صغر المخضب)؛ أي: لأن يبسط، وكلمة (أن) مصدرية؛ أي: بسط الكفِّ فيه، (فتوضَّأ القوم)؛ أي: القوم الذين بقوا عند النبي الأعظم عليه السلام، ويحتمل العموم، ولعلَّ من ذهب لم يجد ماء للوضوء (كلهم) من ذلك المخضب الصغير، (قلنا)، وفي رواية: (فقلنا)، وفي أخرى: (فقلت)، وهو من كلام حميد الطويل الراوي عن أنس رضي الله عنه: (كم كنتم؟) مميز (كم) محذوف؛ تقديره: كم نفسًا كنتم؟ (قال) أي: أنس: (ثمانين)؛ أي: كنَّا ثمانين نفسًا (وزيادة) على الثمانين، فـ (ثمانين) منصوب؛ لأنَّه خبر الكون المقدر هو واسمه؛ لدلالة الكلام عليه، وفي الحديث: دلالة على معجزة عظيمة للنبي الأعظم عليه السلام، وأسألك بجاهه عندك أن تفرِّج عنا، وعن المسلمين يا أرحم الراحمين، وفيه: استحباب التهيؤ للوضوء عند حضور الصلاة، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 172%
==================
(1/346)
[حديث: أن النبي دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه]
196# وبه قال: ([حدثنا] محمد بن العَلَاء) بالمهملة المفتوحة وبالمد (قال: حدثنا أبو أُسَامة)؛ بضم الهمزة، وتخفيف السين المهملة، حماد بن أسامة، (عن بُرَيْد)؛ بضم الموحدة، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، هو ابن عبد الله، (عن أبي بُرْدة)؛ بضم الموحدة، وسكون الرَّاء: الحارث أو عامر، أو اسمه كنيته، (عن أبي موسى): عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، وهذا الإسناد بعينه تقدم في باب (فضل من علم وعلم)، ولا تفاوت إلا في لفظ: (حماد)، فإنه ذكر هنا بالكنية، وثَمَّة بالاسم، كذا في «عمدة القاري»: (أن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم دعا بقَدَح)؛ أي: طلب قدحًا (فيه ماء)؛ جملة اسمية في موضع الجر؛ لأنَّها صفة لـ (قدح)، (فغسل يديه)؛ بالتثنية، الفاء للعطف على (دعا) (ووجهَه)؛ بالنصب عطف على قوله: (يديه) (فيه)؛ أي: في القدح، (ومجَّ)؛ بتشديد الجيم؛ أي: صبَّ (فيه)؛ أي: في القدح، يقال: مجَّ لعابه؛ إذا قذفه، وهذا يدل على أن الغَسل _بفتح الغين المعجمة_ لا على الغُسل _بضمها_ ولا على الوضوء منه، وفيه: دلالة على جواز الشرب منه، وكذا الإفراغ منه على الوجوه والنحور، كما سبق في هذا الحديث.
وهو كسابقه ولاحقه يدلُّ على جواز استعمال الأواني كيفما كانت إلا ما خرج منها لأدلة، قال في «عمدة القاري»: (الأواني كلها سواء كانت من الخشب أو من جواهر الأرض طاهرة، فلا كراهة في استعمالها للأكل والشرب إلا آنية الذهب والفضة، فيُكْرَهُ الأكل والشرب والتوضؤ في آنية الذهب والفضة، ولو توضَّأ فيه؛ أجزأه وقد أساء، هذا مذهب الإمام الأعظم، ومالك، وإسحاق، وأبو ثور، والشافعي، وغيرهم، والمراد بالكراهة: التحريم، وأما المتصفر؛ فلا بأس بالأكل والشرب منه والتوضؤ فيه، ذكر أبو عبيد عن ابن سيرين: «كانت الخلفاء يتضؤون في الطست»، وعن الحسن: «رأيت عثمان بن عفان يصبُّ عليه من إبريق»؛ يعني: نحاسًا، قال أبو عبيد: وعلى هذا أمر الناس في الرخصة والتوسعة في الوضوء في آنية النحاس وأشباهه من الجواهر إلا ما روي عن ابن عمر من الكراهة، وذكر ابن أبي شيبة عن يحيى بن سليم عن ابن جريج قال: قال معاوية: كرهت أن أتوضأ في النحاس، وقال ابن بطال: «وقد وجدت عن ابن عمر: أنه توضأ في النحاس، وهذه الرواية أقرب إلى الصواب»، وفي «الأشراف»: «ما علمت أن أحدًا كَرِهَ الوضوء في آنية الصُّفر، والنحاس، والرصاص، وشبهه، والأشياء على الإباحة إلا ما روي عن ابن عمر»، قلت: وقد علمت ما قاله ابن بطال، وفي «سنن أبي داود» بسند ضعيف عن عائشة قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه السلام في تَوْرٍ من شَبَه»، وفي «مسند» أحمد بسند صحيح عن زينب بنت جحش: «نه عليه السلام كان يتوضأ من مِخْضَب من صُفر»، والصُّفر؛ بضم الصَّاد المهملة: هو النحاس الجيد، قال أبو عبيد: كسر الصَّاد فيه لغة، ولم يُجِزْهُ غيره، ويقال له: الشَبَه أيضًا _بفتحتين_ لأنَّه يشبه الذهب) انتهى ملخصًا، والله تعالى أعلم.
اللهم إني أسألك أن تفرِّج عنا وعن المسلمين بجاه سيد المرسلين وحبيب ربِّ العالمين، واكشف يا ربَّنا هذا البلاء، وأبدله فرحًا وسرورًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
==================
(1/347)
[حديث: أتاتا رسول الله فأخرجنا له ماء في تَوْر من صُفر فتوضأ]
197# وبه قال: (حدثنا أحمد ابن يونس) نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو أحمد بن عبد الله بن يونس (قال: حدثنا عبد العزيز ابن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام، الماجَشون _بفتح الجيم_ نسبه لجده أيضًا لشهرته به، وإلا؛ فهو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، فأحمد وعبد العزيز؛ كلاهما منسوبان إلى جدهما، واسم أب كلٍّ منهما عبد الله، وكنية كلٍّ منهما أبو عبد الله، وكلٌّ منهما ثقة حافظ فقيه، كذا في «عمدة القاري» (قال: حدثنا عَمرو بن يَحيى) بفتح أولهما، (عن أبيه) يحيى بن عمارة، (عن عبد الله بن زيد) الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: أَتى)؛ بفتح الهمزة على البناء للفاعل، وفي رواية: (أتانا) (رسول الله)، وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إلى دارنا، (فأخرجنا) من الدار (له)؛ أي: للنبي الأعظم عليه السلام (ماء)؛ بالمد؛ لأجل الوضوء (في تَور) بالمثناة الفوقية المفتوحة (من) للبيان (صُفر)؛ بضم الصَّاد المهملة، وقد تُكْسَر؛ أي: من نحاس أصفر، وقدَّمنا عن الجوهري: (أن التور: هو إناء يشرب فيه)، وزاد في «المغرب»: صغير، وفي «المغيث»: إناء شبه إجانة من صُفْر أو حجارة يُتَوَضَّأُ فيه ويُؤْكَل، وقال ابن قرقول [1]: (هو مثل القدح من الحجارة)، وقوله: (في تور من صفر) زيادة عبد العزيز، قال الكرماني: (فإن قلت: لم يذكر في الترجمة
%ص 172%
لفظ: «التور»، وكان المناسب أن يذكر هذا الحديث في الباب الذي بعده.
قلت: لعلَّ إيراده في هذا الباب من جهة أن ذلك التَوْر كان على شكل القدح، أو من جهة أنه حجر؛ لأنَّ الصُّفر من أنواع الحجارة)، قال في «عمدة القاري»: (ورأيت في نسخة صحيحة بخط المصنف: «والتور» بعد قوله: «والخشب والحجارة») انتهى، فعلى هذا حصلت المطابقة للترجمة، فلا حاجة لما قاله الكرماني على أن قوله: (لأن الصفر ... ) إلخ؛ فيه نظر؛ لأنَّ الصُّفر: هو النحاس الأصفر أو الجيد منه.
ونقل العجلوني: (أن التَّوْر: الطست أو شبهه) انتهى، ويردُّه ما قدمناه عن أهل اللغة من أنَّه: إناء صغير يُشْرَبُ فيه ويُؤْكَل، والطست لا يُشْرَبُ فيه ولا يُؤْكَل، ويدل لذلك ما في حديث المعراج عن أنس: «فأُتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب»، فإنَّه قد غاير بينهما، وفُهِمَ منه أنَّ التور أصغر من الطست، فهو موافق لما قدمناه؛ فليحفظ.
(فتوضأ)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، وقوله: (في تَوْر) صفة؛ لقوله: (ماء)، ومحله النصب، (فغسل وجهه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، وهذا تفسير؛ لقوله: (فتوضأ)، وفيه حذف تقديره: فمضمض واستنشق، كما دلت عليه الروايات الأخر والمخرج متحد؛ كذا قاله في «عمدة القاري»؛ فافهم، (ويديه)؛ بالتثنية؛ أي: وغسل يديه (مرتين مرتين) إلى المرفقين؛ أي: لكل يد مرتين، (ومسح برأسه)؛ الباء للإلصاق على التحقيق، أو زائدة، وقيل: للتبعيض، وهو ضعيف، (فأقبل به)؛ أي: بالمسح المفهوم من (مسح)؛ أي: لا بالرأس إلا أن تُجْعَلَ الباء بمعنى: (على)؛ فافهم، (وأدبر)؛ أي: به أيضًا، (وغسل رجليه)؛ أي: إلى الكعبين، وأتى بالواو فيه وفيما قبله التي هي لمطلق الجمع؛ للتنبيه على أنَّ الترتيب ليس بواجب، بل هو سنة؛ كما تقدم في باب (غسل الرجلين)؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (قرقور)، وهو تحريف عن المثبت.
==================
(1/348)
[حديث: هريقوا عليَّ من سبع قِرَب]
198# وبه قال: (حدثنا أبو اليَمان)؛ بألف بعد الميم، قبلها مثناة تحتية مفتوحة، هو الحَكم بن نافع؛ بفتح الحاء المهملة (قال: أخبرنا شُعيب)؛ بضم المعجمة، ابن أبي حمزة دينار، أبو بشر الحمصي، (عن الزهري) محمد بن مسلم ابن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتبة)؛ بضم العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، زاد في رواية: (ابن مسعود) رضي الله عنه: (أن عائشة) زوج النبي الأعظم عليه السلام ورضي عنها، (قالت: لمَّا) بتشديد الميم (ثقل النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أثقله المرضن قال في «عمدة القاري»: (ثَقُل _بضم القاف_ يقال: ثقل الشيء ثقلًا؛ مثل: صغر صغرًا، فهو ثقيل، وقال أبو نصر: أصبح فلان ثاقلًا: إذا أثقله المرض، والثقل: ضد الخفة، والمعنى ههنا: اشتد مرضه، ويفسره قولها بعده: (واشتد به وجعه)؛ أي: مرضه، وأما الثَّقْل _بفتح الثاء وسكون القاف_ فهو مصدر ثقَل الشيء _بفتح القاف_ في الوزن يَثْقُله ثقلًا، من باب (نَصَر يَنْصُر): إذا وزنه، وكذلك ثقلت الشاة: إذا رفعتها للنظر ما ثقلها [1] من خفتها، ونقل ابن حجر عن «القاموس»: (ثقِل الرجل _بكسر القاف_ فهو ثاقل وثقيل: اشتد مرضه)، واعترضه في «عمدة القاري»: (بأنَّ هذا يحتاج إلى مستند إلى أحد من أئمة اللغة المعتمد عليهم) انتهى.
وقوله: (استأذن) عليه السلام، جواب (لمَّا) (أزواجه رضي الله عنهنَّ)، وكنَّ تسعة، وهنَّ اللاتي مات عنهنَّ، وقد نظمهنَّ بعضهم بقوله:
تُوُفِّي رَسُولُ اللهِ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ ... إلَيْهِنَّ تُعْزَى الْمَكْرُمَاتُ وَتُنْسَبُ
فَعَائِشَةٌ مَيْمُونَةٌ وَصَفِيَّةٌ ... وَحَفْصَةُ أَيْضًا ثُمَّ هِنْدٌ وَزَيْنَبُ
جُوَيْرِيَةُ مَعَ سَوْدَةٍ ثُمَّ رَمْلَةٍ ... ثَلَاثٌ وَسِتٌّ ذِكْرُهُنَّ مُهَذَّبُ
أي: طلب منهنَّ أن يأذنَّ له (في أن يُمرَّض)؛ بضم المثناة التحتية وفتح الرَّاء المشددة، على صيغة المجهول من التمريض، يقال: مرَّضته تمريضًا: إذا قمت عليه في مرضه؛ يعني: خدمته فيه، ويحتمل هنا: أزلت مرضه بالخدمة، كذا في «عمدة القاري» (في بيتي)؛ متعلق بـ (يُمرض)، ففيه دلالة على وجوب القسم على النبي الأعظم عليه السلام، وإلَّا لم يحتج إلى الاستئذان منهنَّ، ووجوبه على غيره من الأمَّة بالطريق الأولى، (فأذِنَّ)؛ بتشديد النُّون وكسر المعجمة؛ لأنَّه جماعة النساء؛ أي: أذنت أزواج النبي الأعظم عليه السلام (له)؛ أي: للنبي الأعظم عليه السلام أن يمرَّض في بيتها؛ أي: عائشة رضي الله عنها، ففيه: دليل على أنَّ لبعض الضرَّات أن تهب نوبتها للضرَّة الأخرى، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور، ولها أن ترجع؛ لأنَّها أسقطت حقًّا لم يجب بعد، فلا يسقط، كذا في «شرح الملتقى»، وفي الحديث: دلالة على فضل السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لتمريض النبي الأعظم عليه السلام في بيتها، وفيه: أنَّه عليه السلام كان يشتد به المرض؛ ليعظم أجره بذلك عند ربه عزَّ وجلَّ، وفي الحديث الآخر: «إنِّي أوعك كما يوعك رجلان منكم»، وفيه: أنَّ المريض يسْكُنُ نفسه لبعض أهله دون بعض، كذا في «عمدة القاري».
(فخرج النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من بيت ميمونة، وهو الأظهر، وقيل: من بيت زينب بنت جحش، وقيل: من بيت ريحانة، وفي هذا دلالة على أنَّه لا يجْمَعُ بين الضرائر إلَّا بالرضا، ولو قالت: لا أسكن مع أَمتك؛ ليس لها ذلك، كذا في «شرح الملتقى» (بين رجلين تَخُطُّ) بفتح المثناة الفوقية وضم الخاء المعجمة (رجلاه) فاعله؛ أي: يؤثر برجليه على الأرض كأنه يخطُّ خطًّا، وفي رواية: (تُخَطُّ)؛ بصيغة المجهول، كذا في «عمدة القاري»، ومثله في «الكرماني»، وقوله: (في الأرض) متعلق بـ (تخط)، وكلمة (في) على بابها، أو بمعنى: على، وقوله: (بين عباس)؛ أي: عمه عليه السلام، وهو العباس بن عبد المطلب، يُكْنى أبا الفضل، أكبر من النبي الأعظم عليه السلام بسنتين أو ثلاث، المتوفى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين أو بعدها، عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالبقيع، وقبره مشهور يُزَار، (ورجل آخر) بدل من قوله: (بين رجلين).
(قال: عبيد الله)؛ بالتصغير؛ أي: الراوي عن عائشة رضي الله عنها، وهذا مدرج من كلام الزهري الراوي عنه، لكنه بالإسناد المذكور بغير واو العطف: (فأخبرت عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما؛ أي: بقول عائشة رضي الله عنها، (فقال) أي: ابن عباس: (أتدري من الرجل الآخر؟)؛ أي: الذي لم تسمِّه عائشة، (قال: لا)؛ أي: لا أدري، (قال) أي: ابن عباس: (هو علي)؛ أي: ابن أبي طالب، كما صُرِّح به في رواية، لكن في رواية مسلم: (بين الفضل بن عباس)، وفي أخرى: (بين رجلين؛ أحدهما: أسامة)، قال في «عمدة القاري»: (وطريق الجمع أنَّهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة تارة هذا وتارة هذا، وكان العباس أكثرهم أخذًا ليده الكريمة؛ لأنَّه كان أدومهم لها إكرامًا واختصاصًا به، وعلي وأسامة والفضل يتناوبون اليد الأخرى، قال: فعلى هذا يجاب عن إبهام عائشة بأنَّها صرحت بالعباس، وأبهمت الآخر لكونهم ثلاثة، وهذا الجواب أحسن من أنَّه كان في قلبها منه ما يحصل في قلوب البشر مما يكون سببًا في الإعراض عن ذكر اسمه؛ حيث قال للنبي الأعظم عليه السلام عنها في قصة الإفك: (النساء سواها كثير)، وإن تبعه الشراح؛ لأنَّ في هذا توصل للجهال والقيل والقال، كما لا يخفى على أهل الأحوال.
(وكانت عائشة تحدث أن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) عطف على (فأخبرت)، فهو من مقول عبيد الله لا ابن عباس، فهو داخل تحت الإسناد السابق، ويحتمل أن يكون ما سمع عبيد الله من عائشة، فيكون مسندًا، وأن يكون تعليقًا من عبيد الله؛ فتأمل (قال بعد ما دخل بيته)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، ولابن عساكر: (بيتها)؛ أي: عائشة، وأضيف إليها مجازًا؛ لسكناها فيه، (واشتد وجعه) وفي رواية الأصيلي: (واشتد به وجعه): (هريقوا)؛ بدون الهمزة في أكثر الروايات، وفي رواية: (أهريقوا)؛ بزيادة الهمزة، وفي أخرى: (أريقوا).
وفي هذه المادة ثلاث لغات:
الأولى: هراق الماء يهريقه هراقة؛ أي: صبَّه، وأصله: أراق يريق إراقة، من باب الإفعال، وأصل أراق: أَرْيَق على وزن (أفعل)، نقلت حركة الياء إلى ما قبلها
%ص 173%
ثم قلبت ألفًا؛ لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها بعد النقل، فصار (أراق،) وأصل يريق: يأريق على وزن (يأفعل)، مثل يكرم أصله: (يؤكرم)، حذفت الهمزة منه إتباعًا لحذفها في المتكلم؛ لاجتماع الهمزتين فيه، وهو ثقيل.
اللغة الثانية: أهرق الماء يهرقه إهراقًا؛ على وزن (أفعل إفعالًا)، قال سيبويه: (قد أبدلوا من الهمزة الهاء، ثم لزمت، فصارت كأنها من نفس الكلمة، ثم حذفت الألف بعد الهاء، ونزلت الهاء عوضًا عن حذفهم العين؛ لأنَّ أصل أهرق: (أريق).
اللغة الثالثة: أهراق يهريق إهرياقًا، فهو مهريق، والشيء: مهْراق، ومهَراق أيضًا بالتحريك؛ وهذا شاذ، نظيره أَسطاع يُسطيع إسطياعًا؛ بفتح الألف في الماضي، وضم الياء في المضارع، وهو: لغة في (أطاع يطيع)، فجعلوا السين عوضًا من ذهاب حركة عين الفعل، فكذلك حكم الهاء، وقد خبط بعضهم في هذا الموضع خباطًا؛ لعدم وقوفه على قواعد علم الصرف، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(عليَّ) بتشديد الياء المفتوحة (من سبع قِرَب)؛ بكسر القاف وفتح الرَّاء، جمع قربة، وهي ما يسقى به، وهو جمع كثرة، وجمع القلَّة: قرْبات؛ بسكون الرَّاء وفتحها، كذا في «عمدة القاري»، وكلاهما متعلق بـ (هريقوا) (لم تُحلل) بالبناء للمجهول (أوكيتهن) جمع وكاء؛ وهو الذي يشدُّ به رأس القربة؛ أي: فمها، (لعلِّي أَعهَد)؛ بفتح الهمزة والهاء (إلى الناس)؛ أي: أوصي إليهم، من باب (علم يعلم)، يقال: عهدت إليه؛ أي: أوصيته، (وأُجْلِسَ)، وفي رواية: (فأُجْلِسَ)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، والفعل في الروايتين مبني للمفعول (في مِخْضَب)؛ بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة: إناء يُغْسَلُ فيه، زاد ابن خزيمة: (أنَّه كان من نحاس) (لحفصة زوجِ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ بالجر صفة لـ (حفصة)، (ثم طفِقنا)؛ بكسر الفاء، وفتحها حكاه الأخفش، والكسر أفصح، وهو من أفعال المقاربة، ومعناه: جعلنا (نَصبُّ)؛ بضم الصَّاد المهملة (عليه) الماء صلى الله عليه وسلم (من تلك)؛ أي: القِرَب السبع، وفي رواية: (تلك القِرَب)، وهو في محل نصب مفعول (نَصُبُّ) (حتى طفِق)؛ بكسر الفاء، وقد تفتح؛ أي: حتى جعل (يُشِيرُ) أي: النبي الأعظم عليه السلام (إلينا)، والجملة خبر (طفق)، وكذا جملة (نصبُّ) خبر (طفقنا)، وفي (طفق) معنى: الاستمرار والمواصلة؛ (أن قد فعلتُنَّ)؛ بضم المثناة الفوقية، وتشديد النُّون، جمع مؤنث مخاطب، و (أن) تفسيرية؛ لأنَّ (يشير) فيه معنى القول دون حروفه؛ أي: فعلتنَّ ما أمرتكنَّ به من إهراق الماء عليَّ من القرب الموصوفة، (ثم خرج) أي: النبي الأعظم عليه السلام من بيت عائشة (إلى الناس)؛ أي: إلى الذين في المسجد، فصلَّى بهم، وخطبهم، على ما يأتي إن شاء الله تعالى مفصَّلًا في مباحث الوفاة النبوية.
فإن قلت: لم يذكر للخشب ما يدل عليه من أحاديث الباب، وأجيب: باحتمال أنَّ القدح كان من الخشب، أفاده الكرماني.
وفي الحديث: جواز الإجلاس في المِخْضَبِ ونحوه؛ لأجل صبِّ الماء عليه سواء كان من خشب، أو حجر، أو نحاس، وقد روي عن ابن عمر كراهة الوضوء في النحاس، وقد ذكرناه، وقد روي عنه أنَّه قال: إنِّي أتوضأ بالنحاس وما يكره منه شيء إلا رائحته فقط، وقيل: الكراهة فيه؛ لأنَّ الماء يتغيَّر فيه، وروي أنَّ الملائكة تَكْرَهُ ريح النحاس، وقيل: يحتمل أن تكون الكراهة فيه؛ لأنَّه مستخرج من معادن الأرض شبيه بالذهب والفضة، والصَّواب: جواز استعماله؛ بما ذكرنا من رواية ابن خزيمة وفي رسول الله عليه السلام الأسوة الحسنة والحجة البالغة.
وفي الحديث: دلالة على جواز إراقة الماء على المريض بنيَّة التداوي وقصد الشفاء، وعلى جواز الرقى والتداوي للعليل، ويكره ذلك لمن ليست به علة، والحكمة في طلب النبي الأعظم عليه السلام الماء في مرضه: أنَّ المريض إذا صُبَّ عليه الماء البارد؛ بانت إليه قوته، لكن في مرض يقتضي ذلك كالحمى، والنبي الأعظم عليه السلام علم ذلك، فلذلك طلب الماء، ولذلك بعد استعمال الماء قام وخرج إلى الناس، كذا قاله في «عمدة القاري»، وقال الكرماني: (والحكمة في تعيين العدد السبع في القِرَب؛ لأنَّه يحتمل أن يكون ذلك من جهة التبرك، وفي عدد السبع بركة؛ لأنَّ له دخولًا كثيرًا في كثير من أمور الشريعة، ولأن الله تعالى خلق خلقًا كثيرًا من مخلوقاته سبعًا) انتهى.
والأحسن في الجواب ما قاله في «عمدة القاري»: (من أنَّ نهاية العدد عشرة، والمئات تركب من العشرات، والألوف من المئات، والسبعة من وسط العشرة، وخير الأمور أوساطها، وهي وتر، والله تعالى يحب الوتر، بخلاف السادس والثامن، وأمَّا التاسع؛ فليس من الوسط، وإن كان وترًا)؛ فليحفظ.
ثم قال: (والحكمة في تعيين القِرَب أن الماء يكون فيه محفوظًا، وفي معناها ما يشاكلها مما يُحْفظ فيه الماء، ولهذا جاء في رواية الطبراني في هذا الحديث من آثار شتَّى، والحكمة في شرطه عليه السلام في القِرَب عدم حل أوكيتهن: أنَّ أولى الماء أطهره وأصفاه؛ لأنَّ الأيدي لم تخالطه ولم تدنسه بعد، والقِرَب إنَّما توكى وتحل على ذكر الله عزَّ وجلَّ، فاشترط أن يكون صبُّ الماء عليه من الأسقية التي لم تحلل؛ ليكون قد جمع بركة الذكر في شدِّها وحلِّها معًا) انتهى كلامه، والله تعالى أعلم.
اللهم إني أسألك فرجًا قريبًا، وعلمًا نافعًا، وسترًا جميلًا، ورزقًا واسعًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، واكشف عنَّا وعن المسلمين هذا البلاء، وفرج عنَّا ما أهمَّنا وأهمَّهم برحمتك يا أرحم الراحمين، آمين آمين آمين، وصلى الله على محمَّد وآله وصحبه أجمعين.
==========
[1] في الأصل: (يقلها)، وهو تصحيف.
==================
(1/349)
(46) [باب الوضوء من التور]
هذا (باب: الوُضوء)؛ بضم الواو (من التَّوْر)؛ بفتح المثناة الفوقية، وسكون الواو، بعدها راء مهملة: إناء صغير يشرب فيه، أو شبه الإجانة من صُفْر أو حجارة يُتوضَّأ فيه ويُؤْكَل منه.
قال في «عمدة القاري»: (ووقع في حديث شريك عن أنس في المعراج: «فأُتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب»، فدلَّ هذا أنَّ التور غير الطست، وذلك يقتضي أن يكون التور إبريقًا؛ لأنَّ الطست لا بدَّ له من ذلك) انتهى، قلت: فالظاهر أنَّ التور الأبريق، وقول الجوهري: (إناء يُشْرَبُ فيه) صادق عليه، وقول المطرزي: (إناء صغير يشرب فيه) يصدق عليه أيضًا؛ فتأمل.
==========
%ص 174%
==================
(1/350)
[حديث ابن زيد: رأيت النبي يتوضأ فدعا بتور من ماء]
199# وبه قال: (حدثنا خالد بن مَخْلَد)؛ بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح اللام، القطواني البجلي (قال: حدثنا سليمان)؛ أي: ابن بلال، كما في روايةٍ، أبو محمد (قال: حدثني) بالإفراد (عَمرو) بفتح العين (بن يحيى، عن أبيه) أي: يحيى بن عمارة (قال) أي: يحيى: (كان عمِّي)؛ أي: عمرو بن أبي حسن، قال الكرماني: (تقدم في باب «مسح الرأس» أنَّ المستخبر جد عمرو، فكيف يكون عم يحيى؟ وأجاب: بأنَّه جد من جهة الأم عم من جهة الأب) انتهى، قلت: وهذه عادة المؤلف، تارةً يعبر في باب باسم، وتارةً يعبر في باب آخر لذلك الشخص بكنيةٍ أو لقبٍ أو غيرها؛ قصدًا للتفنن، وبهذا ظهر اضمحلال قول ابن حجر: (إنه عمه على الحقيقة)؛ فافهم، (يكثر من الوُضوء)؛ بضم الواو؛ لأنَّه يحب أن يكون على طهارة، كما هو المستحب، (قال)، وفي رواية: (فقال): (لعبد الله بن زيد) أي: الأنصاري، (أخبرني كيف رأيت النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم يتوضأ) حتى لا يكون فعله عبثًا، ويكون وضوءُه موافقًا [1] لوضوئه عليه السلام، (فدعا) أي: عبد الله بن زيد (بتَور)؛ بموحدة بعدها مثناة فوقية: إناء فيه شيء (من ماء)، وفيه المطابقة للترجمة، (فكفأ)؛ بالهمز؛ أي: صب (على يديه) بالتثنية (فغسلهما) إلى الرسغين (ثلاث مرات) وفي رواية: (ثلاث مرار)؛ بتكرار الرَّاء، وأورد في «عمدة القاري» على هذه الرواية: (بأنَّ حكم العدد من ثلاثة إلى عشرة أن يضاف إلى جمع القلة، فلمَ أضيف إلى جمع الكثرة مع وجود القلة وهو «مرات»؟ وأجاب:
%ص 174%
بأنهما يتعارضان، فيستعمل كل منهما مكان الآخر، كقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]) انتهى.
(ثم أدخل يده) بالإفراد (في التور)؛ أي: ثم أخرجها، كما صرح به مسلم، (فمضمض واستنثر)، وإنما لم يذكر الاستنشاق؛ لأنَّ الاستنثار مستلزم للاستنشاق؛ لأنَّه إخراج الماء من الأنف، كذا قاله الكرماني، واعترضه في «عمدة القاري»: (بأن هذا لا يتأتَّى على قول من يقول: الاستنثار والاستنشاق واحد، وعلى هذا القول؛ يكون هذا من باب الاكتفاء أو الاعتماد على الرواية الأخرى) انتهى، لا كما قاله العجلوني من: (أنه يكون الاستنشاق مذكورًا بلفظ الاستنثار)؛ فافهم، (ثلاث مرات) وفي رواية: (ثلاث مرار)؛ بتكرار الرَّاء (من غرفة واحدة) حال من الضمير في (مضمض)، والمعنى: مضمض ثلاث مرات واستنشق ثلاث مرات حال كونه مغترفًا بغرفة واحدة، أو صفة لـ (ثلاث)، أو حال منها، والأول أظهر.
قال في «عمدة القاري»: (يكون الجميع بثلاث غرفات، والتركيب لا يزيد على هذه، أو يصرح بغرفة واحدة، نعم؛ جاء في حديث عبد الله بن زيد: «بثلاث غرفات»، وفي رواية «أبي داود» و «مسلم»: «فمضمض واستنشق من كف واحدة يفعل ذلك ثلاثًا»؛ يعني: يفعل المضمضة والاستنشاق كل مرة منهما بغرفة، فتكون المضامض الثلاث بثلاث غرفات) انتهى، قلت: وهذا أولى لموافقته الروايات، وقد خبط هنا ابن حجر خبط عشواء، وركب متن عمياء؛ لعدم الفهم والاطلاع؛ فليحفظ.
(ثم أدخل يده)؛ بالإفراد؛ أي: في التَّوْر، (فاغترف بها)؛ أي: ثلاثًا، وفي رواية: (ثم أدخل يديه _بالتثنية_ فاغترف بهما)، (فغسل وجهه ثلاث مرات)، وفي رواية: (ثلاث مرار)؛ بتكرار الرَّاء، قال في «عمدة القاري»: (ولفظ «ثلاث» متعلق بالفعلين؛ أي: اغترف ثلاثًا، فغسل ثلاثًا، وهو على سبيل تنازع العاملين؛ لأنَّ الغسل ثلاثًا لا يمكن باغتراف واحد) انتهى (ثم غسل يديه) بالتثنية (إلى المِرفقين) بكسر الميم (مرتين مرتين)؛ أي: غسل كل يد مرتين، وهذا محمول على بيان الجواز، وإلا؛ فالأفضل التثليث فيهما؛ للروايات السابقة؛ فافهم، (ثم أخذ بيده)؛ بالإفراد، وفي رواية: (بيديه) بالتثنية (ماء) لفناء البلَّة (فمسح به) أي: بالماء (رأسه، فأدبر) وللأصيلي: بالواو (بيديه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (فأدبر به) (وأقبل)؛ أي: بهما، فاحتج به الحسن ابن حي، ومن تبعه على أن البدء بمؤخر الرأس، وأجيب: بأنَّ الواو لا تدل على الترتيب، وقد سبق في الرواية تقديم الإقبال حيث قال: (فأقبل بيده وأدبر بها)، وإنَّما اختلف فعله عليه السلام في التأخير والتقديم؛ لبيان الجواز، وليري أمته المشقة والتيسير في ذلك، أفاده في «عمدة القاري».
(ثم غسل رجليه)؛ أي: إلى الكعبين، وللأصيلي: (رجله)؛ بالإفراد؛ لأنَّ المراد بها الجنس، (فقال)؛ أي: عبد الله بن زيد، وللأصيلي: (وقال)؛ بالواو: (هكذا رأيت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتوضأ)، وهذه الزيادة صريحة في رفع الحديث إلى رسول الله عليه السلام مع دلالة سياق أول الحديث عليه.
اللهم إني أتوجه إليك بحبيبك محمد عليه السلام وآله وأصحابه أن تفرج عنَّا وعن المسلمين، وأن ترفع هذا البلاء عنهم يا أرحم الراحمين، إنك على كل شيء قدير.
==========
[1] في الأصل: (موافق).
==================
(1/351)
[حديث: أن النبي دعا بإناء من ماء]
200# وبه قال: (حدَّثنا مسدد)؛ هو ابن مسرهد (قال: حدثنا حماد)؛ بالحاء المهملة، هو ابن زيد لا ابن سلمة؛ لأنَّ مسدد لم يسمع منه، (عن ثابت)؛ بالمثلثة؛ أي: البُناني _بضم الموحدة وبالنُّونين_، (عن أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه: (أن النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء)؛ لأجل أن يتوضأ، (فأُتي)؛ بضم الهمزة (بقَدَح)؛ بفتحتين (رَحْراح)؛ بفتح الرَّاء، وبالحاءين المهملتين أولاهما ساكنة، بينهما راء، بعدها ألف؛ أي: واسع، ويقال: رحرح أيضًا؛ بحذف الألف، وقال الخطابي: (الرحراح: الإناء الواسع الفم القريب القعر، ومثله لا يسع الماء الكثير، فهو أَدَلُّ على عِظَمِ المعجزة)، وروى ابن خزيمة هذا الحديث عن أحمد بن عبدة عن حماد بن زيد، فقال بدل (رحراح): (زُجاج)؛ بزاي مضمومة وجيمين، وبوَّب عليه بباب (الوضوء من آنية الزجاج)، وفي «مسند أحمد» عن ابن عباس: أنَّ المقوقس أهدى للنبي الأعظم عليه السلام قدحًا من زجاج، لكن في إسناده مقال، كذا في «عمدة القاري»، قال ابن حجر: (وفيه إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أنَّ ذلك إسراف لإسراع الكسر إليه) انتهى، وصرَّح جماعة: بأنَّ أحمد بن عبدة صحَّفها، ويدل له أنَّه قال في روايته: (أحسبه)، وعلى ثبوتها؛ فلا منافاة بين الروايتين؛ لاحتمال أن َّالأولى ذكرت بوصف الهيئة والثاني بذكر الجنس؛ فتأمل، (فيه شيء من ماء)؛ أي: قليل من الماء؛ لأنَّ التنوين للتقليل و (من) للتبعيض، (فوضع)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (أصابعه) الشريفة (فيه)؛ أي: في الماء داخل القدح، (قال أنس)؛ أي: ابن مالك: (فجعلت أنظر إلى الماء ينبع)؛ بتثليث الموحدة، واقتصر في «الفرع» على الضم؛ أي: يفور (من بين أصابعه)؛ أي: أصابع يده اليمنى عليه السلام، (قال أنس) رضي الله عنه: (فحزرت)؛ بتقديم الزاي على الرَّاء، من الحزر، وهو الخرص والتقدير؛ أي: قدَّرت (مَن)؛ بفتح الميم، موصولة، أو نكرة موصوفة في محل نصب على المفعولية (توضأ) راعى في (مَن) لفظها، فأعاد الضمير من (توضأ) عليها مفردًا مذكرًا (منه)؛ أي: من الماء الذي في القدح (ما)؛ بالنصب على الحال، أو مفعول ثان لـ (حزرت)؛ لأنَّه بمعنى: قدرت أو ظننته، أو بدل، والأول أظهر؛ لاحتياج غيره إلى التقدير، وعدمه أولى؛ فليحفظ، (بين السبعين إلى الثمانين) صلة (ما) أو صفتها، وتقدم أنَّهم كانوا ثمانين وزيادة، وسيأتي في (علامات النبوة): (أنهم زهاء ثلاث مئة)، وفي بعض الروايات: (أنهم كانوا خمس عشرة مئة)، وأجاب الكرماني: (بأنَّها قضايا متعددة في مواطن مختلفة وأحوال متغايرة) انتهى، وزعم ابن حجر عن قضية أنس فقط بأنها تنيف على السبعين، ويشك هل بلغت العقد الثامن أو جاوزته؟ انتهى، ولا يخفى أنَّ جواب الكرماني أحسن وأوجه؛ فليحفظ، وقد رمرم العجلوني عبارة ابن حجر مما فيه تحريف، واستوجه جوابه تعصبًا؛ فافهم.
وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة ومعجزة عظيمة من معجزات النبي الأعظم عليه السلام، وهو أبلغ من تفجير الماء من الحجر لموسى عليه السلام؛ لأنَّ في طبع الحجارة أن يخرج منها الماء الغدق الكثير، وليس ذلك في طباع أعضاء بني آدم، وما أحسن ما قيل:
إن كان موسى قد استسقى لهم حجرًا ... فالفخر بالكف ليس الفخر بالحجر
وقال الكرماني: (ووجه المطابقة في الحديث للترجمة أن التور كما قاله الجوهري: «الإناء الذي يُشْرَبُ منه»، وهو صادق على القدح الرحراح) انتهى، وقول العجلوني: (والقدح الرحراح شبيه بالطست، وبه تظهر المناسبة للترجمة)؛ فبعيد، كما لا يخفى.
وقال ابن حجر: (واستدل الشافعي بهذا الحديث على ردِّ من قال من أصحاب الرأي: إنَّ الوضوء مقدر بقدر معين من الماء؛ لأنَّ الصحابة اغترفوا من القدح من غير تقدير؛ لأنَّ الماء النابع لم يكن قدره معلومًا لهم، فدل على عدم التقدير) انتهى.
قلت: وهو استدلال فاسد؛ لأنَّ الماء الذي يتوضأ معيَّنٌ بنص الشارع ومقدَّر، وكذا الغسل، وقوله: (لأن الصحابة ... ) إلخ؛ فيه نظر؛ لأنَّه هل يظهر فرق بين الاغتراف من هذا القدح ومن غيره من الحياض والبرك؟ وقوله: (لأن النابع ... ) إلخ؛ أي: لأجل إظهار المعجزة، ولا يدل هذا على عدم التقدير بدليل أنَّهم لما فرغوا من الوضوء؛ لم يبق في القدح إلا الماء الذي كان قبل وضع أصابعه عليه السلام، فالتقدير في الماءللوضوء والغسل مقدَّر معيَّن بنصِّ الشارع، ولهذا المعنى عقَّب المؤلف هذا الحديث بقوله:
==========
%ص 175%
==================
(1/352)
(47) [باب الوضوء بالمُد]
هذا (باب: الوضوء بالمُدِّ)؛ بضم الميم وتشديد الدَّال، واختلفوا فيه؛ فقال الإمام الأعظم:
%ص 175%
(هو مكيال يسع رطلان بغداديان)، وبه قال فقهاء العراق؛ لما رواه جابر قال: (كان عليه السلام يتوضأ بالمُد رطلين، ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال)، أخرجه ابن عدي، وما رواه أنس قال: (كان عليه السلام يتوضأ بمد رطلين، ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال)، أخرجه الدارقطني، وقال الإمام أبو يوسف والإمام محمد والشافعي وأهل الحجاز: (المد: رطل وثلث بالعراقي)، وقال الإمام أبو يوسف: (الصاع: خمسة أرطال)؛ لما رواه الحافظ الطحاوي عنه، قال: (قدمت المدينة وأخرج إلي من أثق به صاعًا، وقال: هذا صاع النبي عليه السلام، فوجدته خمسة أرطال وثلث)، قال الطحاوي: (وسمعت ابن عمران يقول: الذي أخرجه لأبي يوسف هو مالك)، وقال عثمان بن سعيد الدارمي: (سمعت علي ابن المديني يقول: عثرت على صاع النبي عليه السلام، فوجدته خمسة أرطال وثلث رطل)، وحجة الإمام الأعظم والإمام محمد حديث جابر وأنس رضي الله عنهما.
واختلف هل يُجزِئ الوضوء بأقل من المد، والغسل بأقل من الصاع؟ فقال قوم: لا يُجزِئ أقل منه؛ لورود الخبر به، وقال آخرون: ليس المد والصاع في ذلك بحتم، وإنَّما ذلك إخبار عن القدر الذي كان يكفيه عليه السلام لا أنَّه حد لا يجزئ دونه، وإنَّما قصد به التنبيه على فضيلة الاقتصاد وترك السرف، والمستحب لمن يقدر على الإسباغ بالقليل أن يقلل ولا يزيد على ذلك؛ لأنَّ السرف ممنوع في الشريعة.
==================
(1/353)
[حديث: كان النبي يغسل بالصاع إلى خمسة أمداد]
201# وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النُّون مصغرًا، هو الفضل بن دكين (قال: حدثنا مِسْعَر)؛ بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح العين المهملة، ابن كِدَام _بكسر الكاف وبالدَّال المهملة المخففة_ أبو سلمة الكوفي، ثبت صدوق، قال شعبة: كنا نسمي مسعرًا المصحف؛ لصدقه، المتوفى سنة خمس أو ثلاث وخمسين ومئة (قال: حدثني) بالإفراد (بن جَبْر)؛ بفتح الجيم وسكون الموحدة، والمراد به: سبط جبر؛ لأنَّه عبد الله بن عبد الله بن جبر بن عتيك الأنصاري، ونسبه لجده؛ لشهرته به، قال في «عمدة القاري»: (ومن قاله بالتصغير؛ فقد صحَّف؛ لأنَّ ابن جبير، وهو سعيد لا رواية له عن أنس في هذا الكتاب، وقد روى هذا الحديث الإسماعيلي من طريق أبي نعيم شيخ المؤلف قال: حدثني شيخ من الأنصار يقال له: ابن جبر، ويقال له: جابر بن عتيك) انتهى (قال: سمعت أنسًا)؛ بالتنوين؛ لأنَّه منصرف مفعولًا، قال الكرماني: (وفي رواية: «أنس» بدون الألف منه في الكتابة؛ للتخفيف)، واعترضه في «عمدة القاري»: (بأنه لا بد من التنوين، وإن كان الألف لا تكتب)؛ فافهم. (يقول)؛ أي: أنس بن مالك رضي الله عنه، والجملة محلها النصب على الحال، (كان النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)، وأتى بـ (كان)؛ لإفادتها الدوام والاستمرار، (يغسِل)؛ بكسر السين المهملة؛ أي: جسده الشريف، فمفعول (يغسل) محذوف، (أو كان يغتسل)؛ بزيادة التاء كـ (يفتعل)، والفرق بين الغسل والاغتسال مثل الفرق بين الكسب والاكتساب، كذا في «عمدة القاري» (بالصاع) مكيال يسع ثمانية أرطال بالبغدادي عند العراقيين، وخمسة أرطال وثلث رطل عند الحجازيين، والشك من الراوي، قال الكرماني: (إنَّه من ابن جبر)، وقال ابن حجر: (إنَّه من المؤلف أو من أبي نعيم)، واعترضهما في «عمدة القاري»: (بأنَّ الظاهر أنَّ الشك من الناسخ؛ لأنَّ الإسماعيلي لم يَرْوِهِ بالشك، فَنِسْبَتُهُ إلى المؤلف أو إلى شيخه أو إلى ابن جبر ترجيح بلا مرجح، فلمَ لا يُنسَبُ إلى مِسْعَر؟) انتهى.
وقال الجوهري: (الصاع: هو الذي يكال به، وهو أربعة أمداد إلى خمسة أمداد)، وقال ابن سيده: (الصاع: مكيال لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد، يذكر ويؤنث، وجمعه أصوع، وأصواع، وصيعان، والصواع: كالصاع)، وقال ابن الأثير: (الصاع: مكيال يسع أربعة أمداد، والمد مختلف فيه)، وفي «الجامع»: (تصغيره: صُويع فيمن ذكَّر، وصويعة فيمن أنَّث، وجمع التذكير: أصواع وأصوع، وصوع في التذكير، وأصوع في التأنيث)، وفي «الجمهرة»: (أصوع في أدنى العدد)، وقال ابن بري: (الصواب في جمع صاع: أصوع)، قلت: وأصل الصاع: صوع، قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وفيه ثلاث لغات: صاع، وصوع على الأصل، وصواع، والجمع: أصوع، وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزة، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(إلى خمسة أمداد)؛ يعني: ربما زاد النبي الأعظم عليه السلام الغسل على صاع، فاغتسل بخمسة أمداد، والمد: رطلان، والرطل: مئة وثلاثون درهمًا، وقيل: مئة وثمانية وعشرين درهمًا وأربعة أسباع درهم، وتمامه في «الحلية»، قال شيخ شيخنا: والصاع العراقي: نحو نصف مد دمشقي، وأفاد الحديث: أنَّ التقدير غير لازم حتى من أسبغ بدون ذلك؛ أجزأه، وإن لم يكفه؛ زاد عليه؛ لأنَّ طباع الناس وأحوالهم تختلف، كذا في «البدائع».
(و) كان النبي الأعظم عليه السلام (يتوضأ بالمد) الذي هو ربع الصاع، وعلى هذا؛ فالسنة ألا يَنْقُصَ ماء الوضوء عن مد، والغسل عن صاع، فإذا توضأ واغتسل به؛ فقد حصَّل السنة، وهو الأفضل، بل يغسل بقدر ما لا يؤدي إلى الوسواس، فإن أدى إليه؛ لا يستعمل إلا بقدر الحاجة رغمًا للشيطان، قال في «الخلاصة»: (والتقدير في الوضوء بالمد إذا كان لا يحتاج إلى الاستنجاء، فإن احتاج إليه؛ لا يكفيه، بل يستنجي برطل، أو يتوضأ بالمد، فإن كان لابس الخفين؛ يتوضأ برطل، والحاصل: أنَّ الرطل للاستنجاء، والرطل للقدمين، والرطل لسائر الأعضاء) انتهى.
واعلم أن الوضوء على أربعة أوجه: إمَّا ألَّا يستنجي ويمسح على الخفين، أو يستنجي ويمسح على الخفين، أو لا يستنجي ويغسل الرجلين، أو يستنجي ويغسل الرجلين، أمَّا الأول؛ فيكفيه رطل، وأمَّا الثاني؛ فاثنان؛ واحد للاستنجاء وآخر للوضوء، وأمَّا الثالث؛ فكذلك واحد للرجلين وواحد للبقية، وأدنى ما يكفي من الماء في الغسل في الغالب صاع، وفي الوضوء ربعه؛ وهو المد، وللاستنجاء ثمنه؛ وهو الرطل، وإن أراد أن يمسح على خفيه؛ كفاه في الوضوء رطل، كذا في «منهل الطلاب».
وزعم ابن حجر: (أنَّ أنسًا رضي الله عنه لم يَطَّلِعْ على أنه عليه السلام لم يستعمل في الغسل أكثر من ذلك؛ لأنَّه جعلها النهاية، وسيأتي حديث عائشة: «أنَّها كانت تغتسل هي والنبي عليه السلام من إناء واحد وهو الفَرَق»، وروى مسلم من حديث عائشة أيضًا: «أنه عليه السلام كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد»)، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: أنس رضي الله عنه لم يجعل ما ذكره نهاية لا يتجاوز عنها ولا ينقص عنها، وإنما حكى ما شاهده، والحال يختلف بقدر اختلاف الحاجة، وحديث الفَرَق لا يدل على أن عائشة والنبي عليه السلام كانا [1] يغتسلان بجميع ما في الفَرَق، وغاية ما في الباب أنَّه يدل على أنَّهما كانا يغتسلان من إناء واحد يسمى فَرَقًا، وكونهما يغتسلان منه لا يستلزم استعمال جميع ما فيه من الماء، وكذلك الكلام في ثلاثة أمداد).
وزعم أيضًا ابن حجر: (أنَّ فيه ردًّا على من قدَّر الوضوء والغسل بما ذكر في الحديث كابن شعبان من المالكية ومن قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع)، ورده أيضًا في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: لا ردَّ فيه على من قال به من الأئمة الحنفية؛ لأنَّه لم يقل بذلك على طريق الوجوبكما قال ابن شعبان بطريق الوجوب، فإنه قال: «لا يجزئ أقل من ذلك»، وأمَّا من قال به من الأئمة الحنفية؛ فهو الإمام محمد بن الحسن، فإنَّه روي عنه أنه قال: «إن المغتسِل لا يمكن أن يعمَّ جسده بأقل من مد، وهذا يختلف باختلاف الأجساد والأشخاص»، ولهذا جعل ابن عبد السلام للمتوضئ والمغتسل ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يكون معتدل الخلق كاعتدال خلقه عليه السلام، فيَقْتَدِي به في اجتناب النقص عن المد والصاع، والثانية: أن يكون ضئيلًا ونحيف الخلق بحيث لا يعادل جسده جسده عليه السلام، فيُسْتَحَبُّ أن يغتسل من الماء ما يكون نسبته إلى جسده
%ص 176%
كنسبة المد والصاع إلى جسده عليه السلام، والثالث: أن يكون متفاحش الخلق طولًا وعرضًا، وعظم البطن، وثخانة الأعضاء، فيستحب ألَّا ينقص عن مقدار يكون النسبة إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى النبي عليه السلام).
ثم قال: (واعلم أن الروايات مختلفة في هذا الباب، ففي رواية أبي داود من حديث عائشة: «أنه عليه السلام كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد»، ومن حديث جابر كذلك، ومن حديث أم عمارة: «أنَّه عليه السلام توضأ، فأتي بإناء فيه ماء قدر ثلثي المد»، وفي رواية عن أنس: «أنه عليه السلام كان يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع»، وفي رواية ابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما»، والحاكم في «مستدركه» من حديث عبد الله بن زيد: «أنَّه عليه السلام أتي بثلثي مد من ماء، فتوضأ، فجعل يدلك ذراعيه»، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، وقال الثوري: «حديث أم عمارة حسن»، وفي رواية مسلم من حديث عائشة: «كانت تغتسل هي والنبي عليه السلام من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد»، وفي رواية: «من إناء واحد تختلف أيدينا فيه»، وفي رواية: «فدعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت فيه»، وفي أخرى: «كانت تغتسل بخمسة مكاكيك وتتوضأ [2] بمكوك»، وفي أخرى: «يغسله عليه السلام الصاع ويوضئه المد»، وفي أخرى: «يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد»، وفي رواية المؤلف: «نحوًا من صاع»، وفي لفظ: «من قدح يقال له: الفَرَق»، وعند النسائي: «نحو ثمانية أرطال»، وفي «مسند أحمد بن منبع»: «حزرته ثمانية أو تسعة أو عشر أرطال»، وعند ابن ماجه بسند ضعيف، عن عقيل، عن أبيه قال عليه السلام: «يجزئ من الوضوء مد ومن الغسل صاع»، وكذا رواه الطبراني في «الأوسط» من حديث ابن عباس، وعند أبي نعيم في «المعرفة» من حديث أم سعيد بنت زيد بن ثابت ترفعه: «الوضوء مد والغسل صاع») انتهى.
قلت: وليس معنى الحديث على التوقيت: أنَّه لا يجوز أكثر منه ولا أقل منه، بل هو تقدير أدنى الكفاية عادة، وليس بلازم حتى من أسبغ بدون ذلك؛ أجزأه، وإن لم يكفه؛ زاد عليه؛ لأنَّ طباع الناس وأحوالهم تختلف، كما في [ما] قدمناه عن «البدائع».
والجمع بين هذه الروايات: أنَّها كانت اغتسالات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله وأقله، فدل ذلك على أنَّه لا حدَّ في قدر ماء الطهارة يجب استيفاؤه، والإجماع قائم على ذلك، فالقلة والكثرة باعتبار الأشخاص والأحوال؛ فليحفظ.
وقال في «عمدة القاري»: (والفَرَق: بفتح الفاء وفتح الرَّاء، وقال أبو زيد: «بفتح الرَّاء وسكونها»، وزعم النووي أن الفتح أفصح، وزعم الباجي أنَّه الصواب، وليس كما قال، بل هما لغتان، وقال ابن الأثير: «الفرق _بالتحريك_ يسع ستة عشر رطلًا، وهي ثلاثة أصوع، وقيل: الفرق: خمسة [أقساط]، وكل قسط نصف صاع، وأما الفرْق _بالسكون_ فمئة وعشرون رطلًا»، وقال أبو داود: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: «الفرق: ستة عشر رطلًا، والمكوك: إناء يسع المد المعروف عندهم»، وقال ابن الأثير: «المكوك: المد، وقيل: الصاع»، والأول أشبه؛ لأنَّه جاء في الحديث مفسرًا بالمد، وقال أيضًا: «المكوك: اسم للمكيال، ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد، ويجمع على مكاكي؛ بإبدال الياء من الكاف الأخيرة، ويجيء أيضًا على مكاكيك»)، انتهى، والله تعالى أعلم.
اللهم إنِّي أسألك بالنبي الأعظم عليه السلام وبآله وأصحابه رضي الله عنهم أن تفرِّج عنا وعن المسلمين، وأن تكشف عنَّا وعنهم الهموم والأحزان، وتبدلها أمنًا وسرورًا برحمتك يا أرحم الراحمين؛ لأنَّ في يوم الاثنين العاشر صفر سنة سبع وسبعين سكَّروا أبواب البلد، ووضعوا العساكر في الأسواق والطرقات، ومسكوا النظام، ففرَّ من فرَّ، وقرَّ من قرَّ، وضجَّ من ضجَّ، وهجَّ من هجَّ، وعزم من عزم، ودعا من دعا، وكبَّر من كبَّر، وأغلق من أغلق، وبات الناس في كرب عظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إنَّه على ما يشاء قدير، وأستغفر الله العظيم.
==========
[1] في الأصل: (كان).
[2] في الأصل: (يتوضأ).
==================
[1] في الأصل: (كان).
[1] في الأصل: (كان).
(1/354)
(48) [باب المسح على الخفين]
هذا (باب) جواز (المسح على الخفين) في الوضوء بدلًا عن غسل الرجلين، وإنَّما عبَّر بـ (الخفين)؛ إشارةً إلى أنه لو لبس خفًّا واحدة؛ لا يجوز عليها المسح، لكن إذا كانت إحدى رجليه مقطوعة مما فوق الكعب؛ فإنه يجوز كما أفصح به في «الينابيع» وغيره، وإنما قال: (على الخفين)؛ إشارةً إلى أنَّ المسح لا يكون إلا على ظاهرهما، وإنَّما سمِّي الخف خفًّا؛ لأنَّه من الخفة؛ لأنَّ الحكم خفَّ به من الغسل إلى المسح، كما في «البحر» و «السراج»، قلت: وفيه أنَّه يقتضي حصول التسمية حين المشروعية مع أن اللغة سابقة على ورود الشرع، وقد قال العلامة خير الدين الرملي الحنفي: المسح على الخفين من خصائص هذه الأمة، فكيف يعلل للوضع السابق عليه؟ وقد يجاب: بأنَّ الواضع هو الله تعالى، كما هو قول الأشعري، وهو تعالى عالم بما يشرعه على لسان نبيه الأعظم عليه السلام؛ فليحفظ.
وهو في اللغة: إمرار اليد على الشيء، واصطلاحًا: عبارة عن رخصة مقدرة جُعِلَتْ للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها، كذا في «البحر»، واعترضه في «النهر» وقال: (الأولى أن يقال: هو إصابة اليد المبتلة الخف أو ما يقوم مقامها في الوضع المخصوص في المدة الشرعية) انتهى، وهو شامل لما لو كان المسح باليد أو الخرقة ونحوهما كالمطر.
وإنَّما قلنا بالجواز؛ للإشارة إلى أنَّ المسح غير واجب؛ لأنَّ العبد مخيَّر بين فعله وتركه، كذا قالوا، وينبغي أن يكون المسح واجبًا في مواضع؛ منها: إذا كان معه ماء لو غسل به رجليه؛ لا يكفي وضوءَه، ولو مسح على الخفين؛ يكفيه، فإنَّه يتعين عليه المسح، ومنها: ما لو خاف خروج الوقت لو غسل رجليه؛ فإنه يمسح، وتمامه في «منهل الطلاب».
==================
(1/355)
[حديث سعد في مسح النبي على الخفين]
202# وبه قال: (حدثنا أَصْبَغ)؛ بفتح الهمزة، وسكون الصَّاد المهملة، وفتح الموحدة، آخره معجمة، أبو عبد الله (بن الفَرَج)؛ بفتح الفاء والرَّاء آخره جيم، الفقيه القرشي المصري، المصطعلك بالفقه والنظر، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين (عن ابن وَهب)؛ بفتح الواو: هو عبد الله القرشي المصري، ولم يكن في المصريِّين أكثر حديثًا منه، طُلِبَ للقضاء؛ فجنن نفسه، وانقطع، وكان أصبغ ورَّاقًا له (قال: حدثني)، وفي رواية: (أخبرني)؛ بالإفراد فيهما (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة؛ أي: ابن الحارث، كما في روايةٍ، أبو أمية المؤدب الأنصاري المصري القارئ الفقيه، المتوفى بمصر سنة ثمان وأربعين ومئة (قال: حدثني) بالإفراد (أبو النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون المعجمة، سالم بن أبي أمية القرشي المديني، مولى عمر بن عبد الله التيمي وكاتبه، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئة، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام؛ أي: عبد الله (بن عبد الرحمن)؛ أي: ابن عوف القرشي الفقيهالمدني، (عن عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما، (عن سعْد) بسكون العين المهملة (بن أبي وقَّاص)؛ بتشديد القاف وبالصَّاد المهملة، أحد العشرة رضي الله عنه.
قال في «عمدة القاري»: وهذا من مسند سعد بحسب الظاهر، وكذا جعله صاحب «الأطراف»، ويحتمل أن يكون من مسند عمر أيضًا، وقال الدارقطني: (رواه أبو أيوب الأفريقي، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، عن عمر وسعد عن النبي عليه السلام)، ثم قال الدارقطني: (والصواب: قول عمرو بن الحارث، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، عن سعد (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أنَّه مسح على الخفين)؛ بشروط؛ منها: لبسهما بعد غسل الرجلين، ومنها: سترهما للكعبين، ومنها: إمكان متابعة المشي فيهما، ومنها: خلوُّ كل منهما عن خرق قدر ثلاث أصابع، ومنها: استمساكهما على الرجلين من غير شدٍّ، ومنها: منعهما وصول الماء إلى الجسد، ومنها: أن يبقى من مُقدَّم القدم قدر ثلاث أصابع، كما هو مبسوط في كتب الفروع، ففيه دليل على ثبوته بالسنة، وقيل: إنَّه ثبت بالكتاب؛ عملًا بقراءة الجر، فإنها لمَّا عارضت قراءة النصب؛ حُمِلَتْ على ما إذا كان متخففًا، وحُمِلَتْ قراءة النصب على ما إذا لم يكن متخففًا، واختاره في «غاية البيان»، وقال الجمهور: إنَّه لم يثبت بالكتاب بدليل قوله: {إِلَى الكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]؛ لأنَّ المسح غير مُقَدَّرٍ بها بالإجماع، والصحيح أنَّه ثابت بالسنة، كما في «البحر» عن «المستصفى»، واختاره الجمهور، وحملوا قراءة الجر عطفًا على المغسول، والجر؛ للجوار، وقد جاءت السنة بجوازه قولًا وفعلًا، فمُنْكِرُهُ مبتدع، وقال صاحب «البدائع»: (المسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة إلا شيئًا روي عن ابن عباس: «أنه لا يجوز»، وهو قول الرافضة والخوارج)، ثم قال: (وروي عن الحسن البصري أنَّه قال: «أدركت سبعين صحابيًّا كلهم يرى المسح على الخفين»، وقال الإمام الأعظم: «ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل فلق الصبح»، وروي: «مثل ضوء النهار»، فكان الجحود ردًّا على كبار الصحابة رضي الله عنهم، ونسبته إياهم إلى الخطأ، فكان [1] بدعة)، وقال شيخ الإسلام: (والدليل على أنَّ
%ص 177%
مُنْكِرَ المسح ضالٌّ مبتدع ما روي عن الإمام الأعظم: أنَّه سُئِلَ عن مذهب أهل السنة والجماعة، فقال: هو أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وترى المسح على الخفين)، وقال الإمام الكرخي: قال الإمام الأعظم: أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين؛ لأنَّ الآثار التي جاءت فيه في حيِّز التواتر، وقال الإمام أبو يوسف: خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به؛ لشهرته، وعلى قياس قوله؛ يكفر جاحده؛ لأنَّ المشهور عنده بمنزلة المتواتر، وعلى قول الإمام الأعظم؛ لا يكفر؛ لأنَّه بمنزلة الآحاد عنده.
وقال البيهقي: (وإنَّما جاء كراهة ذلك عن علي، وابن عباس، وعائشة، فأمَّا الرواية عن علي؛ فلم يرد عنه بإسناد موصول يثبت مثله، وأما عائشة؛ فثبت عنها أنَّها أحالت ذلك على علي رضي الله عنهما، وأمَّا ابن عباس؛ فإنَّما كرهه حين لم يثبت مسحه عليه السلام بعد نزول «المائدة»، فلما ثبت؛ رجع إليه)، وقال في «الموضوعات»: (إنكار عائشة غير ثابت عنها)، وقال الكاساني: وأمَّا الرواية عن ابن عباس؛ فلم تصح؛ لأنَّ مداره على عكرمة، وروي أنَّه لما بلغ عطاء؛ قال: كذب عكرمة، وروي عن عطاء أنَّه قال: (كان ابن عباس يخالف الناس في المسح على الخفين، فلم يمت حتى تابعهم).
وفي «المغني» لابن قدامة: قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء أفضل؛ يعني: من الغَسْل؛ لأنَّه عليه السلام وأصحابه إنَّما طلبوا الفضل، وقد تكاثرت الروايات بالطرق المتعددة من الصحابة الذين كانوا لا يفارقون النبي الأعظم عليه السلام في الحضر ولا في السفر، فجرى ذلك مجرى التواتر، وحديث المغيرة كان في غزوة تبوك، فسقط بهذا قول من يقول: آية الوضوء مدنية، والمسح منسوخ بها؛ لأنَّه متقدم؛ لأنَّ غزوة تبوك آخر غزواته عليه السلام، و «المائدة» نزلت قبلها، وممَّا يدل على أنَّ المسح غير منسوخ حديث جرير: (أنَّه رأى النبي الأعظم عليه السلام مسح على الخفين، وهو أسلم بعد «المائدة»، وكان القوم يعجبهم ذلك)، وأيضًا فإن حديث المغيرة في المسح كان في السفر، فيعجبهم استعمال جرير له في الحضر، وقال النووي: (لما كان إسلام جرير متأخرًا؛ علمنا أن حديثه يُعْمَلُ به، وهو مبين أن المراد بآية «المائدة» غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة للآية)، وقال الخطابي: (فيه دليل: على أنَّهم كانوا يرون نسخ القرآن بالسنة)، وفي «الهداية»: (الأخبار فيه مستفيضة حتى أنَّ من لم يره؛ كان مبتدعًا، لكن من رآه، ثم لم يمسح أخذًا بالعزيمة؛ كان مأجورًا)، وفي «جامع الفتاوى»: المسح على الخفين أفضل من الغسل؛ أخذًا بالأيسر، وقيل: الغسل أفضل؛ أخذًا بالعزيمة والمشقة، وفي «المجتبى» عن الإمام الترجماني: أنَّ المسح أفضل من الغسل؛ أخذًا بالأيسر، وما ذكره في «الهداية» من أنَّ الغسل أفضل صرَّح به شيخ الإسلام في «المبسوط» لكن بشرط أن يرى جوازه، قال في «التوشيح»: وهذا مذهبنا، وهو الصحيح، كما في «الأجناس»، حتى أنَّ الباني إذا نزع خفيه وغسل رجليه قبل تمام مدة المسح؛ يمضي عند الإمام محمد، وهو رواية عن الإمام الأعظم، ولو لم يكن الغسل أفضل؛ لبطل البناء، انتهى.
وقال الشيخ أبو الحسن الرستغفني: (إنَّ المسح أفضل، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وهو قول الشعبي، وحماد، والحاكم، والشافعي، وإسحاق، إمَّا لنفي التهمة عن نفسه؛ لأنَّ الروافض والخوارج لا يرونه، وإمَّا للعمل بقراءة النصب والجر) انتهى.
فعلى هذا ينبغي أن يقال: إنَّ من يعتقد جوازه وليس بحضرة من يتهمه؛ فالغسل أفضل، وإن كان بحضرة من لم يره؛ فالمسح أفضل رغمًا له، كذا في «منهل الطلاب»، واختلفت الرواية عن مالك؛ فروي عنه: (أنه لا يجوز المسح أصلًا)، كما هو قول الروافض والخوارج، وفي رواية: (أنه يجوز لكنه مكروه)، والمشهور: أنه يجوز أبدًا غير مؤقت، وفي رواية: (أنه يجوز بتوقيت)، وفي رواية: (يجوز للمسافر دون المقيم)، وفي رواية: بالعكس، وقال ابن المنذر: الغسل والمسح سواء، وهو رواية عن أحمد، وقال أصحاب الشافعي: الغسل أفضل من المسح بشرط ألَّا يُترَك المسح رغبة عن السنة، ولا شك في جوازه، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا من الفقهاء روي عنه إنكار المسح إلا مالكًا، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك، واعترضه في «عمدة القاري»: بأن فيه نظر؛ لما في «مصنف ابن أبي شيبة»: من أنَّ مجاهدًاوسعيد بن جبير وعكرمة كرهوه، وكذا حكى أبو الحسن النسابة عن محمد بن علي بن الحسن، وأبي إسحاق السبيعي، وقيس بن الربيع، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن أبي داود، والخوارج، والروافض، وقال الميموني عن أحمد: فيه سبعة وثلاثون صحابيًّا، وفي رواية الحسن بن محمد عنه: أربعون، وكذا قاله البزار في «مسنده»، وقال ابن أبي حاتم: أحد وأربعون صحابيًّا، وفي «الأشراف»: عن الحسن حدثني به سبعون صحابيًّا، وقال أبو عمر [2] بن عبد البر: مسح على الخفين سائر أهل بدر والحديبية، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين، وقد أشرنا إلى رواية [3] ستة وخمسين من الصحابة في شرحنا لـ «معاني الآثار» للحافظ الطحاوي، فمن أراد الوقوف عليه؛ فليرجع إليه، قاله في «عمدة القاري».
(وأنَّ عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما، قال في «عمدة القاري»: (عطف على قوله: «عن عبد الله»، فيكون موصولًا إن حُمِلَ على أن أبا سلمة سمع ذلك من عبد الله، وإلا؛ فأبو سلمة لم يُدْرِكِ القصة) انتهى، لكن قول الكرماني: (هذا إمَّا تعليق من المؤلف، وإمَّا كلام أبي سلمة، والظاهر: الثاني)، يؤيد سماع أبي سلمة من عبد الله، ومثله ما أخرجه أحمد من طريق أخرى: عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن ابن عمر قال: رأيت سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه بالعراق حين توضأ، فأنكرت ذلك عليه، فلما اجتمعنا عند عمر؛ قال لي سعد: سل أباك ... ؛ وذكر القصة، ورواه ابن [4] خزيمة من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر نحوه، وفيه: أنَّ عمر قال: كنا ونحن مع نبينا عليه السلام نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسًا، وقوله: (سأل)؛ أي: عبد الله (عمر)؛ أي: والده (بن الخطاب) كما ثبت للأصيلي (عن ذلك)؛ أي: عن مسح النبي الأعظم عليه السلام على الخفين، خبر (أنَّ)، (فقال)؛ أي: عمر عطف على (سأل): (نعم)؛ أي: مسح النبي الأعظم عليه السلام على الخفين.
وقوله: (إذا حدثك شيئًا): نكرة عامة؛ لأنَّ الواقع في سياق الشرط كالواقع في سياق النفي يفيد العموم، كما في «عمدة القاري» (سعْد)؛ بسكون العين؛ أي: ابن أبي وقاص، وهو بالرفع فاعل (حدثك) (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم فلا تسأل): وفي رواية: (فلا تسل) (عنه)؛ أي: عن ذلك الشيء الذي حدثه سعد (غيره)؛ أي: غير سعد؛ لقوة وثوقه بنقله، من كلام عمر مستأنف استئنافًا بيانيًّا.
ففيه: تعظيم سعد رضي الله عنه.
وفيه: دليل على وجوب العمل بخبر الواحد وإن كان ظنيًّا، وأنَّ عمر يكتفي بخبره، وما نُقِلَ عنه من توقفه في خبر الواحد؛ فذاك عند وقوع ريبة في خبره، مع أنه قد يصير الخبر محفوفًا بالقرائن، فيفيد اليقين؛ لقيام تعدد القرائن مقام تعدد الأشخاص، وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال بأن يقال: لم نهاه عن السؤال عن غيره؟ أو هو كناية عن تصديقه؛ لأنَّ المصدق لا يسأل غيره، وإنما أنكر ابن عمر ذلك مع قدم صحبته؛ لخفائه عليه، أو لأنَّه أنكر عليه مسحه في الحضر، كما هو ظاهر رواية مالك في «الموطأ»: أن ابن عمر قدم الكوفة على سعد وهو أميرها، فرآه يمسح على الخفين، فأنكر عليه، فقال له سعد: سل أباك؛ فذكر القصة، وأمَّا في السفر؛ فكان ابن عمر يعلمه ويرويه عن النبي الأعظم عليه السلام، كما رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه الكبير»، وابن أبي شيبة في «مصنفه» من رواية سالم عنه قال: رأيت النبي الأعظم عليه السلام يمسح على الخفين بالماء في السفر، أفاده في «عمدة القاري».
(وقال موسى بن عُقْبة)؛ بضم العين المهملة وسكون القاف: التابعي صاحب «المغازي»، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة، وهذا التعليق إمَّا من المؤلف؛ فيكون عطفًا على (حدثنا أصبغ)، وإمَّا من كلام ابن وهب؛ فيكون عطفًا على (حدثني عمرو)، قاله الكرماني.
%ص 178%
قلت: وجزم بالأول صاحب «عمدة القاري»، ويؤيِّده ما في بعض النسخ من قوله: (قال: أبو عبد الله)، وقد وصله الإسماعيلي، والنسائي، وغيرهما بهذا الإسناد؛ فليحفظ.
(أخبرني) بالإفراد (أبو النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون المعجمة، سالم: (أن أبا سلَمة)؛ بفتح اللام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف (أخبره: أن سعْدًا)؛ بسكون العين المهملة؛ أي: ابن أبي وقاص رضي الله عنه، وجملة: (حدثه)؛ أي: حدث أبا سلمة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين)؛ خبر (أن)، وقد سقطت من نسخة صاحب «عمدة القاري»، فلذا قال: (خبر «أن» محذوف؛ تقديره: أن سعدًا حدث أبا سلمة أن رسول الله عليه السلام مسح على الخفين)، ومثله قال الكرماني، ووقع في نسخة ابن حجر حذف ما بعد (حدثه)، فلذا قال: (والمُحَدَّثُ به محذوف تبيَّن من الرواية الموصولة أن لفظ: «أن رسول الله عليه السلام مسح على الخفين»؛ فاعرفه)، وقد جرى عليه القسطلاني.
(فقال عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنه، عطف على (حدثه) الموجود أو المقدر على اختلاف النسخ (لعبد الله)؛ أي: ولده (نحوَه)؛ بالنصب مقول القول؛ أي: نحو ما تقدم في الرواية السابقة من قوله: (إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا تسأل عنه غيره)، فقول عمر في هذه الرواية المعلقة بمعنى الموصولة السابقة لا بلفظها، ورواه الإسماعيلي بلفظ: (وقال عمر لابنه وكان يلومه: إذا حدث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا تبغ وراء حديثه شيئًا)، وقال الإسماعيلي: (ورواية عروة وأبي سلمة عن ابن عمر في المسح صحيح)، قال: (وسألت البخاري عن حديث ابن عمر في المسح مرفوعًا، فلم يعرفه)، وتمامه في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (لكان)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (رواة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/356)
[حديث المغيرة في المسح على الخفين]
203# وبه قال: (حدثنا عَمرو) بفتح العين المهملة (بن خالد): بن فَرُّوخ؛ بفتح الفاء، وضم الراء المشددة، آخره خاء معجمة: أبو الحسن (الحَرَّاني)؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد الرَّاء، وبعد الألف نون، نسبة إلى حران، قال الكرماني: (موضع بالجزيرة بين العراق والشام)، ورده في «عمدة القاري»: (بأنه ليس كما قال، بل هي مدينة قديمة بين دجلة والفرات، كانت تعدل ديار مصر، واليوم خراب، وقيل: هي مولد إبراهيم عليه السلام، ويوسف وإخوته عليهم السلام، وقال ابن الكلبي: (لما خرج نوح عليه السلام من السفينة؛ بناها، وقيل: إنَّما بناها هاران خال يعقوب عليه السلام، فأبدلت العرب الهاء حاء، فقالوا: حران) انتهى وفي ديارنا الشريفة الشامية قرية بأرض المرج تسمى حران، وبها قبر سيدنا حيا الحراني، وفي مسجده بئر عظيم ماؤه يشابه ماء زمزم في حلاوته وعذوبته، وبالقرية أعمدة سود كبار، ليس عليها بناء، وتنسب القرية إليها، فيقال: حران العواميد، والله تعالى أعلم، (قال: حدثنا الليث)؛ بالمثلثة؛ أي: ابن سعْد؛ بسكون العين المهملة، من أتباع الإمام الأعظم رضي الله عنه، (عن يحيى بن سعِيْد)؛ بكسر العين بعدها تحتية ساكنة، الأنصاري، (عن سعْد) بسكون العين (بن إبراهيم)؛ أي: ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، (عن نافع بن جُبير)؛ بضم الجيم مصغرًا؛ أي: ابن مطعم، (عن عُروة) بضم العين (بن المُغيرة)؛ بضم الميم؛ أي: ابن شعبة رضي الله عنه، (عن أبيه المغيرة بن شُعْبة)؛ بضم الشين المعجمة وسكون العين، الصحابي الجليل رضي الله عنهما، (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج لحاجته)؛ أي: لقضائها، وذلك في غزوة تبوك _بلا تردد_ عند صلاة الفجر، كما في «الموطأ»، و «مسند أحمد»، و «سنن أبي داود» من طريق عباد بن زياد، عن عروة بن المغيرة، لكن في (المغازي): «أنه كان في غزوة تبوك» على تردُّد من بعض رواته، أفاده في «عمدة القاري»، (فاتَّبعه المغيرة) من الاتِّباع _بتشديد الفوقية_ من باب (الافتعال)، وفي رواية: (فأتبعه) من الإتباع _بتخفيف المثناة الفوقية_ من باب (الإفعال) (بإداوة)؛ بكسر الهمزة، وقد تفتح؛ أي: بمطهرة (فيها ماء) للوضوء، وعند المؤلف من طريق مسروق عن المغيرة في (الجهاد) وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره أن يتبعه بالإداوة)، وزاد: (حتى توارى عني فقضى حاجته ثم أقبل فتوضأ)، وعند أحمد من طريق أخرى عن المغيرة: أن الماء الذي توضأ به أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة كانت جلد ميتة، وأن النبي عليه السلام قال: «سلها إن كانت دبغتها؛ فهو طهور»، وأنها قالت: والله دبغتها، كذا في «عمدة القاري».
(فصبَّ)؛ بالصَّاد المهملة؛ أي: المغيرة (عليه) عليه السلام (حين فرغ)؛ أي: وقت فراغه (من حاجته)، لكن بعد عوده منها، فكأنه عليه السلام قد استنجى بالأحجار، (فتوضأ)، فغسل وجهه ويديه، كما في رواية باب (الرجل يوضئ صاحبه)، وزاد في (الجهاد) المؤلف: (وعليه جُبَّةُ شامية)، وفي رواية «أبي داود»: (من صوف من جباب الروم)، وللمؤلف في (الجهاد) أيضًا: (أنه تمضمض واستنشق وغسل وجهه _زاد أحمد في «مسنده»: ثلاث مرات_، فذهب يخرج يديه من كميه، فكانا ضيقين، فأخرجهما من تحت الجبة)، ولمسلم من وجه آخر: (وألقى الجبة على منكبيه)، ولأحمد: (فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات)، وفي رواية أخرى للمؤلف: (ومسح برأسه)، وفي رواية مسلم: (ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين)، وبما تقدر ظهر أن المراد بقوله: (فتوضأ)؛ أي: بالكيفية المذكورة لا أنه غسل رجليه ومسح خفيه، كما توهمه الكرماني، فاخترع [1] سؤالًا وجوابًا، وذهل عن هذه الروايات، كما نبه عليه في «عمدة القاري».
(ومسح على الخفين)؛ أي: بدلًا عن غسل الرجلين؛ للإجماع على عدم وجوب الجمع بين الغسل والمسح، بل على عدم جوازه، ويفهم من قوله: (على الخفين) عدم جواز المسح على أسفلهما، وعقبهما، وساقهما، وجوانبها، وهو كذلك عن الجمهور؛ لحديث علي رضي الله عنه: (لو كان الدين بالرأي؛ لكان أسفل الخف أولى بالمسح عليه من ظاهره، وقد رأيت رسول الله عليه السلام يمسح على الخفين على ظاهرهما)، رواه أبو داود، وأحمد، والترمذي وقال: (حديث حسن صحيح).
والسنة عند الشافعي ومالك: مسح أعلى الخف وأسفله؛ لما روي: (أنه عليه السلام مسح أعلى الخف وأسفله)، وقد ضعَّفه أهل الحديث، وقال الحفَّاظ: (إنه شاذ لا يُعْتَدُّ به، ولا يعارض الصحيح، وإن صحَّ؛ يُحْمَلُ على الاستحباب.
والسنة في مسحهما أن يضع أصابع يده اليمنى على مقدَّم خفِّه الأيمن، وأصابع يده اليسرى على مقدَّم خفِّه الأيسر من قبل الأصابع، فإذا تمكَّنت الأصابع؛ يمدَّها حتى ينتهي إلى أصل الساق فوق الكعبين؛ لأنَّ الكعبين يلحقهما فرض الغسل ويلحقهما سنة المسح، وإن وضع الكفين مع الأصابع؛ كان أحسن، هكذا روي عن الإمام محمد، كما في «البحر» عن «شرح الجامع» لقاضيخان.
قال في «منهل الطلاب»: والتيامن فيه مسنون؛ لأنَّه عليه السلام كان يحبُّ التيامن في شأنه كله حتى في تنعله وترجله، ولا يخفى أن مسح الخفين طهارة ووسيلة للعبادة، فيسَنُّ فيه التيامن؛ لأنَّه لا يكون أحط رتبة من التنعُّل والترجُّل، بل المسح أشرف منهما، ولا يستحبُّ استيعاب الخفين بالمسح على المعتمد، كما في عامَّة المعتبرات، وقال بعض المشايخ: يستحب الجمع بين الظاهر والباطن، وهو ضعيف، وإن مشى عليه في «الدر» تبعًا «للنهر»، كما أوضحه في «منهل الطلاب»، ولا يسنُّ تكراره كمسح الرأس، كما في «البحر»، و «النهر»، و «الخلاصة»، لكن يسن إظهار الخطوط، كما في «البحر» وغيره.
وفي الحديث: جواز الاستعانة بغيره.
وفيه: جواز الانتفاع بجلود الميتات إذا كانت مدبوغات.
وفيه: جواز الانتفاع بثياب الكفار حتى تتحقق نجاستها؛ لأنَّه عليه السلام لبس الجبة الرومية، واستدل به القرطبي على أن الصوف لا يتنجَّس بالموت؛ لأنَّ الجبة كانت شامية، وكان الشام إذ ذاك دار كفر، ومأكول أهلها الميتات.
وفيه: الردُّ على من زعم أن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء التي في (المائدة)؛ لأنَّها نزلت في غزوة المريسع، وكانت هذه القضية في غزوة تبوك، وهي بعدها بلا خلاف.
وفيه: التشمير في السفر، ولبس الثياب الضيِّقة فيه؛ لكونها أعون على ذلك.
وفيه: قبول خبر الواحد في الأحكام ولو كانت امرأة سوداء كان ذلك فيما تعم به البلوى أم لا؛ لأنَّه عليه السلام قبل خبر الأعرابية.
وفيه: استحباب التواري عن أعين الناس عند قضاء الحاجة والإبعاد عنهم.
وفيه: جواز خدمة السادات بغير إذنهم.
وفيه: استحباب الدوام على الطهارة؛ لأنَّه عليه السلام أمر المغيرة أن يتَّبعه بالماء؛ لأجل الوضوء.
وفيه: أن الاقتصار على غسل معظم المفروض غسله لا يجوز؛ لإخراجه عليه السلام يده من تحت الجبة ولم يَكْتَفِ بما بقي، كذا قرَّره في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (فاخترق)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 179%
==================
(1/357)
[حديث عمرو بن أمية: أنه رأى النبي يمسح على الخفين]
204# وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النُّون: الفضل بن دكين (قال: حدثنا شَيبان)؛ بفتح المعجمة: ابن عبد الرحمن النحوي، (عن يحيى)؛ أي: ابن أبي كثير؛ بالمثلثة، التابعي الصغير، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن جعفر بن عَمرو) بفتح العين المهملة (بن أمية الضَّمري)؛ بالضَّاد المعجمة المفتوحة: أخو عبد الملك بن مروان من الرضاعة، من التابعين، المتوفى سنة خمس وتسعين: (أن أباه)؛ أي: عمرو المذكور، شهد بدرًا وأحدًا مع المشركين، وأسلم حين انصراف المشركين عن أحد،
%ص 179%
وكان من رجال العرب نجدة وجرأة، بعثه النبي الأعظم عليه السلام إلى النجاشي بكتاب يدعوه إلى الإسلام، فأسلم على يديه، المتوفى بالمدينة سنة ستين (أخبره: أنه رأى النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين) في الوضوء، فلا يجوز المسح عليهما في الغسل للجنابة، والحيض، والنفاس، كما أوضحه في «منهل الطلاب» مع كلام فيه؛ فافهم.
وفرض المسح: مقدار ثلاثة أصابع طولًا وعرضًا، كما في «الدر» و «شرح المنية»؛ يعني: فرضه قدر طول الثلاث أصابع وعرضها، قال في «البحر»: (ولو مسح بثلاث أصابع منصوبة غير موضوعة ولا ممدودة؛ لا يجوز بلا خلاف بين أئمتنا)، كذا في «البدائع»، إلا إذا كان الماء متقاطرًا بحيث يبتل من الخف قدر الفرض؛ فيجوز، كذا في «المحيط» و «الذخيرة»، وأشار بذكر المقدار إلى أن الأصابع غير شرط، وإنما الشرط قدرها، كما في «الشرنبلالية»، لكن المسنون هو المسح بالأصابع، فإذا مسح بغيرها كخرقة، أو إصابة ماء، أو مطر قدر الفرض؛ أجزأه عن المسح، ولم يحصِّل السنة، كذا في «الإمداد»، وأفاد أن الفرض هو ذلك المقدار من كل رِجل على حدة حتى لو مسح على إحدى رجليه مقدار إصبعين، وعلى الأخرى مقدار خمسة أصابع؛ لم يجز، كما في «النهر».
ولا يفتقر مسح الخف إلى النية، كما في «فتح القدير»، فلو توضأ ومسح الخف ونوى به التعليم دون الطهارة؛ يصح، كذا في «الخلاصة»، وتمامه في «منهل الطلاب».
والمراد بالأصابع: أصابع اليد، كما قاله الإمام أبو بكر الرازي، كما في «الخلاصة» و «شرح المنية»، وفي «الاختيار»: (أنه قول الإمام محمد)، وقال الإمام الكرخي: (ثلاث أصابع من أصابع الرجل)، والأول: هو الأصح، كما في «النهر» عن «البدائع»، ومشى عليه في عامة المعتبرات، وقيدها الإمام قاضيخان بكونها من أصغر أصابع اليد، وتبعه في «الدر المختار»، و «إمداد الفتاح»، وقال الإمام زفر: لو مسح بإصبع أو إصبعين؛ يجوز، وهو إحدى الروايتين عن الإمام الأعظم، والأول الأصح، كما في «البحر»، وهو المختار، كما في «المجتبى».
(قال: أبو عبد الله) أي: المؤلف: (تابعه)، وفي رواية: (وتابعه)؛ بالواو؛ أي: تابع شيبانَ بن عبد الرحمن المذكور، (حربٌ)؛ أي: ابن شداد _بالحاء المهملة_، منقول عن ضد الصلح، و (حربٌ)؛ بالرفع فاعل (تابعه)، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى (شيبان)، وقد وصله النسائي، عن عباس العنبري، عن عبد الرحمن، عن حرب، عن يحيى، عن أبي سلمة، وتوفي حرب سنة إحدى وستين ومئة، وكان بصريًّا حافظًا ثقة، و (أَبَان) عطف على (حرب)، وهو أبان بن يزيد العطار البصري، المتوفى في حدود المئة والستين، وهو بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة، بالصرف وعدمه، فمن صرفه؛ جعل الهمزة أصلية والألف زائدة، فوزنه (فعال)، ومن منعه؛ عكس، فقال: الهمزة زائدة والألف بدل من الياء؛ لأنَّ أصله (بيَّن) ووزنه (أفعل)، وقد وصله الطبراني في «معجمه الكبير» عن محمد بن يحيى بن المنذر القزاز، عن موسى بن إسماعيل، عن أبان بن يزيد، (عن يحيى)؛ أي: ابن أبي كثير إلى آخر السند السابق.
==================
(1/358)
[حديث عمرو بن أمية: أنه رأى النبي يمسح على عمامته وخفيه]
205# وبالسند قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين المهملة وسكون الموحدة، لقب عبد الله بن عثمان العتكي الحافظ (قال: أخبرنا عبد الله)؛ أي: ابن المبارك المروزي (قال: أخبرنا الأوزاعي): عبد الرحمن الإمام، (عن يحيى)؛ أي: ابن أبي كثير، وعند أحمد: (عن أبي المغيرة عن الأوزاعي: حدثنا يحيى)، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام، ابن عبد الرحمن بن عوف، (عن جعْفر) بسكون العين (بن عَمرو) بفتح العين (بن أُمية)؛ بضم الهمزة، قال في «عمدة القاري»: (وأسقط بعض الرواة عن الأوزاعي جعفرًا من الإسناد، وهو خطأ، قاله أبو حاتم الرازي) انتهى (عن أبيه)؛ أي: عمرو بن أمية الصحابي السابق (قال: رأيت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يمسح على عِمامته)؛ بكسر العين؛ أي: بعد مسح الناصية أو بعضها، كما في رواية مسلم، أو على عمامته فقط مقتصرًا عليها؛ كما هو ظاهر الحديث، وهو مذهب أحمد ابن حنبل بشروط عنده ستأتي، وقال الأصيلي: (ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي؛ لأنَّ شيبان رواه عن يحيى ولم يذكرها، وتابعه حرب وأبان، والثلاثة خالفوا الأوزاعي، فوجب تغليب الجماعة على الواحد)، وأجاب في «عمدة القاري»: بأنه على تقدير تفرد الأوزاعي بذكر العمامة؛ لا يستلزم ذلك تخطئته؛ لأنَّه زيادة من ثقة غير منافية لرواية غيره فتُقْبَل، انتهى؛ فليحفظ، (و) كذا رأيته يمسح على (خفيه)؛ أي: في الوضوء، ويشترط عند أحمد للمسح على العمامة الاعتمام بعد كمال الطهارة، ومشقة نزعها بأن تكون محنكة كعمائم العرب، ولأنه عضو يسقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين، وفي «المغني» للحنابلة: من شرائط جواز المسح شيئان؛ أحدهما: أن تكون تحت الحنك سواء أرخى لها ذؤابة أو لا، وقيل: إنَّما يحرم المسح على العمامة التي ليس لها حنك؛ لأنَّه عليه السلام أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط، وهو ألَّا يكون تحت الحنك منها شيء، وروي عن عمر: (أنه رأى رجلًا ليس تحت حنكه من عمامته شيء فحنكه بكور منها، وقال: ما هذه الفاسقة؟)، والثاني: أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه كمقدم الرأس والأذنين، ويستحب أن يمسح على ما ظهر من الرأس مع المسح على العمامة، نصَّ عليه أحمد، انتهى، وهو قول قتادة، ومكحول، والأوزاعي، وأبو ثور.
وقال ابن المنذر: (وممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأنس، وأبو أمامة) انتهى، وقال الإمام الأعظم، وأصحابه، وعروة، والنخعي، والشعبي، وأبو القاسم، ومالك، والشافعي: لا يجوز المسح على العمامة؛ لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، ومن مسح على العمامة؛ لم يصدق عليه أنه مسح على رأسه، وأجمعوا على أنه لا يجوز مسح الوجه في التيمم على حائل دونه، فكذلك الرأس، وقال الخطابي: (فرض الله مسح الرأس، والحديث في مسح العمامة مُحْتَمِل للتأويل، فلا يُتْرَكُ المتيقن للمحتمل، وقياسه على مسح الخف بعيد؛ لأنَّه يشق نزعه بخلافها) انتهى.
وأيضًا مسح الخف الأخبار فيه مستفيضة، تجوز الزيادة بمثلها على الكتاب بخلاف مسح العمامة، فإنه قد أنكره بعض الصحابة، كذا في «البحر»، وقد أخرج الترمذي عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: سألت جابر بن عبد الله عن المسح على العمامة، فقال: أَمِسَّ الشعر، وقال الإمام محمد بن الحسن في «موطئه»: (أخبرنا مالك قال: بلغني عن جابر بن عبد الله أنه سئل عن المسح على العمامة، فقال: لا حتى تمس الشعر الماء)، قال الإمام محمد: (وبهذا نأخذ)، ثم قال: (أخبرنا مالك قال: حدثنا نافع قال: رأيت صفية بنت أبي عبيدة تتوضأ، وتنزع خمارها، ثم تمسح برأسها، قال نافع: وأنا يومئذ صغير)، قال الإمام محمد: (وبهذا نأخذ، وقد بلغنا أن المسح على العمامة كان، ثم تُرِك)، كذا في «غاية البيان».
وحديث الباب محمول على فرع ذكره في «السراج الوهاج»، وهو: (إذا كانت العمامة رقيقة تنفذ البلة منها وتصير إلى الرأس مقدار مسحه؛ فإنه يجوز) انتهى، ويدل لهذا أن في زمانهم العمامة كانت رقيقة تشفُّ الماء، ولم يكن في زمانهم الطربوش؛ فعمامتهم الشاش الرقيق فقط، لا سيما وبلادهم حارة لا يلبس فيها إلا الرقيق، وذكر في «البحر»: (أن المرأة إذا مسحت على خمارها ونفذت البلة إلى رأسها حتى ابتل قدر الربع منه؛ فيجوز) انتهى.
قلت: أو يُحْمَل حديث الباب على أن الراوي كان بعيدًا عن النبي الأعظم عليه السلام، فمسح عليه السلام على رأسه ولم يضع العمامة عن رأسه؛ فظن الراوي أنه عليه السلام مسح على العمامة، وأراد الراوي المجاز إطلاقًا لاسم الحال على المحل، فهذا الحديث متروك الظاهر، لاسيما وقد صرَّح مسلم بروايته: (أنه عليه السلام مسح على ناصيته ثم مسح على عمامته)، وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا قال: بالمسح على القلنسوة إلا أنسًا، فإنه مسح على قلنسوته.
ولا يجوز المسح على الوقاية قولًا واحدًا، ولا نعلم فيها خلافًا؛ لأنَّه [لا] يشقُّ نزعها، وفي جواز المسح للمرأة على الخمار عن أحمد روايتان؛ الجواز وعدمه، وبعدمه قال نافع، وحماد بن سليمان، والأوزاعي، وسعيد بن
%ص 180%
عبد العزيز، وتمامه في «عمدة القاري» و «منهل الطلاب».
(وتابعه)؛ بواو العطف الساقطة في رواية؛ أي: تابع الأوزاعيَّ على رواية هذا الحديث (مَعمَرٌ)؛ بفتح الميمين، ابن راشد، وهذه المتابعة ناقصة ذكرها على سبيل التعليق، و (معمرٌ)؛ بالرفع فاعل؛ لقوله: (تابعه)، والضمير المنصوب فيه للأوزاعي، (عن يحيى): هو ابن أبي كثير، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام: ابن عبد الرحمن بن عوف، (عن عمرو)؛ بالواو، لكن بإسقاط (جعفر) في هذه المتابعة الثابت في الرواية السابقة، وهذا هو السبب في سياق المؤلف الإسناد ثانيًا؛ ليبيِّن أنه ليس في رواية معمر ذكر (جعفر) بين (أبي سلمة) و (عمرو)؛ فليحفظ، (قال) أي: عمرو (رأيت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يمسح على عِمامته) بكسر العين (وخفَّيه)؛ أي: ورأيته يمسح على خفيه عليه السلام، وسقط المتن كله في رواية، وفي أخرى سقط قوله: (وخفيه) فقط، وقال في «عمدة القاري»: (وهذه المتابعة مرسلة، وليس فيها ذكر العمامة؛ لما روى عنه عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عمرو قال: رأيت النبي عليه السلام يمسح على خفيه، هكذا وقع في «مصنف» عبد الرزاق، ولم يذكر «العمامة»، وأبو سلمة لم يسمع من عمرو، وإنما سمع من أبيه جعفر، فلا حجة فيها).
قال الكرماني: (ووقع في كتاب «الطهارة» لابن منده من طريق معمر، وفيه ذكر «العمامة»)، قال ابن حجر: (سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سنة ستين، وأبو سلمة مدني، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو)، قال العجلوني: (يعني: فيحمل ما يرويه على السماع عند مسلم من عدم اشتراط اللقي بالفعل) انتهى.
وردَّ كلام ابن حجر في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: كونه مدنيًّا وسماعه من خلق ماتوا قبله؛ لا يستلزم سماعه من عمرو، وبالاحتمال لا يَثْبُتُ ذلك) انتهى.
قلت: وقول العجلوني: (يعني: فيحمل ... ) إلخ: لا حاجة لهذه العناية والحمل؛ لأنَّ الشرط عند المؤلف ومن وافقه: اشتراط اللقي بالفعل والسماع منه حقيقة، فكيف يصحُّ الحمل على ما شرطه مسلم؟ ولا ريب أن هذا قياس مع الفارق، والفرق ظاهر بين ما شرطه المؤلف وشرطه مسلم، والعجلوني مثله كمثل رجل ركب في سفينة في البحر، وأراد أن يتوضأ، فجاء إلى قارورة الماء، فرأى قربها قارورة خمر والإفرنج يشربون من الخمر، ثم يشربون من الماء، فقال بحمل الماء على الطهارة، وتوضَّأ منه، وصلى، فأين تصح هذه الصلاة مع تيقُّن نجاسة الماء؟! فافهم.
والحديث يفيد صحة المسح على العمامة بدلًا عن مسح الرأس، وهو متروك الظاهر؛ كما قدمنا، وأخذ بظاهره أحمد وقال: بالصحة، لكن بالشروط السابقة، ويشترط أيضًا ألا تكون عمامة محرَّمة، فلا يجوز المسح على عمامة مغصوبة، ولا يجوز للمرأة أن تمسح على عمامة إذا لبست عمامة رجل، والأظهر عنده: وجوب استيعابها والتوقيت كالخف، ويبطل المسح بالنزع والانكشاف إلا أن يكون يسيرًا؛ مثل أن يحك رأسه أو يرفعها لأجل الوضوء، وفي اشتراط لبسها على طهارة روايتان عنه، انتهى، وعندنا المسح على الخف المغصوب صحيح، كما في «الدر» وغيره، والله تعالى أعلم.
==================
(1/359)
(49) [باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان]
(باب) قال في «عمدة القاري»: (إذا قطع عمَّا بعده لا يكون معربًا؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا جزء المركَّب، وإذا أضيف إلى ما بعده بتأويل؛ يكون معربًا على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب) (إذا أدخل)؛ أي: الشخص المدخل المفهوم من الفعل (رجليه)؛ أي: في الخفين؛ أي: إدخال الرجل رجله في خفه، (وهما)؛ الواو للحال؛ أي: والحال أن رجليه (طاهرتان) عن الحدث والخبث، وجواب (إذا) محذوف؛ أي: جاز له المسح على الخفين، وقوله: (وهما طاهرتان) لفظ رواية أبي داود.
==========
%ص 181%
==================
(1/360)
[حديث: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين]
206# وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النُّون: الفضل بن دكين (قال: حدثنا زكريا)؛ ممدودًا ومقصورًا، هو ابن أبي زائدة الكوفي، (عن عامر): هو ابن شرحبيل، الشعبي التابعي، (عن عُروة) بضم العين (بن المُغيرة)؛ بضم الميم، (عن أبيه): هو المغيرة المذكور ابن شُعْبة الصحابي الجليل؛ بضم المعجمة وسكون المهملة (قال: كنت مع النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في سَفر)؛ بفتح المهملة؛ أي: في غزوة تبوك؛ كما ورد مبيَّنًا في رواية أخرى، وكانت في رجب سنة تسع، (فأهويت)؛ أي: مددت يدي، أو أشرت إليه، أو أومأت، قال الجوهري: (يقال: أهوى إليه بيده ليأخذه)، وقال الأصمعي: (أهويت بالشيء: إذا أومأت به)، وقال التيمي: أهويت؛ أي: قصدت، وقيل: أهويت؛ أي: قصدت الهوي من القيام إلى القعود، وقيل: الإهواء: الإمالة، كذا في «عمدة القاري»، وفيه حذف؛ تقديره: فتوضأ إلا رجليه، فأهويت ... إلخ، ويحتمل تقديره قبل قوله: فمسح عليهما؛ فتأمل، (لأنزِع)؛ بكسر الزاي، من باب (ضرب يضرِب).
فإن قلت: فيه حرف الحلق، وما فيه حرف الحلق يكون من باب (فعَل يفعَل)؛ بالفتح فيهما.
قلت: ليس الأمر كذلك، وإنما [إذا] وجد [1] (فعَل يفعَل) _بالفتح فيهما_؛ فالشرط فيه أن يكون فيه حرف من حروف الحلق، وأمَّا إذا كانت كلمة فيها حرف حلق معلَّق؛ لا يلزم أن يكون من باب (فعَل يفعَل)؛ بالفتح فيهما، كذا في «عمدة القاري».
(خفَّيه)؛ بالتثنية؛ أي: خُفَّي النبي الأعظم عليه السلام، ففيه: خدمة العالم، وللخادم أن يقصد إلى ما يعرف من حديثه دون أن يأمر بها، (فقال) عليه السلام له: (دعهما)؛ أي: دع الخفين؛ أي: اتركهما بدون نزع، فـ (دع) معناه: الترك؛ لأنَّه من الأفعال التي أماتوا ماضيها، (فإني أدخلتهما)؛ أي: الرجلين، وجاز تشتيت الضمير؛ لظهور المراد، ولو جعل ضمير (أدخلتهما) عائدًا إلى الخفين على أنه من باب القلب؛ لم يبق فيه تشتيت؛ فافهم، (طاهرتين)؛ أي: من الحدث، وهو منصوب على الحال، هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية: (وهما طاهرتان)، وهي جملة اسمية حالية، وفي رواية أبي داود: (فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان)، وللحميدي في «مسنده»: (قلت: يا رسول الله؛ أيمسح أحدنا على خفيه؟ قال: نعم؛ إذا أدخلهما وهما طاهرتان).
ففيه: أنَّ من لبس خفيه على غير طهارة؛ أنه لا يمسح عليهما بلا خلاف، كما في «عمدة القاري»، والمراد بالطهارة للرجلين: غسلهما، وإتمام الوضوء قبل الحدث، فلو غسل رجليه، ولبس الخفين، ثم أكمل بقية الوضوء، ثم أحدث؛ يجزئه المسح عليهما؛ لأنَّ الشرط: أن يصادف الحدث طهارة كاملة، وكذا لو تخفف المحدث، ثم خاض الماء، فابتلَّ قدماه، ثم تمَّم وضوءَه، ثم أحدث؛ جاز أن يمسح؛ لوجود الشرط، وهو كونهما ملبوسين على طهارة كاملة وقت الحدث، ومثله: ما لو غسل رجليه، ثم تخفَّف، ثم تمَّم الوضوء، أو غسل رجلًا، فخففَّها، ثم الأخرى كذلك، كما في «البحر»، بخلاف ما لو توضأ، ثم أحدث قبل دخول الرِّجل إلى قدم الخف؛ فإنه لا يمسح، وهذا ظاهر من قوله في الحديث: (وهما طاهرتان)؛ لأنَّ المراد من قوله: (طاهرتان) كونهما مغسولتين سواء كان قبل إكمال الوضوء أو في أثنائه، وبغسلهما لا ريب أنه ارتفع الحدث عنهما، فصدق عليهما أنهما طاهرتان، وليس المراد: إدخالهما طاهرتان بطهر الوضوء؛ لأنَّه لا يفهم من الحديث ذلك؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لقال: فإني أدخلتهما بعد تمام الوضوء، فلمَّا قال: (فإني أدخلتهما طاهرتين)؛ عُلِم منه أنه لا يشترط أن يكون لبسهما على طهارة بعد تمام الوضوء، بل يجوز المسح سواء غسلهما قبل تمام الوضوء أو بعده؛ فليحفظ.
وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: معنى قوله: «أدخلتهما طاهرتين» يجوز أن يقال: إذا غسلهما وإن لم تكمل الطهارة، كما يقال: صلى ركعتين قبل أن يتمَّ صلاته، وهذا هو المتبادر من اللفظ، ويحتمل أن يريد: طاهرتان من جنابة أو خبث، ولو قلت: دخلنا البلد ونحن ركبان؛ يشترط أن يكون كل واحد راكبًا عند دخوله، ولا يشترط اقترانهم في الدخول، فكون كل واحدة من الرجلين عند إدخالهما الخف طاهرة؛ إذ لم يدخلهما الخفين وهما معًا طاهرتان؛ لأنَّ إدخالهما معًا غير متصوَّر عادة، وإنما أراد إدخال كل واحدة الخف وهي طاهرة بعد الأخرى، وقد وُجِد، ومع هذا فإن المسألة مبنية على أن الترتيب شرط عند الشافعي، وليس بشرط عندنا، وهو المتبادر من لفظ الحديث؛ كما لا يخفى؛ فافهم.
(فمسح)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (عليهما)؛ أي: على الخفين، وفيه إضمار؛ تقديره: فأحدث، فمسح عليهما؛ لأنَّ وقت جواز المسح بعد الحدث والوضوء، ولا يجوز قبله؛ لأنَّه على طهارة.
وليس في هذا الحديث توقيت مدة المسح، وهو المرجح عند مالك من أقوال تقدم بيانها، والمشهور وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: أنه للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها؛ لما رواه ابن خزيمة من حديث صفوان بن عسال [2]: (أمرنا
%ص 181%
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثًا إذا سافرنا، ويومًا وليلة إذا أقمنا)، ولما في «مسلم» من حديث علي رضي الله عنه قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهنَّ للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم)، ورواه ابن حبان، وهذا حجة على مالك في عدم توقيته بمدَّة.
وابتداء المدة للمقيم والمسافر عقيب الحدث الذي يحصل بعد لبس الخفين على طهر عند عامَّة علمائنا، وهو الصحيح؛ لأنَّ الخف عهد مانعًا سراية الحدث، فيعتبر ابتداء المدة من وقت المنع؛ لأنَّ ما قبله ليس طهارة مسح، بل طهارة غسل، فلا تعتبر، وقال الإمام المرغيناني في «الهداية»: (المسح جائز من كل حدث موجب للوضوء إذا لبسهما على طهارة كاملة، ثم أحدث)، ثم قال: (وقوله: «إذا لبسهما على طهارة كاملة»: لا يفيد اشتراط الكمال وقت اللبس، بل وقت الحدث، وهو المذهب عندنا حتى لو غسل رجليه ولبس خفيه، ثم أكمل الطهارة، ثم أحدث؛ يجزئه المسح، وهذا لأنَّ الخف مانع حلول الحدث بالقدم، فيراعى كمال الطهارة وقت المنع وهو وقت الحدث حتى لو كانت ناقصة عند ذلك؛ كان الخف رافعًا).
قال ابن حجر بعد ذكر كلام «الهداية»: (والحديث حجة عليه؛ لأنَّه جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطًا لجواز المسح، والمعلَّق بشرط لا يصحُّ إلا بوجود ذلك الشرط).
وردَّه في «عمدة القاري»: بأن الحديث المذكور ليس بحجة على صاحب «الهداية»، أمَّا أولًا؛ فإن اشتراط اللبس على طهارة كاملة لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في أنه هل يشترط الكمال عند اللبس أو عند الحدث؟ فعندنا: عند الحدث، وعند الشافعي: عند اللبس، وتظهر ثمرة الخلاف: فيما إذا غسل رجليه أولًا، ولبس خفيه، ثم أتمَّ الوضوء قبل أن يُحدِث؛ جاز له المسح عندنا خلافًا له، وكذا لو توضأ، فرتَّب، لكن غسل إحدى رجليه، ولبس الخف، ثم غسل الأخرى، ولبس الخف الآخر؛ يجوز له المسح عندنا، وهو قول الثوري، ومطرف من أصحاب مالك، والمزني صاحب الشافعي، وابن المنذر وغيرهم، خلافًا للشافعي، وذلك لصدق أنه أدخل كلًّا من رجليه الخفين، وهي طاهرة.
وقوله: (المعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط) سلَّمناه، ولكن لا نسلم أنه عليه السلام شرط كمال الطهارة وقت اللبس؛ لأنَّه لا يفهم ذلك من نصِّ الحديث، غاية ما في الحديث: أنه أخبر أنه لبسهما وقدماه كانتا طاهرتين، فأخذنا من هذا اشتراط الطهارة؛ لأجل جواز المسح سواء كانت حاصلة وقت اللبس أو وقت الحدث، وتقييده بوقت اللبس أمر زائد لا يُفْهَمُ من العبارة، فإذا تقرر هذا؛ لم يكن الحديث حجة على صاحب «الهداية»، بل حجة له؛ حيث اشترط الطهارة لأجل جواز المسح، وحجة على الشافعي؛ حيث يأخذ منه ما ليس يدل على مدعاه، على أنه قدمنا عن الحافظ الطحاوي أن قوله: (أدخلتهما طاهرتين): يحتمل أن يقال: إنَّه غسلهما وإن لم تكمل الطهارة، كما يقال: صلى ركعتين قبل أن يتم صلاته، ويحتمل أن يريد طاهرتان من جنابة أو خبث.
ولو قلت: دخلنا البلد ونحن ركبان؛ يشترط أن يكون كل واحد راكبًا عند دخول البلد، ولا يشترط اقترانهم في الدخول، وإدخالهما معًا غير متصوَّر عادة، وإنما المتبادر إدخال كل واحدة الخف وهي طاهرة بعد الأخرى، وقد وُجِد.
وقال ابن حجر أيضًا: (وحديث صفوان السابق أقوى حجة للشافعي).
قال في «عمدة القاري»: (إن كان مراده من قوله: «أقوى حجة» كون مدة المسح للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يومًا وليلة؛ فمسلَّم؛ لأنَّه قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، ونحن نقول به، وإن كان مراده اشتراط الطهارة وقت اللبس؛ فغير مسلَّم؛ ذلك لأنَّه لا يفهم ذلك من نص الحديث على ما ذكرناه الآن).
ثم قال ابن حجر: (وحديث صفوان وإن كان صحيحًا لكنه ليس على شرط المؤلف، لكن حديث الباب موافق له في الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس).
ورده في «عمدة القاري»؛ حيث قال: (قلت: بعد أن صح حديث صفوان عند جماعة من المحدثين لا يلزم أن يكون على شرط المؤلف، وقوله: «موافق له في الدلالة ... » إلخ: غير مسلَّم؛ لأنَّه لا يدل على كون الطهارة عند اللبس، نعم؛ هو موافق له في مطلق اشتراط الطهارة لا غير، فإن ادعى هذا القائل أنَّه يدل على كونها عند اللبس؛ فعليه البيان بأي نوع من أنواع الدلالة) انتهى.
وزاد في الطنبور نغمة العجلونيُّ على ابن حجر وقال: (والظاهر من الأحاديث: الطهارة الكاملة عند اللبس، ويكفي الظهور في ثبوت الحكم لا سيما رواية: «وهما طاهرتان»؛ لدلالة الجملة الاسمية على الاستمرار) انتهى.
قلت: وهو مردود؛ فأي دليل دلَّه على أن (الظاهر من الأحاديث: الطهارة الكاملة عند اللبس)، وما ذاك إلا دعوى بدون دليل، بل الظاهر المتبادر من الأحاديث: اشتراط الطهارة وقت الحدث، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
وقوله: (ويكفي الظهور في ثبوت الحكم): مردود؛ لأنَّه لم يَظْهَر شيء مما قاله حتى يَثْبُتَ الحكم، وهذا الظهور أوهى من بيت العنكبوت.
وقوله: (لا سيما رواية: «وهما طاهرتان»)؛ يعني: أنه قد ترقَّى في الدليل، ولم يدر أنَّه قد تكلَّم بكلام لا يقبله الطبع السليم، ولا يقوله إلا صاحب الطبع والفهم السقيم، وغاية ما يدل قوله: (وهما طاهرتان) إخبارٌ منه أنه لبسهما على طهارة فقط، وكونه عند اللبس أمر زائد على المفهوم المتبادر من الأحاديث، كما لا يخفى.
وقوله: (لدلالة الجملة الاسمية على الاستمرار)؛ معناه: الاستمرار على الطهارة، فليس فيه دلالة على ما قاله الشافعية، بل الأحاديث التي في هذا الباب ظاهرها والمتبادر منها ما يدل على ما قاله الأئمة الحنفية، ومن تتبع ما قلناه؛ ظهر له الحق اليقين، وخسر هنالك المبطلون؛ فافهم.
وفي الحديث: إمكان الفهم عن الإشارة، وردُّ الجواب بالعلم على ما يفهم من الإشارة؛ لأنَّ المغيرة أهوى لينزع الخفين، ففهم منه عليه السلام ما أراد، [فأجاب] بأن يجزئه المسح، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (وجب)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (غسان)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (وجب)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (وجب)، وهو تحريف.
(1/361)
(50) [باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق]
هذا (باب: مَن لم يتوضأ مِن) أكل (لحم الشاة) قيَّد به؛ ليندرج ماهو مثلها وما دونها في حكمها، ولعله يشير إلى استثناء لحوم الإبل؛ لأنَّ من خصَّه من العموم كأحمد؛ علَّله بشدَّة زخومته؛ فتأملن (و) من أكل (السويق)؛ بالسين، والصَّاد فيه لغة؛ لمكان المضارعة، والجمع: أسوقة، وسمي بذلك؛ لانسياقه في الحلق، والقطعة من السويق: سويقة، قال أبو حاتم: إذا أرادوا أن يعملوا الفريصة وهي ضرب من السويق؛ ضربوا من الأرض ما يريدون حين يستنزل، ثم يسهمونه، وتسهيمه: أن يسخن على المقلى حتى ييبس، وإن شاؤوا جعلوا معه على المقلى الفرديج، وهو أطيب لطعمه، وعاب رجل السويق بحضرة أعرابي، فقال: لا تعبه، فإنه عدة للمسافر، وطعام العجلان، وغداء المبكر، وبلغة المريض، وهو يسرُّ فؤاد الحزين، ويبرِّد من نفس المحرور، وجيد في التسمين، ومنعوت في الطيب، وفقاره يحلق البلغم، وملتوته يصفِّي الدم، وإن شئت؛ كان شرابًا، وإن شئت؛ كان طعامًا، وإن شئت؛ كان ثريدًا، وإن شئت؛ كان خبيصًا، وأثريت السويق: صببت عليه ماء ثم لتيته، وفي «مجمع الغرائب»: (ثرى يثري ثرية، إذا بل التراب، وإنما بلَّ السويق؛ لما كان لحقه من اليبس والقدم، وهو شيء من الشعير أو القمح يدق، فيكون شبيه الدقيق، إذا احتيج إلى أكله؛ خلط بماء، أو لبن، أو رب، أو نحوه، وقال قوم هو: الكعك).
قال السفاقسي: (قال بعضهم: كان ملتوتًا بسمن)، وقال الداودي: (هو دقيق الشعير والسلت المقلو)، ويرد قول من قال: (إن السويق هو الكعك) قول الشاعر:
يا حَبَّذا الكَعْكُ بلحمٍ مَثْرُودْ ... وخُشْكَنَان مع سويق مقنود
كذا في «عمدة القاري»، وقال ابن التين: (ليس في حديثي الباب ذكر السويق)، وأجاب ابن حجر: بأنه دخل من باب أولى؛ لأنَّه إذا لم يتوضأ من اللحم مع دسومته؛ فمع السويق أولى، أو لعلَّه أشار بذلك إلى حديث الباب بعده.
وردَّه في «عمدة القاري»؛ حيث قال: (قلت: إن سلمنا ما قاله؛ فتخصيص السويق بالذكر لماذا؟! وقوله: «ولعلَّه ... » إلخ؛ أبعد في الجواب من
%ص 182%
الأول؛ لأنَّه عقد على السويق بابًا، فلا يُذْكَرُ إلا في بابه، وذكره إياه ههنا لا طائل تحته؛ لأنَّه لا يفيد شيئًا زائدًا) انتهى كلامه، وهو ظاهر، كما لا يخفى على أولي الألباب.
(وأكل أبو بكر): عبد الله بن عثمان الصديق الأكبر، (وعمر) الفاروق، (وعثمان) ذي النُّورين رضي الله تعالى عنهم (لحمًا؛ فلم يتوضؤوا)، وسقط في رواية أبي ذر لفظ: (لحمًا)، وإنما روى: (أكل أبو بكر، وعمر، وعثمان؛ فلم يتوضؤوا)، ووجد ذلك في رواية الكشميهني، والأولى أعم؛ لأنَّ فيه حذف المفعول، وهو يتناول أكل كل ما مسته النار لحمًا أو غيره، كذا وصل هذا التعليق الطبراني في «مسند الشاميين» بإسناد حسن من طريق سليم بن عامر قال: (رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضؤوا)، ورواه ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن علي بن يزيد، عن محمد بن المنكدر قال: (أكلت مع رسول الله عليه السلام ومع أبي بكر وعمر وعثمان خبزًا ولحمًا، فصلُّوا ولم يتوضؤوا)، ورواه الترمذي مطوَّلًا، وكذا ابن حبان، ورواه الحافظ الطحاوي عن جابر قال: (أكلنا مع أبي بكر رضي الله عنه خبزًا ولحمًا، ثم صلَّى فلم يتوضَّأ)، وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم نحوه، وقوله: (فلم يتوضؤوا): غرضه منه بيان الإجماع السكوتي، كذا في «عمدة القاري».
==================
(1/362)
[حديث: أن رسول الله أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ]
207# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التنيسي، (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن زيد بن أَسْلَم)؛ بفتح الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح اللام: العدوي مولى عمر المدني، (عن عطاء) بالمد (بن يسار)؛ بمثناة تحتية فمهملة مخففة، (عن عبد الله بن عباس)، وفي رواية: (عن ابن عباس) رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كَتِف) بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية (شاة)؛ أي: أكل لحم كتف شاة في بيت ضباعة بنت الحارث بن عبد المطلب، وهي بنت عم النبي الأعظم عليه السلام، وعند المؤلف في (الأطعمة): (تعرَّق)؛ أي: أكل ما على العَرْق _بفتح العين المهملة وسكون الرَّاء_ وهو العظم، ويقال له: العُراق _بالضم أيضًا_ وفي لفظ: (انتشل عرقًا من قدر)، وعند مسلم: (أنه أكل عرقًا أو لحمًا، ثم صلى، ولم يتوضأ، ولم يمس ماء)، ورواه أبو إسحاق السراج في «مسنده» بزيادة: (ولم يُمَضْمِضْ)، وفي «مسند أحمد»: (انتهش من كتف)، وعند المؤلف: (أكل من عظم أو تعرق من ضلع)، وعند ابن ماجه وأبي داود: (فرأيته يسيل على لحيته أمشاج من دم وماء، ثم قام إلى الصلاة).
(ثم صلى) عليه السلام صلاة الظهر، ثم أكل، وقام إلى صلاة العصر؛ كما سيأتي في قصة المرأة التي صنعت للنبي عليه السلام شاة، (ولم يتوضأ)، وعند مسلم زيادة: (ولم يمس ماء)، وزاد أبو إسحاق: (ولم يمضمض)، كما سبق قريبًا، وهذا مذهب الأستاذ المعظم الإمام الأعظم، والثوري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، والليث، وإسحاق، وأبي ثور رضي الله عنهم، وتبعهم أحمد ابن حنبل إلا أنَّه يرى الوضوء من لحم الجزور فقط، وقال ابن المنذر: (كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعامر بن ربيعة، وأبو أمامة، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء؛ لا يرون الوضوء مما مست النار).
وقال الحسن البصري والزهري وعمر بن عبد العزيز: (يجب الوضوء مما غيرت النار)، وهو قول زيد بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي موسى، وأبي هريرة، وأنس، وعائشة، وأم حبيبة، وأبي أيوب، واحتجُّوا بأحاديث؛ منها: حديث أبي طلحة صاحب النبي عليه السلام: (أنه أكل ثور أقط؛ فتوضأ منه)، قال عمرو: (الثور: القطعة)، رواه الحافظ الطحاوي بإسناد صحيح، والطبراني في «الكبير»، ومنها: حديث زيد بن ثابت عن النبي عليه السلام قال: «توضؤوا مما غيرت النار»، رواه الحافظ الطحاوي، والنسائي، والطبراني، ومنها: حديث أم حبيبة قالت: إن رسول الله عليه السلام قال: «توضؤا مما مست النار»، رواه الحافظ الطحاوي بإسناد صحيح، وأحمد في «مسنده»، وأبو داود، والنسائي، ومنها: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: «توضؤوا مما غيرت النار ولو من ثور أقط»، رواه الحافظ الطحاوي بإسناد صحيح، والترمذي، والسراج، ومنها: حديث سهل ابن الحنظلية قال: قال رسول الله: «من أكل لحمًا؛ فليتوضأ»، رواه الحافظ الطحاوي بإسناد حسن.
وأجيب: بأن هذه الأحاديث منسوخة بأحاديث كثيرة منها: حديث ابن عباس، وحديث عمرو بن أمية، وغيرهما، وبما روي عن جابر رضي الله عنه قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله عليه السلام هو ترك الوضوء مما مست النار)، أخرجه الحافظ الطحاوي، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في «صحيحه».
وروى مسلم من حديث جابر بن سمرة أن رجلًا سأل رسول لله عليه السلام: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت؛ فتوضأ، وإن شئت؛ فلا تتوضأ»، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم، توضأ من لحوم الإبل»، وبه استدل أحمد على وجوب الوضوء من لحم الجَزور، وأجيب عنه وعن ما سبق: أن المراد بالوضوء في الأحاديث: غسل اليدين لا الوضوء الشرعي.
فإن قلت: روي: (توضأ)، وروي: (لم يتوضأ).
قلت: هو دائر بين الأمرين، وحديث جابر بيَّن أن المراد الوضوء اللغوي الذي هو غسل اليد والمضمضة؛ لزيادة دسومة وزهومة لحم الإبل، وقد ورد النهي أن يبيت وفي يده أو فمه دسم؛ خوفًا من عقرب ونحوهما، وبأنه منسوخ بحديث جابر.
وضعَّف في «المجموع» الجوابين بأن الحمل على الوضوء الشرعي مقدم على اللغوي، وترك الوضوء مما مست النار عام، وخبر الوضوء من لحم الإبل خاص، والخاص مقدم على العامسواء كان قبله أو بعده.
وأجيب: بأن الحمل على الوضوء اللغوي صحيح؛ لأنَّه قد ورد الوضوء بمعناه اللغوي؛ كقوله عليه السلام: «الوضوء قبل الطعام بركة، وبعده ينفي اللمم»، وبأن المعنى اللغوي أعم من المعنى الشرعي، فهو مقدَّم على الشرعي؛ للقرينة الدَّالة على ذلك، وهي الأكل، والإجماع قائم على أنه يسن غسل اليدين قبل الطعام وبعده، وقد حكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها؛ نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين بعد النبي عليه السلام، فرجحنا به أحد الجانبين، وعدم لزوم الوضوء من ذلك، ولهذا صدَّر المؤلف حديث الباب بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة، وقد صحَّ أن النبي الأعظم عليه السلام قال: «إن يطع الناسَ أبا بكر وعمر يرشدوا»، وقال النووي: (واستقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار)، وسيأتي تمامه؛ فافهم.
==========
%ص 183%
==================
(1/363)
[حديث: رأى رسول الله يحتز من كتف شاة]
208# وبه قال: (حدثني) بالإفراد، وفي رواية: (حدثنا) (يحيى بن بُكير)؛ بضم الموحدة وبالتصغير، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو يحيى بن عبد الله بن بكير المصري (قال: حدثنا الليث)؛ بالمثلثة: ابن سعد المصري، (عن عُقيل)؛ بضم العين المهملة بالتصغير: هو ابن خالد الأيلي المصري، (عن ابن شهاب): محمد بن مسلم الزهري (قال: أخبرني) بالإفراد (جعفر بن عَمرو) بفتح العين (بن أمية: أنَّ أباه عَمرًا)؛ أي: ابن أمية المذكور (أخبره) وليس لعمرو بن أمية رواية في البخاري إلا هذا والذي مضى في المسح فقط، قاله في «عمدة القاري»: (أنَّه رأى)؛ أي: أبصر، فلا تقتضي إلا مفعولًا واحدًا (النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم يحْتزُّ)؛ بالحاء المهملة الساكنة، وبالزاي المشددة؛ أي: يقطع، يقال: احتزه؛ أي: قطعه، (من كتف شاة)؛ أي: من لحمه، زاد المؤلف في (الأطعمة): (يأكل منه)، وعنده في (الصلاة): (يأكل ذراعًا يحتز)، وفي أخرى: (يحتز من كتف يأكل منها)، قال ابن سيده: الكَتِف العَظْم بما فيه، وهي أُنْثى، والجمع: أكْتاف، يقال: كَتِف؛ بفتح الكاف، وكسر التاء، وكِتْف؛ بكسر الكاف وسكون التاء، وقيل: هو عظم عريض خلف المنكب، وهي تكون للناس وغيرهم، والكتف من الخيل والإبل والبغال والحمير وغيرها: ما فوق العضد، وقيل: الكتفان: أعلى اليدين، والجمع: أكتاف، قال سيبويه: لم يجاوزوا به هذا البناء، وحكى اللحياني في «جمعه»: كتفه، انتهى.
(فدُعي)؛ بضم الدَّال على البناء للمجهول (إلى الصلاة)؛ أي: صلاة العصر، وكان الداعي له إلى الصلاة بلال رضي الله عنه، كما في «النسائي» عن أم سلمة، (فألقى) أي: النبي الأعظم عليه السلام (السِّكِّين): زاد المؤلف في (الأطعمة)، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري: (وألقاها والسكين)، قال في «عمدة القاري»: (والسِّكِّين على وزن «فعيل»؛ كشِرِّيب، يذكر ويؤنث)، وحكى اللحياني: سكينة، ولعلَّه سمِّى به؛ لأنَّه يسكن حركة المذبوح، (فصلى): وفي رواية: (وصلى)؛ بالواو (ولم يتوضأ)، زاد البيهقي من طريق عبد الكريم بن الهيثم عن أبي اليمان في آخر هذا الحديث: (قال الزهري: فذهبت تلك؛ أي: القصة في الناس، ثم أخبر رجال من أصحابه عليه السلام ونساء من أزواجه عليه السلام: أنه عليه السلام قال: «توضؤوا مما مست النار»)، ثم قال: (فكان الزهري يرى أن الأمر بالوضوء مما مست النار ناسخ لأحاديث الإباحة؛ لأنَّ الإباحة سابقة، واعترض عليه بحديث جابر السابق قريبًا قال: كان آخر الأمرين من رسول الله عليه السلام ترك الوضوء مما مست النار، لكن قال أبو داود وغيره: إن المراد بالأمر هنا: الشأن والقصة، لا ما قابل النهي، وإن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي الأعظم عليه السلام شاة مسمومة، فأكل منها، ثم توضأ وصلى الظهر، ثم أكل منها وصلى العصر، ولم يتوضأ، فيحتمل أن تكون هذه القصة وقعت
%ص 183%
بعد الأمر بالوضوء مما مست النار، وهو الظاهر، وأن وضوءه لصلاة الظهر يحتمل أنه كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة، ويحتمل أنه من أكل الشاة؛ لكونها مسمومة، فوجد حرارة السم في جسده الشريف، فتوضأ لأجل إطفاء الحرارة لا بسبب الأكل من الشاة، قال الشيخ النووي: والخلاف فيه معروف بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار إلا ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل، وجمع الخطابي بوجه آخر؛ وهو أن الأمر بالوضوء منه الوارد في الأحاديث محمول على الاستحباب لا على الوجوب، وقال المهلب: كانوا في الجاهلية قد ألفوا قلة التنظيف، فأُمِروا بالوضوء مما مست النار، فلما تقررت النظافة في الإسلام وشاعت؛ نسخ لزوم الوضوء مما مست النار؛ تيسيرًا على المسلمين، وحديث مسلم عن جابر يفيد التخيير بين الوضوء وعدمه، فدلَّ على أنه غير واجب، وعلى كلٍّ أحاديث الإباحة أقوى من أحاديث المنع؛ فهي لا تقاوم أحاديث الإباحة.
قال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث دلالة على أنَّ أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء، وقد ذكرناه.
وفيه: جواز قطع اللحم بالسكين، فإن قلت: ورد النهي عن ذلك في «سنن أبي داود»؛ قلت: هو حديث ضعيف، فإذا ثبت؛ خُصَّ بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك؛ لما فيه من التشبيه بالأعاجم وأهل الرفاهية.
وفيه: قبول الشهادة على النفي إذا كان محصورًا مثل هذا؛ أعني قوله: «ولم يتوضأ») انتهى.
قلت: ولا بد للشهادة على النفي من جمع عظيم، ومقداره مفوض إلى رأي قاضي القضاة، وقيل: مقدر بثلاثين رجلًا، وقيل: بعشرين، وقيل: بعشرة، والأول المعتمد، وعليه الفتوى، والله تعالى الموفق للتقوى.
==================
(1/364)
(51) [باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ]
هذا (باب: من مضمض)؛ أي: تمضمض، أو المفعول محذوف، (من) أَكْلِ (السويق) بعد أكله (ولم يتوضأ): فاعله عائد إلى (من)، يجوز فيه وجهان: إثبات الهمزة ساكنة علامة للجزم، وحذفها تقول: لم يتوضَ، كما تقول: لم يخش؛ بحذف الألف، والأول هو الأشهر، كما في «عمدة القاري».
قال ابن حجر: يجوز في (لم يتوضأ) روايتان، ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا يقال في مثل هذا روايتان، بل يقال: وجهان، أو لغتان، أو طريقان، أو نحو ذلك؛ فافهم، والله أعلم
==========
%ص 184%
==================
(1/365)
[حديث سويد بن النعمان: أنه خرج مع رسول الله عام خيبر]
209# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين؛ أي: الأنصاري، (عن بُشَير) بضم الموحدة، وفتح المعجمة، والتصغير (بن يَسَار)؛ بفتح التحتية والمهملة: الخازن (مولى بني حارثة): كان شيخًا فقيهًا، أدرك عامَّة أصحاب النبي الأعظم عليه السلام: (أنَّ سُوَيْد) بضم المهملة، وفتح الواو [1] وسكون التحتية (بن النُّعمان)؛ بضم النُّون: الأنصاري الأوسي المدني، من أصحاب بيعة الرضوان (أخبره أنَّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خيبر)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: سنة غزوة رسول الله عليه السلام لها، وكانت سنة سبع، و (خيبر): بلدة معروفة، بينها وبين المدينة نحو أربع مراحل، وقال أبو عبيد: ثمانية برد، وسميت باسم رجل من العماليق نزلها، واسمه خيبر بن فانية بن مهلائيل، وكان عثمان رضي الله عنه مصَّرها، وهي غير منصرفة؛ للعلمية والتأنيث، فتحها رسول الله عليه السلام، واختلف في فتحها؛ قيل: فتحت عنوة، وقيل: صلحًا، وقيل: بعضها صلحًا وبعضها عنوة، وتمامه في «عمدة القاري»، (حتى إذا كانوا)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام وأصحابه الكرام، (بالصَّهْباء)؛ بفتح الصَّاد المهملة، وسكون الهاء والموحدة الممدودة (وهي)؛ أي: الصَّهباء (أدنى خيبر)؛ أي: أسفلها وطرفها من جهة المدينة، وعند المؤلف في (الأطعمة): (وهي على روحة من خيبر)، وهذه الزيادة مدرجة من قول يحيى بن سعيد، كما عند المؤلف في موضع آخر من (الأطعمة)، وقال البكري في «معجم البلدان»: (هي على بريد) انتهى (فصلى): الفاء فيه لمحض العطف وليست للجزاء؛ لأنَّ قوله: (إذا كانوا) ليست جزائية، بل هي ظرفية؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، (العصر)؛ أي: صلاة العصر، وفي رواية: (نزل فصلى العصر)، فظهر بروايتهما أن الفاء لعطف (فصلى) على (نزل) المقدر لا على (كانوا)، كما تقدم، أفاده في «عمدة القاري».
(ثم دَعا)؛ بفتح الدَّال؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (بالأزواد)؛ جمع زاد؛ بالزاي: وهو طعام يتخذه المسافر في سفره، (فلم يُؤت) بضم التحتية (إلا بالسويق): المعلوم مما سبق، (فأمر به) عليه السلام بالسويق أن يثرى؛ (فثُرِّي)؛ بضم المثلثة وتشديد الرَّاء المكسورة ويجوز تخفيفها على صيغة المجهول؛ أي: بُلَّ بالماء لما لحقه من اليبس، يقال: ثرَّيته تثرية؛ إذا رششته بالماء، (فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من السويق، (وأكلنا)؛ أي: منه، زاد المؤلف في رواية سليمان الآتية: (وشربنا)، وعنده في (الجهاد) من رواية عبد الوهاب: (فلكَّينا وأكلنا وشربنا)؛ أي: من الماء أو من مائع السويق، (ثم قام) عليه السلام (إلى) صلاة (المغرب)؛ أي: أراد أن يصلي صلاة المغرب، فطلب ماء، (فمضمض) فاه به قبل أن يشرع في الصلاة، (ومضمضنا) كذلك، (ثم صلى)؛ أي: صلاة المغرب، وصلينا خلفه (ولم يتوضأ)؛ أي: بسبب أكل السويق، ولم يأمرنا بالوضوء.
ففيه المطابقة لجزئي الترجمة، وفائدة المضمضة منه وإن كان لا دسم له: أنه لا بد أن تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشتغل بتتبعه باللسان عن الصلاة.
وفي الحديث: حمل الأزواد في الأسفار، وأن ذلك لا ينافي التوكل، قال المهلب: وفي الحديث: أن الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته؛ ليبيعوه لأهل الحاجة، وأن الإمام ينظر لأهل العسكر ليجمع الزاد؛ ليصيب منه من لا زاد معه.
وقال الخطابي: فيه دليل على أن الوضوء مما مست النار منسوخ؛ لأنَّه متقدم، وخيبر سنة سبع، واعترضه ابن حجر: بأنه لا دلالة فيه؛ لأنَّ أبا هريرة حضر بعد فتح خيبر وروى الأمر بالوضوء، كما في «مسلم»، وأنه كان يفتي به بعد النبي عليه السلام، ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا يستبعد ذلك؛ لأنَّ أبا هريرة ربما أنه يرويه عن صحابي كان أسلم قبله، فيسنده إلى النبي عليه السلام؛ لأنَّ الصحابة كلهم عدول، واعترض: بأنه لا يستقيم في الذي يقول فيه أبو هريرة: سمعته من النبي عليه السلام.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ربما أنه يكون قد سمعه قَبْلُ منه عليه السلام، وسمع صحابيُّ غيره النسخ، ولم يبلغ أبا هريرة، وإن ثبت عند غيره، ويقول: إنِّي سمعته من النبي عليه السلام، والحال أنه منسوخ ولم يبلغه النسخ؛ فليتأمل.
وفي الحديث: جواز أداء صلاتين فأكثر بوضوء واحد، قال ابن حجر: (وفيه: استحباب المضمضة بعد الطعام)، واعترضه في «عمدة القاري»: بأن المؤلف لم يضع هذا الباب لذلك هنا، وإن كان يفهم منه ذلك، انتهىوتمامه في «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي.
==========
[1] في الأصل: (الرَّاء)، ولعله تحريف عن المثبت.
%ص 184%
==================
(1/366)
[حديث ميمونة: أن النبي أكل عندها كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ]
210# وبه قال: (حدثنا): وفي رواية: (وحدثنا)؛ بالواو (أصبغ)؛ بالغين المعجمة: هو ابن الفرج (قال: أخبرنا ابن وهَب)؛ بفتح الهاء: هو عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة؛ أي: ابن الحارث، كما في رواية، (عن بُكير)؛ بضم الموحدة مصغرًا: وهو ابن عبد الله بن الأشج، (عن كُريب)؛ بضم الكاف مصغرًا أيضًا: هو ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم، المدني، أبي رشدين مولى ابن عباس رضي الله عنهما، (عن) أم المؤمنين (ميمونة) رضي الله عنها زوج النبي الأعظم عليه السلام، ممنوعة من الصرف؛ للعلمية والتأنيث: (أنَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أكل عندها)؛ أي: في البيت الذي خصها به (كَتِفًا)؛ بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية؛ أي: لحم كتف، (ثم) قام و (صلى): والظاهر أنها صلاة نافلة؛ لأنَّ الفريضة لا يصليها وحده عليه السلام، (ولم يتوضأ)؛ لأنَّه غير ناقض للوضوء، وهذا مذهب الأستاذ المعظم الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وقد انعقد الإجماع على ذلك، كما سبق.
وليس بين هذا الحديث وبين الترجمة مطابقة؛ لأنَّه لم يذكر فيه السويق، ولهذا قالوا: إن وضع الحديث هنا من قلم الناسخين، وإن نسخة الفربري التي بخطه تقديمه إلى الباب السابق، ولم يذكر المضمضة فيه المترجَم بها، فقيل: أشار بذلك إلى أنَّها غير واجبة؛ بدليل تركها في هذا الحديث مع أن المأكول دسم يحتاج إلى المضمضة منه، فتركها؛ لبيان الجواز، وبقية المباحث تقدمت في الباب قبله، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
%ص 184%
==================
(1/367)
(52) [باب: هل يمضمض من اللبن]
هذا (باب) بالتنوين: (هل يُمَضمِض)؛ بضم المثناة التحتية، وفتح الميم الأولى، وكسر الثانية وفتحها على
%ص 184%
صيغة المعلوم أو المجهول، وللأصيلي: (يتَمَضمَض)؛ بزيادة مثناة فوقية مفتوحة كالتحتية قبلها وفتح الميمين، (من اللبن) إذا شربه.
==================
(1/368)
[حديث: أن رسول الله شرب لبنًا فمضمض]
211# وبالسند قال: (حدثنا يحيى ابن بُكير)؛ بضم الموحدة مصغرًا، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو يحيى بن عبد الله بن بُكير المصري، (وقُتَيْبَة)؛ بضم القاف، وفتح المثناة الفوقية، وإسكان التحتية، وفتح الموحدة: هو ابن سعيد، أبو رجاء الثقفي (قالا: حدثنا الليث)؛ بالمثلثة: هو ابن سعد المصري، (عن عُقيل)؛ بضم العين المهملة مصغرًا: هو ابن خالد، (عن ابن شهاب): محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتْبَة)؛ بضم العين المهملة، وسكون الفوقية، وفتح الموحدة: ابن مسعود رضي الله عنه، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شرِب) بكسر الرَّاء (لبنًا): زاد مسلم: (ثم دعا بماء)، (فمضمض) فاه، (وقال) عليه السلام: (إنَّ له) أي: للبن (دَسَمًا)؛ بفتحتين منصوبًا، اسم (إن)؛ أي: زهومته، وهو ما يظهر على اللبن من الدهن، وقال الفاضل جار الله الزمخشري: (الدسم: من دَسَمَ المطرُ الأرضَ؛ إذا لم يبلغ أن يبل الثرى، وأمَّا الدُّسْم _بضم فسكون_: هو الشيء القليل)، وجملة المقول بيان لعلة المضمضة من اللبن، فيدل على استحبابها من كل شيء دسم، ويؤخذ منه استحباب غسل اليدين للتنظيف، وقال البغوي: (المضمضمة مستحبة عند أكل ما له دسومة، أو يبقى في الفم منه بقية تصل إلى باطنه في الصلاة) انتهى؛ أي: أو يعالج بلسانه في ذهابها من بين أسنانه؛ لأنَّه يخل بالخشوع، ويشغل البال، وربما تفسد صلاته من كثرة الحركات؛ فافهم.
(تابعه)؛ أي: تابع عقيلًا (يونسُ)؛ أي: ابن يزيد الأيلي، وحديثه موصول عند مسلم، (وصالح بن كَيسان)؛ بفتح الكاف، وحديثه موصول عند أبي العباس السراج في «مسنده»؛ كلاهما (عن الزهري): وتابعه الأوزاعي أيضًا، كما عند المؤلف في (الأطعمة)، لكن رواه ابن ماجه والطبراني بلفظ: (حدثنا الأوزاعي)، وإسنادهما حسن بلفظ: «مضمضوا من اللبن؛ فإن له دسمًا»؛ بصيغة الأمر، وهو محمول على الاستحباب؛ لما رواه أبو داود بسند حسن عن أنس: (أنَّ النبي عليه السلام شرب لبنًا، فلم يتمضمض ولم يتوضأ)، وروي عن ابن عباس راوي الحديث: (أنه شرب لبنًا فمضمض، ثم قال: لو لم أتمضمض ما باليت)، وقال ابن شاهين: حديث أنس ناسخ لحديث ابن عباس، ولم يذكر من قال فيه بالوجوب حتى يحتاج إلى دعوى النسخ، والظاهر أنه ليس بمنسوخ؛ لما رواه أحمد بن منيع في «مسنده»، بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه: أنه كان يُمَضْمِضُ من اللبن ثلاثًا، فلو كان منسوخًا؛ لما فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كذا في «عمدة القاري»، وتمامه فيه؛ فافهم.
==========
%ص 185%
==================
(1/369)
(53) [باب الوضوء من النوم]
هذا (باب) حكم (الوضوء من النوم): اللام فيه للجنس، فيشمل القليل والكثير؛ أي: هو واجب مستحب منه، (و) باب (من لم ير مِنَ الَّنعْسة)؛ بسكون العين المهملة؛ وهي فتور في الحواس، وتسمى: الوَسَن؛ بالتحريك، والمشهور التفرقة بين النوم والنعاس، وهو ظاهر كلام المؤلف، فإنَّ من سكنت حواسه بحيث يسمع كلام من حضر في مجلسه ولا يفهم معناه؛ فهو ناعس، وإن زاد على ذلك؛ فهو نائم، ومن علامات النوم الرؤيا، ومن علامات النعاس سماع كلام الحاضر عنده وإن لم يفهم، وفي «منهل الطلاب»: (النعاس: أول النوم، والوسن: ثقل النوم، والرقاد: النوم الطويل، وقيل: السِّنَة: ثِقَل في الرأس، والنعاس: ثِقَل في العين، والنوم في القلب) انتهى.
وزعم ابن حجر أن ظاهر كلام المؤلف: أن النعاس يسمى نومًا، ورده في «عمدة القاري»، فقال: (لا نسلم أن ظاهر كلام البخاري يدل على عدم التفرقة، فإنه عطف: «ومن لم ير ... » إلخ على «الوضوء من النوم») انتهى؛ أي: والعطف يقتضي المغايرة كما هنا، وذكره للتنبيه على أنه لا وضوء منه إذا كان خفيفًا، وكونه مغايرًا له هو المشهور، وعطفه على ما قبله ظاهر؛ فافهم.
وقد تكلَّم العجلوني على عبارة «عمدة القاري» بكلام لا طائل تحته حيث ثبت أن كلام صاحب «عمدة القاري» ما نقلناه، وهي النسخة الصحيحة، وكلامه في أول الباب يدل على هذا، فاخترع العجلوني نسخة محرَّفة، وتصدَّى إلى الردِّ، فركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء؛ فافهم.
(والنَّعستين)؛ تثنية نَعسة؛ بفتح النُّون؛ للمرَّة من النَّعْس؛ بفتح فسكون، وفعله: نعس، من باب (نصر)، ومن قال: نَعُس؛ بالضم؛ فقد أخطأ، كما نبَّه عليه في «عمدة القاري»، وفيه: (وبعض بني عامر يقول: ينعَس _بالفتح_ يقال: نعس ينعس نعسًا ونعاسًا؛ فهو ناعس ونعسان، وامرأة نعسى، وقال ابن السكيت وثعلب: لا يقال: نعسان) انتهى.
(أو الخفقة): للمرة، من خَفَق يَخْفِق خفقًا، من باب (ضرب)؛ إذا حرك رأسه وهو ناعس، وقال ابن الأثير: خفق؛ إذا نعس، وقال ابن التين: الخفقة: النعسة، وإنما كرر؛ لاختلاف اللفظ، قال ابن حجر: وهو من الخاص بعد العام، قال في «عمدة القاري»: (على قول ابن التين بين النعسة والخفقة مساواة، وعلى قول بعضهم عموم وخصوص؛ بمعنى: أن كل خفقة نعسة، وليس كل نعسة خفقة، ويدل عليه ما قاله أهل اللغة: خفق رأسه؛ إذا حركه، وهو ناعس)، وتمامه فيه، وفي «مسلم» من حديث أنس: (كان أصحاب رسول الله عليه السلام ينتظرون الصلاة، فينعسون حتى تخفق رؤوسهم، ثم يقومون إلى الصلاة)، ومعنى (تخفق رؤوسهم)؛ أي: تسقط أذقانهم على صدورهم.
وقوله: (وُضوءًا)؛ بضم الواو؛ بالنصب مفعول (ير) السابق، فلو زادت الخفقة على الواحدة، أو النعسة على الثنتين؛ يجب الوضوء؛ لأنَّه حينئذ يكون نائمًا مستغرقًا، أفاده في «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني.
قلت: وهو ظاهر تقييد المؤلف، ويدل له ما في «مسلم» في قصة صلاة ابن عباس مع النبي عليه السلام بالليل قال: (فجعلت إذا أغفيت؛ أخذ بشحمة أذني)، فدل على أن الوضوء لا يجب على غير المستغرق، وروى ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة، فالزيادة دليل الاستغراق، وبهذا اضمحلَّ ما زعمه العجلوني من أن الزيادة غير لازمة، وأن المدار على النوم، انتهى، لأنَّه إذا كان المدار على النوم ولم نعتبر الزيادة؛ لا يعلم النائم من الناعس، ولا يعلم الفرق بينهما؛ فافهم.
==========
%ص 185%
==================
(1/370)
[حديث: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم]
212# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن هشام)؛ أي: ابن عروة، كما في روايةٍ، (عن أبيه)؛ أي: عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة): أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا نَعَس) بفتح العين المهملة على صيغة الماضي (أحدكم) خطاب خاص أريد به عام (وهو يصلي): جملة اسمية محلها نصب على الحال؛ (فليَرقُد)؛ بفتح [التحتية وضم] القاف؛ أي: فلينم استحبابًا؛ أي: بعد فراغه وإتمامه صلاته، لكنه يتجوز، ويخفف فيها، وعند النسائي من طريق أيوب عن هشام: (فلينصرف)؛ أي: بعد أن يتم صلاته لا أنه يقطعها بمجرد النعاس، كما زعمه المهلب حيث حمله على ظاهره، ويرده قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، (حتى يذهب عنه النوم): فالشرط سبب للجزاء، وهنا النعاس سبب للنوم، أو سبب للأمر بالنوم، واستظهر الأول الكرماني على حد: اضرب زيدًا تأديبًا، ولا ينافي ما ذكر من الأمر بالنوم ما جاء في حديث ابن عباس من نومه في بيت ميمونة، وأنه قال: (قمت إلى الصلاة، فجعلت إذا أغفيت؛ يأخذ بشحمة أذني)، ولم يأمره بالنوم؛ لأنَّه جاء تلك الليلة ليتعلَّم، ففعل ذلك ليكون أثبت له؛ فتأمل.
واختلف في أن النوم عينه ناقض فيكون حدثًا، أو ما لا يخلو عنه النائم فيكون ليس بحدث؛ فقال في «المبسوط» وتبعه شراح «الهداية» بالثاني، وهو الصحيح، كما في «الفتاوى الشلبية» و «السراج»، واختاره فخر الدين الزيلعي، وحكى الاتفاق عليه، ويدل له حديث أبي داود وغيره: «العينان وكاء السَّه، فمن نام؛ فليتوضأ»، وقال بعضهم بالأول، وبه قال إسحاق، والحسن، والمزني، ويدل له عموم حديث صفوان المروي عند ابن خزيمة، وفيه: «إلا من غائط أو بول أو نوم»، فسوَّى بينها في الحكم.
وفيه: أنه لا يلزم من اقترانها في اللفظ مساواتها في الحكم، وهذا في حقنا؛ أمَّا في حق النبي الأعظم عليه السلام؛ فمن خصائصه أنَّه لا ينتقض وضوءه بالنوم مطلقًا، وألحق به بقية الأنبياء عليهم السلام؛ لحديث ابن عباس المذكور في هذا «الصحيح»: (نام رسول الله عليه السلام حتى سمعت غطيطه، وصلى ولم يتوضأ)، وللحديث المشهور: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا».
وقوله: (فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس)؛ بلفظ اسم الفاعل؛ (لا يدري لعلَّه يستغفر)؛ أي: يريد أن يستغفر (فيسب نفسه)؛
%ص 185%
أي: يدعو على نفسه، كما صرح به النسائي؛ تعليل للرقاد أو للأمر به، والفاء في (فيسب): عاطفة على (يستغفر)، فهو مرفوع، كهو على حذفها الموجود في بعض الأصول، قال ابن مالك: (جاء في «فيسب» الرفع، باعتبار عطف الفعل على الفعل، والنصب باعتبار أنه جواب لـ «لعلَّ»، فإنها مثل «ليت»)، وجملة (وهو ناعس): حالية أو معترضة؛ كقوله: (وهو يصلي)، والفائدة في تغيير الأسلوب بين التركيبين حيث قال في الأول: (نعس) بالماضي، وهنا بلفظ اسم الفاعل، كما قال في «عمدة القاري»: (الدلالة على أنه لا يكفي تجدد أدنى نعاس وانقضاؤه في الحال، بل لا بدَّ من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول ويقرأ، والفرق بينهما كالفرق بين ضرب زيد قائمًا وقام ضاربًا، وهو احتمال القيام بدون الضرب في الأول، والعكس في الثاني، وإنما اختار ما اختار في كل منهما؛ لأنَّ الحال قيد وفضلة، والأصل في الكلام ما له القيد، ففي الأول: لا شك أن النعاس هو علة الأمر بالرقاد لا الصلاة، فهو المقصود الأصلي في التركيب، وفي الثاني: الصلاة علة للاستغفار؛ لأنَّ تقدير الكلام: فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس؛ يستغفر، فلفظ (لعلَّه يستغفر): خبر (إنَّ)، ولفظ: (لا يدري) وقع موقع جزاء (إذا) إن جعلناها شرطية، وإلا؛ فخبر (إنَّ) هو جملة: (لا يدري)، وجملة: (لعلَّه يستغفر): معمول لـ (لا يدري)، والمراد من (لعلَّه يستغفر): يريد الاستغفار، فلا ينافي أنه يسب؛ أي: يدعو على نفسه، كما سبق؛ فافهم.
ويحتمل أن يكون علة النهي خشية أن يوافق ساعة الإجابة، والترجي هنا عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به؛ أي: لا يدري أمستغفر هو أم سابٌّ مترجيًّا الاستغفار؟ وهو في الواقع بضد ذلك، أو يستغفر؛ بمعنى: يتمكن من الاستغفار والسب؛ كما أن المترجي بين حصول المرجو وعدمه ومتمكن منهما لا على السوية.
ووجه الدلالة من الحديث على الترجمة: أنه أمره بالرقاد، فلولا أن صلاته في هذه الحالة قريبة للبطلان؛ لما أمره بذلك، فدلَّ على أن ما لا يخلو عنه النائم ناقض؛ لأنَّه علله بأنَّه يختلط، فلا يدري أيسب أم يستغفر؟ وذلك من النوم المزيل للعقل، فيكون بمنزلة من سكر، وقد قال الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ومن ثَمَّ أُلحِق بالنوم غيره من كل ما يزيل العقل؛ كالجنون والإغماء والسكر؛ لأنَّ ذلك أبلغ في الذهول من النوم الذي هو مظنة الحدث، وقد يقال: أشار المؤلف بذكر النوم في الترجمة إلى الحديث المشهور عن علي رضي الله عنه: «العينان وكاء السَّه، فمن نام؛ فليتوضأ»، وأخرجه مسلم وأبو داود في (الصلاة)؛ فتأمل.
وقال المهلب: (وفي قوله: «فإن أحدكم ... » إلخ: إشارة إلى العلَّة الموجبة لقطع الصلاة، فمن صار في هذه الحالة؛ فقد انتقض وضوءُه بالإجماع)، واعترض بأن الإشارة إنَّما هي إلى جواز قطع الصلاة أو الانصراف إذا سلَّم منها، وأما النقض؛ فلا يتبين من الحديث؛ لأنَّ جريان ما ذكر على اللسان ممكن من الناعس، مع أنَّه قائل بأن قليل النوم لا ينقض، فكيف بالنعاس؟! وما ادعاه من الإجماع منقوض، فقد صح عن أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وسعيد بن المسيب: أن النوم لا ينقض مطلقًا، انتهى.
وفيه نظر، فإن الإشارة في الحديث إلى التجوز والتخفيف في الصلاة لا إلى جواز قطعها؛ لأنَّه غير جائز، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، والصلاة خير الأعمال، فلا ريب في عدم جواز قطعها؛ فافهم.
واستظهر في «عمدة القاري» أن الإشارة إلى اقتصار إتمام ما هو فيه، وعدم استئناف صلاة أخرى، قال: (فتماديه على ما كان فيه يدل على أن النعاس اليسير لا ينافي الطهارة)، وتمامه فيه.
اللهم إني أسألك بما في المؤلَّف من الأحاديث النبوية، وبجاهِ قائلها عليه السلام أن تفرج عنا وعن المسلمين، فإنه قد ضاق الحال، وطال المآل، آمين.
==================
(1/371)
[حديث: إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ]
213# وبه قال: (حدثنا أبو مَعْمَر)؛ بفتح الميمين بينهما عين ساكنة: عبد الله بن عمرو المقعد (قال: حدثنا عبد الوارث)؛ بالمثلثة: هو ابن سعيد بن ذكوان التنوري (قال: حدثنا أيوب)؛ أي: السختياني، (عن أبي قِلَابة)؛ بكسر القاف وتخفيف اللام والموحدة: عبد الله بن زيد الجرمي، (عن أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم): أنه (قال: إذا نعَس) بفتح العين المهملة (في الصلاة)؛ بحذف الفاعل؛ للعلم به، وفي رواية: (إذا نعس أحدكم في الصلاة)، فصرح به، وفي رواية: (إذا نعس أحدكم)؛ بإسقاط قوله: (في الصلاة)؛ (فلينم)؛ أي بعد إتمامها، أو يتجوز ويخفف في صلاته، ويتمها وينم، لا أنه يقطعها؛ فافهم، (حتى يعلمَ) بالنصب لا غير (ما يقرأ)؛ أي: الذي يقرؤه أو شيئًا يقرؤه، أو مصدرية، لا استفهامية، كما في «عمدة القاري»، ويمكن توجيهه عربية، لكنه بعيد معنًى؛ فتأمل.
وليس هذا خاصًّا بنافلة الليل، كما قاله المهلب، وعلله: بأن الفريضة ليست في أوقات النوم، وليس فيها من التطويل ما يوجب [1] ذلك؛ لأنَّا نقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فالفرض كذلك إذا أمن فيه بقاء الوقت.
وفي النوم مذاهب؛ أحدها: أنه ناقض للوضوء، وذلك بأن نام غير متمكن فيه من المقعدة _يعني: المخرج_ من الأرض؛ بأن نام مضجعًا أو متوركًا أو مستلقيًا على القفا، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور.
الثاني: أن النوم غير ناقض بحال، وهو مذهب أبي موسى الأشعري، والأوزاعي، والأعرج.
الثالث: أنه ناقض للوضوء على كل حال متمكنًا أو لا، قليلًا أو كثيرًا، وهو مذهب الحسن وإسحاق ابن راهويه.
الرابع: كثير النوم ناقض دون قليله، وهو قول الزهري، وربيعة، وإحدى الروايتين عن الأوزاعي، ومالك، وأحمد.
الخامس: إذا نام في الصلاة راكعًا أو ساجدًا على الصفة المسنونة بأن أبدى ضبعيه، وجافى بطنه عن فخذيه؛ فإنه لا يَنْتَقِضُوضوءُه، وكذا إذا نام جالسًا، ومثله ما إذا نام كذلك خارج الصلاة؛ فإنه لا ينتقض وضوءُه، وهو مذهب الإمام الأعظم، وداود، وسفيان الثوري، وغيرهم؛ لحديث مسلم عن أنس قال: (إن الصحابة كانوا ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون)، ولقوله عليه السلام: «لا يجب الوضوء على من نام جالسًا أو قائمًا أو ساجدًا حتى يضع جنبه، فإذا اضطجع؛ استرخت مفاصله»، رواه أصحاب «السنن».
السادس: لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، وهو رواية عن أحمد، والصحيح عنه: أن النوم مطلقًا ناقض إلا النوم اليسير عرفًا من جالس أو قائم.
السابع: أنه لا يَنْقُضُ إلا نوم الساجد، وهو مروي عن أحمد.
الثامن: لا يَنْقُضُ النومُ في الصلاة بكل حال وينقض خارجها، وهو قول الشافعي.
التاسع: من نام ساجدًا في مصلاه؛ فليس عليه وضوء، وإن نام ساجدًا في غير مصلاه؛ فعليه الوضوء، وهو قول ابن المبارك.
ولو نام وهو متمكن من الأرض، لكنه مستند إلى حائط أو غيره، بحيث لو أزيل المستند؛ سقط النائم؛ اختلف فيه؛ فذهب الحافظ الطحاوي وصاحب «الهداية» والقدوري أنه ينتقض وضوءُه، وروى الإمام أبو يوسف عن الإمام الأعظم: أنه لا ينتقض وضوءُه، وهو ظاهر الرواية، وبه أخذ عامة العلماء، وهو الصحيح.
وينقضه ارتفاع مقعدة قاعد نائم على الأرض قبل انتباهه وإن لم يسقط على الأرض في ظاهر المذهب؛ لزوال المقعدة، وقيل: إن انتبه لما سقط؛ فلا ينتقض، وإن استقر نائمًا، ثم انتبه؛ انتقض؛ لوجود النوم مضجعًا، هذا قول الإمام الأعظم رضي الله عنه، قال في «التبيين»: وهو ظاهر الرواية، وفي «فتح القدير»: وعليه الفتوى، وبه جزم في «السراج»، وهو الصحيح، كما في «المضمرات».
ومن به انفلات ريح هل ينتقض وضوءُه بالنوم؟ أجاب العلامة الشلبي في «حواشي التبيين»: بعدم النقض؛ بناء على ما هو الصحيح من أن النوم نفسه ليس بناقض، وإنما الناقض ما يخرج، ومن ذهب إلى أن النوم نفسه ناقض؛ لزمه نقض وضوء من به انفلات ريح بالنوم، انتهى.
قال في «الخانية»: (النعاس لا ينقض الوضوء، وهو قليل النوم لا يشتبه عليه أكثر ما يقال ويجري عنده) انتهى، وظاهره عدم اشتراط الفهم بل السماع فقط، وبالسماع عبر في «السراج»، و «التاترخانية»، و «التبيين»، والذي في «الدر المختار» تبعًا لـ «البحر» معزوًّا [2] لشروح «الهداية» التعبير بـ (يفهم)، وظاهره اشتراط الفهم.
فالحاصل: أن اشتراط السماع متفق عليه، وإنما الخلاف في فهم ما يسمعه بحيث لو سئل عما تكلم بحضرته؛ لأجاب بأكثره؛ فإنه غير ناقض اتفاقًا، أما إذا لم يجب بالأكثر، بل بأقل منه؛ فيكون حينئذ ناقضًا، والفهم مستلزم للجواب؛
%ص 186%
لأنَّه لو سمع ولم يفهم؛ لا يمكنه أن يجيب، فحاصله اشتراط سماع أكثر ما يتكلم بحضرته، بحيث لو سئل عنه؛ أجاب، كذا في «منهل الطلاب».
وقال الزركشي: الترجمة مشعرة بأن النعاس لا يوجب الوضوء، والحديث مشعر بالنهي عن الصلاة ناعسًا، والجواب: بأنه استنبط عدم الانتقاض بالنعاس من قوله عليه السلام: «إذا صلى وهو ناعس»، والواو للحال، فجعله مصليًا مع النعاس، فدل على بقاء وضوئه، ثم قال: ويجوز أن يريد المؤلف بقوله: (الوضوء من النوم) انقسام النوم إلى ما لا ينقض؛ كالنعاس، وإلى ما ينقض؛ كالمستغرق غير ممكن مقعدته، انتهى، قال في «المصابيح»: (وفيه ضعف؛ إذ لا يمتنع مثل قولك: إذا صلى الإنسان وهو محدث؛ كان كذا، فيحمل على أنه إذا فعل صورة الصلاة؛ فلا يقوي دلالة الحديث على ما أراده) انتهى، فتأمل.
وفي الحديث: الأخذ بالاحتياط؛ لأنَّه علل بأمر محتمل، والحث على الخشوع، وحضور القلب، واجتناب المكروهات في الطاعات، وجواز الدعاء في الصلاة، وضابطه: أنه إن دعا بما جاء في الصلاة، أو في القرآن، أو في المأثور؛ لا تفسد صلاته، وإن لم يكن في القرآن أو المأثور، ولا يستحيل سؤاله من العباد؛ تفسد، كذا في «البحر».
اللهم فرج عنا وعن المسلمين بجاه سيد المرسلين، واكشف عنا هذا البلاء، فإنك على كل شيء قدير.
==========
[1] في الأصل: (جوب).
[2] في الأصل: (معزيًّا)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (جوب).
[1] في الأصل: (جوب).
(1/372)
(54) [باب الوضوء من غير حدث]
هذا (باب الوضوء من غير حدث)؛ أي: استحباب تجديد الوضوء للنوم، ولمسِّ الكتب الشرعية، وللمداومة عليه، وللصلاة فرضًا أو واجبًا أو نفلًا، أو لمسِّ مصحف أو تفسير، فإن لم يكن واحد من هؤلاء المذكورين؛ فبشرط أن يتبدَّل المجلس؛ لأنَّه مع التبدل يكون نورًا على نور، وإن لم يتبدل مجلسه؛ يكون إسرافًا، وهو مكروه بالإجماع، وقيد بالوضوء؛ لأنَّ الغسل على الغسل والتيمم على التيمم يكون عبثًا؛ لعدم وروده في السنة عن النبي الأعظم عليه السلام.
==========
%ص 187%
==================
(1/373)
[حديث: كان النبي يتوضأ عند كل صلاة]
214# وبه قال: (حدثنا محمد بن يوسف)؛ أي: الفريابي (قال: حدثنا): وفي رواية: (أخبرنا) (سفيان): هو الثوري، (عن عَمرو) بفتح العين (بن عامر): الكوفي الأنصاري (قال: سمعت أنسًا)؛ أي: ابن مالك، كما في رواية، ومفعول (قال): (كان النبي ... ) إلخ الواقع بعد الإسناد الثاني قاله الكرماني.
(ح): إشارة إلى التحويل على الأصح، أو إلى الحائل، أو إلى (صح)، أو إلى الحديث، كما سبق (قال) أي: المؤلف: (وحدثنا): وسقطت الواو في رواية (مسدد): هو ابن مسرهد (قال: حدثنا يحيى): هو ابن سعيد القطان، (عن سفيان): هو الثوري (قال: حدثني) بالإفراد (عَمرو) بفتح العين (بن عامر)؛ أي: الأنصاري السابق، (عن أنس): وللأصيلي زيادة: (ابن مالك) رضي الله عنه، وفائدة الإسناد الثاني وإن كان الأول أعلى التصريحُ من سفيان فيه بالتحديث؛ لأنَّ سفيان مدلِّس، وعنعنة المدلِّس لا يحتج بها (قال: كان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة)؛ أي: مفروضة من الأوقات الخمسة، زاد الترمذي من طريق حميد عن أنس: (طاهرًا أو [1] غير طاهر) ولفظة: (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فيكون عادته الوضوء لكل صلاة من الخمس المعلومة، وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى ابن سيرين قال: (كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة)، وفي لفظ آخر: (كان أبو بكر وعمر وعثمان يتوضؤون لكل صلاة، فإذا كانوا بالمسجد؛ دعوا بالطشت، فقال: كان فرضًا، ثم نسخ بالتخفيف) انتهى.
وحديث سويد الآتي يدل على أن ذلك غالب أحواله عليه السلام، وحينئذ فيدل على الاستحباب، وإلا لما وسعه الترك، ولأنَّ الأصل عدم الوجوب، وقال الحافظ الطحاوي: يحتمل أنه كان واجبًا عليه خاصة، ثم نسخ يوم الفتح؛ لحديث بريدة المروي في «صحيح مسلم»: أنه عليه السلام صلَّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: صنعْتَاليوم شيئًا لم تكن تصنعه، فقال: «عمدًا صنعْتُه يا عمر»، ولهذا ذهب النخعي إلى أنه لا يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات، وادعاء النسخ نقله ابن عبد البر عن جماعة؛ منهم: عكرمة، وابن سيرين، وغيرهما من السلف، واستدلوا بحديث عامر وبريدة.
(قلت: كيف كنتم تصنعون؟): القائل (قلت): هو عَمرو بن عامر مخاطبًا لأنس ومن معه من الصحابة، (قال) أي: أنس: (يُجزئُ)؛ بضم التحتية، وضم الهمزة؛ لأنَّ (أجزأ)؛ بالهمزة أولًا وآخرًا؛ بمعنى: يكفي، وهي رواية الأصيلي، (أحدَنا)؛ بالنصب مفعول مقدم (الوضوءُ)؛ بالرفع فاعل مؤخر (ما لم يحدث)؛ أي: مدة دوام عدم حدثه، فـ (ما): مصدرية، وعند ابن ماجه: (وكنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد)، وهذا مذهب الجمهور، وقال ابن شاهين: ولم يبلغنا أن أحدًا من الصحابة والتابعين كانوا يتعمدون الوضوء لكل صلاة إلا ابن عمر، فالجمهور على أنَّه لا يجب الوضوء إلا من حدث، وقدروا في الآية: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، واستدل الدارمي في «مسنده» على ذلك بقوله عليه السلام: «لا وضوء إلا من حدث»، وذهب قوم إلى وجوبه لكل صلاة، ولو كان من غير حدث، وهو ظاهر آية الوضوء؛ لأنَّ الأمر فيها مشروط بالقيام إلى الصلاة، وهو يدل على تكرار الوضوء لكل صلاة وإن لم يحدث، وأجاب الفاضل جار الله الزمخشري في «الكشاف»: (بأنه يحتمل أن يكون الخطاب للمحدثين، أو أن الأمر فيه للندب لا للوجوب)، ولا يصح الحمل عليهما معًا؛ بناءً على قواعد مذهب الإمام الأعظم في عدم جواز حمل المشترك على معنييه؛ لأنَّ تناول الكلمة الواحدة إلى معنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية، وهو لا يجوز) انتهى، خلافًا للشافعي، وخص بعض الظاهرية وجوبه لكل صلاة بالمقيمين دون المسافرين.
واختلف العلماء هل نسخ أو استمر حكمه؟ والجمهور على النسخ، ويدل له ما أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة من حديث عبد الله بن حنظلة: (أنَّ النبي عليه السلام أمر بالوضوء لكل صلاة، فلمَّا شق عليه؛ أمر بالسواك)، وفي «صحيح ابن خزيمة» من حديث حنظلة بن أبي عامر الغسيل: (أنه عليه السلام أُمِر بالوضوء عند كل صلاة، فلمَّا شق ذلك عليه؛ أُمِر بالسواك عند كل صلاة، ووُضِع عنه الوضوء إلا من حدث).
وقد انعقد الإجماع واستقر على أنه يصلي بالوضوء ما شاء وأن تجديده لكل صلاة مندوب، فالإجماع استقر على عدم الوجوب، كما حكاه النووي، ثم قال: (ويمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المُحْدِثين على الوجوب، وفي حق غيرهم على الندب) انتهى، واعترضه في «عمدة القاري»، فقال: (هذا لا يصح؛ لأنَّه يكون من باب الإلغاز، فلا يجوز) انتهى، أي: والتعمية فلا يجوز، على أنه لا حاجة إلى هذا الحمل بعد استقرار الإجماع؛ فإنه حجة من حجج الشرع؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي».
%ص 187%
==================
(1/374)
[حديث سويد بن النعمان: خرجنا مع رسول الله عام خيبر]
215# وبه قال: (حدثنا خالد بن مَخْلد) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة (قال: حدثنا): ولابن عساكر: (أخبرنا) (سليمان)؛ يعني: ابن بلال، كما في رواية (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين: هو القطان (قال: أخبرني) بالإفراد (بُشير)؛ بضم الموحدة، تصغير بشر (بن يَسَار)؛ بفتح المثناة التحتية، وتخفيف السين المهملة (قال: أخبرني) بالإفراد (سُويد بن النُّعمان)؛ بضم أولهما: الأوسي المدني (قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خيبر)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: سنة غزوة النبي الأعظم عليه السلام لها، وكانت سنة سبع، و (خيبر): منصرفة؛ للعلمية والتأنيث، كما تقدم، (حتى إذا كنا)؛ أي: النبي عليه السلام وأصحابه (بالصَّهْباء)؛ بفتح المهملة، وسكون الهاء، والموحدة الممدودة؛ وهي أدنى خيبر؛ أي: أسفلها من جهة المدينة؛ (صلَّى لنا)؛ أي: بنا أو لأجلنا (رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر)؛ أي: صلاة العصر، (فلمَّا صلَّى)؛ أي: فرغ من صلاة العصر؛ (دعا بالأطعمة)؛ أي: التي يتخذها [1] المسافر في سفره، (فلم يؤت إلا بالسويق) المعلوم مما مر؛ لعدم وجود غيره معهم، (فأكلنا)؛ أي: من السويق بعد أن بُلَّ بالماء، (وشربنا)؛ أي: من الماء أو من مائع السويق، وعند المؤلف في (الجهاد): (فلكَّينا وأكلنا وشربنا)؛ أي: لككنا السويق، (ثم قام النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم إلى المغرب)؛ أي: إلى أداء صلاة المغرب، فطلب ماء، (فمضمض) فاه بالماء من أثر السويق، وزاد في الرواية السابقة: (ومضمضنا)، (ثم صلى لنا): ولأبي ذر: (وصلى لنا)؛ أي: بأصحابه (المغرب)؛ أي: صلاتها (ولم يتوضأ)؛ فأفادت هذه الطريقة التصريح بالإخبار من يحيى وشيخه.
والجمع بين حديثي الباب: أن وضوءه عليه السلام لكل صلاة كان في غالب أحواله؛ لأنَّه الأفضل، فأعطى الراوي
%ص 187%
معظم الشَّيء حكم كله، أو أنَّه لم يشاهد التَّرك كما شاهده غيره، وأنَّ فعله الثاني لبيان الجواز، وليري أمَّته أنَّ ما التزمه في خاصَّته من الوضوء لكلِّ صلاة ليس بلازم لكلِّ مكلَّف، وليس عند المؤلِّف حديث لسويد بن النعمان إلا هذا الحديث الواحد، وقد أخرجه في مواضع، وهو أنصاري حارثي، شهد بيعة الرضوان، وذكر ابن سعيد أنه شهد أحُدًا [2]، وتمامه في «عمدة القاري».
ووجه مطابقة الحديثين للترجمة ما قاله الكرماني: من أن لفظ الحكم مقدر في الترجمة؛ أي: باب حكم الوضوء من غير حدث ثبوتًا وانتفاءً، والدلالة عليها حينئذ ظاهرة، وقال بعضهم: وقد يقال: دلالة الحديث الأول عليها من قول أنس: (كان عليه السلام يتوضأ عند كل صلاة)، فإنه صادق بتجديد الوضوءلا سيما وقد زاد الترمذي كما تقدم: (طاهرًا أو [3] غير طاهر)، وأمَّا الحديث الثاني؛ فذكره للتنبيه على بيان حالتي النبي عليه السلام في الوضوء؛ تكميلًا للفائدة؛ فتأمل.
قلت: وللتنبيه على اختلاف ألفاظه عن الحديث الأول، كما لا يخفى على من تفحص.
وفي يوم السبت الحادي عشري صفر سنة سبع وسبعين ومئتين وألف أمر فؤاد باشا بقتل أحمد عزت باشا سر عسكر، فقُتِل بالنيشان، ومعه أربعة من أمراء [4] الآي؛ منهم: علي بيك، وصالح بيك رحمهم الله تعالى، وحفنا بلطفه، وفرج وعنا وعن المسلمين بجاه الحبيب الأعظم وأصحابه الكرام عليه وعليهم السلام.
==========
[1] في الأصل: (يتخذه).
[2] في الأصل: (أحُد).
[3] في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي».
[4] في الأصل: (أمراة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (يتخذه).
[2] في الأصل: (أحُد).
[3] في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي».
[1] في الأصل: (يتخذه).
[2] في الأصل: (أحُد).
[3] في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي».
(1/375)
(55) [باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله]
هذا (باب)؛ بالتنوين، كما في «الفرع»، وفي «عمدة القاري»: (باب؛ بالسكون؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بالعقد والتركيب، اللهم إلا إذا قُدِّر شيء يكون حينئذ معربًا؛ نحو: هذا باب؛ لأنَّه يكون حينئذ خبر مبتدأ، وقول ابن حجر: «باب؛ بالتنوين»؛ غلط) انتهى؛ أي: لعدم تركيبه مع المبتدأ المقدر؛ فافهم.
(من الكبائر ألَّا يستتر)؛ بمثناتين فوقيتين؛ أي: لا يستبرئ (من بوله): و (أن): مصدرية في محل رفع على الابتداء، و (من الكبائر): خبره مقدمًا؛ والتقدير: ترك استتار الرجل من بوله من الكبائر؛ جمع كبيرة، وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعًا العظيم أمرها؛ كالقتل والزنى والفرار من الزحف وغير ذلك، وهي من الصفات الغالبة؛ يعني: صار اسمًا لهذه الفعلة القبيحة، وفي الأصل: هي صفة؛ والتقدير: الفعلة القبيحة أو الخصلة القبيحة.
واختلف في الكبائر؛ فقيل: سبع، وهو ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: أنه عليه السلام قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، فقيل: يا رسول الله؛ وما هنَّ؟ قال: «الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»، وقيل: الكبائر تسع، وروى الحاكم في حديث طويل: «الكبائر تسع»، فذكر السبعة المذكورة، وزاد: «عقوق الوالدين المسلمين، واستحلال [1] البيت الحرام»، وقيل: الكبيرة كل معصية، وقيل: كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبع مئة.
قلت: الكبيرة أمر نسبي، فكل ذنب فوقه ذنب، فهو بالنسبة إليه كبيرة، وبالنسبة إلى ما تحته صغيرة، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (واستهلال)، وهو تحريف.
%ص 188%
==================
(1/376)
[حديث: مر النبي بحايط من حيطان المدينة]
216# وبه قال: (حدثنا عثمان): هو ابن أبي شيبة الكوفي (قال: حدثنا جَرير)؛ بفتح الجيم: هو ابن عبد الحميد، (عن منصور): هو ابن المعتمر، (عن مُجاهد)؛ بضم الميم: ابن جَبر _بفتح الجيم وسكون الموحدة_ الإمام في التفسير، وهذا الحديث رواه الأعمش عن مجاهد، فأدخل بينه وبين ابن عباس طاووسًا، كما يأتي عن قريب أن المؤلف أخرجه هكذا، وإخراجه بهذين الوجهين يقتضي أن كليهما صحيح عنده، فيحمل على أن مجاهدًا سمعه من طاووس عن ابن عباس، وسمعه أيضًا من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيد ذلك أن في سياق مجاهد عن طاووس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وصرح ابن حبان بصحة الطريقين معًا، وقال الترمذي: (رواية الأعمش أصح)، وقال الترمذي في «العلل»: (سألت محمدًا أيهما [1] أصح؟ فقال: الأعمش أصح)، فإن قيل: إذا كان حديث الأعمش أصح؛ فَلِمَ لمْ يخرجه وخرج الذي هو غير صحيح؟ قلت له: كلاهما صحيح، فحديث الأعمش أصح، فالأصح يستلزم الصحيح، كما لا يخفى، ويؤيده: أن شعبة بن الحجاج رواه عن الأعمش كما رواه منصور ولم يذكر طاووسًا، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر.
قلت: ولا مانع من جعلهما حديثين مستقلين لا سيما مع الاختلاف في كثير من المسند وألفاظ المتن، فيكون هذا رواه مجاهد عن ابن عباس بدون واسطة، والآتي رواه عنه بواسطة طاووس؛ فتأمل.
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما: أنَّه (قال: مرَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم بحائط)؛ بالحاء والطاء المهملتين؛ أي: بستان من النخل إذا كان عليه جدار، ويجمع على حيطان وحوائط، وأصله: حواوط؛ بالواو، قلبت ياء؛ لأنَّه من الحوط؛ وهو الحفظ والحراسة، والبستان إذا عمل حواليه جدران؛ يحفظ من الداخل، لا يسمى البستان حائطًا إلا إذا كان عليه جدران، (من حيطان المدينة) المنورة، وعند المؤلف في (الأدب)، ولفظه: (خرج رسول الله عليه السلام من حيطان المدينة)، وبين هذه وبين ما هنا منافاة، أجاب في «عمدة القاري»: (بأن معناه: أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مرَّ به، وفي «أفراد الدارقطني» من حديث جابر: «أن الحائط كان لأم مبشر الأنصارية») انتهى، (أو مكة): شك من جرير، وأخرجه المؤلف في (الأدب): (من حيطان المدينة)؛ بالجزم من غير شك، ويؤيده رواية الدارقطني؛ لأنَّ حائط أم مبشر كان بالمدينة، وإنما عرَّف (المدينة) ولم يعرِّف (مكة)؛ لأنَّ مكة عَلَم، فلا يحتاج إلى التعريف، والمدينة اسم جنس، فعرفت بالألف واللام؛ ليكون معهودًا عن مدينة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: هذا الحديث رواه ابن عباس، وعلى تقدير كون هذه في مكة على ما دل عليه السند كيف يتصور هذا؟ وكان ابن عباس عند هجرة النبي عليه السلام من مكة ابن ثلاث سنين، فكيف ضبط ما وقع في مكة؟
الجواب فيه من وجوه؛ الأول: أنه يحتمل وقوع هذه القضية بعد مراجعة النبي عليه السلام إلى مكة سنة الفتح أو سنة الحج، الثاني: أنه يحتمل أنه سمع من النبي عليه السلام ذلك، الثالث: أنه يكون ما رواه من مراسيل الصحابة، الرابع: أنه يحتمل أن يكون ابن عباس سمع ذلك من صحابي، فأسقط ذكره من بينه وبين النبي عليه السلام، ونظائره كثيرة، وفي الحقيقة هذا داخل في الوجه الثالث، كذا قرره في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(فسمع)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (صوت إنسانين)؛ أي: بشرين، تثنية إنسان، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والعامة تقول: إنسانة، ويجمع على أناسي، قال الله تعالى: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49]، وقد خفي هذا الجمع على من تصدر في زماننا؛ ليقال له أعلم العلماء وأفقه الفقهاء؛ فليحفظ، وقال الجوهري: الإنس: البشر [2]، الواحد إِنْسي وأَنَسي؛ بالتحريك، والجمع: أناسي، وإن شئت جعلته إنسانًا، ثم جمعته أناسي، فتكون الياء عوضًا عن النُّون، وقال قوم: أصل إنسان: إنسيان على وزن (إفعلان) [3]، فحذفت الياء؛ استخفافًا لكثير ما يجري على ألسنتهم، وإذا صغروها؛ ردوها، وقال ابن عباس: إنَّما سمي إنسانًا؛ لأنَّه عهد إليه فنسي، ويقال: من الإنس خلاف الوحشة، ويقال للمرأة أيضًا: إنسان، ولا يقال: إنسانة، والعامة تقوله، كذا في «عمدة القاري»، (يعذبان): جملة وقعت حالًا من (إنسانين) أو صفة لهما (في قبورهما)؛ أي: حال كونهما يعذبان وهما في قبورهما، وإنما قال: (في قبورهما) مع أن لهما قبرين؛ لأنَّ في مثل هذا استعمال التثنية قليل، والجمع أجود، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، والأصل فيه: أن المضاف إلى المثنَّى إذا كان جزء ما أضيف إليه، يجوز فيه الإفراد والجمع، ولكن الجمع أجود؛ نحو: أكلت رأس الشاتين، وإن كان غير جزئه؛ فالأكثر مجيؤه بلفظ التثنية؛ نحو: سلَّ الزيدان سيفيهما [4]، وإن أمن اللبس؛ جاز جعل المضاف بلفظ الجمع، كما في قوله: (في قبورهما)، وقد يجتمع التثنية والجمع في قوله: ظهراهما مثل ظهور الترسين، وفي رواية الأعمش: (مر بقبرين)، وزاد ابن ماجه في روايته: (بقبرين جديدين، فقال: «إنهما يعذبان»).
فإن قلت: [المعذب] ما في القبرين، فكيف أسند العذاب إلى القبرين؟
قلت: هذا من باب ذكر المحل وإرادة الحال، وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون الضمير عائدًا على غير مذكور؛ لأنَّ سياق الكلام يدل عليه، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا ليس بشيء؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير موجود، وهو القبران، ولو لم يكن موجودًا؛ لكان لكلامه وجه، والوجه ما ذكرناه؛ فافهم.
ولم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما.
قال في «عمدة القاري»: (والحكمة في عدم بيان اسمي المقبورين ولا أحدهما
%ص 188%
يحتمل أنه عليه السلام لم يبين ذلك؛ قصدًا للتستر عليهما خوفًا من الافتضاح، وهو عمل مستحسن، ولا سيما من حضرة النبي الأعظم عليه السلام الذي من شأنه الرحمة والرأفة على عباد الله تعالى، ويحتمل أنه قد بينه؛ ليحترز عنه غيره عن مباشرة ما باشر صاحب القبرين، ولكن الراوي أبهمه عمدًا، كما ذكرنا) انتهى.
قلت: ويؤيد الأول أن عادته عليه السلام الإبهام عن مثل ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها حين أرادت شراء بريرة وشرطوا عليها الولاء؛ فأخبرت بذلك النبي عليه السلام، فأمرها بالشراء، وصعد المنبر، وقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله عز وجل ... » إلى آخر القصة، فأبهم الشارط، وهذه عادته عليه السلام؛ سترًا على أمَّته.
فإن قلت: قد ذكر القرطبي عن بعضهم: أن أحدهما كان سعد بن معاذ رضي الله عنه.
قلت: قد ردَّه في «عمدة القاري»: (بأن هذا قول فاسد لا يُلتَفَتُ إليه، ومما يدل على فساده أنَّ النبي الأعظم عليه السلام حضر جنازته كما ثبت في «الصحيح»، وسماه النبي عليه السلام سيدًا، حيث قال لأصحابه: «قوموا إلى سيدكم»، وقال: «إن حكمه وافق حكم الله تعالى»، وقال: «إن عرش الرحمن اهتز لموته»، وغير ذلك من مناقبه العظيمة، وقد حضر النبي عليه السلام دفن المقبورين دل عليه حديث أبي أمامة رواه أحمد، ولفظه: أنه عليه السلام قال لهم: «من دفنتم اليوم ههنا؟»، ولم ينقل عنه [5] عليه السلام ما ذكره القرطبي عن البعض، فدل ذلك على بطلانه في هذه القضية) انتهى.
(فقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: يُعَذَّبان)؛ أي: الإنسانين، وفي حديث أبي بكرة من «تاريخ المؤلف» بسند جيد: مر النبي عليه السلام بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أمَّا أحدهما؛ فيُعَذَّبُ في البول، وأمَّا الآخر؛ فيُعَذَّب في الغيبة»، وفي حديث أبي هريرة من «صحيح ابن حبان»: مر عليه السلام بقبر، فوقف عليه، وقال: «ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه يخفف عنه بعض عذاب القبر»، وهو عند أبي موسى بلفظ: «قبرين؛ رجل لا يتطهر من البول، وامرأة تمشي بالنميمة»، وعند ابن أبي شيبة من حديث يعلى بن شبابة: مر عليه السلام بقبر يُعذَّب صاحبه، فقال: «إن هذا القبر يُعَذَّبُ صاحبهُ في غير كبير»، ولمَّا ذكره البرقي في «تاريخه»؛ فقال: «قبرين؛ أحدهما: يأكل لحوم الناس ويغتابهم، وكان هذا لا يتقي بوله»، وفي حديث الأعمش عن جابر: دخل النبي عليه السلام حائطًا لأبي مبشر، فإذا بقبرين؛ فدعا بجريدة رطبة فشقها، ثم وضع واحدة على أحد القبرين، والأخرى على الآخر، ثم قال: «لا يرفعان عنهما حتى يجفا»، وقال: «أمَّا أحدهما؛ فكان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يتنزه من البول»، وفي حديث أنس: مر عليه السلام بقبرين من بني النجار يعذبان في النميمة والبول، فأخذ سعفة رطبة فشقها، وجعل على ذا نصفًا، وعلى ذا نصفًا، وقال: «لا يزال يخفف عنهما العذاب ما داما رطبتين»، وورد في عذاب القبر أحاديث كثيرة، كذا في «عمدة القاري».
(وما يُعَذَّبان في كبير)؛ بالموحدة، و (ما): نافية على الأظهر؛ أي: بكبير تركه عليهما إلا أنه كبير من حيث المعصية، وقيل: يحمل (كبير) على أكبر؛ تقديره: ليس هو أكبر الذنوب؛ إذ الكبائر متفاوتة، وقال القاضي عياض: إنه غير كبير عندكم؛ لقوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وذلك أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة وتركها كبيرة، وفي «شرح السنة»: (ومعنى: «وما يعذبان في كبير»: أنهما لا يعذبان في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز عنه؛ إذ لا مشقة في الاستتار عند البول، وترك النميمة، ولم يُرِد أنهما غير كبير في أمر الدين)، وقال المازري: (الذنوب تنقسم: إلى ما يشق تركه طبعًا؛ كالملاذ المحرمة، وإلى ما ينفر منه طبعًا؛ كتارك السموم، وإلى ما [لا] يشق تركه طبعًا؛ كالغيبة والبول)، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: وفيه: أن عذاب القبر حق حتى يجب الإيمان به والتسليم له، وعلى ذلك أهل السنة والجماعة خلافًا للمعتزلة، ولكن ذكر القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في «الطبقات»: (إن قيل: مذهبكم أدَّاكم إلى إنكار عذاب القبر، وهو قد أطبقت عليه الأمة؛ قلت: إن هذا الأمر إنَّما أنكره أولًا ضرار بن عمرو لما كان من أصحاب واصل ظنوا أن ذلك بما أنكرته المعتزلة، وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان؛ أحدهما: يجوِّز ذلك كما وردت به الأخبار، والثاني: يقطع بذلك، وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما ينكرون قول جماعة من الجهلة: إنهم يعذبون وهم موتى، ودليل العقل يمنع من ذلك)، ونحوه ذكره أبو عبيد الله المرزباني في «الطبقات»، وقال القرطبي: إن الملحدة ومن يذهب مذهب الفلاسفة أنكروه أيضًا، والإيمان به واجب لازم حسب ما أخبر به الصَّادق عليه السلام، وإن الله يحيي العبد ويرد إليه الحياة والعقل، وهذا نطقت به الأخبار، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك يكمل العقل للصغار؛ ليعلموا منزلتهم وسعادتهم، وقد جاء أن القبر ينضمُّ عليه كالكبير، وصار أبو الهذيل وبشر إلى أن من خرج عن سمة الإيمان؛ فإنه يُعَذَّبُ بين النفختين، وإأن المسألة إنَّما تقع في تلك الأوقات، وأثبت البلخي والجبائي وابنه عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه للكافرين والفاسقين، وقال بعضهم: عذاب القبر جائز، وإنه يجري على الموتى من غير رد روحهم إلى الجسد، وإن الميت يجوز أن يتألم ويحس، وهذا مذهب جماعة من الكرامية، وقال بعض المعتزلة: إن الله تعالى يعذب الموتى في قبورهم، ويحدث الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حشروا؛ وجدوا تلك الآلام، وأمَّا باقي المعتزلة مثل: ضرار بن عمرو، وبشر المريسي، ويحيى بن كامل، وغيرهم؛ فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلًا، وهذه الأقوال كلها فاسدة تردُّها الأحاديث الثابتة، وإلى الإنكار أيضًا ذهب الخوارج وبعض المرجئة، ثم المُعَذَّبُ عند أهل السنة: الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إلى جسده أو إلى جزئه، وخالف في ذلك محمد بن جرير وطائفة، وقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهذا أيضًا فاسد، والله أعلم، انتهى.
(ثم قال)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (بلى)؛ معناه: أي: إنَّه لكبير، وقد صرح بذلك المؤلف في رواية من طريق عبيدة بن حميد عن منصور، فقال: «وما يُعَذَّبان في كبير، وإنَّه لكبير»، وهذا من زيادات رواية منصور عن الأعمش، ومسلم لم يذكر الروايتين.
وقال الكرماني: فإن قلت: لفظ: (بلى) يختص بإيجاب النفي؛ فمعناه: بل إنهما ليُعَذَّبان في كبير، فما وجه التلفيق بينه وبين (ما يعذبان في كبير)؟ قلت: قال ابن بطال: (وما يعذبان بكبير)؛ يعني: عندكم، (وهو كبير)؛ يعني: عند الله تعالى، وقد ذكرناه، وقال عبد الملك البوني في قوله: «وإنَّه لكبير»: يحتمل أنه عليه السلام ظن أن ذلك غير كبير، فأوحى الله إليه في الحال بأنه كبير، وفيه نظر، قاله في «عمدة القاري».
ووجهه أنه يستلزم أن يكون نسخًا، وهو لا يدخل في الخبر.
وأجيب: بأن الخبر بالحكم يجوز نسخه، وهذا منه، وأجيب عن أصل الإيراد: بأن الضمير في (وإنَّه لكبير) الذي في الرواية الثانية يعود على العذاب؛ لما في «صحيح ابن حبان» من حديث أبي هريرة: «يُعَذَّبان عذابًا شديدًا في ذنب هين»، وقيل: إن الضمير يعود على أحد الذنبين، وهو النميمة؛ لأنَّها من الكبائر بخلاف كشف العورة، ورد: بأنه ضعيف، ومع ضعفه غير مستقيم؛ لأنَّ الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط، وأجيب: بأن (كبير) المنفي؛ بمعنى: أكبر، والمثبت واحد الكبائر، وقيل: المعنى: ليس بكبير في الصورة؛ لأنَّ تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة، وهو كبير في الذنب، وقيل: ليس بكبير في اعتقاد المخاطبين، وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز عنه، وجزم بهذا البغوي، ورجحه ابن دقيق العيد وجماعة، وقيل: ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيرًا بالمواظبة عليه، ويدل له لفظ السياق، فإنه وصف كلًّا منهما بما يدل على تجدده منه، واستمراره عليه؛ حيث إنه أتى بالمضارع بعد (كان)، واستظهر بعضهم أن يقال: إن (ما) مصدرية، وهي وصلتها في محل رفع على الابتداء، و (في كبير): خبره؛ أي: وتعذيبهما في كبير، وهذا معنى الرواية الصحيحة، ولا يمنع من ذلك ذكر (بل) المختصة بإيجاب النفي؛ لأنَّها تستعمل بعد الإيجاب، كما نقله الرضي؛ كقوله:
وقد بعدت بالوصل بيني وبينها ... بل إن من زارَ القبورَ ليبعدا
سلمنا أنه لا بد من تقديم النفي،
%ص 189%
لكنهم قد يعطون الشيء حكم ما يشبهه في لفظه، كما فعلوا في (ما) المصدرية؛ عاملوها معاملة (ما) النافية في زيادة (إن) بعدها؛ كقوله:
ورَجِّ الفَتى لِلْخيرِ مَا إِنْ رأَيتَهُ ... عَلَى السِّنِ خَيرًا لا يزالُ يَزيدُ
انتهى.
وفيه: أن (بعدت) في البيت الأول فيه معنى النفي، ولعلَّه لهذا قال: (سلمنا ... ) إلخ، وقد ذكر بعضهم: أن (في كبير) متعلق بـ (يُعَذَّبان) الأول، وجملة: (وما يُعَذَّبان) معترضة؛ أي: بين المتعلِّق والمتعلَّق، و (ما): استفهامية؛ للتعظيم وتأكيد للتعذيب؛ فتأمل، والله أعلم.
وقوله: (كان أحدهما لا يستَتِر من بوله)؛ استئناف بيانيٌّ وتعليل لما مر؛ بفتح المثناة فوق وكسر الثانية، من السترة؛ ومعناه: لا يستر جسده ولا ثوبه من مماسَّة البول، ووقع في رواية زيادة (كان) ثانيًا، فـ (كان) الثانية تأكيد لـ (كان) الأولى أو زائدة، والظاهر: أن معناه ما في رواية ابن عساكر: (لا يستَبْرئ)؛ بالموحدة الساكنة بعد المثناة الفوقية المفتوحة، من الاستبراء؛ وهو طلب البراءة من البول، وقيل: معناه ما في رواية مسلم وأبي داود من حديث الأعمش: (لا يستَنْزِه)؛ بمثناة فوقية مفتوحة، ونون ساكنة، وزاي مكسورة، بعدها هاء، من التنزه؛ وهو الإبعاد، وقيل: معناه ما في رواية: (لا يستَنْثِر)؛ بمثناة فوقية مفتوحة، ونون ساكنة، ومثلثة مكسورة، من الاستنثار؛ وهو طلب النثر؛ يعني: نثر البول عن المحل، وروي: (لا ينْتتر)؛ بمثناتين فوقيتين بعد النُّون الساكنة، من النتر؛ وهو جذب فيه قوةوجفوة [6]، وفي الحديث: «إذا بال أحدكم؛ فليستنثر»، وروى أبو نعيم في «المستخرج»: (كان يتوقى)؛ بالقاف بعد الواو، لكن الظاهر أن معناه: الاستبراء، كما ذكرنا.
ففي الحديث: وجوب الاستبراء؛ أي: افتراضه، وهو حجة لإمامنا الأعظم رئيس المجتهدين، وحجة على الشافعي بقوله: إنه سنة، وذلك فإن المراد بعدم الاستتار من البول: أنه لم يطلب البراءة منه، بل تركه يجري على أفخاذه، أو يقطر على سراويله، ثم يتوضأ ويصلي، وهو على هذه الحالة كما يفعله الأتراك في زماننا، وما قيل: إن معناه: لا يستر عورته؛ بعيد؛ لأنَّ التعذيب لو وقع على كشف العورة؛ لاستقل الكشف بالسببية، فيترتب العذاب عليه دون البول مع أن الحديث ظاهر في دلالته على اعتبار البول في السببية لعذاب القبر، كالحديث الذي صححه ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا: «أكثر عذاب القبر من البول»، بل المراد بالاستتار: الاستبراء، كما دلت عليه الرواية، وهو التحقيق، ويكون الاحتراز عن مفسدة تتعلق به كانتقاض الطهارة، كما ذكرنا، وعبر بالاستتار مجازًا عن الاحتراز؛ لأنَّ المستتر عن الشيء بعيد عنه، ومحتجب وهو شبيه بالبعد عن ملابسة البول، وأيضًا فـ (من) لما أضيفت إلى البول وهي لابتداء الغاية حقيقة أو مجازًا؛ اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول؛ بمعنى: أن ابتداء سبب العذاب من البول، وإذا حمل على حقيقته؛ يلزم منه أن يكون سبب العذاب مجرد كشف العورة، وهو غير مراد، فتعين أن يكون المعنى ما ذكرناه، وتعين الحمل على المجاز؛ لتتفق ألفاظ الحديث على معنى واحد ولا تختلف، ويؤيده رواية أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه: (أمَّا أحدهما؛ فيُعَذَّبُ في البول)، ومثله عند الطبراني عن أنس، وكلمة (في): للتعليل؛ أي: يُعَذَّبُ بسبب البول.
ففي الحديث: دليل على نجاسة الأبوال مطلقًا سواء كانت من بني آدم أو غيره، ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه: أنه يعفى في النجاسة المائعة عن قدر مقعر الكف، وفي الجامدة يعفى عن قدر الدرهم؛ لما روي عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سئل عن قليل النجاسة، فقال: (مثل ظفري هذا لا يمنع)، وظفره كان قدر الدرهم، وبهذا قال إبراهيم النخعي، وقد رخص الكوفيون في مثل رؤوس الإبر من البول؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، وإنما كان المعفو قدر الدرهم؛ اعتبارًا للمشقة، وقياسًا على المخرجين، وسهل في البول القاسم بن محمد، ومحمد بن علي، والشعبي.
وفي «الجواهر» للمالكية: (أن البول والعذرة من بني آدم نجسان، وطاهران من كل حيوان مباح الأكل، ومكروهان من المكروه أكله)، وقيل: بل نجسان، وعامة الفقهاء لم يخففوا من الدم إلا اليسير.
واختلف أصحاب مالك في مقدار اليسير، والأرجح أنه قدر الدرهم الكبير، وهذا أيضًا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال الشافعي: قليل النجاسة وكثيرها سواء، لا يُعْفى عن شيء منها إلا ما لا يدركه الطرف، وفي هذا مشقة وعسر وحرج، وهو مدفوع بالنص؛ فافهم، ولا حجة له في هذا الحديث؛ لأنَّه عُذِّبَ على عدم صحة وضوئه مع نزول البول، وهو عدم الاستبراء من البول، أو لأنَّه يفعله عمدًا بغير عذر، فيبقى على بدنه من النجاسة زائدًا على قدر المعفو عنه، ولا شك أن هذا يوجب العذاب مع ما يلزم عليه من أداء الصلاة بغير طهارة، وإن تعمد ذلك؛ يخشى عليه الكفر، ويكفر عند بعض العلماء، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب».
(وكان الآخر يمشي بالنميمة)؛ أي: يسعى بنقلها وإفشائها بين الناس، ولهذا قال بعضهم: حقيقة النميمة: إفشاء السر وهتك الستر عما يُكْرَهُ كشفه، وفاعلها يقال له: نمام، وفي حديث الشيخين: «لا يدخل الجنة نمام»، وفي رواية: (قتات)؛ بالقاف ومثناتين، النمام: الذي يكون مع الجمع يتحدثون حديثًا فينم عليهم، والقتات: الذي يستمع عليهم وهم لا يعلمون، ثم ينم، وعرَّفها في «عمدة القاري» بأنها هي نقل كلام الناس، وقال النووي: (هي نقل كلام الغير بقصد الإضرار)، قلت: وتفسير الإمام في «عمدة القاري» تفسير بالأعم.
ثم إن النووي قال: (والمشي بالنميمة من أقبح القبائح)؛ أي: من أكبر الكبائر، واعترضه الكرماني بأنه لا يصح على قاعدة الفقهاء؛ لأنَّهم يقولون: الكبيرة: هي الموجبة للحد، ولا حد على الماشي بالنميمة إلا أن يقال: الاستمرار المستفاد منه يجعله كبيرة؛ لأنَّ الإصرار على الصغيرة حكمه حكم الكبيرة، أو لا يريد بالكبيرة معناها الاصطلاحي.
وزعم ابن حجر: (وما نقله عن الفقهاء ليس قول جميعهم؛ لأنَّ كلام الرافعي يشعر ترجيحه؛ حيث حكى وجهين؛ أحدهما: هذا، والثاني: ما فيه وعيد شديد، قال: وهم إلى الأول أميل، والثاني أوفق)، ورده في «عمدة القاري»: (بأنه لا وجه لتعقيبه على الكرماني؛ لأنَّه لم يميز قول الجميع عن قول البعض حتى يعترض على قوله: (على قاعدة الفقهاء) على أن الذنب المستمر عليه صاحبه وإن كانت صغيرة؛ فهي كبيرة في الحكم، وفيه وعيد؛ لقوله: «لا صغيرة مع الإصرار») انتهى، وهو جواب صحيح، وعليه جرى القسطلاني حيث قال: (ويجاب عن استشكال كون النميمة من الصغائر بأن الإصرار عليها المفهوم هنا من التعبير بـ «كان» المقتضية له يصير حكمها حكم الكبيرة) انتهى، وقد ركب العجلوني هنا متن عمياء، وخبط خبط عشواء، والصواب ما علمته؛ فليحفظ.
وإنما خص البول والنميمة بعذاب القبر؛ لأنَّ القبر أول منازل الآخرة، وفيه نموذج ما يقع في القيامة من العقاب والثواب، والمعاصي التي يُعاقَب عليها يوم القيامة نوعان: حق الله تعالى، وحق العباد، وأول ما يقضى فيه من حقوق الله: الصلاة، ومن حقوق العباد: الدماء، وأما البرزخ؛ فيقضى فيه مقدمات هذين الحقين ووسائلهما، فمقدمة الصلاة الطهارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدماء النميمة، فيبدأ في البرزخ بالعقاب عليهما.
نسأله سبحانه العفو عن ذنوبنا والستر علينا، وأن يفرج عنا وعن المسلمين، ويكشف عنا هذا الضيق والمقت والقهر إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(ثم دعا)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بجريدة)؛ من جريد النخل، وفي رواية الأعمش: (بعَسِيب رطب)، وهو بفتح العين المهملة، وكسر السين المهملة، على وزن (فَعِيل)؛ نحو: (كَرِيم)؛ وهي الجريدة التي لم
%ص 190%
ينبت فيها خوص، فإن نبت؛ فهي السعفة، وعُلم من هذا أن الجريدة هي الغصن من النخل بدون الورق، كذا في «عمدة القاري».
قيل: خص الجريد بذلك؛ لأنَّه بطيء الجفاف، والآتي بالجريدة بلال رضي الله عنه، كما في مشيخة يعقوب الفسوي من حديث أبي رافع بسند ضعيف: أن بلالًا قال: كنا مع النبي عليه السلام في جنازة؛ إذ سمع شيئًا في قبر، فقال لبلال: «ائتني بجريدة خضراء ... »؛ الحديث، وقيل: الآتي بها أبو بكر الصديق كما عند أحمد والطبراني.
قلت: والظاهر أن هذه القصة غير قصة الباب؛ لأنَّه صرح فيها بقبرين، وصرح في حديث بلال بقبر واحد، وسيأتي تمامه؛ فافهم.
(فكسَرها)؛ بتخفيف المهملة؛ أي: بنفسه أو أمر غيره، والظاهر الأول (كِسْرتين)؛ بكسر الكاف، وسكون المهملة، تثنية كسرة؛ وهي القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش أنه منصوب على الحال، وأنها كانت نصفًا، وفي رواية جرير عنه: (باثنتين)، قال النووي: الباء زائدة؛ للتأكيد، وهو منصوب على الحال، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: (إن في متن الحديث: «ثم دعا بجريدة، فكسرها كِسْرتين»؛ يعني: أتي بها فكسرها؛ أي: فالفاء عاطفة على مقدر، وفي حديث أبي بكرة وجابر كما رواه مسلم وأحمد والطبراني أنه الذي قطع الغصنين، فهل هذه قضية واحدة أو قضيتان؟
الجواب: أنهما قضيتان، والمغايرة بينهما من أوجه؛ الأول: أن هذه كانت في المدينة، وكان مع النبي عليه السلام جماعة، وقضية جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته، فتبعه جابر وحده، الثاني: أن في هذه القضية أنه عليه السلام غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين، كما في رواية الأعمش الآتية، وفي حديث جابر: أمر عليه السلام جابرًا فقطع غصنين من شجرتين كان عليه السلام استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا، فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي عليه السلام جالسًا، وأن جابرًا سأله عن ذلك، فقال: «مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفعه عنهما ما دام الغصنان رطبين»، الثالث: لم يذكر في قصة جابر ما كان السبب في عذابهما، الرابع: لم يذكر فيه كلمة الترجي، فدل ذلك كله على أنهما قضيتان مختلفتان، بل روى ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة: أنه عليه السلام مر بقبر، فوقف عليه، فقال: «ائتوني بجريدتين»، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، فهذا بظاهره يدل على أنَّها قضية ثالثة، فسقط بهذا كلام من ادعى أن القضية واحدة، كما مال إليه النووي والقرطبي، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه، ومثله في «ابن حجر».
قلت: ويؤيد هذا الظاهر حديث أبي رافع، فإن فيه: (فسمع شيئًا في قبر، فكسرها باثنتين، وترك بعضها عند رأسه، وبعضها عند رجليه)، وفي قصة الواحد: جعل نصفًا عند رأسه ونصفًا عند رجليه، وفي قصة الاثنين: جعل على كل قبر جريدة، ولا ريب أن هذه قضايا مختلفة في أحوال متعددة في أماكن متغايرة، فكل صحابي عبر بما رأى؛ فافهم، والله أعلم.
(فوضع)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (على كل قبر منهما كِسْرة)؛ بكسر الكاف؛ أي: واحدة؛ يعني: وضع كل كسرة منهما على ظهر القبر من جهة الرأس، وعلى الآخر كذلك، كما اعتيد في زماننا؛ لأنَّ كلمة (على) تفيد الاستعلاء، فالكسرة الموضوعة على كل قبر نصف، قال في «عمدة القاري»: (وفي رواية الأعمش: «فغرز»، والغرز مستلزم الوضع بدون العكس) انتهى.
والغرز بإزاء الرأس ثابت بإسناد صحيح، كما في «المصابيح»، وقول الزركشي: وفي رواية غندر: (نصفه عند رأسه، ونصفه عند رجليه)، كما ذكره صاحب «الترغيب»؛ محمول على أنَّ القبر واحد؛ لما في «صحيح ابن حبان» من حديث أبي هريرة أنَّه قال: مر عليه السلام بقبر فوقف عليه، وقال: «ائتوني بجريدتين»، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، ثم قال: «لعلَّه يخفف عنه بعض عذاب القبر»، لا أنه في هذه القصة، فيكون القطع حينئذ أربعًا، كما زعمه العجلوني؛ لأنَّ القضايا مختلفة في القبر والقبرين، ولأن مقصود النبي عليه السلام تخفيف العذاب ما دام الجريد رطبًا، ومع شقه أربع شقق لا يستقيم رطبًا؛ لصغر جرمه، والحر حر الحجاز؛ فافهم.
(فقيل له): وفي رواية: إسقاط لفظة: (له)؛ أي: للنبي الأعظم عليه السلام: (يا رسول الله): وفي رواية الأعمش: (قالوا)؛ أي: الصحابة: (لم فعلت هذا؟): الإشارة إلى وضع الجريدتين على القبرين، قال في «عمدة القاري»: (ولم يُعْلَم القائل من هو) انتهى ومثله في «ابن حجر»، قلت: وقد يقال: إن القائل له ذلك إما جابر كما في حديثه، أو بلال كما في حديثه، أو أبو بكر الصديق كما في حديثه، وكل قضية على حسبها، وهو الظاهر؛ فافهم.
(قال)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (لعلَّه أنْ يخفف عنهما)؛ بضمير التثنية يعود إلى الإنسانين، و (يخفف): مبني للمفعول، شبه (لعلَّ) بـ (عسى)، فأتى بـ (أنْ) في خبره، وهو جائز، وإن كان الأكثر حذفها، كما في قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44]، وقال في «عمدة القاري»: (الرواية: «أن يخفف عنها» على التوحيد والتأنيث، وهو ضمير النفس، فيجوز إعادة الضميرين في «لعلَّه» و «عنها» إلى الميت باعتبار كونه إنسانًا وكونه نفسًا، ويجوز أن يكون الضمير في «لعلَّه» ضمير الشأن، وفي «عنها» للنفس، وجاز تفسير الشأن بـ «أن» وصلتها مع أنها في تقدير مصدر؛ لأنَّها في حكم جملة؛ لاشتمالها على مسند ومسند إليه، ولذلك سدت مسد مفعولي «حسب» و «عسى» في نحو: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ} [آل عمران: 142]، وفي: {عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا} [البقرة: 216]، ويجوز على قول الأخفش أن تكون «أن» زائدة مع كونها ناصبة؛ كزيادة الباء و «من» مع كونهما جارَّتين، ومن تفسير ضمير الشأن بـ «أن» وصلتها قول عمر رضي الله عنه: «فما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى ما يقلني رجلاي»، وقال الطيبي: لعلَّ الظاهر أن يكون الضمير مبهمًا يفسره ما بعده، كما في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37]، وقال العلَّامة جار الله الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا ما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة إلا الحياة الدنيا، ثم وضع «هي» موضع الحياة؛ لأنَّ الخبر يدل عليها ويبينها [7]، ومنه: هي النفس تحمل ما حملت، والرواية بتثنية الضمير في «عنهما» لا يستدعي إلا هذا التأويل) انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.
ثم قال: (وهل للجريد معنى يخصه في الغرز على القبر ليخفف العذاب؟
والجواب: أنه لا لمعنى يخصه، بل المقصود أن يكون ما فيه رطوبة من أي شجر كان، ولهذا أنكر الخطابي ومن تبعه وضع الجريد اليابس، وكذلك ما يفعله أكثر الناس من وضع ما فيه الرطوبة من الرياحين والبقول ونحوهما على القبور ليس بشيء، وإنما السنة الغرز.
فإن قلت: في الحديث: «فوضع على كل قبر منهما كِسرة».
قلت: في رواية الأعمش: «فغرز»، فينبغي الغرز؛ لأنَّ الوضع يوجد في الغرز بخلاف الوضع، كما قدمناه.
فإن قيل: إنه عليه السلام قد علل غرزهما على القبر بأمر معين من العذاب، ونحن لا نعلم ذلك مطلقًا.
والجواب: أنه لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن نترك ذلك، ألا ترى أنَّا ندعو للميت بالرحمة، ولا نعلم أنه يرحم أم لا؟
فإن قلت: وهل لأحد أن يأمر بذلك لأحد أم الشرط أن يباشره بيده؟
والجواب: ظانه لا يلزم ذلك، والدليل عليه أن بريدة [بن] الحصيب [8] رضي الله عنه أوصى أن يوضع على قبره جريدتان، كما يأتي في هذا الكتاب).
وزعم ابن حجر أنه ليس في السياق ما يقطع أنه باشر الوضع بيده الكريمة عليه السلام، بل يحتمل أن يكون أمر به، وردَّه في «عمدة القاري»: بأن هذا كلام واهٍ جدًّا، وكيف يقول ذلك وقد صرح في الحديث: (ثم دعا بجريدتين، فكسرهما، فوضع على كل قبر منهما كسرة)؟! وهذا تصريح في أنه عليه السلام وضعه بيده الكريمة، ودعوى احتمال الأمر لغيره به بعيدة، وهذه كدعوى احتمال مجيء غلام زيد في قولك: جاء زيد، ومثل هذا الاحتمال لا يعتد به؛ فافهم، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.
(ما لم ييبَسا)؛ بمثناتين تحتيتين،
%ص 191%
ثم موحدة، وهذه في أكثر الروايات، وفي رواية: (ما لم تيبَسا)؛ بمثناة فوقية بعدها تحتية، ثم موحدة؛ أي: الكسرتان، وفي رواية: (إلا أن تيبَسا)؛ بحرف الاستثناء، وفي رواية: (إلى أن ييبَسا)؛ بكلمة (إلى) التي للغاية، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، أمَّا التأنيث؛ فباعتبار رجوع الضمير فيه إلى الكسرتين، وأمَّا التذكير؛ فباعتبار رجوع الضمير إلى العُود؛ لأنَّ الكسرتين عودان، والباء الموحدة مفتوحة في جميع الروايات؛ لأنَّه من باب (علم يعلم)، وفيه لغة شاذة، وهي الكسر، وكلمة (ما): مصدرية زمانية، وأصله: لعلَّه يخفف عنهما مدة دوامهما إلى زمن اليبس، أو مدة عدم يبسهما، وذلك بسبب التبرك بأثره عليه السلام، ودعائه بالتخفيف عنهما، فكأنه عليه السلام جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدًّا لما وقعت له المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الرطب معنى ليس في اليابس، وقال النووي: (قال العلماء: هو محمول على أنه عليه السلام سأل الشفاعة لهما، فأجيبت شفاعته بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا)، وقال ابن الملقن: وقد حصل ما ترجَّاه في الحال، فأورقا في ساعتهما، ففرح بذلك، وقال: «رُفِعَ العذابُ عنهما بشفاعتي»، وقيل: يحتمل أنه عليه السلام يدعو لهما تلك المدة، وقيل: لأنَّهما يسبحان ما داما رطبين، وليس لليابس تسبيح، قالوا في قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]؛ معناه: وإن من شيء حي، ثم حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشبة ما لم تيبس، وحياة الحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون إلى أنه على عمومه، ثم اختلفوا هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة على الصانع، فيكون مسبحًا منزهًا بصورة حاله؟ وأهل التحقيق على أنه يسبح حقيقة، وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها، وجاء النص به؛ وجب المصير إليه، واستحب العلماء قراءة القرآن والأذكار عند القبر؛ لهذا الحديث؛ لأنَّه إذا كان يرجى التخفيف لتسبيح الجريدة؛ فتلاوة القرآن والذكر أولى.
فإن قلت: ما الحكمة في كونهما ما داما رطبين يمنعان العذاب بعد دعوى العموم في تسبيح كل شيء؟
قلت: يمكن أن يكون معرفة هذا كمعرفة [عدد] الزبانية في أنه تعالى هو المختص بها، كذا في «عمدة القاري».
وقال المازري: (يحتمل أن يكون أوحي إليه أن العذاب يُخَفَّفُ عنهما هذه المدة)، واعترضه القرطبي بأنه لو علم بالوحي؛ لما أتى بحرف الترجي، قال ابن حجر: (وإذا حملناها على التعليل؛ لا يرد هذا)، قلت: وهذا الحمل فاسد، فإن النحاة أجمعوا على أن معنى (لعلَّ): الترجي، وهو مراد النبي عليه السلام؛ بدليل أن هذه الكيفية من أخذ الجريدة وغرزها ونحوه شفاعة، وهي ترجى بلا ريب، وأما التعليل؛ فإنه معنى شاذ، على أنه إنَّما يأتي بالتعليل في مقام الجزم واليقين، وهنا المقام مقام تردد بين التخفيف وعدمه؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: واختلفوا في المقبورَيْن هل كانا مسلمين أو كافرين؟
فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني في كتاب «الترغيب»، واحتج على ذلك بما رواه من حديث ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: «مر نبي الله عليه السلام على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة»، قال: هذا حديث حسن، وإن كان إسناده ليس بالقوي؛ لأنَّهما لو كانا مسلمين؛ لما كان لشفاعته عليه السلام لهما إلى أن ييبسا معنًى، ولكنه لما رآهما يعذبان؛ لم يستجز من عطفه ولطفه عليه السلام حرمانهما من ذلك، فشفع لهما إلى المدة المذكورة، ولما رواه الطبراني في «الأوسط»: «مر النبي عليه السلام على قبور نساء من بني النجار هلكن في الجاهلية، فسُمِعْنَ يُعَذَّبْنَ في النميمة»، قال: لم يروه عن أسامة إلا ابن لهيعة.
وقيل: كانا مسلمين، وجزم به بعضهم؛ لأنَّهما لو كانا كافرين؛ لم يَدْعُ عليه السلام لهما بتخفيف العذاب، ولا ترجاه لهما، ويقوي هذا ما في بعض طرق حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «مرَّ بقبرَيْن من قبور الأنصار جديدَيْن»، فإن تعددت الطرق وهو الأقرب لاختلاف الألفاظ؛ فلا بأس، وإن لم يتعدد؛ فهو بالمعنى المذكور؛ لأنَّ بني النجار من الأنصار، وهو لقب إسلامي لقبوا به؛ لنصرهم النبي عليه السلام، ولم يعرف بهما سَمِيٌّ في الجاهلية، ويقويه أيضًا ما في رواية مسلم: «فأجيبت بشفاعتي»، والشفاعة لا تكون إلا للمؤمن، وما في رواية أحمد المذكورة، فقال: «من دفنتم اليوم ههنا؟»، فهذا أيضًا يدل على أنهما كانا مسلمَيْن؛ لأنَّ البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب لهم.
فإن قلت: لمَ لا يجوز أن يكونا كافرين، كما ذهب إليه أبو موسى، وكان دعاء النبي عليه السلام لهما من خصائصه كما في قصة أبي طالب؟
قلت: لو كان ذلك من خصائصه عليه السلام؛ لبينه، على أنا نقول: إن هذه القضية متعددة كما ذكرنا، فيجوز تعدد حال المقبورَيْن.
فإن قلت: ذكر البول والنميمة ينافي ذلك؛ لأنَّ الكافر وإن عُذِّبَ على أحكام الإسلام؛ فإنه يُعَذَّبُ مع ذلك على الكفر بلا خلاف.
قلت: لم يبين في حديث جابر المذكور سبب العذاب ما هو، ولا ذكر فيه الترجي لرفع العذاب، كما في حديث غيره، فظهر من ذلك صحة ما ذكرنا من تعدد الحال.
ورد بعضهم احتجاج أبي موسى بالحديث المذكور بأنه ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وليس فيه ذكر سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة.
قلت: هذا من تخليط هذا القائل؛ لأنَّ أبا موسى لم يصرح بأنه ضعيف، بل قال: (هذا حديث حسن وإن كان إسناده ليس بقوي)، ولم يعلم هذا القائل الفرق بين الحسن والضعيف؛ لأنَّ بعضهم عد الحسن من الصحيح لا قسيمه، ولذلك يقال للحديث الواحد: إنه حسن صحيح، وقال الترمذي: الحسن: ما ليس في إسناده من اتُّهم بالكذب، وعبد الله بن لهيعة المصري لا يتهم بالكذب، على أن طائفة منهم قد صححوا حديثه ووثقوه؛ منهم: الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى انتهى كلامه رحمه الله ورضي الله.
والمراد بهذا القائل: ابن حجر العسقلاني، وهذا داء به يذكر الكلام مخبطًا من غير تحرير، وقد بين ذلك في «كشف الحجاب عن العوام» وفي «منهل العليل المطل»؛ فليحفظ.
قال الخطابي: فيه دليل على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنَّه إذا يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر؛ فتلاوة القرآن العظيم أعظم رجاء وبركة.
قال في «عمدة القاري»: (قلت: اختلف الناس في هذه المسألة؛ فذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين وأصحابه والإمام أحمد ابن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين إلى وصول ثواب القرآن إلى الميت؛ لما روى أبو بكر النجار في كتاب «السنن» عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مر بين المقابر، فقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} أحد عشر مرة، ثم وهب أجرها للأموات؛ أعطي من الأجر بعدد الأموات»، وفي «سننه» أيضًا عن أنس يرفعه: «من دخل المقابر، فقرأ سورة (يس)؛ خفف الله عنهم يومئذ»، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قال رسول الله عليه السلام: «من زار قبر والديه أو أحدهما، فقرأ عنده أو عندهما (يس)؛ غفر له»، وروى أبو حفص بن شاهين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: «من قال: الحمد لله رب العالمين رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، لله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله العظمة في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، هو الملك رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله النور في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، مرة واحدة، ثم قال: اللهم اجعل ثوابها لوالدي؛ لم يبق لوالديه حق إلا أداه إليهما»، وقال الثوري: المشهور عند الشافعي وجماعة أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت، والأخبار المذكورة حجة عليهم، ولكن أجمع العلماء على أن الدعاء ينفعهم ويصلهم ثوابه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشهورة؛ منها: قوله عليه السلام: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد»، ومنها: قوله عليه السلام: «اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا»، وغير ذلك.
فإن قلت: هل يَبْلُغُه ثواب الصوم أو الصدقة أو العتق؟
قلت: روى أبو بكر النجار في كتاب «السنن» من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه سأل النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله؛
%ص 192%
إن العاصي بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مئة بدنة، وإن هشام بن العاصي نحر حصته خمسين، أفيجزئ عنه؟ فقال عليه السلام: «إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصُمْتَ عنه، أو تصدَّقْتَ عنه، أو أعتقْتَ عنه؛ بَلَغَهُ ذلك»، وروى الدارقطني: قال رجل: يا رسول الله؛ كيف أبر أَبَوَيَّ بعد موتهما؟ فقال: «إن من البر بعد البر أن تصلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق عنهما مع صدقتك»، وفي كتاب القاضي الإمام أبي الحسين ابن الفراء عن أنس رضي الله عنه: أنه سأل رسول الله عليه السلام، فقال: يا رسول الله؛ إنا نتصدق عن موتانا، ونحج عنهم، وندعو لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ قال: «نعم»، وعن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين: (أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يعتقان عن علي رضي الله عنه)، وفي «الصحيح»: قال رجل: يا رسول الله؛ إن أمي توفيت أينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: «نعم».
فإن قلت: قال الله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وهو يدل على عدم وصول ثواب القرآن للميت؟
قلت: اختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال:
أحدها: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: 21] أدخل الآباء الجنة بصلاح الأبناء، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
الثاني: أنها خاصة بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأمَّا هذه الأمة؛ فلهم ما سعوا أو ما سعى لهم غيرهم، قاله عكرمة.
الثالث: المراد بـ (الإنسان): الكافر، قاله الربيع بن أنس.
الرابع: ليس للإنسان إلا ما سعى بطريق العدل، فأمَّا من باب الفضل؛ فجائز أن يزيده الله تعالى ما يشاء، قاله الحسين بن فضل.
الخامس: أن معنى {مَا سَعَى}: ما نوى، قاله أبو بكر الوراق.
السادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة شيء، ذكره الثعلبي.
السابع: أن اللام في {للإنسان} بمعنى (على)؛ تقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى.
الثامن: أنه ليس له إلا سعيه غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارة يكون سعيه في تحصيله سببه مثل سعيه في تحصيل قرابة [9] وولد يترحم عليه، وصديق يستغفر له، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة فيكتسب محبة [10] أهل الدين فيكون ذلك سببًا حصل بسيعه، حكاه أبو الفرج عن شيخه ابن الزعفراني، انتهى كلام صاحب «عمدة القاري» رحمه الله ورضي عنه، وسيأتي مزيد لذلك في (الجنائز) إن شاء الله تعالى.
اللهم فرج عنا وعن المسلمين، وارفع البلاء عنا وعنهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (أيما).
[2] في الأصل: (الشيء)، والمثبت موافق لما في «الصحاح».
[3] في الأصل: (إفعال).
[4] في الأصل: (سيفهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] زيد في الأصل: (أنه).
[6] في الأصل: (وهو حدث فيه قعرة وجفرة)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (وبينها).
[8] في الأصل: (الخطيب)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (قواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (بحبه)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (أيما).
[2] في الأصل: (الشيء)، والمثبت موافق لما في «الصحاح».
[3] في الأصل: (إفعال).
[4] في الأصل: (سيفهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] زيد في الأصل: (أنه).
[6] في الأصل: (وهو حدث فيه قعرة وجفرة)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (وبينها).
[8] في الأصل: (الخطيب)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (قواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (أيما).
[2] في الأصل: (الشيء)، والمثبت موافق لما في «الصحاح».
[3] في الأصل: (إفعال).
[4] في الأصل: (سيفهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] زيد في الأصل: (أنه).
[6] في الأصل: (وهو حدث فيه قعرة وجفرة)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (وبينها).
[8] في الأصل: (الخطيب)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (قواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/377)
(56) [باب: مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ.]
هذا (باب ما جاء)؛ أي: ورد في الحديث (في) حكم (غسل البول)؛ أي: بول الإنسان، وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب السابق البول الذي كان سببًا لعذاب صاحبه في قبره، وهذا الباب في بيان غسل ذلك البول، فالألف واللام فيه للعهد الخارجي، وأشار به المؤلف إلى أن المراد من البول: هو بول الناس؛ لأجل إضافة البول إليه في الحديث السابق لا جميع الأبوال على ما يأتي في التعليق الدَّال على ذلك، فلأجل هذا قال ابن بطال: (لا حجة فيه لمن حمله على جميع الأبوال ليحتج به في نجاسة بول سائر الحيوانات)، وفي كلامه ردٌّ على الخطابي حيث قال: فيه: دليل على نجاسة الأبوال كلها، وليس كذلك، بل الأبوال غير بول الناس على نوعين؛ أحدهما: نجسة مثل بول الناس يلتحق به لعدم الفارق، والآخر: طاهرة عند من يقول بطهارتها، ولهم أدلة أخرى في ذلك، كذا قرَّره في «عمدة القاري».
(وقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) هذا تعليق من المؤلف، وقد وصله في الباب السابق واللاحق (لصاحب القبر)؛ أي: عنده، فاللام هنا بمعنى: عند، كما في قولهم: كتبته لخمس خَلَون، أو بمعنى: لأجل، أو بمعنى: عن؛ أي: عن صاحب القبر؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، والصواب: الأول أو الثاني، والمعنى الثالث ضعيف؛ لأنَّ اللام في الآية _كما قاله النحاة_ لام التعليل؛ فافهم، والله تعالى أعلم: (كان لا يستتر)؛ بمثناتين، ولابن عساكر: (لا يستبرئ)؛ بموحدة بعد الفوقية: لا يطلب البراءة من البول، كما قدمناه، (من بوله)؛ أي: بول نفسه، (ولم يذكر سوى بول الناس)، هذا من كلام المؤلف نبَّه به على أن معنى روايته: (لا يستتر من البول) هو بول الناس لا سائر الأبوال، فلا تعلق له في حديث هذا الباب لمن احتج به في نجاسة بول غير الإنسان، ولمن قال بطهارة ذلك، فالمطلق الآتي محمول على المقيَّد، لكن للقائلين بنجاسة سائر الأبوال أدلَّة أخرى، كما للقائلين بطهارة بول غير الإنسان من الحيوانات المأكولات.
==========
%ص 193%
==================
(1/378)
[حديث: كان النبي إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به]
217# وبه قال: (حدثنا يعقوب بن إبراهيم)؛ أي: الدورقي (قال: حدثنا)، وفي رواية: (أخبرنا) (إسماعيل بن إبراهيم): هو ابن علية وليس هو أخا يعقوب المذكور، نبَّه عليه في «عمدة القاري» (قال: حدثني) بالإفراد (روح بن القاسم) التيمي العنبري البصري، المكنى بأبي القاسم، أو بأبي غياث _بالمعجمة، والمثلثة_، ورَوْح؛ بفتح الرَّاء، وسكون الواو، وبالحاء المهملة: هو المشهور، ونقل ابن التين أنَّه قرئ بضم الرَّاء، وليس بصحيح، وقيل: هو بالفتح لا نعلم فيه خلافًا، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم. (قال: حدثني) بالإفراد (عطاء بن أبي ميمونة)؛ بالتاء آخره، البصري أبو معاذ مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه (قال: كان النبي) الأعظم وفي [رواية]: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم إذا تبرَّز)؛ بتشديد الرَّاء، وبالزاي آخره؛ أي: خرج إلى البَراز _بفتح الموحدة_ للحاجة، والبَراز: اسم للفضاء الواسع، فكنوا به عن قضاء الحاجة، كما كنوا عنه بالخلاء؛ لأنَّهم كانوا يتبرَّزون في الأمكنة الخالية من الناس، قال الخطابي: (المحدِّثون يَرْوُونه بالكسر، وهو خطأ؛ لأنَّه مصدر _بالكسر_ من المبارزة في الحرب)، وقال الجوهري بخلافه، وهذا لفظه: (البراز: المبارزة في الحرب، والبراز: أيضًا كناية عن ثقل العذرة، وهو الغائط)، ثم قال: (والبَراز؛ بالفتح: الفضاء الواسع)، كذا في «عمدة القاري»، (لحاجته)؛ أي: لأجلها، ويجوز أن تكون اللام بمعنى: عند؛ يعني: عند قضاء حاجته؛ (أتيته بماء)؛ أي: لأجل الاستنجاء، (فيَغسِل به)؛ بكسر السين المهملة، وفتح التحتية، وفي رواية: (فيَغتَسل)؛ بفتح التحتية والفوقية، بينهما غين معجمة، وفي أخرى: (فتَغسَّل)؛ بفتح الفوقية بعد الفاء، وتشديد السين المفتوحة، والمراد من الكل: أنه يغسل ذَكَرَهُ الشريف بالماء من حاجة البول، وحذف المفعول لظهوره، أو للاستحياء عن ذكره، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت منه، ولا رأى مني)؛ يعني: العورة، كذا قاله الشراح، ولو قدِّر عامًّا؛ أي: فرجه ليشمل القبل والدبر؛ لكان أولى، ولعلَّ الحامل لهم على تقدير الخاص كونه كذلك في الواقع، لكن هذا بعيد في كل مرة؛ فتأمل.
وفي الحديث: استحباب التباعد عن الناس لقضاء الحاجة، والاستتار عن أعين الناس، وجواز استخدام الصغار، وجواز الاستنجاء بالماء واستحبابه، ورجحانه على الاقتصار على الحجر، واختلف فيه، والذي عليه الجمهور من السلف: أن الأفضل الجمع بين الماء والحجر، فإن اقتصر على أحدهما؛ جاز، لكن الماء أفضل؛ لأصالته في التنقية، وقيل: الحجر أفضل، وقال المالكية: لا يجوز الحجر إلا لمن عدم الماء.
ويستنبط منه حكم آخر، وهو استحباب خدمة الصالحين وأهل الفضل، والتبرك بذلك، أفاده في «عمدة القاري»، والله أعلم.
وقد استدلَّ المؤلف بهذا الحديث هنا على غسل البول، وهو أعم من الاستدلال به على الاستنجاء وغيره فلا تكرار فيه، وقد ثبتت الرُّخصة في حق المستجمر، فيستدلُّ به على وجوب غسل ما انتشر على المحلِّ من النجاسة؛ فافهم.
اللَّهُمَّ إنِّي أسألك بمحمَّد وآله وأصحابه صلَّى الله عليه وعليهم وسلَّم أنْ تفرِّج عنَّا وعن المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، آمين، آمين، آمين.
%ص 193%
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين من غير ترجمة، وهو بمنزلة الفصل عن الباب قبله، ودلالته على غسل البول من جهة التوعد، قال في «عمدة القاري»: (وثبت لفظ «باب» في رواية أبي ذر، وهو على هذه الصورة غير معرب، بل حكمه حكم تعداد الأسماء؛ لأنَّ الإعراب إنَّما يكون بعد العقد والتركيب، فإذا قلنا: هذا باب ونحوه؛ يكون معربًا، ومن قال: «باب: بالتنوين من غير وصل بشيء»؛ فقد غلط) انتهى، والقائل بذلك ابن حجر، وتبعه العجلوني تعصبًا؛ فافهم.
==================
(1/379)
[حديث: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين]
218# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية بالإفراد (محمَّد بن المُثَنَّى)؛ بضمِّ الميم، وفتح المثلثة، وتشديد النون، البصري المعروف بالزَّمِن (قال: حدثنا محمَّد بن خازم)؛ بالخاء المعجمة، والزاي المعجمة، أبو معاوية الضرير، عمي وعمره أربع سنين، الكوفي، المتوفى سنة خمس وتسعين ومئة (قال: حدثنا الأعمش): هو سليمان بن مهران الكوفي التابعي، (عن مُجَاهِد)؛ بضمِّ الميم، هو ابن جبر، (عن طاووس): هو ابن كيسان، (عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، (قال: مر النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بقبرين، فقال) عليه السلام: (إنَّهما ليُعَذَّبان)؛ أي: مَن في القبرين، فإسناد العذاب إلى القبرين من باب ذكر المحل وإرادة الحالِّ، (وما يُعَذَّبان في كبير)؛ بالموحدة، و (ما) نافية على الأظهر؛ أي: بكبير تركه عليهما إلا أنَّه كبير من حيث المعصية، (أما أحدهما)؛ أي: أحد المقبورين، وأتى بـ (أما) للتفصيل؛ (فكان) في حياته بدار الدنيا (لا يستتر)؛ بفوقيتين، من الاستتار (من البول)؛ أي: بول الإنسان، ولابن عساكر: (لا يستبرئ)؛ بالموحدة، من الاستبراء؛ أي: لا يطلب البَرَاءة من البول، (وأما الآخر) من المقبورين؛ (فكان يمشي بالنميمة)؛ أي: بين الناس بالفساد والإضرار، فإن كان على سبيل مصلحة أو ترك مفسدة؛ فهو مطلوب شرعًا، وأفاد التعبير بـ (ان) إلى أنه كانت عادتهما ذلك على سبيل الدوام والاستمرار، وماتا ولم يتوبا من ذلك، ويدل لذلك التعبير بصيغة المضارعة بعد (كان).
(ثم أخذ)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (جريدة) من النخل (رطْبة)؛ بسكون الطاء، وكأنَّه عليه السلام أخذها من أصلها؛ أي: قطعها بيده الشريفة، (فشقها نصفين)، وإنما شقَّها كذلك؛ إما ليسهل غرزها، أو لكبرها، أو غير ذلك، والله أعلم، (فغرز)؛ بالغين والزاي المعجمتين، بينها راء، وفي رواية وكيع في (الأدب): (فغرس)، وهما بمعنى واحد، وبين الزاي والسين تناوب، كما في «عمدة القاري» (في كل قبر واحدة)، وكان غرزه عليه السلام عند رأس القبر، كما قاله في «عمدة القاري»، وقال: إنه ثبت بإسناد صحيح.
(قالوا)؛ أي: الصحابة رضي الله عنهم: (يا رسول الله؛ لم فعلت)؛ أي: هذا؟ كما صرح به في رواية، (قال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام: (لعله يخفَّف) بفتح الفاء الأولى المشددة (عنهما)؛ أي: عن صاحبي القبرين العذاب (ما لم ييبَسا)؛ بتحتيتين، بعدهما موحدة، وفي رواية: (ما لم تيبَسا)؛ بفوقية، وبعدها تحتية، وبعدها موحدة، وفي أخرى: (إلا أن ييبَسا)؛ بحرف الاستثناء، والموحدة مفتوحة في الكل، ويجوز التذكير والتأنيث، فالتذكير نظرًا إلى رجوع الضمير إلى العُود؛ لأنَّ الجريدة عود، والتأنيث باعتبار رجوع الضمير فيه إلى الشقين، قال في «عمدة القاري»: (وهذا الحديث في نفس الأمر هو الذي ترجم له المؤلف بقوله: «من الكبائر ... » إلخ؛ لأنَّ مخرجهما واحد غير أن الاختلاف في السند وبعض المتن؛ لأنَّ هناك عن مُجَاهِد، عن ابن عباس، وهنا عن مُجَاهِد، عن طاووس، عن ابن عباس، وقد قلنا هناك: إن إخراج المؤلف بهذين الطريقين صحيح عنده؛ لأنَّه يحتمل أن مُجَاهِدًا سمعه تارة عن ابن عباس، وتارة عن طاووس، عن ابن عباس، فإذا بان الأمر كذلك؛ فلا يحتاج إلى طلب ترجمة هذا الحديث لهذا الباب على تقدير وجود لفظة «باب»؛ لأنَّ وجه الترجمة والمطابقة لها قد ذكر هناك.
فإن قلت: بينهما باب آخر، وهو قوله: (باب ما جاء في غسل البول)؟
قلت: هذا تابع للباب الأول؛ لأنَّه في بيان حكم من أحكامه، وليس للتابع استقلال في شأنه، فعلى هذا قول الكرماني.
فإن قلت: كيف دلالة الحديث على الترجمة؟
قلت: من جهة إثبات العذاب على ترك استتار جسده من البول وعدم غسله غير رشيد مستغنى عنه؛ لأنَّه [إن] اعتبر فيما قاله لفظة «باب» مفردًا؛ فليس فيه ترجمة، وإن لم يعتبر ذلك؛ فيكون الحديث في باب «ما جاء في غسل البول»، وليس له مناسبة ظاهرًا، والتحقيق ما ذكرته؛ فافهم) انتهى كلامه.
(وقال ابن المثنى) وفي رواية: (وقال محمَّد بن المثنى)؛ أي: المذكور: (وحدثنا وكيع)؛ أي: ابن الجراح، وهو معطوف على قوله: (حدثنا محمَّد بن خازم)، ووقع في رواية بحذف واو العطف، فليس هذا بتعليق، كما زعمه ابن حجر؛ فليحفظ، نبَّه عليه في «عمدة القاري»، وتبعه الشراح، وقد وصله أبو نعيم في «المستخرج» من طريق محمَّد بن المثنى هذا عن وكيع، ومحمَّد بن خازم، عن الأعمش، والثلاثة في هذا الإسناد الذي أفرده للتقوية للإسناد الأول.
(قال: حدثنا الأعمش)؛ سليمان بن مهران الأسدي: (سمعت مُجَاهِدًا مثلَه)؛ بالنصب مفعول لمحذوف؛ أي: يقول مثله، وصرح بالسماع؛ لأنَّ الأعمش مدلس، وعنعنة المدلس لا تعتبر إلا إذا علم سماعه، وأراد التصريح بالسماع؛ لأنَّ الإسناد الأول معنعن.
فإن قلت:
[قال في الأول: (حدثنا محمد بن المثنى)، وقال ههنا] [1]: (قال ابن المثنى) هل بينهما فرق؟
قلت: بلى أشار به إلى أنَّ (قال) أحط رتبة ودرجة من (حدَّث) كما تقول في بعض المواضع في إسناد واحد: (حدثني)؛ بالإفراد، و (حدثنا)؛ بالجمع.
فإن قلت: مُجَاهِد في هذه الطريقة يروي عن طاووس أو عن ابن عباس؟
قلت: الظاهر أنه يروي عن طاووس، عن ابن عباس؛ لأنَّه قال: (مثله)، ومثل الشيء: غيره، انتهى «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي.
==================
(1/380)
(57) [باب ترك النبيِّ والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله فِي المسجد]
هذا (باب ترك النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم والناسِ)؛ بالجر عطفًا على لفظ (النبي) عليه السلام؛ لأنَّه مجرور بالإضافة؛ والتقدير: وتركُ الناسِ، وبالرفع عطفًا على المحل؛ لأنَّ لفظ (الترك) مصدر مضاف إلى فاعله، وبالنصب على المفعول معه، (الأعرابيَّ)؛ بفتح الهمزة منصوب على أنه مفعول (ترك) المصدر، واللام فيه للعهد الذهني النحوي، والخارجي البياني؛ لأنَّه معهود بواسطة القرائن، وهو ذو الخويصرة اليماني، أو الأقرع بن حابس كما يأتي، والأعرابي: نسبة إلى الأعراب؛ لأنَّه لا واحد له، وهم سكان البادية، والعربي: نسبة إلى العرب، وهم أهل الأمصار، وليس الأعرابي جمعًا للعرب، انتهى؛ أي: الأعرابي الذي قدم المدينة، ودخل مسجد النبي الأعظم عليه السلام، وبال فيه فلم يتعرض له أحد بإشارة النبي عليه السلام (حتى فرَغ) بفتح الراء (من بوله في المسجد)؛ أي: النبوي، فالألف واللام فيه للعهد الذهني كما سبق، والمشهور كسر الجيم، ويجوز فتحها، وهو القياس، والظرف إما حال من (بوله)، أو صفة له، وإنما تركه عليه السلام حتى فرغ وأمر الناس بتركه فتركوه؛ لأنَّه شَرَعَ في المفسدة، فلو منعه من إتمامها فيه؛ لدار الأمر بين أن يقطعها فيتضرر وبين ألَّا يقطعها؛ فلا يأمن تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو المسجد فيؤخذ منه أنه إذا تعارض مفسدتان يرتكب أخفهما، وهي قاعدة من قواعد الفروع ذكرها الإمام زين الدين في «الأشباه والنظائر»؛ فليحفظ.
==========
%ص 194%
==================
(1/381)
[حديث: أن النبي رأى أعرابيًا يبول في المسجد]
219# وبه قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل)؛ هو التبوذكي البصري، وسقط في رواية: (ابن إسماعيل) (قال: حدثنا هَمَّام)؛ بفتح الهاء، وتشديد الميم الأولى، هو ابن يحيى بن دينار العَوْذي؛ بفتح العين المهملة، وسكون الواو، وبالذال المعجمة، كان ثبتًا في كل المشايخ، المتوفى
%ص 194%
سنة ثلاث وستين ومئة (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (إسحاق)؛ هو ابن عبد الله بن أبي طلحة بن سهل الأنصاري، (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، وعند مسلم: (حدثني أنس): (أن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) بمعنى: أبصر (أعرابيًّا)؛ بالنصب مفعوله (يبول): جملة في محل النصب على أنَّها صفة لـ (أعرابيًّا)؛ والتقدير: أبصر أعرابيًّا بائلًا، وجوَّز الكرماني أن تكون حالًا، ومنعه في «عمدة القاري»، وتبعه العجلوني لقول «الألفية»:
~وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إِنْ ... لَمْ يَتَأَخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ [أَوْ يَبِنْ]
وعلله في «عمدة القاري» بأنَّه لا يقع الحال على النَّكرة إلا إذا كان مقدمًا على الحال؛ أي: غالبًا، انتهى وهذا مراده؛ فافهم، وبه سقط زعم العجلوني؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: (وعن عبد الله بن نافع المدني: أن هذا الأعرابي كان الأقرع بن حابس، حكاه أبو بكر التاريخي، وأخرج أبو مسلم المدني هذا الحديث في «الصحابة» من طريق محمَّد بن عطاء، عن سليمان بن يسار قال: «اطلع ذو الخويصرة اليماني، وكان رجلًا جافيًا ... »؛ فذكر الحديث تامًّا بمعناه وزيادة، ولكنه مرسل، وفي إسناده أيضًا مبهم، ولكن فهم منه أن الأعرابي المذكور هو ذو الخويصرة، ولا يبعد ذلك لجلافته وقلة أدبه) انتهى، وقيل: إنه عيينة بن حصن.
وعلى كلٍّ؛ فهذا الأعرابي كان من جفاة الأعراب؛ لما في «أبي داود» من حديث الزُّهْرِي، عن سَعِيْد، عن أبي هريرة: أن أعرابيًّا دخل المسجد ورسول الله عليه السلام جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي عليه السلام له: «لقد تحجرت واسعًا»، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي عليه السلام وقال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تُبْعَثُوا معسرين، صبوا عليه سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء»، وعند ابن ماجه: «لقد حصرت واسعًا أو اختصرت واسعًا، ويلك! أو ويحك! لو عممت؛ لاستجيب لك»، وقوله: (حصرت) من الحصر؛ بالصاد المهملة، وهو الحبس والمنع، لكن لما رفق به النبي عليه السلام وعلَّمه من غير عنف وفقه في الإسلام؛ قام إلى النبي عليه السلام، وقال له: بأبي أنت وأمي، فلم تؤنِّب ولم تسب، انتهى.
(في المسجد) الألف واللام فيه للعهد الذهني؛ أي: مسجد النبي الأعظم عليه السلام، وهو متعلق بـ (يبول) لا صفة (أعرابيًّا)، أو حال من فاعل (يبول) إلا أن قُدِّر: يبول فيه؛ فتأمل.
(فقال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، وهو عطف على مقدر؛ أي: فتناوله الناس بألسنتهم، فقال: (دعُوه)؛ بضمِّ العين المهملة؛ أي: اتركوه، وهو أمر بصيغة الجمع من (يدع) [1] تقول: دع دعا دعوا؛ بضمِّ العين، والعرب أماتت ماضيه، إلا ما جاء شاذًّا في قوله تعالى: (مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ) [الضحى: 3] بالتخفيف، وفي رواية مسلم: (لا تزرموه ودعوه)، وهو بتقديم الزاي على الراء المهملة؛ بمعنى: لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم الدمع والدم؛ انقطعا، وأزرمته أنا، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى الأعرابي، ففيه المبادرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه مبادرة الصحابة إلى الإنكار بحضرة الرسول عليه السلام من غير مراجعة.
فإن قلت: أليس هذا من باب التقدم بين يدي الله ورسوله؟
قلت: لا؛ لأنَّ ذلك مقرر عندهم في الشرع من مقتضى الإنكار، فأَمْرُ الشارع متقدم على ما وقع منهم في ذلك.
وإن لم يكن في هذه الواقعة الخاصة إذن، فدل على أنه لا يشترط الإذن الخاص، ويكفي الإذن العام، وفيه دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، وفيه مراعاة التيسير على الجاهل، والتألف للقلوب؛ لأنَّه لو لم يتركوه؛ لتنجس بدنه، أو ثوبه، أو موضع آخر من المسجد، أو يقطعه فيتضرر بذلك، أفاده في «عمدة القاري».
(حتى إذا فرغ)؛ أي: من بوله، كما صرح به في رواية، وهذا وما بعده من كلام أنس رضي الله عنه؛ (دعا)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: جواب (إذا) الشرطية، و (حتى) ابتدائية، ويحتمل أن تكون (حتى) للغاية لمقدر؛ أي: فتركوه، و (إذا) ظرفية فقط، و (دعا) جواب (لمَّا) مقدرة؛ أي: فلما فرغ؛ دعا (بماء)؛ أي: طلب النبي عليه السلام ماء، فهو متعلق بـ (دعا)؛ لتضمنه معنى ما يتعدى بالباء، أو زائدة في المفعول؛ لأنَّه بمعنى: طلب، وفي رواية ابن صاعد عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سَعِيْد، عن أنس: فقال عليه السلام: «احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوبًا من ماء»، وفي رواية أبي داود عن عبد الله بن معقل [2] بن مقرن: «خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء»، وعند المؤلف الآتي: (فلما قضى بوله؛ أمر عليه السلام بذنوب من ماء فأهريق عليه)، وفي رواية مسلم: (فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو فشنه عليه)، وفي رواية النسائي: (فلما فرغ؛ دعا بدلو فصب عليه)، وفي رواية ابن ماجه: (ثم أمر بسَجْلٍ من ماء فأفرغ على بوله)، (فصبه)؛ أي: أمر بسكب الماء على البول، فالصب: السكب، يقال: صببت الماء فانصب؛ أي: سكبته فانسكب، والماء منصب من الجبل؛ أي: ينحدر، ويقال: ماء صب، وهو كقولك: ماء سكب، ويأتي (فصب) بدون ضمير المفعول، وفي رواية مسلم: (فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو فسنه عليه)؛ بالسين المهملة، وفي رواية الطحاوي بالمعجمة، والفرق بينهما أن السن بالمهملة: الصب المتصل، وبالمعجمة: الصب المنقطع، قاله ابن الأثير، والذَّنوب؛ بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيم، وقيل: لا تسمى ذَنوبًا إلا إذا كان فيها ماء، كذا في «عمدة القاري»، واستنبط الشافعي من الحديث: أن الأرض إذا أصابتها نجاسة وصب عليها الماء؛ تطهر، ولا يشترط حفرها، وقال أئمتنا الأعلام أصحاب الإمام الأعظم التابعي الجليل الهمام: إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة؛ فإن كانت الأرض رخوة؛ صب عليها الماء حتى يتسفل فيها، فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفل الماء؛ يحكم بطهارتها ولا يعتبر العدد فيه وإنما هو على اجتهاده وغالب ظنه أنها طهرت، ويقوم في الأرض مقام العصر فيما يحتمل العصر، وعلى قياس ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم أنه يصب عليها الماء ثلاث مرات، ويستفل [3] في كل مرة، وروي عن الإمام أبي يوسف أنه يصب عليها بحيث لو كانت هذه النجاسة في الثوب؛ طهر، واستحسن هذا في «الذخيرة»، وإن كانت الأرض صلبة؛ فإن كانت صعودًا يحفر في أسفلها حفيرة ويصب الماء عليها ثلاث مرات، ويتسفل [4] إلى الحفيرة، ثم يكبس الحفيرة، وإن كانت صلبة مستوية؛ صُبَّ عليها الماء ثلاث مرات وجُففت كل مرة بخرقة طاهرة، وكذا لو صب عليها الماء بكثرة حتى لا يظهر أثر النجاسة، ثم يتركها حتى تنشف؛ طهرت، وكذا لو قلبها بجعل الأعلى أسفل وعكسه، أو كبسها بتراب ألقاه عليها فلم يوجد ريح النجاسة؛ طهرت، وإن كانت الأرض مجصصة، فقال في «الواقعات»: يصب عليها الماء، ثم يدلكها وينشفها بخرقة ثلاث مرات، فتطهر، وجعل ذلك بمنزلة غسل الثوب في الإجانة، والتنشف بمنزلة العصر، كذا في «البحر» عن «السراج»، ومثله في «الخلاصة»، و «المحيط»، وفي «الذخيرة» عن الحسن بن أبي مطيع: أنه إذا صب عليها الماء فجرى قدر ذراع؛ طهرت الأرض والماء طاهر بمنزلة الماء الجاري، وفي «المنتقى»: أصابها المطر غالبًا فجرى عليها؛ فذلك مطهر لها، ولو قليلًا لم يجر عليها؛ لم تطهر، انتهى.
ودليل ما قلناه أحاديث كثيرة منها ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي في مسجد النبي عليه السلام فبال فيه، فقال النبي عليه السلام: «خذوا ما بال عليه من التراب وألقوه وأهريقوا مكانه ماء»، ثم قال أبو داود: (وهو مرسل، وابن معقل لم يُدْرِكِ النبي عليه السلام)، وقال الخطابي: (هذا
%ص 195%
الحديث ذكره أبو داود وضعفه، وقال: هو مرسل)، ورده في «عمدة القاري» بأن أبا داود لم يقل: هذا ضعيف، وإنما قال: هو مرسل، وهو مرسل من طريقين؛ أحدهما: ما رواه أبو داود، والآخر ما رواه عبد الرزاق في «مصنفه»، وقد روي هذا الحديث من طريقين مسندين؛ أحدهما: عن سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمكانه، فاحتفر وصب عليه دلو من ماء، أخرجه الدارقطني في «سننه»، والثاني: أخرجه الدارقطني أيضًا عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سَعِيْد، عن أنس: أن أعرابيًّا بال في المسجد فقال عليه السلام: «احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذَنوبًا من ماء»، وروى عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: بال أعرابي في المسجد فأرادوا أن يضربوه فنهاهم النبي عليه السلام، وقال: «احفروا مكانه واطرحوا عليه دلوًا من ماء، علِّموا ويسروا»، والقياس أيضًا يقتضي هذا الحكم؛ لأنَّ الغسالة نجسة، فلا تطهر الأرض ما لم تحفر وينقل التراب.
فإن قلت: قد تركتم الحديث الصحيح واستدللتم بالحديث الضعيف وبالمرسل.
قلت: قد عملنا معاشر الحنفية بالحديث الصحيح فيما إذا كانت الأرض صلبة، وعملنا بالحديث الضعيف _على زعمكم لا عندنا_ فيما إذا كانت الأرض رخوة، والعمل بالكل أولى من العمل بالبعض وإهمال البعض كما زعمتم، وأما المرسل؛ فهو حجة ومعمول به عندنا، والذي يترك العمل بالمرسلات يترك العمل بأكثر الأحاديث، وفي اصطلاح المحدثين: أن مرسلَيْن صحيحَيْن إذا عارضا حديثًا صحيحًا مسندًا؛ كان العمل بالمرسلَيْن أولى فكيف مع عدم المعارضة، على أن حديث الباب مطلق، وأحاديثنا مقيدة، والقاعدة عند المحققين أنه يحمل المطلق على المقيد، فيتعين العمل بأحاديثنا؛ فليحفظ.
وفي الحديث دليل على صيانة المساجد وتنزيهها من الأقذار والنجاسات، يدل لذلك أن هذا الحديث أخرجه مسلم من طريق عكرمة بن عمار، عن إسحاق مطولًا، وزاد فيه: ثم إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعاه _أي: الأعرابي_ فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنَّما هي لذكر الله، والصَّلاة، وقراءة القرآن»، قال في «عمدة القاري»: وقوله: (وإنما هي لذكر الله) من قصر الموصوف على الصفة، ولفظ (الذكر) عام يتناول قراءة القرآن، وقراءة العلم، ووعظ الناس، و (الصَّلاة) أيضًا عام يتناول المكتوبة والنافلة، لكن النافلة في المنزل أفضل، ثم غير هذه الأشياء؛ ككلام الدنيا، والضحك، واللبث فيه بغير نية الاعتكاف مشتغلًا بأمر من أمور الدنيا؛ مكروه، وأما الجلوس فيه لعبادة، أو قراءة علم، أو درسه، أو سماع وعظ، أو انتظار صلاة، أو غير ذلك؛ فمستحب ويثاب على ذلك، وإن لم يكن لشيء من ذلك؛ كان مباحًا، وتركه أولى؛ لما في الحديث: «الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»، وأما النوم فيه؛ فمذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التفصيل؛ فإن كان مسافرًا؛ لا يكره سواء كان مقيلًا أو مبيتًا، وإن كان مقيمًا متوطنًا؛ فمكروه، وهو قول مالك، والحسن، وعطاء، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه، وأهل الصفة، والمرأة صاحبة الوشاح، والعرنيين [5]، وثمامة بن أثال، وصفوان بن أمية؛ كانوا ينامون في المسجد، وهي أخبار مشهورة صحيحة كما ذكره اليعمري، وأما الوضوء فيه؛ فإن كان في مكان معد لذلك من زمن واقفه؛ فمباح، وإن توضأ في مكان غير معد لذلك، فإن كان في طشت أو نحوه؛ فلا بأس به، وإن كان على الأرض فيبلها ويتأذى منه الناس؛ فمكروه، هذا مذهبنا، وهو منقول عن ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاووس، والنخعي، وابن القاسم صاحب مالك، وإذا افتصد في المسجد؛ فإن كان في غير الإناء؛ فحرام، وإن كان في الإناء؛ فمكروه، ويجوز الاستلقاء في المسجد ومد الرجل وتشبيك الأصابع؛ للأحاديث الواردة الثابتة في ذلك، وتمامه في «عمدة القاري،» اللهم فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (يدل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مغفل)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[3] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (والمغربيين)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (يدل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مغفل)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[3] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (يدل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مغفل)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[3] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/382)
(58) [باب صب الماء على البول في المسجد]
هذا (باب) حكم (صب الماء)؛ أي: سكبه (على البول)؛ أي: بول البائل (في المسجد)؛ أي مسجد من مساجد الله عز وجل، وإذا جعلنا الألف واللام فيه للعهد؛ يكون المعنى: في مسجد النبي الأعظم عليه السلام أو في غيره.
==========
%ص 196%
==================
(1/383)
[حديث: دعوه وهريقوا على بوله سجلًا من ماء أو ذنوبًا من ماء]
220# وبالسَّند قال: (حدثنا أبو اليَمَان)؛ بفتح التحتية، وتخفيف الميم، الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة الحمصي، (عن الزُّهْرِي)؛ محمَّد بن مسلم ابن شهاب، (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الفوقية، وفتح الموحدة، (بن مسعود)؛ هو أخٌ لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وروى سفيان بن عيينة، عن الزُّهْرِي: (عن سَعِيد بن المسيب) بدل (عبيد الله)، وتابعه سفيان بن جبير قال: (ظاهر أن الراويتين صحيحتان): (أن أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (قال: قام أعرابي)؛ بفتح الهمزة، الأقرع بن حابس التميمي، أو ذو الخويصرة اليماني، أو غيرهما.
وزاد ابن عيينة عند الترمذي وغيره: أنه صلى، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال له النبي عليه السلام: «لقد تحجرت واسعًا»، فلم يلبث أن بال في المسجد، وعند ابن ماجه: «لقد اختصرت واسعًا»، وعنده من حديث واثلة بن الأسقع: «لقد حصرت واسعًا»، وعنده أيضًا: «لقد حصرت واسعًا ويلك أو ويحك!»، وقوله: (لقد تحجرت واسعًا)؛ أي: ضيَّقْتَ ما وسَّعَه الله تعالى، وخصصتَ به نفسك دون غيرك، ويروى: (احتجزت) بمعناه [1]، ومادته حاء مهملة، ثم جيم، ثم راء، وقوله: (احتصرت)؛ بالمهملتين من الحصر؛ وهو الحبس والمنع، كذا في «عمدة القاري».
(فبال في المسجد)؛ أي: شرع في البول في ناحية من المسجد النبوي، ولأبي ذر: (قام أعرابي في المسجد فبال)؛ أي: فيه، (فتناوله الناس)؛ أي: وقعوا فيه يؤذونه بألسنتهم لا بأيديهم، وعند المؤلف في (الأدب): (فثار إليه الناس)، وله في رواية عن أنس: (فقاموا إليه)، وفي رواية أنس أيضًا في هذا الباب: (فزجره الناس)؛ أي: بقولهم له: مه مه، كما للنسائي، وأخرجه البيهقي من طريق عبدان، وفيه: (فصاح به الناس)، ولمسلم من طريق إسحاق عن أنس: (فقال الصحابة رضي الله عنهم: مه مه)، قلت: و (مه) كلمة بنيت على السكون، وهي اسم سمي به الفعل؛ ومعناه: اكفف؛ لأنَّه للزجر، فإن وصلت؛ نونت، فقلت: مهٍ مهْ، و (مه) الثاني تأكيد كما تقول: صه صه، وفي رواية للدارقطني: (فأقاموه، فقال عليه السلام: «دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة، فصبوا على بوله الماء»)، كذا في «عمدة القاري».
(فقال لهم)؛ أي: للصحابة (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: دعُوه)؛ بضمِّ العين المهملة؛ أي: اتركوه يتمم بوله، وفي رواية الدارقطني: (دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة)، كما سبق؛ فافهم، (وهَريقوا)؛ بفتح الهاء، وعند المؤلف في (الأدب): (وأهريقوا)، وأصله: أريقوا، من الإراقة، فالهاء زائدة، وعلى الرواية الأولى تكون الهاء بدلًا من الهمزة؛ أي: صبوا (على بوله)؛ أي: بول الأعرابي بعد أن يَجِفَّ حتى يتسفل الماء، على التفصيل الذي سبق، فإن الحديث مطلق، والأحاديث التي تقدمت مقيدة وعليها المعول (سَجْلًا)؛ بفتح السين المهملة، وسكون الجيم: الدلو الضخم المملوء ماء، وهو مذكر (من ماء) صفة لـ (سَجْلًا)، ونكر (ماء) ليشمل المائعات فإن حكمها حكم الماء في الإزالة؛ فافهم، (أو ذَنوبًا من ماء)؛ بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيمة، ولا تسمى ذَنوبًا إلا إذا كان فيها ماء، وهو يذكر ويؤنث، قال الكرماني: (ولفظ «من» زائدة، وزيدت تأكيدًا، وكلمة «أو» تحتمل أن تكون من كلامه عليه السلام فتكون للتخيير، وأن تكون من الراوي،
%ص 196%
فتكون للترديد)، ورده في «عمدة القاري» بأن اعتبار الأداء باللفظ وإن كان الجمهور على عدم اشتراطه وأن المعنى كافٍ، ويحمل (أو) ههنا على الشك ولا معنى فيه للتنويع، ولا للتخيير، ولا للعطف، فلو كان الراوي يرى جواز الرواية بالمعنى؛ لاقتصر على أحدهما، فلمَّا تردد في التفرقة بين الدلو والسجل، وهما بمعنى واحد؛ عُلِم أن ذلك التردد لموافقة اللفظ، قاله القشيري، ولقائل أن يقول: إنَّما يتم هذا لو اتحد المعنى في السجل والدلو لغة، لكنه غير متحد، فالسجل: الدلو الضخمة المملوءة، ولا يقال لها فارغةً: سجل، هذا هو الصواب، انتهى.
(فإنما بعثتم ميَسِّرين)؛ بتشديد السين المهملة المكسورة، قبلها تحتية مفتوحة، منصوب على الحال، فإن قلت: المبعوث هو النبي الأعظم عليه السلام؛ قلت: لما كان المخاطبون مقتدين به ومهتدين بهديه كانوا مبعوثين أيضًا، فجمع اللفظ لذلك [2]، والحاصل أنه على طريقة المجاز؛ لأنَّهم لما كانوا في مقام التبليغ منه في حضوره وغيبته؛ أطلق عليهم ذلك، أو لأنَّهم لما كانوا مأمورين قبله بالتبليغ فكأنهم مبعوثون من جهته، كذا في «عمدة القاري».
(ولم تبعثوا معَسِّرين)؛ بكسر السين المهملة، وفتح العين المهملة، حال لـ (ميسرين)، وفائدة هذا مع أنه قد حصل المراد من قوله: (بعثتم) التأكيد بعد التأكيد، ودلالة على أنَّ الأمر مبني على اليسر قطعًا، فأشار عليه السلام بهذا إلى أنَّ بني إسرائيل إذا تنجس لهم ثوب؛ لا يطهره الماء بل يقرضوه، وإذا تنجست الأرض؛ لا تطهر أبدًا، على أنَّ في شريعتهم لا تصح الصَّلاة إلا في المسجد، كما يأتي في «الصحيح».
وبهذا التقرير اضمحلَّ ما زعمه العجلوني من أن (فيه رد على من أوجب الحفر في الأرض إذ لو وجب؛ لزال التيسير) انتهى.
ولم يدر الأحاديث التي وردت في الحفر التي قدَّمناها الصحيحة المسندة والمرسلة، والذي أوجب الحفر إنَّما هو النبي الأعظم عليه السلام؛ فانظر إلى قلة الأدب، وعدم الحياء؛ فليحفظ، ومنشأ ذلك التعصب والعناد، وقد سرق طبعه من طبع ابن حجر فإنَّ له العصبية الزائدة، والعنادية المكابرة؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ذلك)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/384)
[حديث أنس في قصة الأعرابي]
221# وبه قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحدة، لقب عبد الله العتكي (قال: أخبرنا عبد الله)؛ هو ابن المبارك الإمام (قال: أخبرنا يحيى بن سَعِيد)؛ هو الأنصاري (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بهذا)؛ أي: باللفظ السابق لا اللاحق، كما زعمه العجلوني لعدم اضطلاعه، وأخرج البيهقي هذا الحديث من طريق عبدان هذا ولفظه: (جاء أعرابي إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فلما قضى حاجته، فأقام إلى ناحية المسجد، فبال، فصاح الناس به، فكفهم عنه، ثم قال: «صبوا عليه دلوًا من ماء».
==========
%ص 197%
==================
(1/385)
(58) [باب يهريق الماء على البول]
(ح) ثبتت في بعض الروايات، وقدمنا أنها إشارة للتحويل، وفي رواية بدلها: (باب يهريق الماء على البول)؛ بفتح الهاء؛ أي: يسكب، وفاعله عائد لما يفهم من الفعل، و (الماء) مفعوله، وسقط في أكثر الروايات لفظ الباب والترجمة، ولهذا لم يتعرض لها في «شرح الإمام البدر» قدس سره، بل ذكر الحديث فقط لتعلقه بالترجمة السابقة.
==================
(1/386)
[حديث أنس: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ]
221#م (وحدثنا)؛ بواو العطف على قوله: (حدثنا عبدان)، وهذا يعين سقوط لفظ (باب) والترجمة، وفي رواية: (حدثنا)؛ بإسقاط الواو (خالد بن مَخْلَد) بفتح الميم، وسكون المعجمة، وفتح اللام (قال: حدثنا سليمان)؛ هو ابن بلال، (عن يحيى بن سَعِيْد)؛ أي: الأنصاري، (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه أنه (قال: جاء أعرابي) بفتح الهمزة (فبال في طائفة المسجد)؛ أي: في ناحية من نواحي المسجد النبوي، (فزجره الناس)؛ أي: على البول بألسنتهم لا بأيديهم، (فنهاهم النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: عن زجره للمصلحة في دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفَّهما، (فلمَّا قضى بوله)؛ أي: فرغ الأعرابي من بوله؛ (أمر النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: بعض أصحابه، وهذا يدل على أنَّ قليل النجاسة معفو عنه، وأنَّ الاستنجاء ليس بواجب؛ لأنَّه لو كان قليل النجس غير معفو عنه؛ لأمر النبي عليه السلام الأعرابي بإزالتها، ولأنَّه لو كان الاستنجاء واجبًا؛ لأمره به، فعدم أمره عليه السلام وتركه على ما فرغ دليل واضح على ما قلناه، ففيه ردٌّ على من زعم أن قليل النجاسة مانع لصحة الصَّلاة، وأن الاستنجاء واجب؛ فافهم، (بذَنوب)؛ بفتح الذال المعجمة: الدلو المملوء (من ماء) صفة لـ (ذنوب)، ونكر (ماء) ليشمل المائعات، فإن حكمها حكم الماء في الإزالة، (فأُهْريق)؛ بضمِّ الهمزة أوله، وبسكون الهاء أو ضمها، ولأبي ذر: (فهُرِيق)؛ بضمِّ الهاء، وكسر الراء على صيغة المجهول؛ ومعناه: أريق، والرواية الأولى رواية الباقين، وقال ابن التين: (هذا لا يصح إلا على قول سيبويه؛ لأنَّه فعل ماض، وهاؤه ساكنة، وأما على الأصل؛ فلا تجتمع الهمزة والهاء في الماضي) قال: ورويناه بفتح الهاء، ولا أعلم لذلك وجهًا، (عليه)؛ أي: على بول الأعرابي بعد أن جفَّ وتَسَفَّلَ الماء، أو حفر حفرة وأخرج التراب إن كانت صلبة، كما قدمناه من الأحاديث الصحيحة المسندة والمرسلة.
وزعم ابن حجر أنَّ في الحديث تعيين الماء لإزالة النجاسة؛ لأنَّ الجفاف بالريح أو الشمس لو كان يكفي؛ لما حصل التكلف بطلب الدلو.
قلت: وهذا الاستدلال فاسد؛ لأنَّ قوله في الحديث: (ماء)؛ بالتنكير يشمل الماء المطلق والمائعات المزيلة، وأشار به إلى أن حكم المائعات حكم الماء في الإزالة، فإنَّ ذكر الماء هنا لا يدل على نفي غيره؛ لأنَّ الواجب هو الإزالة، والمائع مزيل، فيقاس عليه كل ما كان مزيلًا؛ لوجود الجامع بينهما، على أن هذا الاستدلال يشبه الواقعة على الأرض طاهرة، وذلك لأنَّ الماء المصبوب لا بد أن يتدافع عند وقوعه على الأرض، ويصل إلى محل لم يُصِبْهُ البول مما يجاوره، فلولا أن الغسالة طاهرة؛ لكان الصب ناشرًا للنجاسة، وذلك خلاف مقصود التطهير.
وزعم ابن حجر أيضًا أن في الحديث أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء؛ لا تطهر.
وهو استدلال فاسد أيضًا؛ لأنَّ ذكر الماء في الحديث لوجوب المبادرة إلى تطهير المسجد، وتركه إلى الجفاف تأخير لهذا الواجب، وإذا تردد الحال بين الأمرين لا يكون دليلًا على أحدهما بعينه، ولنا أحاديث أخر؛ منها: ما رواه أبو داود عن عائشة، عن النبي الأعظم عليه السلام أنه قال: «ذكاة الأرض يبسها»؛ أي: طهارتها جفافها، إطلاقًا لاسم السبب على المسبب؛ لأنَّ الذكاة وهي الذبح سبب الطهارة في الذبيحة، فكذا الجفاف سبب الطهارة في الأرض، ومنها: ما رواه محمَّد ابن الحنفية، عن أبيه، عن النبي عليه السلام: «أيما أرض جفت؛ فقد ذكت»، ويدل لما قلنا قوله في الحديث: «فإنما بعثتم ميسرين»، ولو قلنا بعدم طهارتها؛ لزال معنى التيسير المأمور به، ولصاروا معسرين، وهو خلاف المأمور به، فتجوز الصَّلاة على الأرض التي أصابتها نجاسة، وجفت بالشمس أو الريح، وهو مذهب الإمام الأعظم، وسفيان الثوري، والحسن البصري، والجمهور، لكن اختلف في التيمم منها، فروي عن الإمام الأعظم جواز التيمم منها؛ كالصَّلاة عليها، وروي عنه عدم جواز التيمم منها، وهو ما مشى عليه أصحاب المتون، وهو الأظهر وعليه الفتوى، كما في «التبيين»، و «الإمداد»؛ لأنَّ طهارة
%ص 197%
الصعيد ثبتت بنص الكتاب؛ وهو قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]؛ أي: طاهرًا فلا تتأدى طهارتها بما ثبت في الأحاديث؛ لأنَّها خبر الواحد، وهو لا يفيد القطع فلا تكون الطهارة قطعية بجفاف الأرض والكتاب يقتضي ذلك، والله أعلم.
وزعمت الشافعية أن العصر في الثوب المغسول من النجاسة لا يجب؛ للحديث المذكور.
قلت: وهذا الاستدلال فاسد؛ لأنَّهم قاسوه على الأرض، ولا ريب أن هذا قياس بالفارق، والفرق ظاهر؛ لأنَّ الثوب ينعصر بالعصر بخلاف الأرض، كما لا يخفى على أولي الألباب.
فائدة: قد نظم المطهِّرات الإمام العلامة شيخ الإسلام والمسلمين خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ علاء الدين الحصكفي صاحب «الدر المختار»، و «الدر المنتقى» في منظومته، فقال:
~وَغَسْلٌ وَمَسْحٌ وَالْجَفَافُ مُطَهِّرُ وَنَحْتٌ ... وَقَلْبُ الْعَيْنِ وَالْحَفْرُ يُذكرُ
~وَدَبْغٌ وَتَخْلِيلٌ ذَكَاةٌ تَخَلُّلُ ... وَفَرْكٌ وَدَلْكٌ وَالدُّخُولُ التَّغَوُّرُ [1]
~تَصَرُّفُهُ فِي الْبَعْضِ نَدْفٌ وَنَزْحُهَا ... وَنَارٌ وَغَلْيٌ غَسْلُ بَعْضٍ تَقَوُّرُ
وقد بسطنا ذلك في شرحنا «منهل الطلاب شرح الكتاب»؛ أي: مختصر الإمام أبي الحسن القدوري قدس سره آمين.
==================
(1/387)
(59) [باب بول الصبيان]
هذا (باب) حكم (بول الصِّبيان)؛ بكسر الصاد المهملة، جمع صبي، قال الجوهري: (الصبي: الغلام، والجمع صبية وصبيان، وهو من الواوي)، وفي «المخصص» ذكر ابن سيده عن ثابت: (يكون صبيًّا ما دام رضيعًا)، وفي «المنتخب»: (أول ما يولد الولد يقال له: وليد، وطفل، وصبي)، قال ابن دريد: (وصبيان وصبوان، وهذه أضعفها)، قال ابن السكيت: (صبية وصبوة)، وفي «المحكم»: (صَبية، وصُبية، وصَبوان، وصُبوان)، وزعم ابن حجر أن (صِبيان)؛ بكسر الصاد، ويجوز ضمها، جمع صبي، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: في الضم لا يقال إلا صبوان؛ بالواو، وقد وهم هذا القائل حيث لم يعلم الفرق بين المادة الواوية، والمادة اليائية، وأصل صبيان: صبوان؛ بالكسر؛ لأنَّ المادة واوية، فقلبت الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها) انتهى.
واعترضه القسطلاني بعبارة «القاموس»: (الصبي: من لم يفهم، وجمعه أصبية، وأصب، وصبوة، وصبية، وصبوان، وصبيان، وتضم هذه الثلاثة) انتهى.
قلت: وهو لا ينهض لما ادَّعاه ابن حجر، ولم يكتف به صاحب «عمدة القاري» لمعاصرته له، وإنما المشهور المعول عليه في اللغة ما ذكره أولًا عن أهل اللغة؛ فليحفظ.
==========
%ص 198%
==================
(1/388)
[حديث: أتي رسول الله بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه]
222# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ هو التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، (عن هِشام) بكسر الهاء (بن عُروة)؛ بضمِّ العين المهملة، (عن أبيه): عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، (عن عائشة أم المؤمنين) رضي الله تعالى عنها: (أنها قالت: أُتِي)؛ بضمِّ الهمزة، وكسر الفوقية، مبني للمفعول، وسقط لفظ (أنها) لابن عساكر (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) بالرفع نائب فاعل (بصبي)؛ هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، كما ذكره الدارقطني من حديث الحجاج بن أرطاة، وأنَّها قالت: (فأخذته أخذًا عنيفًا)، وزعم ابن حجر أنه ابن أم قَيْس الآتي في الحديث الثاني، وقيل: إنه الحسن أو الحسين ابني علي بن أبي طالب؛ لما روى الطبراني من حديث أم سَلَمَة بإسناد حسن، قالت: (بال الحسن أو الحسين على بطن رسول الله عليه السلام ... )؛ الحديث، وللطبراني أيضًا من حديث زينب بنت جحش: (أن الحسن جاء يحبو والنبي عليه السلام نائم، فصعد على بطنه، ووضع ذَكَرَهُ في سرته فبال)، وروى ابن منده: (أنه وقع لسليمان بن هشام بن عُتْبَة بن أبي وقاص) انتهى.
قلت: واستظهر صاحب «عمدة القاري» القول الأول، فإن الدارقطني قد عيَّن أنه عبد الله بن الزبير، وما زعمه ابن حجر أنَّه ابن أم قَيْس غير ظاهر أصلًا، ولا دليل يدل عليه، فالأظهر ما قاله في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فبال) أي: الصبي (على ثوبه)، يحتمل رجوع الضمير إلى ثوب الصبي، وهو الظاهر كما قاله ابن شعبان من المالكية، ويحتمل رجوعه إلى ثوب النبي الأعظم عليه السلام، وزعم ابن حجر أنه الصواب، قلت: لا دليل يدل على هذا الصواب، بل الأمر محتمل لكلٍّ منهما، وكونه راجعًا إلى الصبي أظهر، لا يقال: إن بول الصبي على ثوبه لا ينافي وصوله إلى ثوب النبي عليه السلام؛ لأنَّه لازم له؛ لأنَّا نقول: من عادة الصبيان الصغار أن يجعل لهم شيء ثخين شبه بردعة البرذون، ويوضع على القبل والدبر حتى لا يصل شيء من بوله على غيره من الحاملين له، فلا شكَّ أنَّه لو بال فيه أو تغوط لا يصل شيء إلى ثوب حامله، كما هو مشاهد عادة، فبوله على ثوبه ينافي وصوله إلى ثوب النبي عليه السلام، وهو غير لازم له؛ للحائل المانع من ذلك؛ فافهم.
(فدعا) أي: النبي الأعظم عليه السلام (بماء، فأتْبَعه إياه)؛ بسكون المثناة الفوقية، وفتح الموحدة؛ أي: فأتبع رسولُ الله عليه السلام البولَ الذي على الثوب الماءَ بصبه عليه حتى غمره وسال عليه؛ لأنَّه يلزم من التغمير السيلان ضرورة، ويدل لذلك ما رواه ابن المُنْذِر من طريق الثوري، عن هشام: (فصب عليه الماء)، فالصب: السكب، فيلزم من السكب السيلان ضرورة؛ فافهم.
وليس لذكر الصبي في الحديث تخصيص له بحكم خاص، بل إنَّما هو لبيان الواقعة فبول الصبي والصبية والرجل والمرأة سواء في النجاسة؛ لحديث «الصحيحين» أنه عليه السلام قال: «استنزهوا من البول»، وهو عام فيشمل جميع ما ذكر، ولما سبق في أحاديث «البخاري» من الوعيد على عدم الاستنزاه من البول، فلا بد من غسله.
وقوله في الحديث: (فأتبعه إياه) هذا غسل وزيادة لا سيما الرواية الثانية: (فصب عليه الماء)، فإنه غسل له، ولا يشترط عركه؛ لأنَّ الماء لرقته وسيلانه يتداخل أجزاء الثوب فتذهب النجاسة، وكذا لا يشترط عصره لرقته فينفذ الماء منه، قال في «المحيط»: (يكفيه إجراء الماء عليه؛ لأنَّ إجراءه يقوم مقام العصر)، كذا قاله العلامة شهاب الدين الشمني، وقوَّاه في «البحر»، وقال الإمام أبو يوسف في إزار الحمام: (إذا صب عليه ماء كثير وهو عليه؛ يطهر بلا غسل)، حتى ذكر شمس الأئمَّة الحلواني: (لو كانت النجاسة دمًا أو بولًا، وصب عليه الماء؛ كفاه ذلك)، كذا في «فتح القدير»، وفي الحديث الرفق بالصغار والشفقة عليهم، ألا يرى أنه عليه السلام كيف كان يأخذهم في حجره، ويتلطف بهم وكان يخفف الصَّلاة عند سماعه بكاء صبي وأمه وراءه؟! وروي عنه أنه قال: «من لم يرحم صغيرنا؛ فليس منا»، وفيه حمل الأطفال إلى أهل الفضل والصلاح؛ ليدعوا لهم سواء كان عقيب الولادة أو بعدها، وأما حملهم حال الولادة كما زعمه ابن حجر؛ فغير متصوَّر، كما لا يخفى.
==========
%ص 198%
==================
(1/389)
[حديث أم قيس: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل]
223# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ هو التِّنِّيسي (قال: حدثنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، (عن ابن شهاب)؛ محمَّد بن مسلم الزُّهْرِي، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، وفتح الموحدة، ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، (عن أم قَيْس) بفتح القاف، وسكون التحتية (بنت مِحْصَن)؛ بكسر الميم، وسكون الحاء المهملة، وفتح الصاد المهملة، آخره نون، وهي أخت عكاشة بن مِحْصَن، أسلمت بمكة قديمًا، وبايعت النبي الأعظم عليه السلام
%ص 198%
وهاجرت إلى المدينة وهي من المعمرات، وقال ابن عبد البر: (اسمها جذامة؛ بالجيم، والذال المعجمة)، وقال السهيلي: (اسمها آمنة)، وذكرها الذهبي في «التجريد»، ولم يذكر لها اسمًا، كذا في «عمدة القاري»، (أنها أتت بابن لها): جملة محلها الجر صفة لـ (ابن)، وهو ذكر؛ لأنَّ الابن لا يطلق إلا على الذكر، بخلاف الولد ولم يعلم اسم هذا الولد، كذا في «عمدة القاري»، قلت: ولعله لم يسمَّ حين صدور هذه الواقعة؛ لأنَّه مات وهو صغير في عهد النبي الأعظم عليه السلام؛ فتأمل، (صغير)؛ بالجر صفة لـ (ابن) أيضًا، وهو ضد الكبير، ولكن المراد منه: الرضيع؛ لأنَّه فسره بقوله: (لم يأكل الطعام) فإذا أكل؛ سمي فطيمًا، وغلامًا أيضًا إلى سبع سنين، فعن هذا عرفنا أن الصغير يطلق إلى حد الالتحاء من حين يولد، فلذلك قيد في الحديث بقوله: (لم يأكل الطعام)، و (الطعام) في اللغة: ما يؤكل، وربما خص بطعام البر، وفي حديث أبي سَعِيد: (كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله عليه السلام صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير)، والطَّعم؛ بالفتح: ما يؤديه الذوق، يقال: طعمه مر، والطُّعم؛ بالضم: الطعام، وقد طعم يطعم طعمًا، فهو طاعم؛ إذا أكل أو ذاق؛ مثل غنم يغنم غنمًا؛ فهو غانم، قال تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]؛ أي: من لم يذقه، قاله الجوهري، وقال الفاضل الزمخشري: (ومن لم يذقه، من طعم الشيء: إذا ذاقه، ومنه: طعم الشيء لمذاقه، قال الشاعر:
~ ... .... ... .. ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخًا ولا بَرْدا
ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم.
قلت: أول البيت:
فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ ... .........
والنُّقاخ؛ بضمِّ النون، وبالقاف، والخاء المعجمة: الماء العذب، كذا في «عمدة القاري»، وقال ابن حجر وقد أخذ من كلام النووي: المراد بالطعام: ما عدا اللبن الذي يرضعه، والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة وغيرها، ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا يحتاج إلى هذه التقديرات؛ لأنَّ المراد من قوله: (لم يأكل الطعام): لم يقدر على مضغ الطعام، ولا على دفعه إلى باطنه؛ لأنَّه رضيع لا يقدر على ذلك، أما اللبن؛ فلأنَّه مشروب غير مأكول فلا يحتاج إلى استثنائه؛ لأنَّه لم يدخل في (لم يأكل الطعام) حتى يستثنى منه، وأما التمر الذي يحنك به والعسل الذي يلعقه؛ فليس ذلك باختياره، بل بغصب من فاعله؛ قصدًا للتبرك أو المداواة؛ فلا حاجة أيضًا إلى استثنائها، فعلم بما ذكرنا أن المراد من قوله: (لم يأكل الطعام)؛ أي: قصدًا أو استقلالًا أو تقويًّا، فهذا شأن الصغير الرضيع، وقد علمت من هذا أن الذي نقله القائل المذكور عن النووي، ومن نكت التنبيه صادر عن غير روية ولا تحقيق، وكذلك لا يحتاج إلى سؤال الكرماني وجوابه ههنا بقوله: (فإن قلت: اللبن طعام، فهل يختص الطعام بغير اللبن أم لا؟ قلت: الطعام هو ما يؤكل، واللبن: مشروب لا مأكول، فلا يخصص) انتهى كلامه رحمه الله، ورضي الله عنه.
(إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) متعلق بـ (أتت)، قال ابن حجر: (ومن فوائد إتيانها به للنبي عليه السلام إما ليحنكه، أو ليبرك عليه)، ورده في «عمدة القاري»: بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك صريحًا وإن كان جاء هذا في أحاديث أخرى؛ لأنَّ ظاهر الحديث يدل على أن أم قَيْس إنَّما أتت به إلى النبي عليه السلام لأجل التبرك فقط، ولدعائه له هذا النبي الكريم بسعد في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
(فأجلسه) هذه الفاء وما بعدها من الفاءات عاطفات لإفادة التعقيب (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) الضمير المنصوب فيه يرجع إلى (الابن)؛ أي: أقامه عن مضجعه، وزعم ابن حجر: (أي: وضعه؛ إن قلنا: إنه كان كما ولد، ويحتمل أن يكون الجلوس منه على العادة؛ إن قلنا: إنه كان في سن من يحبو)، ورده في «عمدة القاري»: بأن المعنى ليس كذلك؛ لأنَّ الجلوس يكون عن نوم أو اضطجاع، وإذا كان قائمًا؛ كانت الحال التي تخالفها القعود، والمعنى ههنا: أقامه عن مضجعه؛ لأنَّ الظاهر أنَّ أم قَيْس أتت به وهو في قماطه مضطجع، فأجلسه النبي الأعظم عليه السلام؛ أي: أقامه (في حجره) وإن كانت أتت به وهو في يدها؛ فإن كان عمره قد كان مقدار سنة أو جاوزها قليلًا والحال أنه رضيع؛ يكون المعنى: تناوله منها وأجلسه في حجره، وهو يمسكه لعدم مسكته؛ لأنَّ أصل تركيب هذه المادة يدلُّ على ارتفاع في الشيء، والحِّجر؛ بكسر الحاء المهملة وفتحها، وسكون الجيم، لغتان مشهورتان، انتهى كلامه وهو في التحقيق بمكان؛ فافهم، (فبال على ثوبه) يحتمل رجوع الضمير إلى (الابن)؛ أي: بال الابن على ثوب نفسه وهو في حجره عليه السلام، وهو الظاهر، كما قاله ابن شيبان، ويحتمل رجوعه إلى النبي الأعظم عليه السلام، ولا ينافيه أن البول يصل إلى ثوب النبي عليه السلام على المعنى الأول؛ لأنَّ الولد المذكور وضعه عليه السلام وهو مقمط بحفاضه وثيابه، وهو في هذه الحالة لا ينفذ منه شيء إلى حامله، كما هي عادة الصغار؛ فافهم.
(فدعا)؛ أي: النبي: الأعظم عليه السلام (بماء) خوفًا من أن يكون طار على ثوبه منه شيء، (فنضحه)؛ بالحاء المهملة، قال ابن سيده: (نضح الماء عليه ينضحه نضحًا: إذا ضربه به)، وقال ابن الأعرابي: (النضح: ما كان على اعتماد، والنضخ: ما كان على غير اعتماد، وقيل: هما لغتان)، قلت: الأول بالحاء المهملة، والثاني بالخاء المعجمة، فالمراد بالنضح: هو صب الماء؛ لأنَّ العرب تسمي ذلك نضحًا، وقد يُذْكَر ويراد به الغسل كما هنا، وكذلك الرش يُذْكَر ويراد به الغسل، ويدل لذلك ما روى أبو داود وغيره عن المقداد ابن الأسود: أن عليَّ بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله عليه السلام عن الذي إذا دنا من أهله فخرج منه المذي؛ ماذا عليه؟ قال علي: فإن عندي ابنته، وأنا أستحي أن أسأله، قال المقداد: فسألت رسول الله عليه السلام عن ذلك، فقال: «إذا وجد أحدكم، فلينضح فرجه، وليتوضأ وضوءه للصلاة»، فإن المراد بالنضح: الغسل؛ لأنَّ المذي يجب غسله بالإجماع، ويدل لذلك ما رواه مسلم وغيره عن علي قال: كنت رجلًا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله عليه السلام لمكان ابنته، فأمرت المقداد ابن الأسود فسأله، فقال: «يغسل ذكره ويتوضأ»، والقضية واحدة، والراوي عن النبي عليه السلام واحد، فهذا يعين أن المراد بالنضح: الغسل، ويدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة، وكنت أكثر منه الغسل، فسألت رسول الله عليه السلام، فقال: «إنما يجزئك من ذلك الوضوء»، فقلت: يا رسول الله؛ فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ فقال: «يكفيك أن تأخذ ماء، فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه أصابه»، فأراد بالنضح: الغسل، ويدل لذلك ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه لما حكى وضوء رسول الله عليه السلام؛ أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها)، وأراد بالرش هنا: صب الماء قليلًا، وهو الغسل بعينه، ويدل لذلك قوله عليه السلام في حديث أسماء رضي الله عنها في غسل الدم: «تحتِّيه، ثم تقرضيه بالماء، ثم تنضحيه، ثم تصلي»؛ ومعناه: تغسليه، هذا رواية الشيخين، وفي رواية الترمذي: «حتِّيه، ثم اقرضيه، ثم رشيه وصلي فيه»، وأراد: اغسليه، قاله البغوي والجويني، فلما ثبت أن النضح والرش يُذْكَران ويراد بهما الغسل؛ وجب حمل ما جاء في هذا الباب من النضح والرش على الغسل بمعنى إسالة الماء عليه من غير عرك؛ لأنَّه متى صب الماء عليه قليلًا قليلًا حتى تقاطر وسال؛ حصل الغسل؛ وهو الإسالة، فلا فرق بين النضح والغسل، كما قاله الجويني، والبغوي، وقال المهلب: (والدليل على أن النضح يراد به كثرة الصب والغسل قول العرب للجمل الذي يستخرج به الماء: ناضح)، وقال ابن القصار: النضح يذكر، ويراد به الغسل، والدليل على صحة ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت:
%ص 199%
(فأتبعه إياه)، ولم تقل: ولم يغسله، وإتباع الماء حكمه حكم الغسل؛ لأنَّه صبٌّ، وهو غسل وزيادة، وإنما قال في الحديث: (لم يأكل الطعام)؛ ليحكي القصة كما وقعت لا للفرق بين اللبن والطعام؛ لأنَّه لا فرق في نجاسة البول بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، ويجب غسله بالماء وبكل مائع مزيل، هذا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والإمام مالك، وأكثر أصحابه، وهو مذهب إبراهيم النخعي، وسَعِيد بن المسيب، والحسن ابن حي، وسفيان الثوري، وغيرهم، وخالفهم الشافعي وأحمد وقالا: إن بول الصبي الذي لم يأكل الطعام؛ يكتفى برش الماء عليه، وأما بول الصبية ولو لم تطعم؛ يغسل، ولا حجة لهما في حديث الباب؛ لأنَّ المراد بالنضح: الغسل، كما قدمناه.
وقوله: (ولم يغسله)؛ أي: بالعرك والعصر كما تغسل الثياب التي أصابتها النجاسة بل يكفي الصب والسيلان على أنَّ الأصيلي قال: إن قوله: (ولم يغسله) من كلام ابن شهاب راوي الحديث، وأن المرفوع ينتهي عند قوله: (فنضحه)، قال: وكذلك رواه معمر عن ابن شهاب، ولم يزد على (فنضحه)، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، قال: (فرشَّه)، ولم يزد على ذلك، وعند مسلم من طريق الليث عن ابن شهاب: (فلم يزد على أن نضحه بالماء)، ولا تخالف بين الروايتين؛ لأنَّ النضح والرش بمعنى الغسل، كما قدمناه، ويدل لذلك رواية مسلم في حديث عائشة من طريق جرير عن هشام: (فدعا بماء، فصبه عليه)، وعند أبي عوانة: (فصبه على البول يتبعه إياه)، فإن هذه أثبتت أن النضح بمعنى الصب؛ لأنَّ الأحاديث المذكورة في هذا الباب باختلاف ألفاظها تنتهي إلى معنى واحد [دفعًا] للتضاد، ألا ترى أن أم الفضل لبابة بنت الحارث قد روي عنها حديثان؛ أحدهما فيه النضح، والثاني فيه الصب، فحمل النضح على الصب دفعًا للتضاد وعملًا بالحديثين، على أن الأحاديث الواردة في ذلك في حكم واحد باختلاف ألفاظها يفسر بعضها بعضًا، ومن الدلائل على أن النضح هو صب الماء والغسل من غير عرك: قول العرب: غسلني السماء، وإنما يقولون ذلك عند انصباب المطر عليهم، وكذلك يقال: غسلني التراب؛ إذا انصب عليه، إذا علمت هذا؛ فلا يكون الحديث حجة للشافعي وأحمد.
فإن قلت: لا يتعين استدلالهما بهذا الحديث بل بغيره من الأحاديث؛ فمنها: حديث زينب بنت جحش، أخرجه الطبراني في «الكبير» مطولًا، وفيه: (أنه يصب من الغلام، ويغسل من الجارية)، ومنها: حديث أبي السمح، أخرجه أبو داود والنسائي قال: (كنت أخدم النبي عليه السلام ... )؛ الحديث وفيه: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام»، ومنها: حديث أنس، أخرجه الطبراني في «الكبير» مطولًا، وفيه: (فصب على بول الغلام، ويغسل بول الجارية)، ومنها: حديث أبي أمامة، أخرجه أيضًا في «الكبير»: (أنه عليه السلام أتي بالحسين فجعل يقبله، فبال، فذهبوا ليتناولوه، فقال: «ذروه» فتركه حتى فرغ من بوله).
قلت: وهذه الأحاديث كلها ضعيفة لا يحتج بها، أما حديث زينب بنت جحش؛ ففي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، وأما حديث أبي السَّمْح؛ بفتح السين المهملة، وسكون الميم، آخره حاء مهملة، لا يعرف له اسم، ولا يعرف له غير هذا الحديث، كذا قاله أبو زرعة الرازي؛ أي: فهو مجهول، وأما حديث أنس؛ ففي إسناده نافع بن هرم، وأجمعوا على ضعفه، وأما حديث أبي أمامة؛ ففي إسناده عمرو بن معدان، وأجمعوا على ضعفه، وكذلك كل ما ورد من ذلك؛ فهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به.
وزعم ابن دقيق العيد أن الحنفية اتبعوا في ذلك القياس، وتركوا الأحاديث الصحيحة.
قلت: وهذا الزعم باطل فإن الأئمَّة الحنفية قد اتبعوا في ذلك الأحاديث الصحيحة التي قدَّمناها، وأما أخصامنا؛ فقد اتبعوا الأحاديث الضعيفة التي لا يصح الاحتجاج بها، وفرقوا بين بول الذكر والأنثى، وهو فرق فاسد، وأي فرق بينهما؟! ألا ترى أن الدم منهما متحد لونًا وحرارةً، ويلزم على قياسهم هذا أن يفرقوا بين بول المرأة والرجل مع أنهم وغيرهم لم يفرقوا بينهما.
فإن قالوا: إن بول الطفلين رقيق خفيف، لكن بول الغلام أخف؛ لاستيلاء الرطوبة والبرودة على مزاجه ففي رطوبته لزوجة فيكون ألصق بالمحل، بخلاف بولها؛ فإنه مجتمع فيظهر أثره في المحل.
قلنا: هذا تفريق فاسد وكلام باطل، فإنَّ علماء طب الأبدان قد قالوا: إن بول الغلام أشد حرارة من بول الجارية، وليس فيه رطوبة ولا برودة، فإن البول من طبع البدن، ولا ريب أن بول الغلام حار حرارة غريزية، وبول الجارية بحسب بدنها رطب بارد، فما قالوه قياس فاسد، وفرق باطل، وقد قال المتقدمون من التابعين: إن الأبوال كلها نجسة سواء كانت بول ذكر أو أنثى، وبه قال سَعِيْد بن المسيب، والحسن البصري، وغيرهم، لا يقال: إن قول التابعي لا يلزمنا؛ لأنَّه رأي له؛ لأنا نقول مثل هذا لا يقال من قبيل الرأي، بل بسماع من الصحابة، وقول الصحابي حجة؛ لأنَّه لا يقوله برأيه بل بسماع من النبي الأعظم عليه السلام؛ فافهم.
ونقل الشافعية عن بعض أهل اللغة أن النضح: الرش.
قلت: وكأنهم لما بطل دليلهم من الأحاديث استندوا إلى بعض أهل اللغة، وهو لا ينهض دليلًا لهم، فإن أهل اللغة قالوا: إذا ذكر الرش في كلام العرب؛ فالمراد به: الغسل، وقد فسره النبي الأعظم عليه السلام الذي هو أفصح العرب بأنه الغسل، فإذا كان هذا تفسير النبي عليه السلام؛ فكيف يجوز العدول عنه؟! وما ذاك إلا قول غير مرضي وباطل، والله تعالى أعلم.
ولنا أحاديث كثيرة دالة وشاهدة على أن النضح في ذلك الغسل، وقد سردها الإمام الهمام شيخ الإسلام بدر الدين العيني في «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي.
==================
(1/390)
(60) [باب البول قائمًا وقاعدًا]
هذا (باب) بيان حكم (البول)؛ أي: بول الشخص حال كونه (قائمًا و) حال كونه (قاعدًا) فالواو للتنويع، وقدَّم (قائمًا)؛ لذِكْرِه في الحديث دون (قاعدًا) المعلوم حكمه قياسًا، قال ابن بطال: دلالة الحديث على القعود بطريق الأولى؛ لأنَّه إذا جاز قائمًا؛ فقاعدًا أجوز؛ لأنَّه أمكن، قال ابن حجر: (ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي، وابن ماجه، وغيرهما، فإن فيه: «بال رسول الله عليه السلام جالسًا، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة»)، واعترض في «عمدة القاري» ابن بطال، فقال: (قلت: قوله: «ودلالة الحديث ... » إلى آخره: غير مسلَّم؛ لأنَّ أحاديث الباب كلها في البول قائمًا، وجواز البول قائمًاحكم من الأحكام الشرعية، فكيف يقاس عليه جواز البول قاعدًا بطريق العقل؟! والأحسن أن يقال: لمَّا ورد في هذا الباب جواز البول قائمًا وجوازه قاعدًا بأحاديث كثيرة؛ أورد البخاري أحاديث الفصل الأول فقط، وفي الترجمة أشار إلى الفصلين إما اكتفاء بشهرة الفصل الثاني، وعمل أكثر الناس عليه، وإما إشارة إلى أنَّه وقف على أحاديث الفصلين، ولكنه اقتصر على أحاديث الفصل الأول لكونها على شرطه) انتهى.
قلت: ومراده بقوله: (بطريق العقل)؛ أي: أنه حيث علَّله بقوله: (لأنَّه أمكن) من غير استناد إلى الأحاديث، فهو قياسي عقلي، فيكون مردودًا، ومراده بقوله: (والأحسن): الحسن لا أن كلامه حسن، وهذا أحسن؛ فافهم، ومراده بقوله: (وعمل أكثر الناس عليه)؛ أي: مع استنادهم إلى الأحاديث الدالة على ذلك الحكم الشرعي لا بدون ذلك، فإنه لا يقوله
%ص 200%
أحد العوام فضلًا عن خواص الخواص، وبهذا اضمحلَّ ما زعمه العجلوني فإنه قد خبط وخلط، وقال ولا يدري ما يقول؛ فافهم.
==================
(1/391)
[حديث: أتى النبي سباطة قوم فبال قائمًا]
224# وبه قال: (حدثنا آدم)؛ بمد الهمزة، هو ابن أبي إياس (قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (عن الأعمش)؛ هو سليمان بن مهران، (عن أبي وائل)؛ هو شقيق الكوفي، ولأبي داود الطيالسي: (عن شعبة، عن الأعمش: أنه سمع أبا وائل)، ولأحمد: (عن يحيى القطان، عن الأعمش قال: حدثني أبو وائل) (عن حذيفة)؛ بضمِّ الحاء المهملة على التصغير، هو ابن اليمان، واسمه حُسَيل؛ بمهملتين مصغرًا، أو حِسْل؛ بكسر فسكون، العبسي _بالموحدة_ حليف الأنصار صحابي جليل، صح في «مسلم» عنه أنَّ النبي الأعظم عليه السلام أعلمه بما كان وبما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابي أيضًا، استشهد بأُحد، وتوفي حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين (قال: أتى) بفتح الهمزة (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم سُبَاطة)؛ بضمِّ المهملة، وتخفيف الموحدة بعدها، على وزن (فُعالة) بالضم؛ وهي الموضع الذي يرمى فيه التراب؛ أي: تراب الكناسة، وقيل: هي الكناسة نفسها، وقال في «القاموس»: (السباطة: الكناسة تطرح بأفنية البيوت) انتهى؛ أي: مرفقًا لأهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد منها البول على البائل، وكانت بالمدينة كما ذكره محمَّد بن طلحة بن مصرف [1] عن الأعمش، وكذا ذكره عيسى بن يونس، عن الأعمش، كما أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (قوم)؛ أي: من الأنصار، وإضافة السباطة إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك؛ لأنَّها كانت بفناء دورهم للناس كلهم، فأضيف إليهم لقربها منهم، ولهذا بال عليه السلام عليها، وبهذا يندفع إشكال من قال: إن البول يوهي الجدار وفيه ضرر، فكيف هذا من النبي عليه السلام؟ وقد يقال: إنَّما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار، وقد صرح به في رواية أبي عوانة في «صحيحه»، وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه عليه السلام بإيثارهم إياه بذلك؛ لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره؛ لأنَّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، وهذا كله على تقدير أن تكون السباطة ملكًا لأحد، أو لجماعة معينين، وأظهر الوجوه أنهم كانوا يؤثرون ذلك ولا يكرهونه، بل يفرحون به، ومن كان هذا حاله؛ جاز البول في أرضه، والأكل من طعامه، وهذا أيضًا على تقدير أن تكون ملكًا لقوم.
فإن قلت: كان من عادته عليه السلام التباعد في المذهَب، وقد روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة أنه عليه السلام كان إذا ذهب المذهب؛ أبعد، والمذهَب؛ بالفتح: الموضع الذي يتغوط فيه؟
قلت: يحتمل أنه عليه السلام كان مشغولًا في ذلك الوقت بأمور المسلمين، والنظر في مصالحهم، فلعله طال عليه الأمر فأتى السباطة حين لم يمكنه التباعد، وأنه لو أبعد؛ لكان تضرر، ويخالف هذا ما روى أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (كنت مع النبي عليه السلام ذات يوم فأراد أن يبول، فأتى دمثًا في أصل جدار فبال ... )؛ الحديث، ولا مخالفة؛ لأنَّه يجوز أن يكون الجدار ههنا عاديًّا غير مملوك لأحد، أو يكون قعوده متراخيًا عن جرمه فلا يصيبه البول، كذا قرره في «عمدة القاري».
(فبال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام في الكناسة (قائمًا)؛ بالنصب على الحال من الضمير الذي في قوله: (فبال)، واختلف في سبب بوله عليه السلام قائمًا، فقال الحافظ الطحاوي: (لكون ذلك سهلًا ينحدر فيه البول، فلا يرتد على البائل)، وقال القاضي عياض: (إنما فعله لشغله بأمور المسلمين، فلعله طال عليه المجلس حتى حصره البول، ولم يمكنه التباعد كعادته، وأراد السباطة لدمثها، وأقام حذيفة يستره عن الناس)، وقال المازري: (فعل ذلك؛ لأنَّها حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الآخر بخلاف القعود، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: البول قائمًا أحصن للدبر).
وقال ابن حجر: (لأنَّه عليه السلام لم يجد مكانًا للقعود، فاضطر إلى القيام؛ لكون الطرف الذي تليه السباطة عاليًا مرتفعًا)، قلت: وهذا ليس بوجه؛ لأنَّ الأرض واسعة وكون الطرف عاليًا ممنوع؛ لأنَّها لا تكون إلا غير عالية حتى تتسع التراب.
وقال البدري: (لعله كانت في السباطة نجاسات رطبة وهي رخوة فخشي أن يتطاير عليه منها)، قلت: فيه نظر؛ لأنَّ القائم أجدر بهذه الخشية من القاعد، واتفق الشراح على أنه عليه السلام فعل ذلك بيانًا للجواز في هذه المرة، وكانت عادته المستمرة البول قاعدًا، ونقل علماؤنا: أن العرب كانت تستشفي بالبول قائمًا لوجع الصلب فلعله عليه السلام كان به إذ ذاك، وقد أجمع سبعون حكيمًا على أن البول في الحمام قائمًا دواء من سبعين داء، وقيل: لأنَّه كان برجله جرح، ويدل لهذا ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة: (أن النبي عليه السلام بال قائمًا من جرح كان بمأْبِضه)، لكن قال الذهبي: (هذا حديث منكر)، وضعفه ابن عساكر والبيهقي، والمأْبِض؛ بهمزة ساكنة بعد الميم، ثم موحدة مكسورة، وبالضاد المعجمة: باطن الركبة، كذا في «عمدة القاري» مع زيادة.
(ثم دعا)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (بماء)؛ لأجل الوضوء، (فجئته بماء) أظهر في محل الإضمار ليعلم أن الجائي هو ومعه الماء؛ لأنَّ قوله: (دعا بماء) يحتمل الدعاء له ولغيره، فلما قال: (فجئته بماء)؛ عُلِم منه أنه المدعو، وأنه الجائي ومعه الماء؛ فافهم.
وقد خفي هذا على العجلوني، فقال: (وانظر حكمة إعادته «ماء» ظاهرًا) مع كثرة كلامه، وطول لسانه، (فتوضأ) زاد مسلم وغيره من طرقٍ عن الأعمش: (فتنحيت، فقال: «ادنه»، فدنوت حتى قمت عند عقبيه)، وفي رواية أحمد عن يحيى القطان: (أتى سباطة قوم فتباعدت منه، فأدناني حتى صرت قريبًا من عقبيه، فبال قائمًا، ودعا بماء فتوضأ ومسح على خفيه)، وروى ابن ماجه من طريق شعبة أن عاصمًا روى له عن أبي وائل، عن المغيرة: (أن النبي عليه السلام أتى سباطة قوم فبال قائمًا)، ولم يذكر فيه (ومسح على خفيه)، ولا يقدح في ذلك عدم ذكره لها، فإنها زيادة من ثقة حافظ لكن قال في «عمدة القاري» نقلًا عن الترمذي: حديث أبي وائل عن حذيفة أصح من حديثه عن المغيرة، قال: وأيضًا لا يبعد أن يكون أبا وائل رواه عن رجلين، والرجلان شاهدا ذلك من فعله عليه السلام، وأن أبا وائل أدى الحديثين عنهما فسمعه جماعة، فأدى كلٌّ ما سمع، ودليله أن غيرهما حكى ذلك عنه عليه السلام أيضًا؛ منهم: سهل بن سعد رضي الله عنه وحديثه في «صحيح ابن خزيمة»، وأبو هريرة وحديثه عند الحاكم والبيهقي.
ففي الحديث جواز البول قائمًا فقاعدًا أجوز؛ لأنَّه أمكن، ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم: أنه يُكْرَهُ البول قائمًا؛ لتنجيس الشخص به غالبًا إلا لعذر؛ كوجع بصلبه ونحوه، وهو مذهب ابن مسعود، وإبراهيم بن سعد، وكان سعد لا يجيز شهادة من بال قائمًا، وهو قول الجمهور، وقال مالك: إن بال في مكان لا يتطاير عليه منه شيء؛ فلا بأس به، وإلا؛ مكروه، وقال قوم: إنه مباح، وهو مروي عن عمر وابنه، وزيد بن ثابت، وسهل بن ساعد, فإنهم بالوا قيامًا، وبه قال سَعِيد بن المسيب، وابن سيرين، والنخعي، والشعبي، وأحمد، وقال الشافعي: يُكْرَهُ قائمًا كراهة تنزيه بدون عذر، وكذلك روي البول قائمًا عن أنس، وعلي، وأبي هريرة رضي الله عنهم، قال في «عمدة القاري»: وكل ذلك ثابت عن النبي عليه السلام.
فإن قلت: رويت أحاديث ظاهرها يعارض حديث الباب؛ منها: حديث المقداد، عن أبيه، عن عائشة قالت: (من حدثك أن رسول الله عليه السلام بال قائمًا؛ فلا تصدقه؛ أنا
%ص 201%
رأيته يبول قاعدًا)، أخرجه البستي في «صحيحه»، ورواه الترمذي في «صحيحه» بلفظ: (ما بال قائمًا منذ أنزل عليه القرآن)، ومنها: حديث بريدة، رواه البزار بسند صحيح: أن رسول الله عليه السلام قال: «ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائمًا ... »؛ الحديث؛ ومنها: حديث عمر، أخرجه البيهقي من حديث ابن جريج قال عمر: رآني رسول الله عليه السلام أبول قائمًا، فقال: «يا عمر؛ لا تبل قائمًا»، قال: فما بلت قائمًا بعد، ومنها: حديث جابر، أخرجه البيهقي أيضًا من حديث عدي بن الفضل، عن جابر قال: (نهى رسول الله عليه السلام أن يبول الرجل قائمًا).
قلت: أما الجواب عن حديث عائشة؛ فإنه مسند إلى علمها فيُحْمَلُ على ما وقع منه في البيوت، وأما غير البيوت؛ فلا تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة رضي الله عنه وهو من كبار الصحابة، وأيضًا يمكن أن يكون قول عائشة: (ما بال قائمًا)؛ يعني: في منزله، ولا اطلاع لها على ما في خارجها، وقول أبي عوانة في «صحيحه»، وابن شاهين: (إن حديث حذيفة منسوخ بحديث عائشة) ممنوع، والصواب أنه لا يقال: إنه منسوخ؛ لأنَّ كلًّا من عائشة وحذيفة أخبر بما شاهده، فدل على أن البول قائمًا وقاعدًا يجوز، ولكن كرهه العلماء قائمًا؛ لوجود أحاديث النهي وإن كان أكثرها غير ثابت، وأما حديث بريدة؛ فقال الترمذي: (إنه غير محفوظ)، لكن فيه نظر؛ لأنَّ البزار أخرجه بسند صحيح كما ذكرنا، وأما حديث عمر؛ فضعيف؛ لأنَّ ابن جريج رواه عن عبد الكريم بن أبي أمية، وهو ضعيف، وقال الترمذي: إنَّما رفعه عبد الكريم، وقد ضعفه أيِّوب، وتكلم فيه، وروى عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمر: ما بلت قائمًا منذ أسلمت، وهذا أصح من حديث عبد الكريم، وأما حديث جابر؛ ففي روايته عدي بن الفضل، وهو ضعيف، وقول أبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي: (حديث حذيفة فاحش منكر لا نراه إلا من قبل بعض الزنادقة)؛ فمردود؛ لأنَّه كلام سوء لا يساوي سماعه وهو في غاية الصحة، كذا قرره في «عمدة القاري».
قال في «شرح المشكاة»: (قيل: النهي للتنزيه، وقيل: للتحريم)، وذكر في «البناية شرح الهداية» عن الحافظ الطحاوي: (أنه لا بأس بالبول قائمًا) انتهى.
والحاصل: أن البول قائمًا مكروه عندنا، والتعبير بـ (لا بأس) يفيد أن تركه أولى، وهو مفاد كراهة التنزيه، وكذا يُكْرَهُ البول في محل التوضؤ، وكذا في محل الاغتسال؛ لقوله عليه السلام: «لا يبولنَّ أحدكم في مستحمه، ثم يغتسل فيه أو يتوضأ، فإن عامة الوسواس منه»، قال ابن الملك: لأنَّ ذلك الموضع يصير نجسًا فيقع في قلبه وسوسة بأنه هل أصابه منه رشاش أم لا؟ حتى لو كان بحيث لا يعود منه رشاش أو كان فيه منفذ بحيث لا يثبت فيه شيء من البول؛ لم يكره البول فيه؛ لأنَّه لا يجره إلى الوسوسة حينئذ؛ لأمنه من عود الرشاش إليه في الأول، ولطهر أرضه في الثاني بأدنى ماء طهور يمر عليها، كذا في «شرح المشكاة».
وكذا يكره أن يبول أو يتغوط في الماء ولو كان جاريًا والكراهة للتنزيه، وكذا يكره أن يبول أو يتغوط في الماء الراكد، والكراهة للتحريم، كذا في «البحر»، وقيل: إنه في الراكد القليل يحرم؛ لأنَّه ينجسه وتنجيس الطاهر حرام، وفي الكثير يكره تحريمًا، والتغوط كالبول، بل هو أقبح، أفاده المحشي، وكذا يُكْرَهُ البول مضطجعًا أو متجردًا من ثوبه بلا عذر، وفي أسفل الأرض إلى أعلاها، كما في «الدر»، وكذا يُكْرَهُ في الماء بالليل مطلقًا؛ خشية أن يؤذيه الجن؛ لما قيل: إن الماء بالليل مأواهم، انتهى.
وكذا يُكْرَهُ البول والتغوط بقرب بئر، أو نهر، أو حوض، أو مصلَّى عيد، أو قافلة، أو خيمة، أو بين الدواب، أو مصلَّى جنازة، والطريق، والظل، والجحر، وتحت شجرة مثمرة، أو مكان معد لنزهة الناس، كذا في «منهل الطلاب»، وهذا إذا كان مباحًا، أما إذا كان مملوكًا؛ فيحرم فيه قضاء الحاجة بغير إذن مالكه، كما في «شرح المشكاة».
وفي الحديث دليل على أن مدافعة البول ومصابرته مكروهة؛ لما فيه من الضرر، كما في «عمدة القاري»، قلت: فإن داء الحصبة يحصل منه غالبًا، وربما يورث داء الاستسقاء؛ لأنَّه لحصره ينفذ البول إلى الجلد فيعفن ويحصل المرض، ويقاس على هذا التغوط، فإنه كذلك يضر البدن، فمدافعته مكروهة؛ لأنَّه يحصل منه وجع الرأس بسبب البخار الصاعد منه إلى الدماغ، ويورث وجع الظهر، وغير ذلك كما بينته في «منهل الطلاب».
وفي الحديث أيضًا جواز البول بالقرب من الديار وجواز طلب البائل من صاحبه الماء للوضوء، وخدمة المفضول للفاضل، والله تعالى أعلم، اللهم فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.
==================
(1/392)
(61) [باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط]
هذا (باب البول)؛ أي: حكم بول الرجل (عند صاحبه)؛ أي: رفيقه (و) حكم (التستر)؛ أي: تستره (بالحائط)؛ أي: الجدار، فالألف واللام في (البول) بدل من المضاف إليه وهو كما قدرنا، والضمير في (صاحبه) يرجع إلى المضاف إليه المقدر؛ وهو الرجل البائل، كذا قاله في «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني وقد حاول العجلوني العبارة كما هي عادته؛ أي قال: أي: جواز البول عند صاحب البائل المدلول عليه بالبول، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الركاكة والمحاولة؛ فافهم.
==========
%ص 202%
==================
(1/393)
[حديث حذيفة: رأيتني أنا والنبي نتماشى فأتى سباطة قوم خلف حائط]
225# وبه قال: (حدثنا عثمان ابن أبي شيبة) نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا فاسم أبيه محمَّد بن إبراهيم، الكوفي، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا جرير)؛ هو ابن عبد الحميد، (عن منصور)؛ هو ابن المعتمر، (عن أبي وائل)؛ هو شقيق الكوفي، (عن حذيفة)؛ هو ابن اليمان رضي الله عنه (قال) أي: حذيفة: (رأيتُني)؛ بضمِّ المثناة الفوقية للمتكلم؛ ومعناه: رأيت نفسي؛ بمعنى: أبصرتها، وبهذا التقدير يندفع سؤال من يقول: كيف جاز أن يكون الفاعل والمفعول عبارة عن شيء واحد؟ وهذا التركيب جائز في أفعال القلوب؛ لأنَّه من خصائصها، ولا يجوز في غيرها، كذا في «عمدة القاري»، وهذا القائل تبعه القسطلاني وهو وهم، وقال العجلوني: (وقد تجعل منها وإن كان منشأ المعرفة القلبية الإبصار، وحينئذٍ لا يحتاج إلى تقدير نفسي)، قلت: وفيه نظر فإنه لا بد من تقدير نفسي حتى يصح التركيب والتقدير؛ لأنَّ منشأ هذه الأفعال القلبية الإبصار وهو مفقود هنا؛ فليحفظ (أنا والنبي) ولفظ (أنا) للتأكيد، ولصحة عطف (النبي) على الضمير المنصوب على المفعولية؛ والتقدير: رأيت نفسي ورأيت النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وقال الكرماني: (بنصب «النبي»؛ لأنَّه عطف على المفعول لا على الفاعل، وعليه الرواية)، قال في «عمدة القاري»: (ويجوز رفع «النبي»؛ لصحة المعنى عليه، ولكن إن صحت رواية النصب؛ يقتصر عليها)، قلت: ونقل القسطلاني عن «فرع اليونينية»: أن النصب والرفع ثابت في الرواية، فالرفع عطف على ضمير الرفع في (رأيتني) لا على (أنا) كما توهمه القسطلاني؛ فليحفظ.
وقوله: (صلَّى الله عليه وسلَّم): جملة خبرية لفظًا إنشائية معنًى، وجملة: (نتماشى)؛ بالنون أوله، والشين المعجمة المفتوحة في محل نصب على الحال من الفاعل والمفعول معًا؛ والتقدير: رأيت نفسي ورأيت النبي حال كونهما متماشيين، (فأَتى)؛ بفتح الهمزة؛ أي: النبي عليه السلام (سُباطة)؛ بضمِّ السين المهملة؛ أي: كناسة (قوم) من الأنصار، وبه علم أن هذه القضية كانت بالمدينة كما سبق (خلف حائط)؛ بالنصب على الحال من (سباطة)، والحائط: الجدار، من الحوط، فأصله واوي، وقدمنا أنه يجيء بمعنى البستان من النخل إذا كان محوطًا؛ فافهم.
(فقام)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (كما يقوم أحدكم)؛ إذا أراد أن يقضي حاجته، (فبال)؛ أي: شرع في البول،
%ص 202%
(فانتبذت)؛ بنون ساكنة، بعدها فوقية مفتوحة، فموحدة، فمعجمة؛ أي: تنحيت (منه)؛ أي: ذهبت ناحية منه، ومادته: نون، وباء موحدة، وذال معجمة، قال الجوهري: (جلس فلان نَُبذة؛ بفتح النون وضمها؛ أي: ناحية، وانتبذ فلان؛ أي: ذهب ناحية)، وقال الخطابي: (فانتبذت منه)؛ أي: تنحيت عنه حتى كنت منه على نبذة)، كذا في «عمدة القاري»، (فأشار)؛ أي: النبيُّ عليه السلام، (إليَّ)؛ بتشديد الياء، بعد أن بعدت منه بيده أو برأسه، ولكن لم يبعد منه بحيث لا يراه، وفي رواية مسلم: (ادْنُه)، وقال ابن حجر: (رواية البخاري هذه بينت أن رواية مسلم (ادنه) كان بالإشارة لا باللفظ)، ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: يرد عليه رواية الطبراني من حديث عصمة بن مالك قال: خرج علينا رسول الله عليه السلام في بعض سكك المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فقال: «يا حذيفة؛ استرني ... »؛ الحديث، فهذا صريح على أن إعلامه كان باللفظ، ويمكن أن يُجمع بين الروايتين بأنه كان عليه السلام أشار أولًا بيده أو برأسه، ثم قال: استرني) انتهى.
واعترضه العجلوني: (بأنه يجوز أن يراد بقوله: فقال: «يا حذيفة؛ استرني» الإشارة؛ لأنَّ القول كالكلام يعبر به لغة عن الإشارة) انتهى.
قلت: فقد زاد في الطنبور نغمة، وهو ممنوع؛ لأنَّه كيف يراد بالقول هنا الإشارة وقد صرح بالقول في قوله: (فقال: يا حذيفة) وهل هذا إلا خروج عن الظاهر؟ ولا يلزم من كون القول يعبر به لغة عن الإشارة أن تكون جميع الأقوال يراد بها الإشارة، فإن الكلام هنا في الحقيقة، وكلامه في المجاز، وإذا وجدت الحقيقة؛ لا يصار إلى المجاز عند المحققين، على أن رواية مسلم (ادنه) تعين أن الإشارة كانت باللفظ فقط على أن المعنى اللغوي هنا غير محتاج إليه أصلًا؛ لأنَّه خروج عن الظاهر فما قاله غير معتدٍّ به؛ فافهم.
وقال ابن حجر: (وليست فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول).
ورده في «عمدة القاري» حيث قال: قلت: هذا كلام من غير روية؛ إذ إشارته عليه السلام إلى حذيفة، أو قوله: (استرني) لم يكن إلا قبل شروعه في البول، فكيف يظن من ذلك ما قاله حتى ينفي ذلك) انتهى.
واعترضه العجلوني بأن قوله: (إذ إشارته ... ) إلخ؛ ممنوع لا سيما في الإشارة، إذ قوله: (فبال ... ) إلخ؛ كالتصريح في أنها وقعت في حال الشروع في البول، وحينئذٍ فصحَّ قول ابن حجر: (ليس فيه ... ) إلخ؛ فتأمل.
قلت: تأملته فوجدته قد زاد في الشطرنج جملًا وهو ممنوع، فإن قوله: (فقام كما يقوم أحدكم)؛ أي: تهيَّأ لقضاء الحاجة.
وقوله: (فبال) صريح في أنه شرع في البول، ثم قوله: (فانتبذت) دليل ظاهر على أنه شرع في البول؛ لأنَّه لو لم يشرع به ولم يتهيأ له؛ لما كان انتبذ عنه، فانتباذه دليل على شروعه، والإشارة التي هي دالَّة على أنه قد قال: (ادنه) كما في «مسلم» إنَّما حصلت بعد الشروع بدليل قوله: (فجئته فقمت عند عقبه)، والقيام عند عقبه لا يكون إلا حال قضاء الحاجة، على أن قوله: (استرني) دليل ظاهر على أنه بعد الشروع؛ لأنَّه لو لم يشرع؛ لما أمره بالستر عليه؛ لأنَّ الستر لا يكون إلا بعد الكشف، كما لا يخفى؛ فافهم ذلك ولا تغتر بهذه العصبية الزائدة من العجلوني، فإنه قد أتى بها من عجلون؛ وهي جبال قاسية.
وقال الكرماني: (وإنما بعد منه وعينه تراه؛ لأنَّه كان يحرسه)؛ أي: يحرس النبيَّ عليه السلام، واعترضه في «عمدة القاري»: (بأن هذا إنَّما يتأتَّى قبل نزول قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؛ لأنَّه عليه السلام كان يحرسه جماعةٌ من الصحابة قبل نزول هذه الآية، فلما نزلت؛ ترك عليه السلام الحرس) انتهى.
وتعقبه العجلوني: بأنه لعلَّ حرسه كان من حذيفة من غير أمر منه، أو المعصوم منه المذكور في الآية القتل أو نحوه؛ فلا يرد الاعتراض؛ فتأمل.
قلت: تأملته فوجدته منقوضًا بوجوه؛ لأنَّ قوله: (لعل حرسه ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ حذيفة صحابي جليل يعلم بنزول الآيات وأسبابها وما يتعلق بها، وحين نزول الآية لا ريب أنه كان حاضرًا، أو سمعه من النبيِّ عليه السلام، أو أخبر الصحابة بنزولها، ولا ريب أنه إذا تكفل الله تعالى بعصمته لا يتجرأ أحد على ذلك بعد إخباره تعالى عن عصمته إياه، ويدل لذلك: أنه عليه السلام لم يأمره بالحراسة، وذلك لنزول الآية، فقد تحقق عند النبيِّ عليه السلام العصمةُ من الناس، فلم يحتج إلى الحراسة، وحذيفة لما علم بنزول الآية؛ ترك الحراسة؛ لأنَّ عصمة الله تعالى أبلغ وأعظم، وحراسته لا فائدة بها بعد إخباره تعالى عن العصمة، فهو ممنوع.
وقوله: (المعصوم منه ... ) إلخ؛ ممنوع أيضًا، فإن العصمة له عليه السلام كانت من الإيذاء، كما أنه عليه السلام كانوا شجُّوه [1] بالحجارة في وجهه، وكسرت رباعيته، وأُطْعِمَ شاة مسمومة، أو بوضع شيء على ظهره الشريف حين يصلي، أو بكلام قبيح كما ثبت ذلك في الصحيح، وعصمته من القتل خارج عن ذلك؛ لأنَّه معصوم منه قبل نزول الآية بدليل قصة بحيرة الراهب وأمثالها؛ لأنَّه لو لم يكن معصومًا؛ لتناوله اليهود والجاهلية وغيرهم وأعدموه عليه السلام، وهو محال قطعًا، فعصمته في الآية مما عدا القتل كما ذكرنا؛ لأنَّ الآية في المائدة، وهي آخر ما نزل من القرآن؛ فافهم وهو موضَّح في كتب التفسير؛ فليحفظ.
(فجئته) عليه السلام، فقال: «يا حذيفة؛ استرني» كما عند الطبراني كما قدمناه، (فقمت عند عقبه)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (عند عقبيه)؛ بالتثنية، والعَقِب؛ بفتح العين المهملة، وكسر القاف: وهو مؤخر القدم، وهي مؤنثة، وعقب الرجل أيضًا: ولده وولد ولده، وفيها لغتان؛ كسر العين وسكونها، وهي أيضًا مؤنثة، انتهى (حتى فرغ)؛ أي: من بوله، قال ابن بطَّال: (من السنة أن يقرب من البائل إذا كان قائمًا هذا إذا أمن أن يرى منه عورته، وأما إذا كان قاعدًا؛ فالسنة البعد منه، وإنما انتبذ حذيفة منه؛ لئلا يسمع شيئًا مما يجري في الحدث، فلما بال عليه السلام قائمًا وأمن عليه السلام ما خشيه حذيفة؛ أمره بالقرب منه)، وقال الخطابي: المعنى في إدنائه إياه مع استحباب إبعاده في الحاجة إذا أرادها أن يكون سترًا بينه وبين الناس، وذلك أن السباطة إنَّما تكون في أفنية البيوت المسكونة أو قريبة منها، فلا تكاد تخلو من المار.
وقال ابن حجر: (واستدنى حذيفة؛ ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يمرُّ به، وكان قدامه مستورًا بالحائط، أو لعله فعله؛ لبيان الجواز، ثم هو في البول وهو أخف من الغائط؛ لاحتياجه إلى زيادة تكشف ولما يقترن به من الرائحة، والغرض من الإبعاد التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنوِّ من الساتر)، ثم قال: (وقدَّم المصلحة في تقريب حذيفة؛ ليستره من المارة على مصلحة تأخُّره عنه؛ إذ لم يمكن جمعهما) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن كلامه مأخوذ من كلام الخطابي، وكلامه لا نظر فيه، لكن قد زاد عليه قوله: (ولما يقترن به من الرائحة) وهو ممنوع في حق النبيِّ عليه السلام؛ لأنَّ رائحة فضلاته أطيب من ريح المسك؛ لأنَّها طاهرة، ويدل لذلك أن الصحابة إذا مرُّوا بمكان وشمُّوا رائحة طيبة يعلمون أن النبيَّ عليه السلام تغوَّط في تلك المكان، وكأنه قصد بهذا التعبير الإشارةَ إلى ما قاله الشافعية: من أن فضلاته عليه السلام ليست طاهرة، نعوذ بالله من هذا القول القبيح الذي لا يرضاه ذو [2] العقل الصحيح.
وقوله: (أو لعله فعله؛ لبيان الجواز) ممنوع، بل إنَّما فعله لأجل الستر فقط بدليل قوله له: «يا حذيفة؛ استرني»؛ لأنَّه لو كان لبيان الجواز؛ لقال له: اقرب مني؛ حتى لا أحد يمر بنا فينظر ما نفعله، وفي باقي كلامه نظر، ولو بيَّناه؛ لطال المقام.
وفي الحديث: أنه إذا أراد قضاء حاجته يتوارى عن أعين الناس بما يستره من حائط ونحوه، وفيه: جواز البول قائمًا وقاعدًا، وفيه: جواز قرب الإنسان من البائل، وجواز طلب البائل القرب منه؛ ليستره، واعترض بأنه قد صح في «الصحيح» أنه عليه السلام قال حين أراد قضاء الحاجة: «تنحَّ»، وتباعده عن الناس حين قضائها هو المعروف من عادته، وأجيب: بأن ما هنا من التقريب، كأنْ كان عند القيام، وما هناك كان من الإبعاد والتنحِّي كان عند القعود، والفرق بينهما خوف سماع الصوت الخارج مع القعود
%ص 203%
وعدمه مع القيام، والله تعالى أعلم.
وفي نهار الأربعة الرابع من ربيع الأول شنقوا تسعة أنفار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم فرج عناوعن المسلمين بجاه سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين صلَّى الله عليه وسلَّم، آمين ... آمين ... آمين.
==========
[1] في الأصل: (يشجوه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (يشجوه)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (يشجوه)، وليس بصحيح.
(1/394)
(62) [باب البول عند سباطة قوم]
هذا (باب) جواز (البول عند سُباطة) بضمِّ السين المهملة: الكناسة كما قدمناه (قوم)؛ أي: جماعة من الناس.
==========
%ص 204%
==================
(1/395)
[حديث حذيفة: ليته أمسك أتى الرسول سباطة]
226# وبالسَّند قال: (حدثنا محمَّد بن عَرْعَرَة)؛ بعينين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة، ثم أخرى بعدها مفتوحة؛ لوقوع هاء التأنيث بعدها (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن منصور) هو ابن المعتمر، (عن أبي وائل) هو شقيق الكوفي (قال: كان أبو موسى) هو عبد الله بن قَيْس (الأشعري) رضي الله تعالى عنه (يشدد في البول): جملة محلها النصب خبر (كان)؛ أي: أنه كان يحتاط احتياطًا عظيمًا في الاحتراز عن رشاش البول حتى إنه كان يبول في القارورة؛ خوفًا من أن يصيبه من رشاشه شيء، وأخرج ابن المُنْذِر من طريق عبد الرحمن بن الأسودعن أبيه: أنه سمع أبا موسى ورأى رجلًا يبول قائمًا، فقال: ويحك! أفلا قاعدًا؟ ثم ذكر قصة بني إسرائيل، (ويقول: إن بني إسرائيل)؛ أي: أولاد يعقوب عليه السلام، وإسرائيل لقبه، ووجه تلقيب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام بإسرائيل ما قاله في «عمدة القاري»: (من أنه كان يعقوب وعيصوا أخوين [1] كانا في بطن [2] أمهما معًا، فلما جاء وقت وضعهما؛ اقتتلا في بطنها لأجل الخروج أولًا، فقال عيصو: والله لئن خرجت قبلي؛ لأعترض في بطن أمي لأقتلها، فتأخَّر يعقوب وخرج عيصو قبله فسمِّي عيصوا، وسُمِّي يعقوب؛ لأنَّه خرج آخرًا عقب عيصو، وكان يعقوب أكبرهما في البطن، وكان أحبهما إلى أمه، وكان عيصو أحبهما إلى أبيه، وكان صاحب صيد، فلما كبر أبوهما إسحاق وغشي على عينيه؛ قال لعيصو: يا بني؛ أطعمني لحم صيد أدعو لك بدعاء كان أبي دعا لي به، وكان أشعر، وكان يعقوب أجرد، فخرج عيصو إلى الصيد، فقالت أمه ليعقوب: خذ شاة واشوها، والبس جلدها، وقدمها إلى أبيك، وقل: أنا ابنك عيصو، ففعل فمسَّه إسحاق، فقال: المسُّ مسُّ عيصو، والريح ريح يعقوب، فقالت أمه: ابنك عيصو فادع له، فأكل منها، ودعا له بأن يجعل الله في ذريته الأنبياء والملوك، ثم جاء عيصو بالصيد فقال إسحاق: يا بني؛ لقد سبقك أخوك فغضب، وقال: والله لأقتلنه، فقال إسحاق: يا بني؛ قد بقيت دعوة، فدعا له بأن يكون ذريته عدد التراب ولا يملكهم أحد غيرهم، وقالت أمُّ يعقوب له: الحق بخالك، فكن عنده خشية أن يقتلك عيصو، فانطلق يعقوب إلى خاله لابان، فكان ببابل، وقيل: بحران، فكان يسري بالليل ويمكن بالنهار؛ فلذلك سمي إسرائيل، فأخذ من السرى والليل، وقيل: معناه: عبد الله؛ لأنَّ إيل اسم من أسماء الله تعالى بالسريانية، كما يقال: جبرائيل، وميكائيل [3]) انتهى.
قلت: قيل: إن ذرية عيصو الإفرنج المشهورين بالروسية الموسكوف، وقال البغوي: (قال ابن عباس، ومُجَاهِد، وغيرهما: أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلًا قويًّا، فلقيه مَلَك، فظن يعقوب أنه لصٌّ فعالجه أن يصرعه، فغمز الملك فخذ يعقوب، ثم صعد إلى السماء ويعقوب ينظر إليه فهاج به عرق النسا، ولقي من ذلك شدة فكان لا ينام الليل من الوجع، ويبيت وله زقاء؛ أي: صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله؛ لا يأكل عرقًا ولا طعامًا فيه عرق، فحرَّمه على نفسه، فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق يخرجونها من اللحم) انتهى.
قلت: وهذا مشاهد معلوم من اليهود، فإن لهم جماعة عند الجزارين ينقُّون العروق، قيل: إن يعقوب لما استوطن في بيت المقدس وجاءه أولاده المذكورون [4] في القرآن العظيم وكبروا؛ ذهب عيصو يدِّور على أخيه إلى أن قرب إلى بيت المقدس، فأُخبِر يعقوب بمجيئه، فقال لأولاده: اذهبوا إلى باب البلد وقفوا عنده، فإذا جاء عيصو ومرَّ عليكم؛ فقبِّلوا يديه، وقولوا له: نحن عبيد عيصو، فإن سأل عني وعنكم؛ فأخبروه ففعلوا، فلما رآهم عيصو؛ سألهم، فأجابوه، فسألهم عن أبيهم يعقوب، فقالوا [5]: في محل كذا، فذهب إليه وقبَّلوا بعضهم بعضًا، وعفا عنه، ورضي، وتمامه في «عقود الجمان في أخبار الزمان» للشيخ بدر الدين العيني صاحب «عمدة القاري» قُدِّس سرُّه، فإنه كتاب لم أجد [من] سبقه إليه، جمع فيه فأوعى، وأودع فأغنى، وهو يبلغ نحوًا من عشرة مجلدات، وكان عندي منه مجلد واحد رضي الله عن هذا المؤلف ما أغزر علمه واطلاعه!
(كان)؛ للشأن، وليس ضميرها يعود على (بني إسرائيل) حتى يرد أنهم جمع، وهو مفرد، بل هو ضمير الشأن، والجملة الشرطية من (كان) وخبرها خبر (إنَّ)، ويحتمل عوده على (بني)؛ لأنَّه بمعنى ولد أو سبط مثلًا، والأظهر الأول؛ فتأمل، (إذا أصاب) أي: البول (ثوبَ أحدهم)؛ بنصب (ثوب) على المفعولية، ووقع في رواية مسلم: (إذا أصاب جلد أحدهم)، قال القرطبيُّ: (مراده بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبسونها)، وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الأمر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود، عن عبد الرحمن بن حسنة، قال: انطلقت أنا وعمرو بن العاص إلى النبيِّ عليه السلام فخرج ومعه درقة، ثم استتر بها، ثم قال: فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة، فسمع ذلك فقال: ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم البول؛ قطعوا ما أصابه البول منهم، فنهاهم فعُذِّبَ في قبره، قال منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى: جلد أحدهم، وقال عاصم، عن أبي وائل، عن أبي موسى: جسد أحدهم).
وقوله: (انظروا يبول كما تبول المرأة)، وهذا القول منهما وقع من غير قصد، أو وقع بطريق التعجب، أو بطريق الاستفسار عن هذا الفعل؛ فلذلك قال عليه السلام: «ألم تعلموا ... إلخ»، ولم يقولا هذا بطريق الاستهزاء والاستخفاف؛ لأنَّ الصحابة براء [6] من هذا الكلام، وأراد بـ (صاحب بني إسرائيل): موسى الكليم عليه السلام.
فإن قلت: كيف يترتب قوله على قوله: فنهاهم؟
قلت: فيه حذف؛ تقديره: فنهاهم عن إصابة البول ولم ينتهوا، فعذبهم الله، والفاء في (فعذب) فاء السببية؛ نحو قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]، كذا في «عمدة القاري».
(قَرَضَه)؛ بفتح القاف والراء، والضاد المعجمة؛ أي: قطعه، وفي رواية الأصيلي، والإسماعيلي: (قرضه) بالمقراض، وهذه الرواية ترد قول من يقول: بالقرض الغسل بالماء، وهذا من الأمر المدفوع عن هذه الأمة، ورواية المؤلف هنا صريحة في أنَّ المراد: الجلد الملبوس؛ لتصريحه بالثياب، فلعل ما في «أبي داود» تصرُّف من بعض الرواة؛ لظنه أن المراد بالجلد الواقع في بعض الروايات: الجسد، وليس كذلك، كما علمت؛ فافهم وتأمل، (فقال حذيفة) أي: ابن اليمان، عن أبي موسى الأشعري: (ليته أمسك)؛ أي: ليت أبا موسى أمسك نفسه عن هذا التشديد في أمر البول أو لسانه عن هذا القول، أو كليهما عن كليهما، ومقصوده: أن هذا التشديد خلاف السنة، فالإمساك عنه خير، (فقد أتى) بفتح الهمزة (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم سُباطة) بضمِّ السين المهملة: كناسة (قوم)؛ أي: جماعة من الأنصار، (فبال قائمًا) وفي رواية الإسماعيلي: (لوددت أن صاحبكم لا يشدِّد هذا التشديد)؛ أي: ولا شك في كون القائم معرَّضًا للرشاش، ولم يلتفت عليه السلام إلى هذا الاحتمال ولم يتكلَّف البول في القارورة، قال ابن بطال: (وهذا الحديث حجة لمن رخَّص في يسير البول؛ لأنَّ المعهود ممن بال قائمًا أن يتطاير إليه مثل رؤوس الإبر، وفيه يسر وسماحة على هذه الأمة حيث لم يوجب القرض كما أوجب على بني إسرائيل)، وقال سفيان الثوري: كانوا يرخِّصون في
%ص 204%
القليل من البول.
قلت: والمراد من رؤوس الإبر محل إدخال الخيط وإن امتلأ منه الثوب والبدن للضرورة؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، لا سيما في مهبِّ الريح، فسقط اعتباره، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذا، فقال: إنا لنرجو من الله تعالى أوسع من هذا، كما في «السراج الوهاج»، فهذا حجة ودليل ظاهر لإمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله عنه في قوله: إنه معفوٌّ عنه، وسهل فيها كما سهل في يسير كل النجاسات، وقال مالك: يغسلها استحبابًا وتنزُّهًا، وهو قول الإمام أبي يوسف، وشدد الأمر الشافعي، وقال: يجب غسل ما يدركه الطرف من سائر النجاسات، وهذا الحديث حجة عليه؛ لأنَّ الاحتراز عنه غير ممكن ضرورة، وفيه حرج بيِّنٌ وهو مدفوع، وروي عن محمَّد بن علي زين العابدين: أنه تكلَّف لبيت الخلاء ثوبًا، ثم تركه، وقال: لم يتكلَّف لهذا من هو خير مني؛ يعني: رسول الله عليه السلام، والخلفاء رضي الله عنهم، ويدل لذلك: حديث أبي هريرة السابق، وفيه: «فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، فهو يشير إلى عدم اعتبار نجاسة الرشاش من النجاسات؛ لأنَّه لو اعتبرناه نجسًا؛ لزال معنى التيسير المأمور به، ولثبت معنى التعسير وهو خلاف المأمور به، والله تعالى أعلم، اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين، واكشف يا ربنا هذا الهم والغم عن أمة نبيك محمَّد عليه السلام.
وقال القسطلاني: (وفي الاستدلال على الرخصة المذكورة ببوله عليه السلام قائمًا نظر؛ لأنَّه عليه السلام في تلك الحالة لم يصل إليه منه شيء)، قال ابن حبَّان: (إنما بال قائمًا؛ لأنَّه لم يجد مكانًا يصلح للقعود، فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة عاليًا، فأمن من أن يرتد عليه شيء من بوله، أو كانت السباطة رخوة لا يرتد إلى البائل شيء من بوله) انتهى.
قلت: وهذا ممنوع، فإن بوله عليه السلام قائمًا وكذا غيره لا بدَّ وأن يصل إليه الرشاش من البول غالبًا، والغالب كالمتحقق.
وقوله: (لم يصل إليه منه شيء) دعوة باطلة؛ لتضمنها النفي وهو غير مقبول، ودعوانا مثبتة، والمثبت مقدم على النافي، على أنه لا دليل يدل على عدم الوصول، بل الظاهر المتبادر من هذه الحالة إنَّما هو الوصول لا غير.
وقوله: (لأنَّه لم يجد مكانًا يصلح للقعود) ممنوع، فإن الأرض واسعة صالحة للقعود، وليس لأحد إنكار ذلك، وإنكاره كإنكار وجود الشمس في السماء في رابعة النهار.
وقوله: (لكون الطرف الذي يليه من السباطة عاليًا ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ السباطة على وجه الأرض في العادة ليست عالية ولا متسفلة، وأي دليل على أنها عالية؟ وإذا كانت ليست بعالية؛ فالطرف منها غير عالٍ ضرورة، وفي هذه الحالة إذا بال أحد؛ فلا ريب أنه يصله الرشاش، فدعوى عدم الوصول باطلة لا دليل عليها.
وقوله: (فأمن من أن يرتد ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل على ذلك، فإن السباطة ليس لها أطراف، وإنما هي مكان على وجه الأرض معد لرمي الأوساخ المجتمعة في البيوت، وهي تضمحل وتذهب بالريح أو يأخذها أرباب البساتين.
وقوله: (أو كانت السباطة رخوة ... ) إلخ ممنوع؛ فإن السباطة ليست ببناء ولا من غيره، وإنما هي أرض صلبة بدليل أنها في فناء البيوت، وفناؤها أرض صلبة غير رخوة، وتارة يكون محلها صخر أو جبل كما هو العادة في القرى والبلدان، فلا ريب أنه في الحالة المذكورة إذا بال؛ يرتد عليه شيء من الرشاش لما ذكرنا؛ لأنَّ الصخر والجبل لصلابته، وكذا الأرض المعهودة كذلك صلبة؛ لعدم ورود الماء عليها ودائمًا الشمس عليها صلبة، لا يستقر البول عليها، بل يتطاير على البائل غالبًا، والغالب كالمتحقق؛ فافهم.
ولا داعي لهذا التشديد حتى يدخل في تشديد بني إسرائيل، فإن الله تعالى أمر باليسر ونبيُّه عليه السلام كذلك كما علمت، وقال تعالى: {[اجْتَبَاكُمْ] وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ولا ريب أن اعتبار ذلك حرج بيِّنٌ، وقد أمرنا سبحانه وتعالى باجتنابه ورفعه عنا، فباعتباره إلزام الحرج علينا، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (أخوان)، وليس بصحيح.
[2] زيد في الأصل: (واحد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (فجبرائل ومكائل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (المذكورين)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فقال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (بريئات).
==================
[1] في الأصل: (أخوان)، وليس بصحيح.
[2] زيد في الأصل: (واحد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (فجبرائل ومكائل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (المذكورين)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فقال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (أخوان)، وليس بصحيح.
[2] زيد في الأصل: (واحد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (فجبرائل ومكائل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (المذكورين)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فقال)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/396)
(63) [باب غسل الدم]
هذا (باب) حكم (غَسل) بفتح الغين المعجمة (الدم)؛ بتخفيف الميم، وقد تشدَّد؛ أي: دم الحيض، وكذا غيره من سائر الدماء وسائر النجاسات بطريق القياس عليه.
==========
%ص 205%
==================
(1/397)
[حديث: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه]
227# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا محمَّد بن المثنى) بضمِّ الميم، وفتح المثلثة، وتشديد النون المفتوحة، المعروف بالزمن (قال: حدثنا)) وفي رواية بالإفراد (يحيى)؛ هو ابن سَعِيْد القطان، (عن هشام) بكسر الهاء: هو ابن عروة بن الزبير (قال: حدثتني فاطمة)؛ هي بنت المُنْذِر بن الزبير زوجة هشام المذكور، وابنة عمه، (عن أسماء)؛ بالمد؛ هي بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وجدة فاطمة، وزوجها لأبويهما، المعروفة بذات النطاقين أم عبد الله بن الزبير، وهي من المهاجرات، عارفة بتعبير الرؤيا؛ حتى قيل: إن ابن سيرين أخذ التعبير عن ابن المسيب، عن أسماء، وهي أخذته عن أبيها، وهي آخر المهاجرات وفاة، توفيت في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بمكة بعد ابنها عبد الله بأيام، بلغت مئة سنة لم يسقط لها سنٌّ، ولم ينكر لها عقل رضي الله عنها (قالت)؛ أي: أسماء: (جاءت امرأة للنبيِّ) الأعظم، وللأربعة: (إلى النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) والمرأة السائلة: هي أسماء بنت يزيد التي يقال لها: خطيبة النساء، أو أسماء بنت شَكَل؛ بفتحتين، قال جماعة من المحدثين: والأولى [1] هي الصواب، واعتمده وقوَّاه النووي، وقيل: إنه يجوز أن تكون فاطمة بنت حبيش الآتية.
قلت: وهو ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل على ذلك، وأي عذر كان في إبهامها هنا؟ فإن المخبرة فيما يأتي عائشة، وهنا أسماء، وكل قصة على حدة، فلو كانت هذه؛ لأخبرت أسماء بها أنها فاطمة، وعدم ذلك دليل على أنها غيرها، والصواب الأول، ووقع في رواية الشافعيِّ: أن السائلة هي أسماء بنت أبي بكر المذكورة، ولا يبعد أن يبهم الراوي نفسه، كما وقع لأبي سَعِيْد الخدري في الرقية بفاتحة الكتاب، وضعف هذا النووي.
قلت: ويدل لذلك أنها لو كانت هي السائلة؛ لم تُبْهِم نفسها، بل صرَّحت وقالت: قلت للنبيِّ عليه السلام، أو قالت: أتيت النبيَّ عليه السلام فقلت: يا رسول الله عليه السلام، على أنه لا عذر ولا غرض لها في هذا الإبهام، بل التصريح أشرف وأحسن لها، وإبهام أبي سَعِيْد نفسه لا يدل على هذا؛ لأنَّه لما رقي وأخبر النبيَّ عليه السلام؛ خشي من النبيِّ عليه السلام عدم الرضا؛ فأبهم نفسه، فلما علم الرضا؛ أظهر نفسه بأنه الراقي؛ فافهم.
وأما أسماء هذه؛ فلا عذر لها في الإبهام، لا يقال: إن الحياء منعها من التصريح؛ لأنا نقول: هذا حكم شرعي، والنبيُّ عليه السلام أمر بعدم الحياء في الأحكام الشرعية والسؤال عنها، ولذا فإن [2] أم سليم لما أتته تسأله؛ قالت: إن الله لا يستحي من الحق، فالحياء من الحق مذموم، وأسماء هي أشد اتباعًا لسنة النبيِّ عليه السلام، فلا يمنعها ذلك؛ فافهم.
(فقالت: أرأيت)؛ أي: أخبرني يا رسول الله؛ قال الفاضل الزمخشري: فيه تجوز لإطلاق الرؤية وإرادة الإخبار؛ لأنَّ الرؤية سبب الإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر؛ بجامع الطلب، كذا في «عمدة القاري» (إحدانا)؛ بالنصب مفعول (أرأيت) على معنى: أخبرني عن إحدانا، واستظهر بعضهم أنه على حذف مضاف؛ أي: أخبرني خبر زيد أو حاله؛ لأنَّ النصب بإسقاط الخافض غير مقَيْس، ولا يجوز رفعه كما نص عليه سيبويه، قال: لأنك لو قلت: أرأيت أبو من زيد؛ لم يحسن؛ لأنَّ فيه معنى أخبرني عن زيد، وجوز في «عمدة القاري» رفعه على الابتداء، و (تحيض) خبره.
قلت: والمعنى عليه صحيح حسن؛ لأنَّه على معنى الاستئناف، فكأنه قال: أخبرني حكم الله تعالى وهو (إحدانا تحيض)؛ فتأمل.
وقوله: (تَحِيض)؛ بفتح الفوقية، وكسر المهملة، جملة محلها النصب حال من (إحدانا)، أو الرفع خبر (إحدانا) كما علمت (في الثوب) إما حال، أو متعلق بـ (تحيض)؛ والمعنى: تحيض حال كونها في الثوب، ومن ضرورة ذلك وصول الدم إلى الثوب، كذا قاله في «عمدة القاري»، ويدل لذلك ما عند المؤلف عن عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم؛ قالت
%ص 205%
بريقها، فمصعته بظفرها)، وما عند أحمد عن أبي هريرة: أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله؛ ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه، قال: «فإذا طهرت؛ فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه»، قالت: يا رسول الله؛ أرى لم يخرج أثره، قال: «يكفيك الماء ولا يضرك أثره»، وقال الكرماني، وتبعه ابن حجر: أن معنى (تحيض في الثوب) أن دم الحيض يصل إليه، ويدل له ما رواه المؤلف من طريق مالك عن هشام: (إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة)، وما رواه مسلم: (أرأيت المرأة يصيب ثوبها من دم الحيضة).
قلت: وما قاله في «عمدة القاري» أظهر وأحسن للمعنى؛ فليحفظ.
وجملة (كيف تصنع) إما في محل نصب على أنه مفعول ثان لـ (أرأيت) المذكورة إن قلنا: بأنها تعلق، أو بدل من الأول، وإما لا محل لها، وإن قلنا: بأنها تعلق؛ لأنَّها مستأنفة؛ لبيان الحال المستخبر عنها، كما قاله الرضي، وكذا إن قلنا بعدم تعليق (أرأيت) المذكورة بناء على أحد قولي الإمام الزمخشري: إن شرط التعليق أن يذكر بعد العامل ما يسد مسد منصوبيه معًا، وكذا لا محل لها إن قلنا لا تتعدى (أرأيت) إلى اثنين، والكلام على (أرأيت) المذكورة، ومتعلقاتها مستوفًى في «التسهيل» وشروحه، والله أعلم.
(قال) وللأصيلي: (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام: (تحُتُّه)؛ أي: الثوب، بضمِّ الحاء المهملة، وبالفوقية المشددة؛ من حتَّ الشيء عن الثوب وغيره تحتُّه حتًّا، وفي «المنتهى»: (الحت: حتك الورق من الشجر، والمني، والدم، ونحوهما من الثوب وغيره، وهو دون النحت)، وعند ابن طريف: (حت الشيء نفضه [3]، وقيل: معناه: تحكه)، كما وقع في رواية ابن خزيمة، والمراد من ذلك: إزالة عينه المتجسدة، (ثم تَقرُضه)؛ أي: الثوب، وهو بضمِّ الراء، والضاد المعجمة مع فتح أوله، وسكون ثانيه، وفي رواية: (قرِّضيه)؛ بالتشديد، قال أبو عبيد: (أي: قطِّعيه)، وقال عياض: (رُوِّيناه: بفتح المثناة فوق، وإسكان القاف، وضم الراء، وبضمِّ المثناة، وفتح القاف، وكسر الراء المشددة)، قال: (وهو الدلك بأطراف الأصابع مع صبِّ الماء عليه حتى يذهب أثره)، وفي «المغرب»: (الحت: القرض باليد، والقرض بأطراف الأصابع)، وفي «المحكم»: (القرض: التخميش والغمز بالإصبع، والمقرض: المقطوع المأخوذ من شيئين)، وفي «الجامع»: (كل مقطوع مقرض)، وفي «الصحاح»: (اقرضيه بماء)؛ أي: اغسليه بأطراف أصابعك، والمراد من ذلك: أنها تفرك مواضع الدم بأطراف أصابعها (بالماء)؛ أي: مع صبِّ الماء عليه؛ ليتخلل بذلك ويخرج ما تشرَّبه الثوب منه، ولا يضر بقاء أثر شق زواله حتى يتكلف إلى إزالته بنحو صابون، أو أشنان، أو ماء حار، فإن ذلك غير لازم للحرج، وهو مدفوع بالنص.
فإن قلت: وقع في حديث أم قَيْس بنت محصن عند ابن خزيمة: (واغسليه بالماء والسدر وحكيه ولو بضلع)، وعند أبي أحمد العسكري: (حكيه بضلع، وأتبعيه بالماء والسدر)، وعند أبي داود عن امرأة من غفار: أن رسول الله عليه السلام لما رأى ثيابها من الدم؛ قال: «أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء واطرحي فيه ملحًا، ثم اغسلي ما أصاب من الدم، ثم عودي لركبك»
قلت: ذكر السدر والحك بالضلع بالملح إن صح؛ فهو أمر محمول على الندب لا الوجوب، وقد قال ابن القطان: الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر الضلع والسدر، وعاب على أبي أحمد [قوله]، ويدل لذلك ما رواه أحمد في «مسنده» من حديث أبي هريرة قال: «يكفيك الماء، ولا يضرك أثره» كما تقدم قريبًا، وعند الدارمي عن أم سَلَمَة: (إن إحداهن تسبقها القطرة [4] خفيةً من الدم، فقال عليه السلام: «إذا أصاب إحداكن ذلك؛ فلتقصعه بريقها»)، وعند ابن خزيمة: (وقيل لها: كيف كنتن تصنعن بثيابكنَّ إذا طمثن على عهد رسول الله عليه السلام؟ قالت: إن كنا لنطمث في ثيابنا أو في دروعنا، فما نغسل منه إلا أثر ما أصابه الدم)، ويدل لذلك أحاديث يطول سردها، وعلى كل؛ فهو محمول على الندب والإرشاد لا الوجوب؛ فليحفظ.
(وتنضَحُه) وفي رواية: (ثم تنضحه) وهو بفتح الضاد المعجمة، وضم الحاء المهملة من باب (فتَح يفتَح)؛ بفتح عين الفعل فيهما، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه في «فتح الباري»، وقال الكرماني، وتبعه مغلطاي: (إنه بكسر الضاد المعجمة)، قال في «عمدة القاري»: (وهو غلط).
قلت: ووجه الغلط، إما أنه من حيث الرواية؛ فإن الرواية بالفتح، وإما من حيث اللغة، وفي «المصابيح»: (أن أبا حيَّان قرأ في بعض المجالس: وانضَح فرجك؛ بفتح الضاد المعجمة، فرد عليه الدمنهوري وقال: نص النوويُّ على أنه بالكسر، فقال أبوحيان: حق النووي أن يستفيد هذا مني، والذي قلته هو القياس) انتهى.
فهذا دليل على أنه بالفتح لا غير، لكن نقل صاحب «الجامع» أن الفتح أفصح والكسر لغة، ولا ريب أن غير الفصيح شاذ وغلط، فتعيَّن الفتح فقط؛ فافهم.
والضمير في (تنضحه) يرجع إلى الماء لا غير، والمراد بالنضح: الغسل؛ أي: تغسله، قاله الخطابي، وقدمنا ذلك مفصلًا، ويدل له قوله في الحديث الآتي بعد هذا: «فاغسلي عنك الدم» فهو يعيِّن أن المراد بالنضح في كلامهم الغسل لا غير؛ فليحفظ.
واستدل الإمام محمَّد والشافعي بهذا الحديث على أن النجاسات إنَّما تُزَال بالماء دون غيره من المائعات؛ لأنَّ جميع النجاسات بمثابة الدم إجماعًا، وهو مردود؛ فإن الماء في الحديث خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط؛ والمعنى في ذلك: أن الماء أكثر وجودًا من غيره، فصرح به باعتبار الغالب أو الكثرة، ورد أيضًا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ورد أيضًا بأن هذا مفهوم اللقب وهو غير حجة عند الشافعي، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض؛ قالت بريقها فمصعته [5] بظفرها)، وعند أبي داود: (بلته بريقها)، فلولا أن الريق مطهر؛ لزادت النجاسة، واعترض باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره، ثم غسلته بعد ذلك، ورُدَّ بأن هذا احتمال بعيد؛ لأنَّه لا دليل يدل على أنها غسلته بعد ذلك، ولئن سلَّمنا أنها غسلته؛ فبالغسل يحصل تحليل أثره من غير احتياج إلى مضغه أو بله بريقها، فمضغه أو بله بريقها دليل على أنها لم تغسله وهو كذلك؛ لأنَّه لم يثبت عنها ذلك ولا أحد نقله عنها، فهذا مجرد دعوى بلا دليل، وهي باطلة لا يعتد بها، على أن المقصود من تطهير النجاسات إزالة عينها وأثرها، والمائعات الطاهرات، وكذا الريق لا ريب أنها تزيل العين والأثر، وبها يحصل المقصود؛ فلا خصوصية بالماء، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور رضي الله تعالى عنهم.
(وتصلي فيه) وفي رواية: (ثم تصلي فيه)، فقد علمت أن الضمير المنصوب في (تحته) وفي (تقرضه) يرجع إلى الثوب، وفي قوله: (وتنضحه) يرجع إلى الماء، وقد ذكرنا عن قريب أن الخطابي قال: (تنضحه)؛ أي: تغسله؛ لأنَّ المراد بالنضح في كلام العرب: الغسل)، وقال القرطبي: (المراد به: الرش؛ لأنَّ غسل الدم استفيد من قوله: «تقرضه بالماء»، وأما النضح؛ فهو لما شكَّت فيه من الثوب)، وقال ابن حجر: (فعلى هذا؛ الضمير في قوله: (تنضحه) يعود إلى الثوب بخلاف (تحته)، فإنه يعود إلى الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل، ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا نسلم ذلك؛ لأنَّ لفظ الدم غير مذكور صريحًا، والأصل في عود الضمير أن يكون إلى شيء مذكور صريح، والمذكور هنا صريحًا الثوب والماء، فالضميران الأوَّلان يرجعان إلى الثوب؛ لأنَّه المذكور قبلهما، والضمير الثالث يرجع إلى الماء؛ لأنَّه المذكور قبله، وهذا هو الأصل؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أيضًا
%ص 206%
أن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئًا؛ لأنَّه إن كان طاهرًا؛ فلا حاجة إليه، وإن كان متنجسًا؛ لم يطهر بذلك، فالأحسن ما قاله الخطابي.
ورده في «عمدة القاري» قال: قلت: الذي قاله القرطبي هو الأحسن؛ لأنَّه يلزم التكرار من قول الخطابي، فلا فائدة فيه؛ لأنا قد ذكرنا أن الحت: هو الفرك، والقرض: هو الدلك بأطراف الأصابع مع صبِّ الماء عليه حتى يذهب أثره لما نقلناه عن القاضي عياض، ففهم الغسل من لفظة القرض، فإذا قلنا الرش بمعنى الغسل؛ يلزم التكرار.
وقوله: (إن الرش ... ) إلخ كلام من غير روية؛ لأنَّ الرش ههنا لإزالة الشك المتردد في الخاطر، كما في الحديث: في رش المتوضئ الماء على سراويله بعد فراغه من الوضوء، وليس معناه على الوجه الذي ذكره؛ فافهم، انتهى.
قلت: وهو في غاية من التحقيق؛ فليحفظ.
والمراد بالوضوء؛ أي: الاستنجاء، أو أنه من العادة أن الإنسان إذا أراد الاستنجاء؛ حل سراويله، وبعده استنجى وتوضأ، ثم يلبسها ويرشها لأجل الوسوسة من الشيطان الرجيم؛ فافهم واحفظ.
وقال ابن بطال: (حديث أسماء أصل عند العلماء في غسل النجاسات من الثياب، وهذا الحديث محمول عندهم على الدم الكثير الفاحش إلا أن الفقهاء اختلفوا في مقدار ما يتجاوز عنه من الدم، فاعتبر الكوفيُّون فيه وفي سائر النجاسات دون الدرهم في الفرق بين قليله وكثيره)، قال في «عمدة القاري»: فلما ذكره صاحب «الأسرار» عن علي وابن مسعود رضي الله عنها أنهما قدرا النجاسة بالدرهم، وكفى بها حجة في الاقتداء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي «المحيط»: (أنه قدره بظفره أيضًا، وكان ظفره قريبًا من كفنا)، فدل على أن ما دون الدرهم لا يمنع، وقال في «المحيط» أيضًا: الدرهم الكبير: ما يكون مثل عرض الكف، وفي صلاة الأصل الدرهم الكبير المثقال. يعني: يبلغ مثقالًا، وعند شمس الأئمَّة السرخسي: (يعتبر بدرهم زمانه، وأما الحديث الذي رواه الدارقطني في «سننه» عن روح بن عطيف، عن الزُّهري، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هريرة، عن النبيِّ عليه السلام قال: «تعاد من قدر درهم من الدم»، وفي لفظ: «إذا كان في الثوب قدر الدرهم من الدم؛ غسل الثوب وأعيدت الصَّلاة»؛ فاتفق الحفَّاظ على أنه حديث منكر؛ بل قال البخاري: إنه حديث باطل؛ فلهذا لم يحتج به الإمام الأعظم، وأصحابه رضي الله عنهم.
فإن قلت: النص _وهو قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]_ لم يفصل بين القليل والكثير، فلا يعفى عن القليل.
قلت: القليل غير مراد من النص بالإجماع بدليل عفو موضع الاستنجاء، فتعيَّن الكثير، وقد قدر الكثير بالآثار، انتهى.
وقال ابن بطال: (وقال مالك: قليل الدم معفوٌّ عنه، ويغسل من قليل سائر النجاسات، وروى عنه ابن وهب: أن قليل دم الحيض كالكثير؛ لقوله عليه السلام لأسماء: «حتيه، ثم اقرضيه» حيث لم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره، ولم يجد فيه مقدار الدرهم، ولادونه.
قلت: حديث عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد فيه نحيض، فإن أصابه شيء من دم؛ بلته بريقها، ثم قصعته بريقها)، رواه أبو داود، وأخرجه البخاري أيضًا، ولفظه: (قالت بريقها، فمصعته) يدل على الفرق بين القليل والكثير، انتهى.
وقال البيهقي: (هذا في اليسير الذي يكون معفوًّا عنه، وأما الكثير منه؛ فصحَّ عن عائشة أنها كانت تغسله، فهذا دليل على عدم الفرق بين القليل والكثير من النجاسة، وهو حجة على الشافعي في قوله: إنَّ يسير الدم يُغْسَل كسائر النجاسات إلا دم البراغيث، فإنه لا يمكن التحرُّز عنه) انتهى.
ورده ابن بطال: بأنه قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسًا بالقطرة والقطرتين من الدم في الصَّلاة، وعصر ابنُ عمر رضي الله عنهما بثرة فخرج منها دم، فمسحه بيده وصلى، فالشافعية ليسوا بأكثر احتياطًا من أبي هريرة، وابن عمر، ولا أكثر دراية منهما حتى خالفوهما؛ حيث لم يفرقوا بين القليل والكثير، على أن قليل الدم موضع ضرورة؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو في غالب ضرورة من بثرة، أو دمل، أو برغوث فعفي عنه، ولهذا حرَّم الله المسفوح منه، فدل على أن غيره ليس بمحرَّم) انتهى.
وفي الحديث: دلالة على أن الدم نجس بالإجماع، وفيه دلالة على أن العدد ليس بشرط في إزالة النجاسة؛ بل المراد الاتِّقاء، وفيه: دلالة على أنها إذا لم تر في ثوبها شيئًا من الدم؛ ترش عليه وتصلي فيه، انتهى «عمدة القاري»؛ أي: لأجل الوسوسة من الشيطان.
==========
[1] في الأصل: (الأول)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (إن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (نقصه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (القرطة)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فمصغته)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (الأول)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (إن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (نقصه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (القرطة)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الأول)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (إن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (نقصه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (القرطة)، وليس بصحيح.
(1/398)
[حديث: جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي]
228# وبه قال: (حدثنا محمَّد) 9 غير منسوب عند الأكثرين، وللأصيلي: (محمَّد بن سلَام)، ولأبي ذر: (محمَّد) هو ابن سلام، ولغيرهما: (محمَّد)؛ يعني: ابن سلَام؛ بتخفيف اللام، البيكندي (قال: حدثنا) ولابن عساكر: (أخبرنا) (أبو معاوية) هو محمَّد بن خازم؛ بالمعجمتين، الضرير، (قال: حدثنا هشام)؛ أي: ابن عروة، كما عند الأصيلي، (عن أبيه) أي: عروة بن الزبير، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (قالت) أي: عائشة: (جاءت فاطمة بنت) وفي رواية: (ابنة) (أبي حبيش)؛ بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره معجمة، القرشية الأسدية، واسم أبي حبيش قَيْس بن عبد المطلب بن أسد، هذا هو الصواب، وقد ذكره الذهبي في «التجريد»، كذا في «عمدة القاري»، فما زعمه ابن حجر من أنه قَيْس بن المطلب، وتبعه العجلوني خطأ؛ فافهم، ثم قال في «عمدة القاري»: (وهي غير فاطمة بنت قَيْس التي طُلِّقت ثلاثًا) انتهى، (إلى النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو متعلق بقوله: (جاءت) (فقالت) أي: فاطمة: (يا رسول الله؛ إني امرأة) وكلمة (إنَّ) لا تستعمل إلا عند إنكار المخاطب لقوله [1] أو التردد فيه، وما كان لرسول الله عليه السلام إنكار لاستحاضتها ولا تردد فيها، فوجه استعمالها ههنا يكون لتحقيق نفس القضية؛ إذ كانت بعيدة عن الوقوع نادرة الوجود؛ فلذلك أكدت قولها بكلمة (إن)، كذا في «عمدة القاري»، (أُسْتَحاض)؛ بضمِّ الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، قال الجوهري: (استحيضت المرأة؛ أي: استمر بها الدم بعد أيامها، فهي مستحاضة، وفي الشرع الحيض: الدم الخارج من الرحم، وهو موضع الولد لا يعقب ولادة مقدار وقت معلوم)، وقال الإمام الكرخي: (الحيض دم تصير به المرأة بالغة بابتداء خروجه، والاستحاضة: اسم للدم الذي تراه في أيام أقل الحيض، أو في الزائد على أكثره، وكذا ما تراه الحامل، وما تراه المعتادة فوق عادتها وتجاوز العشرة، وكذا ما تراه قبل أن تبلغ تسع سنين، وكذا ما تراه النفساء زائدًا على عادتها وتجاوز الأربعين، وكذا ما زاد على الأربعين في النفاس، وكذا ما تراه الآيسة وهي أن تبلغ من السن ما لا تحيض مثلها فيه، أو هو مقدر بخمس وخمسين، فإن ذلك كله دم استحاضة لا يمنع صلاةً، ولا صومًا، ولا وطئًا، وسيأتي تمامه.
ووجه بناء الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الاستحاضة، فيقال: استحيضت أنَّه لما كان الأول معتادًا معروفًا؛ نسب إليها، والثاني لما كان نادرًا غير معروف الوقت وكان منسوبًا إلى الشيطان كما جاء أنها ركضة من الشيطان؛ بُنِيَ لما لم يسم فاعله، والسين فيه يجوز أن تكون للتحوُّل كما في استحجر الطين، وهنا أيضًا تحول دم الحيض إلى غير دمه؛ وهو دم الاستحاضة؛ فافهم، كذا قرره في «عمدة القاري»، والله أعلم.
(فلا أطهُر)؛ بضمِّ الهاء؛ أي: لا ينقطع دمي على العادة،بل يستمر، (أفأدع)؛ أي: أفأترك (الصَّلاة؟) فرضها ونفلها، وقد وجد في هذا التركيب الهمزة وهي تقتضي عدم المسبوقية بالغير، والفاء وهي تقتضي المسبوقية به، فكيف يجتمعان؟
وأجاب الكرماني: (بأن الهمزة مقحمة، وتوسطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة؛ لعدم انسحاب ذكر الأول
%ص 207%
على الثاني، أو الهمزة ليست باقية على صرافة الاستفهامية؛ لأنَّها للتقرير هنا، فلا تقتضي الصدارة، أو هو عطف على مقدر؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟) انتهى.
قال في «عمدة القاري»: (هذا سؤال على استمرار حكم الحائض في حالة دوام الدم وإزالته وهو كلام من تقرر عنده أن الحائض ممنوعة من الصَّلاة) انتهى.
والحاصل: أن في مثل هذا التركيب وجهين؛ أحدهما وعليه جمع: أن الهمزة مقدمة من تأخي؛ ر لصدارتها، وثانيهما وعليه جرى الإمام الزمخشري: أن الفاء للعطف على مقدر بين الهمزة والفاء؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟
(فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: لا)؛ هي حرف من حروف الجواب التي يستغنى بها عما بعدها؛ أي: لا تدعي الصَّلاة أيام استحاضتك، ومثل الصَّلاة الصوم؛ أي: بل صلي وصومي ولو قطر الدم على الحصير، (إنما ذلكِ) بكسر الكاف (عِرْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الراء، وهو المسمى بالعاذِل؛ بالعين المهملة، والذال المعجمة المسكورة، وقد تهمل، وباللام أو بالراء؛ أي: دم عرق؛ لأنَّ الخارج ليس بعرق، كذا في «عمدة القاري»، وقال البيضاوي: (معنى «إنما ذلكِ عرق»؛ أي: أنه دم عرق انشق وليس بحيض، فإنه دم تميزه القوة المولدة هيأه الله تعالى من أجل الجنين، ويدفعه إلى الرحم في مجال مخصوصة، فيجتمع فيه، ولذلك سمي حيضًا من قولهم: استحوض الماء؛ أي: اجتمع، فإذا كثر وامتلأ الرحم ولم يكن فيه جنين، أو كان أكثر مما يحتمله الرحم؛ فإنه ينصب منه) انتهى (وليس بحيض)؛ لأنَّ الحيض يخرج من أصل الرحم، وهذا يخرج من قعر الرحم، فهو دم عرق لا دم حيض، (فإذا أقبلت) أي: وجدت (حيضتك)؛ بفتح الحاء المهملة وكسرها، فالفتح للمرة، والكسر اسم للدم والخرقة التي تستثفر بها المرأة والحالة، وقال الخطابي: (المحدثون يقولون: بالفتح، وهو خطأ، والصواب الكسر؛ لأنَّ المراد بها الحالة)، ورده القاضي عياض وغيره وقالوا: (الأظهر الفتح، وهو الموجود في «فرع اليونينية»؛ لأنَّ المراد إذا أقبل الحيض)، كذا في «عمدة القاري»؛ (فدعي الصَّلاة)؛ أي: اتركيها، ومثلها الصوم، والطواف، وغيرهما، ففيه: نهي المستحاضة عن الصَّلاة في زمن الحيض وهو نهي تحريم، ومقتضاه فساد الصَّلاة هنا بالإجماع، ويستوي فيها الفرض والنفل؛ لظاهر الحديث، ويتبعها الطواف، وصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر، وغيرها، (وإذا أدبرت) من الإدبار؛ وهو انقطاع الحيض؛ أي: إذا انقطعت حيضتك، وعلامة إدبار الحيض وانقطاعه والحصول في الطهر الزمان والعادة، فهو الفيصل بينهما، فإذا أضلت عادتها؛ تحرَّت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنه، وقال الشافعي: علامة انقطاع الحيض والحصول في الطهر أن ينقطع خروج الدم والصفرة والكدرة سواء خرجت رطوبة بيضاء أو لم يخرج شيء أصلًا، قاله النووي، وقال البيهقي: (التريَّة: رطوبة خفيفة لا صفرة ولا كدرة تكون على النفطة أثر لا لون، وهذا بعد انقطاع الحيض)، قال في «عمدة القاري»: (التَرِيَّة؛ بفتح المثناة الفوقية، وكسر الراء، وتشديد الياء آخر الحروف)، قال ابن الأثير: (التريَّة؛ بالتشديد: ما تراه بعد الحيض، والاغتسال منه من كدرة أو صفرة، وقيل: هو البياض الذي تراه عند الطهر، وقيل: هي الخرقة التي تعرف به المرأة حيضها من طهرها، والتاء فيه زائدة؛ لأنَّه من الرؤية، والأصل فيها الهمزة، ولكنهم تركوه وشددوا الياء، فصارت اللفظة كأنها فعيلة، وبعضهم يشدد الراء والياء) انتهى والله أعلم، (فاغسلي عنك) بكسر الكاف (الدم) وظاهره مشكل؛ لأنَّه لم يذكر الغسل ولا بد بعد انقضاء الحيض من الغسل، وأجيب: بأن الغسل وإن لم يذكر في هذه الرواية؛ فقد ذكر في رواية أخرى صحيحة، قال فيها: (فاغتسلي)، والحديث يفسِّر بعضه بعضًا، وجواب آخر: وهو أن يحمل الإدبار على انقضاء أيام الحيض والاغتسال.
وقوله: (واغسلي عنك) محمول على دم يأتي بعد الغسل، والأول أوجه وأصح، وأما قول بعضهم: (فاغسلي عنك الدم)؛ أي: واغتسلي؛ فغير موجَّه أصلًا، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وأراد بقوله: (بعضهم) ابن حجر العسقلاني، فإنه لعدم اطلاعه [2] على الرواية الأخرى قال: أي: واغتسلي، ولا ريب في عدم توجيهه أصلًا؛ لأنَّه يخلُّ في الحكم، والإحالة بالدليل على المجهول لا يفيد شيئًا، فلا شك أن الدليل الصريح المذكور هو التحقيق، فكلام ابن حجر غير حقيق، وكلام «عمدة القاري» في غاية من التدقيق؛ فافهم.
(ثم صلي)؛ أي: الصَّلاة التي تدركينها [3] أوَّلًا، ففيه: أن الصَّلاة تجب بمجرد انقطاع دم الحيض، وأنها إذا مضى زمن حيضها؛ وجب عليها أن تغتسل في الحال لأوَّل صلاة تدركها، ولا يجوز لها بعد ذلك أن تترك صلاةً ولا صومًا، ويكون حكمها حكم الطاهرات؛ فلا يستظهر بشيء أصلًا، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وهو رواية عن مالك، وبه قال الشافعي، وفي رواية عن مالك: (أنها تترك الصَّلاة إلى انتهاء خمسةَ عشرَ يومًا، وهو أكثر مدة الحيض عنده) انتهى، (قال) أي: هشام بن عروة بالإسناد المذكور فهو موصول كما بينه الترمذي في روايته (وقال أبِي) بكسر الموحدة؛ أي: عروة بن الزبير: (ثم توضئي) بصيغة الأمر (لكل) وقت (صلاة) فرض، لا لكل صلاة فرض ولا نفل، فإنما كان وضوءها للوقت، فيبقى ببقائه ما لم تُحدِث حدثًا غيره، يدل لهذا ما رواه سبط ابن الجوزي عن الإمام الإعظم: أنه عليه السلام قال: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة»، وفي «شرح مختصر الحافظ الطحاوي»: روى الإمام الأعظم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيَّ عليه السلام قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «توضئي لوقت كل صلاة»، ولا شك أن هذا محكم لا يحتمل غيره بالنسبة إلى كل صلاة؛ لأنَّه لا يحتمل غيره بخلاف حديث: «توضئي لكل صلاة»، فإن الصَّلاة_ أي: لفظ الصَّلاة_ شاع استعمالها في لسان الشرع والعرف في وقتها، فمن الأول: قوله عليه السلام: «إن للصلاة أوَّلًا وآخرًا»؛ أي: لوقتها، فوجب حمل حديث: «توضئي لكل صلاة» على المحكم؛ لأنَّ (اللام) للوقت؛ كما في قوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]؛ أي: زوالها، يقال: آتيك لصلاة الظهر؛ أي: وقتها، فكان ما رواه الشافعي نصًّا محتملًا للتأويل، وما رواه الإمام الأعظم مفسَّرٌ لا يحتمل التأويل، فيترجح عليه كما عرف في موضعه، على أن الحفاظ اتفقوا على ضعف حديث الشافعي، كذا حكاه النووي في «المهذب»، وباقي أصحاب الأعذار في حكم المستحاضة، فالدليل يشملهم، وسيأتي بقية الكلام عليه؛ فافهم، (حتى يجيء ذلكِ) بكسر الكاف (الوقت)؛ أي: وقت إقبال الحيض، وادَّعى قوم من المحدثين: أن قوله: (ثم توضئي ... إلى آخره) من كلام عروة موقوفًا عليه، وقال الكرماني: (السياق يقتضي الرفع إلى رسول الله عليه السلام)، وقال ابن حجر: (لو كان من كلامه؛ لقال: ثم تتوضأ؛ بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر؛ شاكل الأمر الذي في المرفوع وهو (اغسلي).
قلت: وردهما في «عمدة القاري» فقال: (كلام كل من الكرماني وهذا القائل احتمال، فلا يقع به القطع،
%ص 208%
ولا يلزم من مشاكلة الصيغتين)، واعترضه العجلوني بقوله: (لم يدَّعيا القطع، بل أرادا الظهور).
قلت: لو أرادا الظهور لا القطع؛ لصرحا بالظهور، وعدم تصريحهما بالظهور دليل على ادعائهما القطع، وهو ممنوع، بل احتمالهما أيضًا ممنوع، والحق ما عليه الجماعة المحققون من أن قوله: (ثم توضئي ... ) إلخ من كلام عروة موقوفًا عليه بدليل ظاهر السياق، فإن ظاهره يدل على أنه موقوف على عروة؛ لأنَّ قوله: (قال: وقال أبي) يدل على ذلك، فإنه لو كان من المرفوع؛ لم يقل (قال: وقال أبي)؛ بل أسقطها، ووصله.
وقوله: (ثم توضئي ... ) إلخ؛ مقول القول، ودعوى ابن حجر: أنه لو كان هذا كلام عروة؛ لقال: ثم تتوضأ؛ بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر؛ شاكل الأمر الذي هو المرفوع، وهو قوله: (فاغسلي) ممنوع؛ لأنَّه لا يلزم من إتيانه بصيغة الأمر أن يكون مرفوعًا، وإنما أتي به بهذه الصيغة؛ لإفادة أنها مأمورة بالوضوء لوقت كل صلاة بدليل آخر غير هذا من الأحاديث التي أوردناها، والمشاكلة لا تدل على الرفع؛ لأنَّه يقع في الكلام كثير [4] مما ظاهره المشاكلة، ويكون الأمر على خلافه، فالحق ما عليه القوم من المحدثين من أنه موقوف على عروة، وليس من المرفوع، كما لا يخفى؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث: جواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بأمر من أمور الدين، وفيه: جواز استماع صوت المرأة عند الحاجة الشرعية، وفيه: دليل على نجاسة الدم، وفيه: دليل واضح على إيجاب الوضوء من خروج الدم من غير السبيلين؛ لأنَّه عليه السلام علل نقض الطهارة بخروج الدم من العرق، وكل دم يبرز من البدن؛ فإنما يبرز من عرق؛ لأنَّ العروق هي مجاري الدم من الجسد)، وقال الخطابي: (وليس معنى الحديث ما ذهب إليه هؤلاء، ولا مراد رسول الله عليه السلام من ذلك ما توهموه، وإنما أراد أن هذه العلة إنَّما حدثت بها من تصدع العرق، وتصدُّع العرق علة معروفة عند الأطباء يحدث ذلك عند غلبة الدم، فتتصدَّع العروق إذا امتلأت تلك الأوعية).
ورده في «عمدة القاري»: (بأنه ليس معنى الحديث ما ذهب إليه الخطابي؛ لأنَّه قيَّد إطلاق الحديث، وخصَّص عمومه من غير مخصص، وهو ترجيح بلا مرجح وهو باطل) انتهى.
قلت: على أن قوله عليه السلام في الحديث: «إنما ذلك عرق» يشمل جميع العروق التي في الجسد؛ لأنَّه قد أتى به نكرة، وهي في مثله تعمُّ، وإنما أراد عليه السلام بيان الحيض والاستحاضة، فبيَّن أن الاستحاضة هي التي تخرج من عروق البدن؛ لأنَّه مركَّب على العروق، وهي مجاري الدم، فكل دم يخرج؛ فإنما يخرج من العروق، وأما الحيض؛ فإنه يخرج من الرحم فقط، فما قاله الخطابي، وتبعه الكرماني غير ظاهر، وإنما هو من التعصُّب بمكان؛ لأنَّه كلام بارد، وبحث جامد، وهذا دأب الشافعية في الكلام، والله الموفق الموصل لكل مرام.
==========
[1] في الأصل: (لدخوله)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (تدركيها)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (كثيرًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (لدخوله)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (تدركيها)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (لدخوله)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (تدركيها)، وليس بصحيح.
(1/399)
(64) [باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة]
هذا (باب) بيان حكم (غسل المنيِّ) عند كونه رطبًا (و) بيان حكم (فركه) عند كونه يابسًا، والفرك: هو الدلك حتى يذهب أثره، والمنيُّ؛ بتشديد الياء: ماء خاثر أبيض يتولَّد منه الولد وينكسر به الذكر، ورائحته رائحة الطلع، (و) بيان (غسل ما يصيب) الثوب أو الجسد (من المرأة) عند مخالطته إياها، وهذه الترجمة مشتملة على ثلاثة أحكام، ولم يذكر في هذا الباب إلا حكم غسل المنيِّ، وذكر الحكم الثالث في أواخر كتاب (الغسل) من حديث عثمان رضي الله عنه، وقال ابن حجر: (لم يُخَرِّجِ البخاري حديث الفرك، بل اكتفى بالإشارة إليه في الترجمة على عادته؛ لأنَّه ورد من حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا اعتذار بارد؛ لأنَّ الطريقة أنه إذا ترجم الباب بشيء ينبغي أن يذكره.
وقوله: (بل يكتفي بالإشارة إليه) كلام واهٍ؛ لأنَّ المقصود من الترجمة معرفة حديثها، وإلا؛ فمجرد ذكر الترجمة لا يفيد شيئًا، والحديث الذي في هذا الباب لا يدل على الفرك، ولا على ما يصيب من المرأة، واعتذر الكرماني عنه بقوله: واكتفى بإيراد بعض الحديث، وكثيرًا يفعل مثل ذلك، أو كان في قصده أن يضيف إليه ما يتعلق به، ولم يتفق له أو لم يجد رواته على شرطه، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا كله لا يجدي شيئًا.
قلت: أي: لأنَّ قوله: (واكتفى ... ) إلخ؛ ممنوع، فإن المذكور في هذا الباب من الحديثين لا يدل على الفرك أصلًا.
وقوله: (أو كان في قصده ... ) إلخ؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لم يُظْهِر العذر الحامل له على عدم ذِكْره.
وقوله: (أو لم يجد رواته على شرطه) ممنوع أيضًا، فإن رواة حديث الفرك رواة «الصحيحين»، وسيصرح به المؤلف، فمن أين جاء الكرماني بهذا الكلام الذي هو غير موصل للمرام؟ وقد ذكر العجلوني عبارة الكرماني بالحرف، وادَّعى أن صاحب «عمدة القاري» قد أهمل ما يدفع الإيراد.
قلت: وهو باطل، فإن صاحب «عمدة القاري» نقل عبارة الكرماني بالمعنى الصحيح من كلامه، ولم يهمل منه شيئًا من حيث المعنى، ومعلوم أن إهمال محلِّ المقصود معيب، ولكن العجلوني لما كان قصير الفهم ولا قدرة له على نقل الكلام بالمعنى؛ قال ذلك متورِّكًا على صاحب «عمدة القاري»، ولا ريب أن العجلوني لو اشتغل آناء الليل وأطراف النهار؛ لما وصل إلى فهم صاحب «عمدة القاري» حتى يتورَّك عليه، وأين هو منه وشتان ما بينهما؟ فإن صاحب «عمدة القاري» حين كان يدرس ويؤلِّف ويفيد الخاص والعام كان العجلوني منيًّا في ظهر آبائه، ثم صار يرعى البقر في عجلون في الصحراء، فالفهم السقيم جاءه من هناك؛ فافهم.
==========
%ص 209%
==================
(1/400)
[حديث: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي فيخرج إلى الصلاة]
229# وبه قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الباء الموحدة، لقب عبد الله بن عثمان العتكي المروزي (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (عبد الله بن المبارك) وفي رواية إسقاط (ابن المبارك)، وفي أخرى: (عبد الله هو ابن المبارك)، وفي أخرى وعليها شَرَحَ الكرماني: (عبد الله؛ أي: ابن المبارك)، قال في «عمدة القاري»: فكأنه وقع في نسخته عبد الله منسوبًا إلى الأب بـ (التفسير) من «البخاري»، ثم قال: (وقاله على سبيل التعريف؛ إشعارًا بأنه لفظه لا لفظ شيخه) انتهى؛ فافهم، (قال: أخبرنا عمرو) بفتح العين (بن مَيمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية (الجَزَرَي) بالزاي، والراء، والجيم المفتوحات، منسوبًا إلى الجزيرة، المتوفى سنة مئة وخمس [1] وأربعين، وكان ميمون بن مهران والد عمرو، نزلها فنسب إليها ولده، وفي رواية: (عمرو ابن مهران) نسبة لجدِّه، وقال ابن حجر: (وقع في رواية الكشميهني وحده (الجوزي)؛ بواو ساكنة، بعدها زاي، وهو غلط منه.
ورده في «عمدة القاري»: (بأن الظاهر أن الغلط من الناقل، أو الكاتب فدوَّر رأس الزاي، ونقط الراء، فصار: الجوزي، وقد يقع من الناقلين والكتاب الجهلة أكثر من هذا وأفحش) انتهى.
(عن سيلمان) بضمِّ السين المهملة (ابن يسار) بفتح التحتيتة أوله، وتخفيف السين المهملة، ضد اليمين، مولى ميمونة أم المؤمنين، فقيه المدينة، العابد الحجة، المتوفى سنة سبع ومئة، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (قالت: كنت أغسل الجنابة)؛ أي: أثرها أو موجبها على حذف مضاف، أو سمِّي المنيُّ بها مجازًا من باب تسمية الشيء
%ص 209%
باسم سببه، فإن وجوده سبب لبعده عن الصَّلاة ونحوها، فلا يرد أن الجنابة معنًى لا عين [2]، فكيف تغسل؟ قاله الكرماني، وقال في «عمدة القاري» بعد ذكره: قلت: يجوز أن تكون عائشة رضي الله عنها أطلقت على المنيِّ اسم الجنابة وحينئذٍ فلا حاجة إلى التقدير بالحذف أو المجاز.
قلت: وحينئذٍ فإطلاق الجنابة على المنيِّ حقيقة؛ فليحفظ.
(من ثوب النبيِّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) قالت عائشة: (فيخرج)؛ أي: من حجرتي (إلى الصَّلاة) أي: في المسجد (وإنَّ) بكسر الهمزة، وتشديد النون لوقوعها في أول الجملة الحالية (بقع الماء في ثوبه) الشريف عليه السلام، والبُقَع؛ بضمِّ الموحدة، وفتح القاف، وبالعين المهملة، جمع بقعة؛ كالنطفة، والنطف، والنطفة، والبقعة في الأصل: قطعة من الأرض يخالف لونها لون ما يليها، وفي بعض النسخ بفتح الموحدة، وسكون القاف، جمع بقعة؛ كتمر، وتمرة، ويفرق بين الجنس والواحد منه بالتاء، وقال التيمي: (يريد بالبقعة: الأثر)، قال أهل اللغة: البقع اختلاف اللونين يقال: غراب أبقع، كذا في «عمدة القاري»، وقال ابن بطال: البقع بقع المنيِّ وطبعه، ورده في «عمدة القاري»: (بأن هذا ليس بشيء؛ لأنَّه [3] في الحديث صرح: «وإن بقع الماء»، ووقع عند ابن ماجه: «وأنا أرى أثر الغسل فيه»؛ يعني: لم يجف) انتهى؛ أي: فبقيت البقع في ثوبه عليه السلام بعد غسله؛ لأنَّه خرج مبادِرًا إلى الصَّلاة، ولم يكن له ثياب أخر ليلبسها، وفي الحديث حجة قوية ومحجة مستقيمة للأئمة الحنفية على أن المنيَّ نجس؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (كنت أغسل الجنابة من ثوب النبيِّ عليه السلام)، فقولها: (كنت) يدل على تكرار هذا الفعل منها، واستمراره، فهذا أدل دليل على نجاسة المني، وهو حجة على الشافعية بقولهم: إنه طاهر، وقال الكرماني: (وليس في الحديث حجة لمن قال بنجاسة المني؛ لاحتمال أن يكون غسله بسبب أنه ممن كان نجسًا، أو بسبب اختلاطه برطوبة فرجها على مذهب من قال بنجاسته رطوبة الفرج) انتهى.
ورده في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: بل له حجة، وتعليله بهذا لدعواه لا يفيد شيئًا؛ لأنَّ المشرِّحين من الأطباء الأقدمين قالوا: إن مستقر المني في غير مستقر البول، وكذلك أكثر مخرجيهما، وأما نجاسة رطوبة فرج المرأة؛ ففيها خلاف عندهم) انتهى.
قلت: والصحيح عندهم أن رطوبة فرج المرأة طاهرة، ودعوى أن المني لا يَسْلَمُ من المذي فيتنجس به؛ ممنوعة باطلة؛ لأنَّ الشهوة إذا اشتدت خرج المني بلا مذي ولا بول؛ كحالة الاحتلام، وما عداه نادر لا حكم له؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن قولها: (كانت تغسله) ليس يقتضي إيجابه، ورده في «عمدة القاري»: بأن قولها: (كنت) يدل على تكرار الغسل منها، وهو علامة الوجوب من ورود الأمر فيه بالغسل، والأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، كما قاله أهل الأصول، وهذا القائل يريد تمشية مذهبه من غير دليل.
قال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث: خدمة المرأة لزوجها في غسل ثيابه ونحو ذلك خصوصًا إذا كان من أمر يتعلق بها وهو من حسن المعاشرة وجميل الصحبة، وفيه: نقل أحوال المقتدى به وإن كان يستحي من ذكرها عادة، وفيه خروج المصلي إلى المسجد بثوبه الذي غسل منه المني قبل جفافه) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (وخمسة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (غير)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (فإن)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (وخمسة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (غير)، ولعله تحريف.
[1] في الأصل: (وخمسة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (غير)، ولعله تحريف.
(1/401)
[حديث: كنت أغسله من ثوب رسول الله]
230# وبه قال: (حدثنا قُتِيْبة) هو ابن سَعِيْد؛ بضمِّ القاف، وفتح الفوقية، وسكون التحتية (قال: حدثنا يزيد) من الزيادة غير منسوب، قال في «عمدة القاري»: (واختلف فيه فقيل: هو يزيد بن زريع، وقيل: يزيد بن هارون، وكلاهما رويا عن عمرو بن ميمون، ووقع في رواية الفربري غير منسوب، ووقع في رواية ابن السكن أحد الرواة عن الفربري: حدثنا يزيد هو ابن زريع، وكذا أشار إليه الكلاباذي، ثم قال: (فإن قلت: الاختلاف المذكور في يزيد هل هو ابن زريع أو ابن هارون التباسٌ وهو يقدح في الحديث؟
قلت: لا التباس ولا قدح؛ لأنَّ أيَّا كان هو عدل ضابط بشرط البخاري، وإنما كان يُقْدَحُ لو كان أحدهما على غير شرطه) انتهى، والله أعلم.
ورجح القطب الحلبي أنه ابن هارون قال: لأنَّه لم يوجد من رواية ابن زريع، ووجد من رواية ابن هارون، واعترضه ابن حجر: بأنه لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود، وقد جزم ابن مسعود: بأنه رواه، فدل على وجدانه، ورده في «عمدة القاري»: بأنه ليس كذلك، فإن أبا مسعود ما جزم به، وإنما قال: يقال: هو ابن هارون لا ابن زريع، ورواه الإسماعيلي من طريق الدورقي، وأحمد بن منيع، ويوسف بن موسى؛ قالوا: حدثنا يزيد بن هارون، ورواه أبو نعيم من حديث الحارث بن أبي أسامة أخبرنا يزيد بن هارون، وذكره الجيَّاني أيضًا، ورجح ابن حجر كلامه في كون يزيد هذا ابن زريع لا ابن هارون بشيئين لا ينهض كلامه بهما؛ أولهما: بقوله: وقد خرجه الإسماعيلي وغيره من حديث يزيد بن هارون بلفظ مخالف للسياق الذي أورده البخاري، وهذا من مرجحات كونه ابن زريع، والثاني: قال: وقتيبة معروف بالرواية عن يزيد بن زريع دون ابن هارون، ورد الأول في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: هذا الذي قاله حجة عليه، ورد لكلامه؛ لأنَّ مخالفة لفظ من روى هذا الحديث لسياق البخاري، وليست بمرجحة؛ لكون يزيد هذا هو ابن زريع مع صراحة ذكر هارون في الروايات المذكورة)، ورد الثاني بقوله: (قلت: هذا أيضًا حجة عليه، ومردود عليه؛ لأنَّ كون قتيبة معروفًا بالرواية عن يزيد بن زريع لا ينافي روايته عن يزيد بن هارون بعد أن ثبت أن قتيبة روى عنهما جميعًا، ولقد غره في هذا ما قاله المزِّيُّ: «الصحيح أنه يزيد بن زريع، فإن قتيبة مشهور بالرواية عن ابن زريع دون ابن هارون») انتهى.
قالوا: وفيه نظر، ووجهه ما ذكرناه، وكان قصد هذا القائل توهية كلام الحلبي، والدليل عليه ذكره إياه بما ذكره، ولا يخفى ذلك على من له فطانة، انتهى كلامه رضي الله عنه.
(قال: حدثنا عَمرو) بفتح العين، وفي رواية؛ (يعني: ابن ميمون)، (عن سليمان)؛ بضمِّ السين المهملة، هو ابن يسار، كما في رواية (قال: سمعت عائشة)؛ الصديقة رضي الله عنها.
(ح) إشارة إلى التحويل من إسناد قبل ذكر متن الحديث إلى إسناد آخر له: (وحدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد البصري أبو بشر ثقة صدوق، المتوفى سنة سبع وسبعين ومئة بالبصرة، قال في «عمدة القاري»: (وفي طبقته عبد الواحد بن زيد البصري، ولم يخرِّج له المؤلف شيئًا) (قال: حدثنا عمرو) بفتح العين؛ (يعني: ابن ميمون) أشار به إلى أن شيخه لم ينسبه، وهذا تفسير له من تلقاء نفسه، وفي رواية عمرو غير منسوب، (عن سُليمان) بضمِّ المهملة: هو ابن يسار (قال: سألت عائشة)؛ الصديقة رضي الله عنها، وأشار المؤلف في الإسناد الأول بقوله: سمعت، وفي هذا الثاني (سألت) إلى الرد على من زعم أن سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة رضي الله عنها؛ منهم: أحمد ابن حنبل، والبزار، وقد صرح المؤلف بسماعه منها، وكذا هو في «صحيح مسلم»، قال في «عمدة القاري» بعد ذكره وفي (سمعت)، و (سألت) لطيفة أخرى لم يأت بها الشراح، وهي أن كل واحدة من هاتين اللفظتين لا تسلتزم الأخرى؛ لأنَّ السماع لا يستلزم السؤال، ولا السؤال يستلزم السماع، فلذلك ذكرهما في الإسنادين؛ ليدل على صحة السؤال، وصحة السماع؛ فافهم، والله أعلم، (عن المني) أي: عن حكم المني (يصيب الثوب) هل يُغْسَلُ رطبًا، ويُفْرَكُ يابسًا؟ (فقالت)؛ أي: عائشة رضي الله عنها: (كنت أغسله) أي: المني (من ثوب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)
%ص 210%
وأتت بـ (كنت)؛ إشارة إلى تكرار الفعل منها واستمراره، ففيه: دليل واضح على أن المني نجس؛ لأنَّ الطاهر لا يغسل، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والجمهور وهو حجة على الشافعي؛ حيث قال بطهارته، ولا دليل يدل على ما قاله، فإن أحاديث الباب واضحة الدلالة على أنه نجس؛ فليحفظ، (فيخرج) أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام من الحجرة (إلى الصَّلاة) أي: في المسجد الشريف (وأثر الغسل في ثوبه)؛ أي: لم يجفَّ (بُقَعُ الماء)؛ بضمِّ الموحدة، وفتح القاف، مرفوع على جواب سؤال مقدر؛ تقديره: أن يقال ما ذلك الأثر؟ فأجاب بقوله: بقع الماء، وفي الحقيقة؛ أي: هو بقع الماء يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، ويجوز فيه النصب على الاختصاص؛ أي: أعني بقع الماء، وقول ابن حجر: هو بدل ليس بشيء، أفاده في «عمدة القاري»، وقدمنا أن ترجمة الباب مشتملة على ثلاثة أحكام ولم يذكر المؤلف فيه إلا حكم غسل المني، والحكم الثالث: ذكره في أواخر كتاب (الغسل)، وأما الحكم الثاني؛ فقد أفصح عنه في «عمدة القاري» حيث قال: ثم إن بعضهم ذكر كلامًا لا يَذْكُرُه من له بصيرة ورؤية، وفيه رد لما ذهب إليه الأئمَّة الحنفية، ومع هذا أخذ كلامه هذا من الخطابي مع تغييره، وهو أنه قال: وليس بين حديث الغسل وحديث الفرك تعارض؛ لأنَّ الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني بأن يُحْمَل الغسل على الاستحباب؛ للتنظيف لا على الوجوب، وهذه طريقة الشافعية وأحمد، وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبًا، والفرك على ما كان يابسًا، وهذه طريقة الحنفية، والطريقة الأولى أرجح؛ لأنَّ فيها العمل بالخبر والقياس معًا؛ لأنَّه لو كان نجسًا؛ لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه؛ كالدم وغيره، وهم لا يكتفون فيما لا يُعْفَى عنه من الدم بالفرك.
ورده في «عمدة القاري» بقوله: قلت: من هذا الذي ادَّعى تعارضًا بين الحديثين المذكورين حتى يحتاج إلى التوفيق، ولا نسلم التعارض بينهما أصلًا، بل حديث الغسل يدلُّ على نجاسة المني بدلالة غسله، وكان هذا هو القياس أيضًا في يابسه، ولكن خُصَّ بحديث الفرك.
وقوله: (بأن يحمل الغسل على الاستحباب؛ للتنظيف لا على الوجوب) كلام واهٍ، وهو كلام من لا يدري مراتب الأمر الوارد في الشرع فأعلى مراتب الأمر الوجوب وأدناها الإباحة، وهنا لا وجه للثاني؛ لأنَّه عليه السلام لم يتركه على ثوبه أبدًا، وكذلك الصحابة من بعده، ومواظبته عليه السلام على فعل شيء من غير ترك في الجملة تدل على الوجوب بلا نزاع فيه، وأيضًا الأصل في الكلام الكمال، فإذا أطلق اللفظ؛ ينصرف إلى الكامل إلا أن يصرف ذلك بقرينة تقدم، فيدل عليه حينئذٍ، وهو فحوى كلام أهل الأصول أن الأمر المطلق _أي: المجرد عن القرائن_ يدل على الوجوب.
وقوله: (والطريقة الأولى أرجح ... ) إلخ؛ هذه غير راجحة فضلًا على أن تكون أرجح، بل هو غير صحيح أصلًا؛ لأنَّه قال فيها: العمل بالخبر؛ لأنَّ من يقول بطهارة المني يكون غير عامل بالخبر؛ لأنَّ الخبر يدل على نجاسته، كما قلنا، وكذلك قوله فيها: العمل بالقياس، غير صحيح أيضًا؛ لأنَّ القياس وجوب غسله مطلقًا، ولكن خُصَّ بحديث الفرك، كما ذكرنا.
فإن قلت: ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه؛ كالمخاط؟
قلت: لا نسلم أن القياس غير صحيح؛ لأنَّ المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلًا، والمني موجب لأكبر الحدثين؛ وهو الجنابة، وسقوط الغسل في يابسه لا نسلم أنه يدل على الطهارة؛ لأنَّه لا يلزم من سقوط الغسل الطهارة، كما في موضع الاستنجاء.
وقوله: (كالدم وغيره ... ) إلخ؛ قياس فاسد؛ لأنَّه لم يأت نصٌّ بجواز الفرك في الدم ونحوه، وإنما جاء في يابس المني على خلاف القياس، فيقتصر على مورد النص.
فإن قلت: قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا} [الفرقان: 54]، سمَّاه ماء وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل على أنه أراد به التشديد في الحكم، ومن حكم الماء أن يكون طاهرًا؟
قلت: إن تسميته ماء لا يدل على طهارته؛ فإن الله تعالى سمَّى من الدواب بقوله: والله خلق كل دابة من ماء، فلا يدل ذلك على طهارة ماء الحيوان.
فإن قلت: إنه أصل الأنبياء والأولياء، فيجب أن يكون طاهرًا.
قلت: هو أيضًا أصل الأعداء؛ كنمرود، وفرعون، وهامان، وغيرهم، على أنا نقول: العلقة أقرب إلى الإنسان من المني، وهو أيضًا أصل الأنبياء عليهم السلام، ومع هذا لا يقال: إنها طاهرة، وقال هذا القائل أيضًا: وترد الطريقة الثانية أيضًا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها: (كان يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحتُّه من ثوبه يابسًا، ثم يصلي فيه)، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين.
قلت: رد الطريقة الثانية بهذا غير صحيح، وليس فيه دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون عليه السلام يفعل بذلك فيطهر الثوب، والحال أن المني في نفسه نجس، كما قد روي فيما أصاب النعل من الأذى، وهو ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ عليه السلام: «إذا وطئ الأذى بخفيه؛ فطهورهما التراب»، ورواه الحافظ الطحاوي أيضًا، ولفظه: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه أو نعله؛ فطهورهما التراب»، وقال الحافظ الطحاوي: (مكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما، وليس في ذلك دليل على طهارة الأذى في نفسه، فكذلك ما روي في المني).
فإن قلت: في سنده محمَّد بن كثير الصغاني، وقد تكلموا فيه.
قلت: قد وثقه ابن حبَّان وغيره، وروى الحديث في «صحيحه»، وأخرجه الحاكم في «مستدركه»، وقال: (صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه)، وقال النوويُّ في «الخلاصة»: (رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولا يلتفت إلى قول ابن القطان، هذا حديث رواه أبو داود من طريق لا يظن بها الصحة، ورواه أبو داود أيضًا من حديث عائشة بمعناه، والمراد من الأذى: النجاسة، وقال هذا القائل أيضًا، وأما مالك؛ فلم يعرفِ الفركَ، والعمل عندهم على وجوب الغسل؛ كسائر النجاسات).
ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا يلزم من عدم معرفته الفرك أن يكون المني طاهرًا عنده، فإن عنده المني نجس كما هو عندنا، وذكر في «الجواهر» للمالكية: المني نجس، وأصله دم، وهو يمر في ممرِّ البول، فاختُلف في سبب التنجيس: هل هو رده إلى أصله، أو مروره في مجرى البول؟ وقال هذا القائل أيضًا: وقال بعضهم الثوب الذي اكتفت عائشة فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته ثوب الصَّلاة، وهو مردود أيضًا بما له في إحدى روايات مسلم من حديثها أيضًا: (لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله عليه السلام فركًا، فيصلي فيه)، وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصَّلاة، وأصرح منه رواية ابن خزيمة: (أنها كانت تحكه من ثوبه، وهو يصلي).
ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: أراد بقوله: (وقال بعضهم): الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي؛ فإنه قال في «معاني الآثار»: حدثنا ابن مرزوق: حدثنا بشر بن عمر قال: حدثنا شعبة عن الحكم، عن همام بن الحارث: أنه كان نازلًا على عائشة رضي الله عنها، فاحتلم، فرأته جارية لعائشة، فقالت عائشة: (لقد رأيتني وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله عليه السلام)، وأخرج الحافظ الطحاوي
%ص 211%
هذا من أربعة عشر طريقًا، وأخرجه مسلم أيضًا، ثم قال: (فذهب الذاهبون: إلى أن المني طاهر وأنه لا يُفْسِدِ الماء وإن وقع فيه، وأن حكمه في ذلك حكم النجاسة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار)، وأراد بهؤلاء الذاهبين: الشافعي، وأحمد، وغيرهما، ثم قال: (وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل هو نجس)، وأراد بالآخرين: الإمام الأعظم، وأصحابه، والأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالكًا، والليث بن سعد، والحسن ابن حيٍّ، وهو رواية عن أحمد، ثم قال الحافظ الطحاوي: وقالوا لكم في هذه الآثار؛ لأنَّها إنَّما جاءت في ذكر ثياب ينام فيها، ولم تأت في ثياب يصلي فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط، والدم، والبول لا بأس بها، ولا تجوز الصَّلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المني كذلك، وإنما يكون هذا الحديث حجة علينا إن لو كنا نقول: لا يصلح النوم في الثوب النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم عن النبيِّ عليه السلام، وقد جاء عن عائشة فيما كانت تفعل بثوب رسول الله عليه السلام الذي كان يصلي فيه إذا أصابه الشيء: حدثنا يونس: حدثنا يحيى بن حسان قال: حدثنا عبد الله بن المبارك وبشر بن المفضل، عن عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: (كنت أغسل المني من ثوب رسول الله عليه السلام، فيخرج إلى الصَّلاة وإن بقع الماء لفي ثوبه)، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وأخرجه الجماعة أيضًا على ما يأتي بيانه)، قال الحافظ الطحاوي: (فهكذا كانت تفعل عائشة بثوب رسول الله عليه السلام الذي كان يصلي فيه؛ تغسل المني منه وتفركه من ثوبه الذي كان لا يصلي فيه)، ثم قال هذا القائل واستدلَّ في رده على الحافظ الطحاوي فيما ذكرناه بأن قال: (وهذا التعقيب بالفاء ينفي ... ) إلخ، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا الاستدلال فاسد؛ لأنَّ كون الفاء للتعقيب لا تنفي احتمال تخلُّل الغسل بين الفرك والصَّلاة؛ لأنَّ أهل العربية قالوا: التعقيب في كل شيء بحسبه، لا يقال: إنه يقال تزوَّج فلان فولد له إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل؛ وهو مدة متطاولة، فيجوز على هذا أن يكون معنى قول عائشة: (لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله عليه السلام)، وأرادت به ثوب النوم، ثم تغسله فيصلي فيه.
ويجوز أن تكون الفاء بمعنى (ثم)، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14]، فالفاءات فيها بمعنى (ثم)؛ لتراخي معطوفاتها، فإذا ثبت جواز التراخي في المعطوف؛ يجوز أن يتخلَّل بين المعطوف والمعطوف عليه مدة، ويجوز وقوع الغسل في تلك المدة، ويؤيد ذلك: ما رواه البزار في «مسنده»، والحافظ الطحاوي في «معاني الآثار» عن عائشة قالت: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله عليه السلام، ثم يصلي فيه).
وقوله: (وأصرح منه رواية ابن خزيمة ... ) إلخ؛ لا يساعده أيضًا فيما ادَّعاه؛ لأنَّ قوله: (وهو يصلي): جملة اسمية وقعت حالًا منتظرة؛ لأنَّ عائشة ما كانت تحك المني من ثوب النبيِّ عليه السلام حال كونه في الصَّلاة، فإذا كان كذلك؛ يحتمل تخلل الغسل بين الفرك والصَّلاة، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.
اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين بجاه سيد المرسلين، فإنه قد ضاق الحال، وتغيِّرت الأحوال، وعدمت الرجال، وكثر القيل والقال.
==================
(1/402)
(65) [باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره]
هذا (باب)؛ بالتنوين في بيان حكم غسل المني أو غيره، ولم يذهب أثره، وإليه أشار بقوله: (إذا غَسل) بفتح الغين المعجمة (الجنابة) أي: المني، (أو غيرها)؛ أي: غير الجنابة؛ نحو: دم الحيض وغيره من النجاسة؛ (فلم يذهب أثره) ومراده: أن الأثر إذا كان باقيًا؛ لا يضره، وقال ابن حجر: (الأثر: أثر الشيء المغسول)، قال في «عمدة القاري»: وفيه نظر؛ لأنَّ على قوله يكون الباقي أثر المني ونحوه، وهذا يضره؛ بل المراد الأثر المرئي للماء لا للمني، ولفظ حديث الباب يدلُّ على هذا، وهو قوله: (وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء)، والفاء في قوله: (فلم يذهب) للعطف لا للجزاء؛ لقوله: (إذا غسل)؛ لأنَّ جزاءه محذوف؛ تقديره: صحت صلاته أو نحو ذلك، والضمير في (أثره) يرجع إلى كل واحد من غسل الجنابة وغيرها إلا أنه أَنَّثَ ضمير (غيرها)؛ نظرًا إلى لفظ (الجنابة)، وذكر في قوله: (أثره)؛ نظرًا إلى أنها بمعنى المني، وغيرها بمعنى الدم، وقال الكرماني: (فلم يذهب أثره)؛ أي: أثر الغسل) @، وقال ابن حجر: (وأعاد الضمير مذكرًا على المعنى؛ أي: فلم يذهب أثر الشيء المغسول)، قال في «عمدة القاري»: (وكلام الكرماني أوجه؛ لأنَّ المعنى على أن بقاء أثر الغسل لا يضرُّ لإبقاء المغسول، اللهم إلا إذا عسر إزالة أثر المغسول، فلا يضر حينئذٍ؛ للحرج، وهو مدفوع شرعًا)، وقال الكرماني: (وفي بعض النسخ: «أثرها»؛ أي: أثر الجنابة)، قال في «عمدة القاري»: (إن صحت هذه النسخة؛ فلا حاجة إلى التأويل المذكور، ولكن تفسيره بقوله: «أي: أثر الجنابة» يرجع إلى تفسير القائل المذكور، وفساده ظاهر) انتهى.
ولم يذكر في الباب حديثًا يدل على هذه الترجمة، وزعم ابن حجر بأنه ذكر في الباب حديث الجنابة، والحق غيرها قياسًا، وأشار بذلك إلى ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة: أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله؛ ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض، فكيف أصنع؟ قال: «إذا طهرت؛ فاغسليه»، قالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: «يكفيك الماء، ولا يضرُّك أثره»، انتهى.
ورده في «عمدة القاري»: (بأن المؤلف يذكر مسألة، ثم يقَيْس عليها غيرها، أو يسرد حديثًا في باب مترجم دالًّا على الترجمة، ولا فائدة في ذكر ترجمة بدون ذكر حديث موافق لها مشتمل عليها، ولم يعرف ما مراده من هذا القياس: هل هو لغوي أو اصطلاحي؟ شرعي أو منطقي؟ وما هذا إلا قياس فاسد، وأيضًا من أين عرفنا أنه أشار بهذا إلى ما رواه أبو داود؟ ومن أين عرفنا أنه وقف على هذا، ولم يقف؟ ولكن كل ذلك تخمين بتخبيط) انتهى.
==========
%ص 212%
==================
(1/403)
[حديث: كنت أغسله من ثوب رسول الله ثم يخرج إلى الصلاة]
231# وبه قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل المِنْقَري)؛ بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف، نسبة إلى بني منقر؛ بطن من تميم، وهو أبو سَلَمَة التبوذكي (قال: حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد (قال: حدثنا عَمرو) بفتح العين المهملة (بن مَيمُون) بفتح الميم الأولى، وضم الثانية (قال: سمعت سُليمان) بضمِّ السين المهملة (بن يسار)؛ بفتح التحتية، وتخفيف السين المهملة، هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية: (سألت سليمان بن يسار) (في الثوب)؛ أي: سمعت سليمان يقول في حكم الثوب الذي (تصيبه الجنابة)؛ أي: المني، وعلى الرواية الثانية؛ أي: قلت لسليمان: ما تقول في الثوب الذي تصيبه الجنابة؟ على هذه الرواية يجوز أن يكون (في) بمعنى (من)، كما في قوله: (وهل يقمن من صلبه العصر الخالي) (قال: قالت عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (كنت أغسله)
%ص 212%
أي: المني (من ثوب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وليس معناه: أغسل أثر المني، ولا أغسل أثر الجنابة؛ لأنَّ تذكير الضمير باعتبار معنى الجنابة؛ لأنَّ معناها المني ههنا كما قدمناه؛ فليحفظ، (ثم يخرج) أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام من الحجرة (إلى الصَّلاة)؛ أي: في مسجده الشريف (وأثر الغَسل) بفتح الغين المعجمة (فيه)؛ أي: في ثوبه الشريف (بقع الماء)؛ يعني: أنه لم يجفَّ، وهو بالرفع على جواب سؤال مقدر؛ تقديره: أن يقال ما ذلك الأثر؟ فأجاب: بقع الماء؛ أي: هو بقع الماء، فيكون خبرًا لمبتدأ محذوف، ويجوز النصب فيه على الاختصاص؛ أي: أعني بقع الماء، وزعم ابن حجر أنه بدل، وهو ليس بشيء، كما لا يخفى، وفي الحديث: أيضًا كالأحاديث السابقة دليل ظاهر على أن المني نجس؛ كالبول؛ لأنَّه دم استحال بالنضج من حرارة الشهوة، ولهذا من جماعه حتى فترة شهوته يخرج دمًا أحمر، ونجاسة المني مغلَّظة، وكذا مني كلِّ حيوان، ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى، هذا مذهب الإمام الأعظم، ومالك، وأصحابهما، وهو رواية عن أحمد، وبه قال الأوزاعي، والثوري، والحسن ابن حيٍّ، والليث بن سعد، وغيرهم، وخالفهم الشافعي وقال: إنه طاهر، وهو رواية عن أحمد، والحديث والأحاديث الدالة على ما قلناه حجة على الشافعي، ولا دليل يدل لما قاله.
قال في «الدر المختار»: (ولا يضر بقاء أثر؛ كلون وريح لازم، فلا يكلف في إزالته إلى ماء حار، أو صابون ونحوه، بل يطهر ما صبغ، أو خضب بنجس بغسله ثلاثًا) انتهى.
أقول: والكاف في قوله: (كلون) استقصائية؛ لأنَّ المراد بالأثر هو ما ذكره فقط، كما فسره به في «فتح القدير»، و «البحر»، وغيرهما، وأما الطعم؛ فلا بد من زواله؛ لأنَّ بقاءه يدل على بقاء العين، كما نقله البرجندي، واقتصر القهستاني على تفسير الأثر بالريح فقط، وظاهره: أنه يعفى عن الرائحة بعد زوال العين وإن لم يشق زوالها، وفي «البحر»: أنه ظاهر ما في غاية البيان، وهو صريح ما نقله شيخ الإسلام نوح أفندي عن «المحيط» حيث قال: (لو غسل الثوب عن الخمر ثلاثًا ورائحتها باقية؛ طهر، وقيل: لا يطهر ما لم تزل الرائحة)، كذا في حواشي شيخ شيخنا.
فإن قلت: في حديث أم قَيْس بنت محصن عند ابن خزيمة: «واغسليه بالماء والسدر، وحكيه ولو بضلع»، وعند أبي أحمد العسكري: «حكيه بضلع، وأتبعيه بالماء والسدر»، وعند أبي داود عن امرأة من غفار: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما رأى ثيابها من الدم؛ قال: «أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء واطرحي فيه ملحًا، ثم اغسلي ما أصاب [حقيبة] الرحل من الدم، ثم عودي لمَرْكبِك [1]».
قلت: ذكر السدر والحك بالضلع والملح أمر محمول على الندب والإرشاد، قال ابن القطان: الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر الضلع والسدر، ويدل لذلك حديث خولة بنت يسار المتقدم، وفيه: «يكفيك الماء، ولا يضرك أثره»، رواه أبو داود، وكذا رواه أحمد، وابن أبي خيثمة في «الكبير»، والطبراني، وغيرهما.
وعند الدارمي عن أم سَلَمَة قالت: إن إحداهن تسبقها القطرة [2] من الدم، فقال عليه السلام: «إذا أصاب إحداكن ذلك؛ فلتقصعه بريقها»، وعند ابن خزيمة: (وقيل لها كيف كنتن تصنعن بثيابكنَّ إذا طمثن على عهد رسول الله عليه السلام؟ قالت: إن كنا لنطمث في ثيابنا، أو في دروعنا فما نغسل منه إلا أثر ما أصابه الدم)، وفي حديث مُجَاهِد عن عائشة عند البخاري: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم؛ قالت بريقها فمصعته بظفرها)؛ أي: عركته، فهذا كله يدل على أن ذكر السدر، والحك، والملح أمر ندب للتنظيف، وأن الأحاديث الأولى ضعيفة، ولهذا لم يذكرها المؤلف، بل اكتفى بالإشارة من حديث عائشة المذكور في الباب، ولأن ذهاب الأثر بالكلية لا يمكن؛ لأنَّ فيه حرجًا وهو مدفوع بالنص، ولأن تكلف السدر والضلع أمر عسر؛ لاحتياجه إلى تسخين الماء، والدلك الشديد، وربما يتمزع الثوب من ذلك، ففيه عسر، وقد أمرنا عليه السلام بالتسهيل، وفيه إضاعة الأموال، وهو سرف وتبذير، وقد نهى عنه عليه السلام، والله تعالى أعلم.
اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (لركبك).
[2] في الأصل: (يسبقها القرطة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (لركبك).
[1] في الأصل: (لركبك).
(1/404)
[حديث عائشة: أنها كانت تغسل المني من ثوب النبي ثم أراه فيه بقعة]
232# وبه قال: (حدثنا عمرو) بفتح العين المهملة (بن خالد) قال في «عمدة القاري»: (وليس في شيوخ البخاري عُمر بن خالد، بضمِّ العين) (قال: حدثنا زهير) بضمِّ الزاي؛ مصغرًا، هو ابن معاوية (قال: حدثنا عَمرو) بفتح العين (بن مَيمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية (بن مِهرانَ)؛ بكسر الميم، غير منصرف، ولم يذكر المؤلف جد عمرو في هذا الحديث الذي رواه عن عائشة من خمسة أوجه إلا في هذا الوجه، وفي هذا الوجه نكتة أخرى؛ وهي أن فيه الإخبار عن سليمان، عن عائشة: أنها كانت تغسل، على سبيل الغيبة، وفي الأوجه الأربعة المتقدمة الإخبار عنها على سبيل التكلم عنها، أفاده في «عمدة القاري»، (عن سُليمان) بضمِّ السين (بن يَسار)؛ بفتح التحتية، وتخفيف السين المهملة، مولى ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنها كانت تغسل المني) أي: الرطب (من ثوب النبيَّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ لنجاسته؛ حيث لا تصح الصَّلاة وهو حامله في ثوبه، فأفادت (كانت) استمرار الغسل وتكراره منها؛ لأنَّه عليه السلام لم يتركه على ثوبه أبدًا، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم من بعده، ومواظبته عليه السلام على فعل شيء من غير ترك تدل على الوجوب بلا نزاع فيه على أن الأمر المطلق؛ أي: المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، هذا مذهب الإمام الأعظم، والجمهور؛ فليحفظ، (ثم أَراه)؛ بفتح الهمزة، من رؤية العين؛ أي: أبصره، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى الثوب، وفي بعض النسخ: (ثم أرى)؛ بدون الضمير، فعلى هذا؛ مفعول (أرى) محذوف كما سيأتي.
فإن قلت: كيف التئام هذا بما قبله؛ لأنَّ ما قبله إخبار عن سليمان، وقوله: (ثم أراه) نقل عن عائشة؟
قلت: فيه محذوف؛ تقديره: قالت: ثم أراه، وهذا أوجه من كلام الكرماني؛ لأنَّ أوَّل الكلام نقلٌ بالمعنى عن لفظة عائشة، وآخره نقل للفظها بعينه، كذا في «عمدة القاري».
(فيه) أي: في الثوب، هذا على تقدير: أن يكون (أرى) بدون الضمير المنصوب، والتقدير: ثم أرى في الثوب (بقعة) فيكون انتصاب (بقعة) على المفعولية، وأما على تقدير (أراه) بالضمير المنصوب؛ فمرجعه يكون الأثر الذي يدل عليه قوله: (يغسل المني من ثوب النبيِّ الأعظم عليه السلام)؛ أي: أرى أثر الغسل في الثوب بقعة، (أو بقعًا)؛ بالنصب؛ بتقدير: أعني مثلًا، أو حالًا [1]، قال في «عمدة القاري»: (والظاهر: أنه من كلام عائشة، ويحتمل أن يكون شكًّا من سليمان، أو من أحد الرواة) انتهى.
وقال ابن بطال: وأثر الغسل يحتمل معنيين؛ أحدهما: أن يكون معناه بلل الماء الذي غسل به الثوب، والضمير راجع إلى أثر الماء، فكأنه قال: وأثر الغسل بالماء بقع الماء فيه؛ يعني: لا بقع الجنابة، وثانيهما: أن يكون معناه: وأثر الغسل بمعنى: أثر الجنابة التي غسلت بالماء فيه بقع الماء التي غسلت به الجنابة، والضمير فيه راجع إلى أثر الجنابة، وكلا الوجهين جائزان، لكن لفظ: (ثم أراه) في الحديث الآخر يدل على أن البقع كانت بقع المني؛ لأنَّ العرب ترد الضمير إلى أقرب مذكور، وضمير المني أقرب من
%ص 213%
ضمير الغسل) انتهى.
واعتُرض: بأن محل بقع الماء على الوجهين خبرًا لقوله: (وأثر الغسل) نعم؛ يحتمل أن يقال: جعله مبتدأ، و (فيه) خبره، والجملة خبر الأثر سيما حيث حصر؛ إذ لا طريق للحصر هنا إلا التقديم على المبتدأ، ثم لا نسلم أن (ثم أراه) يدل على أنها بقع المني؛ إذ أقرب المذكورات النبيُّ عليه السلام؛ أي: ثم أرى النبيَّ عليه السلام فيه بقعة أو بقعًا من الماء، انتهى.
وفي يوم الخامس عشر ربيع الأول، سنة سبع وسبعين طلع نجم في النهار من الغرب، ورأيته قبل هذا اليوم بنحو جمعة قبيل الزوال، والله أعلم، اللهم فرَّج عنا وعن المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (حال)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/405)
(66) [باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها]
هذا (باب) في بيان حكم (أبوال الإبل والدواب والغنم) وإنما جمع الأبوال؛ لأنَّه ليس المراد ذكر حكم بول الإبل فقط، بل المراد بيان حكم بول الإبل، وبول الدواب، وبول الغنم، ولكن ليس في الباب إلا ذكر بول الإبل فقط، ولا واحد للإبل من لفظها، وهي مؤنثة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لها لازم، وقد تسكن الباء فيه؛ للتخفيف، والجمع آبال، والدواب جمع دابة، وهي في اللغة: اسم لما يدب على الأرض، فيتناول سائر الحيوانات، وفي العرف: اسم لذي الأربع خاصة، وزعم الكرماني أن معناه العرفي: وهو ذوات الحوافر؛ يعني: الخيل والبغال والحمير، ورده في «عمدة القاري»: بأنه ليس معناه العرفي منحصرًا في هذه؛ بل يطلق على كل ذي أربع، والبخاري لم يذكر في هذا الباب إلا حديثين؛ أحدهما يُفْهَمُ منه حكم بول الإبل، والآخر يُفْهَمُ منه جواز الصَّلاة في مرابض الغنم، فعلى هذا؛ ذِكْرُ لفظة الدواب لا فائدة فيها [1]، واعترضه العجلوني بما زعمه ابن حجر أن حكم الدواب أشار إليه سياق أثر أبي موسى في صلاته في دار البريد؛ لأنَّها مأوى الدواب التي تركب، ويحتمل أن يكون أشار إلى حديث ليس على شرطه، انتهى.
قلت: وهو مردود؛ فإن أثر أبي موسى لا يدل على ما زعمه؛ لأنَّ البريد في الأصل الدابة المرتبة للرباط، ثم سمي به الرسول الراكب عليها، ثم سميت به المسافة المشهورة كما في «المغرب»، ودعوى أن يكون أشار إلى حديث ليس على شرطه ممنوعة باطلة؛ لأنَّه من المعيب أن يترجم لحكم ولا يذكر حديثًا يدل عليه، وإذا كان للحكم حديثٌ [2] ليس على شرطه؛ فعدم تعرُّضه له دليل على أنه غير راضٍ به، فلا يذكر الحكم في الترجمة، ويشير إليه؛ لأنَّه إذا كان الدليل غير قوي، فكيف الحكم المبنيُّ عليه؟! وهذا من التخبيط، وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص، واعترضه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: هو كذلك، فأي شيء ذكر فيه الاحتمال فيه وفيه عطف الخاص على العام أيضًا، وهو عطف الغنم على الدواب) انتهى.
وقد ركب العجلوني متن عمياء، وخبط خبطًا عشواء هنا؛ فليحفظ.
(ومرابضها) بالجر عطفًا على قوله: (والغنم)؛ وهي جمع مربض؛ بفتح الميم، وكسر الموحدة، من رَبَضَ بالمكان يَرْبِض من باب (ضرَب يضرِب)؛ إذا لصق به وأقام ملازمًا له، والمربض: المكان الذي يربض فيه، والمرابض للغنم؛ كالمعاطن للإبل؛ وربوض الغنم؛ كنزول الجمل، والضمير في (مرابضها) يرجع إلى الغنم؛ لأنَّه أقرب المذكورات، كما لا يخفى، والغنم: اسم جنس جمعي؛ كالإبل يقع على المذكر والمؤنث، وإذا صغرتها؛ قلت: غُنَيمة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لازم لها، كما قلنا.
وزعم ابن حجر أن المِرَابض؛ بكسر أوله، وفتح الموحدة، ورده في «عمدة القاري»: (بأن هذا غلط صريح وليس لقائله مس بالعلوم الأديبة) انتهى.
وزعم العجلوني بأنه قد يتكلف لتصحيحه بأن مكان الربوض يمكن جعله آلة تجوُّزًا، انتهى.
قلت: وهو مردود وممنوع، فإنه لا يجوز المصير إلى المجاز مع وجود الحقيقة، على أنه لا داعي إلى هذا التكلف، وما هو إلا تشديد بني إسرائيل، فإن ابن حجر ليس بمعصوم، بل يجوز عليه الخطأ والغلط وغيرهما؛ فافهم.
(وصلى أبو موسى)؛ هو عبد الله بن قَيْس الأشعري، وهذا الأثر وصله أبو نعيم شيخ المؤلف في كتاب «الصَّلاة» له، قال: حدثنا الأعمش، عن مالك بن الحارث _هو السلمي الكوفي_ عن أبيه قال: (صلى بنا أبو موسى في دار البريد، وهناك سرقين الدواب، والبرية على الباب)؛ فذكره، وهذا تفسير لما ذكره المؤلف معلَّقًا، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في «مصنفه» فقال: حدثنا وكيع: حدثنا الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبيه قال: (كنا مع أبي موسى في دار البريد، فحضرت الصَّلاة، فصلى بنا على روث وتبن، فقلنا: تصلي ههنا، والبرية إلى جنبك؟ فقال: البرية وههنا سواء)، وتمامه في «عمدة القاري»، (في دار البريد)؛ وهي دار ينزلها من يأتي برسالة السلطان، والمراد بـ (دار البريد) ههنا: موضع بالكوفة كانت الرسل تنزل فيه إذا حضروا من الخلفاء إلى الأمراء، وكان أبو موسى أميرًا على الكوفة في زمن عمر، وفي زمن عثمان رضي الله عنه، وكانت الدار في طرف البلد، ولهذا كانت البرية إلى جنبها، والبَريد؛ بفتح الموحدة: المرتب، والرسول، واثنا عشر ميلًا، قاله الجوهري، وقال في «المغرب»: (البريد في الأصل: الدابة المرتبة للرباط، ثم سمِّي به الرسول الراكب عليها، ثم سميت به المسافة المشهورة) انتهى.
قلت: فكأن البريد صار اسمًا [3] لهذه المسافة المشهورة، وهو حقيقة عرفية؛ فليحفظ.
(والسِّرقين)؛ بكسر السين المهملة، وسكون الراء؛ هو الزبل، وحكي فيه: فتح أوله، وهو فارسي معرب، ويقال له: السرجين؛ بالجيم، وهو في الأصل حرف بين القاف والجيم يقرب من الكاف، ويجوز فيه أن
الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الاصلي ظلما وبغيا
كتاب:آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة أبو البركات ا... /يا أمة الإسلام والأزهر الشريف *أفيقوا* /تحميل مذكرة الجبر3 ث ثانوي عام 3 ثانوي.pdf. / صفحة .. س وج احياء 3ث/ أرشيف المدونة النخبة في... /الفيزياء للجميع 3 .ث /مذكرة التميز (شرح ومراجعة) النصوص للصف الثالث الثا... /العلامات والأعراض التهاب المفاصل الروماتويدي /موضوعات علمية وللثانوية العامة وكذلك مسائل شرعية... /تحميل منهج الثانوية العامة 3ث /مذكرة الأساسيات , الجبر, الهندسة الفراغية , الاستا... /حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث .حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث . /ثانوي علم النفس اللثانوية العامة 2016 استاذ سام... /ث. استاتيكا :خرائط مفاهيم المميز للصف الثالث ال... /الفيزياء الثالث الثانوي3ث. /فيزياء 3ث /مناج الثالث الثانوي 3ث. /مذكرات 3ث. /مذكرات 3ث. /الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... / الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... /ث/الديناميكا(تفاضل الدوال المتجه.pdf ) /ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي /لا يمكن الجمع بين أن المؤمن مآله إلى الجنة وبين حد... /كتاب : الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ابن كثير /دليل 24. /القران مكتوب روابط /مجلد 1. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح... /مجلد 2. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح...
روابط م البريد ه ا ن م
اللهم إني أُشهدك أنني بريئ من كل علم وكل شأن لا ترضاه ويخالف دينك القيم