روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الاصلي ظلما وبغيا

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الالكتروني

كتاب:آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة أبو البركات ا... /يا أمة الإسلام والأزهر الشريف *أفيقوا* /تحميل مذكرة الجبر3 ث ثانوي عام 3 ثانوي.pdf. / صفحة .. س وج احياء 3ث/ أرشيف المدونة النخبة في... /الفيزياء للجميع 3 .ث /مذكرة التميز (شرح ومراجعة) النصوص للصف الثالث الثا... /العلامات والأعراض التهاب المفاصل الروماتويدي /موضوعات علمية وللثانوية العامة وكذلك مسائل شرعية... /تحميل منهج الثانوية العامة 3ث /مذكرة الأساسيات , الجبر, الهندسة الفراغية , الاستا... /حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث .حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث . /ثانوي علم النفس اللثانوية العامة 2016 استاذ سام... /ث. استاتيكا :خرائط مفاهيم المميز للصف الثالث ال... /الفيزياء الثالث الثانوي3ث. /فيزياء 3ث /مناج الثالث الثانوي 3ث. /مذكرات 3ث. /مذكرات 3ث. /الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... / الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... /ث/الديناميكا(تفاضل الدوال المتجه.pdf ) /ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي /لا يمكن الجمع بين أن المؤمن مآله إلى الجنة وبين حد... /كتاب : الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ابن كثير /دليل 24. /القران مكتوب روابط /مجلد 1. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح... /مجلد 2. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح...

اللهم إني أُشهدك أنني بريئ من كل علم وكل شأن لا ترضاه ويخالف دينك القيم

الثلاثاء، 17 مايو 2022

كتاب:3 و4. أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)


3
الكتاب3: أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)
[حديث: لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة]

176# وبه قال: (حدثنا آدم)؛ بالمد، أي: ابن أبي إياس؛ بكسر الهمزة، كما صرح به في رواية (قال: حدثنا ابن أبي ذئب)؛ بالهمز، نسبه لجده الأعلى؛ لشهرته به، وإلا فهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب _واسمه هشام_ بن شعبة (قال: حدثنا سعيد)؛ أي: ابن أبي سعيد؛ بكسر العين فيها (المقبُري)؛ بتثليث الموحدة والضم أشهر، وفي رواية: (عن سعيد المقبري)، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (قال: قال النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم: لا يزال العبد)؛ أي المؤمن وكذا المرأة (في صلاة) خبر (يزال)؛ أي: في ثواب صلاة، والقرينة على ذلك قوله: (ما كان)، وفي رواية: (ما دام) (في المسجد) أي مسجد كان، فـ (أل) فيه للجنس، وهو شاملٌ للمكان المُعَدِّ للصَّلاة في داره أو بيته أو غيرهما؛ لأنَّ الثواب المترتب سببه الانتظار؛ فافهم، ولذا قال: (ينتظر الصلاة) جملة محلها النصب خبر للفعل الناقص (كان) أو (دام)، وإما حال و (في المسجد) الخبر، ويجوز العكس، وإنما نكَّر (الصلاة)؛ لأنَّه قصد به التنويع؛ ليُعلَم أن المراد نوع صلاته التي ينتظرها، مثلًا لو كان في انتظار صلاة الظهر كان في صلاة الظهر، وهلمَّ جرًّا، وأمَّا تعريف (المسجد)، فلأن المراد به المسجد الذي هو فيه مطلقًا، كما قلنا، والتقدير في ذلك: لا يزال العبد في ثواب صلاة ينتظرها ما دام ينتظرها، والقرينة على ذلك لفظالانتظار، ولو كان يجري على ظاهره وكان المراد حقيقتها؛ لما جاز له أن يتكلَّم، ولا أن يأتي بما لا يجوز فعله في الصلاة، فيقرأ القرآن، أو يسبِّح، أو يهلل، أو يَتَنَفَّل في غير وقت مكروه لا أنَّه يتكلم بكلام الناس كالمباح، فإنَّه ورد أنَّ الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فيظنُّ نفسه أنَّه قد فعل طاعة وحَصَّلَ ثوابًا، والحال أنه قد فعل مكروهًا وذهبت حسناته، وهذا فضلًا عما اعتيد في زماننا من الكلام المُحَرَّمِ في المسجد كالغيبة التي صارت في زماننا فاكهة المجالس، وكذا النميمة والكذب وغيرها من المحرمات التي لا يجوز فعلها في كلِّ مكان فضلًا عن المسجد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(ما لم يُحْدِثْ)؛ أي: ما لم يأت بالحدث، وهو أعم من أن يكون فُسَاءً أو ضُرَاطًا أو غيرهما من النواقض للوضوء من المجمع عليها والمختلف بها، وكلمة (ما) مصدرية زمانية، والتقدير: مدة دوام عدم الحدث، كما في قوله تعالى: {مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]؛ أي: مدة دوامي حيًّا، فحُذِفَ الظرفُ وخَلِفَتْهُ (ما) وَصِلَتُها.
(فقال رجل) هذا مدرج من سعيد (أعجمي)؛ وهو الذي لا يُفْصِح، ولا يبين كلامه، وإن كان من العرب، والعجم: خلاف العرب، والواحد: عجمي، وقال الجوهري: (لا تقل: رجل أعجمي؛ فتنسبه إلى نفسه إلا أن يكون أعجم وأعجمي؛ مثل: دوار ودواري)، قال في «عمدة القاري» بعد نقله ذلك: (فهم من كلامه أن الياء المثناة التحتية في «أعجمي» ليست للنسبة كما زعمه ابن حجر، وإنما هي للمبالغة) انتهى، قلت: وهو في غاية التحقيق؛ فافهم.
(ما الحَدَثُ يا أبا هريرة؟ قال: الصوت؛ يعني: الضرطة) ونحوها من المفسدات للطهارة المجمع عليها والمختلف بها؛ لأنَّ لفظ (الحدث) عامٌّ في سائر النواقض، وإنما خصص الحدث بالضرطة؛ لأنَّ الغالب أنَّ الخارج في المسجد حالة الانتظار إنَّما هو الريح المعبر عنه بالضرطة، فوقع الجواب طبق السؤال، ولكن فهم أبو هريرة أنَّ مقصود هذا السائل الحدث الخاص، وهو الذي يقع في المسجد حالة الانتظار، والعادة أنَّ ذلك لا يكون إلا الضرطة فوقع الجواب طبق السؤال، وإلا فأسباب النقض كثيرة، كذا في «عمدة القاري»، وهو الظَّاهر، كما في «القسطلاني» و «العجلوني»،والله أعلم.
%ص 146%
==================
(1/317)
[حديث: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا]
177# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي، أو هشام بن عمار، والمكنَّى بأبي الوليد أيضًا، وهو يروي أيضًا عن ابن عيينة، ويروي عنه المؤلف، لكن الأكثر على أنه الأول، كذا في «عمدة القاري» (قال: حدثنا ابن عيينة) أي: سفيان؛ كما صرح به في رواية، (عن الزهري) محمد بن مسلم ابن شهاب، (عن عبَّاد)؛ بتشديد الموحدة (بن تميم) الأنصاري، (عن عمه) عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: لا ينصرفْ)؛ بالجزم؛ أي لا يخرج المصلِّي من صلاته، وفي رواية: (لا ينفتل)؛ بالفاء والمثناة الفوقية [1] واللام، وهو بمعنى: لا ينصرف، وقد سبق الحديث تامًّا في باب (لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن)، ولفظه: أنَّه شكى إلى النبي عليه السلام الرجل الذي يخيل إليه أنَّه يجد الشيء في الصلاة، فقال عليه السلام: «لا ينصرف أو لا ينفتل» على الشك (حتى) للغاية؛ أي: إلى أن (يسمع) بالنصب بتقدير (أن) الناصبة (صوتًا)؛ أي: خارجًا من دُبُرِه، (أو يجد ريحًا)؛ أي: منه أيضًا، وإنما ذكر سماع الصوت ووجدان الرائحة حتى يتناول الأصم والأخشم، والمراد تحقق وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بالإجماع؛ لأنَّ الأصم لا يسمع شيئًا، والأخشم: الذي ذهبت منه حاسة الشم لا يشم أصلًا، وإنما خص النوعين بالذِّكر، وإن كان غيرهما كذلك؛ لأنَّه خرج على حرف المسألة التي سأل عنها السائل، وإنما عبر بالوجدان دون الشم؛ ليشمل ما لو لمس المحل بيده، ثمَّ شم يده، وفيه دليل على أنَّ لمسَ الدُّبرِ والذَّكَرِ غيرُناقض للوضوء؛ فليحفظ، وقد سبق تقريره.
==================
(1/318)
[حديث علي: كنت رجلًا مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله]
178# وبه قال: (حدثنا قُتيبة)؛ بضم القاف، هو ابن سعيد (قال: حدثنا جرير) هو ابن عبد الحميد، (عن الأعمش) هو سليمان بن مهران، (عن منذر أبي يعلى) هذه كنيته، واسم أبيه يعلى أيضًا (الثَّوري) بفتح المثلثة، (عن محمد ابن الحنفية)؛ هو ابن علي بن أبي طالب: أنه (قال: قال عليٌّ) أي: ابن أبي طالب أبوه رضي الله عنه: (كنت رجلًا مذَّاء)؛ بتشديد الذال المعجمة، والمد على وزن: (فعَّال)؛ أي: كثير المَذْي، بوزن: ظَبْي، وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند الشهوة لا بشهوة، ولا دفق، ولا يعقبه فُتُور، وربما لا يحس بخروجه، وهو أغلب في النساء من الرجال، وهو من النساء يسمى القَذَى_بفتحتين_ كذا في «منهل الطلاب» عن «البحر»، وظاهره: أنَّ هذه الحالة مستدامة له رضي الله عنه، ولذا أتى بقوله: (كنت)؛ فإنَّها تشعر بالاستدامة؛ فافهم، ويدلُّ لذلك ما في «سنن البيهقي الكبير» من حديث ابن جريج عن عطاء: أن عليًّا كان يدخل في إحليله الفتيلة من كثرة المذي، ففيه استحباب وضع الفتيلة إن اضطر [1] إليها في حال الاستنجاء، (فاستحييت)؛ بمثناة أو بمثناتين (أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عن حكم المذي؛ لمكان ابنته فاطمة رضي الله عنها، (فأمرت المقداد ابن الأسود)؛ هذا مجاز؛ لأنَّ أباه في الحقيقة ثعلبة البهراني، وإنَّما نسب إلى الأسود؛ لأنَّه تبنَّاه، أو حالفه، أو لغير ذلك، أن يسأله عليه السلام عن ذلك، (فسأله)، وفي رواية: (فأمرت رجلًا)، وعند النسائي: (فأمرت عمَّار بن ياسر)، وعند ابن خزيمة: (أن عليًّا سأل)، وطريق الجمع بين الروايات: أن عليًّا أمرهم بالسؤال، ثم ذهب وسأل بنفسه، وما قيل: إنَّه يحتمل المجاز أو الحقيقة غير ظاهر؛ فافهم، (فقال) عليه السلام؛ مجيبًا له: (فيه الوضوء)؛ أي: بخروج المذي يجب الوضوء لا الغسل، فقدَّم الخبر؛ للحصر، ولو وَجَبَ فيه الغسل؛ يلزم الحرج، وفي حديث غسَّان الضبعي عند أبي موسى المديني في «معرفة الصحابة» قال عليه السلام: «لو اغتسلتم من المذي؛ كان أشدَّ عليكم من الحيض»، وإسناده لا بأس به.
(ورواه) ولابن عساكر: بإسقاط الواو؛ أي: هذا الحديث (شعبة) أي: ابن الحجاج، (عن الأعمش) سليمان بن مهران عن منذر ... إلى آخر السَّند المذكور، ووصله الطيالسي في «مسنده» عن شعبة كذلك، وهذا التعليق من المؤلف ذكره متابعة، وحديث المقداد في المذي مجمعٌ عليه أنَّ فيه الوضوء، وليس له مطابقة للترجمة؛ لأنَّه خارج عن أحد المخرجين، كذا في «عمدة القاري» وابن حجر.
==========
[1] في الأصل: (أضر)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 147%
==================
(1/319)
[حديث زيد بن خالد: أرأيت إذا جامع فلم يمن؟]
179# وبه قال: (حدَّثنا سعْد بن حفص)؛ بسكون العين، رواية الجميع إلا القابسي، فقال: (سعيد)؛ بالمثناة التحتية، وسعد هذا هو الكوفي الطلحي _بالمهملتين_ الضخم، المتوفى سنة خمس عشرة ومئتين، ولعلَّ القابسي اشتبه عليه بما في «النسائي»: (سعيد بن حفص) _بزيادة المثناة التحتية_ النفيلي، المتوفى سنة سبع وثلاثين ومئتين، قلت: والظاهر: أنَّه سهو من القابسي، ولذا اقتصر جميع الشرَّاح على الأول؛ فافهم، (قال: حدثنا شَيْبان)؛ بفتح الشين المعجمة، وسكون التحتية، بعدها موحدة، هو ابن عبد الرحمن، أبو معاوية النحوي، (عن يحيى)؛ هو ابن أبي كثير البصري التابعي الصغير، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام، عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف التابعي: (أن عطاء بن يَسار)؛ بفتح التحتية أوله، بعدها سين مهملة، التابعي المدني (أخبره)؛ أي: أخبر عطاءٌ أبا سلمة: (أن زيد بن خالد) الجهني المدني الصحابي (أخبره)؛ أي: أخبرَ زيدٌ عطاءً: (أنه سأل عثمان بن عفان) رضي الله عنه (قلت): قائله زيد بن خالد لعثمان، فهو بصيغة المتكلم، وإنما لم يقل: (قال) كما قال: (أنه سأل)؛ لأنَّ فيه نوع التفات، وهو نوع من محاسن الكلام؛ لأنَّ فيه اعتبارين، وهما عبارتان عن أمر واحد، ففي الأول: نظر إلى جانب الغيبة، وفي الثاني: إلى جانب المتكلم، كذا في «عمدة القاري».
(أرَأيت)؛ بفتح الرَّاء؛ ومفعوله محذوف؛ أي: أَخبِرْني أنه توضأ أم لا؟ (إذا جامع)؛ أي: الرجل امرأته _مثلًا_ أو بطَّن، أو فخَّذ (فلم) وفي رواية: (ولم)؛ بالواو (يُمنِ)؛ بضم التحتية رواية، وقد تفتح وتسكن الميم لغة، وقد تفتح الميم وتشدد النُّون مع ضم أوله لغة ثالثة، يقال: منى، وأمنى، ومنى، وأشهرها وأفصحها الوسطى، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} [القلم: 58].
(قال عثمان)؛ أي: ابن عفان رضي الله عنه: (يتوضأ) إنَّما أمره بالوضوء؛ لأجل الاحتياط؛ لأنَّ الغالب خروج المذي من المُجَامع وإن لم يشعر به (كما يتوضأ للصلاة) أشار به إلى أن المراد بالوضوء: الوضوء الشرعي لا اللغوي، ففيه أن المباشرة الفاحشة تنقض الوضوء، وهي أن يتجردا معًا متعانقين متماسين الفرجين من جهة القبل أو الدبر مع انتشار آلة الرجل بالنسبة إليه في نقض وضوئِه لا المرأة، فإنَّه لا يشترط في نقض وضوئها انتشار آلته، وسواء كانت المباشرة بين امرأتين، أو رجلين، أو رجل وامرأة، أو رجل وغلام، فيشترط أن يكون تماس الفرجين من شخصين مشتهيين؛ لأنَّه لا ينتقض الوضوء ولا يجب الغسل بوطءِ صغيرةٍ لا تُشْتَهى، فإذا حصلت المباشرة بين الشخصين؛ انتقض وضوء المباشِر والمباشَر ولو بلا بلل على المعتمد، كما في «الدر المختار»، وهو قول الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف؛ لأنَّها لا تخلو عن خروج مذي غالبًا، وهو كالمتحقق في مقام وجوب الاحتياط، وهو المعوَّلُ عليه في المذهب كما في سائر المتون، كما في «شرح الملتقى» للباقاني، وقال الإمام محمد: (لا ينتقض الوضوء ما لم يظهر شيء)، وصححه في «الحقائق» وغيره، لكن قال في «البحر» و «النهر»: (هذا التصحيح لا يُعَوَّلُ عليه، ولا يُعْتَمَدُ عليه؛ لمخالفته للمتون) انتهى.
قلت: وقد اختلف الصحيح، وما قاله الإمام الأعظم صاحب المذهب هو المذهب، وإلى غيره لا يُذهَب؛ فليحفظ.
(ويغسل ذَكَره) إنَّما أمره بذلك؛ لتنجُّسه بالمذي الذي يغلب خروجه حينئذٍ، وظاهره: أنه يجب غَسْلُ كل الذَّكَر، وبه قال مالك، وقال الإمام الأعظم وأصحابه والشافعي: لا يجب إلا غسل ما تنجَّس منه؛ لأنَّه يرتفع وينزوي المذي فلا يخرج، ويدلُّ لذلك ما في «صحيح مسلم»: «توضأ وانضح فرجك»، لا يقال: الغسل مقدَّم على التوضؤ، فلمَ أخَّره؟ لأنَّا نقول: الواو لا تدل على الترتيب، بل هي للجمع المطلق عند المحققين، فلو توضَّأ قبله؛ يجوز ولا يَنْتَقِضُوضوءُه، وفيه: دليل واضح على أن مسَّ الذَّكَر لا ينقض الوضوء؛ لأنَّه لو توضأ أولًا، كما هو ظاهر الحديث، ثم غسل ذَكَره، لابدَّ له من أن يمسَّ ذَكَره حتى يتم الغسل؛ لأنَّه لو لم يمسَّه بيده؛ لم يتمَّ الغسل؛ لأنَّ المذي يعلو على رأس الذَّكَر ويقف ويتجمد، فيلزمه حتَّه ودعكه بالماء حتى يزول
%ص 147%
المذي النجس، وقد نفى الشافعي في آية الوضوء أن معنى الواو: الجمع المطلق، وأثبته هنا، وليس ذلك إلا تناقضًا، فإن الواو في الآية وهنا وغيرها لمطلق الجمع عند المحققين لا تفيد الترتيب؛ فليحفظ.
(قال عثمان)؛ أي: ابن عفان رضي الله عنه: (سمعته)؛ أي: جميع ما تقدم (من النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وقوله: (فسألت عن ذلك)؛ أي: عمن جامع ولم يمن، (عليًّا)؛ أي: ابن أبي طالب، (والزُّبير)؛ بضم الزاي؛ أي: ابن العوام، (وطلحة)؛ أي: ابن عبيد الله، (وأُبي بن كعب) رضي الله عنهم (فأمروه)؛ أي: أمر الصحابة المذكورونالمجامع المذكور، فالضمير المرفوع فيه راجع إلى هؤلاء الصحابة الأربعة، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى المجامع؛ لأنَّ قوله: (إذا جامع)؛ أي: الرجل، يدل على المجامع ضمنًا؛ على حد قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ أي: العدل أقرب، دلَّ عليه: {اعْدِلُوا}؛ فليحفظ.
(بذلك)؛ أي: بالوضوء، (وغسل ذَكَرُه) من مقول زيد بن خالد لا من مقول عثمان بن عفان.
ففي الحديث: دلالة على وجوب الوضوء لا الغسل على من جامع ولم يُنْزِل، وهذا الحكم منسوخ بالإجماع، فإنَّ أئمة الفتوى مجمعون على وجوب الغسل دون الوضوء من مجاوزة الختان؛ لأمر النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو زيادة بيان على ما في هذا الحديث يجب الأخذ بها؛ لأنَّ الغالب حينئذٍ سَبْقُ الماء، فالتزم المسلمون الغسل من تغيُّب الحشفة بالسُّنَّة الثابتة في ذلك.
فإن قلت: إذا كان الحديث منسوخًا، فكيف يصحُّ الاستدلال به؟
وأجيب: بأنَّ المنسوخ منه عدم وجوب الغسل لا عدم الوضوء، فحكمه باقٍ، ولذا قلنا: إنَّ السنَّة للمغتسل أن يبدأ أولًا بالوضوء، ثم يغتسل، والحكمة في الأمر بالوضوء قبل أن يجب الغسل؛ لكون الجماع مظنَّة خروج المذي غالبًا، والغالب كالمتحقق، فدلالته على الترجمة من هذه الجزئية، وهي وجوب الوضوء من الخارج المعتاد لا على الجزء الأخير، وهو عدم الوجوب في غير المنسوخ، ولا يلزم أن يدل كلُّ حديث في الباب على كلِّ الترجمة، بل تكفي دلالة البعض على البعض؛ فتأمل، والله أعلم.
==================
(1/320)
[حديث: إذا أعجلت أو قحطت فعليك الوضوء]
180# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية: بالإفراد (إسحاق هو ابن منصور) وفي رواية إسقاط: (هو)، ولكريمة: إسقاطها وما بعدها؛ أي: ابن بَهرام _بفتح الموحدة_ المعروف بالكوسج المروزي، وهو الأصح، كما نص عليه في «عمدة القاري»؛ معزوَّا [1] لأبي نعيم في «المستخرج».
(قال: أخبرنا النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون الضَّاد المعجمة، ابن شُميل [2]_بضم المعجمة_ أبو الحسن المازني، البصري (قال: أخبرنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتح الحاء المهملة وفتح الكاف، هو ابن عتيبة، تصغير: عتبة الباب، (عن ذَكوان)؛ بفتح المعجمة، (أبي صالح) الزيَّات المدني، (عن أبي سعيد الخدري)؛ هو سعد بن مالك الأنصاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى رجل من الأنصار)؛ أي: ليحضر عنده، ولمسلم وغيره: (مر على رجل)، قال في «عمدة القاري»: فيُحْمَل على أنه مر به، فأرسل إليه، وسمى مسلمٌ هذا الرجل في روايته من طريق أخرى، عن أبي سعيد عِتْبان _بكسر العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، بعدها موحدة، فألف، فنون_ ولفظه من رواية شريك ابن أبي نمر، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله عليه السلام إلى قباء حتى إذا كنا في بني سالم؛ وقف رسول الله عليه السلام على باب عِتْبان، فخرَّ يجر إزاره ... ؛ فذكر الحديث بمعناه، وعِتْبان المذكور هو ابن مالك، الأنصاري، الخزرجي، السالمي، البدري، ووقع في رواية في «صحيح أبي عوانة»: أنه ابن عتبان، قال في «عمدة القاري»: والأول أصح، ورواه ابن إسحاق في «المغازي» قال: فهتف برجل من أصحابه يقال له: صالح، فإن حُمِلَ على تعدد الواقعة، وإلا فطريق مسلم أصح، كما في «عمدة القاري»، وقد وقعت القصة أيضًا لرافع بن خديج وغيره، أخرجه أحمد وغيره، ولكن الأقرب في تفسير المبهم: أنَّه عِتْبان، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فجاء)؛ أي: الرجل المذكور، (ورأسه يقطر)؛ جملة اسمية وقعت حالًا من الضمير الذي في (جاء)، ومعنى (يقطر): ينزل منه الماء قطرة قطرة من أثر الاغتسال، وإسناد القطر إلى الرأس مجاز؛ من قبيل (سال الوادي)، كما في «عمدة القاري».
(فقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: للرجل المذكور: (لعلَّنا)؛ كلمة (لعلَّ) هنا؛ لإفادة التحقيق؛ فمعناه: قد (أعجلناك)؛ أي: عن فراغ شغلك وحاجتك من الجماع أو الغسل، وقوله: (فقال)؛ أي: الرجل للنبي الأعظم عليه السلام، وفي رواية: بإسقاط الفاء: (نعم)؛ أي: أعجلتني؛ مقرر للتحقيق، وقيل: إن (لعلَّ) للاستفهام، ويدل له جوابها بـ (نعم)، وقيل: للإشفاق، ولا يمكن أن تكون (لعلَّ) هنا على بابه للترجي؛ لأنَّه لا يحتاج إلى جواب، وهنا قد أجاب الرجل بـ (نعم)، و (أعجلناك): من الإعجال، يقال: أعجله إعجالًا، وعجَّله تعجيلًا؛ إذا استحثه، أفاده في «عمدة القاري» بزيادة.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أُعجِلت)؛ بضم الهمزة على البناء المجهول، وفي رواية: (إذا عَجِلت)؛ بفتح العين، وكسر الجيم المخففة، بدون همزة، وفي أخرى: (إذا عُجِّلت)؛ بدون همزة وتشديد الجيم على صيغة المجهول، (أو قُحِطت)؛ بضم القاف وكسر الحاء المهملة، وزعم ابن الجوزي: (أن أصحاب الحديث يقولون: قَحطت؛ بفتح القاف)، لكن في «عمدة القاري» نقلًا عن شيخه: (الصواب: ضم القاف)، وفي «مسلم»: (أقحَطت) بالهمزة وفتح الحاء المهملة، وفي رواية: بضم الهمزة وكسر الحاء، والروايتان صحيحتان، ومعنى الإقحاط هنا: عدم الإنزال في الجماع، وهو استعارة من قحوط المطر، ومعناه: انحباسه، وقحوط الأرض: وهو عدم إخراجها النبات، قال التيمي: (ووقع في «الكتاب»: قحطت، والمشهور: أقحطت؛ بالألف، يقال للذي أعجل من الإنزال في الجماع قارف ولم ينزل الماء، أو جامع فلم يأته الماء: أقحط)، قال الكرماني: (فعلى هذا التقدير لا يكون لقوله: «أعجلت» فائدة، اللهم؛ إلا أن يقال: إنه من باب عطف العام على الخاص) انتهى.
قلت: وعلى كون (أو) للشك من الراوي، لا يرد الاعتراض؛ فليحفظ.
قال الكرماني: («أو» هنا للشك من الراوي، أو تنويع الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال في «عمدة القاري»: (والثاني هو الظاهر، ومراده: بيان أن عدم الإنزال سواء كان بأمرٍ خارج عن ذات الشخص كالإعجال، أو كان من ذاته كالإقحاط؛ لا فرق بينهما في الحكم في أن الوضوء عليه فيهما) انتهى، فقول ابن حجر: (قال الكرماني: «ليس «أو» للشك») خطأ بل النُّسَخُ الصحيحة من «شرح» الكرماني أن (أو) للشك؛ فليحفظ.
(فعليك الوضوء)؛ برفع (الوضوء) ونصبه، أما الرفع؛ فعلى أنه مبتدأ وخبره قوله: (عليك)، والنصب على أنه مفعول لقوله: (عليك)؛ لأنَّه اسم فعل؛ نحو: عليك زيدًا، ومعناه: فالزم الوضوء، فهو مفيد للإغراء، وليس الإغراء هنا وجهًا زائدًا في الإعراب، كما توهمه القسطلاني؛ فافهم، ويحفظ.
وفي الحديث: جواز الأخذ بالقرائن؛ لأنَّ الصحابي لمَّا أبطأ عن الإجابة مدة الاغتسال؛ خالف المعهود منه، وهو سرعة الإجابة للنبي عليه السلام، فلمَّا رأى عليه السلام أثر الغسل؛ دلَّ على أنَّه كان مشغولًا بجماع.
وفيه: أنَّه يستحب الدوام على الطهارة؛ لكونه عليه السلام لم يُنْكِرْ عليه تأخير إجابته، وكان ذلك قبل إيجابها؛ لأنَّ الواجب لا يؤخر للمستحب، كما في «عمدة القاري».
وفيه: أنَّ من جامع ولم يُنْزِلْ عليه الوضوء لا الغسل، وهو منسوخ، ولم يقل بعدم نسخه إلا ما روي عن هشام بن عروة، والأعمش، وابن عيينة، وداود، وقال الثوري: وقد أجمعت الأمة الآن على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن معه إنزال، وعلى وجوبه بالإنزال.
وكانت جماعة من الصحابة على أنَّه لا يجب إلا بالإنزال، ثم رجع بعضهم، وانعقد الإجماع بعد الآخرين، وروي إيجاب الغسل عن عائشة أم المؤمنين، وأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن عمر، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، والمهاجرين، وبه قال الإمام الأعظم، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم، وبعض أهل الظاهر، والنخعي، والثوري، فلا يجوز العمل بما روي عن بعض الصحابة من عدم الغسل؛ لأنَّهمنسوخ.
%ص 148%
(تابعه وهب)؛ أي: تابع النضرُ بنُ شميل وهبَ بنَ جرير بن حازم البصري، المتوفى على ستة أميال من البصرة سنة ست ومئتين، وقد وصل هذه المتابعة أبو العباس السراج في «مسنده»، عن زياد بن أيوب عنه (قال)؛ أي: وهب، وسقط في رواية لفظ (قال): (حدثنا شعبة)؛ أي: ابن الحجاج، وفي رواية: (عن شعبة)؛ أي: عن الحكم عن ذكوان ... إلى آخر السند بمثل ما ذكر، فرواية وهب عن شعبة أخرجها الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي، وهذا تعليق من المؤلف وإن احتمل السماع؛ لأنَّ المؤلف كان ابن اثنتي عشرة سنة عند وفاة وهب.
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، وسقطت هذه الجملة في رواية، لكنها المراد، سواء ذكر أو لا: (ولم يقل غندر) هو محمد بن جعفر، (ويحيى)؛ أي: ابن سعيد القطان، في روايتهما لهذا الحديث، (عن شعبة)؛ أي: ابن الحجاج: (الوضوء)؛ يعني: رويا هذا الحديث بهذا الإسناد والمتن، لكن لم يقولا فيه لفظ: (الوضوء)، بل قالا: (فعليك) فقط بحذف المبتدأ، وجاز ذلك؛ لقيام القرينة عليه، والمُقدَّرِ عند القرينة كالملفوظ، كذا قاله الكرماني، لكن قال في «عمدة القاري»: (يعني: أن غندرًا ويحيى رَوَيَا هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد والمتن، لكن لم يقولا فيه: «عليك الوضوء»، فأمَّا يحيى؛ فهو كما قال قد أخرجه أحمد في «مسنده» عنه، ولفظه: «فليس عليك غسل»، وأمَّا غندر؛ فقد أخرجه أحمد أيضًا في «مسنده» عنه، لكنه ذكر الوضوء، ولفظه: «فلا غسل عليك، عليك الوضوء»، وهكذا أخرجه مسلم، وابن ماجه، والإسماعيلي، وأبو نعيم من طرق عنه، وكذا ذكر أكثر أصحاب شعبة كأبي داود الطيالسي وغيره عنه، فكأن بعض مشايخ المؤلف حدثه به عن يحيى وغندر معًا، فساقه له على لفظ يحيى)، قال: (قلت: أما كلام الكرماني؛ فلا وجه له؛ لأنَّ معنى قوله: «عليك» فقط _كما قرره_: يحتمل أن يكون عليك الغسل، ويحتمل أن يكون عليك الوضوء، والاحتمال الأول غير صحيح؛ لأنَّ في رواية يحيى في «مسند أحمد» التصريح بقوله: «فليس عليك غسل»، والاحتمال الثاني هو الصحيح؛ لأنَّ في رواية غندر: «عليك الوضوء»، فحينئذ قوله: «لم يقل غندر ويحيى عن شعبة: الوضوء»؛ معناه: لم يذكر لفظ: «عليك الوضوء»، وهذا كما رأيت في رواية أحمد عن يحيى ليس فيها: «عليك الوضوء»، وإنما لفظه: «فليس عليك غسل».
فإن قلت: كيف قال المؤلف: «لم يقولا عن شعبة: الوضوء»، فهذا في رواية غندر ذكر «عليك الوضوء»؟
قلت: كأَّنه سمع من بعض مشايخه أنَّه حدثه عن يحيى وغندر كليهما، فساق شيخه له على لفظ يحيى، ولم يَسُقْهُ على لفظ غندر، فهذا تقرير ما قاله ابن حجر، ولكن فيه نظر على ما لا يخفى) انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (معزيًّا).
[2] في الأصل: (شهيل)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (معزيًّا).
[1] في الأصل: (معزيًّا).
(1/321)
(35) [باب الرجل يوضئ صاحبه]
هذا (باب) حكم (الرجل) ومثله المرأة (يُوضِّئ)؛ بتشديد الضاد المعجمة، (صاحبُه)؛ أي: غيره وما في حكمه، ويحتمل تنوين (باب)، فـ (الرجل) مبتدأ.
==========
%ص 149%
==================
(1/322)
[حديث: المصلى أمامك]
181# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية: بالإفراد (محمد بن سَلَام)؛ بتخفيف اللام وفتح السين المهملة، وقيل: بتشديد اللام، والأول الأصح، وفي رواية سقط لفظ (محمد) فقط، (قال: أخبرنا يزيد بن هارون)؛ بالنُّون، أحد الأعلام، (عن يحيى)؛ هو ابن سعيد الأنصاري، التابعي، (عن موسى بن عُقْبة)؛ بضم العين المهملة وسكون القاف، الأسدي المدني التابعي، (عن كُريب)؛ بضم الكاف، بالتصغير، (مولى ابن عباس) التابعي، (عن أسامة بن زيد) الحِبِّ بن الحِبِّ رضي الله عنهما، ووقع لابن المنيِّر هنا في الإسناد وهَمٌ بيَّنه في «عمدة القاري»: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أفاض)؛ أي: رجع أو دفع (من عرفة)؛ أي: في وقوف عرفة؛ لأنَّ عرفة اسم الزمان، والدفع كان من عرفة؛ لأنَّه اسم المكان، وقيل: جاء عرفة أيضًا اسمًا للمكان، فعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير، وقال الجوهري: (قول الناس: نَزَلْنَا عرفة، شبيه بمولَّد، وليس بعربي محض)، كذا في «عمدة القاري».
(عَدَلَ)؛ أي: توجَّه، جواب: (لما) (إلى الشِّعب)؛ بكسر الشين المعجمة: الطريق في الجبل، (فقضى حاجته)؛ أي: بال أو تغوط، (قال أسامة)؛ أي: ابن زيد، كما صرح به في رواية: (فجعلت أصُب) بضم الصَّاد المهملة (عليه)؛ أي: الماء، فمفعوله محذوف، والجملة خبر (جعلت)؛ لأنَّه من أفعال المقاربة، (ويتوضأ)؛ جملة محلها النصب على الحال، وجاز وقوع المضارع المثبت حالًا من الواو، قال جار الله الزمخشري في قوله تعالى: {وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]: حال، ويجوز أن يقدر مبتدأ و (يتوضأ) خبره، والتقدير: وهو يتوضأ، وحينئذ تكون الجملة اسمية أو تكون الواو للعطف، انتهى.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (فجعلت أصبُّ ... ويتوضأ)، ففيه: رد لما روي عن ابن عمر وعلي أنهما نهيا أن يُستَقى لهما الماء لوضوئهما، وقالا: نكره أن يشْرِكَنا في الوضوء أحد، ورَوَيَا ذلك عن النبي الأعظم عليه السلام، وهذا لم يصح عنهما؛ لأنَّه ثبت وصحَّ عنهما خلافه، فروى شعبة عن أبي بشر، عن مجاهد: أنَّه كان يسكب على ابن عمر الماء، فيغسل رجليه، وهذا أصحُّ؛ لأنَّ راوي المنع رجل اسمه أيفع، وهو مجهول، والحديث عن عليٍّ لا يصحُّ؛ لأنَّ رواية النضر بن منصور عن أبي الجنوب عنه، وهما غير حجة في الدين، ولا يعتد بنقلهما، قال البزار: (لا نعلمه يروى عن النبي عليه السلام إلا من حديث النضر عن أبي الجنوب عقبة بن علقمة)، وتمام الحديث أخرجه البزار وأبو يعلى من طريق النضر بن منصور، عن أبي الجنوب قال: رأيت عليًّا يستقي الماء لطَهوره، فبادرت أستقي له، فقال: مه يا أبا الحسن؛ فإني رأيت رسول الله عليه السلام يستقي الماء لوضوئه، فبادرت أستقي له، فقال: «مه يا علي؛ فإني لا أريد أن يُعينني على وضوئي أحد»، وقال الطبري: صح عن ابن عباس أنَّه صب على يد عمر رضي الله عنهما الوضوء بطريق مكة حين سأله عن اللتين تظاهرتا، وقيل: صبُّ ابن عباس على يدي عمر أقرب للمعونة من استقاء الماء، ومُحال أن يمنع عمر رضي الله عنه استقاء الماء، ويُبيح صبَّ الماء عليه للوضوء مع سماعه من النبي عليه السلام الكراهة لذلك، ولقائل أن يقول: أسامة تبرع بالصب، وكذا غيره من غير أمره عليه السلام لهم، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(فقلت: يا رسول الله؛ أتصلي؟)؛ أي: في هذا المكان أو في هذا الوقت؟ (فقال) وفي رواية: (قال)؛ بإسقاط الفاء؛ أي: قال النبي الأعظم عليه السلام: (المُصلَّى)؛ بضم الميم وتشديد اللام المفتوحة؛ أي: مكان الصلاة (أَمامَك)؛ بفتح الهمزة وفتح الميم الثانية؛ لأنَّه ظرف خبر (المصلي)؛ أي: قدَّامك، قال ابن بطال: واستدل المؤلف من صب الماء عليه: أنه يجوز للرجل أن يُوَضِّئَه غيره؛ لأنَّه لما لزم المتوضئ اغتراف الماء من الإناء بأعضائه؛ جاز له أن يكفيه ذلك غيرُه بدليل صب أسامة، والاغتراف بعض أعمال الوضوء، فلذلك تجوز سائر أعماله، وهذا من باب القربات التي يجوز أن يعملها الرجل من غيره بخلاف الصلاة، ولما أجمعوا على أنه جائزٌ للمريض أن يُوَضِّئَه غيرُه ويُيَمِّمَه إذا لم يستطع ولا يجوز أن يصلي عنه إذا لم يستطع؛ دلَّ على أن حكم الوضوء بخلاف حكم الصلاة.
قال في «عمدة القاري»: ولم يبين المؤلف في هذه المسألة الجواز ولا عدمه، لكن لما عقد هذا الباب وترجم له؛ يعلم منه جواز ذلك، وإن لم يصرح به، وقال ابن المنير: قاس المؤلف تَوْضِئَةَ الرجل غيره على صبِّه عليه؛ لاجتماعهما في الإعانة، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا قياس بالفارق، والفرق ظاهر.
قلت: وحَمْلُه الترجمة على غسل الأعضاء ليس بلازم؛ لجواز أن يراد بها الاستعانة في الصب على المتوضِّئ، ولهذا قال النووي:
%ص 149%
(وفي الحديث دليل على جواز الاستعانة في الوضوء، وهي على ثلاثة أقسام؛ أحدها: في إحضار الماء، فهذا لا كراهة فيه، والثاني: في غسل الأعضاء، فيستعين في غسلها ويباشر الأجنبي بنفسه غسل الأعضاء، فهذا مكروه إلا لحاجة، والثالث: أن يصب عليه، فهذا مكروه في أحد الوجهين، والأولى تركه).
واعترضه الكرماني: (بأن فيه حزازة؛ لأنَّ ما فعله عليه السلام لا يقال فيه: الأولى تركه؛ لأنَّه عليه السلام لا يتحرى إلا ما فِعلُه أولى، وإذا قلنا: الأولى تركه، كيف ينازع في كراهته وليس حقيقة المكروه إلا ذلك؟!) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ المكروه في حقِّنا لا يكره فعله في حق النبي الأعظم عليه السلام، كما صرحوا به؛ لأنَّه يفعله؛ لبيان الجواز، وهو واجب في حقِّه، بقي أن قوله: (وإذا قلنا: الأولى تركه ... إلخ) هذا حقيقة المكروه تنزيهًا لا المكروه تحريمًا؛ لأنَّ مرجعَ كراهة التنزيه خلافُ الأولى، كما في «فتح القدير»؛ فافهم، وأما قوله: (من أنَّ الاستعانة في إحضار الماء لا كراهة فيها) ينافيه أنَّه خلاف الأولى والأفضل تركه؛ فليحفظ.
وأمَّا ما روي مرفوعًا: «أنا لا أستعين في وضوئي بأحد»، وأنَّه قاله عليه السلام لعمر لما بادر لصَبِّ الماء عليه؛ فقال في «شرح المهذب»: (إنه حديث باطلٌ لا أصل له)، وقال في «عمدة القاري»: ذكره الماوردي في «الحاوي» بسياق آخر، فقال: رُوي أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه همَّ بصبِّ الماء على يد النبيِّ عليهالسلام، فقال: «إني لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد»، وهذا الحديث لا أصل له، والذي وقع على زعم الراوي كان لعمر دون أبي بكر رضي الله عنهما، ثم قال: فإن قلت: هل يجوز أن يستدعي الإنسان الصَّبَّ من غيره بأمره؟ قلت: نعم يجوز؛ لما روى الترمذي محسنًا من حديث ابن عقيل عن الرُّبيِّع قال: أتيت رسول الله عليه السلام بميْضَأَة، فقال: «اسكبي»؛ فسكبت، فذكرَتْ وضوءه عليه السلام، ورواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: لم يحتج المؤلف بابن عقيل، وهو مستقيم الحديث متقدم في الشرف [1]، وروى ابن ماجه بسند صحيح على شرط ابن حبان من حديث صفوان بن عسال قال: «صببت على النبي عليه السلام الماء في السفر والحضر في الوضوء»، وعنده أيضًا بسند معلل عن أم عياش، وكانت أمَة لرقية بنت النبي عليه السلام قالت: «كنت أوضِّئ النبي عليه السلام أنا قائمة وهو قاعد»، وممن كان يستعين على وضوئه بغيره [2] من السلف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال الحسن: رأيته يُصَبُّ عليه من إبريق، وفعله عبد الرحمن بن أبزى، والضحاك بن مزاحم، وقال أبو الضحى: لا بأس للمريض أن يوضئه الحائض، قلت: ومثلها النفساء والمستحاضة، فهذا دليل واضح على أن الاستعانة بغيره غير مكروهة سواء كانت بالصب أو ببقية غسل الأعضاء، وإن كان الأفضل تركها، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بعشرة)، ولعله تحريف عن المثبت.
==================
[1] في الأصل: (الرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/323)
[حديث: كان مع رسول الله في سفر وأنه ذهب لحاجة له]
182# وبه قال: (حدثنا عَمرو بن عَلي)؛ بفتح العين فيهما، الفلاس، أبو الفضل، الصيرفي الباهلي البصري، المعروف جدُّه بالسَّقَّاء، المتوفى بالعسكر أو بسر من رأى سنة تسع وأربعين ومئتين (قال: حدثنا عبد الوهاب)؛ هو ابن عبد المجيد الثقفي البصري، المتوفى سنة أربع وتسعين ومئة عن ثمانين سنة (قال: سمعت يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين المهملة، الأنصاري التابعي (قال: أخبرني) بالإفراد (سعْد) بسكون العين، (بن إبراهيم)؛ هو ابن عبد الرحمن بن عوف القرشي التابعي، قاضي المدينة المتوفى بها سنة سبع وعشرين أو خمس وعشرين عن اثنتين وسبعين سنة: (أنَّ نافع بن جُبير) بضم الجيم والتصغير (بن مُطْعِم)؛ بضم الميم، وسكون الطاء، وكسر العين المهملتين، النوفلي التابعي المدني، المتوفى بالمدينة سنة تسع وتسعين (أخبره)؛ أي: أخبر نافعٌ سعدًا: (أنه سمع عروة بن المُغيرة بن شعبة) الثقفي الكوفي (يحدث عن المُغيرة)؛ بضم الميم وكسرها، أبو عروة المذكور (بن شعبة) الصحابي المشهور، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة الكوفة، توفي سنة خمسين على الصحيح، و (المغيرة) باللام مثل (الحارث) في أنه علَم يدخله اللام للتعريف على سبيل الجواز لا مثل (النجم) للثريا، فإن التعريف باللام لازم فيه، ودخلت اللام في مثل (المغيرة)؛ لإفادة لمح الوصفية، أفاده في «عمدة القاري»: (أنه) أي: المغيرة (كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأدَّى عروة كلام أبيه بعبارة نفسه، وإلا فكان يقتضي أن يقول: (قال أبي: كنت) (في سفر)؛ أي: مصاحبًا له في تلك السفرة، (وأنه) عليه السلام (ذهب لحاجة له) عليه السلام؛ أي: للبول أو للغائط، (وأن مغيرة) وفي رواية: (وأن المغيرة)؛ باللام التي للَّمح، فأدى عروة كلام أبيه بعبارة نفسه، كما سبق (جعل)؛ أي: طفق، من أفعال المقاربة (يصبُّ الماءَ عليه) وفي رواية بإسقاط لفظ: (الماء) الذي هو مفعول (يصب)، لكن القرينة دالة عليه، وإنما أتى بلفظ المضارع؛ إشعارًا لحكاية الحال الماضية، ولو كان عروة يريد حكايةً للفظ أبيه؛ لقال: (وإني جعلت أصبُّ)، ولو لم يراع الحكاية؛ قال: (وإن أبي)، قلت: ولعلَّ فيه التفاتًا على رأي السكاكي؛ فتأمل.
(وهو)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (يتوضأ) جملة اسمية وقعت حالًا، (فغسل وجهه ويديه)؛ بالتثنية، والفاء فيه هي الفاء التي تدخل بين المجمل والمفصَّل؛ لأنَّ المفصَّل كأنه يعقب المجمل؛ كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: {فَإِن فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]؛ لتفصيل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} [البقرة: 226]، وإنما قال: (فغسل) بلفظ الماضي، ولم يقل بلفظ المضارع المناسب للفظ: (يتوضأ)؛ لأنَّ الماضي هو الأصل، وعدل في (يتوضأ) إلى المضارع؛ حكاية عن الحال الماضية.
(ومسح برأسه ومسح على الخفين) إنَّما ذكر في الأول حرف الإلصاق؛ لأنَّه الأصل، وفي الثاني بكلمة (على)؛ نظرًا للاستعلاء، كما يقال: مسح إلى الكعب؛ نظرًا إلى الانتهاء، بحسب المقاصد تختلف صلات الأفعال، وإشارة إلى أن المسح إنَّما يكون على أعلى الخفين لا على جوانبه ولا على أسفله، وقد قال علي رضي الله عنه: (لو كان الدين بالرأي؛ لكان المسح على الخفين على أسفله لا على أعلاه)، وإنما كرر لفظ (مسح)، ولم يكرر لفظ (غسل)؛ لأنَّه يريد بذكر المسح على الخفين بيان تأسيس قاعدة شرعية، فصرَّح استقلالًا بالمسح عليهما، بخلاف قضية الغسل، فإنها مقررة بنص القرآن، ففيه جواز الاستعانة بغيره في الوضوء، لكن من ادَّعى أن الكراهة مختصة بغير المشقة والاحتياج؛ لا يتم له الاستدلال بهذا الحديث؛ لأنَّه كان في السفر، وفيه: أن من الأدب خدمة الصغير للكبير، ولو كان لا يأمر بذلك، كذا في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
وفي يوم الجمعة يوم السادس عشر محرَّم سنة سبع وسبعين ومئتين وألف، قد ضاق حال الناس أشد الضيق، وسُكِّرت أبواب البلد بسبب قتل النصارى وأخذ أموالهم، فأتى للشام فؤاد باشا ناظر الخارجية، وعبد الحليم باشا سر عسكر، ومحمد معمر باشا والي البلد، ومحمد أفندي قاضي الروملي؛ لأجل هذه المصلحة، فأمروا بمسك كل من أتى لهم بأموال من النصارىوحبسوه، ولا ندري ما يفعل به، ونسأل الله الحنان المنان أن يرفع هذه الشدة، ويفرج هذه الرزية العظيمة التي تذوب منها الأكباد يا ستار.
وفي ليلة الرابع عشر من تلك الشهر والسنة كسف القمر بين العشاءين، وكان في تموز، وفي أول تموز كسفت الشمس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولو أوفينا الكلام؛ لبلغ مجلدات كثيرة، والله المستعان.
==========
%ص 150%
==================
(1/324)
(36) [باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره]
هذا (باب) جواز (قراءة القرآن) العظيم (بعد الحدث)؛ أعم من الأصغر والأكبر؛ لأنَّه المراد منهما عند الإطلاق، وأمَّا قراءة القرآن بعد الأصغر؛ فتجوز دون الأكبر، وقال ابن حجر وتبعه العجلوني: (إن المراد بالحدث: الأصغر فقط)، ولا وجه لذلك؛ لأنَّه إن أراد أن المؤلف تعرض هنا إلى حكم القراءة بعد الأصغر دون الأكبر؛ فممنوع؛ لأنَّ عادة المؤلف أنه يُبَوِّبَ الباب بترجمة، ثم يذكر جزءًا مما يشتمل عليه تلك الترجمة،
%ص 150%
وههنا كذلك، فإن المؤلف ذكر أولًا تعليق منصور وحماد، وكل واحد منهما يدل صريحًا على الحدث الأكبر، والحديث بعده يدل على الحدث الأصغر، فتفسير الحدث بالأكبر والأصغر مُتَعيِّن؛ لأنَّه المراد للمؤلف، فمن خصَّصه بالأصغر؛ فلم يُصِبْ؛ فافهم، (وغيره)؛ بالجر؛ عطفًا على لفظ: (القرآن)، وبالنصب؛ عطفًا على محله، فضمير (وغيره) يرجع إلى (القرآن)، والمراد بـ (غيره): مثل كتابة القرآن، وهو شامل للقولي والفعلي؛ يدل لذلك تعليق المؤلف قول منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي، فإنَّه مشتمل على القسمين؛ أحدهما: قراءة القرآن بعد الحدث، والثاني: كتابة الرسائل في حالة الحدث، كذا قرره العلَّامة في «عمدة القاري»، وجرى عليه الشارح القسطلاني.
وأمَّا قول الكرماني: («وغيره»: أي: نحو السلام وسائر الأذكار)، وتبعه العجلوني؛ فغير صحيح، واللفظ لا يقتضيه، ويدلُّ لذلك أنَّ المحدث إذا جاز له قراءة القرآن؛ فالسلام وسائر الأذكار تجوز له بالطريق الأولى، فالتمثيل غير متجه، وفساده ظاهر.
وأمَّا قول ابن حجر: («وغيره»: أي: من مظان الحدث)؛ فليس بشيء؛ لأنَّ عود الضمير لا يصح إلا إلى شيء مذكور لفظًا أوتقديرًا بدلالة القرينة اللفظية أو الحالية، على أنَّه لم يبيِّن ما مظان الحدث؟ ومظنة الحدث على نوعين؛ أحدهما مثل الحدث، والآخر ليس مثله، فإن كان مراده النوع الأول؛ فهو داخل في قوله: (بعد الحدث)، وإن كان الثاني؛ فهو خارج عن الباب، فإذن لا وجه لما قاله على ما لا يخفى، كذا قرره في «عمدة القاري»، وجرى عليه الشارح القسطلاني، فما قاله العجلوني محاولة، وتعصب، وخروج عن الظاهر، فلا حاجة في الاشتغال بردِّه.
(وقال منصور): هو ابن المعتمر السلمي الكوفي، (عن إبراهيم): هو ابن يزيد النخعي الكوفي الفقيه، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة، وروى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور مثله؛ فافهم: (لا بأس بالقراءة) للقرآن (في الحمَّام)، وروى سعيد بن منصور أيضًا، عن محمد بن أبان، عن محمد بن أبي سليمان قال: سألت إبراهيم عن القراءة في الحمَّام، فقال: يكره ذلك، فما في المتن يدلُّ على عدم الكراهة، فظهر أنَّ عن إبراهيم روايتان؛ في رواية: يكره، وفي رواية: لا يكره لكن تركه أَوْلى؛ لأنَّه عبَّر بقوله: (لا بأس)، وهي تستعمل فيما تركه أَوْلى، وإنما ذكر المؤلف الأثر الذي فيه ذكر الحمَّام، والتبويب أعمُّ منه؛ لأنَّ الغالب أنَّ أهل الحمام أصحاب الأحداث الكبار، والغالب كالمتحقق، واختلفوا في ذلك؛ فعن الإمام الأعظم: أنه يكره قراءة القرآن في الحمام، وعن الإمام محمد بن الحسن: أنه لا يكره، وبه قال مالك، وإنما كره الإمام الأعظم قراءة القرآن في الحمام؛ لأنَّه محلُّ مجتمع الأقذار من النجاسات، وكشف العورات، والأغسال، والمياه المستعملة، فإن الماء المستعمل عند الإمام الأعظم نجس، ولا شك أن القرآن ينبغي أن يقرأ في مكان طاهر، خالٍ عن النجاسات، وأوساخ الناس، ساتر العورة، مستقبل القبلة، وهذا كله غير موجود في الحمَّام، فلذا كرهه الإمام الأعظم، وهو الذي يدلُّ عليه كلام إبراهيم المذكور؛ فافهم، على أنَّه روى ابن المنذر عن علي رضي الله عنه قال: (بئس البيت الحمَّام، ينزع فيه الحياء، ولا يقرأ فيه آية من كتاب الله)، فهذا يدل على الكراهة أيضًا؛ لما ذكرناه.
وهذا إذا قرأ داخل الحمام محل الاغتسال، أمَّا لو قرأ القرآن في خارج الحمَّام في محل خلع الثياب؛ فإنَّه لا كراهة في ذلك؛ لعدم شيء ممَّا ذُكِر، ومثل القراءة الصلاة، فإنها في محل الاغتسال تُكرَه، وفي محل خلع الثياب لا تُكرَه، والله تعالى أعلم.
(وبكَتب)؛ بالموحدة وفتح الكاف (الرسالة) فإنَّ (الكتب) مصدر دخلت عليه الباء الموحدة حرف الجر، وهو معطوف على قوله: (لا بأس بالقراءة)، والتقدير: ولا بأس بكتب الرسالة (على غير وضوء)؛ وفي رواية: (ويكتب الرسالة) على صيغة المجهول من المضارع، والوجه الأول أوجه، وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن الثوري أيضًا عن منصور قال: سألت إبراهيم: أأكتب الرسالة على غير وضوء؟ قال: نعم، كذا في «عمدة القاري» مع أنَّ الغالب تصديرها؛ بنحو: البسملة، والحمدلة، والصلاة على رسوله عليه السلام، على أنَّه الحروف كلها وحدها معظَّمة، وهي قرآن أنزل على سيدنا هود عليه السلام، كما صرَّحوا به؛ فلا وجه لما قاله بعض الشافعية: من أنَّه يجوز الاستنجاء بالتوراة والإنجيل؛ لأنَّها محرَّفة ومتبدِّلة، ولا يخفى أنَّ هذا مجازفة، ألا ترى أنهم هل علموا ذلك بنصٍّ قاطع أنَّهم بدَّلوها عن آخرها، ولا يقول ذلك إلا مبتدع ومخالف للحق؛ فافهم.
وزعم ابن حجر بأنَّ قوله: (على غير وضوء) يتعلق بالكتابة لا بالقراءة في الحمام.
وردَّه في «عمدة القاري»: (بأنَّا لا نسلِّم ذلك، فإن قوله: «ويكتب الرسالة» على الوجهين متعلق بالقراءة، وقوله: «على غير وضوء» يتعلق بالمعطوف والمعطوف عليه؛ لأنَّهما كالشيء الواحد) انتهى، وقد جرى عليه القسطلاني والعجلوني؛ لأنَّ ذلك متعين؛ لظهور المعنى، وما قاله ابن حجر غير ظاهر المعنى، فهو ممنوع؛ فافهم، فيكره للجُنُب أو الحائض أن يكتب الكتاب الذي في بعض سطوره آية من القرآن، وإن كانا لا يقرأان شيئًا؛ لأنَّهما منهيَّان عن مسِّ القرآن، وفي الكتابة يحصل المس؛ لأنَّه يكتب بقلمه، وهو في يده، وهو مسٌّ صورة، وفي «المحيط»: لا بأس لهما بكتابة المصحف إذا كانت الصحيفة على الأرض عند الإمام أبي يوسف؛ لأنَّه لا يمسُّ القرآن بيده، وإنما يكتب حرفًا حرفًا، وليس الحرف الواحد بقرآن، وقال الإمام محمد: (أَحبُّ إليَّ ألَّا يكتب؛ لأنَّه في الحكم مباين للحروف، وهي بكلِّيتها قرآن)، وبه أخذ علماء بخارى، كذا في «الذخيرة البرهانية»، وقد أوضحناه في «منهل الطلاب»؛ فليحفظ.
قال في «التبيين»: (ويكره للجنب أو الحائض أو النفساء أن يكتبوا كتابًا فيه آية من القرآن؛ لأنَّه يكتب بالقلم وهو في يده، كذا في «الفتاوى السمرقندية»، وذكر الإمام أبو الليثأنَّه لا يكتبه، وإن كانت الصحيفة على الأرض، ولو كان مادون الآية، وذكر الإمام القدوري أنَّه لا بأس به إذا كانت الصحيفة على الأرض، وهو قول الإمام أبي يوسف) انتهى، وقال الإمام محمد: (أحب إلي ألَّا يكتب؛ لأنَّه في حكم الماسِّ للقرآن)، كما في «الحلية» عن «المحيط»، قال في «فتح القدير»: (وقول الإمام أبي يوسف أَقْيَس؛ لأنَّها إذا كانت على الأرض كان مسُّها بالقلم، وهو واسطة منفصلة، فكان كثوب منفصل، إلا أن يكون يمسه [1] بيده) انتهى.
قال في «شرح المنية»: (وينبغي التفصيل؛ فإن كان لا يمس الصحيفة بأن وضع عليها ما يحول بينها وبين يده؛ يؤخذ بقول الإمام أبي يوسف؛ لأنَّه لم يمس المكتوب ولا الكتاب، وإلَّا؛ فبقول الإمام محمد؛ لأنَّه إن لم يمس المكتوب؛ فقد مسَّ الكتاب) انتهى، ومشى على هذا التفصيل في «الدر المختار»، ولا يخفى أنَّ هذا مأخوذ مما ذكرنا عن «فتح القدير»، ووفَّق بعضهم بين القولين بما يرفع الخلاف بحمل قول الإمام أبي يوسف على الكراهة التحريمية، وقول الإمام محمد على التنزيهية بدليل قوله: (أحب إليَّ ... ) إلخ؛ فتأمل، كذا في «منهل الطلاب».
(وقال حماد) بالحاء المهملة، هو ابن سليمان، فقيه الكوفة، وشيخ الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنهما، المتوفى سنة ست وعشرين ومئة، (عن إبراهيم)؛ أي: النخعي مما وصله الثوري في «جامعه»، مجيبًا لمن سأله عن حكم السلام على من كان في الحمام متجرِّدًا عن الثياب، فقال: (إن كان عليهم) أي: على من أردت السلام عليهم وهم في الحمام (إزار): هو ما يلبس في النصف الأسفل يذكَّر ويؤنَّث، والمراد أنهم إن كانوا ساترين العورة من السرة إلى الركبة؛ (فسلَّم عليهم)، وفي رواية: إسقاط لفظ: (عليهم)، وهي مرادة لا بدَّ من تقديرها؛ فافهم، (وإلا)؛ أي: وإن لم يكن عليهم إزار؛ (فلا تسلم)؛ أي: عليهم إهانة لهم؛ لكونهم على بدعة، أو لكون السلام يستدعي ذكر السلام الذي هو من أسمائه تعالى مع وقوعه في القرآن العظيم، ولاشتغالهم بالاغتسال، وغسل النجاسة والاستنجاء، وقيل: لأنَّه مأوى الشياطين، ومفاده: أنَّه لا يسلَّم على من في السوق؛ لأنَّه محل الشياطين، لكنه يسنُّ السلام على من كان فيه، ويلزمهم الردُّ، وأمَّا ما رواه مسلم عن ابن عمر من كراهة ذكر الله تعالى
%ص 151%
بعد الحدث؛ فليس على شرط المؤلف.
وزعم ابن حجر أنَّ قوله: («إن كان عليهم»؛ أي: على من في الحمام، والمراد: الجنس) تعقَّبه في «عمدة القاري»: بأنَّ هذا عام يتناول القراءة فيه، والقاعدين في ثيابهم في مسلخ الثياب، فكيف يطلق كلامه على من في الحمام على سبيل العموم؟! والسلام على القاعدين بثيابهم لا خلاف في جوازه، انتهى.
وأجاب القسطلاني: (بأن المسلخ وإن أطلق عليه اسم الحمام؛ فمجاز، والحمام في الحقيقة: ما فيه الماء الحميم) انتهى.
واعترض: بأن الحمام الآن اسم لما فيه الماء الحميم ولمكان خلع الثياب؛ وهو المسلخ حقيقة عرفية، ألا ترى أنَّ الرجل إذا دخل مسلخ الحمام، وسألته أين كنت؟ فيقول: في الحمام، على الإطلاق، فالحمام في الحقيقة العرفية اسم للمسلخ ولما فيه الماء الحميم على العموم، والحقيقة اللغوية مهجورة، فجواب القسطلاني مردودعليه؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (مسته)، وهو تحريف.
==================
(1/325)
[حديث ابن عباس: أنه بات ليلة عند ميمونة]
183# وبه قال: (حدثنا إسماعيل): هو ابن [أبي] أويس الأصبحي (قال: حدثني) بالإفراد (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، خال إسماعيل، (عن مَخْرَمة) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الرَّاء (بن سليمان) الوالبي المدني، (عن كُرَيب) بضم الكاف، وفتح الرَّاء، آخره موحدة (مولى ابن عباس) التابعي: (أن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما، والإسناد كله مدنيون (أخبره)؛ أي: أخبر ابنُ عباس كريبًا: (أنَّه) أي: ابن عباس (بات ليلة عند ميمونة زوج النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وجملة قوله: (وهي) أي: ميمونة (خالته)؛ أي: خالة ابن عباس أخت أمه؛ حالية، والظاهر: أنها من كلام كريب، (فاضطجعت)؛ أي: وضعت جنبي على الأرض، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: (اضطجع) بصورة الماضي الغائب، كما قال: (بات)، أو قال: (بتُّ)، كما قال: (فاضطجعت) بصورة المتكلم فيهما، ولكنَّه قصد بذلك التفنن في الكلام، وهو نوع من أنواع الالتفات، والقاصد لذلك كريب؛ لأنَّه الذي نقل كلام ابن عباس، والظاهر: أن اختلاف العبارتين من ابن عباس ومن كريب؛ لأنَّ كريبًا أخبر أولًا عن ابن عباس: (أنه بات ... ) إلخ، ثم أضمر لفظة: (قال) قبل (فاضطجعت)، فيكون الكلام على أسلوب واحد، كذا في «عمدة القاري»، (في عَرْض)؛ بفتح العين المهملة وسكون الرَّاء، كما في «الفرع»، وهو المشهور، وقال السفاقسي: (ضمُّ العين غير صحيح، ورويناه بفتحها عن جماعة)، وفي «المطالع»: (الفتح عند أكثر مشايخنا، ووقع عند جماعة؛ منهم: الداودي والطرابلسي والأصيلي: بضم العين)، قال في «عمدة القاري»: والأول أظهر، وقال النووي: هو الصحيح، وأنكر الباجي الضم، وهو مردود؛ لثبوت الرواية به عن جماعة، كما علمت، (الوسادة): المخدة، وهو ما يتوسَّد به عند النوم، وهو المتكأ، كما في «الصحاح» و «المجمل» وغيرهما، وزعم ابن التين أنَّ (الوساد): الفراش الذي ينام عليه، وهو باطل؛ كما قاله في «عمدة القاري» عن النووي.
(واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله) أي: زوجته أم المؤمنين ميمونة (في طولها)؛ أي: الوسادة، وهذا يقتضي: أن يكون عرض الوسادة محلًّا لاضطجاع ابن عباس؛ فتأمل.
(فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى)؛ للغاية؛ أي: إلى أن (انتصف)، وفي رواية: (حتى إذا انتصف) (الليل أو قبله) أي: قبل انتصافه (بقليل أو بعده)؛ أي: بعد انتصافه، (بقليل استيقظ)؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في رواية، فإن جعلت (إذا) ظرفية؛ فقوله: (أو قبله) ظرف لقوله: (استيقظ)؛ أي: استيقظ وقت انتصاف الليل أو قبل انتصافه، و (أو) للتشكيك، وإن جعلت (إذا) شرطية؛ فيكون (قبله) متعلقًا بفعل مقدر، و (استيقظ): جواب الشرط، والتقدير: حتى إذا انتصف الليل أو كان قبل الانتصاف؛ استيقظ، كذا في «عمدة القاري».
(فجلس) عليه السلام، وفي رواية: (فجعل) (يمسح النوم) ففي الأول: يكون (يمسح) التي هي جملة من الفعل والفاعل محلها النصب على الحال من الضمير في (فجلس)، وفي الثاني: تكون الجملة خبرًا لقوله: (فجعل)؛ لأنَّه من أفعال المقاربة، ومسح النوم من العينين من باب إطلاق اسم الحال على المحلِّ؛ لأنَّ المسح لا يقع إلا على العينين، والنوم لا يمسح، كذا في «عمدة القاري»، (عن وجهه بيده)؛ بالإفراد، والمراد: الجس؛ أي: يمسح بيديه، وزعم ابن حجر أن المراد: يمسح أثر النوم من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، قال في «عمدة القاري»: أثر النوم من النوم؛ لأنَّه نفسه، فكيف يكون من هذا الباب؟! انتهى، وأجاب القسطلاني وتبعه العجلوني: بأن الأثر: ارتخاء الجفون من النوم، انتهى، قلت: وما أجابا به هو عين الاعتراض، فإنَّ ارتخاء الجفون لا ريب أنَّه من النوم؛ لأنَّه نفسه، فقد أثبتا الاعتراض المذكور، على أنَّ ارتخاء الجفون لا يقال له: أثر؛ لأنَّ النوم فترة طبيعية لا أثر لها، وأمَّا ارتخاء الجفون والاضطجاع ونحوه؛ إنَّما هي هيئات وصفات لحصول تلك الفترة، ألا ترى أن بعض الناس ينامون وأعينهم مفتوحة، وبعض البهائم كذلك؛ فافهم.
ثم قال العجلوني معترضًا على صاحب «عمدة القاري»: (بأنه إذا كان النوم من العينين؛ كيف يلتئم مع قوله «عن وجهه»؟!).
قلت: وهو ظاهر الالتئام، فإنَّ العينين في الوجه، وهو كالظرف لهما، فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض؛ لأنَّ النوم غالبًا لا يظهر إلا من العينين، فما قاله العجلوني مردود عليه؛ فافهم.
(ثم قرأ) عليه السلام (العشر الآيات)؛ بإضافة العشر إلى الآيات، ويجوز دخول لام التعريف على العدد عند الإضافة؛ نحو: (الثلاثة الأبواب)، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، كذا في «عمدة القاري» (الخواتيمَ)؛ أي: الأواخر، بالنصب؛ لأنَّه صفة (العشر)، وهو جمع خاتمة (من سورة آل عمران)، وهي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي: لذوي العقول {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًاوَعَلَى جُنُوبِهِمْ}، والمراد به: الإكثار من ذكر الله عزَّ وجلَّ، ففي الحديث: «من أحبَّ أن يرتع في رياض الجنة؛ فليكثر ذكر الله»، وفي حديث آخر: «إذا مررتم برياض الجنة؛ فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر»، فلا دلالة فيه للشافعي في أنَّ المريض يصلي مضطجعًا؛ لأنَّ المراد من الآية: ذكر الله عزَّ وجلَّ، لا الصلاة، فإن قوله: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}؛ أي في حال اضطجاعهم للنوم، ويدلُّ لذلك قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، والتفكُّر في ذلك لا يكون في حال الصلاة، وإنما يطلب فيها الخشوع والخضوع لله عزَّ وجلَّ، ويدل لذلك قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فهو دليلٌ ظاهر على أن المراد: التفكر خارج الصلاة حال الاضطجاع للنوم، فإنه يتفكر في النجوم التي في السماء، ويتفكَّر في ظلمة القبر، وعذاب النار، وغير ذلك، ويدلُّ له قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ*رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} المراد به: النبي الأعظم عليه السلام {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ*رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ*فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ*لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا [فِي الْبِلَادِ] * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ* لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ الله
%ص 152%
وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ*وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِله لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواِ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواِ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 190 - 200]، وتفسير ذلك يطلب من «تفسير أبي السعود» و «الزمخشري»، والله تعالى أعلم.
(ثم قام) عليه السلام (إلى شِنٍّ)؛ بكسر الشين المعجمة وتشديد النُّون، وهو وعاء الماء إذا كان من أدم فأَخْلَق، وجمعه شِنان؛ بكسر المعجمة، (معلقة)؛ بالجرِّ، صفة (شن)، وقد سبق هذا الحديث في باب (التخفيف)، وذكر فيه مالفظه: (فتوضَّأ من شنٍّ معلَّق وضوءًا خفيفًا)؛ بتذكير وصف: (شن) وتوصيف الوضوء بالخفة، وهنا أنَّث الوصف؛ حيث قال: (معلقة)، وقال: (فتوضأ منها) أي: من الشن، (فأحسن وضوءه) والمراد به: الإتمام والإتيان بجميع مندوباته، فما وجه الجمع بينهما؟ أجاب في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: الشَّنُّ: يذكَّر ويؤنَّث، فالتذكير باعتبار لفظه أو باعتبار الأدم أو الجلد، والتأنيث باعتبار القربة، وإتمام الوضوء لا ينافي التخفيف؛ لأنَّه يجوز أن يكون أتم بجميع مندوباته مع التخفيف، أو هذا كان في وقت، وذاك في وقت) انتهى، فافهم.
(ثم قام يصلي) عليه السلام (قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع): النبي الأعظم عليه [السلام]؛ أي: توضأت نحوًا مما توضأ، كما صرح به في باب (التخفيف)، ويحتمل أن يريد به أعم من ذلك، فيشمل النوم حتى انتصاف الليل، ومسح العينين من النوم، وقراءة العشر الآيات، والقيام إلى الشن، والوضوء، وإحسانه، كذا في «عمدة القاري».
(ثم ذهبت فقمت إلى جنبه) عليه السلام؛ أي: الأيسر، (فوضع) أي: النبي الأعظم عليه السلام (يده اليمنى على رأسي؛ فأخذ) أي: ثم أخذ (بأُذْني)؛ بضم الهمزة وسكون الذال المعجمة (اليمنى)؛ أي: بعد أن دارني، وجملة قوله: (يفتلها)؛ أي: يدلكها ويعركها حال أو خبر (أخذ)، ولم يكن فتله لأذنه إلا لأجل أنَّه لما وقف بجنبه اليسار؛ أخذ أذنه وعركها وأداره إلى يمينه، وما قاله القسطلاني والعجلوني: من أنَّه لأجل التأنيس له عليه السلام؛ لكون ذلك كان ليلًا؛ فيه نظر؛ لأنَّه عليه السلام لا يستوحش وحده؛ لكونه دائمًا بمراقبة ربه عز وجل، وإذا لم يكن ابن عباس موجودًا عنده؛ بمن كان يستأنس؟! فما قالاه مردود عليهما؛ فافهم.
(فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين)، فلفظ (ركعتين) مكرر ست مرات، فيكون المجموع اثنَتيْ عشرة ركعة، ففيه دليل للإمام أبي يوسف والإمام محمد، وهو رواية عن الإمام الأعظم: أن صلاة الليل مثنى مثنى، (ثم أوتر)؛ أي: بثلاث ركعات لا بواحدة؛ لأنَّه قد ورد: النهي عن البتيراء؛ وهو التنفل بركعة واحدة، وهو حجة على الشافعي، كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى، وهذا تقييد وتفسير للمطلق الذي ذُكٍر في باب (التخفيف) حيث قال هناك: (فصلى ما شاء الله تعالى)، (ثم اضطجع) عليه السلام؛ أي: نام حتى نفخ، كما صرح به في باب (التخفيف) (حتى) أي: إلى أن (أتاه المؤذن)؛ أي: بلال رضي الله عنه؛ أي: فأيقظه وأعلمه بالصلاة، (فقام) عليه السلام (فصلى ركعتين خفيفتين)، وهما سنة الصبح، (ثم خرج)؛ أي: من الحجرة إلى المسجد، (فصلى الصبح)؛ أي: فرضه بأصحابه رضي الله عنهم، ففيه: دليل على استحباب قيام الليل، والصلاة فيه وقراءة الآيات المذكورة بعد الانتباه من النوم، وعلى تخفيف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح مع مراعاة أدائها، وعلى جواز عرك أذن الصغير؛ لأجل التأديب، وعلى استحباب مجيء المؤذن إلى الإمام وإعلامه بإقامة الصلاة، وعلى جواز الاضطجاع عند المَحْرَم وإن كان زوجها عندها، وعلى استحباب إقامة المقتدي على يمين الإمام، وعلى استحباب أداء السنن في البيت والفرائض في المسجد، وقال ابن بطال: (فيه دليل على ردِّ من كره قراءة القرآن على غير طهارة لمن لم يكن جنبًا، وهي الحجة الكافية؛ لأنَّه عليه السلام قرأ العشر الآيات بعد قيامه من النوم قبل الوضوء)، واعترضه الكرماني: (بأنه ليس ذلك حجَّة كافية؛ لأنَّ قلبه عليه السلام لا ينام ولا ينتقض وضوءه به)، وتبعه ابن المنير، ثم قال: (وأمَّا كونه توضأ عقيب ذلك؛ فلعلَّه جدَّد الوضوء، أو أحدث بعد ذلك فتوضأ)، واستحسن ابن حجر كلامه بالنسبة إلى كلام ابن بطال حيث قال: (بعد قيامه من النوم)، ثم قال: (لأنَّه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لمَّا عقَّب ذلك بالوضوء؛ كان ظاهرًا في كونه أحدث، أو لا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه ألَّا يقع منه حدث وهو نائم، نعم؛ إن وقع؛ شعر به، بخلاف غيره، وما ادَّعوه من التجديد وغيره؛ الأصل عدمه) انتهى.
واعترضه في «عمدة القاري» كما هي عادته في بيان ما هو الصواب؛ حيث قال: (قلت: وقوله: «لا يلزم من كون نومه ... » إلى آخره: غير مسلَّم، وكيف يمنع عدم الملازمة؟! بل يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه ألَّا يقع حدثٌ في حالة النوم؛ لأنَّ هذا من خصائصه عليه السلام، فيلزم من قول هذا القائل ألَّا يفرَّق بين نوم النبي الأعظم عليه السلام ونوم غيره، وهو ممنوع).
وقوله: «وما ادَّعوه من التجديد وغيره؛ الأصل عدمه» قال: (قلت: وهذا عند عدم قيام الدليل على ذلك، وههنا قام الدليل بأنَّ وضوءه عليه السَّلام لم يكن لأجل الحدث، وهو قوله عليه السلام: «تنام عيناي ولا ينام قلبي»، فحينئذ يكون تجديد وضوئه؛ لأجل طلب زيادة النور حيث قال: «الوضوء على الوضوء نور على نور») انتهى.
قلت: وهو كلام في غاية التحقيق:
إذا قالت حزام فصدِّقوها ... فإن القول ما قالت حزام
فليحفظ.
واعلم أن مطابقة الحديث للترجمة في قراءة القرآن بعد الحدث؛ لأنَّه عليه السلام قرأ العشر الآيات بعد قيامه من النوم قبل وضوئه، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه كيف يقال هذا ونومه عليه السلام لا ينقض وضوءه؟!
وزعم ابن حجر تبعًا للسبكي أنَّ مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن مضاجعة الأهل في الفراش لا تخلو من الملامسة، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّ هذا بعيد؛ لأنَّا لا نسلِّم ذلك على التحقيق، ولئن سلَّمنا؛ فمراده من الملامسة: اللمس باليد أو الجماع، فإن كان الأول؛ فلا نقض للوضوء أصلًا سيما في حقه عليه السلام؛ لأنَّه قد ثبت عنه عليه السلام أنَّه كان يقبِّل بعض أزواجه ثمَّ يصلي، ولم يتوضأ، كما رواه أبو داود والنَّسائي وغيرهما، وإن كان الثاني؛ فيحتاج إلى الاغتسال، ولم يوجد هذا في هذه القصة، انتهى بزيادة.
وأجاب القسطلاني وتبعه العجلوني عن الأول بأنَّ المذهب الجزم بانتقاض الوضوء بالمس باليد، انتهى.
قلت: أي: في مذهب الشافعي، وهذا ليس بجواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ لأنَّ المذهب لا يعارض الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي الأعظم عليه السلام، ومهما اجتهد الشافعي لا يصل إلى مقام المعارضة للأحاديث، فإن أجابوا بأحاديث تدل [في] ظاهرها على أن المسَّ ينقض الوضوء؛ فأحاديث عدم النقض أصحُّ وأرجح من وجوه شتَّى، على أنَّ أحاديث النقض مثبتة، وعدم النقض نافية، والقاعدة عند المحققين: أن المثبِت مقدَّم على النافي، على أنَّ أحاديث عدم النقض أقوى وطرقها عديدة؛ فهي أولى، على أنَّ الشافعي استدلَّ بالنقض بالآية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، وإجماع أهل اللغة _وهو المروي عن جميع الصحابة_ أن المراد بالمسِّ: الجماع؛ لأنَّه كناية، كما كنَّى عن قضاء الحاجة: بـ {الغائط}، فلا دليل يظهر له في ذلك، والله تعالى أعلم وأحكم.
==================
(1/326)
(37) [باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل]
هذا (باب: من لم يتوضأ)؛ أي: من لم يَرَ الوضوء (إلا من الغَشْي)؛ بفتح الغين المعجمة، وسكون الشين المعجمة، آخره ياء، يقال: غشي عليه غشية، وغشية، وغشيانًا، فهو مغشي عليه، والغشي: مرض يعرض من طول التعب والوقوف، وهو ضرب من الإغماء، إلا أنَّه أخف منه، وقد يكون من نحو مرض، وقال صاحب «العين»: (غشي عليه: ذهب عقله)، وفي التنزيل: {كَالَّذِي يُغْشَى
%ص 153%
عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} [الأحزاب: 19]، وقال تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، وقوله: (المُثقل): صفة الغشي، وهو بضم الميم، من أثقل يثقل إثقالًا، فهو مثقل؛ بكسر القاف للفاعل، وبفتحها للمفعول.
فإن قلت: كيف يجوز هذا الحصر وللوضوء أسباب أُخَر غير الغَشْي؟
قلت: إنَّما يقع مثل هذا الحصر؛ فالمراد أنه ردُّ لاعتقاد السامع حقيقةً أو ادَّعاءً، فكأن ههنا من يعتقد وجوب الوضوء من الغشي مطلقًا سواء كان مثقلًا أو غير مثقل وأشركهما في الحكم، فالمتكلم حصر على أحد النوعين من الغشي، فأفرده بالحكم مزيلًا للشركة، ومثله من قبيل قصر الأفراد، ومعناه: أنه [1] لم يتوضأ إلا من الغَشْي المثقل لا من الغَشْي الغير المثقل، وليس المعنى: من توضَّأ من الغشي المثقل، لا من سبب آخر من أسباب الحدث، أو أنه استثناء مفرَّغ، فلا [بدَّ] من تقدير المستثنى منه مناسبًا له؛ فتقديره: من لم يتوضأ من الغشي إلا من الغشي المثقل، كذا قرره في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (أن)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/327)
[حديث: ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا]
184# وبه قال: (حدثنا إسماعيل)؛ أي: ابن أبي أويس (قال: حدثني)؛ بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي خال إسماعيل المذكور، (عن هِشام بن عُروة)؛ بكسر الهاء، وضم العين المهملة؛ أي: ابن الزبير بن العوَّام _بتشديد الواو_ القرشي، (عن امرأته) أي: هشام (فاطمة)؛ أي: بنت المنذر بن العوام، (عن جدتها أسماء) على وزن (حمراء) (بنت أبي بكر)؛ أي: الصديق الأكبر، وزوجة الزبير بن العوام، وفي رواية: (عن جدته)؛ بتذكير الضمير، وكلاهما صحيحان بلا تفاوت في المعنى؛ لأنَّ أسماء جدة لهشام ولفاطمة كليهما؛ لأنَّها أم عروة والد هشام وأم المنذر أبي فاطمة: (أنها) أي: أسماء (قالت: أتيت عائشة)؛ أي: أختها الصديقة (زوج النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ورضي عنها (حين) ظرف لـ (أتيت) (خَسَفَتِ الشمس)؛ بالبناء للفاعل، وأطلقت على الكسوف خسوفًا، إمَّا حقيقة أو مجازًا، قيل: يقال أيضًا: كسفت، ويقالان للقمر أيضًا، ويقال أيضًا: خُسفا وكُسفا؛ بضم أولهما، وانخسفا وانكسفا، قال ثعلب: والأجود: كسفت الشمس وخسف القمر، وهو ذهاب ضوئهما كله أو بعضه، وقيل: الخسوف في الكل، والكسوف في البعض، وقيل: الخسوف ذهاب لونهما، والكسوف تغيره، (فإذا الناس قيام يُصَلَّون)؛ أي: صلاة الكسوف ركعتين، (وإذا هي)؛ أي: عائشة رضي الله عنها (قائمة تصلي)؛ أي: صلاة الكسوف.
(فقلت) أي: قالت أسماء لعائشة: (ما للناس؟)؛ أي: قائمين يصلون، (فأشارت) أي: عائشة (بيدها نحو السماء)؛ أي: رفعتها تريد إعلامها بذلك، وهو غير مفسد ولا مكروه للصلاة، لكنه ينافي الخشوع، (وقالت)؛ أي: عائشة، وفي رواية: (فقالت)؛ بالفاء: (سبحان الله!)، وقولها ذلك أيضًا غير مفسد ولا مكروه؛ لأنَّه من أعمال الصلاة، وجملة: (فقلت: آية؟)؛ أي: أهي علامة لعذاب الناس؟ من القول، ومقوله من كلام أسماء، (فأشارت)؛ أي: عائشة برأسها كما في الرواية السابقة في كتاب (العلم) (أن)، وفي رواية: (أي)، وهما حرفا تفسير، (نعم) آية للعذاب، قالت أسماء [1]: (فقمت)؛ أي: وقفت في الصلاة (حتى) أي: إلى أن (تجلَّاني)؛ بالجيم؛ أي: غطَّاني، (الغَشِيُّ)؛ بفتح الغين المعجمة، وكسر الشين المعجمة، وتشديد التحتية، أو بفتح، فسكون، قال ابن بطال: (الغشي: مرض يَعْرِض من طول التعب والوقوف، وهو ضرب من الإغماء، إلا أنَّه دونه) انتهى، قلت: وقد يكون من نحو مرض الصفراء تصعد إلى رأس الشخص، فمن شدة بخارها وغلظه يحصل ذلك، وفي قوله: (ضرب من الإغماء) مع قوله: (إلا أنه دونه) نوع تدافع؛ فتأمل، ويطلق الغشي على ذهاب العقل، كما قاله صاحب «العين»، كما سبق.
وفي قولها: (وجعلت أصُبُّ) بضمِّ الصَّاد المهملة (فوق رأسي ماء) كان بقربها؛ إشارةٌ إلى أنَّه لم يكن مثقلًا، وأنَّ حواسها بقيت مُدْرِكة، وإلَّا فالإغماء المستغرق ينقض الوضوء إجماعًا، وكان صبُّها الماء فوق رأسها؛ ليزول عنها الغشي بحركة أو حركتين أو حركات لا تبطل الصلاة، والظَّاهر: أنَّ المراد: أخذ الماء بيدها وبلها ووضعها على رأسها، لا أنَّه تأخذه بإناء وتصبُّه؛ لأنَّ ذلك ممَّا يتلف ثيابها، وهذا فيه منفعة عظيمة لأرباب الصفراء في زوال ألم الرأس منها، ووجه الاستدلال بفعلها: من جهة أنَّها كانت تصلي خلف النبي الأعظم عليه السلام، وكان يرى من خلفه كما يرى من أمامه وهو في الصلاة، ولم يُنْقَل أنَّه أنكر ذلك عليها وأمرها بالوضوء، وفيه تحصل المطابقة للترجمة، كذا قاله الشارحان، وفيه نظر، فإنَّ الذي رآه عليه السلام منها هو صبُّ الماء فوق رأسها، وأمَّا الغشي؛ فإنَّه أمر باطني خفي لا يدرك بالنظر، على أنَّه هي كانت في حجرتها، والنبي عليه السلام يصلي في المسجد، وهو يرى من خلفه من أصحابه لا من في الحجر.
والوجه الصحيح أن يقال: فوجه المطابقة للترجمة في قولها: (حتى تجلاني الغشي)؛ لأنَّه لو كان مثقلًا؛ لكان ينتقض الوضوء منها؛ لأنَّه كالإغماء، والدليل على أنَّه لم يكن مثقلًا أنَّها صبَّت الماء على رأسها؛ ليزول الغشي، وذلك يدلُّ على أنَّ حواسها كانت حاضرة، وهو يدلُّ على عدم انتقاض وضوئها، فأخبرت بذلك النبي الأعظم عليه السلام، فأقرَّها ولم يُنْكِر عليها؛ فليحفظ.
(فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من الصلاة لا من المسجد وإن جرى [عليه] كثير من الشراح؛ لأنَّه يبعده قوله: (حمد الله وأثنى عليه) ... إلى آخره؛ لأنَّ ذلك لا يكون إلا عقب الصلاة، وهو في المسجد، وهذا من باب عطف العام على الخاص، (ثم قال) عليه السلام: (ما من شيء) أي: من الأشياء (كنت لم أره إلا قد رأيته)؛ أي: رؤية عين حقيقة، وتقدَّم بيان المراد من (الشيء)، وأنَّه عام أو خاص مع بقية المباحث، وقوله: (في مَقامي هذا)؛ بفتح الميم، حال من فاعل (رأيته) (حتى الجنةَُِ والنارَُِ)؛ برفعهما ونصبهما وجرهما، (ولقد أُوحي)؛ بضم الهمزة، (إليَّ) أي: في هذا المقام (أَنكم تفتنون)؛ بفتح [همزة] (أن)؛ لأنَّها مع ما بعدها نائب فاعل (أوحي)؛ أي: تمتحنون وتختبرون (في القبور) وللأصيلي: (في قبوركم) (مثل) فتنة المسيح الدجال (أو قريبًا)؛ بالتنوين، وفي رواية: (قريبَ)؛ بتركه، وفي أخرى بإثبات [2] التنوين فيهما (من فتنة) المسيح (الدجال)؛ أي: الكذاب، من الدجل؛ وهو الكذب، والمسيح: بالحاء المهملة، وقيل: هو بالخاء المعجمة؛ فرقًا بينه وبين عيسى عليه السلام.
(قالت فاطمة: لا أدري أي ذلك قالت أسماء)؛ أي: مثل أو قريبًا، و (ذا): قد يشار بها إلى المثنى، كما هنا، (يُؤتَى أحدكم)؛ أي: يأتيه منكر ونكير، وقيل: مبشر وبشير للمؤمنين، ومنكر ونكير للكافرين، (فيقال له)؛ أي: فيقولان له، أو يقول أحدهما ويسكت الآخر، محتمل، والثاني: أظهر: (ما علمك بهذا الرجل؟)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، وظاهره: أنَّ السؤال يكون بهذه الجملة، ويحتمل أن يكون بغيرها لكن بكلام عربي، وقيل: إنَّ السؤال يكون بالسرياني، ولكنَّه غريب، (فأما) للتفصيل (المؤمن أو الموقن)؛ أي: بنبوته عليه السلام، قالت فاطمة: (لا أدري أي ذلك) أي: (المؤمن) أو (الموقن) (قالت أسماء) فالمشار إليه المثنى، كما مر، (فيقول)؛ أي: المسؤول في قبره: (هو محمد رسول الله، جاءنا بالبينات)؛ أي: المعجزات الدَّالة على نبوته (والهدى) الموصِل للمراد، (فأجبنا وآمنَّا واتَّبعنا)؛ بحذف الضمير في الأفعال الثلاثة، لكن بعد حذف الجار في (آمنا)؛ لأنَّ الأصل: آمنا به؛ فافهم.
(فيقال: نم)؛ بالنُّون، من النوم؛ أي: فيقول له الملكان أو أحدهما على ما سبق، وللحمُّوي زيادة: (له) (صالحًا)؛ بالنصب، حال من فاعل (نم)؛ أي: فإنَّك موصوف بالصلاح وقد نجوت من العذاب، (فقد علمنا إن كنت لموقنًا)؛ أي: لمصدَّقًا به، وتقدَّم جواز الكسر والفتح في همزة (أن) خلافًا للدماميني حيث أوجب الفتح، (وأما المنافق)؛ أي: الغير المصدِّق بقلبه بنبوته عليه السلام، (أو المرتاب)؛ أي: الشاك، وقوله: (لا أدري أي ذلك) أي: (المنافق) أو (المرتاب) (قالت أسماء) مقول فاطمة بنت المنذر: (فيقول)؛ أي: المسؤول في قبره: (لا أدري) هذا الرجل، بل إني (سمعت الناس يقولون شيئًا، فقلته) على سبيل الموافقة لهم غير مصدِّق به، ففي الحديث: إثبات وجود عذاب القبر، وفيه: ثبوت سنية صلاة الكسوف، وأن الحركات القليلة لا تُبْطِلِ الصلاة، وكثرتها مفوض لرأي
%ص 154%
المبتلى به، أو ما يستكثره الناظر أو ثلاث فما دونها قليل، وأنَّ الكسوف آية من آيات الله يخوِّف الله بها عباده، وأنَّ رشَّ الماء على المصلي في الصلاة غير مُفْسِد ولا مكروه، وفيه: ثبوت خروج الدجال في آخر الزمان، وغير ذلك من الأحكام، والله أعلم.
==========
[1] (قالت أسماء) جاء في الأصل سابقًا قبل قوله: (نعم).
[2] في الأصل: (بترك)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] (قالت أسماء) جاء في الأصل سابقًا قبل قوله: (نعم).
[1] (قالت أسماء) جاء في الأصل سابقًا قبل قوله: (نعم).
(1/328)
(38) [باب مسح الرأس كله]
هذا (باب مسح الرأس كله) في الوضوء، وسقط في رواية لفظ: (كله) فقط، ومراده: وجوب استيعاب الرأس بالمسح في الوضوء، لكن من اكتفى بالربع منه؛ فقد أجاب عما استدل به، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى؛ (لقوله تعالى)، وفي رواية: (سبحانه وتعالى)، وفي أخرى: (عز وجل): ({وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}) [المائدة: 6]؛ بناءً على أن الباء زائدة؛ أي: امسحوا رؤوسكم كلها، كما قال به مالك وأحمد.
(وقال) سعيد (ابن المسيِّب)؛ بكسر المثناة التحتية وفتحها: (المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها)؛ أي: جميعه، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة بلفظ: (المرأة والرجل في مسح الرأس سواء)، لكنه ليس صريحًا في وجوب التعميم، إلا إن ثبت عنه أنه يوجب التعميم في الرجل، فيُحْتَمَلُ أنهما سواء في أصل المسح، وعلى الأول هذا الأثر لا يساعد المؤلف في ثبوته لمسح كل الرأس، ونقل عن أحمد أنه قال: (يكفي المرأة مسح مقدَّم رأسها)؛ فتأمل.
(وسُئِلَ) على صيغة المجهول (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، والسائل له: إسحاق بن عيسى بن الطباع، كما بيَّنه ابن خزيمة في «صحيحه» من طريقه، ولفظه: (سألت مالكًا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه، أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم ردَّ يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله)، قلت: وهذا السياق أصرح للترجمة من الذي ساقه المؤلف بقوله: (أيَجزي)؛ بفتح المثناة التحتية، من جزى يَجزي؛ أي: كفى، والهمزة فيه للاستفهام، أو بضم التحتية وهمز آخره، من الإجزاء: وهو الأداء الكافي لسقوط التعبد به، كذا في «عمدة القاري» ن قال ابن التين: (قرأناه غير مهموز، وضُبِطَ في بعض الكتب؛ بالهمز وضم الياء على أنَّه رباعي من أجزأ)؛ فتأمل، (أن يمسح بعض) ولابن عساكر: (ببعض)؛ بباءين على تعلقه بـ (يجزي) (الرأس؟)؛ أي: رأسه، كما في رواية الأكثرين، و (أن يمسح ... ) إلخ: فاعل (يجزي) ومفعوله كفاعل (يمسح) محذوف عائد إلى المتوضئ المدلول عليه بالمقام.
(فاحتجَّ)؛ أي: مالك على أنَّه لا يجزئ مسح بعض رأسه (بحديث عبد الله بن زيد) الذي ساقه المؤلف هنا، والمعنى: لما سُئِلَ عن مسح الرأس؛ روى هذا الحديث واحتجَّ به على أنَّه لا يجوز أن يقتصر على بعض الرأس، قال ابن حجر: (موضع الدلالة من الحديث والآية: أنَّ لفظ الآية مجمل؛ لأنَّه يحتمل أن يراد بها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي عليه السلام أنَّ المراد الأول).
واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه لا إجمال في الآية، وإنما الإجمال في المقدار دون المحل؛ لأنَّ الرأس وهو معلوم وفعله عليه السلام كان بيانًا للإجمال الذي في المقدار، وهذا القائل لو علم معنى الإجمال؛ لما قال: لفظ الآية مجمل، انتهى.
واعترضه العجلوني بأن إجمال المقدارِ كافٍ في كون الآية مجملة.
قلت: ورُدَّ بأن إجمال المقدار خارج عن الآية بدليل أنَّه فهم من الحديث بيانه، فلفظ الآية مُبَيِّنٌ لأصل وجوب المسح، فلا إجمال فيها، والسنة بينت مقداره، فالإجمال في المقدار لا في الآية؛ فافهم.
قلت: وأجاب الجمهور: بأن الأصل عدم الزيادة، وكلامه تعالى وحروف كلامه تصان عن الزيادة بلا فائدة، بل الباء هنا للإلصاق؛ وهو معناها الأصلي عند المحققين.
وقال العلَّامة البغوي: (القرآن يوجب مسح الجميع، والسنة خصَّصته بقدر الناصية، فلا يسقط الفرض بأقل من قدر الناصية)، واعترضه الكرماني بأنَّ كلام العرب يشهد لعدم العموم؛ لأنَّهم يقولون: مسحت المنديل؛ فيفيد العموم، ومسحت به؛ فيفيد البعض.
قلت: وهو ممنوع، فإنَّ النبي الأعظم عليه السلام هو أفصح العرب قد فسَّر ذلك بفعله، وهو أنَّه مسح على ناصيته، وكيف يُستدَّل بكلام العرب ويُتْرَك تفسير أعرب العرب؟! فإنه إذا وجد تفسير النبي الأعظم عليه السلام؛ يتعين المصير إليه؛ لأنَّه الشارع، وإنما يصار إلى كلام العرب عند عدم تفسيره عليه السلام.
والحاصل: أنَّ ما ذهب إليه الإمام الأعظم وأصحابه من وجوب مسح الناصية يشهد له الآية من حيث أصل المسح، والحديث من حيث بيان أنه مقدار الناصية، وأمَّا ما ذهب إليه مالك وأحمد من وجوب الاستيعاب؛ يشهد له الآية من حيث الأصل، والحديث من حيث إن ظاهره أنَّه يدل على الاستيعاب، وأمَّا ما ذهب إليه الشافعي من وجوب بعض المسح، وهو قدر شعرة أو شعرتين [1]؛ يشهد له الآية على أن معنى الباء: التبعيض، وهو ضعيف، وأمَّا الأحاديث؛ فلم يوجد فيها شيء يدل على التبعيض، فلا ريب أنَّ ما ذهب إليه إمامنا أرجح وأقوى، واستدلال الشافعي بكلام العرب ليس بشيء مع وجود الأحاديث الدَّالة على بيان المقدار في وجوب المسح؛ فافهم ذلك.
==========
[1] في الأصل: (شعره)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 155%
==================
(1/329)
[حديث عبد الله بن زيد في مسح الرأس كله]
185# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا) (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن عَمرو بن يحيى)؛ بفتح العين المهملة، ابن عُمَارة؛ بضمها وتخفيف الميم (المازني) الأنصاري، (عن أبيه): يحيى المذكور بن عمارة بن أبي حسن واسمه تميم، وله صحبة، وكذا لعمارة ولده فيما جزم به ابن عبد البر، قال أبو نعيم فيه نظر، وقال الذهبي: عمارة بن أبي حسن المازني له صحبة، وقيل: أبوه بدري وعقبي، كذا في «عمدة القاري»: (أن رجلًا): هو عمرو بن أبي حسن، كما سيأتي في الحديث الآتي من طريق وهيب (قال لعبد الله بن زيد)؛ أي: ابن عاصم الأنصاري المازني، ووقع في رواية مسلم: (عن عبد الله بن زيد قال: قيل له: توضأ لنا) ... ؛ فذكر الحديث، (وهو)؛ أي: الرجل المفسَّر بعمرو بن أبي حسن (جدُّ عمرو بن يحيى)؛ أي: المذكور، لكن مجازًا لا حقيقة؛ لأنَّه عم أبيه، وأطلق عليه (جدًّا)؛ لكونه في منزلته، قال في «عمدة القاري»: ووهم من زعم أنَّ المراد بقوله: (وهو) عبد الله بن زيد؛ لأنَّه ليس جدًّا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازًا، وأما قول صاحب «الكمال»: (إن عمرو بن يحيى ابن بنت عبد الله بن زيد)، فغلط توهَّمه من هذه الرواية، وذكر ابن سعد: (أن أمَّ عمرو بن يحيى هي حميدة بنت محمد بن إياس بن بكير)، وقال غيره: (هي أم النعمان بنت أبي حبة)،
==================
واختلف رواة «الموطأ» في تعيين السائل، فأبهمه أكثرهم، وقال معن بن عيسى، عن عمرو، عن أبيه يحيى: أنه سمع أبا حسن، وهو جد عمرو بن يحيى قال لعبد الله بن زيد وكان من الصحابة ... ؛ فذكر الحديث، وقال محمد بن الحسن الشيباني، عن مالك: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه يحيى: أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد، وكذا ساقه سحنون في «المدونة»، وقال الشافعي في «الأم»: (عن مالك، عن عمرو، عن أبيه، قال لعبد الله بن زيد)، قال في «عمدة القاري» أيضًا: فإن قلت: هل يمكن أن يجمع هذا الاختلاف؟ قلت: يمكن أن يقال: اجتمع عند عبدِ الله بن زيد ابنُ أبي حسن الأنصاري وابنُه عمرو وابنُ ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن،
[فسألوه عن صفة وضوء النبي، وتولى السؤال منهم له عمرو [1] بن أبي حسن] [2]
==================
[1] في «عمدة القاري»: (عمارة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مستفاد من «عمدة القاري».
فحيث نُسِب إليه السؤال؛ كان على الحقيقة، ويؤيِّده رواية سليمان بن بلال عند المؤلف في باب (الوضوء من التور) قال: (حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان عمي _يعني: عمرو بن أبي حسن_ يُكْثِرُ الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد: أخبرني ... )؛ فذكره، وحيث نُسِب السؤال إلى أبي حسن، فعلى المجاز؛ لكونه كان الأكبر، وكان حاضرًا، وحيث نُسِب السؤال ليحيى بن عمارة، فعلى المجاز أيضًا؛ لكونه ناقل الحديث، وقد حضر السؤال أيضًا، ويؤيِّد هذا الجمع ما في رواية الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد الواسطي بلفظ: (قلنا له) بلفظ الجمع الدَّال على أنَّهم كلهم اتفقوا على السؤال، غير أن السائل منهم كان عمرو بن أبي حسن، ويؤيده أيضًا ويوضِّحه ما رواه أبو نعيم في «المستخرج» من حديث الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد ... ؛ فذكر الحديث، انتهى.
ومثله ذكره ابن حجر وتبعهما العجلوني، وأمَّا القسطلاني؛ فاقتصر، فلم يوضِّح هذا الإيضاح، فلله درُّ صاحب «عمدة القاري» ما أغزر
%ص 155%
علمه، وأوفر فهمه، والله يختصُّ برحمته من يشاء.
(أتستطيع)؛ الهمزة للاستفهام؛ أي: هل تستطيع (أن تريني)؛ كلمة (أن): مصدرية، والجملة محلها نصب على أنها مفعول (تستطيع)، والتقدير: هل تستطيع الإراءة إياي (كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟)، فجملة (يتوضأ): محلها النصب على أنها خبر (كان)، ويجوز أن تكون تامة، وتكون جملة (يتوضأ): محلها نصب على الحال، وسبب استفهامه تجويزه أن يكون الصحابي نسي ذلك؛ لبعد عهده، وفيه ملاطفة الطالب للمعلم، وكأنَّه أراد أن يريه ذلك بالفعل؛ ليكون أبلغ في التعليم.
(فقال عبد الله بن زيد)؛ أي: الأنصاري المازني المتقدم: (نعم): مقول القول، وهو يكون جملة، والتقدير: نعم أستطيع أن أريك كيفية وضوء النبي الأعظم عليه السلام؛ لأنَّي أحفظ ذلك، كما شاهدته، (فدعا) أي: عبد الله بن زيد (بماء)؛ الفاء للتعقيب، وفي رواية وهيب الآتية في الباب بعده: (فدعا بتور من ماء)، وسيأتي الخلاف في تفسير (التور)، وللمؤلف في باب (الغسل) في أول هذا الحديث: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في تور من صفر) والتور المذكور يحتمل أن يكون هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد لمَّا سئل عن صفة وضوئه عليه السلام، فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها، ويحتمل غيره لكن ما قلناه؛ فافهم.
(فأفرغ)؛ الفاء للتعقيب أيضًا؛ أي: صبَّ من الماء (على يديه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (على يده)؛ بالإفراد على إرادة الجنس، وفي رواية موسى عن وهيب: (فأكفأ)؛ بهمزتين، وفي رواية سليمان بن حرب في باب (مسح الرأس) عن وهيب: (فكفأ)؛ بهمز آخره فقط، وهما لغتان بمعنًى، يقال: كفأ الإناء وأكفأه؛ إذا أماله، وقال الكسائي: (كفأت الإناء: كببته، وأكفأته: أملته، والمراد في الموضعين: إفراغ الماء من الإناء على اليد)، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فغسل يده)؛ بالإفراد، وللأربعة: بالتثنية، والفاء للتعقيب، (مرتين) كذا في رواية مالك، لكن لغيره من الحفاظ: (ثلاثًا)، كما عند مسلم وغيره، فهي مقدمة على رواية الحافظ الواحد، وإنما لم يُحْمَلْ هذا على واقعتين؛ لأنَّ المخرج واحد، والأصل عدم التعدد، كذا في «عمدة القاري»، ثم قال: (وغسل اليدين قبل شروعه في الوضوء فيه أقوال:
الأول: أنَّه سنة، وهو المشهور عندنا، كما في «المحيط» و «المبسوط»، ويدل عليه أنه عليه السلام لم يتوضأ قطٌّ إلا غَسَلَ يديه، وذكر في «النافع» تقديم غسلهما إلى الرسغين سنة تنوب عن الفرض؛ كالفاتحة تنوب عن الواجب وفرض القراءة، واختاره في «الكافي»، وقال شمس الأئمة السرخسي: «إنه سنة لا تنوب عن الفرض، فيعيد غَسْلهما ظاهرهما وباطنهما»، قال: «وهو الأصح»، والذي اختاره الجمهور: أنه فرض وتقديمه سنة، واختاره في «فتح القدير»، وفي الحواشي: تقديم غسل اليدين للمستيقظ؛ لأجل التبرِّك بالحديث، وإلا فسببه شامل له ولغيره، قال في «النهر»: «والأصح الذي عليه الأكثر: أنه سنة مطلقًا للمستيقظ وغيره، لكنه عند تَوَهِّم النجاسة سنة مؤكدة، كما إذا نام لا عن استنجاء، أو كان على بدنه نجاسة، وغير مؤكدة عند عدم توهمهما، كما إذا نام لا عن شيء من ذلك، أو لم يكن مستيقظًا عن نوم» انتهى.
الثاني: أنه مستحبٌّ للشاكِّ في طهارة يديه، وهو المروي عن مالك.
الثالث: أنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، قاله أحمد.
الرابع: أنه واجب فيما إذا شكَّ هل أصابته نجاسة أم لا؟ فيجب غسلهما في مشهور قول مالك.
الخامس: أنه واجب على المنتبه من النوم مطلقًا، وبه قال داود وأصحابه).
(ثم تمضمض، واستنثر) وفي رواية: (مضمض واستنشق) (ثلاثًا)، ومعنى (استنثر): إذا استنشق الماء ثم استخرجه بنَفَس الأنف، والنثرة: الخيشوم وما والاه، وتنشَّق واستنشق الماء في أنفه: صبَّه فيه، ويقال: نثر وانتثر واستنشق: إذا حرَّك النثرة، وهي طرف الأنف.
وزعم ابن حجر أن الاستنثار مستلزم للاستنشاق بلا عكس، وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: لا نسلِّم ذلك، فقد قال ابن الأعرابي وابن قتيبة وغيرهما: «الاستنشاق والاستنثار واحد») انتهى.
قلت: وقد قدَّمنا في باب (الوضوء ثلاثًا): أن بعض أهل اللغة على عدم اتحادهما لغة، وأما اصطلاحًا؛ فلا خلاف في تغايرهما، فكأن ابن حجر اعتمد قول هذا البعض، وقدمنا أنه شاذٌّ لا يعوَّل عليه، وهذا دأبه في اعتماده على الأقوال الشاذة، ولعلَّه اختلط عليه ما قاله أهل اللغة بما قال أهل الاصطلاح، وتمامه في «كشف الحجاب عن العوام»، وقد تعرَّض لذلك أيضًا في «منهل العليل المطل» فافهم.
فالمضمضة والاستنشاق: سُنَّتان في الوضوء فرضان في الغُسْل، وبه قال الإمام الأعظم، وأصحابه، وسفيان الثوري، وغيرهم، وقال الشافعي: سُنَّتان فيهما، وعنه أنهما واجبتان فيهما، وهو قول ابن أبي ليلى، وحماد، وإسحاق، وقال أبو ثور: (الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة)، وبه قال أحمد في رواية، وأبو عبيد، وزاد في رواية وهيب بعد (ثلاث): (بثلاث غَرفات)، وهي تفيد: أنه تمضمض ثلاثًا بثلاث غَرفات، واستنشق ثلاثًا بثلاث غَرفات، ويدل له ما رواه الترمذي عن علي الصديق الأصغر رضي الله عنه، وفيه: مضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، وقال: (حديث حسن صحيح)، ولم يُحْكَ فيه أن كل واحد من المضامض والاستنشاقات بماء واحد، لكن مضمونه ظاهر، وهو أنه أخذ لكل واحدة منهما ماء جديدًا، وكذا روى البويطي عن الشافعي: (أنه يأخذ ثلاث غَرفات للمضمضة، وثلاث غَرفات للاستنشاق).
(ثم غسل وجهه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، ولم تختلف الروايات في ذلك، وكلمة (ثم) في ستة مواضع في الحديث بمعنى: الواو، وليست على معناها الأصلي؛ وهو الإمهال، كذا قاله ابن بطال.
وقال في «عمدة القاري»: («ثم» في هذه المواضع؛ للترتيب؛ لأنَّها تُسْتَعمل لثلاثة معان؛ التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، مع أن في كل واحد منها فيه خلاف، والمراد من الترتيب: هو الترتيب في الإخبار، لا الترتيب في الحكم، مثل ما يقال: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب؛ أي: ثم أخبرك؛ أي: الذي صنعته أمس أعجب) انتهى.
قلت: فلا دلالة في الحديث على وجوب الترتيب؛ لأنَّ المراد به: الإخبار، ويدل عليه الإتيان في الآية بالواو؛ وهي لمطلق الجمع اتفاقًا، لا تفيد الترتيب، فمن أوجب الترتيب؛ فقد زاد على النص، والزيادة عليه لا تجوز، على أنه لو ادَّعى أن الحديث يفيد وجوب الترتيب؛ يقال له: إن الحديث خبر الواحد، وهو يفيد السنية لا الوجوب، فثبت بذلك مذهب الإمام الأعظم والجمهور أنَّ الترتيب سنَّة لا واجب، وهو الحقُّ؛ فليحفظ.
(ثم غسل يديه)؛ بالتثنية، (مرتين مرتين)؛ بتكرار (مرتين)، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين مرتين، وفي رواية مسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد: (أنه رأى رسول الله عليه السلام توضأ، فمضمض، ثم استنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويده اليمنى ثلاثًا، والأخرى ثلاثًا، ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وغسل رجليه حتى أنقاهما)، قال في «عمدة القاري»: (فيحمل على أنه وضوء آخر، لكن مخرج الحديثين غير متحد) انتهى، وتبعه العجلوني، وذكر القسطلاني رواية مسلم المذكورة في شرح قوله: (فغسل يده مرتين)، وهو غير مناسب؛ لأنَّه يوهم خلاف المراد؛ فافهم.
وهل يغسل يديه هنا من أول الأصابع أو يغسل الذراعين لا غير؛ لتقدم غسل اليدين إلى الرسغ؟ وفي «الذخيرة»: الأصح عندي: أنَّه يعيد غسل اليدين ظاهرهما وباطنهما؛ لأنَّ الأول كان سنة افتتاح الوضوء فلا ينوب عن فرض الوضوء، وهذا ما صحَّحه شمس الأئمة السرخسي، والذي اختاره الجمهور: أنَّ الغسل الأول فرض وتقديمه سنة، وسبق؛ فتأمل.
(إلى المَرفِقين)؛ بالتثنية، وبفتح الميم، وكسر الفاء، وفي رواية: (إلى المرفق)؛ بالإفراد على إرادة الجنس، وهو مفصل الذراع والعضد، سمي بذلك؛ لأنَّه يُرْتَفَقُ به في الاتِّكاء، وهو يدخل في غسل اليدين عند الجمهور، خلافًا للإمام زفر وأبي بكر بن داود، وهو رواية عن مالك.
واستُدِل للجمهور: بأن {إلى} [المائدة: 6] في الآية بمعنى: (مع) كقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]؛ أي: معها، ورُدَّ بأنه خلاف الظاهر، وأجيب: بأن القرينة دلَّت عليه، وهي كون ما بعدها من جنس ما قبلها، وقال ابن القصار: (اليد: تُطْلَقُ من رؤوس الأصابع إلى الإبط؛ لحديث عمار أنه تيمم إلى الإبط، وهو من أهل اللغة، ولفظ {إلى} حد للمتروك لا للمغسول، وردَّ بأن السياق ينافيه.
وقال العلَّامة جار الله الزمخشري: («إلى»: لمطلق الغاية، وأمَّا دخولها في الحكم وخروجها عنه؛ فيدوران
%ص 156%
مع الدليل كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فيدل على عدم الدخول للنهي عن صوم الوصال، وقول القائل: «حفظت القرآن من أوله إلى آخره» يدل على الدخول؛ لكون الكلام مَسُوقًا لحفظ القرآن جميعِه، ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين بخصوصه، فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن) انتهى.
قال في «عمدة القاري»: (ويمكن أن يُسْتَدَلَّ لدخولها بفعله عليه السلام، ففي «الدارقطني» بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة وضوئه عليه السلام: «فغسل يديه إلى المرفقين حتى مسَّ أطراف العضدين»، وفيه أيضًا من حديث جابر: «كان عليه السلام إذا توضأ؛ أدار الماء على مرفقيه»، وفي «البزار» و «الطبراني» من حديث وائل بن حجر وفيه: «وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق»، وفي «الحافظ الطحاوي» و «الطبراني» من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعًا: «ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه») انتهى.
قلت: فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، وقال ابن راهويه: ({إلى} في الآية تحتمل الغاية ومعنى «مع»، فبيَّنت السنة أنَّها بمعنى «مع»).
وقال الشافعي في «الأم»: (لا أعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء)، قال ابن حجر: (فعلى هذا؛ فزفر محجوج بالإجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحًا، وإنما حكى عنه أشهب كلامًا محتملًا) انتهى.
قلت: وقوله: (لا أعلم مخالفًا): ليس حكاية منه للإجماع الذي يكون غيره محجوجًا به، ففي دعوى الإجماع نظر، ولذا قال العجلوني بعد كلام ابن حجر: (وأقول قول «الأم» لا ينافي وجود خلاف، فلا إجماع) انتهى، وقد نقل غير واحد عن أشهب عن مالك قولًا واحدًا: أن المِرْفق غير داخل في الوضوء، كما قاله الإمام زفر وداود، فقول ابن حجر: (ولم يثبت عن مالك) فيه نظر، وقد يقال: لم يثبت عن مالك في غير رواية أشهب، وأمَّا في رواية أشهب؛ فإنه يثبت القول بذلك؛ فافهم.
وقال في «شرح المنية»: (إنَّ غسل المرفقين والكعبين في الوضوء ليس بفرض قطعي، بل هو فرض عملي لا يكفر جاحده)، قال في «النهر»: (فلهذا لا يحتاج إلى دعوى الإجماع؛ لأنَّ الفروض العملية لا يحتاج في إثباتها إلى القاطع، فيحتاج إلى الإجماع) انتهى.
قلت: ولهذا لم يتعرض في «عمدة القاري» إلى دعوى الإجماع، بل استدلَّ بالأحاديث التي أوردناها؛ فافهم.
(ثم مسح رأسه) زاد ابن الصباغ في روايته: (كله)، كما في حديثه المروي عند ابن خزيمة في «صحيحه»، وفي رواية خالد بن عبد الله: (مسح برأسه)؛ بزيادة الباء الموحدة، (بيديه)؛ بالتثنية، فاحتجَّ به مالك وأحمد في رواية على أنَّ مسح جميع الرأس فرض، واختلف أصحاب مالك؛ فقال أشهب: (يجوز مسح بعض الرأس)، وقال غيره: (والثلث فصاعدًا)، وعندنا وعند الشافعي: (الفرض مسح بعض الرأس)، فقال أئمتنا: وذلك البعض هو ربع الرأس؛ لحديث المغيرة بن شعبة: (أنه مسح على ناصيته)، والناصية: تبلغ ربع الرأس كما قاله أهل اللغة؛ لأنَّ الكتاب مجمل في حق المقدار فقط؛ لأنَّ الباء في {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]؛ للإلصاق عند المحققين باعتبار أصل الوضع، وجميع معانيها ترجع إلى الإلصاق، فإذا قُرِنت بآلة المسح؛ يتعدَّى الفعل بها إلى مسح المسح، فيتناول جميعه، كما تقول: مسحت الحائط بيدي، ومسحت رأس اليتيم بيدي، فيتناول كله، وإذا قُرِنَتْ بمحلِّ المسح؛ يتعدَّى الفعل بها إلى الآلة، وهو لا يقتضي الاستيعاب، وإنما يقتضي إلصاق الآلة بالمحل، وذلك لا يستوعب الكل عادة، بل يقتضي استيعاب اليد دون الرأس، واستيعابها ملصقة بالرأس لا تستغرق غالبًا سوى ربعه، فتعين الربع مرادًا في الآية، وهو المطلوب، فالآية مجملة محتاجة للبيان، وقد بيَّنتها السنة، ففي «صحيح مسلم» من حديث المغيرة: (أنه عليه السلام توضأ، ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين).
فإن قلت: إنَّما استدللت بالحديث على أنَّ المقدار في المسح هو قدر الناصية، وتركت بقية الحديث وهو المسح على العمامة.
قلت: لو عملنا بكل الحديث؛ يلزم به الزيادة على النص؛ لأنَّ هذا خبر الواحد، والزيادة به على الكتاب نسخ؛ وهو لا يجوز، وأمَّا المسح على الرأس؛ فقد ثبت بالكتاب، فلا يلزم ذلك، وأمَّا مسحه على العمامة؛ فأوَّله البعض بأن المراد به ما تحتها [3]، من قبيل إطلاق اسم الحال على المحل، وأوَّله البعض: بأن الراوي كان بعيدًا عن النبي الأعظم عليه السلام، فمسح على رأسه ولم يضع العمامة من رأسه، فظنَّ الراوي أنه مسح على العمامة.
وقال القاضي عياض: (وأحسن ما حَمَلَ عليه أصحابنا حديث المسح على العمامة: أنه عليه السلام لعلَّه كان به مرض في رأسه، فمنعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة التي يمسح عليها للضرورة).
وقال ابن حجر: (فإن قيل: فلعلَّه اقتصر على مسح الناصية لعذر؛ لأنَّه كان في السفر، وهو مظنَّة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية، كما هو ظاهر سياق مسلم من حديث المغيرة؛ قلنا: قد رُوِيَ عنه مسح مُقَدَّم الرأس من غير مسح العمامة، وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء: «أنه عليه السلام توضأ، فحَسَرَ العمامة عن رأسه، ومسح مقدَّم رأسه»، وهو مرسل، لكنه اعتضد من وجه آخر موصولًا أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، فقد اعتضد كلٌّ من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة) انتهى، وتبعه القسطلاني.
واعترضهما في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: قول هذا القائل من أعجب العجائب؛ لأنَّه يدَّعي أن المرسل غير حجة عند إمامه، ثم يدَّعي أنه اعتضد بحديث موصول ضعيف باعترافه هو، ثم يقول: وحصلت القوة من الصورة المجموعة، فكيف تحصل القوة من شيء ليس بحجة، وشيء ضعيف؟! فإذا كان المرسل غير حجة؛ يكون في حكم العدم، ولا بقي إلا الحديث الضعيف وحده، فكيف تكون الصورة المجموعة قوية؟!) انتهى، وتمامه في «كشف الحجاب عن العوام».
وقول ابن حجر: (فلعلَّه اقتصر على مسح الناصية لعذر؛ لأنَّه كان في سفر): ممنوع؛ لأنَّ حديث المغيرة صريح في أنه عليه السلام لم يكن في السفر، ولفظه: (أنه عليه السلام أتى سباطة قوم، فبال، وتوضأ، ومسح على ناصيته وخفَّيه)، رواه ابن ماجه والنسائي، وروى أبو داود عن أنس قال: (رأيت النبي عليه السلام يتوضَّأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدَّم رأسه)، وروى البيهقي عن عطاء: (أنه عليه السلام توضأ، فحسر العمامة، ومسح مقدَّم رأسه، أو قال: ناصيته)، وكل هذه الأحاديث تدل على بطلان ما زعمه ابن حجر، على أن دعوى العذر ممنوعة؛ لأنَّ حالة العذر حالة ضرورة، وفي حالة الضرورة تقدَّر بقدرها، فهي دعوى باطلة لا دليل عليها، وهي بعضها متصل وبعضها مرسل، وهو حجَّة عندنا لا سيما وقد اعتضد بالمتصل.
واعترض بأن الباء المتنازعة فيها موجودة في حديث مسلم، فيبقى النزاع، كما في الآية.
قلت: لا نزاع في الحديث أصلًا؛ لأنَّ رواية أبي داود، وابن ماجه، والنسائي، والبيهقي، وغيرهم: بدون الباء، وهي أحاديث متصلة، وحديث مسلم وإن كان في روايته زيادة الباء؛ فهي زيادة من الراوي زادها موافقة للفظ الآية، وإلا فلفظ الحديث بدون الباء كما رواه الجمهور، ولو سُلِّم وجودها؛ فما قيل في معنى الباء التي في الآية؛ يقال فيها أيضًا، وتعداد الرواة في حديث مسح الناصية وتعدُّد طرقه يدلُّ صريحًا على أنه عليه السلام من حين نزول الآية كان يمسح على الناصية، فهو بيان لإجمالٍ في الآية، وهو ما قرَّره المحققون.
وقال الشافعي: (الباء في الآية معناها: التبعيض، فيُطْلَقُ على أدنى ما يُطْلَقُ عليه المسح، وهو يتأدَّى بشعرة أو شعرتين).
واعترض بأن أهل اللغة قد أنكروا كون الباء للتبعيض، وقال ابن برهان: (من زعم أن الباء تفيد التبعيض، فقد جاء أهلَ اللغة بما لا يعرفونه)، وقد جعل المحقِّق الجرجاني معنى الإلصاق في الباء أصلًا، وإن كانت [4] تجيء لمعان كثيرة، فإنها ترجع إلى الإلصاق؛ لأنَّه
%ص 157%
معناها الأصلي عند المحققين.
وقال ابن هشام: أَثْبَتَ مجيء الباء للتبعيض الأصمعي، والفارسي، وابن مالك، وجعلوا منه قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} [الإنسان: 6]، قيل: ومنه: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، والظاهر: أن الباء فيهما للإلصاق، ويدل لذلك قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ} [البقرة: 29]، والطواف لا يصح بالبعض إجماعًا، فكذا هذا، وقيل: الباء في الآية للاستعانة، وأن في الكلام حذفًا وقلبًا، فإنَّ «مسح» يتعدى إلى المزال عنه بنفسه وإلى المزيل بالباء، فالأصل: امسحوا رؤوسكم؛ بالماء [5].
فإن قلت: أليس في التيمم حكم المسح ثبت بقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: 6]، ثم الاستيعاب فيه شرط؟
قلت: عُرِف الاستيعاب فيه إما بإشارة الكتاب؛ وهو أن الله أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذره، والاستيعاب فرض بالنصِّ وكذا فيما قام مقامه، أو عُرشف ذلك بالسنة؛ وهو قوله عليه السلام لعمار رضي الله عنه: «يكفيك ضربتان: ضربة للوجه وضربة للذراعين»، وأما على رواية الحسن عن الإمام الأعظم: أنه لا يُشْتَرَطُ الاستيعاب، فلا يردشيء، وجاحدُ أصل المسحِ كافر؛ لأنَّه قطعي، وجاحدُ المقدار لا يُكفَّر؛ لأنَّه في حق المقدار ظنَّي، وتمامه فيما أوردناه في آية الوضوء؛ فافهم.
(فأقبل بهما) أي: بيديه (وأدبر)؛ أي: بهما، وقوله: (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما) أي: بيديه (إلى قفاه ثم ردَّهما) أي: يديه (إلى المكان الذي بدأ منه)؛ بيان لقوله: (فأقبل وأدبر)، فلذا لم تدخل الواو عليه، وهذا من الحديث، وليس مُدْرَجًا من كلام مالك، كذا في «عمدة القاري»، ففيه: أنَّ السنة البداءة بمُقَدَّم الرأس حالة المسح، والذهاب بهما إلى القفا، وردهما إلى المقدَّم، وهذه الكيفية المسنونة شاملة لمن كان على رأسه شعر، أو محلوقه، أو غيره؛ لأنَّ لفظ الحديث عام لم يفصل بينهما، لا يقال: إن هذه الكيفية خاصَّة بمن على رأسه [6] شعر دون غيره ينقلب لطوله كما كان له عليه السلام، بخلاف غيره ممن ليس له شعر، فلا يسن ردُّ اليدين إلى المبدأ؛ لأنَّا نقول: لفظ الحديث عام لم يفصِّل بين ما كان على رأسه شعر أو لم يكن، وتخصيص هذه الكيفية بمن كان على رأسه شعر تخصيص بلا مخصِّص؛ لأنَّه لم يرد ذلك في الأحاديث، وكون النبي الأعظم عليه السلام فعل ذلك والحال أن على رأسه الشريف شعر لا يدل على التخصيص؛ لأنَّه عليه السلام قد ورد عنه أنَّه قال: «احلقوه كلَّه أو اتركوه كلَّه»، فخيَّر بين الحلق والترك، فكأنَّه عليه السلام بيَّن هذه الكيفية، وخيَّر في الحلق وعدمه، فدلَّ ذلك على العموم من غير تفصيل، ولا يقال: إن الماء صار مستعملًا حيث إنه ردَّ اليدين إلى المكان الذي بدأ به منه؛ لأنَّ الماء لا يُحْكَم عليه بالاستعمال إلَّا أن ينفصل عن العضو، وهنا لم ينفصل، فبقي على أصل الطهارة والطهورية؛ فافهم.
وزعم ابن حجر: (وهذه الكيفية حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمُؤَخَّر الرأس إلى أن ينتهي إلى مُقَدَّمِه).
وردَّه في «عمدة القاري» بأنه لا يقال: إن مثل هذا حجة عليه؛ لأنَّه ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة، فعند النسائي من حديث عبد الله بن زيد: (ثم مسح رأسه بيده، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه)، وعند ابن أبي شيبة من حديث الربيع: (بدأ بمؤخره ثم ردَّ يديه على ناصيته)، وعند الطبراني: (بدأ بمؤخر رأسه، ثم جرَّه إلى قفاه، ثم جرَّه إلى مؤخره)، وعند أبي داود: (يبدأ بمؤخره، ثم بمقدمه، وبأذنيه كليهما)، وفي لفظ: (مسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية لمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته)، وفي لفظ: (مسح رأسه وما أقبل وما أدبر وصدغيه)، وعند البزار من حديث أبي بكرة يرفعه: (توضأ ثلاثًا ثلاثًا)، وفيه: (مسح برأسه يقبل بيده من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه)، وعند ابن قانع من حديث أبي هريرة: (وضع يده على النصف من رأسه، ثم جرَّهما إلى مقدم رأسه، ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه وجرهما إلى صدغيه)، وعند أبي داود من حديث أنس: (أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه)، وفي «كتاب ابن السكن»: (فمسح باطن لحيته وقفاه)، وفي «معجم البغوي» و «ابن أبي خيثمة»: (مسح رأسه إلى ما سالفته)، وعند النسائي عن عائشة وصفت وضوءه عليه السلام: (فوضعت يدها في مقدم رأسها، ثم مسحت إلى مؤخره، ثم مدت بيديها بأذنيها، ثم مدت على الخدين)، فهذه أوجه كثيرة يختار المتوضئ أيها شاء، واختار أئمتنا الأعلام رواية عبد الله بن زيد، فالذي قال: (السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس) اختار الوجه الذي فيه البداءة بمؤخر الرأس، وله أيضًا أن يقول: (هذا الوجه حجة عليك أيها المختار في البداءة بالمقدم) انتهى؛ فافهم.
قال الكرماني: (وفي الاستدلال بذلك على وجوب مسح الجميع نظر؛ إذ ليس كل ما ذكر واجبًا كالمضمضة والاستنشاق، ومن أوجبهما؛ فمحجوج بأمور بعضها سبق وبعضها يأتي، ولئن سلَّمنا؛ فالتثليث والتثنية في البعض مذكورات ولا يجبان اتفاقًا، ولا يقال: هو بيان للآية، وهو واجب، فبيانه واجب؛ لأنَّا نقول: كان يجب الرد إلى المكان الذي بدأ منه، ولا يجب اتفاقًا، ويلزم أن يكون التثنية والتثليث واجبين أيضًا؛ لأنَّهما بيان أيضًا؛ لقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، وأيضًا لو كان التعميم واجبًا؛ لما جاز الاكتفاء بمسح الناصية، وقد ثبت في الأحاديث الصحاح: أنه مسح على ناصيته، فالحق: أنه أمر بإيجاد ماهية المسح سواء كان في ضمن الجميع أو الناصية، وهذا الحديث إنَّما ورد في كمال الوضوء بدليل الأحاديث الأخر التي ليس فيها إقبال ولا إدبار) انتهى.
(ثم غسل رجليه) أطلق الغسل فيهما، ولم يذكر تثليثًا ولا تثنية _كما مر_ إشارة إلى أن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة، وبعضه بمرتين، وبعضه بثلاث، وإن كان الأكمل التثليث في الكل؛ ففعله عليه السلام ذلك في بعض الأحيان دليل للجواز، فهو أفضل في حقه، وإن كان عدم التثليث في حقنا لغير عذر؛ مكروه، والبيان وإن أمكن بالقول لكن الفعل أوقع في النفس وأبعد من التأويل لبيان الحكم.
وفي رواية: (إلى الكعبين)؛ تثنية كعب، وهو العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، هذا تفسير أهل اللغة، وهو قول الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والإمام محمد، والإمام الحسن، والإمام زفر، والجمهور.
وروى ابن القاسم عن مالك: (أنَّه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك)، ونسب جماعة من المتعصبين هذا القول إلى الإمام الأعظم، وهو خطأ ظاهر، وافتراء من مكابر، فإنه لم يقل به الإمام الأعظم ولا أصحابه أصلًا قطعًا، وإنما ذكر الإمام محمد في المُحْرِم: أنه إذا لم يجد النعلين؛ فليقطع الخفين إلى الكعبين، وفسَّر الكعب في ذلك، فأخذ تلميذه هشام ذلك، ونقله إلى الوضوء، وقد أجمع عامة أهل المذهب متونًا، وشروحًا، وفتاوًى على تخطئة هشام، وأن مراد الإمام محمد ذلك في المُحْرِم، كما هو مصرَّح به في كتابه «السير الكبير»، وكذا في «السير الصغير»، و «الجامع الكبير»، و «الجامع الصغير»، وغيرها المسماة بكتب ظاهر الرواية، فهؤلاء المتعصبون يتفقدوا قولًا إما شاذًّا أولا أصل له عن الإمام الأعظم، وينسبونه إليه، ويطيلون ألسنتهم الحداد عليه، ولا غروَ؛ فإنَّ مثل هذا الإمام الذي هو رئيس المجتهدين وسيِّدهم التابعي الجليل، بحر لا يفسده ولوغ الكلاب، ونقيٌّ لا يغيِّره مقل الذباب، وليس مثلهم إلا كمثل الذباب وقع تحت ذنب جواد في حالة كرِّه وفرِّه، ولله درُّ القائل:
يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيكْلِمَهُ ... أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
وفي الحديث فوائد؛ منها: جواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة، وأن الاغتراف من الماء القليل لا يصيِّر الماء مستعملًا؛ لأنَّ في رواية وهيب وغيره: (ثم أدخل يده)، وتمامه في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم الحليم.
==================
[3] في الأصل: (تحته).
[4] في الأصل: (كان).
[5] في الأصل: (بالباء)، ولعله تحريف عن المثبت.
(1/330)
(39) [باب غسل الرجلين إلى الكعبين]
هذا (باب: غسل الرجلين إلى الكعبين)؛ أي: في الوضوء.
==========
%ص 158%
==================
(1/331)
[حديث عبد الله بن زيد في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم]
186# وبالسند قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) أي: التبوذكي (قال: حدثنا وهيب)؛ بالتصغير، ابن خالد الباهلي، (عن عَمرو)؛ بفتح العين؛ أي: ابن يحيى السابق، (عن أبيه)؛ أي: يحيى بن عمارة بن أبي حَسن _بفتح الحاء_ أنه قال: (شهدت) أي: حضرت (عمرو بن أبي حَسن) بفتح الحاء، هذا جدُّ
%ص 158%
عمرو بن يحيى، وتقدَّم أن السائل هو جده، وهذا يدل على أنه أخو جده، ولا منافاة في كونه جدًّا له من جهة الأم عمًّا لأبيه، كذا قاله الكرماني، قال ابن حجر: (وهذا غريب)، وقدَّمنا أن أم عمرو بن يحيى ليست بنتًا لعمرو بن أبي حسن، واعترضه في «عمدة القاري» بأن هذا ليس بغريب؛ فإن صاحب «الكمال» قال ذلك، وقد مضى الكلام فيه؛ فافهم، انتهى.
ورواه المؤلف في باب (من مضمض واستنشق من غَرْفة واحدة)؛ بإسقاط عمرو بن أبي حسن؛ فاعرفه.
(سأل) أي: عمرُو بن أبي حسن (عبد الله بن زيد) الأنصاري السابق في الباب قبله (عن وضوء النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم، فدعا) أي: عبد الله بن زيد (بتَوْر)؛ بفتح المثناة الفوقية، وسكون الواو، آخره راء، هو الطشت، وقال الجوهري: (إناء يشرب منه)، وقال الدراوردي: قدح، وقيل: يشبه الطشت، وقيل: مثل القدر من صُفْر أو حجارة، والصُفْر _بضم الصَّاد المهملة وسكون الفاء_: صنف من جيِّد النحاس، سمي به؛ لأنَّه يشبه الذهب، ويسمَّى أيضًا الشَّبَه؛ بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: (من ماء)؛ بيان؛ لقوله: (بتَوْر)؛ فالمراد: الماء الذي فيه، (فتوضأ لهم)؛ أي: لأجلهم، فاللام للتعليل، وهم السائل وأصحابه (وضوء النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: مثل وضوئه، وأطلق عليه وضوءه؛ لأجل المبالغة، (فأكفأ)؛ بهمزتين لغة في (كفأته)؛ أي: قلبته وصببته، حكاهما ابن الأعرابي، وقال الكسائي: (كفأته: قلبته، وأكفأته: أملته)، والمراد: أنه أفرغ الماء (على يده) بالإفراد (من التور)؛ أي: من ماء التور المذكور، (فغسل يديه)؛ بالتثنية قبل أن يُدْخِلَها في التَّوْر، وفي رواية: (فغسل يده) بالإفراد، على إرادة الجنس، (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، (ثم أدخل يده) بالإفراد (في التَوْر) أيضًا؛ أي: فأخرج ماء منه، (فمضمض، واستنشق، واستنثر)، وعطف (استنثر) على سابقه عطف تفسير؛ لأنَّ الاستنشاق والاستنثار واحد، كما قاله ابن الأعرابي وابن قتيبة، وهو الصواب، (ثلاث)، وفي رواية: (بثلاث) (غرفات)؛ بفتحتين، أو بضم أوله وثانيه، أو بفتح الثاني، أو سكونه، و (الثلاث) يحتمل أن تكون لهما معًا، ويحتمل أن تكون المضمضة ثلاثًا والاستنشاق ثلاثًا، وهو الظاهر، يدلُّ عليه أنه قد ثبت فيما رواه الترمذي وغيره: (أنه تمضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا)، وروى البويطي عن الشافعي: أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة، وثلاث غرفات للاستنشاق، وكل ما روي من خلاف هذا، فهو محمول على بيان الجواز؛ فافهم، ومع وجود النص لا مجال للرأي والاستظهار؛ فافهم.
(ثم أدخل يده)؛ بالإفراد، يدل على أنه اغترف بإحدى يديه، هكذا هو في باقي الروايات وفي «مسلم» وغيره، لكن وقع في رواية ابن عساكر وأبي الوقت من طريق سليمان بن بلال الآتية: (ثم أدخل يديه)؛ بالتثنية، وليس ذلك في رواية أبي ذر ولا الأصيلي، ولا في شيء من الروايات خارج «الصحيح»، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ولعلَّه كان الإناء صغيرًا، فاغترف بإحدى يديه، ثم أضافها إلى الأخرى، كما تقدم نظيره في حديث ابن عباس؛ ليكون ذلك أسهل عليه وأقرب للتناول؛ فافهم.
(فغسل وجهه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، ويدخل فيه غسل جميع اللحية، فإنَّه فرض عملًا لا اعتقادًا على المذهب المصحَّح المفتى به المرجوع إليه، وفي رواية عن الإمام الأعظم: (أنه يُفْتَرَضُ مسح جميع اللحية)، ويدل لذلك ما في «كتاب ابن السكن» عن النبي الأعظم عليه السلام وفيه: (فمسح باطن لحيته وقفاه)، ويدلُّ للأول أحاديث مشهورة لا نطيل بها لشهرتها؛ فافهم.
(ثم أدخل يديه)؛ بالتثنية؛ أي: في الإناء فأخرج ماء، (فغسل يديه)؛ بالتثنية، (إلى المِرْفَقين)؛ بكسر الميم، وسكون الرَّاء، وفتح الفاء، تثنية مرفق، وهو العظم الناتئ في الذراع، و (إلى)؛ بمعنى: مع؛ أي: مع المرفقين، (مرتين)؛ أي: كل يد مرتين، لا أنهما لهما لكل يد مرة، كما قد يُتَوَهَّم بدليل رواية مالك: (ثم غسل يديه مرتين مرتين)، فليس المراد: توزيع المرتين على اليدين لكل يد مرة واحدة؛ فافهم.
(ثم أدخل يده)؛ بالإفراد؛ أي: في الإناء (فمسح رأسه)؛ أي: جميعه، كما هو ظاهر اللفظ، لكنَّه ليس على طريق الوجوب، بل على طريق السنية المؤكَّدة على الصحيح من المذهب، وفي رواية عن الإمام الأعظم وهو قول الشافعي: أنَّه مستحب، وعند مالك وأحمد: أنَّه فرض، (فأقبل بهما) أي: بيديه (وأدبر) أي: بهما أيضًا (مرة واحدة)، واقتصاره على المرة الواحدة دليل ظاهر على عدم سنية التثليث، ويدلُّ لذلك ما رواه أصحاب «السنن» الأربعة عن علي الصديق الأصغر في حكاية وضوء النبي الأعظم عليه السلام: أنَّه مسح على رأسه مرة واحدة، وأحاديث عثمان بن عفان الصحاح تدلُّ على ذلك أيضًا؛ فافهم، فإنَّهم ذكروا الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، وقالوا: (ومسح برأسه)، ولم يذكروا عددًا، فدلَّ على الاقتصار على المرة الواحدة، ولأنَّ التثليث في المسح لا يفيد؛ لأنَّ التكرار في الغسل لأجل المبالغة في التنظيف، ولا يحصل ذلك بالمسح، فلا يفيد التكرار، ومثله: مسح الخف، والجبيرة، والتيمم، وما روي من الأحاديث ممَّا يدل ظاهره على التثليث؛ فهو محمول على أنه بماء واحد؛ جمعًا بين الأحاديث، وهل يُكْرَهُ التثليث بماء واحد أو لا؟ فقال في «المحيط» و «البدائع»: إنَّه مكروه؛ للأحاديث التي ذكرناها، وقال في «الخانية»: (لا يُكْرَهُ، ولا يُسَنُّ، ولا يكون أدبًا) انتهى، وقال في «شرح المنية»: إنه مكروه على الأوجه؛ لأنَّ الأحاديث التي فيها ذكر المسح مرة واحدة أقوى وأرجح، لا تقاوم ما ظاهره التثليث، على أن أحاديث التثليث قد تٌكلِّم في سندها، ولا ريب أن الصحيح لا يقاوم الضعيف، فالأخذ بالصحيح متعين، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وكيفية المسح والاستيعاب: أن يبلَّ كفيه بالماء وأصابعه ثم يلصق الأصابع؛ أي: يضمها، ويضعها على مُقَدَّم رأسه من كل يد ثلاثة أصابع؛ أي: الخنصر والبنصر والوسطى، ويمسك إبهاميه وسبابتيه مرفوعات، ويجافي بطن كفيه عن رأسه، ويمدهما _أي يديه_ إلى القفا، ثم يضع كفيه على جانبي الرأس، ويمسحهما _أي: جانبي الرأس_ بكفيه، ويمسح ظاهر أذنيه بباطن إبهاميه وباطن أذنيه بباطن مسبحته؛ كذا ذكره في «المحيط»؛ تحرُّزًا عن الاستعمال.
واعترضه في «فتح القدير» بأنَّ الاستعمال لا يثبت قبل الانفصال والأذنان من الرأس، وقال في «شرح المنية»: واتفقوا على أنَّ الماء ما دام على العضو لا يكون مستعملًا، فالأظهر في كيفية استيعاب مسح الرأس ما ذكره الإمام فخر الدين الزيلعي في «التبيين» أن يضع كفيه وأصابعه على مقدم رأسه، ويمدُّهما إلى القفا على وجه يستوعب جميع الرأس، ثم يمسح أذنيه بإصبعيه قال: (ولا يكون الماء مستعملًا بهذا؛ لأنَّ الاستيعاب بماء واحد لا يكون إلا بهذا الطريق) انتهى، وأقرَّه في «البحر»، و «النهر»، و «شرح المنية»، وغيرها، فكان هو المذهب، وإلى غيره لا يُذهَب؛ لموافقته لحديث الباب وغيره من الأحاديث الصحاح.
ولا يُسَنُّ أخذ ماء جديد لمسح الأذنين، بل يمسحهما بماء الرأس؛ لأنَّه السنة؛ لأنَّ الأذنين من الرأس، كما في الحديث، وأمَّا إذا انعدمت البلة من اليدين وهما على الرأس؛ فلا بدَّ من أخذ ماء جديد لهما، وكذا إذا كانت البلة باقية بأن مسح رأسه بيديه، ثم رفعهما قبل مسح الأذنين؛ فلابد من أخذ ماء جديد، ولو كانت البلة باقية؛ لأنَّها مستعملة؛ كما مر، وكيفية مسحهما: أن يمسح بالسبابتين داخلهما وبالإبهام خارجهما، وهو المختار، كما في «المعراج»، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنَّه يدخل الخنصرين في أذنيه ويحركهما، وهو قول شيخ الإسلام، كذا في «منهل الطلاب»، ولم يذكر في الحديث مسح الأذنين، وذكره في «سنن النسائي» عن عائشة وصفت وضوءَه عليه السلام، وفيه: (ثم مدَّت بيديها بأذنيها)، وعند أبي داود: (ثم مسح برأسه وبأذنيه
%ص 159%
كليهما)، وفيه أحاديث أخر لا نطيل بذكرها.
(ثم غسل رجليه إلى الكعبين)؛ أي: معهما، وهما العظمان الناتئان عند ملتقى الساق والقدم، هكذا فسره أهل اللغة، والدليل عليه: قول النعمان بن بشير حين قال النبي الأعظم عليه السلام: «أقيموا صفوفكم»: لقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وبهذا قال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم وجميع أصحابه، وقال مالك: (الكعب: هو الملصق بالساق، والمحاذي للعقب)، وما نسبه ابن حجر والعجلوني إلى الإمام الأعظم، من أنه الشاخص في ظهر القدم، فلا أصل له، وهو خطأ ظاهر، وافتراء على هذا الإمام، وإنما قال الإمام محمد الشيباني في المُحْرِم: (إذا لم يجد النعلين؛ فيلبس الخفين، ويقطعهما أسفل من الكعبين)، وفسر الكعب في ذلك: (بأنه الذي في ظهر القدم عند مَعْقَدِ الشراك)، فأخذ ذلك هشام تلميذ الإمام محمد ونقله إلى الوضوء على طريق الغلط والسهو، فتمسك بذلك المتعصبون المتعنتون، ونسبوه إلى الإمام الأعظم، وقد اتفق الشراح والمتون والفتاوى على أنَّ تفسير هشام لذلك خطأ من هشام، وليس ذلك بمراد للإمام محمد، كما صرَّح بذلك في كتبه؛ ظاهر الرواية الستة، فمن زعم ذلك ونسبه للإمام الأعظم؛ فهو مخطئ ومفترٍ، ويكفيه أنه كاذب فيما قاله؛ فافهم.
وفي المجيء بالغاية في الآية دليل لكونهما مغسولتين لا ممسوحتين؛ لأنَّ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة، والخلاف في غسل الكعبين مع الرجلين كالخلاف في غسل المرفقين مع الذراعين، كما قدمناه؛ فافهم، والله أعلم.
==================
(1/332)
(40) [باب استعمال فضل وضوء الناس]
هذا (باب: استعمال فضل وَضوء) بفتح الواو (الناس) في التطهير وغيره، يحتمل أن المراد من فضل الوضوء: هو ما يبقى في الظرف بعد الفراغ من الوضوء وغيره كالشرب والطبخ والعجين، أو فَضَل عن غسل ثوب أو إناء طاهر، وهذا لا خلاف في طهارته وجواز التوضؤ والتطهير به، ويحتمل أن يراد به: الماء الذي يتقاطر من أعضاء المتوضئ، وهو الماء المستعمل، وسببه: رفع الحدث أو لأجل القربة أي: الثواب، والظاهر أن هذا هو المراد، واختلف فيه؛ فروي عن الإمام الأعظم ثلاث روايات، فروى الإمام أبو يوسف عنه: أنه نجس مخفف، وحكى الشافعي في «الأم» عن شيخه محمد بن الحسن: أن أبا يوسف رجع عنه، ثم رجع إليه بعد شهرين، وروى الإمام الحسن بن زياد عن الإمام الأعظم: أنه نجس مغلظ، وروى الإمام محمد بن الحسن، والإمام زفر، وعامر، عن الإمام الأعظم: أنه طاهر غير طهور.
وجه رواية النجاسة: ما رواه المؤلف ومسلم وأصحاب «السنن» الأربعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلَنَّ فيه من الجنابة»، وفي رواية: «ثم يغتسل فيه من الجنابة»، وفي أخرى: «لا يغتسل فيه من الجنابة»، وذلك أنه حرم الاغتسال في الماء القليل؛ لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام، فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة؛ لم يكن للنهي معنًى؛ لأنَّ إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر؛ فحرام، فكان هذا نهيًا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال، وهذا يقتضي التنجيس به.
لا يقال: يحتمل أنه نهيٌ؛ لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرًا من غير ضرورة، وذلك حرام؛ لأنَّا نقول: الماء القليل إنَّما يخرج عن كونه مطهرًا باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبًا عليه كماء الورد، أما إذا كان مغلوبًا؛ فلا، وههنا الماء المستعمل: ما يلاقي البدن، ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل، فكيف يخرج به من أن يكون مطهرًا، أمَّا ملاقاة النجس الطاهر؛ فتوجب تنجيس الطاهر، وإن لم يغلب على الطاهر؛ لاختلاطه بالطاهر على وجه لا يمكن التمييز بينهما، فيحكم بنجاسة الكل، فثبت أن النهي لما قلنا.
ولا يقال: يحتمل أنه نهي؛ لأنَّ أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية، وهي توجب تنجيس الماء القليل؛ لأنَّا نقول: الحديث مطلق، فيجب العمل بإطلاقه، ولأن النهي عن الاغتسال ينصرف إلى الاغتسال المسنون؛ لأنَّه المتعارف بين المسلمين، والمسنون منه: إزالة النجاسة قبل الاغتسال، على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيدت بالنهي عن البول فيه، فيوجب عمل النهي على الاغتسال فيه؛ لما ذكرنا؛ صيانة لكلام الشارع عن الإعادة الخالية عن الفائدة.
لا يقال: القِرَان في النظم لا يوجب القِرَان في الحكم، فلا يلزم تنجيس الماء بالاغتسال؛ لأنَّا نقول: إنَّ مطلق النهي للتحريم خصوصًا إذا كان مُؤكَّدًا بنون التأكيد؛ لا باعتبار القران، على أنَّ القِران معتبر هنا، فإنَّه عليه السلام قد قرن المستعمل بالبول، وهو نجس إجماعًا، فدل على أن الاغتسال فيه كالبول فيه، وللقران في الحكم شواهد كثيرة من القرآن العظيم، والأحاديث الشريفة، ويدل عليه أنَّه تعالى عقب الأمر بالوضوء والتيمم: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، فدل إطلاق التطهير على ثبوت النجاسة في أعضاء الوضوء، ودل الحكم بزوالها بعد التوضؤ على انتقالها إلى الماء، فيجب الحكم بالنجاسة، لكنِ الإمامُ أبو يوسف جعل النجاسة خفيفة، وذلك لعموم البلوى فيه؛ لتَعَذُّرِ صيانة الثياب عنه، ولكونه محل اجتهاد، فأوجب ذلك تخفيفًا في حكمه.
ووجه رواية التغليظ: أنها نجاسة حكمية، وهي أغلظ من الحقيقية؛ بدليل أنه لا يعفى عن شيء قليل منها، وأمَّا الحقيقية، فيعفى عن قليلها، فهي أغلظ، وقد أطال في «فتح القدير»، و «البحر الرائق» في الاستدلال، ورجح رواية التخفيف؛ فراجعهما، ولولا الإطالة؛ لذكرناه.
ورواية الطهارة هي المعتمدة، وهي قول الإمام محمد، وبه قال زفر والشافعي في القديم، وهو الأصح عنده، وأحمد على الراجح؛ على أن الماء المستعمل طاهر غير طهور، وبه أخذ أكثر أئمتنا، واختارها المحققون وعلماء العراق، ونفوا الخلاف، وقالوا: إنه طاهر عند الكل، وقد قال في «المجتبى»: (صحت الرواية عن الكل أنه طاهر غير مطهِّر، فالاشتغال بتوجيه التغليظ والتخفيف مما لا جدوى له)، كذا في «النهر»، وممن صرح بأن رواية الطهارة ظاهر الرواية وعليها الفتوى صاحبُ «الكافي» و «المصفى» و «الذخيرة»؛ كما قاله في «شرح الدرر» وفي «شرح المنية»، وهو ظاهر الرواية وعليه الفتوى وهو الصحيح، كما في «الجوهرة» و «شرح الهاملية»، وهو المختار، كما في «الملتقى»، وعليه الفتوى، كما في «فتح القدير» و «النهر»، وقال في «الفتاوى البزازية»: (الصحيح أن الإمام الأعظم قائل بالطهارة، كما قاله الإمام محمد)، والفتوى عليه، كما في «التقريب»، و «الخلاصة»، و «المفيد»، وغيرها من الكتب المعتبرة؛ لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا المستعمل في أسفارهم القليلة الماء ليتطهروا به، بل عدلوا إلى التيمم، فلو كان طهورًا لجمعوه، فدل على أنه لا يجوز استعماله مرة ثانية.
فإن قيل: تركوا الجمع؛ لأنَّه لا يُجمَع منه شيء؛
%ص 160%
للمشقة.
وأجيب: بأنَّا لا نسلِّم ذلك، ولئن سلَّمناه في الوضوء؛ لا نسلِّم ذلك في الغسل.
فإن قيل: لا يلزم من عدم جمعه منع الطهارة به، ولهذا لم يجمعوه للشرب والطبخ والتبرد.
قلت: إنَّما تركوا جمعه للشرب وغيره؛ للاستقذار، فإن النفوس تعافه للعادة، وإن كان طاهرًا، فالظاهر: أنَّ علة الطهارة عموم البلوى، يدل لذلك ما في «الفتاوى الولوالجية»: ولمَّا كان دليل النجاسة قويًّا؛ كان هو المختار، إلا أنَّ البلوى عمت في الماء المستعمل في الحدث الأصغر، فأفتى العلماء بالطهارة؛ للضرورة، وذكر نحوه في «الهداية» وغيرها؛ فافهم.
وقال الإمام زفر: (إن كان مستعمِله طاهرًا؛ فهو طاهر وطهور، وإن كان محدثًا؛ فهو طاهر غير طهور).
وقال مالك والشافعي في القديم ورواية عن أحمد إلى أنَّه طاهر وطهور، وهو قول النخعي، والحسن البصري، والزهري؛ لوصف الماء بالطهور في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، المقتضي تكرار الطهارة؛ كـ (ضَرُوب) لمن يتكرر منه الضرب.
وأجيب: بأن تكرار الطهارة حاصل بما يتردد على العضو دون المنفصل عنه؛ جمعًا بين الدليلين، أو أنه يطهر الحدث ثم يطهر الخبث، فالتكرار من هذا الوجه لا لما ذكروه؛ لأنَّه غير مراد.
وقال ابن بطال: (وأجمعوا على أن الإنسان غير مأخوذ عليه بما يرتش عليه الماء المستعمل، فلو كان نجسًا؛ لوجب التحرز عنه، فهو طاهر، وما لم يتغير طعمه، ولا لونه، ولا ريحه؛ لم يؤثر في الاستعمال في عينه، فلم يؤثر في حكمه، وهو طاهر لاقى طاهرًا، فجاز أن يسقط به الفرض مرة أخرى؛ كالماء الذي غسل به ثوب طاهر، فهو طاهر مطهر) انتهى.
قلت: وفيه نظر، فإن الذي يرتش عليه إنَّما جُعِل عفوًا للضرورة؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه قطعًا، وهو لا يدلُّ على طهارته، وقوله: (ما لم يتغير ... ) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّه قد حصل له الكلال، والضعف، واجتماع الأوساخ فيه، والأدران التي في البدن، وقوله: (كالماء الذي غسل به ثوب ... ) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّه قياس مع الفارق، والفرق: أنَّ الثوب الطاهر خالي عن الأوساخ، فإذا غسل به لا تأثير له، بخلاف الماء المستعمل؛ فإنه قد أثر فيه البدن من ارتفاع الحدث، فإنه ماء الذنوب، وقد رأى الإمام الأعظم جماعة يتوضؤون، فينزل الماء منهم بعضه أسود وبعضه أحمر وبعضه كدر، ولا يدرك ذلك إلا أصحاب القلوب السليمة التي نوَّرها الله بالكشف الإلهي، وقد نزع الله تعالى من الماء البركة؛ بسبب اختلاطه بذنوب الناس؛ كالخمر، فإنه مباح في العهد الأول، وفيه النفع، ولمَّا حرم في شريعتنا؛ نزعت منه ذلك النفع، وبقي نجسًا مضرًّا، وستأتي بقية المباحث في ذلك.
(وأمر جرير بن عبد الله أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه) فيما وصله ابن أبي شيبة والدارقطني وغيرهما عنه، ولفظ الدارقطني: «كان يقول لأهله: توضؤوا من آلة أدخل فيه سواكي»، وفي بعض طرقه: كان جرير يستاك، ويغمس رأس سواكه في الماء، ثم يقول لأهله: (توضؤوا بفضله) لا يرى به بأسًا، وهذه الرواية مبينة للمراد.
قال في «عمدة القاري»: (هذا الأثر غير مطابق للترجمة أصلًا، وأن الترجمة في استعمال الماء الذي يَفْضُلُ من المتوضئ، والأثر: هو الوضوء بفضل السواك، ثم فضل السواك إن كان ما ذكره ابن التين وغيره: من أنَّه هو الماء الذي يُنْقَع فيه السواك، فلا مناسبة له للترجمة؛ لأنَّه ليس بفضل الوضوء، وإن كان المراد: أنه الماء الذي يغمس فيه المتوضئ سواكه بعد الاستياك؛ فذلك لا يناسب الترجمة، وقال بعضهم _أي: ابن حجر_: أراد المؤلف أن هذا الصنيع لا يغير الماء، فلا يمنع التطهر به، قلت: من له أدنى ذوق من الكلام لا يقول هذا الوجه في تطابق الأثر للترجمة).
أي: لأنَّ تغير الماء هو معنًى آخر خارج عما نحن بصدده، ومراد المؤلف: التوضؤ بما يَفْضُلُ عن المتوضئ الآخر، فلا وجه لهذا الكلام هنا.
ثم قال في «عمدة القاري»: (وقال ابن المنير: إن قيل: ترجم على استعمال فضل الوضوء، ثم ذكر حديث السواك والمجة، فما وجهه؟ قلت: مقصوده: الرد على من زعم أنَّ الماء المستعمل في الوضوء لا يُتطَهر به، قلت: هذا الكلام أبعد من كلام هذا القائل؛ فأي دليل دلَّ على أن الماء في خبر السواك والمجة فضل الوضوء؟ وليس فضل الوضوء إلا الماء الذي يَفْضُلُعن وضوء المتوضئ، فإن كان لفظ «فضل الوضوء» عربيًّا؛ فهذا معناه، وإن كان غير عربي؛ فلا تعلق له.
وزعم الكرماني فقال: وفضل السواك: هو الماء الذي ينقع فيه السواك ليترطب ويلين، وسواكهم الأراك.
قلت: بيَّنت لك أنَّ هذا كلامٌ واهٍ، وأنَّ فضل السواك لا يقال له: فضل الوضوء، وهذا لا ينكره إلا معاند ومكابر).
قال: (ويمكن أن يقال: بالجر الثقيل أنَّ المراد من فضل السواك: هو الماء الذي في الظرف، والمتوضئ يتوضأ منه، وبعد فراغه من تسوكه عقيب فراغه من المضمضة يرمى السواك الملوث بالماء المستعمل فيه) انتهى.
وقد أجاب بهذا الجواب القسطلاني ونسبه لنفسه لكونه في غاية التحقيق للمناسبة والمطابقة للترجمة.
قال العجلوني متعصبًا لابن حجروقد زاد عليه في الطنبور نغمة: (كلام بعضهم صحيح؛ لقياسه ماء الوضوء، حيث لم يتغير على الذي وضع فيه سواك ليترطب به ولم يتغير، وهو قياس صحيح؛ لوجود الجامع بينهما؛ وهو عدم التغيير) انتهى.
قلت: وهذا القياس فاسد، فإن السواك الذي يستاك به إذا وضع في الماء لا ريب أنه يتغير من الذي عليه من أوساخ الفم والأسنان، ولا يقال له: إنه فضل الوضوء قطعًا، فأين الجامع بينهما؟ على أنه أوَّلًا يصحح كلام ابن حجر، ثم يبين القياس؟ ولا ريب أن كلام ابن حجر غير ظاهر المعنى؛ لأنَّه في وادٍ والمؤلف في وادٍ آخر، والعجلوني مثله كمثل من وضع قطنًا على أرض وجاء آخر يبني عليه بالحجارة، فلا ريب أنَّ ما قاله الإمام بدر الدين العيني هو الصواب، وإليه المرجع والمآب.
==================
(1/333)
[حديث أبي جحيفة في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم]
187# وبه قال: (حدثنا آدم)؛ هو ابن أبي إياس؛ بكسر الهمزة (قال: حدثنا شعبة)؛ أي: ابن الحجاج (قال: حدثنا الحَكَم)؛ بفتحتين؛ أي: ابن عُتَيْبَة _بضم العين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة_ فهو تابعي صغير، وليس له سماع من أحد من الصحابة إلا أبا جحيفة، وقيل: روى عن ابن أبي أوفى أيضًا، كما في «عمدة القاري» (قال: سمعت أبا جُحَيْفة)؛ بضم الجيم، وفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية، بعدها فاء، واسمه: وهب بن عبد الله الثقفي الكوفي السُّوائي _بضم المهملة_ المتوفى سنة أربع وسبعين (يقول)؛ جملة محلها النصب على أنها مفعول ثان لـ (سمعت) على قول من يقول: إن السماع يستدعي مفعولين، والأظهر: أنها حال، كذا في «عمدة القاري»: (خرج علينا النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) (من قُبَّةٍ حمراءَ من أدم بالأبطح بمكة)، كما صرح به في رواية، (بالهاجرة)؛ أي: في الهاجرة، فالباء فيه ظرفية بمعنى: (في)، وهي نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر، أو عند زوال الشمس إلى العصر، وقيل في كل ذلك: إنه شدة الحر، وفي «الأنواء»: (الهاجرة: بالصيف قبل الظهيرة بقليل أو بعدها بقليل، والهويجرة: قبل العصر بقليل، وسميت: الهاجرة؛ لهروب كل شيء منها)، وفي «المغيث»: الهاجرة؛ بمعنى: المهجورة؛ لأنَّ السير هجر فيها كـ {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]؛ بمعنى: مدفوق، وأما قول النبي الأعظم عليه السلام: «والمُهَجِّر كالمُهْدِي بدنة»؛ فالمراد: التبكير إلى كلِّ الصلوات، وعن الخليل: (التهجير إلى الجمعة: التبكير، وهي لغة حجازية)، وتمامه في «عمدة القاري».
(فأُتِي)؛ بضم الهمزة وكسر التاء (بوَضوء)؛ بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ منه، (فتوضأ)؛ أي: من ذلك الماء، (فجعل الناس) أي: الصحابة (يأخذون) في محل
%ص 161%
النصب على أنه خبر (جعل) الذي هو من أفعال المقاربة (من فضل وَضوئه)؛ بفتح الواو: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، وكأنَّهم اقتسموه بينهم، أو أنَّهم كانوا يتناولون ما سال من أعضائه عليه السلام، (فيتمسحون به)؛ أي: بذلك الماء، فإن كان المراد المعنى الأول؛ فلا دلالة فيه على طهارة الماء المستعمل؛ لأنَّهم أخذوا [1] ما فضل من وضوئه في الإناء، فيكون المراد منه: التبرك بذلك، والماء طاهر، فازداد طهارة ببركة وضع النبي الأعظم عليه السلام يده المباركة فيه، وإن كان المراد المعنى الثاني؛ فلا دلالة فيه أيضًا على طهارة الماء المستعمل؛ لأنَّ الماء لا يُحْكَم عليه بالاستعمال إلا إذا انفصل عن العضو واستقر في مكان، وهنا ليس كذلك، على أنَّ ظاهر اللفظ يدل على الأول، فإن جُعِل (الوضوء) اسمًا لمطلق الماء؛ فلا دلالة فيه على الطهارة، وإن أُريدَ بـ (وضوئه): فضل مائه الذي توضأ ببعضه ولم يستعمله في أعضائه؛ فلا دلالة أيضًا، ومع هذه الاحتمالات لا يثبت دليل الطهارة، فتثبت النجاسة، وأخذ الصحابة ذلك الماء للتبرك؛ لأنَّه لا شكَّ في طهارته؛ لأنَّ إمامنا الأعظم رضي الله عنه قال بطهارة فضلاته، فكيف بماء وضوئه؟! بالأولى.
والتمسيح: من باب (التفعيل)، وهي تأتي لمعان، ومعناها هنا: العمل؛ ليدل على أن أصل الفعل حصل مرة بعد مرة؛ نحو: تَجَرَّعَهُ؛ أي: شربه جرعة بعد جرعة، والمعنى هنا كذلك؛ لأنَّ كل واحد منهم يمسح به وجهه ويديه مرة بعد أخرى، ويحتمل أن تكون للتكلف [2]؛ لأنَّ كل واحد منهم لشدة الازدحام على فضل وضوئه كان يتعانى لتحصيله كـ (تشجع) و (تصبَّر).
(فصلى النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، والعصر ركعتين) مقصورتين؛ لأنَّه كان في السفر، (وبين يديه) خبر مقدم، والجملة حالية، وقوله: (عَنَزَة)؛ بالرفع مبتدأ مؤخر، وهي بفتحات: أقصر من الرمح وأطول من العصا، وفيه زج كزج الرمح، وإنما صلَّى إليها؛ لأنَّه عليه السلام كان في الصحراء.
وفي الحديث: دلالة على جواز التبرك بآثار الصالحين، وفيه: قصر الرباعية في السفر، وفيه: نصب العَنَزَةَ بين يدي المصلي إذا كان في الصحراء، والله أعلم.
188# (وقال أبو موسى)؛ أي: عبد الله بن قيس الأشعري، مما وصله المؤلف في (المغازي) وأوله: عن أبي موسى قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ومعه بلال، فأتاه أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ قال: «أبشر» ... ؛ الحديث، وفيه ما اقتصر عليه المؤلف هنا على موضع الاستشهاد، فقال: (دعا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم بقَدَح)؛ بفتحتين: الإناء الذي يؤكل فيه، قاله ابن الأثير، وقال في «عمدة القاري»: (في استعمال الناس اليوم: الإناء الذي يشرب فيه)؛ فتأمل، (فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه) أي: في الإناء، (ومج فيه)؛ أي: صبَّ ما تناوله من الماء بفيه في الإناء، (ثم قال) عليه السلام (لهما)؛ أي: لبلال وأبي موسى، وكان بلال مع أبي موسى حاضرًا عند النبي الأعظم عليه السلام، كما دل عليه الحديث في (المغازي): (اشربا)؛ بهمزة وصل من (شرب) (منه)؛ أي: من ذلك الماء، (وأَفرِغا)؛ بهمزة قطع مفتوحة من الرباعي؛ أي: صُبَّا من الماء (على وجوهكما ونحوركما)؛ بالنُّون، جمع نحر، وهو الصدر.
قال الإسماعيلي: (ليس هذا من الوضوء في شيء، وإنما هو مثل من استشفى بالغسل له، فغسل)، قال في «عمدة القاري»: (أراد بهذا الكلام أنه لا مطابقة له للترجمة، ولكن فيه مطابقة من حيث إنه عليه السلام لمَّا غسل يديه ووجهه في القدح؛ صار الماء مستعملًا، ولكنَّه طاهر؛ لأنَّه لو لم يكن طاهرًا؛ لما أمر بشربه وإفراغه على الوجه والنحر، وهذا الماء طاهر وطهور أيضًا بلا خلاف، ولكن إذا وقع مثل هذا من غيره عليه السلام؛ يكون الماء على حاله طاهرًا، ولكن لا يكون مطهِّرًا على ما عُرِف).
وقال الكرماني: (فيه دلالة على طهارة الماء المستعمل، وفيه جواز المج في الماء)، قال في «عمدة القاري»: (هذا في حق النبي الأعظم عليه السلام؛ لأنَّ لعابه أطيب من المسك، ومن غيره مُتَقَذَّر؛ ولهذا كرهه العلماء، والنبي عليه السلام لعابه أعظم، وكانوا يتدافقون على نخامته ويدلكون بها وجوههم؛ لبركتها وطيبها، وخَلوفه ما كان يشابه خَلوفَ غيره، وذلك لمناجاته الملائكة، فطيَّبَ الله نكهته، وخَلوفَ فمه، وجميع رائحته).
وقال ابن القطاع: (فيه دليل على أن لعاب البشر ليس بنجس، ولا بقيَّة شربه، وذلك يدل على أنَّ نهيه عليه السلام عن النفخ في الطعام والشراب ليس على سبيل أنَّ ما تطاير فيه من اللعاب نجس، وإنَّما هو خشية أن يتقذَّره الآكل منه والشارب، فأمر بالتأدُّب في ذلك، وحديث أبي موسى يحتمل أن يكون عليه السلام أمر بالشرب من الذي مجَّ فيه والإفراغ على الوجوه والنحور من أجل مرض أو شيء أصابهما)، واعترضه الكرماني: (بأنه لم يكن ذلك من أجل ما ذكره، بل كان لمجرد التيمُّن والتبرك)، قال في «عمدة القاري»: فعلى هذا لا تطابق بينه وبين ترجمة الباب، وقد قدمنا وجه المطابقة؛ فافهم، والله أعلم.
==================
[1] في الأصل: (أخذ).
(1/334)
[حديث: وإذا توضأ النبي كادوا يقتتلون على وضوئه]
189# وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو ابن المديني (قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعْد) بسكون العين المهملة (قال: حدثنا أبي)؛ أي: إبراهيم المذكور، (عن صالح) هو ابن كيسان، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري: أنه (قال: أخبرني) وفي رواية: (حدثني) بالإفراد فيهما (محمود بن الرَّبيع) بفتح الرَّاء (قال)؛ أي: ابن شهاب: (وهو) أي: محمود (الذي مَجَّ)؛ أي: رمى، والمُجاج: الريق الذي تمجه من فِيْك، (رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من فمه الشريف ماءً (في وجهه)؛ أي: ليمازحه؛ إيناسًا له (وهو غلام) جملة اسمية وقعت حالًا، وقوله: (من بئرهم) متعلق بقوله: (مج)، أو حال من المفعول المحذوف، والظاهر الأولى، كما لا يخفى، والضمير في (بئرهم): يعود لمحمود وقومه بدلالة القرينة عليه.
والذي أخبر به محمود هو قوله: (عَقَلْتُ من النبي صلى الله عليه [وسلم] مجَّة مجَّها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين من دلو)، وقوله: (وهو الذي مج ... ) إلى قوله: (بئرهم)؛ كلام لابن شهاب ذكره تعريفًا أو تشريفًا، وهذا الحديث لا يطابق الترجمة، وإنما يدلُّ على ممازحة الطفل بما قد يصعب عليه؛ لأنَّ مجَّ الماء قد يَصْعُبُ عليه، وإن كان قد يستلذ به؛ فافهم.
وقد أخرجه المؤلف في كتاب (العلم) في باب (متى يصح سماع الصغير)، وقد سبق الكلام عليه مستوفًى من جميع الوجوه.
(وقال عروة)؛ هو ابن الزبير بن العوام، مما وصله المؤلف في كتاب (الشروط) [في باب (الشروط] في الجهاد) (عن المِسْوَر)؛ بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الواو، وهو ابن مَخْرَمة _بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الرَّاء_ الزهري، ابن بنت عبد الرحمن بن عوف، قُبِضَ النبي الأعظم عليه السلام وهو ابن ثمان سنين، وصح سماعه منه، فهو صحابي صغير، فأصابه حجر من أحجار المنجنيق وهو يصلي في الحِجر، فمكث خمسة أيام، ثم مات زمن محاصرة الحجاج مكة سنة أربع وستين، والألف واللام فيه كالألف واللام في (الحارث) يجوز إثباتهما ويجوز نزعهما، وهو في الحالتين علَمٌ، كذا في «عمدة القاري» (وغيره) عطف على (المِسْوَر)، والمراد بالغير: هو مروان بن الحكم، كما صرَّح به المؤلف في هذا الحديث المطول في (الجهاد)، وقول الكرماني: (ولا يضر الإبهام؛ لأنَّ الغالب أن عروة لا يروي إلا عن عدلوأيضًاذكر المتابعة فيغتفر فيها الجهالة [1]) قد رده في «عمدة القاري»: (بأن هذا غير وارد من أصله؛ لأنَّ هذا التعليق أخرجه المؤلف موصولًا، وبين فيه أن المراد من قوله: «وغيره» مروان، فإذا سقط السؤال؛ فلا حاجة إلى الجواب) انتهى.
وجملة: (يصدق كل واحد منهما)؛ أي: من المِسْوَر ومروان (صاحبه)؛ أي: كل واحد منهما يوافق الآخر على ما حدَّث به؛ حال من (المِسْوَر وغيره) لا أنه مقول ابن شهاب، كما زعمه الكرماني، كذا نبه عليه في «عمدة القاري».
والحاصل: أن قوله: (وقال عروة: ... ) إلخ: تعليق، وأن ضمير (منهما) عائد إلى المِسْوَر
%ص 162%
ومروان، وزعم الكرمانيأن ضمير (منهما) يعود إلى محمود والمِسْوَر؛ وهو فاسد؛ لمخالفته لصنيع أئمة هذا الشأن، بل هو تجويز عقلي مخالف للنقل الذي تقدم عن المصنف، كذا نبه عليه في «عمدة القاري»، ولفظ الحديث: (حدثنا عبد الله بن محمد: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري قال: أخبرني عروة، عن المِسْوَرِ بن مَخْرَمة ومروان يصدق كل واحد منهما صاحبه؛ قالا: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن ... » الحديث، وهو طويل إلى أن قال: «ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي عليه السلام بعينيه قال: فوالله ما تنخَّم رسول الله عليه السلام نخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم، فدَلَكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم؛ ابتدروا أمره ... » إلى آخره)، والمراد من قوله: (ثم إن عروة) هو عروة بن مسعود أرسله كفَّار مكة إلى رسول الله عليه السلام زمن الحديبية، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: (وإذا توضأ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم؛ كانوا) وفي رواية: (كادوا)؛ بالدَّال المهملة؛ أي: الصحابة (يقتتلون على وَضوئه)؛ بفتح الواو: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء؛ ليس من قول المِسْوَر وغيره، كما زعمه وتوهمه الكرماني؛ لأنَّهما صحابيان صغيران لم يحضرا القصة، ولا من مقول عروة بن الزبير؛ لأنَّه تابعي، بل هو من مقول عروة بن مسعود الثقفي المشاهد لذلك؛ لأنَّه هو القائل بذلك والحاكي به عند مشركي مكة.
وزعم ابن حجرأن رواية (كادوا) هي الصواب؛ لأنَّه لم يقع بينهم قتال، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: كلاهما سواء، والمراد به: المبالغة في ازدحامهم على نخامة النبي عليه السلام وعلى وضوئه) انتهى، قلت: وهذا ظاهر لمن له أدنى تأمل؛ فافهم.
وذكر ابن طاهر أن هذا الحديث معلول؛ لأنَّ المِسْور ومروان لم يُدْرِكا هذه القصة التي كانت بالحديبية سنة ستٍّ؛ لأنَّ مولدهما كان بعد الهجرة بسنتين، كما أجمع عليه المؤرخون، وأمَّا ما في «مسلم» عن المسور قال: (سمعت رسول الله عليه السلام يخطب الناس على هذا المنبر وأنا يومئذ محتلم)، فيحتاج إلى تأويل لغوي؛ بمعنى: أنه كان يعقل، لا الاحتلام الشرعي، أو أنه كان سمينًا غير مهزول، فيما ذكره القرطبي، وقال صاحب «الأفعال»: (حلم حلمًا؛ إذا عقل)، وقال غيره: (إذا تحلَّم الغلام؛ صار سمينًا)، وهو معدود في صغار الصحابة، مات سنة أربع وستين، كذا في «عمدة القاري».
وفي الحديث دلالة على طهارة الماء المستعمل إذا كان المراد من قوله: (يقتتلون على وضوئه): الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، لكنه بعيد، والظاهر: أن المراد به: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء؛ لأنَّ اللفظ يدل عليه، وهو غير مستعمل، ولا شكَّ في طهوريته، أمَّا المستعمل؛ فلا يجوز استعماله في الأحداث، أمَّا استعماله في تطهير الثوب والبدن من النجاسة؛ فيجوز، لكنه مكروه، وكذا يُكْرَهُ شربه، كما في «البزازية»؛ لأنَّ النفس تعافه؛ لتدنُّسه بأوساخ البدن، قال في «البحر»: (ولا يخفى أن الكراهة على رواية الطهارة، أمَّا على رواية: أنه نجس؛ فحرام؛ لأنَّه من الخبائث، فلا يجوز استعماله مطلقًا) انتهى، ووفَّق في «الدر» تبعًا «للنهر»: (بأنه على رواية الطهارة: يُكْرَهُ شربه والعجن به تنزيهًا؛ للاستقذار، وعلى رواية النجاسة تحريمًا؛ لأنَّ المطلق منها ينصرف إليها) انتهى، وإنما يُكْرَهُ تنزيهًا على رواية الطهارة؛ لأنَّه اكتسب زخومة البدن بالاستعمال؛ لأنَّه ربما يَضُرُّ المعدة، كما قالوا في الماء المشمَّس: إنَّه يُكْرَهُ التوضؤ به؛ لأنَّه يورث البرص، وكما قالوا في الشرب قائمًا: إنَّه مكروه؛ لأنَّه يورث داء الكباد، ولا شكَّ أن النَّفس تعافه وتتقذَّر منه، وتمامه في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (للجهالة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(باب)؛ بالتنوين، بلا ترجمة ثابت في رواية المستملي، ساقط في رواية الباقين وهو الأولى؛ لمناسبة حديثه للباب السابق من غير فصل بينه وبين سابقه، ولهذا تركه في «عمدة القاري»؛ لظهور وجهه.
==================
(1/335)
[حديث السائب: ذهبت بي خالتي إلى النبي فقالت: يا رسول الله]
190# وبه قال: (حدثنا عبد الرحمن بن يونس بن هاشم)؛ هو أبو مسلم البغدادي، المستملي لسفيان بن عيينة وغيره، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين فجأة (قال: حدثنا حاتِم) بالحاء المهملة وكسر المثناة الفوقية (بن إسماعيل) الكوفي، نزيل المدينة، المتوفى بها سنة ست وثمانين ومئة في خلافة هارون، (عن الجَعْد)؛ بفتح الجيم وسكون العين المهملة، وللأكثر وهو المشهور: (الجعيد)؛ بالتصغير، ابن عبد الرحمن بن أوس، الكندي المدني الثقة (قال: سمعت السائب) اسم فاعل _بالمهملة والهمز_ من السيب؛ بالمهملة والتحتية والموحدة، (بن يزيد) من الزيادة، الكندي، ويقال: الهذلي، أو الليثي، أو الأسدي، وأبوه صحابي، قال: (حجَّ بي أبي مع النبي عيه السلام حجة الوداع، وأنا ابن سبع سنين)، ولد في السنة الثانية من الهجرة، فهو ندب ابن الزبير والنعمان بن بشير في قول بعضهم، وخرج مع الصبيان إلى ثنية الوداع؛ لتلقِّي النبي عليه السلام مَقْدمه من تبوك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة إحدى وتسعين أو ثمانين أو ست وثمانين، قيل: هو الصحيح، وقيل: سنة ثمان وثمانين، وهو ابن أربع أو ست وتسعين سنة، قال جعيد: (رأيت السائب ابن أربع وتسعين جلدًا معتدلًا، قال: قد علمت ما مُتِّعْتُ به من سمعي وبصري إلا بدعاء النبي الأعظم عليه السلام)، وكان عاملًا لعمر على سوق المدينة مع عبد الله بن عتبة بن مسعود، روي له خمسة أحاديث؛ ذكرها كلها المؤلف، لا ستة، كما زعمه القسطلاني؛ فافهم.
(يقول: ذهبَتْ) أي: مضتْ (بي خالتي)؛ لم أقف على اسمها، قال في «عمدة القاري»: (والفرق بين «ذهب به» و «أذهبه»: أن معنى: «أذهبه» أزاله وجعله ذاهبًا، ومعنى: «ذهب به»: استصحبه، ومضى به معه) انتهى، قلت: هذا مذهب المبرد، ولعلَّه الأصح، وقال سيبويه: (الباء في مثله كالهمزة والتضعيف، فمتى ذهبتَ به؛ أذهبته، وتجوز المصاحبة وعدمها)؛ كذا نصَّ عليه سعد الدين في «شرح التقريب»، وعلى مذهب المبرد؛ فيحتاج أن يقال: هو أغلبي، وإلا؛ فقد ورد في التنزيل: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، وقد يقال: هذا محله فيمن له اختيار؛ نحو: ذهبت بزيد، وقيل: على تضمين (أذهب)، فلا ترد الآية؛ فتأمل (إلى النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إن ابن أختي)؛ أي: عُلبَة _بضم العين المهملة، وسكون اللام وفتح الموحدة_ بنت شريح (وَقِعٌ)؛ بفتح الواو وكسر القاف وبالتنوين، وفي رواية: بفتح القاف على لفظ الماضي، وفي أخرى: (وَجِعٌ)؛ بفتح الواو وكسر الجيم، وعليه الأكثر، ومعنى: (وَقِعٌ)؛ بكسر القاف: أصابه وجع في قدميه، وزعم ابن سيده: أنه يقال: وقع الرجل والفرس وقعًا؛ فهو وَقِعٌ: إذا حَفِيَ من الحجارة والشوك، وقد وقعه الحجر، وحافرٌ وقيعٌ: وقعته الحجارة فقصت منه، ثم استعير للمشتكي المريض، يبينه قولها: (وجع)، والعرب تسمي كل مرضٍ وجعًا، وفي «الجامع»: (وقع الرجل موقع: إذا حفي من مَشْيِهِ على الحجارة، وقيل: هو أن يشتكي لحم رجليه من الحفى)، وقال ابن بطال: (ومعناه: أنه وقع في المرض)، وقال الجوهري: (وقع؛ أي: سقط، والوقع أيضًا: الحفى)، كذا في «عمدة القاري».
(فمسح) أي: النبي الأعظم عليه السلام (رأسي)؛ أي: بيده الشريفة المباركة، (ودعا لي بالبركة)؛ أي: بأن قال: اللهم بارك فيه، أو اللهم اجعل فيه البركة، وهي شاملة لصحة حواسه، وحسن ماله، ووجود أولاده، وطول عمره؛ لقول جعيد: (رأيت السائب ابن أربع وتسعين جلدًا معتدلًا، قال: قد علمت ما مُتِّعْتُ به من سمعي وبصري إلا بدعائه عليه السلام)، ففيه أنه يطلب الدعاء بالبركة للصغير ومسح رأسه.
(ثم) دعا بماء و (توضأ) وضوءه للصلاة؛ أي: الوضوء الشرعي يدل عليه قوله: (قمت خلف ظهره)؛ فافهم، (فشربت من وَضوئه)؛ بفتح الواو؛ أي: بأن النبي الأعظم عليه السلام أمره بشربه؛ لأجل الشفاء من المرض، أو هو شرب وقصد الشفاء من غير أن يأمره؛ يحتمل الأمرين، لكن الظاهر الثاني، يدل عليه إسناده الشرب لنفسه، ولو كان الأول؛ لقال: وأمرني أن أشرب من وضوئه، فقوله: (من وضوئه) يحتمل أن المراد به: الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، فيدل على طهارة الماء المستعمل، ويحتمل أن المراد به: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، فيدل على نجاسة الماء المستعمل، وزاد في الطنبور نغمة ابن حجر حيث قال: (هذه الأحاديث
%ص 163%
التي في هذا الباب ترد على أبي حنيفة؛ لأنَّ النجس لا يُتَبَرَّكُ به)، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: قصد هذا القائل التشنيع على الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وسيدهم بهذا الرد البعيد؛ لأنَّه ليس في الأحاديث المذكورة ما يدل صريحًا على أنَّ المراد من فضل وضوئه: هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، وكذا في قوله: «كانوا يقتتلون على وضوئه»، وكذا في قوله: «فشربت من وضوئه»، بل اللفظ يدل على أنَّه الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، والمعنيان محتملان، لكن يتعين الثاني بكون ظاهر اللفظ يدل عليه، وهي القرينة، والأول لا دليل يدل عليه، ولئن سلَّمنا أن المراد: هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة؛ فإمامنا المعظم الإمام الأعظم لا يُنْكِرُ هذا، ولا يقول بنجاسة ذلك حاشاه رضي الله تعالى عنه، وكيف يتصور أن يقول بهذا، وهو يقول بطهارة بوله الشريف، وسائر فضلاته الشريفة؟! ومع هذا قد قلنا: لم يصح عن الإمام الأعظم تنجيس الماء المستعمل، ولا فتوى الأئمة الحنفية عليه، فانقطع شغب المعاند) انتهى بزيادة من العبد الضعيف.
وقد زاد في الشطرنج جملًا ابن المنذر حيث قال: (وفي إجماع أهل العلم على أنَّ البلل الباقي على أعضاء المتوضِّئ وما قطر منه على ثيابه دليل قوي على طهارة الماء المستعمل)، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: المثل: «حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء»، والماء الباقي على أعضاء المتوضئ لا خلاف لأحد في طهارته؛ لأنَّ من يقول بعدم طهارته إنَّما يقول بالانفصال عن العضو، بل عند بعضهم: الانفصال والاستقرار في مكان، وأمَّا الذي قطر منه على ثيابه؛ فإنما سقط حكمه؛ للضرورة؛ لتعذر الاحتراز عنه)؛ فافهم، والله أعلم.
ثم قال ابن حجر في «الانتقاض» معترضًا على اعتراض صاحب «عمدة القاري» عليه حيث قال: (الرجوع إلى الحقِّ خير من التمادي في الباطل، والبخاري لم يُعيِّنْ من قال بذلك، فردُّهُ متوجهٌ على من قال به كائنًا من كان) انتهى.
قلت: انظروا وتعجبوا من كلام هذا القائل، فإن قوله: (الرجوع إلى الحق ... ) إلخ؛ دليل على أنه قد تمادى في الباطل، ولم يرجع إلى الحقِّ، وقد قال في التنزيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، وقوله: (والبخاري ... ) إلخ، نعم؛ بل هذا القائل قد عين من قال بذلك، ولم يُعْهَد سوء أدب من البخاريِّ على أحد فضلًا على الإمام الأعظم رئيس المجتهدين التابعي الجليل الذي هو أفضل من مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وقد عهدنا سوء الأدب من هذا القائل كثيرًا حتى مع النبي عليه السلام، حيث قالت الشافعية: (إن شعره عليه السلام نجس) حاشاه عليه السلام من ذلك الافتراء والجرأة على الله ورسوله، ولا ريب أنهم قد دخلوا في عموم الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ} ... ؛ الآية [الأحزاب: 57]، ولا ريب أن النقي لا يغيره مقل الذباب، وأن البحر لا يفسده ولوغ الكلاب، ولله درُّ القائل:
يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيكْلِمَهُ ... أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
والمرء لا يرجع عن طبعه ولو طرش الدم من حلقه، وإنما منشأ هذا التعصب، والتعنت، وعدم الحياء، وعدم الأدب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(ثم قمت خلف ظهره) عليه السلام؛ أي: في الصلاة، ولعلها كانت صلاة الوضوء النافلة، وإنما تَرَكَهُ عليه السلام خلف ظهره، ولم يجذبه إلى يمينه كما فعل في ابن عباس، ولعله إنَّما تركه؛ لبيان الجواز، أولحكمة أخرى، وهي رؤياه الخاتم الشريف، ولذا قال: (فنظرت إلى خاتِم النبوة)؛ بكسر التاء؛ أي: فاعل الختم، وهو الإتمام والبلوغ إلى الآخر، وبفتح التاء؛ بمعنى: الطابَع؛ أي: آلة الطبع، ومعناه: الشيء الذي هو دليل على أنَّه لا نبي بعده عليه السلام، وقال البيضاوي: (خاتم النبوة: أثر ناتئ بين كتفيه، نُعِت به في الكتب المتقدمة، وكان علامة يُعْلَمُ بها أنَّه النبي عليه السلام، وصيانة لنبوته عن تَطَرُّقِ القدح إليها صيانة الشيء المستوثق بالختم) انتهى، واعترض: بأنَّ ما ذكره أولًا تفسير لحقيقة الخاتم، لكن يحتاج إلى الفرق بين فاعل الختم والطابع من حيث الماصدق، وفرقه المذكور ينافيه قول أهل اللغة: (الفتح والكسر في الخاتم كالطابع لغتان بمعنًى واحد)؛ فتأمل.
(بين كتفيه)؛ تثنية كتف، فيه لغات (فخذ) سوى الإِتْباع، وفي رواية أحمد من حديث عبد الله بن سرجس: (ورأيت خاتم النبوة في نُغْضِ كتفه اليسرى، كأنه جُمْع، فيه خِيْلان سود، كأنها التآليل)، و (النغْض)؛ بضم النُّون وفتحها، وسكون الغين المعجمة، آخره ضاد معجمة؛ وهو أعلى الكتف، أو هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقوله: (جُمْع)؛ بضم الجيم وسكون الميم معناه: مثل جمع الكف، وهو أن يجمعَ الأصابع ويضمَّها، و (الخِيْلان)؛ بكسر الخاء المعجمة وسكون الياء: جمع خال، و (التآليل) جمع تؤلول، وهو الحبة التي تظهر في الجلد كالحمصة فما دونها، ولا ينافي هذا ما هنا من أنه بين كتفيه؛ لجواز أنه أقرب إلى الجانب الأيسر، وحكمة جعله على نغضه؛ لأنَّه يقال: هو الموضع الذي يدخل منه الشيطان إلى باطن الإنسان، فكان هذا عصمة له عليه السلام من الشيطان، وقال القاضي عياض: (هذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه)، واعترضه النووي: (بأن هذا باطل؛ لأنَّ شق الملكين إنَّما كان في صدره)، وأجيب: بأن قوله: (بين كتفيه) ليس متعلقًا بالشق، كما زعمه النووي، بل متعلق بأثر الختم، وعليه فليس ما قاله القاضي بباطل، وذلك لأنَّه لما وقع الشق وخيط حتى التأم، ووقع الختم بين كتفيه؛ كان ذلك أثر الختم؛ فتأمل.
واختلف في الخاتم هل وُلِد به أم لا؟ فقيل: وُلِد به، كما في حديث ... [1]، وقيل: إنه وُضِع بعد ميلاده، ويدل له ما في «الدلائل» لأبي نعيم: (أنه عليه السلام لما وُلِد؛ ذكرت أمه: أن الملَك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج خرقة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم، فضرب به على كتفه كالبيضة المكنونة تُضيء كالزهرة)، فهذا صريح في وضعه بعد ولادته؛ فافهم.
(مِثلَ)؛ بكسر الميم وفتح اللام؛ منصوب على الحال، وقول القسطلاني: (مفعول «نظرت») فيه نظر، كما لا يخفى، وفي روايةٍ بالجرِّ على أنَّه نعت أو بدل من المجرور؛ لأنَّه اسم فاعل بحسب الأصل، فلا يتعرف بالإضافة لـ (مِثل) بخلافه على فتحها، فإنه يتعرف، فلا يصح نعته بـ (مثل)، ولذا اعترض الدماميني على الزركشي، في كون الجر نعتًا لـ (خاتم)، لكن إطلاقه الاعتراض ليس على ما ينبغي، وفي روايةٍ بالرفع على تقدير مبتدأ؛ أي: هو مثلُ (زِرٍّ)؛ بكسر الزاي المعجمة وتشديد الرَّاء المهملة: واحد أزرار القميص، ويقال للرجل الحسن الرعية للإبل: إنه لزر من أزرارها، كذا في «الصحاح»، وفي «القاموس»: (الزر؛ بالكسر: الذي يوضع في القميص، والجمع: أزرار، وزرور، وعظمٌ تحت القلب وقوامه، والنقرةُتدور [2] فيها وابلة الكتف، وطرفُ الورك في النقرة، وخشبةٌ من أخشاب الخباء، وحدُّ السيف، وزر الدين: قوامه، وبالفتح: شد الأزرار، والطرد، والطعن، والنتف، والعض، وتضييق العينين، والجمع الشديد، ونفض المتاع، وزُرزُر [3] بن صهيب؛ بالضم، مُحَدِّث) انتهى.
قال في «عمدة القاري» كـ «الكرماني»: (روي أيضًا بتقديم الرَّاء على الزاي، ويكون المراد منه: البيض، يقال: أرَزَّت الجرادة؛ بفتح الرَّاء وتشديد الزاي: إذا كبست ذنبها في الأرض؛ فباضت) انتهى؛ فافهم.
(الحَجَلَة)؛ بالحاء المهملة والجيم واللام مفتوحات، بعدها تاء، واحدة الحجال؛ وهي بيوت تُزَيَّنُ بالثياب والأسرة والستور، لها عرًى وأزرار، وقال ابن الأثير: (الحجلة؛ بالتحريك: بيت كالقبة يُسْتَر بالثياب، ويكون له أزرار كبار، ويجمع على حجال، وقيل: المراد بالحجلة: الطير، وهي التي تسمى القبجة، وتسمى الأنثى حجلة، والذكر يعقوب، وزرها بيضها، ويؤيد هذا أن في حديث آخر: «مثل بيضة الحمامة»، وجمع الحجلة: حَجَل؛ بفتحتين، وحِجْلى؛ بكسر الحاء وسكون الجيم، ولم يجئ على «فِعلى» _بالكسر_ إلا هذا وظِربى)، وقال في «عمدة القاري» نقلًا عن محمد بن عبد الله شيخ المؤلف: (إنَّ الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه، وفي بعض نسخ المغاربة: «الحُجْلة» بضم الحاء المهملة وسكون الجيم) انتهى.
ثم قال في «عمدة القاري»: (وجاءت في صفة خاتم
%ص 164%
النبوة روايات كثيرة، ففي «مسلم» عن جابر بن سمرة: (ورأيت الخاتم عند كتفيه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده)، وفي رواية لأحمد من حديث أبي رمثة التميمي [4] قال: (خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله عليه السلام، فرأيت برأسه رَدْع حناء، ورأيت على كتفه مثل التفاحة، فقال أبي: إني طبيب، ألا أبطها لك؟ قال: «طيَّبها الذي خلقها»)، وقوله: (رَدْع حناء)؛ بفتح الرَّاء وسكون الدَّال آخره عين مهملة؛ أي: لطخ حناء، والحِنَّاء؛ بالكسر والتشديد وبالمد معروف، والحناه: أخص منه، وقوله: (ألا أبطها) من البط، وهو شق الدمَّل والخرَّاج، وفي «صحيح الحاكم»: (شعر مجتمع)، وفي «كتاب البيهقي»: (مثل السلعة)، وفي «الشامل»: (بَضعة ناشزة)، والبضعة؛ بفتح الموحدة: هي القطعة من اللحم، و (ناشزة)؛ بالنُّون والشين والزاي المعجمتين؛ أي: مرتفعة عن الجسم، وفي حديث عمرو بن أحطب: (كشيء يختم به)، وفي «تاريخ ابن عساكر»: (مثل البندقة)، وفي «الترمذي»: (كالتفاحة)، وفي «الروض»: (كأثر المحجم القابض على اللحم)، وفي «تاريخ ابن أبي خيثمة»: (شامة خضراء محتفرة في اللحم)؛ أي: غائصة فيه، وأصله من حفر الأرض، وفيه أيضًا: (شامة سوداء تضرب إلى الصفرة، حولها شعرات متراكبات كأنها عُرْفُ الفرس)، وفي «تاريخ القضاعي»: (ثلاث مجتمعات)، وفي كتاب «المولد» لابن عابد: (كأن نورًا يتلألأ)، وفي «سيرة ابن أبي عاصم»: (عذرة كعذرة الحمامة)، قال أبو أيوب: (يعنى: قرطمة الحمامة)، وفي «تاريخ نيسابور»: (مثل البندقة من لحم، مكتوب فيه باللحم: محمد رسول الله)، وعن عائشة رضي الله عنها: (كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة، وكانت مما يلي القفا، قالت: فلمسته حين توفي، فوجدته قد رفع)، وذكر أبو دحية الحافظ: (كان الخاتم الذي بين كتفي النبي عليه السلام كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها: الله وحده، وفي ظاهرها: توجه حيث شئت؛ فإنك منصور)، ثم قال: (حديث غريب مستنكر)، ولا منافاة بين هذه الروايات؛ لاحتمال أنَّه عليه السلام متَّصف بجميعها، قال في «المواهب»: (واختلفت أقوال الرواة في خاتم النبوة، وليس ذلك باختلاف، بل كلٌّ شبَّه بما سنح له، وكلها ألفاظ مرادها واحد)، وقال القاضي عياض: وهذه الروايات متقاربة متفقة على أنه شاخص في جسده الشريف.
وليس الخاتم مختصًا به عليه السلام، فقد أخرج الحاكم في «المستدرك» عن وهب بن منبه أنه قال: (لم يبعث الله نبيًّا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنى إلا نبينا عليه السلام؛ فإن شامات النبوة كانت بين كتفيه بإزاء قلبه)، وعلى هذا فيكون وَضْعُ الخاتم بين كتفيه بإزاء قلبه مما اختصَّ به على سائر الأنبياء عليهم السلام، والله تعالى أعلم.
وفي يوم الأربعاء السابع عشري محرم سنة سبع وسبعين قد أمر فؤاد باشا المحقق بشنق أربعة في كل شارع واحد، فشنقوا بعد الظهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي ثاني يومٍ الخميس أمر بإخراج أرباب البيوت التي في زقاق القنوات من البوابة التي عند بيت جعفر آغا إلى قنطرة نهر قنوات، وهي تبلغ مئة ونيف وعشرين بيتًا، فأخرجوا في الحال، والظاهر: لأجل أن يسكن فيها النصارى التي في القلعة، ونسأل الله الحنَّان المنَّان أن يفرج عنَّا وعن المسلمين كلَّ غمٍّ وهمٍّ وكربٍ بجاه النبي الأعظم عليه السلام، وهو أرحم الراحمين.
==================
[1] أخلى بياضًا في الأصل.
[2] في الأصل: (يزرر)، والمثبت من «القاموس».
[3] في الأصل: (وزر)، والمثبت من «القاموس».
(1/336)
(41) [باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة]
هذا (باب: من تمضمض)؛ بإضافة (باب) إلى (مَن)، وهي موصولة، أو نكرة موصوفة بقوله: (تمضمض)، وفي رواية: (مضمض)؛ بحذف المثناة الفوقية أوله (واستنشق من غرفة واحدة): متعلق بكل من الفعلين على التنازع؛ لاتفاق أهل الكوفة والبصرة على جواز إعمال كلٍّ منهما، وعلى مذهب الكوفيين، فهو متعلق بـ (تمضمض)، وحذف متعلق (استنشق)؛ تقديره: منها، وعلى مذهب البصريين متعلق بـ (استنشق)، وحذف متعلق (تمضمض)؛ تقديره: منها، ومذهب الكوفيين هو الأَولى؛ فافهم، و (الغَرفة)؛ بفتح الغين المعجمة أو بضمها وبهما قُرئ في قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ} [سبأ: 37]، والثاني: أظهر، وهذا صادق بثلاث صور: بأن يتمضمض ثلاثًا ولاءً ثم يستنشق كذلك؛ كلاهما من غرفة واحدة، وبأن يتمضمض مرة ثم يستنشق مرَّة يفعل كذلك من غرفة واحدة، وبأن يتمضمض ثم يستنشق من غرفة واحدة، ثم يتمضمض ويستنشق من غرفة ثانية كذلك، ثم ثالثة كذلك، وهذه الصورة هي الأَولى والأحسن؛ لموافقتها لظاهر اللفظ؛ فافهم.
==========
%ص 165%
==================
(1/337)
[حديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء النبي وفيه: مضمض واستشق من كفة]
191# وبه قال: (حدثنا مسَدَّد)؛ بالسين والدَّال المشددة المهملتين المفتوحتين: هو ابن مسرهد (قال: حدثنا خالد بن عبد الله)؛ أي: ابن عبد الرحمن الواسطي، أبو الهيثم الطحان، المتصدِّق بزنة بدنه فضة ثلاث مرات، المتوفى سنة تسع وستين ومئة، كذا في «عمدة القاري»، وفي «التقريب»: (وكان مولده سنة عشر ومئة، ومات سنة اثنتين وثمانين ومئة)، وفي «الكرماني» وتبعه القسطلاني: (أنَّه مات سنة تسع وسبعين)، ففي مقدار عمره اختلاف؛ فافهم (قال: حدثنا عَمرو) بفتح العين المهملة (بن يحيى)؛ أي: المازني الأنصاري، (عن أبيه)؛ أي: يحيى بن عمارة، (عن عبد الله بن زيد)؛ أي: ابن عاصم بن كعب الأنصاري المازني، أبو محمد الصحابي المشهور، قيل: قتله مسيلمة الكذاب، واستشهد بالحرَّة سنة ثلاث وستين (أنَّه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: بأنَّ عبد الله بن زيد، ويحتمل كسرها؛ أي: قائلًا يحيى: إنَّ عبد الله (أفرغ) أي: صبَّ الماء (من الإناء على يديه فغسلهما)؛ أي: معًا ثلاثًا أو مرتين على ما سبق، لكنَّ أكثر الرواة على الأول؛ فافهم.
(ثم غسل)؛ أي: عبد الله فمه؛ لأجل المضمضة، فالمفعول محذوف (أو مضمض) شكٌّ من الراوي أيًّا كان، وقال الكرماني: (الظاهر: أنَّ الشكَّ من يحيى التابعي)، قال ابن حجر: (وهو غريبنم، والظاهر: أن الشك من مسَدَّد شيخ المؤلف)، قال في «عمدة القاري»: (كل منهما محتمل، وكونه من الظاهر من أين؟ بلا قرينة) انتهى، واستند ابن حجر في «الانتقاض» للاستظهار الذي قاله بما في «مسلم»، عن محمد بن الصباح، عن خالد بسنده هذا من غير شك بلفظ: (ثم أدخل يده، فاستخرجها، فمضمض واستنشق)، وبما أخرجه الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد كذلك؛ فإنه لا شكَّ في روايتهما عن التابعي، فينبغي حمل كلام المؤلف عليهما وأن الشك من غيره، فهذا قرينة، واحتمال أن التابعي رواه بالشك تارة وبغيره أخرى مرجوح؛ إذ الأصل عدم التعدد، انتهى.
قلت: وما استند به لا ينهض دليلًا لما قاله، فإن ما ذكره مسلم والإسماعيلي هو عين ما أورده المؤلف في باب (غسل الرجلين إلى الكعبين) عن شيخه موسى بن إسماعيل، فهذا دليل على أن الشك من يحيى التابعي، وأنَّه رواه هناك عن أبيه عن عبد الله بدون الشك، وهنا بالشك؛ لأنَّ الراوي يروي الذي سمعه بدون زيادة ولا نقص، وهذا لا يكون قرينة على ما ذكره؛ لأنَّ الرواة مختلفة، فكلٌّ روى ما سمعه، وقوله: (فينبغي ... ) إلخ: لا حاجة لهذا الانبغاء المقول بالرأي الفاسد بعد العلم بأن اللفظين مختلفان، وقوله: (واحتمال ... ) إلخ: ممنوع، فهذا الاحتمال على زعمه هو عين اليقين في تغاير اللفظين، فلا يكون هذا الاحتمال مرجوحًا، كما زعمه، بل هو الواقع حقيقة، وقوله: (الأصل: عدم التعدد): ممنوع؛ لأنَّ حجتنا مثبِتة، وكلامه ناف، والمثبِت مقدَّم على النافي عند المحققين، فلا وجه لما ذكره هذا القائل، كما لا يخفى على أولي الألباب.
(واستنشق من كَفة واحدة)؛ بفتح الكاف وضمها_لا بكسرها؛ لأنَّه لغة في كِفة الميزان لا في واحد الأكف_ آخره هاء تأنيث، وفي رواية الأكثرين: (من كفٍّ)؛ بلا تاء، وفي أخرى: (من كفٍّ واحدة)؛ بالتأنيث، وفي أخرى: (من كفأة) مهموزًا، وفي أخرى: (من غرفة واحدة)، قال ابن بطال: (والمراد بالكفة؛ أي: الحفنة، فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى، ولا يعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث في «الكف»)، وقال ابن التين: (اشتق ذلك من اسم الكف، فسمي الشيء باسم ما كان فيه)، وقال في «المطالع»: (هي بالضم والفتح مثل: غرفة؛ أي: ملء كفِّه من ماء).
وزعم ابن حجر أنَّ محصَّل ذلك أنَّ المراد من قوله: (كفة): (فعلة) في أنها تأنيث الكف.
واعترضه في «عمدة القاري»: (بأنَّ هذا محصَّل غير حاصل، فكيف يكون «كفة» تأنيث «كف»، والكف مؤنث،
%ص 165%
والأقرب إلى الصواب ما ذكره ابن التين) انتهى.
وقال العجلوني: (عبارة ابن حجر هكذا: ومحصله: أن «كفة» «فعلة» لا أنها تأنيث الكف) انتهى.
قلت: ولفظة: (لا) زاده من عنده؛ ترميمًا لعبارة ابن حجر حتى لا يرد عليه الاعتراض، وإلا؛ فالنسخ الصحيحة التي عليها خطوط العلماء لفظة: (في) بدل (لا)؛ كما نقلها في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(ففعل) أي: عبد الله (ذلك)؛ أي: المضمضمة والاستنشاق، على حدِّ قوله تعالى: {لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] (ثلاثًا)؛ أي: من غرفة واحدة، يأخذ غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يأخذ ثانية كذلك، ثم ثالثة كذلك، ويدل لذلك لفظ السياق، ويكون آتيًا بسنية المضمضة والاستنشاق، لكنَّه يكون تاركًا سنِّية التجديد لهما، وكل ما روي في ذلك مما يخالفنا، فليس بحجة علينا، بل هو محمول على بيان الجواز؛ لأنَّ الكل نقل عن النبي الأعظم عليه السلام.
(فغسل وجهه ثلاثًا) أتى بالفاء للتنبيه على الموالاة، وعبَّر في غسل اليدين بـ (ثم)؛ لوجود التراخي، وأن الموالاة سنة، وإمَّا لأنَّ (ثمَّ) نائبة عن الفاء، كما في قوله: جرى في الأنابيب ثم اضطرب.
فقال: (ثم غسل يديه) بالتثنية (إلى) أي: مع (المرفقين مرتين مرتين)؛ بتكرار (مرتين)؛ للتنبيه على الغسل مرتين في كل يد، وفي أكثر الروايات: (ثلاثًا ثلاثًا)، وما هنا محمول على الجواز، (ومسح برأسه)؛ الباء للإلصاق أو زائدة، والأظهر: الأول، وكونها للتبعيض فيه ضعف، ويدلُّ للأظهر قوله: (ما أقبل وما أدبر)؛ أي: من الرأس مرة واحدة، و (ما): نعت للرأس أو بدل، ولا بدَّ من اجتماع الأمرين حتى يحصل الاستيعاب سواء كان عليه شعر أم لا؛ لأنَّ اللفظ عام، فيشملهما؛ لأنَّه عليه السلام خير في حلق الرأس وتركه، واختار عليه السلام ترك الحلق؛ لأنَّ عادة العرب هكذا، والقول مقدَّم على الفعل عند المحققين؛ فافهم، (وغسل رجليه إلى) أي: مع (الكعبين، ثم قال)؛ أي: عبد الله بن زيد بعد فراغه من الوضوء: (هكذا وُضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ بضمِّ الواو.
قال العجلوني: (ولعل التراخي غير مراد؛ فتأمل)، قلت: نعم؛ غير مراد على حقيقته، وإنما هو في كل شيء بحسبه، وأتى به؛ لإفادة أنَّ المولاة غير واجبة، بل هي سنة، وليس في الحديث بيان غسل الوجه ثلاثًا على ما قالوا، ولا بيان مقدار مسح الرأس، ولا الرجلين مرة، أو مرتين، أو ثلاثًا، ففيه اختصار، والظاهر: أنَّه من الراوي يحيى التابعي، كما أنَّ الشكَّ منه على ما مرَّ، ويدل لذلك ما رواه المؤلف في (باب غسل الرجلين إلى الكعبين) السابق قريبًا من طريق موسى بن إسماعيل، وما يأتي عقب هذا الباب من طريق سليمان بن حرب عن عبد الله بن زيد فيهما، والسائل له فيهما أيضًا: عمرو بن أبي حسن فقال _واللفظ لما تقدم_: (فتوضأ لهم وضوء رسول الله عليه السلام، فأكفأ على يده من التور، فغسل يديه ثلاثًا، ثم أدخل يده في التور، فمضمض، واستنشق، واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده، فغسل وجهه ثلاثًا، ثم أدخل يديه، فغسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم أدخل يده، فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين) انتهى، قلت: إذا علمت هذا فلا حاجة إلى قول ابن حجر والقسطلاني: (لم يذكر غسل الوجه، وهو ثابت في رواية «مسلم» وغيره) انتهى؛ لأنَّه ثابت عند المؤلف، كما علمت.
وقال القاضي زكريا: (حذف هنا غسل الوجه؛ اختصارًا أو يستفاد من قوله: «ثم غسل»؛ أي: وجهه، وتجعل «أو» في «أو مضمض»؛ بمعنى الواو؛ لأنَّها لا تدلُّ على الترتيب).
قلت: وهو الجواب أقرب إلى الصواب.
وقال الكرماني: (فإن قلت: أين ذُكِرَ غسل الوجه؟ قلت: هو من باب اختصار الحديث، وذكر ما هو المقصود مما ترجم له مع زيادة بيان ما اختلف فيه من التثليث في المضمضة والاستنشاق، وإدخال المرفق في اليد، وتثنية غسل اليد، ومسح ما أقبل وما أدبر من الرأس، وغسل الرجلين منتهيًا إلى الكعبين، وأمَّا غسل الوجه؛ فأمره ظاهر لا احتياج له إلى بيان، والتشبيه في «هكذا وضوء رسول الله عليه السلام» ليس من جميع الوجوه، بل في حكم المضمضة والاستنشاق ونحوه) انتهى.
وردَّه في «عمدة القاري»: (بأن هذا جواب ليس فيه طائل، وتصرُّفٌ غير موجَّه؛ لأنَّ هذا في باب التعليم لغيره صفة الوضوء، يشهد بذلك قوله: «هكذا وضوء رسول الله عليه السلام»، ويؤيِّد ذلك ما جاء في حديثه الآخر عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه: أنَّ رجلًا قال لعبد الله بن زيد وهو جدُّ عمرو بن يحيى: «أتستطيع أن تُرِيَني كيف كان رسول الله عليه السلام يتوضَّأ؟ ... »؛ الحديث، وقد مرَّ عن قريب، وكلُّ ما روي عن عبد الله بن زيد في هذا الباب حديث واحد، وقد ذكر غسل الوجه فيه، وكذا ثبت ذلك في رواية مسلم وغيره، فإذا كان هذا في باب التعليم؛ فكيف يجوز له ترك فرض من فروض الوضوء وذكر شيء من الزوائد؟ والظاهر: أنَّه سقط من الراوي، كما أنه شكَّ في قوله: «ثم غسل أو مضمض»، وقوله: «وأما غسل الوجه؛ فأمره ظاهر»؛ غير ظاهر، وكونه ظاهرًا عند عبد الله بن زيد لا يستلزم أن يكون ظاهرًا عند السائل له عنه، ولو كان ظاهرًا؛ لما سأله، وقوله: «وذكر ما هو المقصود»؛ أي: ذكر المؤلف ما هو المقصود عنده، وهو الذي ترجم له الباب، قلت: كان ينبغي أن يقتصر على المضمضمة والاستنشاق فقط، كما هو عادته في تقطيع الحديث؛ لأجل التراجم، فيترك اختصارًا ذكر فرض من الفروض القطعية، ويذكر رواية لا تطابق الترجمة) انتهى كلامه، وهو في غاية من التحقيق والبيان، كما لا يخفى على أئمة أهل هذا الشأن.
ثم قال الكرماني: (وقد يجاب أيضًا: بأن المفعول المحذوف؛ وهو الوجه؛ أي: ثم غسل وجهه، وحذفه؛ لظهوره، فـ «أو»؛ بمعنى الواو في قوله: «أو مضمض»، و «من كفة واحدة» متعلق بـ «مضمض» و «استنشق» فقط) انتهى.
قال في «عمدة القاري»: (قلت: هذا أقرب إلى الصواب؛ لأنَّه لا يقال في الفم في الوضوء إلا: مضمض، وإن كان يطلق عليه الغسل) انتهى، قال ابن حجر: (وجواب الكرماني الثاني بعيد)، قلت: وهو ممنوع، فإن كون (أو)؛ بمعنى: الواو كثير شائع في كلام العرب لا بُعْدَ فيه أصلًا، كما لا يخفى، ولو لم يكن هذا الجواب صحيحًا؛ لما أجاب به القاضي زكريا، كما قدمناه قريبًا؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==================
(1/338)
(42) [باب مسح الرأس مرة]
هذا (باب: مسح الرأس مرة) هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الأصيلي: (مسحة) بدل (مرة)، وفي رواية أخرى له: (مرة واحدة).
==========
%ص 166%
==================
(1/339)
[حديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء النبي وفيه: ومسح براسه]
192# وبه قال: (حدثنا سليمان) بالتحتية مصغرًا (بن حَرْب)؛ بفتح الحاء المهملة وسكون الرَّاء وبالموحدة (قال: حدثنا وهيب)؛ بالتصغير: هو ابن خالد (قال: حدثنا عَمرو بن يحيى)؛ بفتح العين المهملة، (عن أبيه): يحيى المذكور ابن عمارة المازني الأنصاري (قال: شهِدت) بكسر الهاء من المشاهدة (عَمرو بن أبي حَسن)؛ بفتح أولهما، ويدل لذلك أنه في الباب السابق أسقط عمرو بن أبي حسن؛ فافهم (سأل) أي: عمرُو بن أبي حسن (عبدَ الله بن زيد) أي: الأنصاري (عن وُضوء) بضم الواو (النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عن صفته، (فدعا)؛ أي: عبد الله بن زيد (بتَوْر)؛ بموحدة أوله، وبعدها مثناة فوقية مفتوحة، وسكون الواو: إناء يُشْرَب فيه، أو إناء من صفر أو حجر كالإجانة، والمراد: ما فيه؛ بدليل بيانه بقوله: (من ماء)، وفي رواية: (فدعا بماء)؛ بإسقاط لفظ: (بِتَوْر)، (فتوضأ)؛ أي: عبد الله (لهم) اللام للتعليل؛ أي: لأجل السائل ومن معه، (فكفأ)؛ بهمز آخره؛ أي: عبدُ الله الإناءَ؛ أي: أماله، وفي رواية: (فكفأه)؛ بزيادة هاء المفعول، وفي أخرى: (فأكفأه)؛ بهمز أوله وآخره وهاء المفعول (على يديه) بالتثنية (فغسلهما) أي: اليدين إلى الرسغين (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، والمراد: تكرار الغسلات لا الغرفات، (ثم أدخل يده) بالإفراد (في الإناء) الذي فيه الماء، فأخذ منه ماء،
%ص 166%
(فمضمض واستنشق)، وقوله: (واستنثر) عطف تفسير للاستنشاق؛ لأنَّ الاستنشاق والاستنثار واحد، كما قاله ابن الأعرابي، وابن قتيبة، كما تقدم، (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، (بثلاث غَرفات)؛ بفتح الغين المعجمة أو بضمها (من ماء)؛ أي: بكل غرفة يتمضمض ويستنشق مرة واحدة، ثم ثانية، ثم ثالثة كذلك، (ثم أدخل يده)؛ بالإفراد، وفي رواية: (ثم أدخل يده في الإناء) (فغسل وجهه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، والمراد: تكرار الغسلات لا الغرفات، وإن كان الظاهر أن قوله: (ثلاثًا) قيد في (أدخل) و (غسل)، لكن المراد: تكرار الغسلات؛ ليشمل ما إذا طمس وجهه في الماء ثلاث مرات، كما اعتاده طلبة زماننا، فإنه كافٍ، لكن يحتاج للتحريك في الماء حتى يكون غسلًا مسنونًا؛ فافهم.
(ثم أدخل يده) بالإفراد (في الإناء)؛ أي: فأخذ منه ماء، (فغسل يديه) بالتثنية (إلى) أي: مع (المِرْفقين)؛ بميم مكسورة، تثنية مِرفق؛ بكسرها أيضًا، (مرتين مرتين)؛ بالتكرار؛ أي: غسل كل واحدة منهما مرتين، ولعل عبد الله فعل الغسلة الثالثة في كل منهما، والراوي لم يَشْهَدْها، فعبر بما شاهد؛ لأنَّ في رواية مسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد، وفيه: (ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويده اليمنى ثلاثًا، والأخرى ثلاثًا)، وقد يقال: إنه وضوء آخر؛ لأنَّ مخرج الحديثين غير متَّحد؛ فتأمل.
(ثم أدخل يده) بالإفراد (في الإناء)؛ أي: فأخذ منه ماء، (فمسح برأسه فأقبل بيده)؛ بالإفراد على إرادة الجنس، (وأدبر بها)، وفي رواية: (فأقبل بيديه)؛ بالتثنية، (وأدبر بهما)؛ أي: كلاهما مسحة واحدة، (ثم أدخل يده)؛ أي: في الإناء؛ كما صرَّح به في رواية، (فغسل رجليه)؛ أي: إلى الكعبين.
وبه قال: (حدثنا)، وفي رواية: (وحدثنا) بالواو (موسى) أي: ابن إسماعيل التبوذكي (قال: حدثنا وهيب)؛ بالتصغير: هو ابن خالد الباهلي، وتمام هذا الإسناد كما ذكر أول الباب، وفي باب (غسل الرجلين إلى الكعبين)، وذكر الحديث إلى أن قال: (وقال)؛ بالواو، وفي رواية: (قال) بدون الواو: (مسح رأسه)، وفي رواية: (برأسه) (مرة)؛ أي: واحدة، كما تقدم التصريح بها في باب (غسل الرجلين)، والتفاوت بين حديثي البابين أنه كرَّر لفظ: (مرتين) ههنا، وزاد الباء في (برأسه) على رواية، ولفظ (الإناء)، لكن هناك ذكر (التور) في أحد الروايتين، ونقص هنا (واحدة) في الآخر، ونقص فيما قبله (مرة واحدة) ولفظ: (إلى الكعبين)، والمذكور من حديث الجماعة: هو مسح الرأس مرة واحدة؛ ولهذا قال أبو داود في «سننه» [1]: (أحاديث عثمان بن عفان الصحاحتدل على مسح الرأس أنَّه مرة واحدة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثًا، وقالوا فيها: مسح رأسه، ولم يذكروا عددًا كما ذكروا في غيره)، ووصف عبد الله بن زيد وضوءَه عليه السلام قال: (مسح برأسه مرة واحدة)، متفق عليه، وحديث علي رضي الله عنه، وفيه: (مسح رأسه مرة واحدة)، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وكذا وصف عبد الله بن أبي أوفى، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، والربيع كلهم قالوا: (ومسح برأسه مرة واحدة)، ولم يصح في أحاديثهم شيء صريح في تكرار المسح، وبها أخذ الإمام الأعظم والجمهور من الصحابة والتابعين، فالمسح على الرأس مرة واحدة سنة مؤكدة، كما في أكثر الكتب، وما ذكره الإمام القدوري من أنَّه مستحب ضعيف، والصحيح الأول.
قال في «فتح القدير»: (إنَّه إذا داوم على ترك الاستيعاب بلا عذر؛ يَأْثَمُ لظهور رغبته عن السنة) انتهى، ويسن أن يكون الاستيعاب بماء واحد؛ لما قدمناه من أن أكثر الأحاديث لم يذكروا عددًا، ولأن التثليث في المسح لا يُفيد؛ لأنَّ تكراره في الغسل لأجل المبالغة في التنظيف، ولا يحصل ذلك بالمسح، فلا يفيد التكرار، وكذا في مسح الخف والجبيرة والتيمم، فلو ثلَّث المسح بماء واحد، فالأوجه أنَّه مكروه، كما في «شرح المنية»، و «المحيط»، و «البدائع»، وفي «الخانية»: (لا يُكْرَهُ، ولا يُسَنُّ، ولا يكون أدبًا) انتهى، لكن المعتمد الأول، وقال الشافعي: (المسنون ثلاث مسحات)، قال ابن بطال: (والحجة عليه أنَّ المسنون يحتاج إلى شرع)، وأجاب الكرماني بأنَّ الشرع الذي دل على تثليث المسح ما رواه أبو داود عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثًا ومسح رأسه ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله عليه السلام فعل هذا.
قلت: وهذا لا يدل على ما قاله؛ لأنَّ البيهقي قال: (وروي من أوجه غريبة عن عثمان ذكر التكرار في مسح الرأس إلا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة، وإن كان بعض أصحابنا يحتج بها) انتهى.
وقال العجلوني: ويدل للتعدد ظاهر رواية مسلم: (أنه عليه السلام توضأ ثلاثًا ثلاثًا).
قلت: وهو لا يدل على التعدد، كما زعم؛ لأنَّ قوله: (توضأ ثلاثًا ثلاثًا)؛ أي: في الأعضاء المغسولة لا في مسح الرأس، كما بيَّنَتْها الروايات الأُخَر، فإنها مقيدة بأنَّ المسح مرة واحدة، فيجب حمل المطلق على المقيد، كما لا يخفى.
وروى الدارقطني في «سننه»: عن محمد بن محمود الواسطي، عن شعيب بن أيوب، عن أبي يحيى الحماني، عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه: (أنه توضأ ... )؛ الحديث، وفيه: (ومسح برأسه ثلاثًا)، ثم قال: (هكذا رواه أبو حنيفة عن خالد بن علقمة، وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات عن خالد بن علقمة، فقالوا فيه: «ومسح رأسه مرة واحدة»، ومع خلافه إياهم قال: «إن السنة في الوضوء مسح الرأس مرة واحدة»).
قال في «عمدة القاري»: (قلت: الزيادة عن الثقة مقبولة، ولا سيما من مثل الإمام الأعظم التابعي الجليل، وأمَّا قوله: «فقد خالف في حكم المسح»؛ غير صحيح؛ لأنَّ تكرار المسح مسنون عند الإمام الأعظم أيضًا، صرَّح بذلك في «الهداية»، ولكن بماء واحد) انتهى، قلت: هذه رواية الإمام الحسن عن الإمام الأعظم، وهي رواية ضعيفة، كما يدل لذلك عبارة «الهداية».
وقال في «فتح القدير»: (وروى الحسن عن الإمام الأعظم في «المجرد»: «إذا مسح ثلاثًا بماء واحد؛ كان مسنونًا») انتهى؛ أي: وأن المعتمد ما قدمناه، لا يقال: إن الزيادة تَرِدُ على الإمام الأعظم في قوله: (لا يسنُّ التثليث بماء واحد)؛ لأنَّا نقول: هذا لا يرد عليه أصلًا، وإن كان رواه؛ لما ترجح عنده أن رواية المسح مرة أرجح.
ويدل لذلك ما قاله الدارقطني: (وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات عن خالد، وقالوا: ومسح برأسه مرة واحدة)، فهو دليل على أرجحية رواية: المسح مرة علىالمسح ثلاثًا.
قال القسطلاني كابن حجر: وروى أبو داود من طريقين صحح أحدهما ابن خزيمة من حديث عثمانبتثليث مسح الرأس،
%ص 167%
والزيادة من الثقة مقبولة، قال العجلوني: (فيُحْمَلُ قول أبي داود أيضًا: «الروايات الصحيحة عن عثمان ليس فيها عدد لمسح الرأس»؛ أي: في غير هذين الطريقين [2]) انتهى.
قلت: وهذا تخصيص بلا مخصص، فإنَّ قولَ أبي داود: (الروايات ... ) إلخ لفظٌ عام في جميع الروايات، والحمل لا بدَّ له من تقييد وقرينة تدل عليه ولم يوجد، فالحمل غير صحيح.
وقال الكرماني: الدليل على التعدد القياس على سائر الأعضاء، انتهى.
وأجيب: بأن المسح مبني على التخفيف بخلاف الغسل، ولو شرع التكرار؛ لصار بصورة المغسول، وقد ثبت الإجماع على كراهة غسل الرأس بدلًا عن المسح، وإن كان مجزئًا؛ لمخالفته النص.
وأجيب: بأنَّ الخفة تقتضي عدم الاستيعاب، وهو مشروع بالاتفاق، فليكن العدد كذلك، قاله القسطلاني والعجلوني، ورده ابن حجر في «الفتح» بالحديث المشهور الذي رواه ابن خزيمة وغيره وصححوه من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة الوضوء؛ حيث قال النبي عليه السلام بعد أن فرغ من الوضوء: «من زاد على هذا؛ فقد أساء وظلم»؛ فإن في رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل ذلك على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة الواحدة غير مستحبة، ويُحْمَلُ ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح _إن صحَّت_ على إرادة الاستيعاب بالمسح لا أنَّها مسحات مستقلة لجميع الرأس؛ جمعًا بين هذه الأدلة، انتهى، ويفهم من قوله: (إن صحت) على أنها ضعيفة، وهو كذلك، كما قاله الحفاظ الثقات، وقال في «عمدة القاري»: (وفيه نظر؛ لأنَّ الاستيعاب بالمسح لا يتوقَّف على العدد؛ أي: بل إنه يحصل بمرة واحدة، ولو لم يحصل بها؛ لما ورد في الأحاديث الصحاح، وإن كان نص في بعض الروايات على التثليث، لكنه قد أنكرها الحفاظ الثقات، ولئن سُلِّم؛ فهي ضعيفة لا يعوَّل عليها)، ثم قال: (والصواب أن يقال: الحديث الذي فيه المسح ثلاثًا لا يقاوم الأحاديث التي فيها المسح مرة واحدة) انتهى؛ أي: لقوتها وأرجحيتها وضعف الحديث، ولا ريب أن الصحيح لا يقاوم الضعيف، ولهذا قال الترمذي: (والعمل على أن المسح مرة واحدة عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله عليه السلام ومن بعدهم).
وقال أبو عمر [3] بن عبد البر: (كلهم يقول: مسح الرأس مسحة واحدة)، وقال الكرماني: (ودلالة الحديث على الترجمة من حيث إنه أطلق «مسح برأسه» من غير تقييد بعدد، ومن حيث حمله على الرواية السابقة، وعلى الأخيرة المصرَّح فيها بـ «مرة»، وهي ظاهرة في الوحدة، ولعل اختيار المؤلف رواية سليمان؛ لأنَّه ساق الكلام فيها لهذا الغرض دون رواية وهيب) انتهى.
قال العجلوني: (وفيه تأمل، ولم يذكر وجهه)، قلت: ولعل وجهه أنه لم يَظْهَرْ فرقٌ بين الروايتين من حيث السند إلا أن الرواية الأولى عن موسى وهنا عن سليمان، وكل واحد منهما شيخ للمؤلف من غير فرق بينهما، وسياق الكلام هنا عن سليمان لا يدل على اختيار المؤلف لها؛ لأنَّ عادة المؤلف تكرار الحديث؛ لأجل التراجم بروايات مختلفة؛ للتنبيه على كثرة أشياخه لا أنه اختار رواية سليمان على رواية وهيب؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (ستة)، ولعله تحريف عن المثبت.
[2] في الأصل: (الطريق).
(1/340)
(43) [باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة]
هذا (باب) جواز (وُضوء)؛ بضم الواو؛ لأنَّ المراد منه الفعل (الرجل مع امرأته) من إناء واحد، وفي رواية: (مع المرأة)، وهو أعمُّ من أن تكون امرأته أو غيرها، (وفضلِ)؛ بالجر؛ عطفًا على قوله: (وضوء الرجل) (وَضوء)؛ بفتح الواو؛ لأنَّ المراد به: الماء الفاضل في الإناء بعد فراغ (المرأة) من الوضوء وحدها، أو بالرفع، والظرف لغو للمصدر لا حال من (الرجل).
(وتوضأ عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنه، مما رواه ابن أبي شيبة والدارقطني بلفظ: كان عمر يُسَخَّنُ له ماء في حميم ثم يغتسل منه، قال الدارقطني: (إسناده صحيح)، ووصله أيضًا سعيد بن منصور، وعبد الرزاق، وغيرهما بإسناد صحيح بلفظ: (أن عمر رضي الله عنه كان يتوضأ بالحَميم ويغتسل منه)، وهو بفتح الحاء المهملة، وهو الماء المسخَّن، أو الماء السخين؛ (فعيل) بمعنى: (مفعول)، ومنه سُمِّي الحمَّام حمَّامًا؛ لإسخانه من دخله، والمحموم محمومًا؛ لسخونة جسده.
وروى الطبراني [1] في «الكبير»، والحسن بن سفيان في «مسنده»، وأبو نعيم في «المعرفة»، والمشهور من طريق الأسلع بن شريك قال: (كنت أرحل ناقة رسول الله عليه السلام، فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله عليه السلام أن يرحل، وأنا جنب، وخشيت أن اغتسل بالماء البارد، فأموت أو أمرض، فأمرت رجلًا من الأنصار يرحلها، ووضعت أحجارًا فأسخنت بها ماء، فاغتسلت، ثم لحقت رسول الله عليه السلام، فذكرت له فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} إلى قوله: {غَفُورًا} [النساء: 43])، وفي سنده الهيثم بن زريق الراوي له عن أبيه، عن الأسلع مجهولان، والعلاء بن الفضل راويته [2] عن الهيثم فيه ضعف، وقيل: إنه تفرَّد به، وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة منهم عمر، كما ذكره المؤلف، ومنهم: سلمة بن الأكوع: (أنَّه كان يسخن الماء يتوضأ به)، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ومنهم: ابن عباس أنه قال: (إنا نتوضأ بالحميم، وقد أغلي على النار)، رواه ابن أبي سلمة في «مصنفه»، ومنهم: ابن عمر (كان يتوضأ بالحميم)، رواه عبد الرزاق، قال ابن المنذر: (وأجمع أهل العراق وأهل الحجاز جميعًا على الوضوء بالماء المسخن غير مجاهد؛ فإنه كرهه، رواه عنه ليث بن أبي سليم).
قلت: نعم يُكْرَهُ استعماله إن كان شديد السخونة كشديد البرودة؛ لأنَّه يمنع إسباغ الوضوء والغسل.
قال في «عمدة القاري»: (هذا الأثر المعلق ليس له مطابقة للترجمة أصلًا)، وهذا ظاهر، كما ترى، وتبعه القسطلاني حيث قال: (ولم تظهر لي مناسبته للترجمة)، فلا يخفى عدم مناسبته.
وقال ابن حجر: (مناسبته للترجمة من جهة أن الغالب أنَّ أهل الرجل تَبَعٌ له فيما يفعل، فأشار المؤلف إلى الرد على من منع المرأة أن تتطهر بفضل الرجل؛ لأنَّ الظاهر: أن امرأة عمر كانت تغتسل بفضله أو معه، فناسب قوله: «وضوء الرجل مع امرأته في إناء واحد»).
قال في «عمدة القاري»: (من له ذوق أو إدراك لا يقول هذا الكلام البعيد، فمراده من قوله: «إنَّ أهل الرجل تبع له فيما يفعل» في كلِّ الأشياء أو في بعضها، فإن كان الأول؛ فلا نسلم ذلك، وإن كان الثاني؛ فيجب التعيين، وقوله: «لأنَّ الظاهر ... » إلى آخره: أيُّ ظاهر دل على هذا؟ وهل هذا إلا حدس وتخمين) انتهى.
قلت: على أن ما ذكره في وجه المطابقة خلط فاحش من حيث إنه جعل قوله: (وتوضأ عمر ... ) إلخ أثر واحد، والحال أنَّهما أثران، كما يأتي التنبيه عليه، وقد خبط وخلط العجلوني أيضا هنا، كما ستقف على عبارته؛ فافهم.
وقال الكرماني: (ووجه مناسبته للترجمة من حيث إن غرض المؤلف في هذا الكتاب ليس منحصرًا في ذكر متون الأحاديث، بل يريد الإفادة، وهي أعم من ذلك، ولهذا يذكر آثار الصحابة، وفتاوى السلف، وأقوال العلماء، ومعاني اللغات وغيرها، فقصده هنا بيان التوضؤ بالماء المسخن بلا كراهة؛ دفعًا لما قاله مجاهد).
وردَّه في «عمدة القاري» بأن هذا عجيب وغريب، وكيف يطابق هذا الكلام، وقد وضع أبوابًا مترجمة، ولا بدَّ من رعاية التطابق بين تلك الأبواب وبين الآثار التي يذكرها فيها، وإلا فيعدُّ هذا من التخابيط، وكونه يذكر فتاوى السلف، وأقوال العلماء، ومعاني اللغات لا يدل على ترك المناسبات والمطابقات، وهذه الأشياء أيضًا إذا ذكرت بلا مناسبة؛ يكون الترتيب مخبطًا، فلو ذكر شخص مسألة في الصلاة مثلًا في كتاب «الطهارة» أو مسألة من كتاب «الطهارة» في كتاب «التطليق» [3] أو «العتاق» مثلًا؛ نسب إلى التخبيط)؛ فافهم.
(و) وتوضأ عمر أيضًا (من بيت نصرانية)، فهو عطف على قوله: (بالحميم)، وهذا أثر ثان وصله عبد الرزاق، والشافعي، وغيرهما، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: (أن عمر توضأ من ماء نصرانية)،
%ص 168%
==================
[1] في الأصل: (الطبري).
[2] في الأصل: (روايته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (التعليق)، ولعل المثبت هو الصواب.
وهذا لفظ الشافعي، وقال الحافظ أبو بكر الحازمي: (رواه خلَّاد بن أسلم عن سفيان بسنده، فقال: «من ماء نصراني»؛ بالتذكير، والمحفوظ ما رواه الشافعي: «نصرانية»؛ بالتأنيث)، وفي «الأم» للشافعي: (من جر نصرانية)؛ بالهاء في آخرها، وفي «المهذب» لأبي إسحاق: (جر نصراني)، وقال: (صحيح)، وذكر ابن فارس في «حلية العلماء»: هذا سلاخة عرقوب البعير يُجْعَل وعاء للماء.
ولا بأس باستعمال الماء الذي في أواني أهل الكتاب وغيرهم للتوضؤ والاغتسال؛ لأنَّ الأصل: الطهارة ما لم يتيقن النجاسة، وكذا لا بأس باستعمال ثيابهم والصلاة بها؛ لأنَّ الأصل الطهارة، واحتمال النجاسة أمر مشكوك فيه، واليقين لا يزول بالشك، أمَّا إذا علم نجاستها؛ فلا شك بفساد الصلاة معها، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأصحابه، وقال ابن المنذر: (لا أعلم أحدًا كرهه إلا أحمد وإسحاق)، قال في «عمدة القاري»: (قلت: وتبعهما أهل الظاهر، واختلف قول مالك في هذا، فقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز مع الكراهة، وانفرد النخعي بكراهة فضل المرأة إذا كانت جُنُبًا) انتهى.
ووقع في رواية كريمة: بحذف الواو من قوله: (ومن بيت)، قال في «عمدة القاري»: (وهذا غير صحيح؛ لأنَّهما أثران مستقلان، كما سبق).
فإن قلت: ما وجه تطابق هذا الأثر للترجمة؟!
قال الكرماني: (هو مناسب لترجمة الباب من فعل عمر رضي الله عنه ذكر الأمر الأول أيضًا، وإن لم يكن مناسبًا لها؛ لاشتراكهما في كونهما من فعله؛ تكثيرًا للفائدة، واختصارًا في الكتاب، ويُحْتَمَلُ أن يكون هذا قضية واحدة؛ أي: توضأ من بيت نصرانية بالماء الحميم، ويكون المقصود ذكر استعمال سؤر المرأة النصرانية، وذكر الحميم إنَّما هو لبيان الواقع، فتكون المناسبة للترجمة ظاهرة).
ورده في «عمدة القاري» بأن هذا منه لعدم اطلاعه على كتب القوم، فظن أنه أثر واحد، وقد عرفت أنهما أثران مستقلان، ثم ادَّعى أن الأمر الأخير مناسب للترجمة، فهيهات أن يكون مناسبًا؛ لأنَّ الباب في وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة، فأي واحد من هذين مناسب لهذا وأثر واحد من هذين لا يدل على ذلك؟! أما توضؤ عمر بالحميم؛ فلا يدل
[على شيء من ذلك ظاهرًا، وأمَّا توضؤ عمر من بيت نصرانية؛ فهل يدل على أن وضوءه كان من فضل هذه النصرانية؟ فلا يدل] [4] ولا يستلزم ذلك، فمن ادَّعى ذلك؛ فعليه البيان بالبرهان.
وقال ابن حجر: (الثاني مناسب لقوله: «وفضل وضوء المرأة»؛ لأنَّ عمر توضأ بمائها، وفيه دليل على جواز التطهير بفضل وضوء المرأة المسلمة؛ لأنَّها لا تكون أسوأ حالًا من النصرانية).
ورده في «عمدة القاري»: (بأن الترجمة: فضل وضوء المرأة، والنصرانية هل لها فضل وضوء حتى يكون التطابق بينه وبين الترجمة؟ وقوله: «من بيت نصرانية» لا يدل على أن الماء كان من فضل استعمال النصرانية، ولا أنَّ الماء كان لها، وما سبق من الروايات: «من ماء نصرانية»، أو «في جر نصرانية»، وهو أيضًا لا يدلُّ على أنه كان من فضل استعمالها، والذي يدلُّ عليه [5] هذا الأثر جواز استعمال مياههم، ولكن يُكْرَهُ استعمال أوانيهم وثيابهم سواء فيه أهل الكتاب وغيرهم) انتهى.
وتبعه القسطلاني حيث قال: (ولم يظهر لي مناسبته للترجمة؛ لأنَّ توضؤ عمر من بيت النصرانية لا يدلُّ على أنَّه كان من فضل ما استعملته، بل الذي يدل عليه جواز استعمال مياههم، ولا خلاف في استعمال سؤر النصرانية؛ لأنَّه طاهر خلافًا لأحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر) انتهى كلامه.
واعترضه العجلوني وقال: (يمكن الجواب عن الأول: بأنَّ النصرانية إذا طُلِبَ منها الغسل لتحل لحليلها المسلم؛ فيُطلَبُ منها الوضوء؛ لأجل الغسل، وحينئذ فيحتمل أن يكون الماء من فضل استعمال وضوئها، فيندفع الاعتراض الثاني أيضًا، ولئن قلنا: إنَّما لا يُطْلَبُ منها الوضوء، فهي يطلب منها الغسل، وحكم الباقي من مائه حكم الباقي من الوضوء، أو يراد بالوضوء: الوضوء اللغوي؛ فتأمل).
قلت: وهذا خبط وخلط، فأي دليل على أنَّ النصرانية التي أخذ من بيتها عمر الماء كانت تحت مسلم؟! فهذه دعوىولا بدَّ لها من بيان ببرهان، ولئن سلَّمنا أنَّها كانت تحت مسلم؛ فمن أين يطلب منها الوضوء لأجل الغسل وهي كافرة غير مخاطبة بفروع الشريعة؟ كما ذكره أهل الأصول، على أنَّه الواجب على المسلمة الغسل إذا كانت جنبًا أو حائضًا، والوضوء ليس بواجب عليها، فالكافرة التي غير مخاطبة بالأولى، وقوله: (ولئن قلنا ... ) إلخ: هذا قول مردود أيضًا، فإنَّها لا يُطْلَبُ منها الغسل أيضًا، فلو كانت حائضًا [6] وانقطع دمها لدون العشرة؛ يسع زوجها وطؤها ووسعها أن تتزوج بآخر؛ لأنَّه لا اغتسال عليها؛ لعدم الخطاب، كما في «منهل الطلاب»، وقوله: (أو يراد بالوضوء اللغوي): ممنوع، فإنَّ المراد هنا: الوضوء الشرعي، والكلام فيه لا اللغوي، كما لا يخفى على أولي الألباب.
==================
[4] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري».
[5] في الأصل: (على)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/341)
[حديث: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله جميعًا]
193# وبه قال: ([حدثنا] عبد الله بن يوسف) أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن نافع) مولى ابن عمر، (عن عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب، وفي رواية: (عن ابن عمر) رضي الله عنهما: (أنه قال: كان الرجال والنساء)؛ أي: جنسهما؛ لما تقرر في الأصول أن الجمع المحلى بالألف واللام للاستغراق ما لم يدل دليل على الخصوص، فإن دل عليه؛ فهو له كما هنا؛ للقرينة العادية التي تخصِّصه بالبعض، قاله الكرماني، قال في «عمدة القاري»: الجمع مثل «الرجال» و «النساء» وما في معناه من العام المتناول المجموع، ثم إذا عُرِّف باللام؛ يكون مجازًا عن الجنس، مثلًا إذا قلت: فلان يركب الخيل، ويلبس الثياب البيض؛ يكون للجنس؛ للقطع بأن ليس القصد إلى عهد واستغراق، فلو حلف لا يتزوج النساء، ولا يشتري العبيد، ولا يكلم الناس؛ يحنث بالواحد إلا أن ينوي العموم، فلا يحنث قط؛ لأنَّه نوى حقيقة كلامه، ثم هذا الجنس بمنزلة النكرة تخصُّ في الإثبات، كما إذا حلف لا يركب الخيل؛ يخصُّ البر [1] بركوب واحد، ثم قول ابن عمر رضي الله عنهما: (كان الرجال والنساء) إثبات، فيقع على الأقل بقرينة العادة وإن كان يحتمل الكل، وقوله: (جميعًا) ينافي وقوعه على الأقل، قلت: معناه مجتمعين، فالاجتماع راجع إلى حالة كونهم يتوضؤون لا إلى كون الرجال والنساء مطلقًا؛ فافهم.
وقال الزمخشري: (الألفاظ ليست في وضعها للعموم ولا للخصوص، بل هي موضوعة للجنس، لكن يُسْتَفَادان من القرائن والأمور الخارجية المنضمة إليهما) انتهى، لا يقال: إنه لا يصح التمسك بهذا؛ لأنَّ المراد: البعض؛ لقيام القرينة عليه بذلك، واجتماع الكل متعذِّر، فلا يكون حجة لعدم الإجماع؛ لأنَّا نقول: ليس التمسك بالإجماع؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّر الإجماع إلا بعد وفاة الرسول عليه السلام، بل بأن الرسول عليه السلام قرَّرهم على ذلك، ولم يُنْكِرْ عليهم، فيكون ذلك حجة للجواز، وقد ذكر أهل الأصول أن قول الصحابة: (كان الناس يفعلون) ونحو ذلك حجة في العمل ولا سيما إذا قيد الصحابي ذلك بزمنه عليه السلام، فيكون حكمه الرفع عند الجمهور، أفاده في «عمدة القاري».
وقوله: (يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم): جملة محلها النصب خبر (كان)، وقوله: (جميعًا)؛ بالنصب على الحال من فاعل (يتوضؤون)؛ أي: يتوضؤون مجتمعين من إناء واحد، كذا زاده ابن ماجه، وأخرجه أبو داود وزاد فيه: (ندلي فيه أيدينا)، وعند الدارقطني بلفظ: (من الميضأة)، وفي رواية القعنبي زاد فيه بلفظ: (في الإناء الواحد).
قال في «عمدة القاري»: (ولا شك أن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، وظاهر الحديث: يدل على جواز تناول الرجال والنساء الماء في حالة واحدة، وحكى ابن التين عن قوم: أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعًا من موضع واحد؛ هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة، قلت: الزيادة في الحديث، وهي قوله: «من إناء واحد» يرد عليهم، وكأنهم استبعدوا اجتماع الرجال والنساء الأجنبيات، وأجاب ابن التين عن ذلك بما حكاه عن سحنون أن معناه: كان الرجال يتوضؤون ويذهبون، ثم تأتي النساء فيتوضأن، قلت: هذا خلاف الذي يدل عليه قوله: «جميعًا»؛ فإن الجميع لغة: ضد التفريق، ومع هذا؛ فقد جاء صريحًا وحدة الإناء في «صحيح ابن خزيمة» في هذا الحديث من طريق معتمر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أنه أبصر النبي عليه السلام وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد يتطهر كلهم منه، وهذا محمول على ما قبل نزول آية الحجاب، وأمَّا بعده؛ فيختص بالزوجات والمحارم، كذا قرره في «عمدة القاري».
قال ابن حجر: (يستفاد من الحديث أن المؤلف يرى ذلك).
ورده في «عمدة القاري»: (بأن المؤلف وضع هذا المروي لبيان جواز وضوء الرجال والنساء من إناء واحد،
%ص 169%
ومع هذا لا يطابق الحديث للترجمة؛ لأنَّ المذكور فيها شيئان، والحديث ليس فيه إلا شيء واحد).
وقال الكرماني: (يدل على الأول صريحًا، وعلى الثاني التزامًا) انتهى؛ أي: لأنَّ الرجال والنساء إذا توضؤوا من إناء واحد؛ فإن الرجل يكون مستعملًا لفضل المرأة، قاله العجلوني.
قلت: وفيه نظر؛ فإن الرجال والنساء إذا توضؤوا من إناء واحد؛ لا يخلو إمَّا أن يكونوا على التعاقب واحدًا بعد آخر، أو كلهم سواء، فإن كان الأول؛ فإن كان النساء قبل الرجال؛ فدلالته على الترجمة ظاهرة، لكن يرده قوله: (جميعًا)، فإن معناه: عدم التفريق، وإن كان الثاني؛ فلا يكون فيه دلالة، ولا يكون الرجل توضأ من فضل المرأة؛ فافهم.
ومع هذا، فإنه روي: (أنه عليه السلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة)، وأجيب: بأن حديث الباب الدَّال على الإباحة أصح، فإن قيل: مقتضاه الإباحة إذا استعملا جميعًا، والتنازع إنَّما هو في فضل وضوء المرأة، وأجيب: بأن النهي للاستحباب، أو المراد بالنهي عن فضل أعضائها: هو ما تساقط من أعضائها، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابي والنووي، قلت: وإذا حُمِلَ النهي على المتساقط؛ لم يبقَ للتخصيص بها فائدة، بل الرجل مثلها، ففيه دلالة على نجاسة الماء المستعمل؛ فافهم.
وما أجاب به العجلوني: (من أن النجاسة إذا وقعت في الماء قبل أن يتوضأ أو معه حكمها سواء، فكذا أن وضوء كل واحد منهما مع الآخر لا يفسد عليه الماء؛ فكذا وضوءها قبله، فالقبلية والمعية سواء) فيه نظر، وهذا قياس مع الفارق، والفرق أنهم إذا توضؤوا جميعًا من إناء واحد؛ لا يفسد الماء، أمَّا إذا توضؤوا على التعاقب؛ فالباقي مستعمل؛ فتأمل.
قال في «عمدة القاري»: وفيه: دليل على جواز وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد، وأمَّا توضؤ الرجل من فضل المرأة سواء خلت به أم لا؛ فمذهب الإمام الأعظم، ومالك، والشافعي: أنه يجوز، قال البغوي وغيره: «ولا كراهة فيه للأحاديث الصحيحة»، وقال أحمد وداود: «لا يجوز إن خلت به»، وروي هذا عن عبد الله بن سرجس والحسن البصري، وروي عن أحمد كمذهبنا، وعن ابن المسيب والحسن: كراهة فضلها مطلقًا، وحكى أبو عمرو فيها خمس مذاهب؛ أحدها: أنه لا بأس أن يغتسل الرجل بفضلها ما لم تكن جنبًا أو حائضًا، والثاني: يكره أن يتوضأ بفضلها وعكسه، والثالث: كراهة فضلها له والرخصة في عكسه، والرابع: لا بأس بشروعهما معًا ولا خير في فضلهما، وهو قول أحمد، والخامس: لا بأس بفضل كل منهما شرعا جميعًا وخلا كل واحد منهما به، وعليه فقهاء الأمصار.
أمَّا اغتسال الرجال والنساء من إناء واحد؛ فقد نقل الحافظ الطحاوي، والقرطبي، والنووي الاتفاق على جواز ذلك، قال ابن حجر: (وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة: أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم)، قال في «عمدة القاري»: (قلت: في نظره نظر؛ لأنَّهم قالوا الاتفاق دون الإجماع، فهذا القائل لم يعرف الفرق بين الاتفاق والإجماع) انتهى، وقد حذا حذو هذا القائل العجلونيُّ حيث قال: (والمعروف عدم الفرق بينهما لغة واصطلاحًا) انتهى، قلت: ولعل عدم الفرق معروف عند أهل عجلون، أما عند العلماء الأعلام من أهل اللغة والاصطلاح؛ فالفرق بينهما ظاهر، أما الإجماع لغة؛ فالعزم على الشيء، يقال: أجمع على كذا؛ أي: عزم عليه، وفي الاصطلاح: فقال أهل الأصول: هو اتفاق مجتهدي عصر من أمَّة محمد عليه السلام على أمر شرعي، فهذا مخصوص بالمجتهدين فما فوقهم إلى وفاته عليه السلام، وأمَّاالاتفاق؛ ففي اللغة: التعاهد، يقال: اتفقوا على كذا؛ أي: تعاهدوا عليه، وفي الاصطلاح: اتفاق أصحاب المجتهدين على أمر شرعي، قاله أحد المجتهدين، مثاله: انعقاد الإجماع على انتقاض الطهارة عند وجود القيء والمس معًا، فمأخذ الانتقاض عندنا: القيء، وهو بالاتفاق ناقض، وعند الشافعي: المس ناقض اتفاقًا، فلو قُدِّرَ عدم كون القيء ناقض؛ فنحن لا نقول بالانتقاض بالمس، فلم يبق الإجماع، ولو قُدِّرَ عدم كون المس ناقضًا؛ فالشافعي لا يقول بالانتقاض، فلم يبق الإجماع أيضًا.
والحاصل: أن الإجماع مخصوص بما بعد وفاة النبي الأعظم عليه السلام إلى عصر المجتهدين، والاتفاق مخصوص بأصحاب المجتهدين؛ فافهم واحفظ.
ثم قال في «عمدة القاري»: (وروي جواز اغتسال الرجال والنساء من [إناء] واحد عن تسعة من الصحابة؛ وهم علي بن أبي طالب عند أحمد قال: «كان عليه السلام وأهله يغتسلون [2] من إناء واحد»، وحديث ابن عباس عند الطبراني في «الكبير» من حديث عكرمة عنه: «أنه عليه السلام وعائشة اغتسلا من إناء واحد من جنابة وتوضأا جميعًا للصلاة»، وحديث جابر عند ابن أبي شيبة في «مصنفه» قال: «كان عليه السلام وأزواجه يغتسلون من إناء واحد»، وحديث أنس عند المؤلف قال: «كان عليه السلام هو والمرأة من نسائه يغتسلون من الإناء الواحد»، ورواه الطحاوي عن أبي بكرة القاضي، وحديث أبي هريرة عند البزار في «مسنده» قال: «كان عليه السلام وأهله يغتسلون من إناء واحد»، وحديث عائشة عند الطحاوي والبيهقي قالت: «كنت اغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد، فيبدأ قبلي»، وحديث أم سلمة عند الطحاوي وابن ماجه قالت: «اغتسلت أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد»، وحديث أم هانئ عند النسائي: «أنه عليه السلام اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين»، وحديث ميمونة عند الترمذي عن ابن عباس قال: قالت: «كنت اغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد من الجنابة»، وقال: «حديث حسن صحيح»؛ فهذه الأحاديث كلها حجة على من يَكْرَهُ أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، أو تتوضأ المرأة بفضل الرجل.
وبقي الكلام في ابتداء أحدهما قبل الآخر، وحديث عائشة المار وقولها: «فيبدأ قبلي» يدل على كراهة توضؤ الرجل من فضل المرأة، ويردُّه ما في أبي داود عن ابن عباس: أن بعض أزواجه عليه السلام اغتسلت من جنابة، فجاء عليه السلام ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله؛ إني كنت جنبًا، فقال عليه السلام: «إن الماء لا يجنب»، وروى الطحاوي وابن ماجه عن أم صفية الجهنية قالت: «ربما اختلفت يدي ويد رسول الله عليه السلام في الوضوء من إناء واحد»، وهذا في حق الوضوء، قال الحافظ الطحاوي: «وهذا يدل على أن أحدهما كان يأخذ من الماء بعد صاحبه»).
ثم قال في «عمدة القاري»: (وروي عن عبد الله بن سرجس قال: نهى النبي عليه السلام أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان [3] جميعًا، وأخرجه الحافظ الطحاوي والدارقطني، وروي أيضًا من حديث الحكم بن عمر الغفاري قال: «نهى النبي عليه السلام أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة»، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والطحاوي.
والبيهقي قال: «نقل عن أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهير بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة»، قال: «لكن صح عن الصحابة المنع فيما إذا دخلت به»، ولكن يعارض هذا ما روي بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة الذين ذكرناهم، وأشهر الأحاديث عند المانعين حديث عبد الله بن سرجس، وحديث الحكم الغفاري، أمَّا حديث ابن سرجس؛ فإنه روي موقوفًا ومرفوعًا، قال البيهقي: «الموقوف أولى بالصواب»، وقال المؤلف: «أخطأ من رفعه»).
قال في «عمدة القاري»: (الحكم للرافع؛ لأنَّه زاد، والراوي قد يفتي بشيء ثم يرويه مرة أخرى، ويجعل الموقوف فتوى، فلا يعارض المرفوع، وصححه ابن حزم مرفوعًا من حديث عبد العزيز بن المختار الذي في «مسنده»، والشيخان أخرجا له، ووثقه ابن معين وأبو زرعة، فلا يضره وقف من وقفه، وأما حديث الحكم الغفاري؛ فقال الترمذي: «حديث حسن»، ورجحه ابن ماجه، وصححه ابن حبان، والفارسي، وابن قدامة، فقول النووي: «اتفق الحفاظ على ضعفه» غريب) انتهى، وقدمنا وجه الجمع بينهما؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==================
[1] كذا في الأصل، وفي «عمدة القاري»: (إذا حلف أن يركب الخيل؛ يحصل البر).
[2] في الأصل: (يغتسلوا).
(1/342)
(44) [باب صب النبي وضوءه على المغمى عليه]
هذا (باب صبِّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم وَضوءه)؛ بفتح الواو: الماء الذي توضأ به، مفعول المصدر المضاف لفاعله، وقوله: (على المُغْمَى عليه)؛ بضم الميم، وإسكان المعجمة، وفتح الميم؛ متعلق به، مِن (أُغمي عليه)، يقال: أُغمي عليه _بضم الهمزة_ فهو مغمًى عليه، وغُمِي عليه _بضم الغين المعجمة وتخفيف الميم_ فهو مغمي عليه؛ بصيغة المفعول؛ لأنَّ
%ص 170%
أصله: مغموي على وزن (مفعول)، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأُدْغِمَتِ الياء في الياء فصار: مغمُيٌّ _بضم الميم الثانية وتشديد الياء_ ثم أبدلت من ضمة الميم كسرة؛ لأجل الياء، فصار: مغمي.
قال الكرماني: (والإغماء والغشي بمعنى واحد)، ورده في «عمدة القاري»: (بأن الغشي مرض يحصل من طول التعب، وهو أخف من الإغماء، والفرق بينه وبين الجنون والنوم: أن العقل يكون في الإغماء مغلوبًا، وفي الجنون يكون مسلوبًا، وفي النوم يكون مستورًا) انتهى؛ فافهم، وهذا موافق لما قاله في «القاموس» و «الكليات»، وقد تصدى العجلوني للانتصار للكرماني بما في «القاموس»، ومن نظر عبارة «القاموس»؛ وجدها تدل لما قاله في «عمدة القاري»، وترد على العجلوني والكرماني؛ فافهم.
==================
(1/343)
[حديث: جاء رسول الله يعودني فتوضأ وصب علي من وضوئه]
194# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي، (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج، (عن محمد بن المنكدر) التيمي القرشي التابعي المشهور، وكان المنكدر خال عائشة رضي الله عنها، فشكا إليها الحاجة، فقالت له: (أول شيء يأتيني أبعث به إليك)، فجاءها عشرة آلاف درهم، فبعثت بها إليه، فاشترى منها جارية، فولدت له محمدًا إمامًا متابعًا، مات سنة إحدى وثلاثين ومئة، كذا في «عمدة القاري».
(قال: سمعت جابرًا)؛ أي: ابن عبد الله الصحابي المشهور (يقول)؛ جملة وقعت حالًا: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني)؛ جملة وقعت حالًا أيضًا، (وأنا مريض)؛ جملة وقعت حالًا أيضًا، والجملتان من (رسول الله) مترادفتان، أو الثانية متداخلة، أو من مفعول (يعودني)، وجملة (لا أعقِل)؛ بكسر القاف؛ أي: لا أفهم، خبر بعد خبر، أو صفة (مريض)، أو حال من ضميره، وحذف مفعول (أعقل) إما للتعميم؛ أي: لا أعقل شيئًا، وبه صرَّح المؤلف في (التفسير)، وله في (الطب): (فوجدني قد أغمي عليَّ)، أو لجعله كالفعل اللازم، كذا في «عمدة القاري»، قلت: لا مانع من تقدير مفعول؛ أي: شيئًا مثلًا؛ فتأمل.
قال في «عمدة القاري»: (ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة) انتهى، قلت: لأنَّ المراد من قوله: (لا أعقل)؛ أي: قد أغمي علي؛ فافهم.
(فتوضأ)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، (وصبَّ عليَّ)؛ بالتشديد لآخر الكلمتين (من وَضوئه)؛ بفتح الواو، قال في «عمدة القاري»: (معناه: من الماء الذي توضأ به أو مما بقي منه، وأخرج في «الاعتصام» عن علي بن عبد الله: «ثم صب وضوءه عليَّ»، ولأبي داود: «فتوضأ وصبه علي») انتهى، وعلى هذا، فالظاهر: الأول؛ فافهم.
(فعقَلت)؛ بفتح القاف؛ أي: انجلى عني ففهمت، ففيه: دليل على أن بركة يد النبي الأعظم عليه السلام وآثاره تزيل كل علة، ولاشكَّ في ذلك، فإن هذا من بعض آثاره عليه السلام، (فقلت: يا رسول الله؛ لمن الميراث؟) مبتدأ وخبر، واللام فيه عوض عن ياء المتكلم؛ أي: لمن ميراثي؟ ويؤيده ما أخرجه في (الاعتصام) أنَّه قال: (كيف أصنع في مالي؟)، وفي رواية: (ما تأمرني أن أصنع في مالي.)، وفي أخرى: (إنما يرثني سبع أخوات)، وفي أخرى: (كيف أقضي في مالي؟)، وجوَّز الكرماني أن تكون اللام للعهد عن المتكلم، (إنما يرثني كلالة)؛ الجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا أو بيانيًّا، و (الكَلَالَة)؛ بفتح الكاف وتخفيف اللامين، وقد اختلف فيها على أقوال؛ أصحها: أنها غير الوالد والولد، وفيه حديث صحيح من طريق البراء بن عازب، وقيل: إنها غير الولد خاصة، وقيل: الإخوة للأم، وقيل: بنو العم ومن أشبههم، وقيل: العصبات كلهم وإن بعدوا، ثم قيل للورثة، وقيل للميت، وقيل لهما، وقيل للمال الموروث، وقال الجوهري: (الكَلُّ: الذي لا ولد له ولا والد، يقال: كَلَّ الرجل يكلُّ كَلًّا)، وقال جار الله الزمخشري: (ينطلق «الكلالة» على ثلاثة: من لم يُخَلِّفْ ولدًا ولا والدًا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد)، وقال التيمي: (الكلالة في هذا الحديث: اسم للوارث، وهو الأخوات هنا، وهذا اللفظ يقع على الوارث والموروث منه).
(فنزلت آية الفرائض) جمع: فريضة، والمراد هنا: الحصص المقدرة في كتاب الله تعالى للورثة، وهي قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ ... } إلى آخر السورة [النساء: 176]، كما بيَّنها المؤلف في (التفسير)، وفي رواية: (فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11])، وهي آية المواريث مطلقًا.
وفي الحديث من الفوائد: استحباب عيادة المريض وإن كان مغمى عليه إذا كان عنده من يراعي حاله؛ لئلَّا تنكشف عورته، وقيل: إن كان الزائر صالحًا؛ فله ذلك، وإلا كُرِه.
وفيه: التبرك بآثار الصالحين لا سيما سيد المرسلين.
وعيادة [الضعفاء].
وفيه: فضيلة عيادة الأكابر للأصاغر.
وفيه: رقية الصالحين للماء ومباشرتهم إياه، وذلك مما يُرْجَى بركته.
وفيه: أن ما يُقْرَأُ على الماء مما ينفع، كذا في «عمدة القاري».
قال ابن بطال: (فيه: دليل على طهورية الماء الذي توضأ به؛ لأنَّه لو لم يكن طاهرًا لما صبَّه عليه) انتهى، قال في «عمدة القاري»: (ليس فيه دليل؛ لأنَّه يحتمل أنَّه صبَّ عليه من الباقي في الإناء) انتهى، وذكر مثله الكرماني، واعترضه العجلوني بما في «أبي داود»: (فتوضأ وصبه عليَّ)؛ فتأمل.
قلت: وليس في هذا دليل لما قاله ابن بطال؛ لأنَّ الضمير في (صبه) يحتمل أن يعود على الماء الباقي في الإناء بعد الفراغ من الوضوء، ففيه: دليل على نجاسة الماء المستعمل ولو سلم أنه عليه السلام صب عليه مما اجتمع من تقاطره؛ فهو محمول على الخصوصية له عليه السلام، لا يقال: إن الأصل عدم الخصوصية؛ لأنَّا نقول: الخصوصية ثابتة ومستفادة من هذا الحديث، ومن نفاها؛ فعليه البيان بالبرهان، والله تعالى الكريم الحنَّان المنان [أسأل] أن يفرِّج عنا ما نحن فيه وعن المسلمين.
وفي يوم الاثنين الثالث من صفر سنة سبع وسبعين شُنِق ستة وخمسون نفرًا؛ منهم: مصطفى بيك الحواصلي، ومحمود ركاب، وابنه راغب، وحسن بيك بن ناصوح باشا، وحسن النشواتي، وعلقوا في الشوارع، وفيه قتلوا مئة وعشرة أنفار في المرجة بالرصاص؛ منهم: محمد بن شيخ قطنا، وحسن البهنسي، وأحمد البغجاتي، ومصطفى بيك وأخوه إبراهيم بيك وَلَدَيْ عاكف بيك ناصوح باشا وغيرهم، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسألك يا ربنا بجاه نبيك محمد وآله وأصحابه عليهم السلام أن تفرج عنا هذا البلاء، وأن تكشف عنا هذا الهمَّ والغمَّ برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
==========
%ص 171%
==================
(1/344)
(45) [باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة]
هذا (باب: الغُسل والوُضوء)؛ بضم الغين المعجمة في الأول، وضم الواو في الثاني، قال العجلوني: (وجوَّز الكرماني فيهما الفتح أيضًا)، قلت: لكن المشهور الأول؛ لأنَّ المراد به هنا الفعل؛ فافهم، (من المِخْضب)، وفي رواية: (في) بدل (من)، وهو بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، آخره موحدة، شبه الإجانة، أو إناء يُغْسَلُ فيه الثياب، ويقال له: المِرْكَن _بالنُّون أخره_ كـ (مِنْبَر)، وهو يكون من أي جنس ولو صغيرًا، (والقَدَح)؛ بفتحتين: إناء معروف، واحد الأقداح التي للشرب، وقيل: القَدَح: الذي يؤكل فيه، وأكثر ما يكون من الخشب مع ضيق فيه، (والخَشَب)؛ بفتح المعجمتين، جمع خشبة، وكذا الخُشُْب؛ بضمتين وبسكون الشين، ومراده: الإناء من الخشب، (و) الإناء من (الحِجارة)؛ بكسر المهملة؛ لأنَّ الأواني تكون من الخشب، والحجر، وسائر جواهر الأرض كالحديد، والصفر، والنحاس، والذهب، والفضة، فقوله: (والخشب) يتناول سائر الأخشاب، وقوله: (والحجارة) يتناول سائر الأحجار من التي لها قيمة والتي لا قيمة لها، والحجارة: جمع حجر، وهو جمع نادر؛ كالجمالة: جمع جمل، وكذا حجار _بدون الهاء_ وهما جمع كثرة، وجمع القلة: أحجار.
فإن قلت: ما وجه عطف الخشب والحجارة على المخضب والقدح؟
قلت: هو من باب عطف التفسير؛ لأنَّ المخضب والقدح قد يكونان من الخشب، وقد يكونان من الحجارة، وقد صرح في الحديث المذكور في هذا الباب: (بمِخْضَبٍ من الحجارة)، كما يأتي عن قريب، والدليل على صحة ذلك ما وقع في رواية: (في المخضب والقدح).
وقال ابن حجر: (ليس من عطف العام على الخاص فقط، بل بين هذين وهذين [1] عموم وخصوص من وجه).
وردَّه في «عمدة القاري»
%ص 171%
بأن قصارى فهم هذا القائل أنه ليس من عطف العام على الخاص، ثم أضرب عنه إلى بيان العموم والخصوص من وجه بين هذه الأشياء، ولم يبيِّن وجه العطف ما هو، وقد وقع في بعض النسخ بعد قوله: (والحجارة): (والتَّور)؛ بفتح المثناة فوق، قال الجوهري: (هو إناء يشرب فيه)، زاد العلامة المطرزي: (صغير)، وفي «المغيث»: (هو إناء شبه إجانة من صفر أو حجارة يتوضأ فيه ويؤكل [2] فيه، وقيل: هو مثل قدح من الحجارة)، كذا في «عمدة القاري».
وما شرحنا عليه من قوله: (من المِخْضَبِ) أحسن؛ لأنَّها أنسب بالمعطوفات، وفي رواية: (في المخضب)، ولم يطلع ابن حجر على رواية: (من المخضب)، فقال ما قال من التكلفات؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (بل من هذين وهذان)، ولعله تحريف عن المثبت.
[2] في الأصل: (ويكل).
==================
[1] في الأصل: (بل من هذين وهذان)، ولعله تحريف عن المثبت.
[1] في الأصل: (بل من هذين وهذان)، ولعله تحريف عن المثبت.
(1/345)
[حديث أنس: حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار]
195# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مُنِيْر)؛ بضم الميم، وكسر النُّون، وسكون التحتية، آخره راء، الحافظ الزاهد السهمي المروزي، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئتين، قال في «عمدة القاري»: (ووقع في رواية الأصيلي: «ابن المنير»؛ بالألف واللام)، قال: (قلت: يجوز كلاهما، كما عرف في موضعه، وقد يلتبس هذا بابن المُنَيِّر الذي له كلام في تراجم البخاري، وهو بضم الميم، وفتح النُّون، وتشديد التحتية، وهو متأخر عن ذلك بزهاء أربعمئة سنة، وهو أبو العباس أحمد بن أبي المعاني محمد كان قاضي إسكندرية وخطيبها) انتهى: (أنه سمع عبد الله بن بَكْر)؛ بفتح الموحدة وسكون الكاف، أبا وهب البصري، نزل بغداد وتوفي بها سنة ثمان ومئتين في خلافة المأمون (قال: حدثنا حُمَيد)؛ بالتصغير، ابن أبي حميد الطويل، المتوفى وهو قائم يصلي سنة ثلاث وأربعين ومئة، (عن أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه (قال: حضرت الصلاة)؛ أي: صلاة العصر، وكان بالمدينة، (فقام من كان) في محل الرفع فاعل (قام) (قريب الدار إلى أهله) يتعلق بقوله: (فقام)، وذلك القيام كان لتحصيل الماء والتوضؤ به، (وبقي قوم)؛ أي: عند النبي الأعظم عليه السلام في مجلسه، ولم يكونوا على الوضوء أيضًا، وإنما توضؤوا من المخضب الذي أُتي به رسول الله عليه السلام، ولذا قال: (فأُتي)؛ بضم الهمزة على صيغة المجهول (رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِخْضَب)؛ بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الضَّاد المعجمة، آخره موحدة: إناء متخذ (من حجارة) كلمة (من) للبيان، (فيه ماء)، لكنه قليل، (فصغُر) بضم الغين المعجمة (المخضب أن يبسُط) بضم السين المهملة (فيه كفه) الشريف؛ أي: لم يسع بسط الكف فيه؛ لصغره، وقد علم من ذلك: أن المخضب يكون من حجارة وغيرها، ويكون صغيرًا وكبيرًا، وفي رواية: (فلم يستطع أن يبسط كفَّه من صغر المخضب)؛ أي: لأن يبسط، وكلمة (أن) مصدرية؛ أي: بسط الكفِّ فيه، (فتوضَّأ القوم)؛ أي: القوم الذين بقوا عند النبي الأعظم عليه السلام، ويحتمل العموم، ولعلَّ من ذهب لم يجد ماء للوضوء (كلهم) من ذلك المخضب الصغير، (قلنا)، وفي رواية: (فقلنا)، وفي أخرى: (فقلت)، وهو من كلام حميد الطويل الراوي عن أنس رضي الله عنه: (كم كنتم؟) مميز (كم) محذوف؛ تقديره: كم نفسًا كنتم؟ (قال) أي: أنس: (ثمانين)؛ أي: كنَّا ثمانين نفسًا (وزيادة) على الثمانين، فـ (ثمانين) منصوب؛ لأنَّه خبر الكون المقدر هو واسمه؛ لدلالة الكلام عليه، وفي الحديث: دلالة على معجزة عظيمة للنبي الأعظم عليه السلام، وأسألك بجاهه عندك أن تفرِّج عنا، وعن المسلمين يا أرحم الراحمين، وفيه: استحباب التهيؤ للوضوء عند حضور الصلاة، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 172%
==================
(1/346)
[حديث: أن النبي دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه]
196# وبه قال: ([حدثنا] محمد بن العَلَاء) بالمهملة المفتوحة وبالمد (قال: حدثنا أبو أُسَامة)؛ بضم الهمزة، وتخفيف السين المهملة، حماد بن أسامة، (عن بُرَيْد)؛ بضم الموحدة، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، هو ابن عبد الله، (عن أبي بُرْدة)؛ بضم الموحدة، وسكون الرَّاء: الحارث أو عامر، أو اسمه كنيته، (عن أبي موسى): عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، وهذا الإسناد بعينه تقدم في باب (فضل من علم وعلم)، ولا تفاوت إلا في لفظ: (حماد)، فإنه ذكر هنا بالكنية، وثَمَّة بالاسم، كذا في «عمدة القاري»: (أن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم دعا بقَدَح)؛ أي: طلب قدحًا (فيه ماء)؛ جملة اسمية في موضع الجر؛ لأنَّها صفة لـ (قدح)، (فغسل يديه)؛ بالتثنية، الفاء للعطف على (دعا) (ووجهَه)؛ بالنصب عطف على قوله: (يديه) (فيه)؛ أي: في القدح، (ومجَّ)؛ بتشديد الجيم؛ أي: صبَّ (فيه)؛ أي: في القدح، يقال: مجَّ لعابه؛ إذا قذفه، وهذا يدل على أن الغَسل _بفتح الغين المعجمة_ لا على الغُسل _بضمها_ ولا على الوضوء منه، وفيه: دلالة على جواز الشرب منه، وكذا الإفراغ منه على الوجوه والنحور، كما سبق في هذا الحديث.
وهو كسابقه ولاحقه يدلُّ على جواز استعمال الأواني كيفما كانت إلا ما خرج منها لأدلة، قال في «عمدة القاري»: (الأواني كلها سواء كانت من الخشب أو من جواهر الأرض طاهرة، فلا كراهة في استعمالها للأكل والشرب إلا آنية الذهب والفضة، فيُكْرَهُ الأكل والشرب والتوضؤ في آنية الذهب والفضة، ولو توضَّأ فيه؛ أجزأه وقد أساء، هذا مذهب الإمام الأعظم، ومالك، وإسحاق، وأبو ثور، والشافعي، وغيرهم، والمراد بالكراهة: التحريم، وأما المتصفر؛ فلا بأس بالأكل والشرب منه والتوضؤ فيه، ذكر أبو عبيد عن ابن سيرين: «كانت الخلفاء يتضؤون في الطست»، وعن الحسن: «رأيت عثمان بن عفان يصبُّ عليه من إبريق»؛ يعني: نحاسًا، قال أبو عبيد: وعلى هذا أمر الناس في الرخصة والتوسعة في الوضوء في آنية النحاس وأشباهه من الجواهر إلا ما روي عن ابن عمر من الكراهة، وذكر ابن أبي شيبة عن يحيى بن سليم عن ابن جريج قال: قال معاوية: كرهت أن أتوضأ في النحاس، وقال ابن بطال: «وقد وجدت عن ابن عمر: أنه توضأ في النحاس، وهذه الرواية أقرب إلى الصواب»، وفي «الأشراف»: «ما علمت أن أحدًا كَرِهَ الوضوء في آنية الصُّفر، والنحاس، والرصاص، وشبهه، والأشياء على الإباحة إلا ما روي عن ابن عمر»، قلت: وقد علمت ما قاله ابن بطال، وفي «سنن أبي داود» بسند ضعيف عن عائشة قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه السلام في تَوْرٍ من شَبَه»، وفي «مسند» أحمد بسند صحيح عن زينب بنت جحش: «نه عليه السلام كان يتوضأ من مِخْضَب من صُفر»، والصُّفر؛ بضم الصَّاد المهملة: هو النحاس الجيد، قال أبو عبيد: كسر الصَّاد فيه لغة، ولم يُجِزْهُ غيره، ويقال له: الشَبَه أيضًا _بفتحتين_ لأنَّه يشبه الذهب) انتهى ملخصًا، والله تعالى أعلم.
اللهم إني أسألك أن تفرِّج عنا وعن المسلمين بجاه سيد المرسلين وحبيب ربِّ العالمين، واكشف يا ربَّنا هذا البلاء، وأبدله فرحًا وسرورًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
==================
(1/347)
[حديث: أتاتا رسول الله فأخرجنا له ماء في تَوْر من صُفر فتوضأ]
197# وبه قال: (حدثنا أحمد ابن يونس) نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو أحمد بن عبد الله بن يونس (قال: حدثنا عبد العزيز ابن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام، الماجَشون _بفتح الجيم_ نسبه لجده أيضًا لشهرته به، وإلا؛ فهو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، فأحمد وعبد العزيز؛ كلاهما منسوبان إلى جدهما، واسم أب كلٍّ منهما عبد الله، وكنية كلٍّ منهما أبو عبد الله، وكلٌّ منهما ثقة حافظ فقيه، كذا في «عمدة القاري» (قال: حدثنا عَمرو بن يَحيى) بفتح أولهما، (عن أبيه) يحيى بن عمارة، (عن عبد الله بن زيد) الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: أَتى)؛ بفتح الهمزة على البناء للفاعل، وفي رواية: (أتانا) (رسول الله)، وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إلى دارنا، (فأخرجنا) من الدار (له)؛ أي: للنبي الأعظم عليه السلام (ماء)؛ بالمد؛ لأجل الوضوء (في تَور) بالمثناة الفوقية المفتوحة (من) للبيان (صُفر)؛ بضم الصَّاد المهملة، وقد تُكْسَر؛ أي: من نحاس أصفر، وقدَّمنا عن الجوهري: (أن التور: هو إناء يشرب فيه)، وزاد في «المغرب»: صغير، وفي «المغيث»: إناء شبه إجانة من صُفْر أو حجارة يُتَوَضَّأُ فيه ويُؤْكَل، وقال ابن قرقول [1]: (هو مثل القدح من الحجارة)، وقوله: (في تور من صفر) زيادة عبد العزيز، قال الكرماني: (فإن قلت: لم يذكر في الترجمة
%ص 172%
لفظ: «التور»، وكان المناسب أن يذكر هذا الحديث في الباب الذي بعده.
قلت: لعلَّ إيراده في هذا الباب من جهة أن ذلك التَوْر كان على شكل القدح، أو من جهة أنه حجر؛ لأنَّ الصُّفر من أنواع الحجارة)، قال في «عمدة القاري»: (ورأيت في نسخة صحيحة بخط المصنف: «والتور» بعد قوله: «والخشب والحجارة») انتهى، فعلى هذا حصلت المطابقة للترجمة، فلا حاجة لما قاله الكرماني على أن قوله: (لأن الصفر ... ) إلخ؛ فيه نظر؛ لأنَّ الصُّفر: هو النحاس الأصفر أو الجيد منه.
ونقل العجلوني: (أن التَّوْر: الطست أو شبهه) انتهى، ويردُّه ما قدمناه عن أهل اللغة من أنَّه: إناء صغير يُشْرَبُ فيه ويُؤْكَل، والطست لا يُشْرَبُ فيه ولا يُؤْكَل، ويدل لذلك ما في حديث المعراج عن أنس: «فأُتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب»، فإنَّه قد غاير بينهما، وفُهِمَ منه أنَّ التور أصغر من الطست، فهو موافق لما قدمناه؛ فليحفظ.
(فتوضأ)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، وقوله: (في تَوْر) صفة؛ لقوله: (ماء)، ومحله النصب، (فغسل وجهه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، وهذا تفسير؛ لقوله: (فتوضأ)، وفيه حذف تقديره: فمضمض واستنشق، كما دلت عليه الروايات الأخر والمخرج متحد؛ كذا قاله في «عمدة القاري»؛ فافهم، (ويديه)؛ بالتثنية؛ أي: وغسل يديه (مرتين مرتين) إلى المرفقين؛ أي: لكل يد مرتين، (ومسح برأسه)؛ الباء للإلصاق على التحقيق، أو زائدة، وقيل: للتبعيض، وهو ضعيف، (فأقبل به)؛ أي: بالمسح المفهوم من (مسح)؛ أي: لا بالرأس إلا أن تُجْعَلَ الباء بمعنى: (على)؛ فافهم، (وأدبر)؛ أي: به أيضًا، (وغسل رجليه)؛ أي: إلى الكعبين، وأتى بالواو فيه وفيما قبله التي هي لمطلق الجمع؛ للتنبيه على أنَّ الترتيب ليس بواجب، بل هو سنة؛ كما تقدم في باب (غسل الرجلين)؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (قرقور)، وهو تحريف عن المثبت.
==================
(1/348)
[حديث: هريقوا عليَّ من سبع قِرَب]
198# وبه قال: (حدثنا أبو اليَمان)؛ بألف بعد الميم، قبلها مثناة تحتية مفتوحة، هو الحَكم بن نافع؛ بفتح الحاء المهملة (قال: أخبرنا شُعيب)؛ بضم المعجمة، ابن أبي حمزة دينار، أبو بشر الحمصي، (عن الزهري) محمد بن مسلم ابن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتبة)؛ بضم العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، زاد في رواية: (ابن مسعود) رضي الله عنه: (أن عائشة) زوج النبي الأعظم عليه السلام ورضي عنها، (قالت: لمَّا) بتشديد الميم (ثقل النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أثقله المرضن قال في «عمدة القاري»: (ثَقُل _بضم القاف_ يقال: ثقل الشيء ثقلًا؛ مثل: صغر صغرًا، فهو ثقيل، وقال أبو نصر: أصبح فلان ثاقلًا: إذا أثقله المرض، والثقل: ضد الخفة، والمعنى ههنا: اشتد مرضه، ويفسره قولها بعده: (واشتد به وجعه)؛ أي: مرضه، وأما الثَّقْل _بفتح الثاء وسكون القاف_ فهو مصدر ثقَل الشيء _بفتح القاف_ في الوزن يَثْقُله ثقلًا، من باب (نَصَر يَنْصُر): إذا وزنه، وكذلك ثقلت الشاة: إذا رفعتها للنظر ما ثقلها [1] من خفتها، ونقل ابن حجر عن «القاموس»: (ثقِل الرجل _بكسر القاف_ فهو ثاقل وثقيل: اشتد مرضه)، واعترضه في «عمدة القاري»: (بأنَّ هذا يحتاج إلى مستند إلى أحد من أئمة اللغة المعتمد عليهم) انتهى.
وقوله: (استأذن) عليه السلام، جواب (لمَّا) (أزواجه رضي الله عنهنَّ)، وكنَّ تسعة، وهنَّ اللاتي مات عنهنَّ، وقد نظمهنَّ بعضهم بقوله:
تُوُفِّي رَسُولُ اللهِ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ ... إلَيْهِنَّ تُعْزَى الْمَكْرُمَاتُ وَتُنْسَبُ
فَعَائِشَةٌ مَيْمُونَةٌ وَصَفِيَّةٌ ... وَحَفْصَةُ أَيْضًا ثُمَّ هِنْدٌ وَزَيْنَبُ
جُوَيْرِيَةُ مَعَ سَوْدَةٍ ثُمَّ رَمْلَةٍ ... ثَلَاثٌ وَسِتٌّ ذِكْرُهُنَّ مُهَذَّبُ
أي: طلب منهنَّ أن يأذنَّ له (في أن يُمرَّض)؛ بضم المثناة التحتية وفتح الرَّاء المشددة، على صيغة المجهول من التمريض، يقال: مرَّضته تمريضًا: إذا قمت عليه في مرضه؛ يعني: خدمته فيه، ويحتمل هنا: أزلت مرضه بالخدمة، كذا في «عمدة القاري» (في بيتي)؛ متعلق بـ (يُمرض)، ففيه دلالة على وجوب القسم على النبي الأعظم عليه السلام، وإلَّا لم يحتج إلى الاستئذان منهنَّ، ووجوبه على غيره من الأمَّة بالطريق الأولى، (فأذِنَّ)؛ بتشديد النُّون وكسر المعجمة؛ لأنَّه جماعة النساء؛ أي: أذنت أزواج النبي الأعظم عليه السلام (له)؛ أي: للنبي الأعظم عليه السلام أن يمرَّض في بيتها؛ أي: عائشة رضي الله عنها، ففيه: دليل على أنَّ لبعض الضرَّات أن تهب نوبتها للضرَّة الأخرى، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور، ولها أن ترجع؛ لأنَّها أسقطت حقًّا لم يجب بعد، فلا يسقط، كذا في «شرح الملتقى»، وفي الحديث: دلالة على فضل السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لتمريض النبي الأعظم عليه السلام في بيتها، وفيه: أنَّه عليه السلام كان يشتد به المرض؛ ليعظم أجره بذلك عند ربه عزَّ وجلَّ، وفي الحديث الآخر: «إنِّي أوعك كما يوعك رجلان منكم»، وفيه: أنَّ المريض يسْكُنُ نفسه لبعض أهله دون بعض، كذا في «عمدة القاري».
(فخرج النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من بيت ميمونة، وهو الأظهر، وقيل: من بيت زينب بنت جحش، وقيل: من بيت ريحانة، وفي هذا دلالة على أنَّه لا يجْمَعُ بين الضرائر إلَّا بالرضا، ولو قالت: لا أسكن مع أَمتك؛ ليس لها ذلك، كذا في «شرح الملتقى» (بين رجلين تَخُطُّ) بفتح المثناة الفوقية وضم الخاء المعجمة (رجلاه) فاعله؛ أي: يؤثر برجليه على الأرض كأنه يخطُّ خطًّا، وفي رواية: (تُخَطُّ)؛ بصيغة المجهول، كذا في «عمدة القاري»، ومثله في «الكرماني»، وقوله: (في الأرض) متعلق بـ (تخط)، وكلمة (في) على بابها، أو بمعنى: على، وقوله: (بين عباس)؛ أي: عمه عليه السلام، وهو العباس بن عبد المطلب، يُكْنى أبا الفضل، أكبر من النبي الأعظم عليه السلام بسنتين أو ثلاث، المتوفى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين أو بعدها، عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالبقيع، وقبره مشهور يُزَار، (ورجل آخر) بدل من قوله: (بين رجلين).
(قال: عبيد الله)؛ بالتصغير؛ أي: الراوي عن عائشة رضي الله عنها، وهذا مدرج من كلام الزهري الراوي عنه، لكنه بالإسناد المذكور بغير واو العطف: (فأخبرت عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما؛ أي: بقول عائشة رضي الله عنها، (فقال) أي: ابن عباس: (أتدري من الرجل الآخر؟)؛ أي: الذي لم تسمِّه عائشة، (قال: لا)؛ أي: لا أدري، (قال) أي: ابن عباس: (هو علي)؛ أي: ابن أبي طالب، كما صُرِّح به في رواية، لكن في رواية مسلم: (بين الفضل بن عباس)، وفي أخرى: (بين رجلين؛ أحدهما: أسامة)، قال في «عمدة القاري»: (وطريق الجمع أنَّهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة تارة هذا وتارة هذا، وكان العباس أكثرهم أخذًا ليده الكريمة؛ لأنَّه كان أدومهم لها إكرامًا واختصاصًا به، وعلي وأسامة والفضل يتناوبون اليد الأخرى، قال: فعلى هذا يجاب عن إبهام عائشة بأنَّها صرحت بالعباس، وأبهمت الآخر لكونهم ثلاثة، وهذا الجواب أحسن من أنَّه كان في قلبها منه ما يحصل في قلوب البشر مما يكون سببًا في الإعراض عن ذكر اسمه؛ حيث قال للنبي الأعظم عليه السلام عنها في قصة الإفك: (النساء سواها كثير)، وإن تبعه الشراح؛ لأنَّ في هذا توصل للجهال والقيل والقال، كما لا يخفى على أهل الأحوال.
(وكانت عائشة تحدث أن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) عطف على (فأخبرت)، فهو من مقول عبيد الله لا ابن عباس، فهو داخل تحت الإسناد السابق، ويحتمل أن يكون ما سمع عبيد الله من عائشة، فيكون مسندًا، وأن يكون تعليقًا من عبيد الله؛ فتأمل (قال بعد ما دخل بيته)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، ولابن عساكر: (بيتها)؛ أي: عائشة، وأضيف إليها مجازًا؛ لسكناها فيه، (واشتد وجعه) وفي رواية الأصيلي: (واشتد به وجعه): (هريقوا)؛ بدون الهمزة في أكثر الروايات، وفي رواية: (أهريقوا)؛ بزيادة الهمزة، وفي أخرى: (أريقوا).
وفي هذه المادة ثلاث لغات:
الأولى: هراق الماء يهريقه هراقة؛ أي: صبَّه، وأصله: أراق يريق إراقة، من باب الإفعال، وأصل أراق: أَرْيَق على وزن (أفعل)، نقلت حركة الياء إلى ما قبلها
%ص 173%
ثم قلبت ألفًا؛ لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها بعد النقل، فصار (أراق،) وأصل يريق: يأريق على وزن (يأفعل)، مثل يكرم أصله: (يؤكرم)، حذفت الهمزة منه إتباعًا لحذفها في المتكلم؛ لاجتماع الهمزتين فيه، وهو ثقيل.
اللغة الثانية: أهرق الماء يهرقه إهراقًا؛ على وزن (أفعل إفعالًا)، قال سيبويه: (قد أبدلوا من الهمزة الهاء، ثم لزمت، فصارت كأنها من نفس الكلمة، ثم حذفت الألف بعد الهاء، ونزلت الهاء عوضًا عن حذفهم العين؛ لأنَّ أصل أهرق: (أريق).
اللغة الثالثة: أهراق يهريق إهرياقًا، فهو مهريق، والشيء: مهْراق، ومهَراق أيضًا بالتحريك؛ وهذا شاذ، نظيره أَسطاع يُسطيع إسطياعًا؛ بفتح الألف في الماضي، وضم الياء في المضارع، وهو: لغة في (أطاع يطيع)، فجعلوا السين عوضًا من ذهاب حركة عين الفعل، فكذلك حكم الهاء، وقد خبط بعضهم في هذا الموضع خباطًا؛ لعدم وقوفه على قواعد علم الصرف، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(عليَّ) بتشديد الياء المفتوحة (من سبع قِرَب)؛ بكسر القاف وفتح الرَّاء، جمع قربة، وهي ما يسقى به، وهو جمع كثرة، وجمع القلَّة: قرْبات؛ بسكون الرَّاء وفتحها، كذا في «عمدة القاري»، وكلاهما متعلق بـ (هريقوا) (لم تُحلل) بالبناء للمجهول (أوكيتهن) جمع وكاء؛ وهو الذي يشدُّ به رأس القربة؛ أي: فمها، (لعلِّي أَعهَد)؛ بفتح الهمزة والهاء (إلى الناس)؛ أي: أوصي إليهم، من باب (علم يعلم)، يقال: عهدت إليه؛ أي: أوصيته، (وأُجْلِسَ)، وفي رواية: (فأُجْلِسَ)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، والفعل في الروايتين مبني للمفعول (في مِخْضَب)؛ بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة: إناء يُغْسَلُ فيه، زاد ابن خزيمة: (أنَّه كان من نحاس) (لحفصة زوجِ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ بالجر صفة لـ (حفصة)، (ثم طفِقنا)؛ بكسر الفاء، وفتحها حكاه الأخفش، والكسر أفصح، وهو من أفعال المقاربة، ومعناه: جعلنا (نَصبُّ)؛ بضم الصَّاد المهملة (عليه) الماء صلى الله عليه وسلم (من تلك)؛ أي: القِرَب السبع، وفي رواية: (تلك القِرَب)، وهو في محل نصب مفعول (نَصُبُّ) (حتى طفِق)؛ بكسر الفاء، وقد تفتح؛ أي: حتى جعل (يُشِيرُ) أي: النبي الأعظم عليه السلام (إلينا)، والجملة خبر (طفق)، وكذا جملة (نصبُّ) خبر (طفقنا)، وفي (طفق) معنى: الاستمرار والمواصلة؛ (أن قد فعلتُنَّ)؛ بضم المثناة الفوقية، وتشديد النُّون، جمع مؤنث مخاطب، و (أن) تفسيرية؛ لأنَّ (يشير) فيه معنى القول دون حروفه؛ أي: فعلتنَّ ما أمرتكنَّ به من إهراق الماء عليَّ من القرب الموصوفة، (ثم خرج) أي: النبي الأعظم عليه السلام من بيت عائشة (إلى الناس)؛ أي: إلى الذين في المسجد، فصلَّى بهم، وخطبهم، على ما يأتي إن شاء الله تعالى مفصَّلًا في مباحث الوفاة النبوية.
فإن قلت: لم يذكر للخشب ما يدل عليه من أحاديث الباب، وأجيب: باحتمال أنَّ القدح كان من الخشب، أفاده الكرماني.
وفي الحديث: جواز الإجلاس في المِخْضَبِ ونحوه؛ لأجل صبِّ الماء عليه سواء كان من خشب، أو حجر، أو نحاس، وقد روي عن ابن عمر كراهة الوضوء في النحاس، وقد ذكرناه، وقد روي عنه أنَّه قال: إنِّي أتوضأ بالنحاس وما يكره منه شيء إلا رائحته فقط، وقيل: الكراهة فيه؛ لأنَّ الماء يتغيَّر فيه، وروي أنَّ الملائكة تَكْرَهُ ريح النحاس، وقيل: يحتمل أن تكون الكراهة فيه؛ لأنَّه مستخرج من معادن الأرض شبيه بالذهب والفضة، والصَّواب: جواز استعماله؛ بما ذكرنا من رواية ابن خزيمة وفي رسول الله عليه السلام الأسوة الحسنة والحجة البالغة.
وفي الحديث: دلالة على جواز إراقة الماء على المريض بنيَّة التداوي وقصد الشفاء، وعلى جواز الرقى والتداوي للعليل، ويكره ذلك لمن ليست به علة، والحكمة في طلب النبي الأعظم عليه السلام الماء في مرضه: أنَّ المريض إذا صُبَّ عليه الماء البارد؛ بانت إليه قوته، لكن في مرض يقتضي ذلك كالحمى، والنبي الأعظم عليه السلام علم ذلك، فلذلك طلب الماء، ولذلك بعد استعمال الماء قام وخرج إلى الناس، كذا قاله في «عمدة القاري»، وقال الكرماني: (والحكمة في تعيين العدد السبع في القِرَب؛ لأنَّه يحتمل أن يكون ذلك من جهة التبرك، وفي عدد السبع بركة؛ لأنَّ له دخولًا كثيرًا في كثير من أمور الشريعة، ولأن الله تعالى خلق خلقًا كثيرًا من مخلوقاته سبعًا) انتهى.
والأحسن في الجواب ما قاله في «عمدة القاري»: (من أنَّ نهاية العدد عشرة، والمئات تركب من العشرات، والألوف من المئات، والسبعة من وسط العشرة، وخير الأمور أوساطها، وهي وتر، والله تعالى يحب الوتر، بخلاف السادس والثامن، وأمَّا التاسع؛ فليس من الوسط، وإن كان وترًا)؛ فليحفظ.
ثم قال: (والحكمة في تعيين القِرَب أن الماء يكون فيه محفوظًا، وفي معناها ما يشاكلها مما يُحْفظ فيه الماء، ولهذا جاء في رواية الطبراني في هذا الحديث من آثار شتَّى، والحكمة في شرطه عليه السلام في القِرَب عدم حل أوكيتهن: أنَّ أولى الماء أطهره وأصفاه؛ لأنَّ الأيدي لم تخالطه ولم تدنسه بعد، والقِرَب إنَّما توكى وتحل على ذكر الله عزَّ وجلَّ، فاشترط أن يكون صبُّ الماء عليه من الأسقية التي لم تحلل؛ ليكون قد جمع بركة الذكر في شدِّها وحلِّها معًا) انتهى كلامه، والله تعالى أعلم.
اللهم إني أسألك فرجًا قريبًا، وعلمًا نافعًا، وسترًا جميلًا، ورزقًا واسعًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، واكشف عنَّا وعن المسلمين هذا البلاء، وفرج عنَّا ما أهمَّنا وأهمَّهم برحمتك يا أرحم الراحمين، آمين آمين آمين، وصلى الله على محمَّد وآله وصحبه أجمعين.
==========
[1] في الأصل: (يقلها)، وهو تصحيف.
==================
(1/349)
(46) [باب الوضوء من التور]
هذا (باب: الوُضوء)؛ بضم الواو (من التَّوْر)؛ بفتح المثناة الفوقية، وسكون الواو، بعدها راء مهملة: إناء صغير يشرب فيه، أو شبه الإجانة من صُفْر أو حجارة يُتوضَّأ فيه ويُؤْكَل منه.
قال في «عمدة القاري»: (ووقع في حديث شريك عن أنس في المعراج: «فأُتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب»، فدلَّ هذا أنَّ التور غير الطست، وذلك يقتضي أن يكون التور إبريقًا؛ لأنَّ الطست لا بدَّ له من ذلك) انتهى، قلت: فالظاهر أنَّ التور الأبريق، وقول الجوهري: (إناء يُشْرَبُ فيه) صادق عليه، وقول المطرزي: (إناء صغير يشرب فيه) يصدق عليه أيضًا؛ فتأمل.
==========
%ص 174%
==================
(1/350)
[حديث ابن زيد: رأيت النبي يتوضأ فدعا بتور من ماء]
199# وبه قال: (حدثنا خالد بن مَخْلَد)؛ بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح اللام، القطواني البجلي (قال: حدثنا سليمان)؛ أي: ابن بلال، كما في روايةٍ، أبو محمد (قال: حدثني) بالإفراد (عَمرو) بفتح العين (بن يحيى، عن أبيه) أي: يحيى بن عمارة (قال) أي: يحيى: (كان عمِّي)؛ أي: عمرو بن أبي حسن، قال الكرماني: (تقدم في باب «مسح الرأس» أنَّ المستخبر جد عمرو، فكيف يكون عم يحيى؟ وأجاب: بأنَّه جد من جهة الأم عم من جهة الأب) انتهى، قلت: وهذه عادة المؤلف، تارةً يعبر في باب باسم، وتارةً يعبر في باب آخر لذلك الشخص بكنيةٍ أو لقبٍ أو غيرها؛ قصدًا للتفنن، وبهذا ظهر اضمحلال قول ابن حجر: (إنه عمه على الحقيقة)؛ فافهم، (يكثر من الوُضوء)؛ بضم الواو؛ لأنَّه يحب أن يكون على طهارة، كما هو المستحب، (قال)، وفي رواية: (فقال): (لعبد الله بن زيد) أي: الأنصاري، (أخبرني كيف رأيت النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم يتوضأ) حتى لا يكون فعله عبثًا، ويكون وضوءُه موافقًا [1] لوضوئه عليه السلام، (فدعا) أي: عبد الله بن زيد (بتَور)؛ بموحدة بعدها مثناة فوقية: إناء فيه شيء (من ماء)، وفيه المطابقة للترجمة، (فكفأ)؛ بالهمز؛ أي: صب (على يديه) بالتثنية (فغسلهما) إلى الرسغين (ثلاث مرات) وفي رواية: (ثلاث مرار)؛ بتكرار الرَّاء، وأورد في «عمدة القاري» على هذه الرواية: (بأنَّ حكم العدد من ثلاثة إلى عشرة أن يضاف إلى جمع القلة، فلمَ أضيف إلى جمع الكثرة مع وجود القلة وهو «مرات»؟ وأجاب:
%ص 174%
بأنهما يتعارضان، فيستعمل كل منهما مكان الآخر، كقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]) انتهى.
(ثم أدخل يده) بالإفراد (في التور)؛ أي: ثم أخرجها، كما صرح به مسلم، (فمضمض واستنثر)، وإنما لم يذكر الاستنشاق؛ لأنَّ الاستنثار مستلزم للاستنشاق؛ لأنَّه إخراج الماء من الأنف، كذا قاله الكرماني، واعترضه في «عمدة القاري»: (بأن هذا لا يتأتَّى على قول من يقول: الاستنثار والاستنشاق واحد، وعلى هذا القول؛ يكون هذا من باب الاكتفاء أو الاعتماد على الرواية الأخرى) انتهى، لا كما قاله العجلوني من: (أنه يكون الاستنشاق مذكورًا بلفظ الاستنثار)؛ فافهم، (ثلاث مرات) وفي رواية: (ثلاث مرار)؛ بتكرار الرَّاء (من غرفة واحدة) حال من الضمير في (مضمض)، والمعنى: مضمض ثلاث مرات واستنشق ثلاث مرات حال كونه مغترفًا بغرفة واحدة، أو صفة لـ (ثلاث)، أو حال منها، والأول أظهر.
قال في «عمدة القاري»: (يكون الجميع بثلاث غرفات، والتركيب لا يزيد على هذه، أو يصرح بغرفة واحدة، نعم؛ جاء في حديث عبد الله بن زيد: «بثلاث غرفات»، وفي رواية «أبي داود» و «مسلم»: «فمضمض واستنشق من كف واحدة يفعل ذلك ثلاثًا»؛ يعني: يفعل المضمضة والاستنشاق كل مرة منهما بغرفة، فتكون المضامض الثلاث بثلاث غرفات) انتهى، قلت: وهذا أولى لموافقته الروايات، وقد خبط هنا ابن حجر خبط عشواء، وركب متن عمياء؛ لعدم الفهم والاطلاع؛ فليحفظ.
(ثم أدخل يده)؛ بالإفراد؛ أي: في التَّوْر، (فاغترف بها)؛ أي: ثلاثًا، وفي رواية: (ثم أدخل يديه _بالتثنية_ فاغترف بهما)، (فغسل وجهه ثلاث مرات)، وفي رواية: (ثلاث مرار)؛ بتكرار الرَّاء، قال في «عمدة القاري»: (ولفظ «ثلاث» متعلق بالفعلين؛ أي: اغترف ثلاثًا، فغسل ثلاثًا، وهو على سبيل تنازع العاملين؛ لأنَّ الغسل ثلاثًا لا يمكن باغتراف واحد) انتهى (ثم غسل يديه) بالتثنية (إلى المِرفقين) بكسر الميم (مرتين مرتين)؛ أي: غسل كل يد مرتين، وهذا محمول على بيان الجواز، وإلا؛ فالأفضل التثليث فيهما؛ للروايات السابقة؛ فافهم، (ثم أخذ بيده)؛ بالإفراد، وفي رواية: (بيديه) بالتثنية (ماء) لفناء البلَّة (فمسح به) أي: بالماء (رأسه، فأدبر) وللأصيلي: بالواو (بيديه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (فأدبر به) (وأقبل)؛ أي: بهما، فاحتج به الحسن ابن حي، ومن تبعه على أن البدء بمؤخر الرأس، وأجيب: بأنَّ الواو لا تدل على الترتيب، وقد سبق في الرواية تقديم الإقبال حيث قال: (فأقبل بيده وأدبر بها)، وإنَّما اختلف فعله عليه السلام في التأخير والتقديم؛ لبيان الجواز، وليري أمته المشقة والتيسير في ذلك، أفاده في «عمدة القاري».
(ثم غسل رجليه)؛ أي: إلى الكعبين، وللأصيلي: (رجله)؛ بالإفراد؛ لأنَّ المراد بها الجنس، (فقال)؛ أي: عبد الله بن زيد، وللأصيلي: (وقال)؛ بالواو: (هكذا رأيت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتوضأ)، وهذه الزيادة صريحة في رفع الحديث إلى رسول الله عليه السلام مع دلالة سياق أول الحديث عليه.
اللهم إني أتوجه إليك بحبيبك محمد عليه السلام وآله وأصحابه أن تفرج عنَّا وعن المسلمين، وأن ترفع هذا البلاء عنهم يا أرحم الراحمين، إنك على كل شيء قدير.
==========
[1] في الأصل: (موافق).
==================
(1/351)
[حديث: أن النبي دعا بإناء من ماء]
200# وبه قال: (حدَّثنا مسدد)؛ هو ابن مسرهد (قال: حدثنا حماد)؛ بالحاء المهملة، هو ابن زيد لا ابن سلمة؛ لأنَّ مسدد لم يسمع منه، (عن ثابت)؛ بالمثلثة؛ أي: البُناني _بضم الموحدة وبالنُّونين_، (عن أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه: (أن النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء)؛ لأجل أن يتوضأ، (فأُتي)؛ بضم الهمزة (بقَدَح)؛ بفتحتين (رَحْراح)؛ بفتح الرَّاء، وبالحاءين المهملتين أولاهما ساكنة، بينهما راء، بعدها ألف؛ أي: واسع، ويقال: رحرح أيضًا؛ بحذف الألف، وقال الخطابي: (الرحراح: الإناء الواسع الفم القريب القعر، ومثله لا يسع الماء الكثير، فهو أَدَلُّ على عِظَمِ المعجزة)، وروى ابن خزيمة هذا الحديث عن أحمد بن عبدة عن حماد بن زيد، فقال بدل (رحراح): (زُجاج)؛ بزاي مضمومة وجيمين، وبوَّب عليه بباب (الوضوء من آنية الزجاج)، وفي «مسند أحمد» عن ابن عباس: أنَّ المقوقس أهدى للنبي الأعظم عليه السلام قدحًا من زجاج، لكن في إسناده مقال، كذا في «عمدة القاري»، قال ابن حجر: (وفيه إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أنَّ ذلك إسراف لإسراع الكسر إليه) انتهى، وصرَّح جماعة: بأنَّ أحمد بن عبدة صحَّفها، ويدل له أنَّه قال في روايته: (أحسبه)، وعلى ثبوتها؛ فلا منافاة بين الروايتين؛ لاحتمال أن َّالأولى ذكرت بوصف الهيئة والثاني بذكر الجنس؛ فتأمل، (فيه شيء من ماء)؛ أي: قليل من الماء؛ لأنَّ التنوين للتقليل و (من) للتبعيض، (فوضع)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (أصابعه) الشريفة (فيه)؛ أي: في الماء داخل القدح، (قال أنس)؛ أي: ابن مالك: (فجعلت أنظر إلى الماء ينبع)؛ بتثليث الموحدة، واقتصر في «الفرع» على الضم؛ أي: يفور (من بين أصابعه)؛ أي: أصابع يده اليمنى عليه السلام، (قال أنس) رضي الله عنه: (فحزرت)؛ بتقديم الزاي على الرَّاء، من الحزر، وهو الخرص والتقدير؛ أي: قدَّرت (مَن)؛ بفتح الميم، موصولة، أو نكرة موصوفة في محل نصب على المفعولية (توضأ) راعى في (مَن) لفظها، فأعاد الضمير من (توضأ) عليها مفردًا مذكرًا (منه)؛ أي: من الماء الذي في القدح (ما)؛ بالنصب على الحال، أو مفعول ثان لـ (حزرت)؛ لأنَّه بمعنى: قدرت أو ظننته، أو بدل، والأول أظهر؛ لاحتياج غيره إلى التقدير، وعدمه أولى؛ فليحفظ، (بين السبعين إلى الثمانين) صلة (ما) أو صفتها، وتقدم أنَّهم كانوا ثمانين وزيادة، وسيأتي في (علامات النبوة): (أنهم زهاء ثلاث مئة)، وفي بعض الروايات: (أنهم كانوا خمس عشرة مئة)، وأجاب الكرماني: (بأنَّها قضايا متعددة في مواطن مختلفة وأحوال متغايرة) انتهى، وزعم ابن حجر عن قضية أنس فقط بأنها تنيف على السبعين، ويشك هل بلغت العقد الثامن أو جاوزته؟ انتهى، ولا يخفى أنَّ جواب الكرماني أحسن وأوجه؛ فليحفظ، وقد رمرم العجلوني عبارة ابن حجر مما فيه تحريف، واستوجه جوابه تعصبًا؛ فافهم.
وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة ومعجزة عظيمة من معجزات النبي الأعظم عليه السلام، وهو أبلغ من تفجير الماء من الحجر لموسى عليه السلام؛ لأنَّ في طبع الحجارة أن يخرج منها الماء الغدق الكثير، وليس ذلك في طباع أعضاء بني آدم، وما أحسن ما قيل:
إن كان موسى قد استسقى لهم حجرًا ... فالفخر بالكف ليس الفخر بالحجر
وقال الكرماني: (ووجه المطابقة في الحديث للترجمة أن التور كما قاله الجوهري: «الإناء الذي يُشْرَبُ منه»، وهو صادق على القدح الرحراح) انتهى، وقول العجلوني: (والقدح الرحراح شبيه بالطست، وبه تظهر المناسبة للترجمة)؛ فبعيد، كما لا يخفى.
وقال ابن حجر: (واستدل الشافعي بهذا الحديث على ردِّ من قال من أصحاب الرأي: إنَّ الوضوء مقدر بقدر معين من الماء؛ لأنَّ الصحابة اغترفوا من القدح من غير تقدير؛ لأنَّ الماء النابع لم يكن قدره معلومًا لهم، فدل على عدم التقدير) انتهى.
قلت: وهو استدلال فاسد؛ لأنَّ الماء الذي يتوضأ معيَّنٌ بنص الشارع ومقدَّر، وكذا الغسل، وقوله: (لأن الصحابة ... ) إلخ؛ فيه نظر؛ لأنَّه هل يظهر فرق بين الاغتراف من هذا القدح ومن غيره من الحياض والبرك؟ وقوله: (لأن النابع ... ) إلخ؛ أي: لأجل إظهار المعجزة، ولا يدل هذا على عدم التقدير بدليل أنَّهم لما فرغوا من الوضوء؛ لم يبق في القدح إلا الماء الذي كان قبل وضع أصابعه عليه السلام، فالتقدير في الماءللوضوء والغسل مقدَّر معيَّن بنصِّ الشارع، ولهذا المعنى عقَّب المؤلف هذا الحديث بقوله:
==========
%ص 175%
==================
(1/352)
(47) [باب الوضوء بالمُد]
هذا (باب: الوضوء بالمُدِّ)؛ بضم الميم وتشديد الدَّال، واختلفوا فيه؛ فقال الإمام الأعظم:
%ص 175%
(هو مكيال يسع رطلان بغداديان)، وبه قال فقهاء العراق؛ لما رواه جابر قال: (كان عليه السلام يتوضأ بالمُد رطلين، ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال)، أخرجه ابن عدي، وما رواه أنس قال: (كان عليه السلام يتوضأ بمد رطلين، ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال)، أخرجه الدارقطني، وقال الإمام أبو يوسف والإمام محمد والشافعي وأهل الحجاز: (المد: رطل وثلث بالعراقي)، وقال الإمام أبو يوسف: (الصاع: خمسة أرطال)؛ لما رواه الحافظ الطحاوي عنه، قال: (قدمت المدينة وأخرج إلي من أثق به صاعًا، وقال: هذا صاع النبي عليه السلام، فوجدته خمسة أرطال وثلث)، قال الطحاوي: (وسمعت ابن عمران يقول: الذي أخرجه لأبي يوسف هو مالك)، وقال عثمان بن سعيد الدارمي: (سمعت علي ابن المديني يقول: عثرت على صاع النبي عليه السلام، فوجدته خمسة أرطال وثلث رطل)، وحجة الإمام الأعظم والإمام محمد حديث جابر وأنس رضي الله عنهما.
واختلف هل يُجزِئ الوضوء بأقل من المد، والغسل بأقل من الصاع؟ فقال قوم: لا يُجزِئ أقل منه؛ لورود الخبر به، وقال آخرون: ليس المد والصاع في ذلك بحتم، وإنَّما ذلك إخبار عن القدر الذي كان يكفيه عليه السلام لا أنَّه حد لا يجزئ دونه، وإنَّما قصد به التنبيه على فضيلة الاقتصاد وترك السرف، والمستحب لمن يقدر على الإسباغ بالقليل أن يقلل ولا يزيد على ذلك؛ لأنَّ السرف ممنوع في الشريعة.
==================
(1/353)
[حديث: كان النبي يغسل بالصاع إلى خمسة أمداد]
201# وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النُّون مصغرًا، هو الفضل بن دكين (قال: حدثنا مِسْعَر)؛ بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح العين المهملة، ابن كِدَام _بكسر الكاف وبالدَّال المهملة المخففة_ أبو سلمة الكوفي، ثبت صدوق، قال شعبة: كنا نسمي مسعرًا المصحف؛ لصدقه، المتوفى سنة خمس أو ثلاث وخمسين ومئة (قال: حدثني) بالإفراد (بن جَبْر)؛ بفتح الجيم وسكون الموحدة، والمراد به: سبط جبر؛ لأنَّه عبد الله بن عبد الله بن جبر بن عتيك الأنصاري، ونسبه لجده؛ لشهرته به، قال في «عمدة القاري»: (ومن قاله بالتصغير؛ فقد صحَّف؛ لأنَّ ابن جبير، وهو سعيد لا رواية له عن أنس في هذا الكتاب، وقد روى هذا الحديث الإسماعيلي من طريق أبي نعيم شيخ المؤلف قال: حدثني شيخ من الأنصار يقال له: ابن جبر، ويقال له: جابر بن عتيك) انتهى (قال: سمعت أنسًا)؛ بالتنوين؛ لأنَّه منصرف مفعولًا، قال الكرماني: (وفي رواية: «أنس» بدون الألف منه في الكتابة؛ للتخفيف)، واعترضه في «عمدة القاري»: (بأنه لا بد من التنوين، وإن كان الألف لا تكتب)؛ فافهم. (يقول)؛ أي: أنس بن مالك رضي الله عنه، والجملة محلها النصب على الحال، (كان النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)، وأتى بـ (كان)؛ لإفادتها الدوام والاستمرار، (يغسِل)؛ بكسر السين المهملة؛ أي: جسده الشريف، فمفعول (يغسل) محذوف، (أو كان يغتسل)؛ بزيادة التاء كـ (يفتعل)، والفرق بين الغسل والاغتسال مثل الفرق بين الكسب والاكتساب، كذا في «عمدة القاري» (بالصاع) مكيال يسع ثمانية أرطال بالبغدادي عند العراقيين، وخمسة أرطال وثلث رطل عند الحجازيين، والشك من الراوي، قال الكرماني: (إنَّه من ابن جبر)، وقال ابن حجر: (إنَّه من المؤلف أو من أبي نعيم)، واعترضهما في «عمدة القاري»: (بأنَّ الظاهر أنَّ الشك من الناسخ؛ لأنَّ الإسماعيلي لم يَرْوِهِ بالشك، فَنِسْبَتُهُ إلى المؤلف أو إلى شيخه أو إلى ابن جبر ترجيح بلا مرجح، فلمَ لا يُنسَبُ إلى مِسْعَر؟) انتهى.
وقال الجوهري: (الصاع: هو الذي يكال به، وهو أربعة أمداد إلى خمسة أمداد)، وقال ابن سيده: (الصاع: مكيال لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد، يذكر ويؤنث، وجمعه أصوع، وأصواع، وصيعان، والصواع: كالصاع)، وقال ابن الأثير: (الصاع: مكيال يسع أربعة أمداد، والمد مختلف فيه)، وفي «الجامع»: (تصغيره: صُويع فيمن ذكَّر، وصويعة فيمن أنَّث، وجمع التذكير: أصواع وأصوع، وصوع في التذكير، وأصوع في التأنيث)، وفي «الجمهرة»: (أصوع في أدنى العدد)، وقال ابن بري: (الصواب في جمع صاع: أصوع)، قلت: وأصل الصاع: صوع، قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وفيه ثلاث لغات: صاع، وصوع على الأصل، وصواع، والجمع: أصوع، وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزة، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(إلى خمسة أمداد)؛ يعني: ربما زاد النبي الأعظم عليه السلام الغسل على صاع، فاغتسل بخمسة أمداد، والمد: رطلان، والرطل: مئة وثلاثون درهمًا، وقيل: مئة وثمانية وعشرين درهمًا وأربعة أسباع درهم، وتمامه في «الحلية»، قال شيخ شيخنا: والصاع العراقي: نحو نصف مد دمشقي، وأفاد الحديث: أنَّ التقدير غير لازم حتى من أسبغ بدون ذلك؛ أجزأه، وإن لم يكفه؛ زاد عليه؛ لأنَّ طباع الناس وأحوالهم تختلف، كذا في «البدائع».
(و) كان النبي الأعظم عليه السلام (يتوضأ بالمد) الذي هو ربع الصاع، وعلى هذا؛ فالسنة ألا يَنْقُصَ ماء الوضوء عن مد، والغسل عن صاع، فإذا توضأ واغتسل به؛ فقد حصَّل السنة، وهو الأفضل، بل يغسل بقدر ما لا يؤدي إلى الوسواس، فإن أدى إليه؛ لا يستعمل إلا بقدر الحاجة رغمًا للشيطان، قال في «الخلاصة»: (والتقدير في الوضوء بالمد إذا كان لا يحتاج إلى الاستنجاء، فإن احتاج إليه؛ لا يكفيه، بل يستنجي برطل، أو يتوضأ بالمد، فإن كان لابس الخفين؛ يتوضأ برطل، والحاصل: أنَّ الرطل للاستنجاء، والرطل للقدمين، والرطل لسائر الأعضاء) انتهى.
واعلم أن الوضوء على أربعة أوجه: إمَّا ألَّا يستنجي ويمسح على الخفين، أو يستنجي ويمسح على الخفين، أو لا يستنجي ويغسل الرجلين، أو يستنجي ويغسل الرجلين، أمَّا الأول؛ فيكفيه رطل، وأمَّا الثاني؛ فاثنان؛ واحد للاستنجاء وآخر للوضوء، وأمَّا الثالث؛ فكذلك واحد للرجلين وواحد للبقية، وأدنى ما يكفي من الماء في الغسل في الغالب صاع، وفي الوضوء ربعه؛ وهو المد، وللاستنجاء ثمنه؛ وهو الرطل، وإن أراد أن يمسح على خفيه؛ كفاه في الوضوء رطل، كذا في «منهل الطلاب».
وزعم ابن حجر: (أنَّ أنسًا رضي الله عنه لم يَطَّلِعْ على أنه عليه السلام لم يستعمل في الغسل أكثر من ذلك؛ لأنَّه جعلها النهاية، وسيأتي حديث عائشة: «أنَّها كانت تغتسل هي والنبي عليه السلام من إناء واحد وهو الفَرَق»، وروى مسلم من حديث عائشة أيضًا: «أنه عليه السلام كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد»)، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: أنس رضي الله عنه لم يجعل ما ذكره نهاية لا يتجاوز عنها ولا ينقص عنها، وإنما حكى ما شاهده، والحال يختلف بقدر اختلاف الحاجة، وحديث الفَرَق لا يدل على أن عائشة والنبي عليه السلام كانا [1] يغتسلان بجميع ما في الفَرَق، وغاية ما في الباب أنَّه يدل على أنَّهما كانا يغتسلان من إناء واحد يسمى فَرَقًا، وكونهما يغتسلان منه لا يستلزم استعمال جميع ما فيه من الماء، وكذلك الكلام في ثلاثة أمداد).
وزعم أيضًا ابن حجر: (أنَّ فيه ردًّا على من قدَّر الوضوء والغسل بما ذكر في الحديث كابن شعبان من المالكية ومن قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع)، ورده أيضًا في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: لا ردَّ فيه على من قال به من الأئمة الحنفية؛ لأنَّه لم يقل بذلك على طريق الوجوبكما قال ابن شعبان بطريق الوجوب، فإنه قال: «لا يجزئ أقل من ذلك»، وأمَّا من قال به من الأئمة الحنفية؛ فهو الإمام محمد بن الحسن، فإنَّه روي عنه أنه قال: «إن المغتسِل لا يمكن أن يعمَّ جسده بأقل من مد، وهذا يختلف باختلاف الأجساد والأشخاص»، ولهذا جعل ابن عبد السلام للمتوضئ والمغتسل ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يكون معتدل الخلق كاعتدال خلقه عليه السلام، فيَقْتَدِي به في اجتناب النقص عن المد والصاع، والثانية: أن يكون ضئيلًا ونحيف الخلق بحيث لا يعادل جسده جسده عليه السلام، فيُسْتَحَبُّ أن يغتسل من الماء ما يكون نسبته إلى جسده
%ص 176%
كنسبة المد والصاع إلى جسده عليه السلام، والثالث: أن يكون متفاحش الخلق طولًا وعرضًا، وعظم البطن، وثخانة الأعضاء، فيستحب ألَّا ينقص عن مقدار يكون النسبة إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى النبي عليه السلام).
ثم قال: (واعلم أن الروايات مختلفة في هذا الباب، ففي رواية أبي داود من حديث عائشة: «أنه عليه السلام كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد»، ومن حديث جابر كذلك، ومن حديث أم عمارة: «أنَّه عليه السلام توضأ، فأتي بإناء فيه ماء قدر ثلثي المد»، وفي رواية عن أنس: «أنه عليه السلام كان يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع»، وفي رواية ابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما»، والحاكم في «مستدركه» من حديث عبد الله بن زيد: «أنَّه عليه السلام أتي بثلثي مد من ماء، فتوضأ، فجعل يدلك ذراعيه»، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، وقال الثوري: «حديث أم عمارة حسن»، وفي رواية مسلم من حديث عائشة: «كانت تغتسل هي والنبي عليه السلام من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد»، وفي رواية: «من إناء واحد تختلف أيدينا فيه»، وفي رواية: «فدعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت فيه»، وفي أخرى: «كانت تغتسل بخمسة مكاكيك وتتوضأ [2] بمكوك»، وفي أخرى: «يغسله عليه السلام الصاع ويوضئه المد»، وفي أخرى: «يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد»، وفي رواية المؤلف: «نحوًا من صاع»، وفي لفظ: «من قدح يقال له: الفَرَق»، وعند النسائي: «نحو ثمانية أرطال»، وفي «مسند أحمد بن منبع»: «حزرته ثمانية أو تسعة أو عشر أرطال»، وعند ابن ماجه بسند ضعيف، عن عقيل، عن أبيه قال عليه السلام: «يجزئ من الوضوء مد ومن الغسل صاع»، وكذا رواه الطبراني في «الأوسط» من حديث ابن عباس، وعند أبي نعيم في «المعرفة» من حديث أم سعيد بنت زيد بن ثابت ترفعه: «الوضوء مد والغسل صاع») انتهى.
قلت: وليس معنى الحديث على التوقيت: أنَّه لا يجوز أكثر منه ولا أقل منه، بل هو تقدير أدنى الكفاية عادة، وليس بلازم حتى من أسبغ بدون ذلك؛ أجزأه، وإن لم يكفه؛ زاد عليه؛ لأنَّ طباع الناس وأحوالهم تختلف، كما في [ما] قدمناه عن «البدائع».
والجمع بين هذه الروايات: أنَّها كانت اغتسالات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله وأقله، فدل ذلك على أنَّه لا حدَّ في قدر ماء الطهارة يجب استيفاؤه، والإجماع قائم على ذلك، فالقلة والكثرة باعتبار الأشخاص والأحوال؛ فليحفظ.
وقال في «عمدة القاري»: (والفَرَق: بفتح الفاء وفتح الرَّاء، وقال أبو زيد: «بفتح الرَّاء وسكونها»، وزعم النووي أن الفتح أفصح، وزعم الباجي أنَّه الصواب، وليس كما قال، بل هما لغتان، وقال ابن الأثير: «الفرق _بالتحريك_ يسع ستة عشر رطلًا، وهي ثلاثة أصوع، وقيل: الفرق: خمسة [أقساط]، وكل قسط نصف صاع، وأما الفرْق _بالسكون_ فمئة وعشرون رطلًا»، وقال أبو داود: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: «الفرق: ستة عشر رطلًا، والمكوك: إناء يسع المد المعروف عندهم»، وقال ابن الأثير: «المكوك: المد، وقيل: الصاع»، والأول أشبه؛ لأنَّه جاء في الحديث مفسرًا بالمد، وقال أيضًا: «المكوك: اسم للمكيال، ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد، ويجمع على مكاكي؛ بإبدال الياء من الكاف الأخيرة، ويجيء أيضًا على مكاكيك»)، انتهى، والله تعالى أعلم.
اللهم إنِّي أسألك بالنبي الأعظم عليه السلام وبآله وأصحابه رضي الله عنهم أن تفرِّج عنا وعن المسلمين، وأن تكشف عنَّا وعنهم الهموم والأحزان، وتبدلها أمنًا وسرورًا برحمتك يا أرحم الراحمين؛ لأنَّ في يوم الاثنين العاشر صفر سنة سبع وسبعين سكَّروا أبواب البلد، ووضعوا العساكر في الأسواق والطرقات، ومسكوا النظام، ففرَّ من فرَّ، وقرَّ من قرَّ، وضجَّ من ضجَّ، وهجَّ من هجَّ، وعزم من عزم، ودعا من دعا، وكبَّر من كبَّر، وأغلق من أغلق، وبات الناس في كرب عظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إنَّه على ما يشاء قدير، وأستغفر الله العظيم.
==========
[1] في الأصل: (كان).
[2] في الأصل: (يتوضأ).
==================
[1] في الأصل: (كان).
[1] في الأصل: (كان).
(1/354)
(48) [باب المسح على الخفين]
هذا (باب) جواز (المسح على الخفين) في الوضوء بدلًا عن غسل الرجلين، وإنَّما عبَّر بـ (الخفين)؛ إشارةً إلى أنه لو لبس خفًّا واحدة؛ لا يجوز عليها المسح، لكن إذا كانت إحدى رجليه مقطوعة مما فوق الكعب؛ فإنه يجوز كما أفصح به في «الينابيع» وغيره، وإنما قال: (على الخفين)؛ إشارةً إلى أنَّ المسح لا يكون إلا على ظاهرهما، وإنَّما سمِّي الخف خفًّا؛ لأنَّه من الخفة؛ لأنَّ الحكم خفَّ به من الغسل إلى المسح، كما في «البحر» و «السراج»، قلت: وفيه أنَّه يقتضي حصول التسمية حين المشروعية مع أن اللغة سابقة على ورود الشرع، وقد قال العلامة خير الدين الرملي الحنفي: المسح على الخفين من خصائص هذه الأمة، فكيف يعلل للوضع السابق عليه؟ وقد يجاب: بأنَّ الواضع هو الله تعالى، كما هو قول الأشعري، وهو تعالى عالم بما يشرعه على لسان نبيه الأعظم عليه السلام؛ فليحفظ.
وهو في اللغة: إمرار اليد على الشيء، واصطلاحًا: عبارة عن رخصة مقدرة جُعِلَتْ للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها، كذا في «البحر»، واعترضه في «النهر» وقال: (الأولى أن يقال: هو إصابة اليد المبتلة الخف أو ما يقوم مقامها في الوضع المخصوص في المدة الشرعية) انتهى، وهو شامل لما لو كان المسح باليد أو الخرقة ونحوهما كالمطر.
وإنَّما قلنا بالجواز؛ للإشارة إلى أنَّ المسح غير واجب؛ لأنَّ العبد مخيَّر بين فعله وتركه، كذا قالوا، وينبغي أن يكون المسح واجبًا في مواضع؛ منها: إذا كان معه ماء لو غسل به رجليه؛ لا يكفي وضوءَه، ولو مسح على الخفين؛ يكفيه، فإنَّه يتعين عليه المسح، ومنها: ما لو خاف خروج الوقت لو غسل رجليه؛ فإنه يمسح، وتمامه في «منهل الطلاب».
==================
(1/355)
[حديث سعد في مسح النبي على الخفين]
202# وبه قال: (حدثنا أَصْبَغ)؛ بفتح الهمزة، وسكون الصَّاد المهملة، وفتح الموحدة، آخره معجمة، أبو عبد الله (بن الفَرَج)؛ بفتح الفاء والرَّاء آخره جيم، الفقيه القرشي المصري، المصطعلك بالفقه والنظر، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين (عن ابن وَهب)؛ بفتح الواو: هو عبد الله القرشي المصري، ولم يكن في المصريِّين أكثر حديثًا منه، طُلِبَ للقضاء؛ فجنن نفسه، وانقطع، وكان أصبغ ورَّاقًا له (قال: حدثني)، وفي رواية: (أخبرني)؛ بالإفراد فيهما (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة؛ أي: ابن الحارث، كما في روايةٍ، أبو أمية المؤدب الأنصاري المصري القارئ الفقيه، المتوفى بمصر سنة ثمان وأربعين ومئة (قال: حدثني) بالإفراد (أبو النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون المعجمة، سالم بن أبي أمية القرشي المديني، مولى عمر بن عبد الله التيمي وكاتبه، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئة، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام؛ أي: عبد الله (بن عبد الرحمن)؛ أي: ابن عوف القرشي الفقيهالمدني، (عن عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما، (عن سعْد) بسكون العين المهملة (بن أبي وقَّاص)؛ بتشديد القاف وبالصَّاد المهملة، أحد العشرة رضي الله عنه.
قال في «عمدة القاري»: وهذا من مسند سعد بحسب الظاهر، وكذا جعله صاحب «الأطراف»، ويحتمل أن يكون من مسند عمر أيضًا، وقال الدارقطني: (رواه أبو أيوب الأفريقي، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، عن عمر وسعد عن النبي عليه السلام)، ثم قال الدارقطني: (والصواب: قول عمرو بن الحارث، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، عن سعد (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أنَّه مسح على الخفين)؛ بشروط؛ منها: لبسهما بعد غسل الرجلين، ومنها: سترهما للكعبين، ومنها: إمكان متابعة المشي فيهما، ومنها: خلوُّ كل منهما عن خرق قدر ثلاث أصابع، ومنها: استمساكهما على الرجلين من غير شدٍّ، ومنها: منعهما وصول الماء إلى الجسد، ومنها: أن يبقى من مُقدَّم القدم قدر ثلاث أصابع، كما هو مبسوط في كتب الفروع، ففيه دليل على ثبوته بالسنة، وقيل: إنَّه ثبت بالكتاب؛ عملًا بقراءة الجر، فإنها لمَّا عارضت قراءة النصب؛ حُمِلَتْ على ما إذا كان متخففًا، وحُمِلَتْ قراءة النصب على ما إذا لم يكن متخففًا، واختاره في «غاية البيان»، وقال الجمهور: إنَّه لم يثبت بالكتاب بدليل قوله: {إِلَى الكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]؛ لأنَّ المسح غير مُقَدَّرٍ بها بالإجماع، والصحيح أنَّه ثابت بالسنة، كما في «البحر» عن «المستصفى»، واختاره الجمهور، وحملوا قراءة الجر عطفًا على المغسول، والجر؛ للجوار، وقد جاءت السنة بجوازه قولًا وفعلًا، فمُنْكِرُهُ مبتدع، وقال صاحب «البدائع»: (المسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة إلا شيئًا روي عن ابن عباس: «أنه لا يجوز»، وهو قول الرافضة والخوارج)، ثم قال: (وروي عن الحسن البصري أنَّه قال: «أدركت سبعين صحابيًّا كلهم يرى المسح على الخفين»، وقال الإمام الأعظم: «ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل فلق الصبح»، وروي: «مثل ضوء النهار»، فكان الجحود ردًّا على كبار الصحابة رضي الله عنهم، ونسبته إياهم إلى الخطأ، فكان [1] بدعة)، وقال شيخ الإسلام: (والدليل على أنَّ
%ص 177%
مُنْكِرَ المسح ضالٌّ مبتدع ما روي عن الإمام الأعظم: أنَّه سُئِلَ عن مذهب أهل السنة والجماعة، فقال: هو أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وترى المسح على الخفين)، وقال الإمام الكرخي: قال الإمام الأعظم: أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين؛ لأنَّ الآثار التي جاءت فيه في حيِّز التواتر، وقال الإمام أبو يوسف: خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به؛ لشهرته، وعلى قياس قوله؛ يكفر جاحده؛ لأنَّ المشهور عنده بمنزلة المتواتر، وعلى قول الإمام الأعظم؛ لا يكفر؛ لأنَّه بمنزلة الآحاد عنده.
وقال البيهقي: (وإنَّما جاء كراهة ذلك عن علي، وابن عباس، وعائشة، فأمَّا الرواية عن علي؛ فلم يرد عنه بإسناد موصول يثبت مثله، وأما عائشة؛ فثبت عنها أنَّها أحالت ذلك على علي رضي الله عنهما، وأمَّا ابن عباس؛ فإنَّما كرهه حين لم يثبت مسحه عليه السلام بعد نزول «المائدة»، فلما ثبت؛ رجع إليه)، وقال في «الموضوعات»: (إنكار عائشة غير ثابت عنها)، وقال الكاساني: وأمَّا الرواية عن ابن عباس؛ فلم تصح؛ لأنَّ مداره على عكرمة، وروي أنَّه لما بلغ عطاء؛ قال: كذب عكرمة، وروي عن عطاء أنَّه قال: (كان ابن عباس يخالف الناس في المسح على الخفين، فلم يمت حتى تابعهم).
وفي «المغني» لابن قدامة: قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء أفضل؛ يعني: من الغَسْل؛ لأنَّه عليه السلام وأصحابه إنَّما طلبوا الفضل، وقد تكاثرت الروايات بالطرق المتعددة من الصحابة الذين كانوا لا يفارقون النبي الأعظم عليه السلام في الحضر ولا في السفر، فجرى ذلك مجرى التواتر، وحديث المغيرة كان في غزوة تبوك، فسقط بهذا قول من يقول: آية الوضوء مدنية، والمسح منسوخ بها؛ لأنَّه متقدم؛ لأنَّ غزوة تبوك آخر غزواته عليه السلام، و «المائدة» نزلت قبلها، وممَّا يدل على أنَّ المسح غير منسوخ حديث جرير: (أنَّه رأى النبي الأعظم عليه السلام مسح على الخفين، وهو أسلم بعد «المائدة»، وكان القوم يعجبهم ذلك)، وأيضًا فإن حديث المغيرة في المسح كان في السفر، فيعجبهم استعمال جرير له في الحضر، وقال النووي: (لما كان إسلام جرير متأخرًا؛ علمنا أن حديثه يُعْمَلُ به، وهو مبين أن المراد بآية «المائدة» غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة للآية)، وقال الخطابي: (فيه دليل: على أنَّهم كانوا يرون نسخ القرآن بالسنة)، وفي «الهداية»: (الأخبار فيه مستفيضة حتى أنَّ من لم يره؛ كان مبتدعًا، لكن من رآه، ثم لم يمسح أخذًا بالعزيمة؛ كان مأجورًا)، وفي «جامع الفتاوى»: المسح على الخفين أفضل من الغسل؛ أخذًا بالأيسر، وقيل: الغسل أفضل؛ أخذًا بالعزيمة والمشقة، وفي «المجتبى» عن الإمام الترجماني: أنَّ المسح أفضل من الغسل؛ أخذًا بالأيسر، وما ذكره في «الهداية» من أنَّ الغسل أفضل صرَّح به شيخ الإسلام في «المبسوط» لكن بشرط أن يرى جوازه، قال في «التوشيح»: وهذا مذهبنا، وهو الصحيح، كما في «الأجناس»، حتى أنَّ الباني إذا نزع خفيه وغسل رجليه قبل تمام مدة المسح؛ يمضي عند الإمام محمد، وهو رواية عن الإمام الأعظم، ولو لم يكن الغسل أفضل؛ لبطل البناء، انتهى.
وقال الشيخ أبو الحسن الرستغفني: (إنَّ المسح أفضل، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وهو قول الشعبي، وحماد، والحاكم، والشافعي، وإسحاق، إمَّا لنفي التهمة عن نفسه؛ لأنَّ الروافض والخوارج لا يرونه، وإمَّا للعمل بقراءة النصب والجر) انتهى.
فعلى هذا ينبغي أن يقال: إنَّ من يعتقد جوازه وليس بحضرة من يتهمه؛ فالغسل أفضل، وإن كان بحضرة من لم يره؛ فالمسح أفضل رغمًا له، كذا في «منهل الطلاب»، واختلفت الرواية عن مالك؛ فروي عنه: (أنه لا يجوز المسح أصلًا)، كما هو قول الروافض والخوارج، وفي رواية: (أنه يجوز لكنه مكروه)، والمشهور: أنه يجوز أبدًا غير مؤقت، وفي رواية: (أنه يجوز بتوقيت)، وفي رواية: (يجوز للمسافر دون المقيم)، وفي رواية: بالعكس، وقال ابن المنذر: الغسل والمسح سواء، وهو رواية عن أحمد، وقال أصحاب الشافعي: الغسل أفضل من المسح بشرط ألَّا يُترَك المسح رغبة عن السنة، ولا شك في جوازه، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا من الفقهاء روي عنه إنكار المسح إلا مالكًا، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك، واعترضه في «عمدة القاري»: بأن فيه نظر؛ لما في «مصنف ابن أبي شيبة»: من أنَّ مجاهدًاوسعيد بن جبير وعكرمة كرهوه، وكذا حكى أبو الحسن النسابة عن محمد بن علي بن الحسن، وأبي إسحاق السبيعي، وقيس بن الربيع، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن أبي داود، والخوارج، والروافض، وقال الميموني عن أحمد: فيه سبعة وثلاثون صحابيًّا، وفي رواية الحسن بن محمد عنه: أربعون، وكذا قاله البزار في «مسنده»، وقال ابن أبي حاتم: أحد وأربعون صحابيًّا، وفي «الأشراف»: عن الحسن حدثني به سبعون صحابيًّا، وقال أبو عمر [2] بن عبد البر: مسح على الخفين سائر أهل بدر والحديبية، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين، وقد أشرنا إلى رواية [3] ستة وخمسين من الصحابة في شرحنا لـ «معاني الآثار» للحافظ الطحاوي، فمن أراد الوقوف عليه؛ فليرجع إليه، قاله في «عمدة القاري».
(وأنَّ عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما، قال في «عمدة القاري»: (عطف على قوله: «عن عبد الله»، فيكون موصولًا إن حُمِلَ على أن أبا سلمة سمع ذلك من عبد الله، وإلا؛ فأبو سلمة لم يُدْرِكِ القصة) انتهى، لكن قول الكرماني: (هذا إمَّا تعليق من المؤلف، وإمَّا كلام أبي سلمة، والظاهر: الثاني)، يؤيد سماع أبي سلمة من عبد الله، ومثله ما أخرجه أحمد من طريق أخرى: عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن ابن عمر قال: رأيت سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه بالعراق حين توضأ، فأنكرت ذلك عليه، فلما اجتمعنا عند عمر؛ قال لي سعد: سل أباك ... ؛ وذكر القصة، ورواه ابن [4] خزيمة من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر نحوه، وفيه: أنَّ عمر قال: كنا ونحن مع نبينا عليه السلام نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسًا، وقوله: (سأل)؛ أي: عبد الله (عمر)؛ أي: والده (بن الخطاب) كما ثبت للأصيلي (عن ذلك)؛ أي: عن مسح النبي الأعظم عليه السلام على الخفين، خبر (أنَّ)، (فقال)؛ أي: عمر عطف على (سأل): (نعم)؛ أي: مسح النبي الأعظم عليه السلام على الخفين.
وقوله: (إذا حدثك شيئًا): نكرة عامة؛ لأنَّ الواقع في سياق الشرط كالواقع في سياق النفي يفيد العموم، كما في «عمدة القاري» (سعْد)؛ بسكون العين؛ أي: ابن أبي وقاص، وهو بالرفع فاعل (حدثك) (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم فلا تسأل): وفي رواية: (فلا تسل) (عنه)؛ أي: عن ذلك الشيء الذي حدثه سعد (غيره)؛ أي: غير سعد؛ لقوة وثوقه بنقله، من كلام عمر مستأنف استئنافًا بيانيًّا.
ففيه: تعظيم سعد رضي الله عنه.
وفيه: دليل على وجوب العمل بخبر الواحد وإن كان ظنيًّا، وأنَّ عمر يكتفي بخبره، وما نُقِلَ عنه من توقفه في خبر الواحد؛ فذاك عند وقوع ريبة في خبره، مع أنه قد يصير الخبر محفوفًا بالقرائن، فيفيد اليقين؛ لقيام تعدد القرائن مقام تعدد الأشخاص، وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال بأن يقال: لم نهاه عن السؤال عن غيره؟ أو هو كناية عن تصديقه؛ لأنَّ المصدق لا يسأل غيره، وإنما أنكر ابن عمر ذلك مع قدم صحبته؛ لخفائه عليه، أو لأنَّه أنكر عليه مسحه في الحضر، كما هو ظاهر رواية مالك في «الموطأ»: أن ابن عمر قدم الكوفة على سعد وهو أميرها، فرآه يمسح على الخفين، فأنكر عليه، فقال له سعد: سل أباك؛ فذكر القصة، وأمَّا في السفر؛ فكان ابن عمر يعلمه ويرويه عن النبي الأعظم عليه السلام، كما رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه الكبير»، وابن أبي شيبة في «مصنفه» من رواية سالم عنه قال: رأيت النبي الأعظم عليه السلام يمسح على الخفين بالماء في السفر، أفاده في «عمدة القاري».
(وقال موسى بن عُقْبة)؛ بضم العين المهملة وسكون القاف: التابعي صاحب «المغازي»، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة، وهذا التعليق إمَّا من المؤلف؛ فيكون عطفًا على (حدثنا أصبغ)، وإمَّا من كلام ابن وهب؛ فيكون عطفًا على (حدثني عمرو)، قاله الكرماني.
%ص 178%
قلت: وجزم بالأول صاحب «عمدة القاري»، ويؤيِّده ما في بعض النسخ من قوله: (قال: أبو عبد الله)، وقد وصله الإسماعيلي، والنسائي، وغيرهما بهذا الإسناد؛ فليحفظ.
(أخبرني) بالإفراد (أبو النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون المعجمة، سالم: (أن أبا سلَمة)؛ بفتح اللام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف (أخبره: أن سعْدًا)؛ بسكون العين المهملة؛ أي: ابن أبي وقاص رضي الله عنه، وجملة: (حدثه)؛ أي: حدث أبا سلمة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين)؛ خبر (أن)، وقد سقطت من نسخة صاحب «عمدة القاري»، فلذا قال: (خبر «أن» محذوف؛ تقديره: أن سعدًا حدث أبا سلمة أن رسول الله عليه السلام مسح على الخفين)، ومثله قال الكرماني، ووقع في نسخة ابن حجر حذف ما بعد (حدثه)، فلذا قال: (والمُحَدَّثُ به محذوف تبيَّن من الرواية الموصولة أن لفظ: «أن رسول الله عليه السلام مسح على الخفين»؛ فاعرفه)، وقد جرى عليه القسطلاني.
(فقال عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنه، عطف على (حدثه) الموجود أو المقدر على اختلاف النسخ (لعبد الله)؛ أي: ولده (نحوَه)؛ بالنصب مقول القول؛ أي: نحو ما تقدم في الرواية السابقة من قوله: (إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا تسأل عنه غيره)، فقول عمر في هذه الرواية المعلقة بمعنى الموصولة السابقة لا بلفظها، ورواه الإسماعيلي بلفظ: (وقال عمر لابنه وكان يلومه: إذا حدث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا تبغ وراء حديثه شيئًا)، وقال الإسماعيلي: (ورواية عروة وأبي سلمة عن ابن عمر في المسح صحيح)، قال: (وسألت البخاري عن حديث ابن عمر في المسح مرفوعًا، فلم يعرفه)، وتمامه في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (لكان)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (رواة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/356)
[حديث المغيرة في المسح على الخفين]
203# وبه قال: (حدثنا عَمرو) بفتح العين المهملة (بن خالد): بن فَرُّوخ؛ بفتح الفاء، وضم الراء المشددة، آخره خاء معجمة: أبو الحسن (الحَرَّاني)؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد الرَّاء، وبعد الألف نون، نسبة إلى حران، قال الكرماني: (موضع بالجزيرة بين العراق والشام)، ورده في «عمدة القاري»: (بأنه ليس كما قال، بل هي مدينة قديمة بين دجلة والفرات، كانت تعدل ديار مصر، واليوم خراب، وقيل: هي مولد إبراهيم عليه السلام، ويوسف وإخوته عليهم السلام، وقال ابن الكلبي: (لما خرج نوح عليه السلام من السفينة؛ بناها، وقيل: إنَّما بناها هاران خال يعقوب عليه السلام، فأبدلت العرب الهاء حاء، فقالوا: حران) انتهى وفي ديارنا الشريفة الشامية قرية بأرض المرج تسمى حران، وبها قبر سيدنا حيا الحراني، وفي مسجده بئر عظيم ماؤه يشابه ماء زمزم في حلاوته وعذوبته، وبالقرية أعمدة سود كبار، ليس عليها بناء، وتنسب القرية إليها، فيقال: حران العواميد، والله تعالى أعلم، (قال: حدثنا الليث)؛ بالمثلثة؛ أي: ابن سعْد؛ بسكون العين المهملة، من أتباع الإمام الأعظم رضي الله عنه، (عن يحيى بن سعِيْد)؛ بكسر العين بعدها تحتية ساكنة، الأنصاري، (عن سعْد) بسكون العين (بن إبراهيم)؛ أي: ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، (عن نافع بن جُبير)؛ بضم الجيم مصغرًا؛ أي: ابن مطعم، (عن عُروة) بضم العين (بن المُغيرة)؛ بضم الميم؛ أي: ابن شعبة رضي الله عنه، (عن أبيه المغيرة بن شُعْبة)؛ بضم الشين المعجمة وسكون العين، الصحابي الجليل رضي الله عنهما، (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج لحاجته)؛ أي: لقضائها، وذلك في غزوة تبوك _بلا تردد_ عند صلاة الفجر، كما في «الموطأ»، و «مسند أحمد»، و «سنن أبي داود» من طريق عباد بن زياد، عن عروة بن المغيرة، لكن في (المغازي): «أنه كان في غزوة تبوك» على تردُّد من بعض رواته، أفاده في «عمدة القاري»، (فاتَّبعه المغيرة) من الاتِّباع _بتشديد الفوقية_ من باب (الافتعال)، وفي رواية: (فأتبعه) من الإتباع _بتخفيف المثناة الفوقية_ من باب (الإفعال) (بإداوة)؛ بكسر الهمزة، وقد تفتح؛ أي: بمطهرة (فيها ماء) للوضوء، وعند المؤلف من طريق مسروق عن المغيرة في (الجهاد) وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره أن يتبعه بالإداوة)، وزاد: (حتى توارى عني فقضى حاجته ثم أقبل فتوضأ)، وعند أحمد من طريق أخرى عن المغيرة: أن الماء الذي توضأ به أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة كانت جلد ميتة، وأن النبي عليه السلام قال: «سلها إن كانت دبغتها؛ فهو طهور»، وأنها قالت: والله دبغتها، كذا في «عمدة القاري».
(فصبَّ)؛ بالصَّاد المهملة؛ أي: المغيرة (عليه) عليه السلام (حين فرغ)؛ أي: وقت فراغه (من حاجته)، لكن بعد عوده منها، فكأنه عليه السلام قد استنجى بالأحجار، (فتوضأ)، فغسل وجهه ويديه، كما في رواية باب (الرجل يوضئ صاحبه)، وزاد في (الجهاد) المؤلف: (وعليه جُبَّةُ شامية)، وفي رواية «أبي داود»: (من صوف من جباب الروم)، وللمؤلف في (الجهاد) أيضًا: (أنه تمضمض واستنشق وغسل وجهه _زاد أحمد في «مسنده»: ثلاث مرات_، فذهب يخرج يديه من كميه، فكانا ضيقين، فأخرجهما من تحت الجبة)، ولمسلم من وجه آخر: (وألقى الجبة على منكبيه)، ولأحمد: (فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات)، وفي رواية أخرى للمؤلف: (ومسح برأسه)، وفي رواية مسلم: (ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين)، وبما تقدر ظهر أن المراد بقوله: (فتوضأ)؛ أي: بالكيفية المذكورة لا أنه غسل رجليه ومسح خفيه، كما توهمه الكرماني، فاخترع [1] سؤالًا وجوابًا، وذهل عن هذه الروايات، كما نبه عليه في «عمدة القاري».
(ومسح على الخفين)؛ أي: بدلًا عن غسل الرجلين؛ للإجماع على عدم وجوب الجمع بين الغسل والمسح، بل على عدم جوازه، ويفهم من قوله: (على الخفين) عدم جواز المسح على أسفلهما، وعقبهما، وساقهما، وجوانبها، وهو كذلك عن الجمهور؛ لحديث علي رضي الله عنه: (لو كان الدين بالرأي؛ لكان أسفل الخف أولى بالمسح عليه من ظاهره، وقد رأيت رسول الله عليه السلام يمسح على الخفين على ظاهرهما)، رواه أبو داود، وأحمد، والترمذي وقال: (حديث حسن صحيح).
والسنة عند الشافعي ومالك: مسح أعلى الخف وأسفله؛ لما روي: (أنه عليه السلام مسح أعلى الخف وأسفله)، وقد ضعَّفه أهل الحديث، وقال الحفَّاظ: (إنه شاذ لا يُعْتَدُّ به، ولا يعارض الصحيح، وإن صحَّ؛ يُحْمَلُ على الاستحباب.
والسنة في مسحهما أن يضع أصابع يده اليمنى على مقدَّم خفِّه الأيمن، وأصابع يده اليسرى على مقدَّم خفِّه الأيسر من قبل الأصابع، فإذا تمكَّنت الأصابع؛ يمدَّها حتى ينتهي إلى أصل الساق فوق الكعبين؛ لأنَّ الكعبين يلحقهما فرض الغسل ويلحقهما سنة المسح، وإن وضع الكفين مع الأصابع؛ كان أحسن، هكذا روي عن الإمام محمد، كما في «البحر» عن «شرح الجامع» لقاضيخان.
قال في «منهل الطلاب»: والتيامن فيه مسنون؛ لأنَّه عليه السلام كان يحبُّ التيامن في شأنه كله حتى في تنعله وترجله، ولا يخفى أن مسح الخفين طهارة ووسيلة للعبادة، فيسَنُّ فيه التيامن؛ لأنَّه لا يكون أحط رتبة من التنعُّل والترجُّل، بل المسح أشرف منهما، ولا يستحبُّ استيعاب الخفين بالمسح على المعتمد، كما في عامَّة المعتبرات، وقال بعض المشايخ: يستحب الجمع بين الظاهر والباطن، وهو ضعيف، وإن مشى عليه في «الدر» تبعًا «للنهر»، كما أوضحه في «منهل الطلاب»، ولا يسنُّ تكراره كمسح الرأس، كما في «البحر»، و «النهر»، و «الخلاصة»، لكن يسن إظهار الخطوط، كما في «البحر» وغيره.
وفي الحديث: جواز الاستعانة بغيره.
وفيه: جواز الانتفاع بجلود الميتات إذا كانت مدبوغات.
وفيه: جواز الانتفاع بثياب الكفار حتى تتحقق نجاستها؛ لأنَّه عليه السلام لبس الجبة الرومية، واستدل به القرطبي على أن الصوف لا يتنجَّس بالموت؛ لأنَّ الجبة كانت شامية، وكان الشام إذ ذاك دار كفر، ومأكول أهلها الميتات.
وفيه: الردُّ على من زعم أن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء التي في (المائدة)؛ لأنَّها نزلت في غزوة المريسع، وكانت هذه القضية في غزوة تبوك، وهي بعدها بلا خلاف.
وفيه: التشمير في السفر، ولبس الثياب الضيِّقة فيه؛ لكونها أعون على ذلك.
وفيه: قبول خبر الواحد في الأحكام ولو كانت امرأة سوداء كان ذلك فيما تعم به البلوى أم لا؛ لأنَّه عليه السلام قبل خبر الأعرابية.
وفيه: استحباب التواري عن أعين الناس عند قضاء الحاجة والإبعاد عنهم.
وفيه: جواز خدمة السادات بغير إذنهم.
وفيه: استحباب الدوام على الطهارة؛ لأنَّه عليه السلام أمر المغيرة أن يتَّبعه بالماء؛ لأجل الوضوء.
وفيه: أن الاقتصار على غسل معظم المفروض غسله لا يجوز؛ لإخراجه عليه السلام يده من تحت الجبة ولم يَكْتَفِ بما بقي، كذا قرَّره في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (فاخترق)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 179%
==================
(1/357)
[حديث عمرو بن أمية: أنه رأى النبي يمسح على الخفين]
204# وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النُّون: الفضل بن دكين (قال: حدثنا شَيبان)؛ بفتح المعجمة: ابن عبد الرحمن النحوي، (عن يحيى)؛ أي: ابن أبي كثير؛ بالمثلثة، التابعي الصغير، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن جعفر بن عَمرو) بفتح العين المهملة (بن أمية الضَّمري)؛ بالضَّاد المعجمة المفتوحة: أخو عبد الملك بن مروان من الرضاعة، من التابعين، المتوفى سنة خمس وتسعين: (أن أباه)؛ أي: عمرو المذكور، شهد بدرًا وأحدًا مع المشركين، وأسلم حين انصراف المشركين عن أحد،
%ص 179%
وكان من رجال العرب نجدة وجرأة، بعثه النبي الأعظم عليه السلام إلى النجاشي بكتاب يدعوه إلى الإسلام، فأسلم على يديه، المتوفى بالمدينة سنة ستين (أخبره: أنه رأى النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين) في الوضوء، فلا يجوز المسح عليهما في الغسل للجنابة، والحيض، والنفاس، كما أوضحه في «منهل الطلاب» مع كلام فيه؛ فافهم.
وفرض المسح: مقدار ثلاثة أصابع طولًا وعرضًا، كما في «الدر» و «شرح المنية»؛ يعني: فرضه قدر طول الثلاث أصابع وعرضها، قال في «البحر»: (ولو مسح بثلاث أصابع منصوبة غير موضوعة ولا ممدودة؛ لا يجوز بلا خلاف بين أئمتنا)، كذا في «البدائع»، إلا إذا كان الماء متقاطرًا بحيث يبتل من الخف قدر الفرض؛ فيجوز، كذا في «المحيط» و «الذخيرة»، وأشار بذكر المقدار إلى أن الأصابع غير شرط، وإنما الشرط قدرها، كما في «الشرنبلالية»، لكن المسنون هو المسح بالأصابع، فإذا مسح بغيرها كخرقة، أو إصابة ماء، أو مطر قدر الفرض؛ أجزأه عن المسح، ولم يحصِّل السنة، كذا في «الإمداد»، وأفاد أن الفرض هو ذلك المقدار من كل رِجل على حدة حتى لو مسح على إحدى رجليه مقدار إصبعين، وعلى الأخرى مقدار خمسة أصابع؛ لم يجز، كما في «النهر».
ولا يفتقر مسح الخف إلى النية، كما في «فتح القدير»، فلو توضأ ومسح الخف ونوى به التعليم دون الطهارة؛ يصح، كذا في «الخلاصة»، وتمامه في «منهل الطلاب».
والمراد بالأصابع: أصابع اليد، كما قاله الإمام أبو بكر الرازي، كما في «الخلاصة» و «شرح المنية»، وفي «الاختيار»: (أنه قول الإمام محمد)، وقال الإمام الكرخي: (ثلاث أصابع من أصابع الرجل)، والأول: هو الأصح، كما في «النهر» عن «البدائع»، ومشى عليه في عامة المعتبرات، وقيدها الإمام قاضيخان بكونها من أصغر أصابع اليد، وتبعه في «الدر المختار»، و «إمداد الفتاح»، وقال الإمام زفر: لو مسح بإصبع أو إصبعين؛ يجوز، وهو إحدى الروايتين عن الإمام الأعظم، والأول الأصح، كما في «البحر»، وهو المختار، كما في «المجتبى».
(قال: أبو عبد الله) أي: المؤلف: (تابعه)، وفي رواية: (وتابعه)؛ بالواو؛ أي: تابع شيبانَ بن عبد الرحمن المذكور، (حربٌ)؛ أي: ابن شداد _بالحاء المهملة_، منقول عن ضد الصلح، و (حربٌ)؛ بالرفع فاعل (تابعه)، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى (شيبان)، وقد وصله النسائي، عن عباس العنبري، عن عبد الرحمن، عن حرب، عن يحيى، عن أبي سلمة، وتوفي حرب سنة إحدى وستين ومئة، وكان بصريًّا حافظًا ثقة، و (أَبَان) عطف على (حرب)، وهو أبان بن يزيد العطار البصري، المتوفى في حدود المئة والستين، وهو بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة، بالصرف وعدمه، فمن صرفه؛ جعل الهمزة أصلية والألف زائدة، فوزنه (فعال)، ومن منعه؛ عكس، فقال: الهمزة زائدة والألف بدل من الياء؛ لأنَّ أصله (بيَّن) ووزنه (أفعل)، وقد وصله الطبراني في «معجمه الكبير» عن محمد بن يحيى بن المنذر القزاز، عن موسى بن إسماعيل، عن أبان بن يزيد، (عن يحيى)؛ أي: ابن أبي كثير إلى آخر السند السابق.
==================
(1/358)
[حديث عمرو بن أمية: أنه رأى النبي يمسح على عمامته وخفيه]
205# وبالسند قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين المهملة وسكون الموحدة، لقب عبد الله بن عثمان العتكي الحافظ (قال: أخبرنا عبد الله)؛ أي: ابن المبارك المروزي (قال: أخبرنا الأوزاعي): عبد الرحمن الإمام، (عن يحيى)؛ أي: ابن أبي كثير، وعند أحمد: (عن أبي المغيرة عن الأوزاعي: حدثنا يحيى)، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام، ابن عبد الرحمن بن عوف، (عن جعْفر) بسكون العين (بن عَمرو) بفتح العين (بن أُمية)؛ بضم الهمزة، قال في «عمدة القاري»: (وأسقط بعض الرواة عن الأوزاعي جعفرًا من الإسناد، وهو خطأ، قاله أبو حاتم الرازي) انتهى (عن أبيه)؛ أي: عمرو بن أمية الصحابي السابق (قال: رأيت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يمسح على عِمامته)؛ بكسر العين؛ أي: بعد مسح الناصية أو بعضها، كما في رواية مسلم، أو على عمامته فقط مقتصرًا عليها؛ كما هو ظاهر الحديث، وهو مذهب أحمد ابن حنبل بشروط عنده ستأتي، وقال الأصيلي: (ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي؛ لأنَّ شيبان رواه عن يحيى ولم يذكرها، وتابعه حرب وأبان، والثلاثة خالفوا الأوزاعي، فوجب تغليب الجماعة على الواحد)، وأجاب في «عمدة القاري»: بأنه على تقدير تفرد الأوزاعي بذكر العمامة؛ لا يستلزم ذلك تخطئته؛ لأنَّه زيادة من ثقة غير منافية لرواية غيره فتُقْبَل، انتهى؛ فليحفظ، (و) كذا رأيته يمسح على (خفيه)؛ أي: في الوضوء، ويشترط عند أحمد للمسح على العمامة الاعتمام بعد كمال الطهارة، ومشقة نزعها بأن تكون محنكة كعمائم العرب، ولأنه عضو يسقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين، وفي «المغني» للحنابلة: من شرائط جواز المسح شيئان؛ أحدهما: أن تكون تحت الحنك سواء أرخى لها ذؤابة أو لا، وقيل: إنَّما يحرم المسح على العمامة التي ليس لها حنك؛ لأنَّه عليه السلام أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط، وهو ألَّا يكون تحت الحنك منها شيء، وروي عن عمر: (أنه رأى رجلًا ليس تحت حنكه من عمامته شيء فحنكه بكور منها، وقال: ما هذه الفاسقة؟)، والثاني: أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه كمقدم الرأس والأذنين، ويستحب أن يمسح على ما ظهر من الرأس مع المسح على العمامة، نصَّ عليه أحمد، انتهى، وهو قول قتادة، ومكحول، والأوزاعي، وأبو ثور.
وقال ابن المنذر: (وممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأنس، وأبو أمامة) انتهى، وقال الإمام الأعظم، وأصحابه، وعروة، والنخعي، والشعبي، وأبو القاسم، ومالك، والشافعي: لا يجوز المسح على العمامة؛ لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، ومن مسح على العمامة؛ لم يصدق عليه أنه مسح على رأسه، وأجمعوا على أنه لا يجوز مسح الوجه في التيمم على حائل دونه، فكذلك الرأس، وقال الخطابي: (فرض الله مسح الرأس، والحديث في مسح العمامة مُحْتَمِل للتأويل، فلا يُتْرَكُ المتيقن للمحتمل، وقياسه على مسح الخف بعيد؛ لأنَّه يشق نزعه بخلافها) انتهى.
وأيضًا مسح الخف الأخبار فيه مستفيضة، تجوز الزيادة بمثلها على الكتاب بخلاف مسح العمامة، فإنه قد أنكره بعض الصحابة، كذا في «البحر»، وقد أخرج الترمذي عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: سألت جابر بن عبد الله عن المسح على العمامة، فقال: أَمِسَّ الشعر، وقال الإمام محمد بن الحسن في «موطئه»: (أخبرنا مالك قال: بلغني عن جابر بن عبد الله أنه سئل عن المسح على العمامة، فقال: لا حتى تمس الشعر الماء)، قال الإمام محمد: (وبهذا نأخذ)، ثم قال: (أخبرنا مالك قال: حدثنا نافع قال: رأيت صفية بنت أبي عبيدة تتوضأ، وتنزع خمارها، ثم تمسح برأسها، قال نافع: وأنا يومئذ صغير)، قال الإمام محمد: (وبهذا نأخذ، وقد بلغنا أن المسح على العمامة كان، ثم تُرِك)، كذا في «غاية البيان».
وحديث الباب محمول على فرع ذكره في «السراج الوهاج»، وهو: (إذا كانت العمامة رقيقة تنفذ البلة منها وتصير إلى الرأس مقدار مسحه؛ فإنه يجوز) انتهى، ويدل لهذا أن في زمانهم العمامة كانت رقيقة تشفُّ الماء، ولم يكن في زمانهم الطربوش؛ فعمامتهم الشاش الرقيق فقط، لا سيما وبلادهم حارة لا يلبس فيها إلا الرقيق، وذكر في «البحر»: (أن المرأة إذا مسحت على خمارها ونفذت البلة إلى رأسها حتى ابتل قدر الربع منه؛ فيجوز) انتهى.
قلت: أو يُحْمَل حديث الباب على أن الراوي كان بعيدًا عن النبي الأعظم عليه السلام، فمسح عليه السلام على رأسه ولم يضع العمامة عن رأسه؛ فظن الراوي أنه عليه السلام مسح على العمامة، وأراد الراوي المجاز إطلاقًا لاسم الحال على المحل، فهذا الحديث متروك الظاهر، لاسيما وقد صرَّح مسلم بروايته: (أنه عليه السلام مسح على ناصيته ثم مسح على عمامته)، وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا قال: بالمسح على القلنسوة إلا أنسًا، فإنه مسح على قلنسوته.
ولا يجوز المسح على الوقاية قولًا واحدًا، ولا نعلم فيها خلافًا؛ لأنَّه [لا] يشقُّ نزعها، وفي جواز المسح للمرأة على الخمار عن أحمد روايتان؛ الجواز وعدمه، وبعدمه قال نافع، وحماد بن سليمان، والأوزاعي، وسعيد بن
%ص 180%
عبد العزيز، وتمامه في «عمدة القاري» و «منهل الطلاب».
(وتابعه)؛ بواو العطف الساقطة في رواية؛ أي: تابع الأوزاعيَّ على رواية هذا الحديث (مَعمَرٌ)؛ بفتح الميمين، ابن راشد، وهذه المتابعة ناقصة ذكرها على سبيل التعليق، و (معمرٌ)؛ بالرفع فاعل؛ لقوله: (تابعه)، والضمير المنصوب فيه للأوزاعي، (عن يحيى): هو ابن أبي كثير، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام: ابن عبد الرحمن بن عوف، (عن عمرو)؛ بالواو، لكن بإسقاط (جعفر) في هذه المتابعة الثابت في الرواية السابقة، وهذا هو السبب في سياق المؤلف الإسناد ثانيًا؛ ليبيِّن أنه ليس في رواية معمر ذكر (جعفر) بين (أبي سلمة) و (عمرو)؛ فليحفظ، (قال) أي: عمرو (رأيت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يمسح على عِمامته) بكسر العين (وخفَّيه)؛ أي: ورأيته يمسح على خفيه عليه السلام، وسقط المتن كله في رواية، وفي أخرى سقط قوله: (وخفيه) فقط، وقال في «عمدة القاري»: (وهذه المتابعة مرسلة، وليس فيها ذكر العمامة؛ لما روى عنه عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عمرو قال: رأيت النبي عليه السلام يمسح على خفيه، هكذا وقع في «مصنف» عبد الرزاق، ولم يذكر «العمامة»، وأبو سلمة لم يسمع من عمرو، وإنما سمع من أبيه جعفر، فلا حجة فيها).
قال الكرماني: (ووقع في كتاب «الطهارة» لابن منده من طريق معمر، وفيه ذكر «العمامة»)، قال ابن حجر: (سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سنة ستين، وأبو سلمة مدني، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو)، قال العجلوني: (يعني: فيحمل ما يرويه على السماع عند مسلم من عدم اشتراط اللقي بالفعل) انتهى.
وردَّ كلام ابن حجر في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: كونه مدنيًّا وسماعه من خلق ماتوا قبله؛ لا يستلزم سماعه من عمرو، وبالاحتمال لا يَثْبُتُ ذلك) انتهى.
قلت: وقول العجلوني: (يعني: فيحمل ... ) إلخ: لا حاجة لهذه العناية والحمل؛ لأنَّ الشرط عند المؤلف ومن وافقه: اشتراط اللقي بالفعل والسماع منه حقيقة، فكيف يصحُّ الحمل على ما شرطه مسلم؟ ولا ريب أن هذا قياس مع الفارق، والفرق ظاهر بين ما شرطه المؤلف وشرطه مسلم، والعجلوني مثله كمثل رجل ركب في سفينة في البحر، وأراد أن يتوضأ، فجاء إلى قارورة الماء، فرأى قربها قارورة خمر والإفرنج يشربون من الخمر، ثم يشربون من الماء، فقال بحمل الماء على الطهارة، وتوضَّأ منه، وصلى، فأين تصح هذه الصلاة مع تيقُّن نجاسة الماء؟! فافهم.
والحديث يفيد صحة المسح على العمامة بدلًا عن مسح الرأس، وهو متروك الظاهر؛ كما قدمنا، وأخذ بظاهره أحمد وقال: بالصحة، لكن بالشروط السابقة، ويشترط أيضًا ألا تكون عمامة محرَّمة، فلا يجوز المسح على عمامة مغصوبة، ولا يجوز للمرأة أن تمسح على عمامة إذا لبست عمامة رجل، والأظهر عنده: وجوب استيعابها والتوقيت كالخف، ويبطل المسح بالنزع والانكشاف إلا أن يكون يسيرًا؛ مثل أن يحك رأسه أو يرفعها لأجل الوضوء، وفي اشتراط لبسها على طهارة روايتان عنه، انتهى، وعندنا المسح على الخف المغصوب صحيح، كما في «الدر» وغيره، والله تعالى أعلم.
==================
(1/359)
(49) [باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان]
(باب) قال في «عمدة القاري»: (إذا قطع عمَّا بعده لا يكون معربًا؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا جزء المركَّب، وإذا أضيف إلى ما بعده بتأويل؛ يكون معربًا على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب) (إذا أدخل)؛ أي: الشخص المدخل المفهوم من الفعل (رجليه)؛ أي: في الخفين؛ أي: إدخال الرجل رجله في خفه، (وهما)؛ الواو للحال؛ أي: والحال أن رجليه (طاهرتان) عن الحدث والخبث، وجواب (إذا) محذوف؛ أي: جاز له المسح على الخفين، وقوله: (وهما طاهرتان) لفظ رواية أبي داود.
==========
%ص 181%
==================
(1/360)
[حديث: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين]
206# وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النُّون: الفضل بن دكين (قال: حدثنا زكريا)؛ ممدودًا ومقصورًا، هو ابن أبي زائدة الكوفي، (عن عامر): هو ابن شرحبيل، الشعبي التابعي، (عن عُروة) بضم العين (بن المُغيرة)؛ بضم الميم، (عن أبيه): هو المغيرة المذكور ابن شُعْبة الصحابي الجليل؛ بضم المعجمة وسكون المهملة (قال: كنت مع النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في سَفر)؛ بفتح المهملة؛ أي: في غزوة تبوك؛ كما ورد مبيَّنًا في رواية أخرى، وكانت في رجب سنة تسع، (فأهويت)؛ أي: مددت يدي، أو أشرت إليه، أو أومأت، قال الجوهري: (يقال: أهوى إليه بيده ليأخذه)، وقال الأصمعي: (أهويت بالشيء: إذا أومأت به)، وقال التيمي: أهويت؛ أي: قصدت، وقيل: أهويت؛ أي: قصدت الهوي من القيام إلى القعود، وقيل: الإهواء: الإمالة، كذا في «عمدة القاري»، وفيه حذف؛ تقديره: فتوضأ إلا رجليه، فأهويت ... إلخ، ويحتمل تقديره قبل قوله: فمسح عليهما؛ فتأمل، (لأنزِع)؛ بكسر الزاي، من باب (ضرب يضرِب).
فإن قلت: فيه حرف الحلق، وما فيه حرف الحلق يكون من باب (فعَل يفعَل)؛ بالفتح فيهما.
قلت: ليس الأمر كذلك، وإنما [إذا] وجد [1] (فعَل يفعَل) _بالفتح فيهما_؛ فالشرط فيه أن يكون فيه حرف من حروف الحلق، وأمَّا إذا كانت كلمة فيها حرف حلق معلَّق؛ لا يلزم أن يكون من باب (فعَل يفعَل)؛ بالفتح فيهما، كذا في «عمدة القاري».
(خفَّيه)؛ بالتثنية؛ أي: خُفَّي النبي الأعظم عليه السلام، ففيه: خدمة العالم، وللخادم أن يقصد إلى ما يعرف من حديثه دون أن يأمر بها، (فقال) عليه السلام له: (دعهما)؛ أي: دع الخفين؛ أي: اتركهما بدون نزع، فـ (دع) معناه: الترك؛ لأنَّه من الأفعال التي أماتوا ماضيها، (فإني أدخلتهما)؛ أي: الرجلين، وجاز تشتيت الضمير؛ لظهور المراد، ولو جعل ضمير (أدخلتهما) عائدًا إلى الخفين على أنه من باب القلب؛ لم يبق فيه تشتيت؛ فافهم، (طاهرتين)؛ أي: من الحدث، وهو منصوب على الحال، هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية: (وهما طاهرتان)، وهي جملة اسمية حالية، وفي رواية أبي داود: (فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان)، وللحميدي في «مسنده»: (قلت: يا رسول الله؛ أيمسح أحدنا على خفيه؟ قال: نعم؛ إذا أدخلهما وهما طاهرتان).
ففيه: أنَّ من لبس خفيه على غير طهارة؛ أنه لا يمسح عليهما بلا خلاف، كما في «عمدة القاري»، والمراد بالطهارة للرجلين: غسلهما، وإتمام الوضوء قبل الحدث، فلو غسل رجليه، ولبس الخفين، ثم أكمل بقية الوضوء، ثم أحدث؛ يجزئه المسح عليهما؛ لأنَّ الشرط: أن يصادف الحدث طهارة كاملة، وكذا لو تخفف المحدث، ثم خاض الماء، فابتلَّ قدماه، ثم تمَّم وضوءَه، ثم أحدث؛ جاز أن يمسح؛ لوجود الشرط، وهو كونهما ملبوسين على طهارة كاملة وقت الحدث، ومثله: ما لو غسل رجليه، ثم تخفَّف، ثم تمَّم الوضوء، أو غسل رجلًا، فخففَّها، ثم الأخرى كذلك، كما في «البحر»، بخلاف ما لو توضأ، ثم أحدث قبل دخول الرِّجل إلى قدم الخف؛ فإنه لا يمسح، وهذا ظاهر من قوله في الحديث: (وهما طاهرتان)؛ لأنَّ المراد من قوله: (طاهرتان) كونهما مغسولتين سواء كان قبل إكمال الوضوء أو في أثنائه، وبغسلهما لا ريب أنه ارتفع الحدث عنهما، فصدق عليهما أنهما طاهرتان، وليس المراد: إدخالهما طاهرتان بطهر الوضوء؛ لأنَّه لا يفهم من الحديث ذلك؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لقال: فإني أدخلتهما بعد تمام الوضوء، فلمَّا قال: (فإني أدخلتهما طاهرتين)؛ عُلِم منه أنه لا يشترط أن يكون لبسهما على طهارة بعد تمام الوضوء، بل يجوز المسح سواء غسلهما قبل تمام الوضوء أو بعده؛ فليحفظ.
وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: معنى قوله: «أدخلتهما طاهرتين» يجوز أن يقال: إذا غسلهما وإن لم تكمل الطهارة، كما يقال: صلى ركعتين قبل أن يتمَّ صلاته، وهذا هو المتبادر من اللفظ، ويحتمل أن يريد: طاهرتان من جنابة أو خبث، ولو قلت: دخلنا البلد ونحن ركبان؛ يشترط أن يكون كل واحد راكبًا عند دخوله، ولا يشترط اقترانهم في الدخول، فكون كل واحدة من الرجلين عند إدخالهما الخف طاهرة؛ إذ لم يدخلهما الخفين وهما معًا طاهرتان؛ لأنَّ إدخالهما معًا غير متصوَّر عادة، وإنما أراد إدخال كل واحدة الخف وهي طاهرة بعد الأخرى، وقد وُجِد، ومع هذا فإن المسألة مبنية على أن الترتيب شرط عند الشافعي، وليس بشرط عندنا، وهو المتبادر من لفظ الحديث؛ كما لا يخفى؛ فافهم.
(فمسح)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (عليهما)؛ أي: على الخفين، وفيه إضمار؛ تقديره: فأحدث، فمسح عليهما؛ لأنَّ وقت جواز المسح بعد الحدث والوضوء، ولا يجوز قبله؛ لأنَّه على طهارة.
وليس في هذا الحديث توقيت مدة المسح، وهو المرجح عند مالك من أقوال تقدم بيانها، والمشهور وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: أنه للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها؛ لما رواه ابن خزيمة من حديث صفوان بن عسال [2]: (أمرنا
%ص 181%
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثًا إذا سافرنا، ويومًا وليلة إذا أقمنا)، ولما في «مسلم» من حديث علي رضي الله عنه قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهنَّ للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم)، ورواه ابن حبان، وهذا حجة على مالك في عدم توقيته بمدَّة.
وابتداء المدة للمقيم والمسافر عقيب الحدث الذي يحصل بعد لبس الخفين على طهر عند عامَّة علمائنا، وهو الصحيح؛ لأنَّ الخف عهد مانعًا سراية الحدث، فيعتبر ابتداء المدة من وقت المنع؛ لأنَّ ما قبله ليس طهارة مسح، بل طهارة غسل، فلا تعتبر، وقال الإمام المرغيناني في «الهداية»: (المسح جائز من كل حدث موجب للوضوء إذا لبسهما على طهارة كاملة، ثم أحدث)، ثم قال: (وقوله: «إذا لبسهما على طهارة كاملة»: لا يفيد اشتراط الكمال وقت اللبس، بل وقت الحدث، وهو المذهب عندنا حتى لو غسل رجليه ولبس خفيه، ثم أكمل الطهارة، ثم أحدث؛ يجزئه المسح، وهذا لأنَّ الخف مانع حلول الحدث بالقدم، فيراعى كمال الطهارة وقت المنع وهو وقت الحدث حتى لو كانت ناقصة عند ذلك؛ كان الخف رافعًا).
قال ابن حجر بعد ذكر كلام «الهداية»: (والحديث حجة عليه؛ لأنَّه جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطًا لجواز المسح، والمعلَّق بشرط لا يصحُّ إلا بوجود ذلك الشرط).
وردَّه في «عمدة القاري»: بأن الحديث المذكور ليس بحجة على صاحب «الهداية»، أمَّا أولًا؛ فإن اشتراط اللبس على طهارة كاملة لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في أنه هل يشترط الكمال عند اللبس أو عند الحدث؟ فعندنا: عند الحدث، وعند الشافعي: عند اللبس، وتظهر ثمرة الخلاف: فيما إذا غسل رجليه أولًا، ولبس خفيه، ثم أتمَّ الوضوء قبل أن يُحدِث؛ جاز له المسح عندنا خلافًا له، وكذا لو توضأ، فرتَّب، لكن غسل إحدى رجليه، ولبس الخف، ثم غسل الأخرى، ولبس الخف الآخر؛ يجوز له المسح عندنا، وهو قول الثوري، ومطرف من أصحاب مالك، والمزني صاحب الشافعي، وابن المنذر وغيرهم، خلافًا للشافعي، وذلك لصدق أنه أدخل كلًّا من رجليه الخفين، وهي طاهرة.
وقوله: (المعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط) سلَّمناه، ولكن لا نسلم أنه عليه السلام شرط كمال الطهارة وقت اللبس؛ لأنَّه لا يفهم ذلك من نصِّ الحديث، غاية ما في الحديث: أنه أخبر أنه لبسهما وقدماه كانتا طاهرتين، فأخذنا من هذا اشتراط الطهارة؛ لأجل جواز المسح سواء كانت حاصلة وقت اللبس أو وقت الحدث، وتقييده بوقت اللبس أمر زائد لا يُفْهَمُ من العبارة، فإذا تقرر هذا؛ لم يكن الحديث حجة على صاحب «الهداية»، بل حجة له؛ حيث اشترط الطهارة لأجل جواز المسح، وحجة على الشافعي؛ حيث يأخذ منه ما ليس يدل على مدعاه، على أنه قدمنا عن الحافظ الطحاوي أن قوله: (أدخلتهما طاهرتين): يحتمل أن يقال: إنَّه غسلهما وإن لم تكمل الطهارة، كما يقال: صلى ركعتين قبل أن يتم صلاته، ويحتمل أن يريد طاهرتان من جنابة أو خبث.
ولو قلت: دخلنا البلد ونحن ركبان؛ يشترط أن يكون كل واحد راكبًا عند دخول البلد، ولا يشترط اقترانهم في الدخول، وإدخالهما معًا غير متصوَّر عادة، وإنما المتبادر إدخال كل واحدة الخف وهي طاهرة بعد الأخرى، وقد وُجِد.
وقال ابن حجر أيضًا: (وحديث صفوان السابق أقوى حجة للشافعي).
قال في «عمدة القاري»: (إن كان مراده من قوله: «أقوى حجة» كون مدة المسح للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يومًا وليلة؛ فمسلَّم؛ لأنَّه قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، ونحن نقول به، وإن كان مراده اشتراط الطهارة وقت اللبس؛ فغير مسلَّم؛ ذلك لأنَّه لا يفهم ذلك من نص الحديث على ما ذكرناه الآن).
ثم قال ابن حجر: (وحديث صفوان وإن كان صحيحًا لكنه ليس على شرط المؤلف، لكن حديث الباب موافق له في الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس).
ورده في «عمدة القاري»؛ حيث قال: (قلت: بعد أن صح حديث صفوان عند جماعة من المحدثين لا يلزم أن يكون على شرط المؤلف، وقوله: «موافق له في الدلالة ... » إلخ: غير مسلَّم؛ لأنَّه لا يدل على كون الطهارة عند اللبس، نعم؛ هو موافق له في مطلق اشتراط الطهارة لا غير، فإن ادعى هذا القائل أنَّه يدل على كونها عند اللبس؛ فعليه البيان بأي نوع من أنواع الدلالة) انتهى.
وزاد في الطنبور نغمة العجلونيُّ على ابن حجر وقال: (والظاهر من الأحاديث: الطهارة الكاملة عند اللبس، ويكفي الظهور في ثبوت الحكم لا سيما رواية: «وهما طاهرتان»؛ لدلالة الجملة الاسمية على الاستمرار) انتهى.
قلت: وهو مردود؛ فأي دليل دلَّه على أن (الظاهر من الأحاديث: الطهارة الكاملة عند اللبس)، وما ذاك إلا دعوى بدون دليل، بل الظاهر المتبادر من الأحاديث: اشتراط الطهارة وقت الحدث، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
وقوله: (ويكفي الظهور في ثبوت الحكم): مردود؛ لأنَّه لم يَظْهَر شيء مما قاله حتى يَثْبُتَ الحكم، وهذا الظهور أوهى من بيت العنكبوت.
وقوله: (لا سيما رواية: «وهما طاهرتان»)؛ يعني: أنه قد ترقَّى في الدليل، ولم يدر أنَّه قد تكلَّم بكلام لا يقبله الطبع السليم، ولا يقوله إلا صاحب الطبع والفهم السقيم، وغاية ما يدل قوله: (وهما طاهرتان) إخبارٌ منه أنه لبسهما على طهارة فقط، وكونه عند اللبس أمر زائد على المفهوم المتبادر من الأحاديث، كما لا يخفى.
وقوله: (لدلالة الجملة الاسمية على الاستمرار)؛ معناه: الاستمرار على الطهارة، فليس فيه دلالة على ما قاله الشافعية، بل الأحاديث التي في هذا الباب ظاهرها والمتبادر منها ما يدل على ما قاله الأئمة الحنفية، ومن تتبع ما قلناه؛ ظهر له الحق اليقين، وخسر هنالك المبطلون؛ فافهم.
وفي الحديث: إمكان الفهم عن الإشارة، وردُّ الجواب بالعلم على ما يفهم من الإشارة؛ لأنَّ المغيرة أهوى لينزع الخفين، ففهم منه عليه السلام ما أراد، [فأجاب] بأن يجزئه المسح، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (وجب)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (غسان)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (وجب)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (وجب)، وهو تحريف.
(1/361)
(50) [باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق]
هذا (باب: مَن لم يتوضأ مِن) أكل (لحم الشاة) قيَّد به؛ ليندرج ماهو مثلها وما دونها في حكمها، ولعله يشير إلى استثناء لحوم الإبل؛ لأنَّ من خصَّه من العموم كأحمد؛ علَّله بشدَّة زخومته؛ فتأملن (و) من أكل (السويق)؛ بالسين، والصَّاد فيه لغة؛ لمكان المضارعة، والجمع: أسوقة، وسمي بذلك؛ لانسياقه في الحلق، والقطعة من السويق: سويقة، قال أبو حاتم: إذا أرادوا أن يعملوا الفريصة وهي ضرب من السويق؛ ضربوا من الأرض ما يريدون حين يستنزل، ثم يسهمونه، وتسهيمه: أن يسخن على المقلى حتى ييبس، وإن شاؤوا جعلوا معه على المقلى الفرديج، وهو أطيب لطعمه، وعاب رجل السويق بحضرة أعرابي، فقال: لا تعبه، فإنه عدة للمسافر، وطعام العجلان، وغداء المبكر، وبلغة المريض، وهو يسرُّ فؤاد الحزين، ويبرِّد من نفس المحرور، وجيد في التسمين، ومنعوت في الطيب، وفقاره يحلق البلغم، وملتوته يصفِّي الدم، وإن شئت؛ كان شرابًا، وإن شئت؛ كان طعامًا، وإن شئت؛ كان ثريدًا، وإن شئت؛ كان خبيصًا، وأثريت السويق: صببت عليه ماء ثم لتيته، وفي «مجمع الغرائب»: (ثرى يثري ثرية، إذا بل التراب، وإنما بلَّ السويق؛ لما كان لحقه من اليبس والقدم، وهو شيء من الشعير أو القمح يدق، فيكون شبيه الدقيق، إذا احتيج إلى أكله؛ خلط بماء، أو لبن، أو رب، أو نحوه، وقال قوم هو: الكعك).
قال السفاقسي: (قال بعضهم: كان ملتوتًا بسمن)، وقال الداودي: (هو دقيق الشعير والسلت المقلو)، ويرد قول من قال: (إن السويق هو الكعك) قول الشاعر:
يا حَبَّذا الكَعْكُ بلحمٍ مَثْرُودْ ... وخُشْكَنَان مع سويق مقنود
كذا في «عمدة القاري»، وقال ابن التين: (ليس في حديثي الباب ذكر السويق)، وأجاب ابن حجر: بأنه دخل من باب أولى؛ لأنَّه إذا لم يتوضأ من اللحم مع دسومته؛ فمع السويق أولى، أو لعلَّه أشار بذلك إلى حديث الباب بعده.
وردَّه في «عمدة القاري»؛ حيث قال: (قلت: إن سلمنا ما قاله؛ فتخصيص السويق بالذكر لماذا؟! وقوله: «ولعلَّه ... » إلخ؛ أبعد في الجواب من
%ص 182%
الأول؛ لأنَّه عقد على السويق بابًا، فلا يُذْكَرُ إلا في بابه، وذكره إياه ههنا لا طائل تحته؛ لأنَّه لا يفيد شيئًا زائدًا) انتهى كلامه، وهو ظاهر، كما لا يخفى على أولي الألباب.
(وأكل أبو بكر): عبد الله بن عثمان الصديق الأكبر، (وعمر) الفاروق، (وعثمان) ذي النُّورين رضي الله تعالى عنهم (لحمًا؛ فلم يتوضؤوا)، وسقط في رواية أبي ذر لفظ: (لحمًا)، وإنما روى: (أكل أبو بكر، وعمر، وعثمان؛ فلم يتوضؤوا)، ووجد ذلك في رواية الكشميهني، والأولى أعم؛ لأنَّ فيه حذف المفعول، وهو يتناول أكل كل ما مسته النار لحمًا أو غيره، كذا وصل هذا التعليق الطبراني في «مسند الشاميين» بإسناد حسن من طريق سليم بن عامر قال: (رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضؤوا)، ورواه ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن علي بن يزيد، عن محمد بن المنكدر قال: (أكلت مع رسول الله عليه السلام ومع أبي بكر وعمر وعثمان خبزًا ولحمًا، فصلُّوا ولم يتوضؤوا)، ورواه الترمذي مطوَّلًا، وكذا ابن حبان، ورواه الحافظ الطحاوي عن جابر قال: (أكلنا مع أبي بكر رضي الله عنه خبزًا ولحمًا، ثم صلَّى فلم يتوضَّأ)، وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم نحوه، وقوله: (فلم يتوضؤوا): غرضه منه بيان الإجماع السكوتي، كذا في «عمدة القاري».
==================
(1/362)
[حديث: أن رسول الله أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ]
207# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التنيسي، (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن زيد بن أَسْلَم)؛ بفتح الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح اللام: العدوي مولى عمر المدني، (عن عطاء) بالمد (بن يسار)؛ بمثناة تحتية فمهملة مخففة، (عن عبد الله بن عباس)، وفي رواية: (عن ابن عباس) رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كَتِف) بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية (شاة)؛ أي: أكل لحم كتف شاة في بيت ضباعة بنت الحارث بن عبد المطلب، وهي بنت عم النبي الأعظم عليه السلام، وعند المؤلف في (الأطعمة): (تعرَّق)؛ أي: أكل ما على العَرْق _بفتح العين المهملة وسكون الرَّاء_ وهو العظم، ويقال له: العُراق _بالضم أيضًا_ وفي لفظ: (انتشل عرقًا من قدر)، وعند مسلم: (أنه أكل عرقًا أو لحمًا، ثم صلى، ولم يتوضأ، ولم يمس ماء)، ورواه أبو إسحاق السراج في «مسنده» بزيادة: (ولم يُمَضْمِضْ)، وفي «مسند أحمد»: (انتهش من كتف)، وعند المؤلف: (أكل من عظم أو تعرق من ضلع)، وعند ابن ماجه وأبي داود: (فرأيته يسيل على لحيته أمشاج من دم وماء، ثم قام إلى الصلاة).
(ثم صلى) عليه السلام صلاة الظهر، ثم أكل، وقام إلى صلاة العصر؛ كما سيأتي في قصة المرأة التي صنعت للنبي عليه السلام شاة، (ولم يتوضأ)، وعند مسلم زيادة: (ولم يمس ماء)، وزاد أبو إسحاق: (ولم يمضمض)، كما سبق قريبًا، وهذا مذهب الأستاذ المعظم الإمام الأعظم، والثوري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، والليث، وإسحاق، وأبي ثور رضي الله عنهم، وتبعهم أحمد ابن حنبل إلا أنَّه يرى الوضوء من لحم الجزور فقط، وقال ابن المنذر: (كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعامر بن ربيعة، وأبو أمامة، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء؛ لا يرون الوضوء مما مست النار).
وقال الحسن البصري والزهري وعمر بن عبد العزيز: (يجب الوضوء مما غيرت النار)، وهو قول زيد بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي موسى، وأبي هريرة، وأنس، وعائشة، وأم حبيبة، وأبي أيوب، واحتجُّوا بأحاديث؛ منها: حديث أبي طلحة صاحب النبي عليه السلام: (أنه أكل ثور أقط؛ فتوضأ منه)، قال عمرو: (الثور: القطعة)، رواه الحافظ الطحاوي بإسناد صحيح، والطبراني في «الكبير»، ومنها: حديث زيد بن ثابت عن النبي عليه السلام قال: «توضؤوا مما غيرت النار»، رواه الحافظ الطحاوي، والنسائي، والطبراني، ومنها: حديث أم حبيبة قالت: إن رسول الله عليه السلام قال: «توضؤا مما مست النار»، رواه الحافظ الطحاوي بإسناد صحيح، وأحمد في «مسنده»، وأبو داود، والنسائي، ومنها: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: «توضؤوا مما غيرت النار ولو من ثور أقط»، رواه الحافظ الطحاوي بإسناد صحيح، والترمذي، والسراج، ومنها: حديث سهل ابن الحنظلية قال: قال رسول الله: «من أكل لحمًا؛ فليتوضأ»، رواه الحافظ الطحاوي بإسناد حسن.
وأجيب: بأن هذه الأحاديث منسوخة بأحاديث كثيرة منها: حديث ابن عباس، وحديث عمرو بن أمية، وغيرهما، وبما روي عن جابر رضي الله عنه قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله عليه السلام هو ترك الوضوء مما مست النار)، أخرجه الحافظ الطحاوي، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في «صحيحه».
وروى مسلم من حديث جابر بن سمرة أن رجلًا سأل رسول لله عليه السلام: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت؛ فتوضأ، وإن شئت؛ فلا تتوضأ»، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم، توضأ من لحوم الإبل»، وبه استدل أحمد على وجوب الوضوء من لحم الجَزور، وأجيب عنه وعن ما سبق: أن المراد بالوضوء في الأحاديث: غسل اليدين لا الوضوء الشرعي.
فإن قلت: روي: (توضأ)، وروي: (لم يتوضأ).
قلت: هو دائر بين الأمرين، وحديث جابر بيَّن أن المراد الوضوء اللغوي الذي هو غسل اليد والمضمضة؛ لزيادة دسومة وزهومة لحم الإبل، وقد ورد النهي أن يبيت وفي يده أو فمه دسم؛ خوفًا من عقرب ونحوهما، وبأنه منسوخ بحديث جابر.
وضعَّف في «المجموع» الجوابين بأن الحمل على الوضوء الشرعي مقدم على اللغوي، وترك الوضوء مما مست النار عام، وخبر الوضوء من لحم الإبل خاص، والخاص مقدم على العامسواء كان قبله أو بعده.
وأجيب: بأن الحمل على الوضوء اللغوي صحيح؛ لأنَّه قد ورد الوضوء بمعناه اللغوي؛ كقوله عليه السلام: «الوضوء قبل الطعام بركة، وبعده ينفي اللمم»، وبأن المعنى اللغوي أعم من المعنى الشرعي، فهو مقدَّم على الشرعي؛ للقرينة الدَّالة على ذلك، وهي الأكل، والإجماع قائم على أنه يسن غسل اليدين قبل الطعام وبعده، وقد حكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها؛ نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين بعد النبي عليه السلام، فرجحنا به أحد الجانبين، وعدم لزوم الوضوء من ذلك، ولهذا صدَّر المؤلف حديث الباب بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة، وقد صحَّ أن النبي الأعظم عليه السلام قال: «إن يطع الناسَ أبا بكر وعمر يرشدوا»، وقال النووي: (واستقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار)، وسيأتي تمامه؛ فافهم.
==========
%ص 183%
==================
(1/363)
[حديث: رأى رسول الله يحتز من كتف شاة]
208# وبه قال: (حدثني) بالإفراد، وفي رواية: (حدثنا) (يحيى بن بُكير)؛ بضم الموحدة وبالتصغير، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو يحيى بن عبد الله بن بكير المصري (قال: حدثنا الليث)؛ بالمثلثة: ابن سعد المصري، (عن عُقيل)؛ بضم العين المهملة بالتصغير: هو ابن خالد الأيلي المصري، (عن ابن شهاب): محمد بن مسلم الزهري (قال: أخبرني) بالإفراد (جعفر بن عَمرو) بفتح العين (بن أمية: أنَّ أباه عَمرًا)؛ أي: ابن أمية المذكور (أخبره) وليس لعمرو بن أمية رواية في البخاري إلا هذا والذي مضى في المسح فقط، قاله في «عمدة القاري»: (أنَّه رأى)؛ أي: أبصر، فلا تقتضي إلا مفعولًا واحدًا (النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم يحْتزُّ)؛ بالحاء المهملة الساكنة، وبالزاي المشددة؛ أي: يقطع، يقال: احتزه؛ أي: قطعه، (من كتف شاة)؛ أي: من لحمه، زاد المؤلف في (الأطعمة): (يأكل منه)، وعنده في (الصلاة): (يأكل ذراعًا يحتز)، وفي أخرى: (يحتز من كتف يأكل منها)، قال ابن سيده: الكَتِف العَظْم بما فيه، وهي أُنْثى، والجمع: أكْتاف، يقال: كَتِف؛ بفتح الكاف، وكسر التاء، وكِتْف؛ بكسر الكاف وسكون التاء، وقيل: هو عظم عريض خلف المنكب، وهي تكون للناس وغيرهم، والكتف من الخيل والإبل والبغال والحمير وغيرها: ما فوق العضد، وقيل: الكتفان: أعلى اليدين، والجمع: أكتاف، قال سيبويه: لم يجاوزوا به هذا البناء، وحكى اللحياني في «جمعه»: كتفه، انتهى.
(فدُعي)؛ بضم الدَّال على البناء للمجهول (إلى الصلاة)؛ أي: صلاة العصر، وكان الداعي له إلى الصلاة بلال رضي الله عنه، كما في «النسائي» عن أم سلمة، (فألقى) أي: النبي الأعظم عليه السلام (السِّكِّين): زاد المؤلف في (الأطعمة)، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري: (وألقاها والسكين)، قال في «عمدة القاري»: (والسِّكِّين على وزن «فعيل»؛ كشِرِّيب، يذكر ويؤنث)، وحكى اللحياني: سكينة، ولعلَّه سمِّى به؛ لأنَّه يسكن حركة المذبوح، (فصلى): وفي رواية: (وصلى)؛ بالواو (ولم يتوضأ)، زاد البيهقي من طريق عبد الكريم بن الهيثم عن أبي اليمان في آخر هذا الحديث: (قال الزهري: فذهبت تلك؛ أي: القصة في الناس، ثم أخبر رجال من أصحابه عليه السلام ونساء من أزواجه عليه السلام: أنه عليه السلام قال: «توضؤوا مما مست النار»)، ثم قال: (فكان الزهري يرى أن الأمر بالوضوء مما مست النار ناسخ لأحاديث الإباحة؛ لأنَّ الإباحة سابقة، واعترض عليه بحديث جابر السابق قريبًا قال: كان آخر الأمرين من رسول الله عليه السلام ترك الوضوء مما مست النار، لكن قال أبو داود وغيره: إن المراد بالأمر هنا: الشأن والقصة، لا ما قابل النهي، وإن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي الأعظم عليه السلام شاة مسمومة، فأكل منها، ثم توضأ وصلى الظهر، ثم أكل منها وصلى العصر، ولم يتوضأ، فيحتمل أن تكون هذه القصة وقعت
%ص 183%
بعد الأمر بالوضوء مما مست النار، وهو الظاهر، وأن وضوءه لصلاة الظهر يحتمل أنه كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة، ويحتمل أنه من أكل الشاة؛ لكونها مسمومة، فوجد حرارة السم في جسده الشريف، فتوضأ لأجل إطفاء الحرارة لا بسبب الأكل من الشاة، قال الشيخ النووي: والخلاف فيه معروف بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار إلا ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل، وجمع الخطابي بوجه آخر؛ وهو أن الأمر بالوضوء منه الوارد في الأحاديث محمول على الاستحباب لا على الوجوب، وقال المهلب: كانوا في الجاهلية قد ألفوا قلة التنظيف، فأُمِروا بالوضوء مما مست النار، فلما تقررت النظافة في الإسلام وشاعت؛ نسخ لزوم الوضوء مما مست النار؛ تيسيرًا على المسلمين، وحديث مسلم عن جابر يفيد التخيير بين الوضوء وعدمه، فدلَّ على أنه غير واجب، وعلى كلٍّ أحاديث الإباحة أقوى من أحاديث المنع؛ فهي لا تقاوم أحاديث الإباحة.
قال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث دلالة على أنَّ أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء، وقد ذكرناه.
وفيه: جواز قطع اللحم بالسكين، فإن قلت: ورد النهي عن ذلك في «سنن أبي داود»؛ قلت: هو حديث ضعيف، فإذا ثبت؛ خُصَّ بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك؛ لما فيه من التشبيه بالأعاجم وأهل الرفاهية.
وفيه: قبول الشهادة على النفي إذا كان محصورًا مثل هذا؛ أعني قوله: «ولم يتوضأ») انتهى.
قلت: ولا بد للشهادة على النفي من جمع عظيم، ومقداره مفوض إلى رأي قاضي القضاة، وقيل: مقدر بثلاثين رجلًا، وقيل: بعشرين، وقيل: بعشرة، والأول المعتمد، وعليه الفتوى، والله تعالى الموفق للتقوى.
==================
(1/364)
(51) [باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ]
هذا (باب: من مضمض)؛ أي: تمضمض، أو المفعول محذوف، (من) أَكْلِ (السويق) بعد أكله (ولم يتوضأ): فاعله عائد إلى (من)، يجوز فيه وجهان: إثبات الهمزة ساكنة علامة للجزم، وحذفها تقول: لم يتوضَ، كما تقول: لم يخش؛ بحذف الألف، والأول هو الأشهر، كما في «عمدة القاري».
قال ابن حجر: يجوز في (لم يتوضأ) روايتان، ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا يقال في مثل هذا روايتان، بل يقال: وجهان، أو لغتان، أو طريقان، أو نحو ذلك؛ فافهم، والله أعلم
==========
%ص 184%
==================
(1/365)
[حديث سويد بن النعمان: أنه خرج مع رسول الله عام خيبر]
209# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين؛ أي: الأنصاري، (عن بُشَير) بضم الموحدة، وفتح المعجمة، والتصغير (بن يَسَار)؛ بفتح التحتية والمهملة: الخازن (مولى بني حارثة): كان شيخًا فقيهًا، أدرك عامَّة أصحاب النبي الأعظم عليه السلام: (أنَّ سُوَيْد) بضم المهملة، وفتح الواو [1] وسكون التحتية (بن النُّعمان)؛ بضم النُّون: الأنصاري الأوسي المدني، من أصحاب بيعة الرضوان (أخبره أنَّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خيبر)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: سنة غزوة رسول الله عليه السلام لها، وكانت سنة سبع، و (خيبر): بلدة معروفة، بينها وبين المدينة نحو أربع مراحل، وقال أبو عبيد: ثمانية برد، وسميت باسم رجل من العماليق نزلها، واسمه خيبر بن فانية بن مهلائيل، وكان عثمان رضي الله عنه مصَّرها، وهي غير منصرفة؛ للعلمية والتأنيث، فتحها رسول الله عليه السلام، واختلف في فتحها؛ قيل: فتحت عنوة، وقيل: صلحًا، وقيل: بعضها صلحًا وبعضها عنوة، وتمامه في «عمدة القاري»، (حتى إذا كانوا)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام وأصحابه الكرام، (بالصَّهْباء)؛ بفتح الصَّاد المهملة، وسكون الهاء والموحدة الممدودة (وهي)؛ أي: الصَّهباء (أدنى خيبر)؛ أي: أسفلها وطرفها من جهة المدينة، وعند المؤلف في (الأطعمة): (وهي على روحة من خيبر)، وهذه الزيادة مدرجة من قول يحيى بن سعيد، كما عند المؤلف في موضع آخر من (الأطعمة)، وقال البكري في «معجم البلدان»: (هي على بريد) انتهى (فصلى): الفاء فيه لمحض العطف وليست للجزاء؛ لأنَّ قوله: (إذا كانوا) ليست جزائية، بل هي ظرفية؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، (العصر)؛ أي: صلاة العصر، وفي رواية: (نزل فصلى العصر)، فظهر بروايتهما أن الفاء لعطف (فصلى) على (نزل) المقدر لا على (كانوا)، كما تقدم، أفاده في «عمدة القاري».
(ثم دَعا)؛ بفتح الدَّال؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (بالأزواد)؛ جمع زاد؛ بالزاي: وهو طعام يتخذه المسافر في سفره، (فلم يُؤت) بضم التحتية (إلا بالسويق): المعلوم مما سبق، (فأمر به) عليه السلام بالسويق أن يثرى؛ (فثُرِّي)؛ بضم المثلثة وتشديد الرَّاء المكسورة ويجوز تخفيفها على صيغة المجهول؛ أي: بُلَّ بالماء لما لحقه من اليبس، يقال: ثرَّيته تثرية؛ إذا رششته بالماء، (فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من السويق، (وأكلنا)؛ أي: منه، زاد المؤلف في رواية سليمان الآتية: (وشربنا)، وعنده في (الجهاد) من رواية عبد الوهاب: (فلكَّينا وأكلنا وشربنا)؛ أي: من الماء أو من مائع السويق، (ثم قام) عليه السلام (إلى) صلاة (المغرب)؛ أي: أراد أن يصلي صلاة المغرب، فطلب ماء، (فمضمض) فاه به قبل أن يشرع في الصلاة، (ومضمضنا) كذلك، (ثم صلى)؛ أي: صلاة المغرب، وصلينا خلفه (ولم يتوضأ)؛ أي: بسبب أكل السويق، ولم يأمرنا بالوضوء.
ففيه المطابقة لجزئي الترجمة، وفائدة المضمضة منه وإن كان لا دسم له: أنه لا بد أن تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشتغل بتتبعه باللسان عن الصلاة.
وفي الحديث: حمل الأزواد في الأسفار، وأن ذلك لا ينافي التوكل، قال المهلب: وفي الحديث: أن الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته؛ ليبيعوه لأهل الحاجة، وأن الإمام ينظر لأهل العسكر ليجمع الزاد؛ ليصيب منه من لا زاد معه.
وقال الخطابي: فيه دليل على أن الوضوء مما مست النار منسوخ؛ لأنَّه متقدم، وخيبر سنة سبع، واعترضه ابن حجر: بأنه لا دلالة فيه؛ لأنَّ أبا هريرة حضر بعد فتح خيبر وروى الأمر بالوضوء، كما في «مسلم»، وأنه كان يفتي به بعد النبي عليه السلام، ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا يستبعد ذلك؛ لأنَّ أبا هريرة ربما أنه يرويه عن صحابي كان أسلم قبله، فيسنده إلى النبي عليه السلام؛ لأنَّ الصحابة كلهم عدول، واعترض: بأنه لا يستقيم في الذي يقول فيه أبو هريرة: سمعته من النبي عليه السلام.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ربما أنه يكون قد سمعه قَبْلُ منه عليه السلام، وسمع صحابيُّ غيره النسخ، ولم يبلغ أبا هريرة، وإن ثبت عند غيره، ويقول: إنِّي سمعته من النبي عليه السلام، والحال أنه منسوخ ولم يبلغه النسخ؛ فليتأمل.
وفي الحديث: جواز أداء صلاتين فأكثر بوضوء واحد، قال ابن حجر: (وفيه: استحباب المضمضة بعد الطعام)، واعترضه في «عمدة القاري»: بأن المؤلف لم يضع هذا الباب لذلك هنا، وإن كان يفهم منه ذلك، انتهىوتمامه في «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي.
==========
[1] في الأصل: (الرَّاء)، ولعله تحريف عن المثبت.
%ص 184%
==================
(1/366)
[حديث ميمونة: أن النبي أكل عندها كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ]
210# وبه قال: (حدثنا): وفي رواية: (وحدثنا)؛ بالواو (أصبغ)؛ بالغين المعجمة: هو ابن الفرج (قال: أخبرنا ابن وهَب)؛ بفتح الهاء: هو عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة؛ أي: ابن الحارث، كما في رواية، (عن بُكير)؛ بضم الموحدة مصغرًا: وهو ابن عبد الله بن الأشج، (عن كُريب)؛ بضم الكاف مصغرًا أيضًا: هو ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم، المدني، أبي رشدين مولى ابن عباس رضي الله عنهما، (عن) أم المؤمنين (ميمونة) رضي الله عنها زوج النبي الأعظم عليه السلام، ممنوعة من الصرف؛ للعلمية والتأنيث: (أنَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أكل عندها)؛ أي: في البيت الذي خصها به (كَتِفًا)؛ بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية؛ أي: لحم كتف، (ثم) قام و (صلى): والظاهر أنها صلاة نافلة؛ لأنَّ الفريضة لا يصليها وحده عليه السلام، (ولم يتوضأ)؛ لأنَّه غير ناقض للوضوء، وهذا مذهب الأستاذ المعظم الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وقد انعقد الإجماع على ذلك، كما سبق.
وليس بين هذا الحديث وبين الترجمة مطابقة؛ لأنَّه لم يذكر فيه السويق، ولهذا قالوا: إن وضع الحديث هنا من قلم الناسخين، وإن نسخة الفربري التي بخطه تقديمه إلى الباب السابق، ولم يذكر المضمضة فيه المترجَم بها، فقيل: أشار بذلك إلى أنَّها غير واجبة؛ بدليل تركها في هذا الحديث مع أن المأكول دسم يحتاج إلى المضمضة منه، فتركها؛ لبيان الجواز، وبقية المباحث تقدمت في الباب قبله، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
%ص 184%
==================
(1/367)
(52) [باب: هل يمضمض من اللبن]
هذا (باب) بالتنوين: (هل يُمَضمِض)؛ بضم المثناة التحتية، وفتح الميم الأولى، وكسر الثانية وفتحها على
%ص 184%
صيغة المعلوم أو المجهول، وللأصيلي: (يتَمَضمَض)؛ بزيادة مثناة فوقية مفتوحة كالتحتية قبلها وفتح الميمين، (من اللبن) إذا شربه.
==================
(1/368)
[حديث: أن رسول الله شرب لبنًا فمضمض]
211# وبالسند قال: (حدثنا يحيى ابن بُكير)؛ بضم الموحدة مصغرًا، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو يحيى بن عبد الله بن بُكير المصري، (وقُتَيْبَة)؛ بضم القاف، وفتح المثناة الفوقية، وإسكان التحتية، وفتح الموحدة: هو ابن سعيد، أبو رجاء الثقفي (قالا: حدثنا الليث)؛ بالمثلثة: هو ابن سعد المصري، (عن عُقيل)؛ بضم العين المهملة مصغرًا: هو ابن خالد، (عن ابن شهاب): محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتْبَة)؛ بضم العين المهملة، وسكون الفوقية، وفتح الموحدة: ابن مسعود رضي الله عنه، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شرِب) بكسر الرَّاء (لبنًا): زاد مسلم: (ثم دعا بماء)، (فمضمض) فاه، (وقال) عليه السلام: (إنَّ له) أي: للبن (دَسَمًا)؛ بفتحتين منصوبًا، اسم (إن)؛ أي: زهومته، وهو ما يظهر على اللبن من الدهن، وقال الفاضل جار الله الزمخشري: (الدسم: من دَسَمَ المطرُ الأرضَ؛ إذا لم يبلغ أن يبل الثرى، وأمَّا الدُّسْم _بضم فسكون_: هو الشيء القليل)، وجملة المقول بيان لعلة المضمضة من اللبن، فيدل على استحبابها من كل شيء دسم، ويؤخذ منه استحباب غسل اليدين للتنظيف، وقال البغوي: (المضمضمة مستحبة عند أكل ما له دسومة، أو يبقى في الفم منه بقية تصل إلى باطنه في الصلاة) انتهى؛ أي: أو يعالج بلسانه في ذهابها من بين أسنانه؛ لأنَّه يخل بالخشوع، ويشغل البال، وربما تفسد صلاته من كثرة الحركات؛ فافهم.
(تابعه)؛ أي: تابع عقيلًا (يونسُ)؛ أي: ابن يزيد الأيلي، وحديثه موصول عند مسلم، (وصالح بن كَيسان)؛ بفتح الكاف، وحديثه موصول عند أبي العباس السراج في «مسنده»؛ كلاهما (عن الزهري): وتابعه الأوزاعي أيضًا، كما عند المؤلف في (الأطعمة)، لكن رواه ابن ماجه والطبراني بلفظ: (حدثنا الأوزاعي)، وإسنادهما حسن بلفظ: «مضمضوا من اللبن؛ فإن له دسمًا»؛ بصيغة الأمر، وهو محمول على الاستحباب؛ لما رواه أبو داود بسند حسن عن أنس: (أنَّ النبي عليه السلام شرب لبنًا، فلم يتمضمض ولم يتوضأ)، وروي عن ابن عباس راوي الحديث: (أنه شرب لبنًا فمضمض، ثم قال: لو لم أتمضمض ما باليت)، وقال ابن شاهين: حديث أنس ناسخ لحديث ابن عباس، ولم يذكر من قال فيه بالوجوب حتى يحتاج إلى دعوى النسخ، والظاهر أنه ليس بمنسوخ؛ لما رواه أحمد بن منيع في «مسنده»، بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه: أنه كان يُمَضْمِضُ من اللبن ثلاثًا، فلو كان منسوخًا؛ لما فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كذا في «عمدة القاري»، وتمامه فيه؛ فافهم.
==========
%ص 185%
==================
(1/369)
(53) [باب الوضوء من النوم]
هذا (باب) حكم (الوضوء من النوم): اللام فيه للجنس، فيشمل القليل والكثير؛ أي: هو واجب مستحب منه، (و) باب (من لم ير مِنَ الَّنعْسة)؛ بسكون العين المهملة؛ وهي فتور في الحواس، وتسمى: الوَسَن؛ بالتحريك، والمشهور التفرقة بين النوم والنعاس، وهو ظاهر كلام المؤلف، فإنَّ من سكنت حواسه بحيث يسمع كلام من حضر في مجلسه ولا يفهم معناه؛ فهو ناعس، وإن زاد على ذلك؛ فهو نائم، ومن علامات النوم الرؤيا، ومن علامات النعاس سماع كلام الحاضر عنده وإن لم يفهم، وفي «منهل الطلاب»: (النعاس: أول النوم، والوسن: ثقل النوم، والرقاد: النوم الطويل، وقيل: السِّنَة: ثِقَل في الرأس، والنعاس: ثِقَل في العين، والنوم في القلب) انتهى.
وزعم ابن حجر أن ظاهر كلام المؤلف: أن النعاس يسمى نومًا، ورده في «عمدة القاري»، فقال: (لا نسلم أن ظاهر كلام البخاري يدل على عدم التفرقة، فإنه عطف: «ومن لم ير ... » إلخ على «الوضوء من النوم») انتهى؛ أي: والعطف يقتضي المغايرة كما هنا، وذكره للتنبيه على أنه لا وضوء منه إذا كان خفيفًا، وكونه مغايرًا له هو المشهور، وعطفه على ما قبله ظاهر؛ فافهم.
وقد تكلَّم العجلوني على عبارة «عمدة القاري» بكلام لا طائل تحته حيث ثبت أن كلام صاحب «عمدة القاري» ما نقلناه، وهي النسخة الصحيحة، وكلامه في أول الباب يدل على هذا، فاخترع العجلوني نسخة محرَّفة، وتصدَّى إلى الردِّ، فركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء؛ فافهم.
(والنَّعستين)؛ تثنية نَعسة؛ بفتح النُّون؛ للمرَّة من النَّعْس؛ بفتح فسكون، وفعله: نعس، من باب (نصر)، ومن قال: نَعُس؛ بالضم؛ فقد أخطأ، كما نبَّه عليه في «عمدة القاري»، وفيه: (وبعض بني عامر يقول: ينعَس _بالفتح_ يقال: نعس ينعس نعسًا ونعاسًا؛ فهو ناعس ونعسان، وامرأة نعسى، وقال ابن السكيت وثعلب: لا يقال: نعسان) انتهى.
(أو الخفقة): للمرة، من خَفَق يَخْفِق خفقًا، من باب (ضرب)؛ إذا حرك رأسه وهو ناعس، وقال ابن الأثير: خفق؛ إذا نعس، وقال ابن التين: الخفقة: النعسة، وإنما كرر؛ لاختلاف اللفظ، قال ابن حجر: وهو من الخاص بعد العام، قال في «عمدة القاري»: (على قول ابن التين بين النعسة والخفقة مساواة، وعلى قول بعضهم عموم وخصوص؛ بمعنى: أن كل خفقة نعسة، وليس كل نعسة خفقة، ويدل عليه ما قاله أهل اللغة: خفق رأسه؛ إذا حركه، وهو ناعس)، وتمامه فيه، وفي «مسلم» من حديث أنس: (كان أصحاب رسول الله عليه السلام ينتظرون الصلاة، فينعسون حتى تخفق رؤوسهم، ثم يقومون إلى الصلاة)، ومعنى (تخفق رؤوسهم)؛ أي: تسقط أذقانهم على صدورهم.
وقوله: (وُضوءًا)؛ بضم الواو؛ بالنصب مفعول (ير) السابق، فلو زادت الخفقة على الواحدة، أو النعسة على الثنتين؛ يجب الوضوء؛ لأنَّه حينئذ يكون نائمًا مستغرقًا، أفاده في «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني.
قلت: وهو ظاهر تقييد المؤلف، ويدل له ما في «مسلم» في قصة صلاة ابن عباس مع النبي عليه السلام بالليل قال: (فجعلت إذا أغفيت؛ أخذ بشحمة أذني)، فدل على أن الوضوء لا يجب على غير المستغرق، وروى ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة، فالزيادة دليل الاستغراق، وبهذا اضمحلَّ ما زعمه العجلوني من أن الزيادة غير لازمة، وأن المدار على النوم، انتهى، لأنَّه إذا كان المدار على النوم ولم نعتبر الزيادة؛ لا يعلم النائم من الناعس، ولا يعلم الفرق بينهما؛ فافهم.
==========
%ص 185%
==================
(1/370)
[حديث: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم]
212# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن هشام)؛ أي: ابن عروة، كما في روايةٍ، (عن أبيه)؛ أي: عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة): أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا نَعَس) بفتح العين المهملة على صيغة الماضي (أحدكم) خطاب خاص أريد به عام (وهو يصلي): جملة اسمية محلها نصب على الحال؛ (فليَرقُد)؛ بفتح [التحتية وضم] القاف؛ أي: فلينم استحبابًا؛ أي: بعد فراغه وإتمامه صلاته، لكنه يتجوز، ويخفف فيها، وعند النسائي من طريق أيوب عن هشام: (فلينصرف)؛ أي: بعد أن يتم صلاته لا أنه يقطعها بمجرد النعاس، كما زعمه المهلب حيث حمله على ظاهره، ويرده قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، (حتى يذهب عنه النوم): فالشرط سبب للجزاء، وهنا النعاس سبب للنوم، أو سبب للأمر بالنوم، واستظهر الأول الكرماني على حد: اضرب زيدًا تأديبًا، ولا ينافي ما ذكر من الأمر بالنوم ما جاء في حديث ابن عباس من نومه في بيت ميمونة، وأنه قال: (قمت إلى الصلاة، فجعلت إذا أغفيت؛ يأخذ بشحمة أذني)، ولم يأمره بالنوم؛ لأنَّه جاء تلك الليلة ليتعلَّم، ففعل ذلك ليكون أثبت له؛ فتأمل.
واختلف في أن النوم عينه ناقض فيكون حدثًا، أو ما لا يخلو عنه النائم فيكون ليس بحدث؛ فقال في «المبسوط» وتبعه شراح «الهداية» بالثاني، وهو الصحيح، كما في «الفتاوى الشلبية» و «السراج»، واختاره فخر الدين الزيلعي، وحكى الاتفاق عليه، ويدل له حديث أبي داود وغيره: «العينان وكاء السَّه، فمن نام؛ فليتوضأ»، وقال بعضهم بالأول، وبه قال إسحاق، والحسن، والمزني، ويدل له عموم حديث صفوان المروي عند ابن خزيمة، وفيه: «إلا من غائط أو بول أو نوم»، فسوَّى بينها في الحكم.
وفيه: أنه لا يلزم من اقترانها في اللفظ مساواتها في الحكم، وهذا في حقنا؛ أمَّا في حق النبي الأعظم عليه السلام؛ فمن خصائصه أنَّه لا ينتقض وضوءه بالنوم مطلقًا، وألحق به بقية الأنبياء عليهم السلام؛ لحديث ابن عباس المذكور في هذا «الصحيح»: (نام رسول الله عليه السلام حتى سمعت غطيطه، وصلى ولم يتوضأ)، وللحديث المشهور: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا».
وقوله: (فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس)؛ بلفظ اسم الفاعل؛ (لا يدري لعلَّه يستغفر)؛ أي: يريد أن يستغفر (فيسب نفسه)؛
%ص 185%
أي: يدعو على نفسه، كما صرح به النسائي؛ تعليل للرقاد أو للأمر به، والفاء في (فيسب): عاطفة على (يستغفر)، فهو مرفوع، كهو على حذفها الموجود في بعض الأصول، قال ابن مالك: (جاء في «فيسب» الرفع، باعتبار عطف الفعل على الفعل، والنصب باعتبار أنه جواب لـ «لعلَّ»، فإنها مثل «ليت»)، وجملة (وهو ناعس): حالية أو معترضة؛ كقوله: (وهو يصلي)، والفائدة في تغيير الأسلوب بين التركيبين حيث قال في الأول: (نعس) بالماضي، وهنا بلفظ اسم الفاعل، كما قال في «عمدة القاري»: (الدلالة على أنه لا يكفي تجدد أدنى نعاس وانقضاؤه في الحال، بل لا بدَّ من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول ويقرأ، والفرق بينهما كالفرق بين ضرب زيد قائمًا وقام ضاربًا، وهو احتمال القيام بدون الضرب في الأول، والعكس في الثاني، وإنما اختار ما اختار في كل منهما؛ لأنَّ الحال قيد وفضلة، والأصل في الكلام ما له القيد، ففي الأول: لا شك أن النعاس هو علة الأمر بالرقاد لا الصلاة، فهو المقصود الأصلي في التركيب، وفي الثاني: الصلاة علة للاستغفار؛ لأنَّ تقدير الكلام: فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس؛ يستغفر، فلفظ (لعلَّه يستغفر): خبر (إنَّ)، ولفظ: (لا يدري) وقع موقع جزاء (إذا) إن جعلناها شرطية، وإلا؛ فخبر (إنَّ) هو جملة: (لا يدري)، وجملة: (لعلَّه يستغفر): معمول لـ (لا يدري)، والمراد من (لعلَّه يستغفر): يريد الاستغفار، فلا ينافي أنه يسب؛ أي: يدعو على نفسه، كما سبق؛ فافهم.
ويحتمل أن يكون علة النهي خشية أن يوافق ساعة الإجابة، والترجي هنا عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به؛ أي: لا يدري أمستغفر هو أم سابٌّ مترجيًّا الاستغفار؟ وهو في الواقع بضد ذلك، أو يستغفر؛ بمعنى: يتمكن من الاستغفار والسب؛ كما أن المترجي بين حصول المرجو وعدمه ومتمكن منهما لا على السوية.
ووجه الدلالة من الحديث على الترجمة: أنه أمره بالرقاد، فلولا أن صلاته في هذه الحالة قريبة للبطلان؛ لما أمره بذلك، فدلَّ على أن ما لا يخلو عنه النائم ناقض؛ لأنَّه علله بأنَّه يختلط، فلا يدري أيسب أم يستغفر؟ وذلك من النوم المزيل للعقل، فيكون بمنزلة من سكر، وقد قال الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ومن ثَمَّ أُلحِق بالنوم غيره من كل ما يزيل العقل؛ كالجنون والإغماء والسكر؛ لأنَّ ذلك أبلغ في الذهول من النوم الذي هو مظنة الحدث، وقد يقال: أشار المؤلف بذكر النوم في الترجمة إلى الحديث المشهور عن علي رضي الله عنه: «العينان وكاء السَّه، فمن نام؛ فليتوضأ»، وأخرجه مسلم وأبو داود في (الصلاة)؛ فتأمل.
وقال المهلب: (وفي قوله: «فإن أحدكم ... » إلخ: إشارة إلى العلَّة الموجبة لقطع الصلاة، فمن صار في هذه الحالة؛ فقد انتقض وضوءُه بالإجماع)، واعترض بأن الإشارة إنَّما هي إلى جواز قطع الصلاة أو الانصراف إذا سلَّم منها، وأما النقض؛ فلا يتبين من الحديث؛ لأنَّ جريان ما ذكر على اللسان ممكن من الناعس، مع أنَّه قائل بأن قليل النوم لا ينقض، فكيف بالنعاس؟! وما ادعاه من الإجماع منقوض، فقد صح عن أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وسعيد بن المسيب: أن النوم لا ينقض مطلقًا، انتهى.
وفيه نظر، فإن الإشارة في الحديث إلى التجوز والتخفيف في الصلاة لا إلى جواز قطعها؛ لأنَّه غير جائز، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، والصلاة خير الأعمال، فلا ريب في عدم جواز قطعها؛ فافهم.
واستظهر في «عمدة القاري» أن الإشارة إلى اقتصار إتمام ما هو فيه، وعدم استئناف صلاة أخرى، قال: (فتماديه على ما كان فيه يدل على أن النعاس اليسير لا ينافي الطهارة)، وتمامه فيه.
اللهم إني أسألك بما في المؤلَّف من الأحاديث النبوية، وبجاهِ قائلها عليه السلام أن تفرج عنا وعن المسلمين، فإنه قد ضاق الحال، وطال المآل، آمين.
==================
(1/371)
[حديث: إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ]
213# وبه قال: (حدثنا أبو مَعْمَر)؛ بفتح الميمين بينهما عين ساكنة: عبد الله بن عمرو المقعد (قال: حدثنا عبد الوارث)؛ بالمثلثة: هو ابن سعيد بن ذكوان التنوري (قال: حدثنا أيوب)؛ أي: السختياني، (عن أبي قِلَابة)؛ بكسر القاف وتخفيف اللام والموحدة: عبد الله بن زيد الجرمي، (عن أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم): أنه (قال: إذا نعَس) بفتح العين المهملة (في الصلاة)؛ بحذف الفاعل؛ للعلم به، وفي رواية: (إذا نعس أحدكم في الصلاة)، فصرح به، وفي رواية: (إذا نعس أحدكم)؛ بإسقاط قوله: (في الصلاة)؛ (فلينم)؛ أي بعد إتمامها، أو يتجوز ويخفف في صلاته، ويتمها وينم، لا أنه يقطعها؛ فافهم، (حتى يعلمَ) بالنصب لا غير (ما يقرأ)؛ أي: الذي يقرؤه أو شيئًا يقرؤه، أو مصدرية، لا استفهامية، كما في «عمدة القاري»، ويمكن توجيهه عربية، لكنه بعيد معنًى؛ فتأمل.
وليس هذا خاصًّا بنافلة الليل، كما قاله المهلب، وعلله: بأن الفريضة ليست في أوقات النوم، وليس فيها من التطويل ما يوجب [1] ذلك؛ لأنَّا نقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فالفرض كذلك إذا أمن فيه بقاء الوقت.
وفي النوم مذاهب؛ أحدها: أنه ناقض للوضوء، وذلك بأن نام غير متمكن فيه من المقعدة _يعني: المخرج_ من الأرض؛ بأن نام مضجعًا أو متوركًا أو مستلقيًا على القفا، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور.
الثاني: أن النوم غير ناقض بحال، وهو مذهب أبي موسى الأشعري، والأوزاعي، والأعرج.
الثالث: أنه ناقض للوضوء على كل حال متمكنًا أو لا، قليلًا أو كثيرًا، وهو مذهب الحسن وإسحاق ابن راهويه.
الرابع: كثير النوم ناقض دون قليله، وهو قول الزهري، وربيعة، وإحدى الروايتين عن الأوزاعي، ومالك، وأحمد.
الخامس: إذا نام في الصلاة راكعًا أو ساجدًا على الصفة المسنونة بأن أبدى ضبعيه، وجافى بطنه عن فخذيه؛ فإنه لا يَنْتَقِضُوضوءُه، وكذا إذا نام جالسًا، ومثله ما إذا نام كذلك خارج الصلاة؛ فإنه لا ينتقض وضوءُه، وهو مذهب الإمام الأعظم، وداود، وسفيان الثوري، وغيرهم؛ لحديث مسلم عن أنس قال: (إن الصحابة كانوا ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون)، ولقوله عليه السلام: «لا يجب الوضوء على من نام جالسًا أو قائمًا أو ساجدًا حتى يضع جنبه، فإذا اضطجع؛ استرخت مفاصله»، رواه أصحاب «السنن».
السادس: لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، وهو رواية عن أحمد، والصحيح عنه: أن النوم مطلقًا ناقض إلا النوم اليسير عرفًا من جالس أو قائم.
السابع: أنه لا يَنْقُضُ إلا نوم الساجد، وهو مروي عن أحمد.
الثامن: لا يَنْقُضُ النومُ في الصلاة بكل حال وينقض خارجها، وهو قول الشافعي.
التاسع: من نام ساجدًا في مصلاه؛ فليس عليه وضوء، وإن نام ساجدًا في غير مصلاه؛ فعليه الوضوء، وهو قول ابن المبارك.
ولو نام وهو متمكن من الأرض، لكنه مستند إلى حائط أو غيره، بحيث لو أزيل المستند؛ سقط النائم؛ اختلف فيه؛ فذهب الحافظ الطحاوي وصاحب «الهداية» والقدوري أنه ينتقض وضوءُه، وروى الإمام أبو يوسف عن الإمام الأعظم: أنه لا ينتقض وضوءُه، وهو ظاهر الرواية، وبه أخذ عامة العلماء، وهو الصحيح.
وينقضه ارتفاع مقعدة قاعد نائم على الأرض قبل انتباهه وإن لم يسقط على الأرض في ظاهر المذهب؛ لزوال المقعدة، وقيل: إن انتبه لما سقط؛ فلا ينتقض، وإن استقر نائمًا، ثم انتبه؛ انتقض؛ لوجود النوم مضجعًا، هذا قول الإمام الأعظم رضي الله عنه، قال في «التبيين»: وهو ظاهر الرواية، وفي «فتح القدير»: وعليه الفتوى، وبه جزم في «السراج»، وهو الصحيح، كما في «المضمرات».
ومن به انفلات ريح هل ينتقض وضوءُه بالنوم؟ أجاب العلامة الشلبي في «حواشي التبيين»: بعدم النقض؛ بناء على ما هو الصحيح من أن النوم نفسه ليس بناقض، وإنما الناقض ما يخرج، ومن ذهب إلى أن النوم نفسه ناقض؛ لزمه نقض وضوء من به انفلات ريح بالنوم، انتهى.
قال في «الخانية»: (النعاس لا ينقض الوضوء، وهو قليل النوم لا يشتبه عليه أكثر ما يقال ويجري عنده) انتهى، وظاهره عدم اشتراط الفهم بل السماع فقط، وبالسماع عبر في «السراج»، و «التاترخانية»، و «التبيين»، والذي في «الدر المختار» تبعًا لـ «البحر» معزوًّا [2] لشروح «الهداية» التعبير بـ (يفهم)، وظاهره اشتراط الفهم.
فالحاصل: أن اشتراط السماع متفق عليه، وإنما الخلاف في فهم ما يسمعه بحيث لو سئل عما تكلم بحضرته؛ لأجاب بأكثره؛ فإنه غير ناقض اتفاقًا، أما إذا لم يجب بالأكثر، بل بأقل منه؛ فيكون حينئذ ناقضًا، والفهم مستلزم للجواب؛
%ص 186%
لأنَّه لو سمع ولم يفهم؛ لا يمكنه أن يجيب، فحاصله اشتراط سماع أكثر ما يتكلم بحضرته، بحيث لو سئل عنه؛ أجاب، كذا في «منهل الطلاب».
وقال الزركشي: الترجمة مشعرة بأن النعاس لا يوجب الوضوء، والحديث مشعر بالنهي عن الصلاة ناعسًا، والجواب: بأنه استنبط عدم الانتقاض بالنعاس من قوله عليه السلام: «إذا صلى وهو ناعس»، والواو للحال، فجعله مصليًا مع النعاس، فدل على بقاء وضوئه، ثم قال: ويجوز أن يريد المؤلف بقوله: (الوضوء من النوم) انقسام النوم إلى ما لا ينقض؛ كالنعاس، وإلى ما ينقض؛ كالمستغرق غير ممكن مقعدته، انتهى، قال في «المصابيح»: (وفيه ضعف؛ إذ لا يمتنع مثل قولك: إذا صلى الإنسان وهو محدث؛ كان كذا، فيحمل على أنه إذا فعل صورة الصلاة؛ فلا يقوي دلالة الحديث على ما أراده) انتهى، فتأمل.
وفي الحديث: الأخذ بالاحتياط؛ لأنَّه علل بأمر محتمل، والحث على الخشوع، وحضور القلب، واجتناب المكروهات في الطاعات، وجواز الدعاء في الصلاة، وضابطه: أنه إن دعا بما جاء في الصلاة، أو في القرآن، أو في المأثور؛ لا تفسد صلاته، وإن لم يكن في القرآن أو المأثور، ولا يستحيل سؤاله من العباد؛ تفسد، كذا في «البحر».
اللهم فرج عنا وعن المسلمين بجاه سيد المرسلين، واكشف عنا هذا البلاء، فإنك على كل شيء قدير.
==========
[1] في الأصل: (جوب).
[2] في الأصل: (معزيًّا)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (جوب).
[1] في الأصل: (جوب).
(1/372)
(54) [باب الوضوء من غير حدث]
هذا (باب الوضوء من غير حدث)؛ أي: استحباب تجديد الوضوء للنوم، ولمسِّ الكتب الشرعية، وللمداومة عليه، وللصلاة فرضًا أو واجبًا أو نفلًا، أو لمسِّ مصحف أو تفسير، فإن لم يكن واحد من هؤلاء المذكورين؛ فبشرط أن يتبدَّل المجلس؛ لأنَّه مع التبدل يكون نورًا على نور، وإن لم يتبدل مجلسه؛ يكون إسرافًا، وهو مكروه بالإجماع، وقيد بالوضوء؛ لأنَّ الغسل على الغسل والتيمم على التيمم يكون عبثًا؛ لعدم وروده في السنة عن النبي الأعظم عليه السلام.
==========
%ص 187%
==================
(1/373)
[حديث: كان النبي يتوضأ عند كل صلاة]
214# وبه قال: (حدثنا محمد بن يوسف)؛ أي: الفريابي (قال: حدثنا): وفي رواية: (أخبرنا) (سفيان): هو الثوري، (عن عَمرو) بفتح العين (بن عامر): الكوفي الأنصاري (قال: سمعت أنسًا)؛ أي: ابن مالك، كما في رواية، ومفعول (قال): (كان النبي ... ) إلخ الواقع بعد الإسناد الثاني قاله الكرماني.
(ح): إشارة إلى التحويل على الأصح، أو إلى الحائل، أو إلى (صح)، أو إلى الحديث، كما سبق (قال) أي: المؤلف: (وحدثنا): وسقطت الواو في رواية (مسدد): هو ابن مسرهد (قال: حدثنا يحيى): هو ابن سعيد القطان، (عن سفيان): هو الثوري (قال: حدثني) بالإفراد (عَمرو) بفتح العين (بن عامر)؛ أي: الأنصاري السابق، (عن أنس): وللأصيلي زيادة: (ابن مالك) رضي الله عنه، وفائدة الإسناد الثاني وإن كان الأول أعلى التصريحُ من سفيان فيه بالتحديث؛ لأنَّ سفيان مدلِّس، وعنعنة المدلِّس لا يحتج بها (قال: كان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة)؛ أي: مفروضة من الأوقات الخمسة، زاد الترمذي من طريق حميد عن أنس: (طاهرًا أو [1] غير طاهر) ولفظة: (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فيكون عادته الوضوء لكل صلاة من الخمس المعلومة، وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى ابن سيرين قال: (كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة)، وفي لفظ آخر: (كان أبو بكر وعمر وعثمان يتوضؤون لكل صلاة، فإذا كانوا بالمسجد؛ دعوا بالطشت، فقال: كان فرضًا، ثم نسخ بالتخفيف) انتهى.
وحديث سويد الآتي يدل على أن ذلك غالب أحواله عليه السلام، وحينئذ فيدل على الاستحباب، وإلا لما وسعه الترك، ولأنَّ الأصل عدم الوجوب، وقال الحافظ الطحاوي: يحتمل أنه كان واجبًا عليه خاصة، ثم نسخ يوم الفتح؛ لحديث بريدة المروي في «صحيح مسلم»: أنه عليه السلام صلَّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: صنعْتَاليوم شيئًا لم تكن تصنعه، فقال: «عمدًا صنعْتُه يا عمر»، ولهذا ذهب النخعي إلى أنه لا يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات، وادعاء النسخ نقله ابن عبد البر عن جماعة؛ منهم: عكرمة، وابن سيرين، وغيرهما من السلف، واستدلوا بحديث عامر وبريدة.
(قلت: كيف كنتم تصنعون؟): القائل (قلت): هو عَمرو بن عامر مخاطبًا لأنس ومن معه من الصحابة، (قال) أي: أنس: (يُجزئُ)؛ بضم التحتية، وضم الهمزة؛ لأنَّ (أجزأ)؛ بالهمزة أولًا وآخرًا؛ بمعنى: يكفي، وهي رواية الأصيلي، (أحدَنا)؛ بالنصب مفعول مقدم (الوضوءُ)؛ بالرفع فاعل مؤخر (ما لم يحدث)؛ أي: مدة دوام عدم حدثه، فـ (ما): مصدرية، وعند ابن ماجه: (وكنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد)، وهذا مذهب الجمهور، وقال ابن شاهين: ولم يبلغنا أن أحدًا من الصحابة والتابعين كانوا يتعمدون الوضوء لكل صلاة إلا ابن عمر، فالجمهور على أنَّه لا يجب الوضوء إلا من حدث، وقدروا في الآية: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، واستدل الدارمي في «مسنده» على ذلك بقوله عليه السلام: «لا وضوء إلا من حدث»، وذهب قوم إلى وجوبه لكل صلاة، ولو كان من غير حدث، وهو ظاهر آية الوضوء؛ لأنَّ الأمر فيها مشروط بالقيام إلى الصلاة، وهو يدل على تكرار الوضوء لكل صلاة وإن لم يحدث، وأجاب الفاضل جار الله الزمخشري في «الكشاف»: (بأنه يحتمل أن يكون الخطاب للمحدثين، أو أن الأمر فيه للندب لا للوجوب)، ولا يصح الحمل عليهما معًا؛ بناءً على قواعد مذهب الإمام الأعظم في عدم جواز حمل المشترك على معنييه؛ لأنَّ تناول الكلمة الواحدة إلى معنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية، وهو لا يجوز) انتهى، خلافًا للشافعي، وخص بعض الظاهرية وجوبه لكل صلاة بالمقيمين دون المسافرين.
واختلف العلماء هل نسخ أو استمر حكمه؟ والجمهور على النسخ، ويدل له ما أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة من حديث عبد الله بن حنظلة: (أنَّ النبي عليه السلام أمر بالوضوء لكل صلاة، فلمَّا شق عليه؛ أمر بالسواك)، وفي «صحيح ابن خزيمة» من حديث حنظلة بن أبي عامر الغسيل: (أنه عليه السلام أُمِر بالوضوء عند كل صلاة، فلمَّا شق ذلك عليه؛ أُمِر بالسواك عند كل صلاة، ووُضِع عنه الوضوء إلا من حدث).
وقد انعقد الإجماع واستقر على أنه يصلي بالوضوء ما شاء وأن تجديده لكل صلاة مندوب، فالإجماع استقر على عدم الوجوب، كما حكاه النووي، ثم قال: (ويمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المُحْدِثين على الوجوب، وفي حق غيرهم على الندب) انتهى، واعترضه في «عمدة القاري»، فقال: (هذا لا يصح؛ لأنَّه يكون من باب الإلغاز، فلا يجوز) انتهى، أي: والتعمية فلا يجوز، على أنه لا حاجة إلى هذا الحمل بعد استقرار الإجماع؛ فإنه حجة من حجج الشرع؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي».
%ص 187%
==================
(1/374)
[حديث سويد بن النعمان: خرجنا مع رسول الله عام خيبر]
215# وبه قال: (حدثنا خالد بن مَخْلد) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة (قال: حدثنا): ولابن عساكر: (أخبرنا) (سليمان)؛ يعني: ابن بلال، كما في رواية (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين: هو القطان (قال: أخبرني) بالإفراد (بُشير)؛ بضم الموحدة، تصغير بشر (بن يَسَار)؛ بفتح المثناة التحتية، وتخفيف السين المهملة (قال: أخبرني) بالإفراد (سُويد بن النُّعمان)؛ بضم أولهما: الأوسي المدني (قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خيبر)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: سنة غزوة النبي الأعظم عليه السلام لها، وكانت سنة سبع، و (خيبر): منصرفة؛ للعلمية والتأنيث، كما تقدم، (حتى إذا كنا)؛ أي: النبي عليه السلام وأصحابه (بالصَّهْباء)؛ بفتح المهملة، وسكون الهاء، والموحدة الممدودة؛ وهي أدنى خيبر؛ أي: أسفلها من جهة المدينة؛ (صلَّى لنا)؛ أي: بنا أو لأجلنا (رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر)؛ أي: صلاة العصر، (فلمَّا صلَّى)؛ أي: فرغ من صلاة العصر؛ (دعا بالأطعمة)؛ أي: التي يتخذها [1] المسافر في سفره، (فلم يؤت إلا بالسويق) المعلوم مما مر؛ لعدم وجود غيره معهم، (فأكلنا)؛ أي: من السويق بعد أن بُلَّ بالماء، (وشربنا)؛ أي: من الماء أو من مائع السويق، وعند المؤلف في (الجهاد): (فلكَّينا وأكلنا وشربنا)؛ أي: لككنا السويق، (ثم قام النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم إلى المغرب)؛ أي: إلى أداء صلاة المغرب، فطلب ماء، (فمضمض) فاه بالماء من أثر السويق، وزاد في الرواية السابقة: (ومضمضنا)، (ثم صلى لنا): ولأبي ذر: (وصلى لنا)؛ أي: بأصحابه (المغرب)؛ أي: صلاتها (ولم يتوضأ)؛ فأفادت هذه الطريقة التصريح بالإخبار من يحيى وشيخه.
والجمع بين حديثي الباب: أن وضوءه عليه السلام لكل صلاة كان في غالب أحواله؛ لأنَّه الأفضل، فأعطى الراوي
%ص 187%
معظم الشَّيء حكم كله، أو أنَّه لم يشاهد التَّرك كما شاهده غيره، وأنَّ فعله الثاني لبيان الجواز، وليري أمَّته أنَّ ما التزمه في خاصَّته من الوضوء لكلِّ صلاة ليس بلازم لكلِّ مكلَّف، وليس عند المؤلِّف حديث لسويد بن النعمان إلا هذا الحديث الواحد، وقد أخرجه في مواضع، وهو أنصاري حارثي، شهد بيعة الرضوان، وذكر ابن سعيد أنه شهد أحُدًا [2]، وتمامه في «عمدة القاري».
ووجه مطابقة الحديثين للترجمة ما قاله الكرماني: من أن لفظ الحكم مقدر في الترجمة؛ أي: باب حكم الوضوء من غير حدث ثبوتًا وانتفاءً، والدلالة عليها حينئذ ظاهرة، وقال بعضهم: وقد يقال: دلالة الحديث الأول عليها من قول أنس: (كان عليه السلام يتوضأ عند كل صلاة)، فإنه صادق بتجديد الوضوءلا سيما وقد زاد الترمذي كما تقدم: (طاهرًا أو [3] غير طاهر)، وأمَّا الحديث الثاني؛ فذكره للتنبيه على بيان حالتي النبي عليه السلام في الوضوء؛ تكميلًا للفائدة؛ فتأمل.
قلت: وللتنبيه على اختلاف ألفاظه عن الحديث الأول، كما لا يخفى على من تفحص.
وفي يوم السبت الحادي عشري صفر سنة سبع وسبعين ومئتين وألف أمر فؤاد باشا بقتل أحمد عزت باشا سر عسكر، فقُتِل بالنيشان، ومعه أربعة من أمراء [4] الآي؛ منهم: علي بيك، وصالح بيك رحمهم الله تعالى، وحفنا بلطفه، وفرج وعنا وعن المسلمين بجاه الحبيب الأعظم وأصحابه الكرام عليه وعليهم السلام.
==========
[1] في الأصل: (يتخذه).
[2] في الأصل: (أحُد).
[3] في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي».
[4] في الأصل: (أمراة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (يتخذه).
[2] في الأصل: (أحُد).
[3] في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي».
[1] في الأصل: (يتخذه).
[2] في الأصل: (أحُد).
[3] في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي».
(1/375)
(55) [باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله]
هذا (باب)؛ بالتنوين، كما في «الفرع»، وفي «عمدة القاري»: (باب؛ بالسكون؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بالعقد والتركيب، اللهم إلا إذا قُدِّر شيء يكون حينئذ معربًا؛ نحو: هذا باب؛ لأنَّه يكون حينئذ خبر مبتدأ، وقول ابن حجر: «باب؛ بالتنوين»؛ غلط) انتهى؛ أي: لعدم تركيبه مع المبتدأ المقدر؛ فافهم.
(من الكبائر ألَّا يستتر)؛ بمثناتين فوقيتين؛ أي: لا يستبرئ (من بوله): و (أن): مصدرية في محل رفع على الابتداء، و (من الكبائر): خبره مقدمًا؛ والتقدير: ترك استتار الرجل من بوله من الكبائر؛ جمع كبيرة، وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعًا العظيم أمرها؛ كالقتل والزنى والفرار من الزحف وغير ذلك، وهي من الصفات الغالبة؛ يعني: صار اسمًا لهذه الفعلة القبيحة، وفي الأصل: هي صفة؛ والتقدير: الفعلة القبيحة أو الخصلة القبيحة.
واختلف في الكبائر؛ فقيل: سبع، وهو ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: أنه عليه السلام قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، فقيل: يا رسول الله؛ وما هنَّ؟ قال: «الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»، وقيل: الكبائر تسع، وروى الحاكم في حديث طويل: «الكبائر تسع»، فذكر السبعة المذكورة، وزاد: «عقوق الوالدين المسلمين، واستحلال [1] البيت الحرام»، وقيل: الكبيرة كل معصية، وقيل: كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبع مئة.
قلت: الكبيرة أمر نسبي، فكل ذنب فوقه ذنب، فهو بالنسبة إليه كبيرة، وبالنسبة إلى ما تحته صغيرة، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (واستهلال)، وهو تحريف.
%ص 188%
==================
(1/376)
[حديث: مر النبي بحايط من حيطان المدينة]
216# وبه قال: (حدثنا عثمان): هو ابن أبي شيبة الكوفي (قال: حدثنا جَرير)؛ بفتح الجيم: هو ابن عبد الحميد، (عن منصور): هو ابن المعتمر، (عن مُجاهد)؛ بضم الميم: ابن جَبر _بفتح الجيم وسكون الموحدة_ الإمام في التفسير، وهذا الحديث رواه الأعمش عن مجاهد، فأدخل بينه وبين ابن عباس طاووسًا، كما يأتي عن قريب أن المؤلف أخرجه هكذا، وإخراجه بهذين الوجهين يقتضي أن كليهما صحيح عنده، فيحمل على أن مجاهدًا سمعه من طاووس عن ابن عباس، وسمعه أيضًا من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيد ذلك أن في سياق مجاهد عن طاووس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وصرح ابن حبان بصحة الطريقين معًا، وقال الترمذي: (رواية الأعمش أصح)، وقال الترمذي في «العلل»: (سألت محمدًا أيهما [1] أصح؟ فقال: الأعمش أصح)، فإن قيل: إذا كان حديث الأعمش أصح؛ فَلِمَ لمْ يخرجه وخرج الذي هو غير صحيح؟ قلت له: كلاهما صحيح، فحديث الأعمش أصح، فالأصح يستلزم الصحيح، كما لا يخفى، ويؤيده: أن شعبة بن الحجاج رواه عن الأعمش كما رواه منصور ولم يذكر طاووسًا، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر.
قلت: ولا مانع من جعلهما حديثين مستقلين لا سيما مع الاختلاف في كثير من المسند وألفاظ المتن، فيكون هذا رواه مجاهد عن ابن عباس بدون واسطة، والآتي رواه عنه بواسطة طاووس؛ فتأمل.
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما: أنَّه (قال: مرَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم بحائط)؛ بالحاء والطاء المهملتين؛ أي: بستان من النخل إذا كان عليه جدار، ويجمع على حيطان وحوائط، وأصله: حواوط؛ بالواو، قلبت ياء؛ لأنَّه من الحوط؛ وهو الحفظ والحراسة، والبستان إذا عمل حواليه جدران؛ يحفظ من الداخل، لا يسمى البستان حائطًا إلا إذا كان عليه جدران، (من حيطان المدينة) المنورة، وعند المؤلف في (الأدب)، ولفظه: (خرج رسول الله عليه السلام من حيطان المدينة)، وبين هذه وبين ما هنا منافاة، أجاب في «عمدة القاري»: (بأن معناه: أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مرَّ به، وفي «أفراد الدارقطني» من حديث جابر: «أن الحائط كان لأم مبشر الأنصارية») انتهى، (أو مكة): شك من جرير، وأخرجه المؤلف في (الأدب): (من حيطان المدينة)؛ بالجزم من غير شك، ويؤيده رواية الدارقطني؛ لأنَّ حائط أم مبشر كان بالمدينة، وإنما عرَّف (المدينة) ولم يعرِّف (مكة)؛ لأنَّ مكة عَلَم، فلا يحتاج إلى التعريف، والمدينة اسم جنس، فعرفت بالألف واللام؛ ليكون معهودًا عن مدينة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: هذا الحديث رواه ابن عباس، وعلى تقدير كون هذه في مكة على ما دل عليه السند كيف يتصور هذا؟ وكان ابن عباس عند هجرة النبي عليه السلام من مكة ابن ثلاث سنين، فكيف ضبط ما وقع في مكة؟
الجواب فيه من وجوه؛ الأول: أنه يحتمل وقوع هذه القضية بعد مراجعة النبي عليه السلام إلى مكة سنة الفتح أو سنة الحج، الثاني: أنه يحتمل أنه سمع من النبي عليه السلام ذلك، الثالث: أنه يكون ما رواه من مراسيل الصحابة، الرابع: أنه يحتمل أن يكون ابن عباس سمع ذلك من صحابي، فأسقط ذكره من بينه وبين النبي عليه السلام، ونظائره كثيرة، وفي الحقيقة هذا داخل في الوجه الثالث، كذا قرره في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(فسمع)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (صوت إنسانين)؛ أي: بشرين، تثنية إنسان، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والعامة تقول: إنسانة، ويجمع على أناسي، قال الله تعالى: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49]، وقد خفي هذا الجمع على من تصدر في زماننا؛ ليقال له أعلم العلماء وأفقه الفقهاء؛ فليحفظ، وقال الجوهري: الإنس: البشر [2]، الواحد إِنْسي وأَنَسي؛ بالتحريك، والجمع: أناسي، وإن شئت جعلته إنسانًا، ثم جمعته أناسي، فتكون الياء عوضًا عن النُّون، وقال قوم: أصل إنسان: إنسيان على وزن (إفعلان) [3]، فحذفت الياء؛ استخفافًا لكثير ما يجري على ألسنتهم، وإذا صغروها؛ ردوها، وقال ابن عباس: إنَّما سمي إنسانًا؛ لأنَّه عهد إليه فنسي، ويقال: من الإنس خلاف الوحشة، ويقال للمرأة أيضًا: إنسان، ولا يقال: إنسانة، والعامة تقوله، كذا في «عمدة القاري»، (يعذبان): جملة وقعت حالًا من (إنسانين) أو صفة لهما (في قبورهما)؛ أي: حال كونهما يعذبان وهما في قبورهما، وإنما قال: (في قبورهما) مع أن لهما قبرين؛ لأنَّ في مثل هذا استعمال التثنية قليل، والجمع أجود، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، والأصل فيه: أن المضاف إلى المثنَّى إذا كان جزء ما أضيف إليه، يجوز فيه الإفراد والجمع، ولكن الجمع أجود؛ نحو: أكلت رأس الشاتين، وإن كان غير جزئه؛ فالأكثر مجيؤه بلفظ التثنية؛ نحو: سلَّ الزيدان سيفيهما [4]، وإن أمن اللبس؛ جاز جعل المضاف بلفظ الجمع، كما في قوله: (في قبورهما)، وقد يجتمع التثنية والجمع في قوله: ظهراهما مثل ظهور الترسين، وفي رواية الأعمش: (مر بقبرين)، وزاد ابن ماجه في روايته: (بقبرين جديدين، فقال: «إنهما يعذبان»).
فإن قلت: [المعذب] ما في القبرين، فكيف أسند العذاب إلى القبرين؟
قلت: هذا من باب ذكر المحل وإرادة الحال، وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون الضمير عائدًا على غير مذكور؛ لأنَّ سياق الكلام يدل عليه، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا ليس بشيء؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير موجود، وهو القبران، ولو لم يكن موجودًا؛ لكان لكلامه وجه، والوجه ما ذكرناه؛ فافهم.
ولم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما.
قال في «عمدة القاري»: (والحكمة في عدم بيان اسمي المقبورين ولا أحدهما
%ص 188%
يحتمل أنه عليه السلام لم يبين ذلك؛ قصدًا للتستر عليهما خوفًا من الافتضاح، وهو عمل مستحسن، ولا سيما من حضرة النبي الأعظم عليه السلام الذي من شأنه الرحمة والرأفة على عباد الله تعالى، ويحتمل أنه قد بينه؛ ليحترز عنه غيره عن مباشرة ما باشر صاحب القبرين، ولكن الراوي أبهمه عمدًا، كما ذكرنا) انتهى.
قلت: ويؤيد الأول أن عادته عليه السلام الإبهام عن مثل ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها حين أرادت شراء بريرة وشرطوا عليها الولاء؛ فأخبرت بذلك النبي عليه السلام، فأمرها بالشراء، وصعد المنبر، وقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله عز وجل ... » إلى آخر القصة، فأبهم الشارط، وهذه عادته عليه السلام؛ سترًا على أمَّته.
فإن قلت: قد ذكر القرطبي عن بعضهم: أن أحدهما كان سعد بن معاذ رضي الله عنه.
قلت: قد ردَّه في «عمدة القاري»: (بأن هذا قول فاسد لا يُلتَفَتُ إليه، ومما يدل على فساده أنَّ النبي الأعظم عليه السلام حضر جنازته كما ثبت في «الصحيح»، وسماه النبي عليه السلام سيدًا، حيث قال لأصحابه: «قوموا إلى سيدكم»، وقال: «إن حكمه وافق حكم الله تعالى»، وقال: «إن عرش الرحمن اهتز لموته»، وغير ذلك من مناقبه العظيمة، وقد حضر النبي عليه السلام دفن المقبورين دل عليه حديث أبي أمامة رواه أحمد، ولفظه: أنه عليه السلام قال لهم: «من دفنتم اليوم ههنا؟»، ولم ينقل عنه [5] عليه السلام ما ذكره القرطبي عن البعض، فدل ذلك على بطلانه في هذه القضية) انتهى.
(فقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: يُعَذَّبان)؛ أي: الإنسانين، وفي حديث أبي بكرة من «تاريخ المؤلف» بسند جيد: مر النبي عليه السلام بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أمَّا أحدهما؛ فيُعَذَّبُ في البول، وأمَّا الآخر؛ فيُعَذَّب في الغيبة»، وفي حديث أبي هريرة من «صحيح ابن حبان»: مر عليه السلام بقبر، فوقف عليه، وقال: «ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه يخفف عنه بعض عذاب القبر»، وهو عند أبي موسى بلفظ: «قبرين؛ رجل لا يتطهر من البول، وامرأة تمشي بالنميمة»، وعند ابن أبي شيبة من حديث يعلى بن شبابة: مر عليه السلام بقبر يُعذَّب صاحبه، فقال: «إن هذا القبر يُعَذَّبُ صاحبهُ في غير كبير»، ولمَّا ذكره البرقي في «تاريخه»؛ فقال: «قبرين؛ أحدهما: يأكل لحوم الناس ويغتابهم، وكان هذا لا يتقي بوله»، وفي حديث الأعمش عن جابر: دخل النبي عليه السلام حائطًا لأبي مبشر، فإذا بقبرين؛ فدعا بجريدة رطبة فشقها، ثم وضع واحدة على أحد القبرين، والأخرى على الآخر، ثم قال: «لا يرفعان عنهما حتى يجفا»، وقال: «أمَّا أحدهما؛ فكان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يتنزه من البول»، وفي حديث أنس: مر عليه السلام بقبرين من بني النجار يعذبان في النميمة والبول، فأخذ سعفة رطبة فشقها، وجعل على ذا نصفًا، وعلى ذا نصفًا، وقال: «لا يزال يخفف عنهما العذاب ما داما رطبتين»، وورد في عذاب القبر أحاديث كثيرة، كذا في «عمدة القاري».
(وما يُعَذَّبان في كبير)؛ بالموحدة، و (ما): نافية على الأظهر؛ أي: بكبير تركه عليهما إلا أنه كبير من حيث المعصية، وقيل: يحمل (كبير) على أكبر؛ تقديره: ليس هو أكبر الذنوب؛ إذ الكبائر متفاوتة، وقال القاضي عياض: إنه غير كبير عندكم؛ لقوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وذلك أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة وتركها كبيرة، وفي «شرح السنة»: (ومعنى: «وما يعذبان في كبير»: أنهما لا يعذبان في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز عنه؛ إذ لا مشقة في الاستتار عند البول، وترك النميمة، ولم يُرِد أنهما غير كبير في أمر الدين)، وقال المازري: (الذنوب تنقسم: إلى ما يشق تركه طبعًا؛ كالملاذ المحرمة، وإلى ما ينفر منه طبعًا؛ كتارك السموم، وإلى ما [لا] يشق تركه طبعًا؛ كالغيبة والبول)، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: وفيه: أن عذاب القبر حق حتى يجب الإيمان به والتسليم له، وعلى ذلك أهل السنة والجماعة خلافًا للمعتزلة، ولكن ذكر القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في «الطبقات»: (إن قيل: مذهبكم أدَّاكم إلى إنكار عذاب القبر، وهو قد أطبقت عليه الأمة؛ قلت: إن هذا الأمر إنَّما أنكره أولًا ضرار بن عمرو لما كان من أصحاب واصل ظنوا أن ذلك بما أنكرته المعتزلة، وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان؛ أحدهما: يجوِّز ذلك كما وردت به الأخبار، والثاني: يقطع بذلك، وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما ينكرون قول جماعة من الجهلة: إنهم يعذبون وهم موتى، ودليل العقل يمنع من ذلك)، ونحوه ذكره أبو عبيد الله المرزباني في «الطبقات»، وقال القرطبي: إن الملحدة ومن يذهب مذهب الفلاسفة أنكروه أيضًا، والإيمان به واجب لازم حسب ما أخبر به الصَّادق عليه السلام، وإن الله يحيي العبد ويرد إليه الحياة والعقل، وهذا نطقت به الأخبار، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك يكمل العقل للصغار؛ ليعلموا منزلتهم وسعادتهم، وقد جاء أن القبر ينضمُّ عليه كالكبير، وصار أبو الهذيل وبشر إلى أن من خرج عن سمة الإيمان؛ فإنه يُعَذَّبُ بين النفختين، وإأن المسألة إنَّما تقع في تلك الأوقات، وأثبت البلخي والجبائي وابنه عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه للكافرين والفاسقين، وقال بعضهم: عذاب القبر جائز، وإنه يجري على الموتى من غير رد روحهم إلى الجسد، وإن الميت يجوز أن يتألم ويحس، وهذا مذهب جماعة من الكرامية، وقال بعض المعتزلة: إن الله تعالى يعذب الموتى في قبورهم، ويحدث الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حشروا؛ وجدوا تلك الآلام، وأمَّا باقي المعتزلة مثل: ضرار بن عمرو، وبشر المريسي، ويحيى بن كامل، وغيرهم؛ فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلًا، وهذه الأقوال كلها فاسدة تردُّها الأحاديث الثابتة، وإلى الإنكار أيضًا ذهب الخوارج وبعض المرجئة، ثم المُعَذَّبُ عند أهل السنة: الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إلى جسده أو إلى جزئه، وخالف في ذلك محمد بن جرير وطائفة، وقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهذا أيضًا فاسد، والله أعلم، انتهى.
(ثم قال)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (بلى)؛ معناه: أي: إنَّه لكبير، وقد صرح بذلك المؤلف في رواية من طريق عبيدة بن حميد عن منصور، فقال: «وما يُعَذَّبان في كبير، وإنَّه لكبير»، وهذا من زيادات رواية منصور عن الأعمش، ومسلم لم يذكر الروايتين.
وقال الكرماني: فإن قلت: لفظ: (بلى) يختص بإيجاب النفي؛ فمعناه: بل إنهما ليُعَذَّبان في كبير، فما وجه التلفيق بينه وبين (ما يعذبان في كبير)؟ قلت: قال ابن بطال: (وما يعذبان بكبير)؛ يعني: عندكم، (وهو كبير)؛ يعني: عند الله تعالى، وقد ذكرناه، وقال عبد الملك البوني في قوله: «وإنَّه لكبير»: يحتمل أنه عليه السلام ظن أن ذلك غير كبير، فأوحى الله إليه في الحال بأنه كبير، وفيه نظر، قاله في «عمدة القاري».
ووجهه أنه يستلزم أن يكون نسخًا، وهو لا يدخل في الخبر.
وأجيب: بأن الخبر بالحكم يجوز نسخه، وهذا منه، وأجيب عن أصل الإيراد: بأن الضمير في (وإنَّه لكبير) الذي في الرواية الثانية يعود على العذاب؛ لما في «صحيح ابن حبان» من حديث أبي هريرة: «يُعَذَّبان عذابًا شديدًا في ذنب هين»، وقيل: إن الضمير يعود على أحد الذنبين، وهو النميمة؛ لأنَّها من الكبائر بخلاف كشف العورة، ورد: بأنه ضعيف، ومع ضعفه غير مستقيم؛ لأنَّ الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط، وأجيب: بأن (كبير) المنفي؛ بمعنى: أكبر، والمثبت واحد الكبائر، وقيل: المعنى: ليس بكبير في الصورة؛ لأنَّ تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة، وهو كبير في الذنب، وقيل: ليس بكبير في اعتقاد المخاطبين، وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز عنه، وجزم بهذا البغوي، ورجحه ابن دقيق العيد وجماعة، وقيل: ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيرًا بالمواظبة عليه، ويدل له لفظ السياق، فإنه وصف كلًّا منهما بما يدل على تجدده منه، واستمراره عليه؛ حيث إنه أتى بالمضارع بعد (كان)، واستظهر بعضهم أن يقال: إن (ما) مصدرية، وهي وصلتها في محل رفع على الابتداء، و (في كبير): خبره؛ أي: وتعذيبهما في كبير، وهذا معنى الرواية الصحيحة، ولا يمنع من ذلك ذكر (بل) المختصة بإيجاب النفي؛ لأنَّها تستعمل بعد الإيجاب، كما نقله الرضي؛ كقوله:
وقد بعدت بالوصل بيني وبينها ... بل إن من زارَ القبورَ ليبعدا
سلمنا أنه لا بد من تقديم النفي،
%ص 189%
لكنهم قد يعطون الشيء حكم ما يشبهه في لفظه، كما فعلوا في (ما) المصدرية؛ عاملوها معاملة (ما) النافية في زيادة (إن) بعدها؛ كقوله:
ورَجِّ الفَتى لِلْخيرِ مَا إِنْ رأَيتَهُ ... عَلَى السِّنِ خَيرًا لا يزالُ يَزيدُ
انتهى.
وفيه: أن (بعدت) في البيت الأول فيه معنى النفي، ولعلَّه لهذا قال: (سلمنا ... ) إلخ، وقد ذكر بعضهم: أن (في كبير) متعلق بـ (يُعَذَّبان) الأول، وجملة: (وما يُعَذَّبان) معترضة؛ أي: بين المتعلِّق والمتعلَّق، و (ما): استفهامية؛ للتعظيم وتأكيد للتعذيب؛ فتأمل، والله أعلم.
وقوله: (كان أحدهما لا يستَتِر من بوله)؛ استئناف بيانيٌّ وتعليل لما مر؛ بفتح المثناة فوق وكسر الثانية، من السترة؛ ومعناه: لا يستر جسده ولا ثوبه من مماسَّة البول، ووقع في رواية زيادة (كان) ثانيًا، فـ (كان) الثانية تأكيد لـ (كان) الأولى أو زائدة، والظاهر: أن معناه ما في رواية ابن عساكر: (لا يستَبْرئ)؛ بالموحدة الساكنة بعد المثناة الفوقية المفتوحة، من الاستبراء؛ وهو طلب البراءة من البول، وقيل: معناه ما في رواية مسلم وأبي داود من حديث الأعمش: (لا يستَنْزِه)؛ بمثناة فوقية مفتوحة، ونون ساكنة، وزاي مكسورة، بعدها هاء، من التنزه؛ وهو الإبعاد، وقيل: معناه ما في رواية: (لا يستَنْثِر)؛ بمثناة فوقية مفتوحة، ونون ساكنة، ومثلثة مكسورة، من الاستنثار؛ وهو طلب النثر؛ يعني: نثر البول عن المحل، وروي: (لا ينْتتر)؛ بمثناتين فوقيتين بعد النُّون الساكنة، من النتر؛ وهو جذب فيه قوةوجفوة [6]، وفي الحديث: «إذا بال أحدكم؛ فليستنثر»، وروى أبو نعيم في «المستخرج»: (كان يتوقى)؛ بالقاف بعد الواو، لكن الظاهر أن معناه: الاستبراء، كما ذكرنا.
ففي الحديث: وجوب الاستبراء؛ أي: افتراضه، وهو حجة لإمامنا الأعظم رئيس المجتهدين، وحجة على الشافعي بقوله: إنه سنة، وذلك فإن المراد بعدم الاستتار من البول: أنه لم يطلب البراءة منه، بل تركه يجري على أفخاذه، أو يقطر على سراويله، ثم يتوضأ ويصلي، وهو على هذه الحالة كما يفعله الأتراك في زماننا، وما قيل: إن معناه: لا يستر عورته؛ بعيد؛ لأنَّ التعذيب لو وقع على كشف العورة؛ لاستقل الكشف بالسببية، فيترتب العذاب عليه دون البول مع أن الحديث ظاهر في دلالته على اعتبار البول في السببية لعذاب القبر، كالحديث الذي صححه ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا: «أكثر عذاب القبر من البول»، بل المراد بالاستتار: الاستبراء، كما دلت عليه الرواية، وهو التحقيق، ويكون الاحتراز عن مفسدة تتعلق به كانتقاض الطهارة، كما ذكرنا، وعبر بالاستتار مجازًا عن الاحتراز؛ لأنَّ المستتر عن الشيء بعيد عنه، ومحتجب وهو شبيه بالبعد عن ملابسة البول، وأيضًا فـ (من) لما أضيفت إلى البول وهي لابتداء الغاية حقيقة أو مجازًا؛ اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول؛ بمعنى: أن ابتداء سبب العذاب من البول، وإذا حمل على حقيقته؛ يلزم منه أن يكون سبب العذاب مجرد كشف العورة، وهو غير مراد، فتعين أن يكون المعنى ما ذكرناه، وتعين الحمل على المجاز؛ لتتفق ألفاظ الحديث على معنى واحد ولا تختلف، ويؤيده رواية أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه: (أمَّا أحدهما؛ فيُعَذَّبُ في البول)، ومثله عند الطبراني عن أنس، وكلمة (في): للتعليل؛ أي: يُعَذَّبُ بسبب البول.
ففي الحديث: دليل على نجاسة الأبوال مطلقًا سواء كانت من بني آدم أو غيره، ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه: أنه يعفى في النجاسة المائعة عن قدر مقعر الكف، وفي الجامدة يعفى عن قدر الدرهم؛ لما روي عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سئل عن قليل النجاسة، فقال: (مثل ظفري هذا لا يمنع)، وظفره كان قدر الدرهم، وبهذا قال إبراهيم النخعي، وقد رخص الكوفيون في مثل رؤوس الإبر من البول؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، وإنما كان المعفو قدر الدرهم؛ اعتبارًا للمشقة، وقياسًا على المخرجين، وسهل في البول القاسم بن محمد، ومحمد بن علي، والشعبي.
وفي «الجواهر» للمالكية: (أن البول والعذرة من بني آدم نجسان، وطاهران من كل حيوان مباح الأكل، ومكروهان من المكروه أكله)، وقيل: بل نجسان، وعامة الفقهاء لم يخففوا من الدم إلا اليسير.
واختلف أصحاب مالك في مقدار اليسير، والأرجح أنه قدر الدرهم الكبير، وهذا أيضًا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال الشافعي: قليل النجاسة وكثيرها سواء، لا يُعْفى عن شيء منها إلا ما لا يدركه الطرف، وفي هذا مشقة وعسر وحرج، وهو مدفوع بالنص؛ فافهم، ولا حجة له في هذا الحديث؛ لأنَّه عُذِّبَ على عدم صحة وضوئه مع نزول البول، وهو عدم الاستبراء من البول، أو لأنَّه يفعله عمدًا بغير عذر، فيبقى على بدنه من النجاسة زائدًا على قدر المعفو عنه، ولا شك أن هذا يوجب العذاب مع ما يلزم عليه من أداء الصلاة بغير طهارة، وإن تعمد ذلك؛ يخشى عليه الكفر، ويكفر عند بعض العلماء، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب».
(وكان الآخر يمشي بالنميمة)؛ أي: يسعى بنقلها وإفشائها بين الناس، ولهذا قال بعضهم: حقيقة النميمة: إفشاء السر وهتك الستر عما يُكْرَهُ كشفه، وفاعلها يقال له: نمام، وفي حديث الشيخين: «لا يدخل الجنة نمام»، وفي رواية: (قتات)؛ بالقاف ومثناتين، النمام: الذي يكون مع الجمع يتحدثون حديثًا فينم عليهم، والقتات: الذي يستمع عليهم وهم لا يعلمون، ثم ينم، وعرَّفها في «عمدة القاري» بأنها هي نقل كلام الناس، وقال النووي: (هي نقل كلام الغير بقصد الإضرار)، قلت: وتفسير الإمام في «عمدة القاري» تفسير بالأعم.
ثم إن النووي قال: (والمشي بالنميمة من أقبح القبائح)؛ أي: من أكبر الكبائر، واعترضه الكرماني بأنه لا يصح على قاعدة الفقهاء؛ لأنَّهم يقولون: الكبيرة: هي الموجبة للحد، ولا حد على الماشي بالنميمة إلا أن يقال: الاستمرار المستفاد منه يجعله كبيرة؛ لأنَّ الإصرار على الصغيرة حكمه حكم الكبيرة، أو لا يريد بالكبيرة معناها الاصطلاحي.
وزعم ابن حجر: (وما نقله عن الفقهاء ليس قول جميعهم؛ لأنَّ كلام الرافعي يشعر ترجيحه؛ حيث حكى وجهين؛ أحدهما: هذا، والثاني: ما فيه وعيد شديد، قال: وهم إلى الأول أميل، والثاني أوفق)، ورده في «عمدة القاري»: (بأنه لا وجه لتعقيبه على الكرماني؛ لأنَّه لم يميز قول الجميع عن قول البعض حتى يعترض على قوله: (على قاعدة الفقهاء) على أن الذنب المستمر عليه صاحبه وإن كانت صغيرة؛ فهي كبيرة في الحكم، وفيه وعيد؛ لقوله: «لا صغيرة مع الإصرار») انتهى، وهو جواب صحيح، وعليه جرى القسطلاني حيث قال: (ويجاب عن استشكال كون النميمة من الصغائر بأن الإصرار عليها المفهوم هنا من التعبير بـ «كان» المقتضية له يصير حكمها حكم الكبيرة) انتهى، وقد ركب العجلوني هنا متن عمياء، وخبط خبط عشواء، والصواب ما علمته؛ فليحفظ.
وإنما خص البول والنميمة بعذاب القبر؛ لأنَّ القبر أول منازل الآخرة، وفيه نموذج ما يقع في القيامة من العقاب والثواب، والمعاصي التي يُعاقَب عليها يوم القيامة نوعان: حق الله تعالى، وحق العباد، وأول ما يقضى فيه من حقوق الله: الصلاة، ومن حقوق العباد: الدماء، وأما البرزخ؛ فيقضى فيه مقدمات هذين الحقين ووسائلهما، فمقدمة الصلاة الطهارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدماء النميمة، فيبدأ في البرزخ بالعقاب عليهما.
نسأله سبحانه العفو عن ذنوبنا والستر علينا، وأن يفرج عنا وعن المسلمين، ويكشف عنا هذا الضيق والمقت والقهر إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(ثم دعا)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بجريدة)؛ من جريد النخل، وفي رواية الأعمش: (بعَسِيب رطب)، وهو بفتح العين المهملة، وكسر السين المهملة، على وزن (فَعِيل)؛ نحو: (كَرِيم)؛ وهي الجريدة التي لم
%ص 190%
ينبت فيها خوص، فإن نبت؛ فهي السعفة، وعُلم من هذا أن الجريدة هي الغصن من النخل بدون الورق، كذا في «عمدة القاري».
قيل: خص الجريد بذلك؛ لأنَّه بطيء الجفاف، والآتي بالجريدة بلال رضي الله عنه، كما في مشيخة يعقوب الفسوي من حديث أبي رافع بسند ضعيف: أن بلالًا قال: كنا مع النبي عليه السلام في جنازة؛ إذ سمع شيئًا في قبر، فقال لبلال: «ائتني بجريدة خضراء ... »؛ الحديث، وقيل: الآتي بها أبو بكر الصديق كما عند أحمد والطبراني.
قلت: والظاهر أن هذه القصة غير قصة الباب؛ لأنَّه صرح فيها بقبرين، وصرح في حديث بلال بقبر واحد، وسيأتي تمامه؛ فافهم.
(فكسَرها)؛ بتخفيف المهملة؛ أي: بنفسه أو أمر غيره، والظاهر الأول (كِسْرتين)؛ بكسر الكاف، وسكون المهملة، تثنية كسرة؛ وهي القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش أنه منصوب على الحال، وأنها كانت نصفًا، وفي رواية جرير عنه: (باثنتين)، قال النووي: الباء زائدة؛ للتأكيد، وهو منصوب على الحال، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: (إن في متن الحديث: «ثم دعا بجريدة، فكسرها كِسْرتين»؛ يعني: أتي بها فكسرها؛ أي: فالفاء عاطفة على مقدر، وفي حديث أبي بكرة وجابر كما رواه مسلم وأحمد والطبراني أنه الذي قطع الغصنين، فهل هذه قضية واحدة أو قضيتان؟
الجواب: أنهما قضيتان، والمغايرة بينهما من أوجه؛ الأول: أن هذه كانت في المدينة، وكان مع النبي عليه السلام جماعة، وقضية جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته، فتبعه جابر وحده، الثاني: أن في هذه القضية أنه عليه السلام غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين، كما في رواية الأعمش الآتية، وفي حديث جابر: أمر عليه السلام جابرًا فقطع غصنين من شجرتين كان عليه السلام استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا، فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي عليه السلام جالسًا، وأن جابرًا سأله عن ذلك، فقال: «مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفعه عنهما ما دام الغصنان رطبين»، الثالث: لم يذكر في قصة جابر ما كان السبب في عذابهما، الرابع: لم يذكر فيه كلمة الترجي، فدل ذلك كله على أنهما قضيتان مختلفتان، بل روى ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة: أنه عليه السلام مر بقبر، فوقف عليه، فقال: «ائتوني بجريدتين»، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، فهذا بظاهره يدل على أنَّها قضية ثالثة، فسقط بهذا كلام من ادعى أن القضية واحدة، كما مال إليه النووي والقرطبي، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه، ومثله في «ابن حجر».
قلت: ويؤيد هذا الظاهر حديث أبي رافع، فإن فيه: (فسمع شيئًا في قبر، فكسرها باثنتين، وترك بعضها عند رأسه، وبعضها عند رجليه)، وفي قصة الواحد: جعل نصفًا عند رأسه ونصفًا عند رجليه، وفي قصة الاثنين: جعل على كل قبر جريدة، ولا ريب أن هذه قضايا مختلفة في أحوال متعددة في أماكن متغايرة، فكل صحابي عبر بما رأى؛ فافهم، والله أعلم.
(فوضع)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (على كل قبر منهما كِسْرة)؛ بكسر الكاف؛ أي: واحدة؛ يعني: وضع كل كسرة منهما على ظهر القبر من جهة الرأس، وعلى الآخر كذلك، كما اعتيد في زماننا؛ لأنَّ كلمة (على) تفيد الاستعلاء، فالكسرة الموضوعة على كل قبر نصف، قال في «عمدة القاري»: (وفي رواية الأعمش: «فغرز»، والغرز مستلزم الوضع بدون العكس) انتهى.
والغرز بإزاء الرأس ثابت بإسناد صحيح، كما في «المصابيح»، وقول الزركشي: وفي رواية غندر: (نصفه عند رأسه، ونصفه عند رجليه)، كما ذكره صاحب «الترغيب»؛ محمول على أنَّ القبر واحد؛ لما في «صحيح ابن حبان» من حديث أبي هريرة أنَّه قال: مر عليه السلام بقبر فوقف عليه، وقال: «ائتوني بجريدتين»، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، ثم قال: «لعلَّه يخفف عنه بعض عذاب القبر»، لا أنه في هذه القصة، فيكون القطع حينئذ أربعًا، كما زعمه العجلوني؛ لأنَّ القضايا مختلفة في القبر والقبرين، ولأن مقصود النبي عليه السلام تخفيف العذاب ما دام الجريد رطبًا، ومع شقه أربع شقق لا يستقيم رطبًا؛ لصغر جرمه، والحر حر الحجاز؛ فافهم.
(فقيل له): وفي رواية: إسقاط لفظة: (له)؛ أي: للنبي الأعظم عليه السلام: (يا رسول الله): وفي رواية الأعمش: (قالوا)؛ أي: الصحابة: (لم فعلت هذا؟): الإشارة إلى وضع الجريدتين على القبرين، قال في «عمدة القاري»: (ولم يُعْلَم القائل من هو) انتهى ومثله في «ابن حجر»، قلت: وقد يقال: إن القائل له ذلك إما جابر كما في حديثه، أو بلال كما في حديثه، أو أبو بكر الصديق كما في حديثه، وكل قضية على حسبها، وهو الظاهر؛ فافهم.
(قال)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (لعلَّه أنْ يخفف عنهما)؛ بضمير التثنية يعود إلى الإنسانين، و (يخفف): مبني للمفعول، شبه (لعلَّ) بـ (عسى)، فأتى بـ (أنْ) في خبره، وهو جائز، وإن كان الأكثر حذفها، كما في قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44]، وقال في «عمدة القاري»: (الرواية: «أن يخفف عنها» على التوحيد والتأنيث، وهو ضمير النفس، فيجوز إعادة الضميرين في «لعلَّه» و «عنها» إلى الميت باعتبار كونه إنسانًا وكونه نفسًا، ويجوز أن يكون الضمير في «لعلَّه» ضمير الشأن، وفي «عنها» للنفس، وجاز تفسير الشأن بـ «أن» وصلتها مع أنها في تقدير مصدر؛ لأنَّها في حكم جملة؛ لاشتمالها على مسند ومسند إليه، ولذلك سدت مسد مفعولي «حسب» و «عسى» في نحو: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ} [آل عمران: 142]، وفي: {عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا} [البقرة: 216]، ويجوز على قول الأخفش أن تكون «أن» زائدة مع كونها ناصبة؛ كزيادة الباء و «من» مع كونهما جارَّتين، ومن تفسير ضمير الشأن بـ «أن» وصلتها قول عمر رضي الله عنه: «فما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى ما يقلني رجلاي»، وقال الطيبي: لعلَّ الظاهر أن يكون الضمير مبهمًا يفسره ما بعده، كما في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37]، وقال العلَّامة جار الله الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا ما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة إلا الحياة الدنيا، ثم وضع «هي» موضع الحياة؛ لأنَّ الخبر يدل عليها ويبينها [7]، ومنه: هي النفس تحمل ما حملت، والرواية بتثنية الضمير في «عنهما» لا يستدعي إلا هذا التأويل) انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.
ثم قال: (وهل للجريد معنى يخصه في الغرز على القبر ليخفف العذاب؟
والجواب: أنه لا لمعنى يخصه، بل المقصود أن يكون ما فيه رطوبة من أي شجر كان، ولهذا أنكر الخطابي ومن تبعه وضع الجريد اليابس، وكذلك ما يفعله أكثر الناس من وضع ما فيه الرطوبة من الرياحين والبقول ونحوهما على القبور ليس بشيء، وإنما السنة الغرز.
فإن قلت: في الحديث: «فوضع على كل قبر منهما كِسرة».
قلت: في رواية الأعمش: «فغرز»، فينبغي الغرز؛ لأنَّ الوضع يوجد في الغرز بخلاف الوضع، كما قدمناه.
فإن قيل: إنه عليه السلام قد علل غرزهما على القبر بأمر معين من العذاب، ونحن لا نعلم ذلك مطلقًا.
والجواب: أنه لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن نترك ذلك، ألا ترى أنَّا ندعو للميت بالرحمة، ولا نعلم أنه يرحم أم لا؟
فإن قلت: وهل لأحد أن يأمر بذلك لأحد أم الشرط أن يباشره بيده؟
والجواب: ظانه لا يلزم ذلك، والدليل عليه أن بريدة [بن] الحصيب [8] رضي الله عنه أوصى أن يوضع على قبره جريدتان، كما يأتي في هذا الكتاب).
وزعم ابن حجر أنه ليس في السياق ما يقطع أنه باشر الوضع بيده الكريمة عليه السلام، بل يحتمل أن يكون أمر به، وردَّه في «عمدة القاري»: بأن هذا كلام واهٍ جدًّا، وكيف يقول ذلك وقد صرح في الحديث: (ثم دعا بجريدتين، فكسرهما، فوضع على كل قبر منهما كسرة)؟! وهذا تصريح في أنه عليه السلام وضعه بيده الكريمة، ودعوى احتمال الأمر لغيره به بعيدة، وهذه كدعوى احتمال مجيء غلام زيد في قولك: جاء زيد، ومثل هذا الاحتمال لا يعتد به؛ فافهم، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.
(ما لم ييبَسا)؛ بمثناتين تحتيتين،
%ص 191%
ثم موحدة، وهذه في أكثر الروايات، وفي رواية: (ما لم تيبَسا)؛ بمثناة فوقية بعدها تحتية، ثم موحدة؛ أي: الكسرتان، وفي رواية: (إلا أن تيبَسا)؛ بحرف الاستثناء، وفي رواية: (إلى أن ييبَسا)؛ بكلمة (إلى) التي للغاية، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، أمَّا التأنيث؛ فباعتبار رجوع الضمير فيه إلى الكسرتين، وأمَّا التذكير؛ فباعتبار رجوع الضمير إلى العُود؛ لأنَّ الكسرتين عودان، والباء الموحدة مفتوحة في جميع الروايات؛ لأنَّه من باب (علم يعلم)، وفيه لغة شاذة، وهي الكسر، وكلمة (ما): مصدرية زمانية، وأصله: لعلَّه يخفف عنهما مدة دوامهما إلى زمن اليبس، أو مدة عدم يبسهما، وذلك بسبب التبرك بأثره عليه السلام، ودعائه بالتخفيف عنهما، فكأنه عليه السلام جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدًّا لما وقعت له المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الرطب معنى ليس في اليابس، وقال النووي: (قال العلماء: هو محمول على أنه عليه السلام سأل الشفاعة لهما، فأجيبت شفاعته بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا)، وقال ابن الملقن: وقد حصل ما ترجَّاه في الحال، فأورقا في ساعتهما، ففرح بذلك، وقال: «رُفِعَ العذابُ عنهما بشفاعتي»، وقيل: يحتمل أنه عليه السلام يدعو لهما تلك المدة، وقيل: لأنَّهما يسبحان ما داما رطبين، وليس لليابس تسبيح، قالوا في قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]؛ معناه: وإن من شيء حي، ثم حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشبة ما لم تيبس، وحياة الحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون إلى أنه على عمومه، ثم اختلفوا هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة على الصانع، فيكون مسبحًا منزهًا بصورة حاله؟ وأهل التحقيق على أنه يسبح حقيقة، وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها، وجاء النص به؛ وجب المصير إليه، واستحب العلماء قراءة القرآن والأذكار عند القبر؛ لهذا الحديث؛ لأنَّه إذا كان يرجى التخفيف لتسبيح الجريدة؛ فتلاوة القرآن والذكر أولى.
فإن قلت: ما الحكمة في كونهما ما داما رطبين يمنعان العذاب بعد دعوى العموم في تسبيح كل شيء؟
قلت: يمكن أن يكون معرفة هذا كمعرفة [عدد] الزبانية في أنه تعالى هو المختص بها، كذا في «عمدة القاري».
وقال المازري: (يحتمل أن يكون أوحي إليه أن العذاب يُخَفَّفُ عنهما هذه المدة)، واعترضه القرطبي بأنه لو علم بالوحي؛ لما أتى بحرف الترجي، قال ابن حجر: (وإذا حملناها على التعليل؛ لا يرد هذا)، قلت: وهذا الحمل فاسد، فإن النحاة أجمعوا على أن معنى (لعلَّ): الترجي، وهو مراد النبي عليه السلام؛ بدليل أن هذه الكيفية من أخذ الجريدة وغرزها ونحوه شفاعة، وهي ترجى بلا ريب، وأما التعليل؛ فإنه معنى شاذ، على أنه إنَّما يأتي بالتعليل في مقام الجزم واليقين، وهنا المقام مقام تردد بين التخفيف وعدمه؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: واختلفوا في المقبورَيْن هل كانا مسلمين أو كافرين؟
فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني في كتاب «الترغيب»، واحتج على ذلك بما رواه من حديث ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: «مر نبي الله عليه السلام على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة»، قال: هذا حديث حسن، وإن كان إسناده ليس بالقوي؛ لأنَّهما لو كانا مسلمين؛ لما كان لشفاعته عليه السلام لهما إلى أن ييبسا معنًى، ولكنه لما رآهما يعذبان؛ لم يستجز من عطفه ولطفه عليه السلام حرمانهما من ذلك، فشفع لهما إلى المدة المذكورة، ولما رواه الطبراني في «الأوسط»: «مر النبي عليه السلام على قبور نساء من بني النجار هلكن في الجاهلية، فسُمِعْنَ يُعَذَّبْنَ في النميمة»، قال: لم يروه عن أسامة إلا ابن لهيعة.
وقيل: كانا مسلمين، وجزم به بعضهم؛ لأنَّهما لو كانا كافرين؛ لم يَدْعُ عليه السلام لهما بتخفيف العذاب، ولا ترجاه لهما، ويقوي هذا ما في بعض طرق حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «مرَّ بقبرَيْن من قبور الأنصار جديدَيْن»، فإن تعددت الطرق وهو الأقرب لاختلاف الألفاظ؛ فلا بأس، وإن لم يتعدد؛ فهو بالمعنى المذكور؛ لأنَّ بني النجار من الأنصار، وهو لقب إسلامي لقبوا به؛ لنصرهم النبي عليه السلام، ولم يعرف بهما سَمِيٌّ في الجاهلية، ويقويه أيضًا ما في رواية مسلم: «فأجيبت بشفاعتي»، والشفاعة لا تكون إلا للمؤمن، وما في رواية أحمد المذكورة، فقال: «من دفنتم اليوم ههنا؟»، فهذا أيضًا يدل على أنهما كانا مسلمَيْن؛ لأنَّ البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب لهم.
فإن قلت: لمَ لا يجوز أن يكونا كافرين، كما ذهب إليه أبو موسى، وكان دعاء النبي عليه السلام لهما من خصائصه كما في قصة أبي طالب؟
قلت: لو كان ذلك من خصائصه عليه السلام؛ لبينه، على أنا نقول: إن هذه القضية متعددة كما ذكرنا، فيجوز تعدد حال المقبورَيْن.
فإن قلت: ذكر البول والنميمة ينافي ذلك؛ لأنَّ الكافر وإن عُذِّبَ على أحكام الإسلام؛ فإنه يُعَذَّبُ مع ذلك على الكفر بلا خلاف.
قلت: لم يبين في حديث جابر المذكور سبب العذاب ما هو، ولا ذكر فيه الترجي لرفع العذاب، كما في حديث غيره، فظهر من ذلك صحة ما ذكرنا من تعدد الحال.
ورد بعضهم احتجاج أبي موسى بالحديث المذكور بأنه ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وليس فيه ذكر سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة.
قلت: هذا من تخليط هذا القائل؛ لأنَّ أبا موسى لم يصرح بأنه ضعيف، بل قال: (هذا حديث حسن وإن كان إسناده ليس بقوي)، ولم يعلم هذا القائل الفرق بين الحسن والضعيف؛ لأنَّ بعضهم عد الحسن من الصحيح لا قسيمه، ولذلك يقال للحديث الواحد: إنه حسن صحيح، وقال الترمذي: الحسن: ما ليس في إسناده من اتُّهم بالكذب، وعبد الله بن لهيعة المصري لا يتهم بالكذب، على أن طائفة منهم قد صححوا حديثه ووثقوه؛ منهم: الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى انتهى كلامه رحمه الله ورضي الله.
والمراد بهذا القائل: ابن حجر العسقلاني، وهذا داء به يذكر الكلام مخبطًا من غير تحرير، وقد بين ذلك في «كشف الحجاب عن العوام» وفي «منهل العليل المطل»؛ فليحفظ.
قال الخطابي: فيه دليل على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنَّه إذا يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر؛ فتلاوة القرآن العظيم أعظم رجاء وبركة.
قال في «عمدة القاري»: (قلت: اختلف الناس في هذه المسألة؛ فذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين وأصحابه والإمام أحمد ابن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين إلى وصول ثواب القرآن إلى الميت؛ لما روى أبو بكر النجار في كتاب «السنن» عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مر بين المقابر، فقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} أحد عشر مرة، ثم وهب أجرها للأموات؛ أعطي من الأجر بعدد الأموات»، وفي «سننه» أيضًا عن أنس يرفعه: «من دخل المقابر، فقرأ سورة (يس)؛ خفف الله عنهم يومئذ»، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قال رسول الله عليه السلام: «من زار قبر والديه أو أحدهما، فقرأ عنده أو عندهما (يس)؛ غفر له»، وروى أبو حفص بن شاهين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: «من قال: الحمد لله رب العالمين رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، لله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله العظمة في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، هو الملك رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله النور في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، مرة واحدة، ثم قال: اللهم اجعل ثوابها لوالدي؛ لم يبق لوالديه حق إلا أداه إليهما»، وقال الثوري: المشهور عند الشافعي وجماعة أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت، والأخبار المذكورة حجة عليهم، ولكن أجمع العلماء على أن الدعاء ينفعهم ويصلهم ثوابه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشهورة؛ منها: قوله عليه السلام: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد»، ومنها: قوله عليه السلام: «اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا»، وغير ذلك.
فإن قلت: هل يَبْلُغُه ثواب الصوم أو الصدقة أو العتق؟
قلت: روى أبو بكر النجار في كتاب «السنن» من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه سأل النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله؛
%ص 192%
إن العاصي بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مئة بدنة، وإن هشام بن العاصي نحر حصته خمسين، أفيجزئ عنه؟ فقال عليه السلام: «إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصُمْتَ عنه، أو تصدَّقْتَ عنه، أو أعتقْتَ عنه؛ بَلَغَهُ ذلك»، وروى الدارقطني: قال رجل: يا رسول الله؛ كيف أبر أَبَوَيَّ بعد موتهما؟ فقال: «إن من البر بعد البر أن تصلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق عنهما مع صدقتك»، وفي كتاب القاضي الإمام أبي الحسين ابن الفراء عن أنس رضي الله عنه: أنه سأل رسول الله عليه السلام، فقال: يا رسول الله؛ إنا نتصدق عن موتانا، ونحج عنهم، وندعو لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ قال: «نعم»، وعن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين: (أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يعتقان عن علي رضي الله عنه)، وفي «الصحيح»: قال رجل: يا رسول الله؛ إن أمي توفيت أينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: «نعم».
فإن قلت: قال الله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وهو يدل على عدم وصول ثواب القرآن للميت؟
قلت: اختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال:
أحدها: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: 21] أدخل الآباء الجنة بصلاح الأبناء، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
الثاني: أنها خاصة بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأمَّا هذه الأمة؛ فلهم ما سعوا أو ما سعى لهم غيرهم، قاله عكرمة.
الثالث: المراد بـ (الإنسان): الكافر، قاله الربيع بن أنس.
الرابع: ليس للإنسان إلا ما سعى بطريق العدل، فأمَّا من باب الفضل؛ فجائز أن يزيده الله تعالى ما يشاء، قاله الحسين بن فضل.
الخامس: أن معنى {مَا سَعَى}: ما نوى، قاله أبو بكر الوراق.
السادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة شيء، ذكره الثعلبي.
السابع: أن اللام في {للإنسان} بمعنى (على)؛ تقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى.
الثامن: أنه ليس له إلا سعيه غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارة يكون سعيه في تحصيله سببه مثل سعيه في تحصيل قرابة [9] وولد يترحم عليه، وصديق يستغفر له، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة فيكتسب محبة [10] أهل الدين فيكون ذلك سببًا حصل بسيعه، حكاه أبو الفرج عن شيخه ابن الزعفراني، انتهى كلام صاحب «عمدة القاري» رحمه الله ورضي عنه، وسيأتي مزيد لذلك في (الجنائز) إن شاء الله تعالى.
اللهم فرج عنا وعن المسلمين، وارفع البلاء عنا وعنهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (أيما).
[2] في الأصل: (الشيء)، والمثبت موافق لما في «الصحاح».
[3] في الأصل: (إفعال).
[4] في الأصل: (سيفهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] زيد في الأصل: (أنه).
[6] في الأصل: (وهو حدث فيه قعرة وجفرة)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (وبينها).
[8] في الأصل: (الخطيب)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (قواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (بحبه)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (أيما).
[2] في الأصل: (الشيء)، والمثبت موافق لما في «الصحاح».
[3] في الأصل: (إفعال).
[4] في الأصل: (سيفهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] زيد في الأصل: (أنه).
[6] في الأصل: (وهو حدث فيه قعرة وجفرة)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (وبينها).
[8] في الأصل: (الخطيب)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (قواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (أيما).
[2] في الأصل: (الشيء)، والمثبت موافق لما في «الصحاح».
[3] في الأصل: (إفعال).
[4] في الأصل: (سيفهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] زيد في الأصل: (أنه).
[6] في الأصل: (وهو حدث فيه قعرة وجفرة)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (وبينها).
[8] في الأصل: (الخطيب)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (قواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/377)
(56) [باب: مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ.]
هذا (باب ما جاء)؛ أي: ورد في الحديث (في) حكم (غسل البول)؛ أي: بول الإنسان، وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب السابق البول الذي كان سببًا لعذاب صاحبه في قبره، وهذا الباب في بيان غسل ذلك البول، فالألف واللام فيه للعهد الخارجي، وأشار به المؤلف إلى أن المراد من البول: هو بول الناس؛ لأجل إضافة البول إليه في الحديث السابق لا جميع الأبوال على ما يأتي في التعليق الدَّال على ذلك، فلأجل هذا قال ابن بطال: (لا حجة فيه لمن حمله على جميع الأبوال ليحتج به في نجاسة بول سائر الحيوانات)، وفي كلامه ردٌّ على الخطابي حيث قال: فيه: دليل على نجاسة الأبوال كلها، وليس كذلك، بل الأبوال غير بول الناس على نوعين؛ أحدهما: نجسة مثل بول الناس يلتحق به لعدم الفارق، والآخر: طاهرة عند من يقول بطهارتها، ولهم أدلة أخرى في ذلك، كذا قرَّره في «عمدة القاري».
(وقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) هذا تعليق من المؤلف، وقد وصله في الباب السابق واللاحق (لصاحب القبر)؛ أي: عنده، فاللام هنا بمعنى: عند، كما في قولهم: كتبته لخمس خَلَون، أو بمعنى: لأجل، أو بمعنى: عن؛ أي: عن صاحب القبر؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، والصواب: الأول أو الثاني، والمعنى الثالث ضعيف؛ لأنَّ اللام في الآية _كما قاله النحاة_ لام التعليل؛ فافهم، والله تعالى أعلم: (كان لا يستتر)؛ بمثناتين، ولابن عساكر: (لا يستبرئ)؛ بموحدة بعد الفوقية: لا يطلب البراءة من البول، كما قدمناه، (من بوله)؛ أي: بول نفسه، (ولم يذكر سوى بول الناس)، هذا من كلام المؤلف نبَّه به على أن معنى روايته: (لا يستتر من البول) هو بول الناس لا سائر الأبوال، فلا تعلق له في حديث هذا الباب لمن احتج به في نجاسة بول غير الإنسان، ولمن قال بطهارة ذلك، فالمطلق الآتي محمول على المقيَّد، لكن للقائلين بنجاسة سائر الأبوال أدلَّة أخرى، كما للقائلين بطهارة بول غير الإنسان من الحيوانات المأكولات.
==========
%ص 193%
==================
(1/378)
[حديث: كان النبي إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به]
217# وبه قال: (حدثنا يعقوب بن إبراهيم)؛ أي: الدورقي (قال: حدثنا)، وفي رواية: (أخبرنا) (إسماعيل بن إبراهيم): هو ابن علية وليس هو أخا يعقوب المذكور، نبَّه عليه في «عمدة القاري» (قال: حدثني) بالإفراد (روح بن القاسم) التيمي العنبري البصري، المكنى بأبي القاسم، أو بأبي غياث _بالمعجمة، والمثلثة_، ورَوْح؛ بفتح الرَّاء، وسكون الواو، وبالحاء المهملة: هو المشهور، ونقل ابن التين أنَّه قرئ بضم الرَّاء، وليس بصحيح، وقيل: هو بالفتح لا نعلم فيه خلافًا، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم. (قال: حدثني) بالإفراد (عطاء بن أبي ميمونة)؛ بالتاء آخره، البصري أبو معاذ مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه (قال: كان النبي) الأعظم وفي [رواية]: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم إذا تبرَّز)؛ بتشديد الرَّاء، وبالزاي آخره؛ أي: خرج إلى البَراز _بفتح الموحدة_ للحاجة، والبَراز: اسم للفضاء الواسع، فكنوا به عن قضاء الحاجة، كما كنوا عنه بالخلاء؛ لأنَّهم كانوا يتبرَّزون في الأمكنة الخالية من الناس، قال الخطابي: (المحدِّثون يَرْوُونه بالكسر، وهو خطأ؛ لأنَّه مصدر _بالكسر_ من المبارزة في الحرب)، وقال الجوهري بخلافه، وهذا لفظه: (البراز: المبارزة في الحرب، والبراز: أيضًا كناية عن ثقل العذرة، وهو الغائط)، ثم قال: (والبَراز؛ بالفتح: الفضاء الواسع)، كذا في «عمدة القاري»، (لحاجته)؛ أي: لأجلها، ويجوز أن تكون اللام بمعنى: عند؛ يعني: عند قضاء حاجته؛ (أتيته بماء)؛ أي: لأجل الاستنجاء، (فيَغسِل به)؛ بكسر السين المهملة، وفتح التحتية، وفي رواية: (فيَغتَسل)؛ بفتح التحتية والفوقية، بينهما غين معجمة، وفي أخرى: (فتَغسَّل)؛ بفتح الفوقية بعد الفاء، وتشديد السين المفتوحة، والمراد من الكل: أنه يغسل ذَكَرَهُ الشريف بالماء من حاجة البول، وحذف المفعول لظهوره، أو للاستحياء عن ذكره، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت منه، ولا رأى مني)؛ يعني: العورة، كذا قاله الشراح، ولو قدِّر عامًّا؛ أي: فرجه ليشمل القبل والدبر؛ لكان أولى، ولعلَّ الحامل لهم على تقدير الخاص كونه كذلك في الواقع، لكن هذا بعيد في كل مرة؛ فتأمل.
وفي الحديث: استحباب التباعد عن الناس لقضاء الحاجة، والاستتار عن أعين الناس، وجواز استخدام الصغار، وجواز الاستنجاء بالماء واستحبابه، ورجحانه على الاقتصار على الحجر، واختلف فيه، والذي عليه الجمهور من السلف: أن الأفضل الجمع بين الماء والحجر، فإن اقتصر على أحدهما؛ جاز، لكن الماء أفضل؛ لأصالته في التنقية، وقيل: الحجر أفضل، وقال المالكية: لا يجوز الحجر إلا لمن عدم الماء.
ويستنبط منه حكم آخر، وهو استحباب خدمة الصالحين وأهل الفضل، والتبرك بذلك، أفاده في «عمدة القاري»، والله أعلم.
وقد استدلَّ المؤلف بهذا الحديث هنا على غسل البول، وهو أعم من الاستدلال به على الاستنجاء وغيره فلا تكرار فيه، وقد ثبتت الرُّخصة في حق المستجمر، فيستدلُّ به على وجوب غسل ما انتشر على المحلِّ من النجاسة؛ فافهم.
اللَّهُمَّ إنِّي أسألك بمحمَّد وآله وأصحابه صلَّى الله عليه وعليهم وسلَّم أنْ تفرِّج عنَّا وعن المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، آمين، آمين، آمين.
%ص 193%
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين من غير ترجمة، وهو بمنزلة الفصل عن الباب قبله، ودلالته على غسل البول من جهة التوعد، قال في «عمدة القاري»: (وثبت لفظ «باب» في رواية أبي ذر، وهو على هذه الصورة غير معرب، بل حكمه حكم تعداد الأسماء؛ لأنَّ الإعراب إنَّما يكون بعد العقد والتركيب، فإذا قلنا: هذا باب ونحوه؛ يكون معربًا، ومن قال: «باب: بالتنوين من غير وصل بشيء»؛ فقد غلط) انتهى، والقائل بذلك ابن حجر، وتبعه العجلوني تعصبًا؛ فافهم.
==================
(1/379)
[حديث: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين]
218# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية بالإفراد (محمَّد بن المُثَنَّى)؛ بضمِّ الميم، وفتح المثلثة، وتشديد النون، البصري المعروف بالزَّمِن (قال: حدثنا محمَّد بن خازم)؛ بالخاء المعجمة، والزاي المعجمة، أبو معاوية الضرير، عمي وعمره أربع سنين، الكوفي، المتوفى سنة خمس وتسعين ومئة (قال: حدثنا الأعمش): هو سليمان بن مهران الكوفي التابعي، (عن مُجَاهِد)؛ بضمِّ الميم، هو ابن جبر، (عن طاووس): هو ابن كيسان، (عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، (قال: مر النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بقبرين، فقال) عليه السلام: (إنَّهما ليُعَذَّبان)؛ أي: مَن في القبرين، فإسناد العذاب إلى القبرين من باب ذكر المحل وإرادة الحالِّ، (وما يُعَذَّبان في كبير)؛ بالموحدة، و (ما) نافية على الأظهر؛ أي: بكبير تركه عليهما إلا أنَّه كبير من حيث المعصية، (أما أحدهما)؛ أي: أحد المقبورين، وأتى بـ (أما) للتفصيل؛ (فكان) في حياته بدار الدنيا (لا يستتر)؛ بفوقيتين، من الاستتار (من البول)؛ أي: بول الإنسان، ولابن عساكر: (لا يستبرئ)؛ بالموحدة، من الاستبراء؛ أي: لا يطلب البَرَاءة من البول، (وأما الآخر) من المقبورين؛ (فكان يمشي بالنميمة)؛ أي: بين الناس بالفساد والإضرار، فإن كان على سبيل مصلحة أو ترك مفسدة؛ فهو مطلوب شرعًا، وأفاد التعبير بـ (ان) إلى أنه كانت عادتهما ذلك على سبيل الدوام والاستمرار، وماتا ولم يتوبا من ذلك، ويدل لذلك التعبير بصيغة المضارعة بعد (كان).
(ثم أخذ)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (جريدة) من النخل (رطْبة)؛ بسكون الطاء، وكأنَّه عليه السلام أخذها من أصلها؛ أي: قطعها بيده الشريفة، (فشقها نصفين)، وإنما شقَّها كذلك؛ إما ليسهل غرزها، أو لكبرها، أو غير ذلك، والله أعلم، (فغرز)؛ بالغين والزاي المعجمتين، بينها راء، وفي رواية وكيع في (الأدب): (فغرس)، وهما بمعنى واحد، وبين الزاي والسين تناوب، كما في «عمدة القاري» (في كل قبر واحدة)، وكان غرزه عليه السلام عند رأس القبر، كما قاله في «عمدة القاري»، وقال: إنه ثبت بإسناد صحيح.
(قالوا)؛ أي: الصحابة رضي الله عنهم: (يا رسول الله؛ لم فعلت)؛ أي: هذا؟ كما صرح به في رواية، (قال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام: (لعله يخفَّف) بفتح الفاء الأولى المشددة (عنهما)؛ أي: عن صاحبي القبرين العذاب (ما لم ييبَسا)؛ بتحتيتين، بعدهما موحدة، وفي رواية: (ما لم تيبَسا)؛ بفوقية، وبعدها تحتية، وبعدها موحدة، وفي أخرى: (إلا أن ييبَسا)؛ بحرف الاستثناء، والموحدة مفتوحة في الكل، ويجوز التذكير والتأنيث، فالتذكير نظرًا إلى رجوع الضمير إلى العُود؛ لأنَّ الجريدة عود، والتأنيث باعتبار رجوع الضمير فيه إلى الشقين، قال في «عمدة القاري»: (وهذا الحديث في نفس الأمر هو الذي ترجم له المؤلف بقوله: «من الكبائر ... » إلخ؛ لأنَّ مخرجهما واحد غير أن الاختلاف في السند وبعض المتن؛ لأنَّ هناك عن مُجَاهِد، عن ابن عباس، وهنا عن مُجَاهِد، عن طاووس، عن ابن عباس، وقد قلنا هناك: إن إخراج المؤلف بهذين الطريقين صحيح عنده؛ لأنَّه يحتمل أن مُجَاهِدًا سمعه تارة عن ابن عباس، وتارة عن طاووس، عن ابن عباس، فإذا بان الأمر كذلك؛ فلا يحتاج إلى طلب ترجمة هذا الحديث لهذا الباب على تقدير وجود لفظة «باب»؛ لأنَّ وجه الترجمة والمطابقة لها قد ذكر هناك.
فإن قلت: بينهما باب آخر، وهو قوله: (باب ما جاء في غسل البول)؟
قلت: هذا تابع للباب الأول؛ لأنَّه في بيان حكم من أحكامه، وليس للتابع استقلال في شأنه، فعلى هذا قول الكرماني.
فإن قلت: كيف دلالة الحديث على الترجمة؟
قلت: من جهة إثبات العذاب على ترك استتار جسده من البول وعدم غسله غير رشيد مستغنى عنه؛ لأنَّه [إن] اعتبر فيما قاله لفظة «باب» مفردًا؛ فليس فيه ترجمة، وإن لم يعتبر ذلك؛ فيكون الحديث في باب «ما جاء في غسل البول»، وليس له مناسبة ظاهرًا، والتحقيق ما ذكرته؛ فافهم) انتهى كلامه.
(وقال ابن المثنى) وفي رواية: (وقال محمَّد بن المثنى)؛ أي: المذكور: (وحدثنا وكيع)؛ أي: ابن الجراح، وهو معطوف على قوله: (حدثنا محمَّد بن خازم)، ووقع في رواية بحذف واو العطف، فليس هذا بتعليق، كما زعمه ابن حجر؛ فليحفظ، نبَّه عليه في «عمدة القاري»، وتبعه الشراح، وقد وصله أبو نعيم في «المستخرج» من طريق محمَّد بن المثنى هذا عن وكيع، ومحمَّد بن خازم، عن الأعمش، والثلاثة في هذا الإسناد الذي أفرده للتقوية للإسناد الأول.
(قال: حدثنا الأعمش)؛ سليمان بن مهران الأسدي: (سمعت مُجَاهِدًا مثلَه)؛ بالنصب مفعول لمحذوف؛ أي: يقول مثله، وصرح بالسماع؛ لأنَّ الأعمش مدلس، وعنعنة المدلس لا تعتبر إلا إذا علم سماعه، وأراد التصريح بالسماع؛ لأنَّ الإسناد الأول معنعن.
فإن قلت:
[قال في الأول: (حدثنا محمد بن المثنى)، وقال ههنا] [1]: (قال ابن المثنى) هل بينهما فرق؟
قلت: بلى أشار به إلى أنَّ (قال) أحط رتبة ودرجة من (حدَّث) كما تقول في بعض المواضع في إسناد واحد: (حدثني)؛ بالإفراد، و (حدثنا)؛ بالجمع.
فإن قلت: مُجَاهِد في هذه الطريقة يروي عن طاووس أو عن ابن عباس؟
قلت: الظاهر أنه يروي عن طاووس، عن ابن عباس؛ لأنَّه قال: (مثله)، ومثل الشيء: غيره، انتهى «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي.
==================
(1/380)
(57) [باب ترك النبيِّ والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله فِي المسجد]
هذا (باب ترك النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم والناسِ)؛ بالجر عطفًا على لفظ (النبي) عليه السلام؛ لأنَّه مجرور بالإضافة؛ والتقدير: وتركُ الناسِ، وبالرفع عطفًا على المحل؛ لأنَّ لفظ (الترك) مصدر مضاف إلى فاعله، وبالنصب على المفعول معه، (الأعرابيَّ)؛ بفتح الهمزة منصوب على أنه مفعول (ترك) المصدر، واللام فيه للعهد الذهني النحوي، والخارجي البياني؛ لأنَّه معهود بواسطة القرائن، وهو ذو الخويصرة اليماني، أو الأقرع بن حابس كما يأتي، والأعرابي: نسبة إلى الأعراب؛ لأنَّه لا واحد له، وهم سكان البادية، والعربي: نسبة إلى العرب، وهم أهل الأمصار، وليس الأعرابي جمعًا للعرب، انتهى؛ أي: الأعرابي الذي قدم المدينة، ودخل مسجد النبي الأعظم عليه السلام، وبال فيه فلم يتعرض له أحد بإشارة النبي عليه السلام (حتى فرَغ) بفتح الراء (من بوله في المسجد)؛ أي: النبوي، فالألف واللام فيه للعهد الذهني كما سبق، والمشهور كسر الجيم، ويجوز فتحها، وهو القياس، والظرف إما حال من (بوله)، أو صفة له، وإنما تركه عليه السلام حتى فرغ وأمر الناس بتركه فتركوه؛ لأنَّه شَرَعَ في المفسدة، فلو منعه من إتمامها فيه؛ لدار الأمر بين أن يقطعها فيتضرر وبين ألَّا يقطعها؛ فلا يأمن تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو المسجد فيؤخذ منه أنه إذا تعارض مفسدتان يرتكب أخفهما، وهي قاعدة من قواعد الفروع ذكرها الإمام زين الدين في «الأشباه والنظائر»؛ فليحفظ.
==========
%ص 194%
==================
(1/381)
[حديث: أن النبي رأى أعرابيًا يبول في المسجد]
219# وبه قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل)؛ هو التبوذكي البصري، وسقط في رواية: (ابن إسماعيل) (قال: حدثنا هَمَّام)؛ بفتح الهاء، وتشديد الميم الأولى، هو ابن يحيى بن دينار العَوْذي؛ بفتح العين المهملة، وسكون الواو، وبالذال المعجمة، كان ثبتًا في كل المشايخ، المتوفى
%ص 194%
سنة ثلاث وستين ومئة (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (إسحاق)؛ هو ابن عبد الله بن أبي طلحة بن سهل الأنصاري، (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، وعند مسلم: (حدثني أنس): (أن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) بمعنى: أبصر (أعرابيًّا)؛ بالنصب مفعوله (يبول): جملة في محل النصب على أنَّها صفة لـ (أعرابيًّا)؛ والتقدير: أبصر أعرابيًّا بائلًا، وجوَّز الكرماني أن تكون حالًا، ومنعه في «عمدة القاري»، وتبعه العجلوني لقول «الألفية»:
~وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إِنْ ... لَمْ يَتَأَخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ [أَوْ يَبِنْ]
وعلله في «عمدة القاري» بأنَّه لا يقع الحال على النَّكرة إلا إذا كان مقدمًا على الحال؛ أي: غالبًا، انتهى وهذا مراده؛ فافهم، وبه سقط زعم العجلوني؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: (وعن عبد الله بن نافع المدني: أن هذا الأعرابي كان الأقرع بن حابس، حكاه أبو بكر التاريخي، وأخرج أبو مسلم المدني هذا الحديث في «الصحابة» من طريق محمَّد بن عطاء، عن سليمان بن يسار قال: «اطلع ذو الخويصرة اليماني، وكان رجلًا جافيًا ... »؛ فذكر الحديث تامًّا بمعناه وزيادة، ولكنه مرسل، وفي إسناده أيضًا مبهم، ولكن فهم منه أن الأعرابي المذكور هو ذو الخويصرة، ولا يبعد ذلك لجلافته وقلة أدبه) انتهى، وقيل: إنه عيينة بن حصن.
وعلى كلٍّ؛ فهذا الأعرابي كان من جفاة الأعراب؛ لما في «أبي داود» من حديث الزُّهْرِي، عن سَعِيْد، عن أبي هريرة: أن أعرابيًّا دخل المسجد ورسول الله عليه السلام جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي عليه السلام له: «لقد تحجرت واسعًا»، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي عليه السلام وقال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تُبْعَثُوا معسرين، صبوا عليه سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء»، وعند ابن ماجه: «لقد حصرت واسعًا أو اختصرت واسعًا، ويلك! أو ويحك! لو عممت؛ لاستجيب لك»، وقوله: (حصرت) من الحصر؛ بالصاد المهملة، وهو الحبس والمنع، لكن لما رفق به النبي عليه السلام وعلَّمه من غير عنف وفقه في الإسلام؛ قام إلى النبي عليه السلام، وقال له: بأبي أنت وأمي، فلم تؤنِّب ولم تسب، انتهى.
(في المسجد) الألف واللام فيه للعهد الذهني؛ أي: مسجد النبي الأعظم عليه السلام، وهو متعلق بـ (يبول) لا صفة (أعرابيًّا)، أو حال من فاعل (يبول) إلا أن قُدِّر: يبول فيه؛ فتأمل.
(فقال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، وهو عطف على مقدر؛ أي: فتناوله الناس بألسنتهم، فقال: (دعُوه)؛ بضمِّ العين المهملة؛ أي: اتركوه، وهو أمر بصيغة الجمع من (يدع) [1] تقول: دع دعا دعوا؛ بضمِّ العين، والعرب أماتت ماضيه، إلا ما جاء شاذًّا في قوله تعالى: (مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ) [الضحى: 3] بالتخفيف، وفي رواية مسلم: (لا تزرموه ودعوه)، وهو بتقديم الزاي على الراء المهملة؛ بمعنى: لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم الدمع والدم؛ انقطعا، وأزرمته أنا، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى الأعرابي، ففيه المبادرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه مبادرة الصحابة إلى الإنكار بحضرة الرسول عليه السلام من غير مراجعة.
فإن قلت: أليس هذا من باب التقدم بين يدي الله ورسوله؟
قلت: لا؛ لأنَّ ذلك مقرر عندهم في الشرع من مقتضى الإنكار، فأَمْرُ الشارع متقدم على ما وقع منهم في ذلك.
وإن لم يكن في هذه الواقعة الخاصة إذن، فدل على أنه لا يشترط الإذن الخاص، ويكفي الإذن العام، وفيه دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، وفيه مراعاة التيسير على الجاهل، والتألف للقلوب؛ لأنَّه لو لم يتركوه؛ لتنجس بدنه، أو ثوبه، أو موضع آخر من المسجد، أو يقطعه فيتضرر بذلك، أفاده في «عمدة القاري».
(حتى إذا فرغ)؛ أي: من بوله، كما صرح به في رواية، وهذا وما بعده من كلام أنس رضي الله عنه؛ (دعا)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: جواب (إذا) الشرطية، و (حتى) ابتدائية، ويحتمل أن تكون (حتى) للغاية لمقدر؛ أي: فتركوه، و (إذا) ظرفية فقط، و (دعا) جواب (لمَّا) مقدرة؛ أي: فلما فرغ؛ دعا (بماء)؛ أي: طلب النبي عليه السلام ماء، فهو متعلق بـ (دعا)؛ لتضمنه معنى ما يتعدى بالباء، أو زائدة في المفعول؛ لأنَّه بمعنى: طلب، وفي رواية ابن صاعد عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سَعِيْد، عن أنس: فقال عليه السلام: «احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوبًا من ماء»، وفي رواية أبي داود عن عبد الله بن معقل [2] بن مقرن: «خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء»، وعند المؤلف الآتي: (فلما قضى بوله؛ أمر عليه السلام بذنوب من ماء فأهريق عليه)، وفي رواية مسلم: (فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو فشنه عليه)، وفي رواية النسائي: (فلما فرغ؛ دعا بدلو فصب عليه)، وفي رواية ابن ماجه: (ثم أمر بسَجْلٍ من ماء فأفرغ على بوله)، (فصبه)؛ أي: أمر بسكب الماء على البول، فالصب: السكب، يقال: صببت الماء فانصب؛ أي: سكبته فانسكب، والماء منصب من الجبل؛ أي: ينحدر، ويقال: ماء صب، وهو كقولك: ماء سكب، ويأتي (فصب) بدون ضمير المفعول، وفي رواية مسلم: (فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو فسنه عليه)؛ بالسين المهملة، وفي رواية الطحاوي بالمعجمة، والفرق بينهما أن السن بالمهملة: الصب المتصل، وبالمعجمة: الصب المنقطع، قاله ابن الأثير، والذَّنوب؛ بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيم، وقيل: لا تسمى ذَنوبًا إلا إذا كان فيها ماء، كذا في «عمدة القاري»، واستنبط الشافعي من الحديث: أن الأرض إذا أصابتها نجاسة وصب عليها الماء؛ تطهر، ولا يشترط حفرها، وقال أئمتنا الأعلام أصحاب الإمام الأعظم التابعي الجليل الهمام: إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة؛ فإن كانت الأرض رخوة؛ صب عليها الماء حتى يتسفل فيها، فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفل الماء؛ يحكم بطهارتها ولا يعتبر العدد فيه وإنما هو على اجتهاده وغالب ظنه أنها طهرت، ويقوم في الأرض مقام العصر فيما يحتمل العصر، وعلى قياس ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم أنه يصب عليها الماء ثلاث مرات، ويستفل [3] في كل مرة، وروي عن الإمام أبي يوسف أنه يصب عليها بحيث لو كانت هذه النجاسة في الثوب؛ طهر، واستحسن هذا في «الذخيرة»، وإن كانت الأرض صلبة؛ فإن كانت صعودًا يحفر في أسفلها حفيرة ويصب الماء عليها ثلاث مرات، ويتسفل [4] إلى الحفيرة، ثم يكبس الحفيرة، وإن كانت صلبة مستوية؛ صُبَّ عليها الماء ثلاث مرات وجُففت كل مرة بخرقة طاهرة، وكذا لو صب عليها الماء بكثرة حتى لا يظهر أثر النجاسة، ثم يتركها حتى تنشف؛ طهرت، وكذا لو قلبها بجعل الأعلى أسفل وعكسه، أو كبسها بتراب ألقاه عليها فلم يوجد ريح النجاسة؛ طهرت، وإن كانت الأرض مجصصة، فقال في «الواقعات»: يصب عليها الماء، ثم يدلكها وينشفها بخرقة ثلاث مرات، فتطهر، وجعل ذلك بمنزلة غسل الثوب في الإجانة، والتنشف بمنزلة العصر، كذا في «البحر» عن «السراج»، ومثله في «الخلاصة»، و «المحيط»، وفي «الذخيرة» عن الحسن بن أبي مطيع: أنه إذا صب عليها الماء فجرى قدر ذراع؛ طهرت الأرض والماء طاهر بمنزلة الماء الجاري، وفي «المنتقى»: أصابها المطر غالبًا فجرى عليها؛ فذلك مطهر لها، ولو قليلًا لم يجر عليها؛ لم تطهر، انتهى.
ودليل ما قلناه أحاديث كثيرة منها ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي في مسجد النبي عليه السلام فبال فيه، فقال النبي عليه السلام: «خذوا ما بال عليه من التراب وألقوه وأهريقوا مكانه ماء»، ثم قال أبو داود: (وهو مرسل، وابن معقل لم يُدْرِكِ النبي عليه السلام)، وقال الخطابي: (هذا
%ص 195%
الحديث ذكره أبو داود وضعفه، وقال: هو مرسل)، ورده في «عمدة القاري» بأن أبا داود لم يقل: هذا ضعيف، وإنما قال: هو مرسل، وهو مرسل من طريقين؛ أحدهما: ما رواه أبو داود، والآخر ما رواه عبد الرزاق في «مصنفه»، وقد روي هذا الحديث من طريقين مسندين؛ أحدهما: عن سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمكانه، فاحتفر وصب عليه دلو من ماء، أخرجه الدارقطني في «سننه»، والثاني: أخرجه الدارقطني أيضًا عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سَعِيْد، عن أنس: أن أعرابيًّا بال في المسجد فقال عليه السلام: «احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذَنوبًا من ماء»، وروى عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: بال أعرابي في المسجد فأرادوا أن يضربوه فنهاهم النبي عليه السلام، وقال: «احفروا مكانه واطرحوا عليه دلوًا من ماء، علِّموا ويسروا»، والقياس أيضًا يقتضي هذا الحكم؛ لأنَّ الغسالة نجسة، فلا تطهر الأرض ما لم تحفر وينقل التراب.
فإن قلت: قد تركتم الحديث الصحيح واستدللتم بالحديث الضعيف وبالمرسل.
قلت: قد عملنا معاشر الحنفية بالحديث الصحيح فيما إذا كانت الأرض صلبة، وعملنا بالحديث الضعيف _على زعمكم لا عندنا_ فيما إذا كانت الأرض رخوة، والعمل بالكل أولى من العمل بالبعض وإهمال البعض كما زعمتم، وأما المرسل؛ فهو حجة ومعمول به عندنا، والذي يترك العمل بالمرسلات يترك العمل بأكثر الأحاديث، وفي اصطلاح المحدثين: أن مرسلَيْن صحيحَيْن إذا عارضا حديثًا صحيحًا مسندًا؛ كان العمل بالمرسلَيْن أولى فكيف مع عدم المعارضة، على أن حديث الباب مطلق، وأحاديثنا مقيدة، والقاعدة عند المحققين أنه يحمل المطلق على المقيد، فيتعين العمل بأحاديثنا؛ فليحفظ.
وفي الحديث دليل على صيانة المساجد وتنزيهها من الأقذار والنجاسات، يدل لذلك أن هذا الحديث أخرجه مسلم من طريق عكرمة بن عمار، عن إسحاق مطولًا، وزاد فيه: ثم إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعاه _أي: الأعرابي_ فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنَّما هي لذكر الله، والصَّلاة، وقراءة القرآن»، قال في «عمدة القاري»: وقوله: (وإنما هي لذكر الله) من قصر الموصوف على الصفة، ولفظ (الذكر) عام يتناول قراءة القرآن، وقراءة العلم، ووعظ الناس، و (الصَّلاة) أيضًا عام يتناول المكتوبة والنافلة، لكن النافلة في المنزل أفضل، ثم غير هذه الأشياء؛ ككلام الدنيا، والضحك، واللبث فيه بغير نية الاعتكاف مشتغلًا بأمر من أمور الدنيا؛ مكروه، وأما الجلوس فيه لعبادة، أو قراءة علم، أو درسه، أو سماع وعظ، أو انتظار صلاة، أو غير ذلك؛ فمستحب ويثاب على ذلك، وإن لم يكن لشيء من ذلك؛ كان مباحًا، وتركه أولى؛ لما في الحديث: «الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»، وأما النوم فيه؛ فمذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التفصيل؛ فإن كان مسافرًا؛ لا يكره سواء كان مقيلًا أو مبيتًا، وإن كان مقيمًا متوطنًا؛ فمكروه، وهو قول مالك، والحسن، وعطاء، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه، وأهل الصفة، والمرأة صاحبة الوشاح، والعرنيين [5]، وثمامة بن أثال، وصفوان بن أمية؛ كانوا ينامون في المسجد، وهي أخبار مشهورة صحيحة كما ذكره اليعمري، وأما الوضوء فيه؛ فإن كان في مكان معد لذلك من زمن واقفه؛ فمباح، وإن توضأ في مكان غير معد لذلك، فإن كان في طشت أو نحوه؛ فلا بأس به، وإن كان على الأرض فيبلها ويتأذى منه الناس؛ فمكروه، هذا مذهبنا، وهو منقول عن ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاووس، والنخعي، وابن القاسم صاحب مالك، وإذا افتصد في المسجد؛ فإن كان في غير الإناء؛ فحرام، وإن كان في الإناء؛ فمكروه، ويجوز الاستلقاء في المسجد ومد الرجل وتشبيك الأصابع؛ للأحاديث الواردة الثابتة في ذلك، وتمامه في «عمدة القاري،» اللهم فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (يدل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مغفل)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[3] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (والمغربيين)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (يدل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مغفل)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[3] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (يدل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مغفل)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[3] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/382)
(58) [باب صب الماء على البول في المسجد]
هذا (باب) حكم (صب الماء)؛ أي: سكبه (على البول)؛ أي: بول البائل (في المسجد)؛ أي مسجد من مساجد الله عز وجل، وإذا جعلنا الألف واللام فيه للعهد؛ يكون المعنى: في مسجد النبي الأعظم عليه السلام أو في غيره.
==========
%ص 196%
==================
(1/383)
[حديث: دعوه وهريقوا على بوله سجلًا من ماء أو ذنوبًا من ماء]
220# وبالسَّند قال: (حدثنا أبو اليَمَان)؛ بفتح التحتية، وتخفيف الميم، الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة الحمصي، (عن الزُّهْرِي)؛ محمَّد بن مسلم ابن شهاب، (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الفوقية، وفتح الموحدة، (بن مسعود)؛ هو أخٌ لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وروى سفيان بن عيينة، عن الزُّهْرِي: (عن سَعِيد بن المسيب) بدل (عبيد الله)، وتابعه سفيان بن جبير قال: (ظاهر أن الراويتين صحيحتان): (أن أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (قال: قام أعرابي)؛ بفتح الهمزة، الأقرع بن حابس التميمي، أو ذو الخويصرة اليماني، أو غيرهما.
وزاد ابن عيينة عند الترمذي وغيره: أنه صلى، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال له النبي عليه السلام: «لقد تحجرت واسعًا»، فلم يلبث أن بال في المسجد، وعند ابن ماجه: «لقد اختصرت واسعًا»، وعنده من حديث واثلة بن الأسقع: «لقد حصرت واسعًا»، وعنده أيضًا: «لقد حصرت واسعًا ويلك أو ويحك!»، وقوله: (لقد تحجرت واسعًا)؛ أي: ضيَّقْتَ ما وسَّعَه الله تعالى، وخصصتَ به نفسك دون غيرك، ويروى: (احتجزت) بمعناه [1]، ومادته حاء مهملة، ثم جيم، ثم راء، وقوله: (احتصرت)؛ بالمهملتين من الحصر؛ وهو الحبس والمنع، كذا في «عمدة القاري».
(فبال في المسجد)؛ أي: شرع في البول في ناحية من المسجد النبوي، ولأبي ذر: (قام أعرابي في المسجد فبال)؛ أي: فيه، (فتناوله الناس)؛ أي: وقعوا فيه يؤذونه بألسنتهم لا بأيديهم، وعند المؤلف في (الأدب): (فثار إليه الناس)، وله في رواية عن أنس: (فقاموا إليه)، وفي رواية أنس أيضًا في هذا الباب: (فزجره الناس)؛ أي: بقولهم له: مه مه، كما للنسائي، وأخرجه البيهقي من طريق عبدان، وفيه: (فصاح به الناس)، ولمسلم من طريق إسحاق عن أنس: (فقال الصحابة رضي الله عنهم: مه مه)، قلت: و (مه) كلمة بنيت على السكون، وهي اسم سمي به الفعل؛ ومعناه: اكفف؛ لأنَّه للزجر، فإن وصلت؛ نونت، فقلت: مهٍ مهْ، و (مه) الثاني تأكيد كما تقول: صه صه، وفي رواية للدارقطني: (فأقاموه، فقال عليه السلام: «دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة، فصبوا على بوله الماء»)، كذا في «عمدة القاري».
(فقال لهم)؛ أي: للصحابة (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: دعُوه)؛ بضمِّ العين المهملة؛ أي: اتركوه يتمم بوله، وفي رواية الدارقطني: (دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة)، كما سبق؛ فافهم، (وهَريقوا)؛ بفتح الهاء، وعند المؤلف في (الأدب): (وأهريقوا)، وأصله: أريقوا، من الإراقة، فالهاء زائدة، وعلى الرواية الأولى تكون الهاء بدلًا من الهمزة؛ أي: صبوا (على بوله)؛ أي: بول الأعرابي بعد أن يَجِفَّ حتى يتسفل الماء، على التفصيل الذي سبق، فإن الحديث مطلق، والأحاديث التي تقدمت مقيدة وعليها المعول (سَجْلًا)؛ بفتح السين المهملة، وسكون الجيم: الدلو الضخم المملوء ماء، وهو مذكر (من ماء) صفة لـ (سَجْلًا)، ونكر (ماء) ليشمل المائعات فإن حكمها حكم الماء في الإزالة؛ فافهم، (أو ذَنوبًا من ماء)؛ بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيمة، ولا تسمى ذَنوبًا إلا إذا كان فيها ماء، وهو يذكر ويؤنث، قال الكرماني: (ولفظ «من» زائدة، وزيدت تأكيدًا، وكلمة «أو» تحتمل أن تكون من كلامه عليه السلام فتكون للتخيير، وأن تكون من الراوي،
%ص 196%
فتكون للترديد)، ورده في «عمدة القاري» بأن اعتبار الأداء باللفظ وإن كان الجمهور على عدم اشتراطه وأن المعنى كافٍ، ويحمل (أو) ههنا على الشك ولا معنى فيه للتنويع، ولا للتخيير، ولا للعطف، فلو كان الراوي يرى جواز الرواية بالمعنى؛ لاقتصر على أحدهما، فلمَّا تردد في التفرقة بين الدلو والسجل، وهما بمعنى واحد؛ عُلِم أن ذلك التردد لموافقة اللفظ، قاله القشيري، ولقائل أن يقول: إنَّما يتم هذا لو اتحد المعنى في السجل والدلو لغة، لكنه غير متحد، فالسجل: الدلو الضخمة المملوءة، ولا يقال لها فارغةً: سجل، هذا هو الصواب، انتهى.
(فإنما بعثتم ميَسِّرين)؛ بتشديد السين المهملة المكسورة، قبلها تحتية مفتوحة، منصوب على الحال، فإن قلت: المبعوث هو النبي الأعظم عليه السلام؛ قلت: لما كان المخاطبون مقتدين به ومهتدين بهديه كانوا مبعوثين أيضًا، فجمع اللفظ لذلك [2]، والحاصل أنه على طريقة المجاز؛ لأنَّهم لما كانوا في مقام التبليغ منه في حضوره وغيبته؛ أطلق عليهم ذلك، أو لأنَّهم لما كانوا مأمورين قبله بالتبليغ فكأنهم مبعوثون من جهته، كذا في «عمدة القاري».
(ولم تبعثوا معَسِّرين)؛ بكسر السين المهملة، وفتح العين المهملة، حال لـ (ميسرين)، وفائدة هذا مع أنه قد حصل المراد من قوله: (بعثتم) التأكيد بعد التأكيد، ودلالة على أنَّ الأمر مبني على اليسر قطعًا، فأشار عليه السلام بهذا إلى أنَّ بني إسرائيل إذا تنجس لهم ثوب؛ لا يطهره الماء بل يقرضوه، وإذا تنجست الأرض؛ لا تطهر أبدًا، على أنَّ في شريعتهم لا تصح الصَّلاة إلا في المسجد، كما يأتي في «الصحيح».
وبهذا التقرير اضمحلَّ ما زعمه العجلوني من أن (فيه رد على من أوجب الحفر في الأرض إذ لو وجب؛ لزال التيسير) انتهى.
ولم يدر الأحاديث التي وردت في الحفر التي قدَّمناها الصحيحة المسندة والمرسلة، والذي أوجب الحفر إنَّما هو النبي الأعظم عليه السلام؛ فانظر إلى قلة الأدب، وعدم الحياء؛ فليحفظ، ومنشأ ذلك التعصب والعناد، وقد سرق طبعه من طبع ابن حجر فإنَّ له العصبية الزائدة، والعنادية المكابرة؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ذلك)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/384)
[حديث أنس في قصة الأعرابي]
221# وبه قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحدة، لقب عبد الله العتكي (قال: أخبرنا عبد الله)؛ هو ابن المبارك الإمام (قال: أخبرنا يحيى بن سَعِيد)؛ هو الأنصاري (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بهذا)؛ أي: باللفظ السابق لا اللاحق، كما زعمه العجلوني لعدم اضطلاعه، وأخرج البيهقي هذا الحديث من طريق عبدان هذا ولفظه: (جاء أعرابي إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فلما قضى حاجته، فأقام إلى ناحية المسجد، فبال، فصاح الناس به، فكفهم عنه، ثم قال: «صبوا عليه دلوًا من ماء».
==========
%ص 197%
==================
(1/385)
(58) [باب يهريق الماء على البول]
(ح) ثبتت في بعض الروايات، وقدمنا أنها إشارة للتحويل، وفي رواية بدلها: (باب يهريق الماء على البول)؛ بفتح الهاء؛ أي: يسكب، وفاعله عائد لما يفهم من الفعل، و (الماء) مفعوله، وسقط في أكثر الروايات لفظ الباب والترجمة، ولهذا لم يتعرض لها في «شرح الإمام البدر» قدس سره، بل ذكر الحديث فقط لتعلقه بالترجمة السابقة.
==================
(1/386)
[حديث أنس: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ]
221#م (وحدثنا)؛ بواو العطف على قوله: (حدثنا عبدان)، وهذا يعين سقوط لفظ (باب) والترجمة، وفي رواية: (حدثنا)؛ بإسقاط الواو (خالد بن مَخْلَد) بفتح الميم، وسكون المعجمة، وفتح اللام (قال: حدثنا سليمان)؛ هو ابن بلال، (عن يحيى بن سَعِيْد)؛ أي: الأنصاري، (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه أنه (قال: جاء أعرابي) بفتح الهمزة (فبال في طائفة المسجد)؛ أي: في ناحية من نواحي المسجد النبوي، (فزجره الناس)؛ أي: على البول بألسنتهم لا بأيديهم، (فنهاهم النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: عن زجره للمصلحة في دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفَّهما، (فلمَّا قضى بوله)؛ أي: فرغ الأعرابي من بوله؛ (أمر النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: بعض أصحابه، وهذا يدل على أنَّ قليل النجاسة معفو عنه، وأنَّ الاستنجاء ليس بواجب؛ لأنَّه لو كان قليل النجس غير معفو عنه؛ لأمر النبي عليه السلام الأعرابي بإزالتها، ولأنَّه لو كان الاستنجاء واجبًا؛ لأمره به، فعدم أمره عليه السلام وتركه على ما فرغ دليل واضح على ما قلناه، ففيه ردٌّ على من زعم أن قليل النجاسة مانع لصحة الصَّلاة، وأن الاستنجاء واجب؛ فافهم، (بذَنوب)؛ بفتح الذال المعجمة: الدلو المملوء (من ماء) صفة لـ (ذنوب)، ونكر (ماء) ليشمل المائعات، فإن حكمها حكم الماء في الإزالة، (فأُهْريق)؛ بضمِّ الهمزة أوله، وبسكون الهاء أو ضمها، ولأبي ذر: (فهُرِيق)؛ بضمِّ الهاء، وكسر الراء على صيغة المجهول؛ ومعناه: أريق، والرواية الأولى رواية الباقين، وقال ابن التين: (هذا لا يصح إلا على قول سيبويه؛ لأنَّه فعل ماض، وهاؤه ساكنة، وأما على الأصل؛ فلا تجتمع الهمزة والهاء في الماضي) قال: ورويناه بفتح الهاء، ولا أعلم لذلك وجهًا، (عليه)؛ أي: على بول الأعرابي بعد أن جفَّ وتَسَفَّلَ الماء، أو حفر حفرة وأخرج التراب إن كانت صلبة، كما قدمناه من الأحاديث الصحيحة المسندة والمرسلة.
وزعم ابن حجر أنَّ في الحديث تعيين الماء لإزالة النجاسة؛ لأنَّ الجفاف بالريح أو الشمس لو كان يكفي؛ لما حصل التكلف بطلب الدلو.
قلت: وهذا الاستدلال فاسد؛ لأنَّ قوله في الحديث: (ماء)؛ بالتنكير يشمل الماء المطلق والمائعات المزيلة، وأشار به إلى أن حكم المائعات حكم الماء في الإزالة، فإنَّ ذكر الماء هنا لا يدل على نفي غيره؛ لأنَّ الواجب هو الإزالة، والمائع مزيل، فيقاس عليه كل ما كان مزيلًا؛ لوجود الجامع بينهما، على أن هذا الاستدلال يشبه الواقعة على الأرض طاهرة، وذلك لأنَّ الماء المصبوب لا بد أن يتدافع عند وقوعه على الأرض، ويصل إلى محل لم يُصِبْهُ البول مما يجاوره، فلولا أن الغسالة طاهرة؛ لكان الصب ناشرًا للنجاسة، وذلك خلاف مقصود التطهير.
وزعم ابن حجر أيضًا أن في الحديث أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء؛ لا تطهر.
وهو استدلال فاسد أيضًا؛ لأنَّ ذكر الماء في الحديث لوجوب المبادرة إلى تطهير المسجد، وتركه إلى الجفاف تأخير لهذا الواجب، وإذا تردد الحال بين الأمرين لا يكون دليلًا على أحدهما بعينه، ولنا أحاديث أخر؛ منها: ما رواه أبو داود عن عائشة، عن النبي الأعظم عليه السلام أنه قال: «ذكاة الأرض يبسها»؛ أي: طهارتها جفافها، إطلاقًا لاسم السبب على المسبب؛ لأنَّ الذكاة وهي الذبح سبب الطهارة في الذبيحة، فكذا الجفاف سبب الطهارة في الأرض، ومنها: ما رواه محمَّد ابن الحنفية، عن أبيه، عن النبي عليه السلام: «أيما أرض جفت؛ فقد ذكت»، ويدل لما قلنا قوله في الحديث: «فإنما بعثتم ميسرين»، ولو قلنا بعدم طهارتها؛ لزال معنى التيسير المأمور به، ولصاروا معسرين، وهو خلاف المأمور به، فتجوز الصَّلاة على الأرض التي أصابتها نجاسة، وجفت بالشمس أو الريح، وهو مذهب الإمام الأعظم، وسفيان الثوري، والحسن البصري، والجمهور، لكن اختلف في التيمم منها، فروي عن الإمام الأعظم جواز التيمم منها؛ كالصَّلاة عليها، وروي عنه عدم جواز التيمم منها، وهو ما مشى عليه أصحاب المتون، وهو الأظهر وعليه الفتوى، كما في «التبيين»، و «الإمداد»؛ لأنَّ طهارة
%ص 197%
الصعيد ثبتت بنص الكتاب؛ وهو قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]؛ أي: طاهرًا فلا تتأدى طهارتها بما ثبت في الأحاديث؛ لأنَّها خبر الواحد، وهو لا يفيد القطع فلا تكون الطهارة قطعية بجفاف الأرض والكتاب يقتضي ذلك، والله أعلم.
وزعمت الشافعية أن العصر في الثوب المغسول من النجاسة لا يجب؛ للحديث المذكور.
قلت: وهذا الاستدلال فاسد؛ لأنَّهم قاسوه على الأرض، ولا ريب أن هذا قياس بالفارق، والفرق ظاهر؛ لأنَّ الثوب ينعصر بالعصر بخلاف الأرض، كما لا يخفى على أولي الألباب.
فائدة: قد نظم المطهِّرات الإمام العلامة شيخ الإسلام والمسلمين خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ علاء الدين الحصكفي صاحب «الدر المختار»، و «الدر المنتقى» في منظومته، فقال:
~وَغَسْلٌ وَمَسْحٌ وَالْجَفَافُ مُطَهِّرُ وَنَحْتٌ ... وَقَلْبُ الْعَيْنِ وَالْحَفْرُ يُذكرُ
~وَدَبْغٌ وَتَخْلِيلٌ ذَكَاةٌ تَخَلُّلُ ... وَفَرْكٌ وَدَلْكٌ وَالدُّخُولُ التَّغَوُّرُ [1]
~تَصَرُّفُهُ فِي الْبَعْضِ نَدْفٌ وَنَزْحُهَا ... وَنَارٌ وَغَلْيٌ غَسْلُ بَعْضٍ تَقَوُّرُ
وقد بسطنا ذلك في شرحنا «منهل الطلاب شرح الكتاب»؛ أي: مختصر الإمام أبي الحسن القدوري قدس سره آمين.
==================
(1/387)
(59) [باب بول الصبيان]
هذا (باب) حكم (بول الصِّبيان)؛ بكسر الصاد المهملة، جمع صبي، قال الجوهري: (الصبي: الغلام، والجمع صبية وصبيان، وهو من الواوي)، وفي «المخصص» ذكر ابن سيده عن ثابت: (يكون صبيًّا ما دام رضيعًا)، وفي «المنتخب»: (أول ما يولد الولد يقال له: وليد، وطفل، وصبي)، قال ابن دريد: (وصبيان وصبوان، وهذه أضعفها)، قال ابن السكيت: (صبية وصبوة)، وفي «المحكم»: (صَبية، وصُبية، وصَبوان، وصُبوان)، وزعم ابن حجر أن (صِبيان)؛ بكسر الصاد، ويجوز ضمها، جمع صبي، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: في الضم لا يقال إلا صبوان؛ بالواو، وقد وهم هذا القائل حيث لم يعلم الفرق بين المادة الواوية، والمادة اليائية، وأصل صبيان: صبوان؛ بالكسر؛ لأنَّ المادة واوية، فقلبت الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها) انتهى.
واعترضه القسطلاني بعبارة «القاموس»: (الصبي: من لم يفهم، وجمعه أصبية، وأصب، وصبوة، وصبية، وصبوان، وصبيان، وتضم هذه الثلاثة) انتهى.
قلت: وهو لا ينهض لما ادَّعاه ابن حجر، ولم يكتف به صاحب «عمدة القاري» لمعاصرته له، وإنما المشهور المعول عليه في اللغة ما ذكره أولًا عن أهل اللغة؛ فليحفظ.
==========
%ص 198%
==================
(1/388)
[حديث: أتي رسول الله بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه]
222# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ هو التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، (عن هِشام) بكسر الهاء (بن عُروة)؛ بضمِّ العين المهملة، (عن أبيه): عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، (عن عائشة أم المؤمنين) رضي الله تعالى عنها: (أنها قالت: أُتِي)؛ بضمِّ الهمزة، وكسر الفوقية، مبني للمفعول، وسقط لفظ (أنها) لابن عساكر (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) بالرفع نائب فاعل (بصبي)؛ هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، كما ذكره الدارقطني من حديث الحجاج بن أرطاة، وأنَّها قالت: (فأخذته أخذًا عنيفًا)، وزعم ابن حجر أنه ابن أم قَيْس الآتي في الحديث الثاني، وقيل: إنه الحسن أو الحسين ابني علي بن أبي طالب؛ لما روى الطبراني من حديث أم سَلَمَة بإسناد حسن، قالت: (بال الحسن أو الحسين على بطن رسول الله عليه السلام ... )؛ الحديث، وللطبراني أيضًا من حديث زينب بنت جحش: (أن الحسن جاء يحبو والنبي عليه السلام نائم، فصعد على بطنه، ووضع ذَكَرَهُ في سرته فبال)، وروى ابن منده: (أنه وقع لسليمان بن هشام بن عُتْبَة بن أبي وقاص) انتهى.
قلت: واستظهر صاحب «عمدة القاري» القول الأول، فإن الدارقطني قد عيَّن أنه عبد الله بن الزبير، وما زعمه ابن حجر أنَّه ابن أم قَيْس غير ظاهر أصلًا، ولا دليل يدل عليه، فالأظهر ما قاله في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فبال) أي: الصبي (على ثوبه)، يحتمل رجوع الضمير إلى ثوب الصبي، وهو الظاهر كما قاله ابن شعبان من المالكية، ويحتمل رجوعه إلى ثوب النبي الأعظم عليه السلام، وزعم ابن حجر أنه الصواب، قلت: لا دليل يدل على هذا الصواب، بل الأمر محتمل لكلٍّ منهما، وكونه راجعًا إلى الصبي أظهر، لا يقال: إن بول الصبي على ثوبه لا ينافي وصوله إلى ثوب النبي عليه السلام؛ لأنَّه لازم له؛ لأنَّا نقول: من عادة الصبيان الصغار أن يجعل لهم شيء ثخين شبه بردعة البرذون، ويوضع على القبل والدبر حتى لا يصل شيء من بوله على غيره من الحاملين له، فلا شكَّ أنَّه لو بال فيه أو تغوط لا يصل شيء إلى ثوب حامله، كما هو مشاهد عادة، فبوله على ثوبه ينافي وصوله إلى ثوب النبي عليه السلام، وهو غير لازم له؛ للحائل المانع من ذلك؛ فافهم.
(فدعا) أي: النبي الأعظم عليه السلام (بماء، فأتْبَعه إياه)؛ بسكون المثناة الفوقية، وفتح الموحدة؛ أي: فأتبع رسولُ الله عليه السلام البولَ الذي على الثوب الماءَ بصبه عليه حتى غمره وسال عليه؛ لأنَّه يلزم من التغمير السيلان ضرورة، ويدل لذلك ما رواه ابن المُنْذِر من طريق الثوري، عن هشام: (فصب عليه الماء)، فالصب: السكب، فيلزم من السكب السيلان ضرورة؛ فافهم.
وليس لذكر الصبي في الحديث تخصيص له بحكم خاص، بل إنَّما هو لبيان الواقعة فبول الصبي والصبية والرجل والمرأة سواء في النجاسة؛ لحديث «الصحيحين» أنه عليه السلام قال: «استنزهوا من البول»، وهو عام فيشمل جميع ما ذكر، ولما سبق في أحاديث «البخاري» من الوعيد على عدم الاستنزاه من البول، فلا بد من غسله.
وقوله في الحديث: (فأتبعه إياه) هذا غسل وزيادة لا سيما الرواية الثانية: (فصب عليه الماء)، فإنه غسل له، ولا يشترط عركه؛ لأنَّ الماء لرقته وسيلانه يتداخل أجزاء الثوب فتذهب النجاسة، وكذا لا يشترط عصره لرقته فينفذ الماء منه، قال في «المحيط»: (يكفيه إجراء الماء عليه؛ لأنَّ إجراءه يقوم مقام العصر)، كذا قاله العلامة شهاب الدين الشمني، وقوَّاه في «البحر»، وقال الإمام أبو يوسف في إزار الحمام: (إذا صب عليه ماء كثير وهو عليه؛ يطهر بلا غسل)، حتى ذكر شمس الأئمَّة الحلواني: (لو كانت النجاسة دمًا أو بولًا، وصب عليه الماء؛ كفاه ذلك)، كذا في «فتح القدير»، وفي الحديث الرفق بالصغار والشفقة عليهم، ألا يرى أنه عليه السلام كيف كان يأخذهم في حجره، ويتلطف بهم وكان يخفف الصَّلاة عند سماعه بكاء صبي وأمه وراءه؟! وروي عنه أنه قال: «من لم يرحم صغيرنا؛ فليس منا»، وفيه حمل الأطفال إلى أهل الفضل والصلاح؛ ليدعوا لهم سواء كان عقيب الولادة أو بعدها، وأما حملهم حال الولادة كما زعمه ابن حجر؛ فغير متصوَّر، كما لا يخفى.
==========
%ص 198%
==================
(1/389)
[حديث أم قيس: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل]
223# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ هو التِّنِّيسي (قال: حدثنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، (عن ابن شهاب)؛ محمَّد بن مسلم الزُّهْرِي، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، وفتح الموحدة، ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، (عن أم قَيْس) بفتح القاف، وسكون التحتية (بنت مِحْصَن)؛ بكسر الميم، وسكون الحاء المهملة، وفتح الصاد المهملة، آخره نون، وهي أخت عكاشة بن مِحْصَن، أسلمت بمكة قديمًا، وبايعت النبي الأعظم عليه السلام
%ص 198%
وهاجرت إلى المدينة وهي من المعمرات، وقال ابن عبد البر: (اسمها جذامة؛ بالجيم، والذال المعجمة)، وقال السهيلي: (اسمها آمنة)، وذكرها الذهبي في «التجريد»، ولم يذكر لها اسمًا، كذا في «عمدة القاري»، (أنها أتت بابن لها): جملة محلها الجر صفة لـ (ابن)، وهو ذكر؛ لأنَّ الابن لا يطلق إلا على الذكر، بخلاف الولد ولم يعلم اسم هذا الولد، كذا في «عمدة القاري»، قلت: ولعله لم يسمَّ حين صدور هذه الواقعة؛ لأنَّه مات وهو صغير في عهد النبي الأعظم عليه السلام؛ فتأمل، (صغير)؛ بالجر صفة لـ (ابن) أيضًا، وهو ضد الكبير، ولكن المراد منه: الرضيع؛ لأنَّه فسره بقوله: (لم يأكل الطعام) فإذا أكل؛ سمي فطيمًا، وغلامًا أيضًا إلى سبع سنين، فعن هذا عرفنا أن الصغير يطلق إلى حد الالتحاء من حين يولد، فلذلك قيد في الحديث بقوله: (لم يأكل الطعام)، و (الطعام) في اللغة: ما يؤكل، وربما خص بطعام البر، وفي حديث أبي سَعِيد: (كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله عليه السلام صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير)، والطَّعم؛ بالفتح: ما يؤديه الذوق، يقال: طعمه مر، والطُّعم؛ بالضم: الطعام، وقد طعم يطعم طعمًا، فهو طاعم؛ إذا أكل أو ذاق؛ مثل غنم يغنم غنمًا؛ فهو غانم، قال تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]؛ أي: من لم يذقه، قاله الجوهري، وقال الفاضل الزمخشري: (ومن لم يذقه، من طعم الشيء: إذا ذاقه، ومنه: طعم الشيء لمذاقه، قال الشاعر:
~ ... .... ... .. ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخًا ولا بَرْدا
ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم.
قلت: أول البيت:
فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ ... .........
والنُّقاخ؛ بضمِّ النون، وبالقاف، والخاء المعجمة: الماء العذب، كذا في «عمدة القاري»، وقال ابن حجر وقد أخذ من كلام النووي: المراد بالطعام: ما عدا اللبن الذي يرضعه، والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة وغيرها، ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا يحتاج إلى هذه التقديرات؛ لأنَّ المراد من قوله: (لم يأكل الطعام): لم يقدر على مضغ الطعام، ولا على دفعه إلى باطنه؛ لأنَّه رضيع لا يقدر على ذلك، أما اللبن؛ فلأنَّه مشروب غير مأكول فلا يحتاج إلى استثنائه؛ لأنَّه لم يدخل في (لم يأكل الطعام) حتى يستثنى منه، وأما التمر الذي يحنك به والعسل الذي يلعقه؛ فليس ذلك باختياره، بل بغصب من فاعله؛ قصدًا للتبرك أو المداواة؛ فلا حاجة أيضًا إلى استثنائها، فعلم بما ذكرنا أن المراد من قوله: (لم يأكل الطعام)؛ أي: قصدًا أو استقلالًا أو تقويًّا، فهذا شأن الصغير الرضيع، وقد علمت من هذا أن الذي نقله القائل المذكور عن النووي، ومن نكت التنبيه صادر عن غير روية ولا تحقيق، وكذلك لا يحتاج إلى سؤال الكرماني وجوابه ههنا بقوله: (فإن قلت: اللبن طعام، فهل يختص الطعام بغير اللبن أم لا؟ قلت: الطعام هو ما يؤكل، واللبن: مشروب لا مأكول، فلا يخصص) انتهى كلامه رحمه الله، ورضي الله عنه.
(إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) متعلق بـ (أتت)، قال ابن حجر: (ومن فوائد إتيانها به للنبي عليه السلام إما ليحنكه، أو ليبرك عليه)، ورده في «عمدة القاري»: بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك صريحًا وإن كان جاء هذا في أحاديث أخرى؛ لأنَّ ظاهر الحديث يدل على أن أم قَيْس إنَّما أتت به إلى النبي عليه السلام لأجل التبرك فقط، ولدعائه له هذا النبي الكريم بسعد في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
(فأجلسه) هذه الفاء وما بعدها من الفاءات عاطفات لإفادة التعقيب (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) الضمير المنصوب فيه يرجع إلى (الابن)؛ أي: أقامه عن مضجعه، وزعم ابن حجر: (أي: وضعه؛ إن قلنا: إنه كان كما ولد، ويحتمل أن يكون الجلوس منه على العادة؛ إن قلنا: إنه كان في سن من يحبو)، ورده في «عمدة القاري»: بأن المعنى ليس كذلك؛ لأنَّ الجلوس يكون عن نوم أو اضطجاع، وإذا كان قائمًا؛ كانت الحال التي تخالفها القعود، والمعنى ههنا: أقامه عن مضجعه؛ لأنَّ الظاهر أنَّ أم قَيْس أتت به وهو في قماطه مضطجع، فأجلسه النبي الأعظم عليه السلام؛ أي: أقامه (في حجره) وإن كانت أتت به وهو في يدها؛ فإن كان عمره قد كان مقدار سنة أو جاوزها قليلًا والحال أنه رضيع؛ يكون المعنى: تناوله منها وأجلسه في حجره، وهو يمسكه لعدم مسكته؛ لأنَّ أصل تركيب هذه المادة يدلُّ على ارتفاع في الشيء، والحِّجر؛ بكسر الحاء المهملة وفتحها، وسكون الجيم، لغتان مشهورتان، انتهى كلامه وهو في التحقيق بمكان؛ فافهم، (فبال على ثوبه) يحتمل رجوع الضمير إلى (الابن)؛ أي: بال الابن على ثوب نفسه وهو في حجره عليه السلام، وهو الظاهر، كما قاله ابن شيبان، ويحتمل رجوعه إلى النبي الأعظم عليه السلام، ولا ينافيه أن البول يصل إلى ثوب النبي عليه السلام على المعنى الأول؛ لأنَّ الولد المذكور وضعه عليه السلام وهو مقمط بحفاضه وثيابه، وهو في هذه الحالة لا ينفذ منه شيء إلى حامله، كما هي عادة الصغار؛ فافهم.
(فدعا)؛ أي: النبي: الأعظم عليه السلام (بماء) خوفًا من أن يكون طار على ثوبه منه شيء، (فنضحه)؛ بالحاء المهملة، قال ابن سيده: (نضح الماء عليه ينضحه نضحًا: إذا ضربه به)، وقال ابن الأعرابي: (النضح: ما كان على اعتماد، والنضخ: ما كان على غير اعتماد، وقيل: هما لغتان)، قلت: الأول بالحاء المهملة، والثاني بالخاء المعجمة، فالمراد بالنضح: هو صب الماء؛ لأنَّ العرب تسمي ذلك نضحًا، وقد يُذْكَر ويراد به الغسل كما هنا، وكذلك الرش يُذْكَر ويراد به الغسل، ويدل لذلك ما روى أبو داود وغيره عن المقداد ابن الأسود: أن عليَّ بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله عليه السلام عن الذي إذا دنا من أهله فخرج منه المذي؛ ماذا عليه؟ قال علي: فإن عندي ابنته، وأنا أستحي أن أسأله، قال المقداد: فسألت رسول الله عليه السلام عن ذلك، فقال: «إذا وجد أحدكم، فلينضح فرجه، وليتوضأ وضوءه للصلاة»، فإن المراد بالنضح: الغسل؛ لأنَّ المذي يجب غسله بالإجماع، ويدل لذلك ما رواه مسلم وغيره عن علي قال: كنت رجلًا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله عليه السلام لمكان ابنته، فأمرت المقداد ابن الأسود فسأله، فقال: «يغسل ذكره ويتوضأ»، والقضية واحدة، والراوي عن النبي عليه السلام واحد، فهذا يعين أن المراد بالنضح: الغسل، ويدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة، وكنت أكثر منه الغسل، فسألت رسول الله عليه السلام، فقال: «إنما يجزئك من ذلك الوضوء»، فقلت: يا رسول الله؛ فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ فقال: «يكفيك أن تأخذ ماء، فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه أصابه»، فأراد بالنضح: الغسل، ويدل لذلك ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه لما حكى وضوء رسول الله عليه السلام؛ أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها)، وأراد بالرش هنا: صب الماء قليلًا، وهو الغسل بعينه، ويدل لذلك قوله عليه السلام في حديث أسماء رضي الله عنها في غسل الدم: «تحتِّيه، ثم تقرضيه بالماء، ثم تنضحيه، ثم تصلي»؛ ومعناه: تغسليه، هذا رواية الشيخين، وفي رواية الترمذي: «حتِّيه، ثم اقرضيه، ثم رشيه وصلي فيه»، وأراد: اغسليه، قاله البغوي والجويني، فلما ثبت أن النضح والرش يُذْكَران ويراد بهما الغسل؛ وجب حمل ما جاء في هذا الباب من النضح والرش على الغسل بمعنى إسالة الماء عليه من غير عرك؛ لأنَّه متى صب الماء عليه قليلًا قليلًا حتى تقاطر وسال؛ حصل الغسل؛ وهو الإسالة، فلا فرق بين النضح والغسل، كما قاله الجويني، والبغوي، وقال المهلب: (والدليل على أن النضح يراد به كثرة الصب والغسل قول العرب للجمل الذي يستخرج به الماء: ناضح)، وقال ابن القصار: النضح يذكر، ويراد به الغسل، والدليل على صحة ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت:
%ص 199%
(فأتبعه إياه)، ولم تقل: ولم يغسله، وإتباع الماء حكمه حكم الغسل؛ لأنَّه صبٌّ، وهو غسل وزيادة، وإنما قال في الحديث: (لم يأكل الطعام)؛ ليحكي القصة كما وقعت لا للفرق بين اللبن والطعام؛ لأنَّه لا فرق في نجاسة البول بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، ويجب غسله بالماء وبكل مائع مزيل، هذا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والإمام مالك، وأكثر أصحابه، وهو مذهب إبراهيم النخعي، وسَعِيد بن المسيب، والحسن ابن حي، وسفيان الثوري، وغيرهم، وخالفهم الشافعي وأحمد وقالا: إن بول الصبي الذي لم يأكل الطعام؛ يكتفى برش الماء عليه، وأما بول الصبية ولو لم تطعم؛ يغسل، ولا حجة لهما في حديث الباب؛ لأنَّ المراد بالنضح: الغسل، كما قدمناه.
وقوله: (ولم يغسله)؛ أي: بالعرك والعصر كما تغسل الثياب التي أصابتها النجاسة بل يكفي الصب والسيلان على أنَّ الأصيلي قال: إن قوله: (ولم يغسله) من كلام ابن شهاب راوي الحديث، وأن المرفوع ينتهي عند قوله: (فنضحه)، قال: وكذلك رواه معمر عن ابن شهاب، ولم يزد على (فنضحه)، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، قال: (فرشَّه)، ولم يزد على ذلك، وعند مسلم من طريق الليث عن ابن شهاب: (فلم يزد على أن نضحه بالماء)، ولا تخالف بين الروايتين؛ لأنَّ النضح والرش بمعنى الغسل، كما قدمناه، ويدل لذلك رواية مسلم في حديث عائشة من طريق جرير عن هشام: (فدعا بماء، فصبه عليه)، وعند أبي عوانة: (فصبه على البول يتبعه إياه)، فإن هذه أثبتت أن النضح بمعنى الصب؛ لأنَّ الأحاديث المذكورة في هذا الباب باختلاف ألفاظها تنتهي إلى معنى واحد [دفعًا] للتضاد، ألا ترى أن أم الفضل لبابة بنت الحارث قد روي عنها حديثان؛ أحدهما فيه النضح، والثاني فيه الصب، فحمل النضح على الصب دفعًا للتضاد وعملًا بالحديثين، على أن الأحاديث الواردة في ذلك في حكم واحد باختلاف ألفاظها يفسر بعضها بعضًا، ومن الدلائل على أن النضح هو صب الماء والغسل من غير عرك: قول العرب: غسلني السماء، وإنما يقولون ذلك عند انصباب المطر عليهم، وكذلك يقال: غسلني التراب؛ إذا انصب عليه، إذا علمت هذا؛ فلا يكون الحديث حجة للشافعي وأحمد.
فإن قلت: لا يتعين استدلالهما بهذا الحديث بل بغيره من الأحاديث؛ فمنها: حديث زينب بنت جحش، أخرجه الطبراني في «الكبير» مطولًا، وفيه: (أنه يصب من الغلام، ويغسل من الجارية)، ومنها: حديث أبي السمح، أخرجه أبو داود والنسائي قال: (كنت أخدم النبي عليه السلام ... )؛ الحديث وفيه: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام»، ومنها: حديث أنس، أخرجه الطبراني في «الكبير» مطولًا، وفيه: (فصب على بول الغلام، ويغسل بول الجارية)، ومنها: حديث أبي أمامة، أخرجه أيضًا في «الكبير»: (أنه عليه السلام أتي بالحسين فجعل يقبله، فبال، فذهبوا ليتناولوه، فقال: «ذروه» فتركه حتى فرغ من بوله).
قلت: وهذه الأحاديث كلها ضعيفة لا يحتج بها، أما حديث زينب بنت جحش؛ ففي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، وأما حديث أبي السَّمْح؛ بفتح السين المهملة، وسكون الميم، آخره حاء مهملة، لا يعرف له اسم، ولا يعرف له غير هذا الحديث، كذا قاله أبو زرعة الرازي؛ أي: فهو مجهول، وأما حديث أنس؛ ففي إسناده نافع بن هرم، وأجمعوا على ضعفه، وأما حديث أبي أمامة؛ ففي إسناده عمرو بن معدان، وأجمعوا على ضعفه، وكذلك كل ما ورد من ذلك؛ فهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به.
وزعم ابن دقيق العيد أن الحنفية اتبعوا في ذلك القياس، وتركوا الأحاديث الصحيحة.
قلت: وهذا الزعم باطل فإن الأئمَّة الحنفية قد اتبعوا في ذلك الأحاديث الصحيحة التي قدَّمناها، وأما أخصامنا؛ فقد اتبعوا الأحاديث الضعيفة التي لا يصح الاحتجاج بها، وفرقوا بين بول الذكر والأنثى، وهو فرق فاسد، وأي فرق بينهما؟! ألا ترى أن الدم منهما متحد لونًا وحرارةً، ويلزم على قياسهم هذا أن يفرقوا بين بول المرأة والرجل مع أنهم وغيرهم لم يفرقوا بينهما.
فإن قالوا: إن بول الطفلين رقيق خفيف، لكن بول الغلام أخف؛ لاستيلاء الرطوبة والبرودة على مزاجه ففي رطوبته لزوجة فيكون ألصق بالمحل، بخلاف بولها؛ فإنه مجتمع فيظهر أثره في المحل.
قلنا: هذا تفريق فاسد وكلام باطل، فإنَّ علماء طب الأبدان قد قالوا: إن بول الغلام أشد حرارة من بول الجارية، وليس فيه رطوبة ولا برودة، فإن البول من طبع البدن، ولا ريب أن بول الغلام حار حرارة غريزية، وبول الجارية بحسب بدنها رطب بارد، فما قالوه قياس فاسد، وفرق باطل، وقد قال المتقدمون من التابعين: إن الأبوال كلها نجسة سواء كانت بول ذكر أو أنثى، وبه قال سَعِيْد بن المسيب، والحسن البصري، وغيرهم، لا يقال: إن قول التابعي لا يلزمنا؛ لأنَّه رأي له؛ لأنا نقول مثل هذا لا يقال من قبيل الرأي، بل بسماع من الصحابة، وقول الصحابي حجة؛ لأنَّه لا يقوله برأيه بل بسماع من النبي الأعظم عليه السلام؛ فافهم.
ونقل الشافعية عن بعض أهل اللغة أن النضح: الرش.
قلت: وكأنهم لما بطل دليلهم من الأحاديث استندوا إلى بعض أهل اللغة، وهو لا ينهض دليلًا لهم، فإن أهل اللغة قالوا: إذا ذكر الرش في كلام العرب؛ فالمراد به: الغسل، وقد فسره النبي الأعظم عليه السلام الذي هو أفصح العرب بأنه الغسل، فإذا كان هذا تفسير النبي عليه السلام؛ فكيف يجوز العدول عنه؟! وما ذاك إلا قول غير مرضي وباطل، والله تعالى أعلم.
ولنا أحاديث كثيرة دالة وشاهدة على أن النضح في ذلك الغسل، وقد سردها الإمام الهمام شيخ الإسلام بدر الدين العيني في «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي.
==================
(1/390)
(60) [باب البول قائمًا وقاعدًا]
هذا (باب) بيان حكم (البول)؛ أي: بول الشخص حال كونه (قائمًا و) حال كونه (قاعدًا) فالواو للتنويع، وقدَّم (قائمًا)؛ لذِكْرِه في الحديث دون (قاعدًا) المعلوم حكمه قياسًا، قال ابن بطال: دلالة الحديث على القعود بطريق الأولى؛ لأنَّه إذا جاز قائمًا؛ فقاعدًا أجوز؛ لأنَّه أمكن، قال ابن حجر: (ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي، وابن ماجه، وغيرهما، فإن فيه: «بال رسول الله عليه السلام جالسًا، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة»)، واعترض في «عمدة القاري» ابن بطال، فقال: (قلت: قوله: «ودلالة الحديث ... » إلى آخره: غير مسلَّم؛ لأنَّ أحاديث الباب كلها في البول قائمًا، وجواز البول قائمًاحكم من الأحكام الشرعية، فكيف يقاس عليه جواز البول قاعدًا بطريق العقل؟! والأحسن أن يقال: لمَّا ورد في هذا الباب جواز البول قائمًا وجوازه قاعدًا بأحاديث كثيرة؛ أورد البخاري أحاديث الفصل الأول فقط، وفي الترجمة أشار إلى الفصلين إما اكتفاء بشهرة الفصل الثاني، وعمل أكثر الناس عليه، وإما إشارة إلى أنَّه وقف على أحاديث الفصلين، ولكنه اقتصر على أحاديث الفصل الأول لكونها على شرطه) انتهى.
قلت: ومراده بقوله: (بطريق العقل)؛ أي: أنه حيث علَّله بقوله: (لأنَّه أمكن) من غير استناد إلى الأحاديث، فهو قياسي عقلي، فيكون مردودًا، ومراده بقوله: (والأحسن): الحسن لا أن كلامه حسن، وهذا أحسن؛ فافهم، ومراده بقوله: (وعمل أكثر الناس عليه)؛ أي: مع استنادهم إلى الأحاديث الدالة على ذلك الحكم الشرعي لا بدون ذلك، فإنه لا يقوله
%ص 200%
أحد العوام فضلًا عن خواص الخواص، وبهذا اضمحلَّ ما زعمه العجلوني فإنه قد خبط وخلط، وقال ولا يدري ما يقول؛ فافهم.
==================
(1/391)
[حديث: أتى النبي سباطة قوم فبال قائمًا]
224# وبه قال: (حدثنا آدم)؛ بمد الهمزة، هو ابن أبي إياس (قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (عن الأعمش)؛ هو سليمان بن مهران، (عن أبي وائل)؛ هو شقيق الكوفي، ولأبي داود الطيالسي: (عن شعبة، عن الأعمش: أنه سمع أبا وائل)، ولأحمد: (عن يحيى القطان، عن الأعمش قال: حدثني أبو وائل) (عن حذيفة)؛ بضمِّ الحاء المهملة على التصغير، هو ابن اليمان، واسمه حُسَيل؛ بمهملتين مصغرًا، أو حِسْل؛ بكسر فسكون، العبسي _بالموحدة_ حليف الأنصار صحابي جليل، صح في «مسلم» عنه أنَّ النبي الأعظم عليه السلام أعلمه بما كان وبما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابي أيضًا، استشهد بأُحد، وتوفي حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين (قال: أتى) بفتح الهمزة (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم سُبَاطة)؛ بضمِّ المهملة، وتخفيف الموحدة بعدها، على وزن (فُعالة) بالضم؛ وهي الموضع الذي يرمى فيه التراب؛ أي: تراب الكناسة، وقيل: هي الكناسة نفسها، وقال في «القاموس»: (السباطة: الكناسة تطرح بأفنية البيوت) انتهى؛ أي: مرفقًا لأهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد منها البول على البائل، وكانت بالمدينة كما ذكره محمَّد بن طلحة بن مصرف [1] عن الأعمش، وكذا ذكره عيسى بن يونس، عن الأعمش، كما أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (قوم)؛ أي: من الأنصار، وإضافة السباطة إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك؛ لأنَّها كانت بفناء دورهم للناس كلهم، فأضيف إليهم لقربها منهم، ولهذا بال عليه السلام عليها، وبهذا يندفع إشكال من قال: إن البول يوهي الجدار وفيه ضرر، فكيف هذا من النبي عليه السلام؟ وقد يقال: إنَّما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار، وقد صرح به في رواية أبي عوانة في «صحيحه»، وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه عليه السلام بإيثارهم إياه بذلك؛ لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره؛ لأنَّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، وهذا كله على تقدير أن تكون السباطة ملكًا لأحد، أو لجماعة معينين، وأظهر الوجوه أنهم كانوا يؤثرون ذلك ولا يكرهونه، بل يفرحون به، ومن كان هذا حاله؛ جاز البول في أرضه، والأكل من طعامه، وهذا أيضًا على تقدير أن تكون ملكًا لقوم.
فإن قلت: كان من عادته عليه السلام التباعد في المذهَب، وقد روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة أنه عليه السلام كان إذا ذهب المذهب؛ أبعد، والمذهَب؛ بالفتح: الموضع الذي يتغوط فيه؟
قلت: يحتمل أنه عليه السلام كان مشغولًا في ذلك الوقت بأمور المسلمين، والنظر في مصالحهم، فلعله طال عليه الأمر فأتى السباطة حين لم يمكنه التباعد، وأنه لو أبعد؛ لكان تضرر، ويخالف هذا ما روى أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (كنت مع النبي عليه السلام ذات يوم فأراد أن يبول، فأتى دمثًا في أصل جدار فبال ... )؛ الحديث، ولا مخالفة؛ لأنَّه يجوز أن يكون الجدار ههنا عاديًّا غير مملوك لأحد، أو يكون قعوده متراخيًا عن جرمه فلا يصيبه البول، كذا قرره في «عمدة القاري».
(فبال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام في الكناسة (قائمًا)؛ بالنصب على الحال من الضمير الذي في قوله: (فبال)، واختلف في سبب بوله عليه السلام قائمًا، فقال الحافظ الطحاوي: (لكون ذلك سهلًا ينحدر فيه البول، فلا يرتد على البائل)، وقال القاضي عياض: (إنما فعله لشغله بأمور المسلمين، فلعله طال عليه المجلس حتى حصره البول، ولم يمكنه التباعد كعادته، وأراد السباطة لدمثها، وأقام حذيفة يستره عن الناس)، وقال المازري: (فعل ذلك؛ لأنَّها حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الآخر بخلاف القعود، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: البول قائمًا أحصن للدبر).
وقال ابن حجر: (لأنَّه عليه السلام لم يجد مكانًا للقعود، فاضطر إلى القيام؛ لكون الطرف الذي تليه السباطة عاليًا مرتفعًا)، قلت: وهذا ليس بوجه؛ لأنَّ الأرض واسعة وكون الطرف عاليًا ممنوع؛ لأنَّها لا تكون إلا غير عالية حتى تتسع التراب.
وقال البدري: (لعله كانت في السباطة نجاسات رطبة وهي رخوة فخشي أن يتطاير عليه منها)، قلت: فيه نظر؛ لأنَّ القائم أجدر بهذه الخشية من القاعد، واتفق الشراح على أنه عليه السلام فعل ذلك بيانًا للجواز في هذه المرة، وكانت عادته المستمرة البول قاعدًا، ونقل علماؤنا: أن العرب كانت تستشفي بالبول قائمًا لوجع الصلب فلعله عليه السلام كان به إذ ذاك، وقد أجمع سبعون حكيمًا على أن البول في الحمام قائمًا دواء من سبعين داء، وقيل: لأنَّه كان برجله جرح، ويدل لهذا ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة: (أن النبي عليه السلام بال قائمًا من جرح كان بمأْبِضه)، لكن قال الذهبي: (هذا حديث منكر)، وضعفه ابن عساكر والبيهقي، والمأْبِض؛ بهمزة ساكنة بعد الميم، ثم موحدة مكسورة، وبالضاد المعجمة: باطن الركبة، كذا في «عمدة القاري» مع زيادة.
(ثم دعا)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (بماء)؛ لأجل الوضوء، (فجئته بماء) أظهر في محل الإضمار ليعلم أن الجائي هو ومعه الماء؛ لأنَّ قوله: (دعا بماء) يحتمل الدعاء له ولغيره، فلما قال: (فجئته بماء)؛ عُلِم منه أنه المدعو، وأنه الجائي ومعه الماء؛ فافهم.
وقد خفي هذا على العجلوني، فقال: (وانظر حكمة إعادته «ماء» ظاهرًا) مع كثرة كلامه، وطول لسانه، (فتوضأ) زاد مسلم وغيره من طرقٍ عن الأعمش: (فتنحيت، فقال: «ادنه»، فدنوت حتى قمت عند عقبيه)، وفي رواية أحمد عن يحيى القطان: (أتى سباطة قوم فتباعدت منه، فأدناني حتى صرت قريبًا من عقبيه، فبال قائمًا، ودعا بماء فتوضأ ومسح على خفيه)، وروى ابن ماجه من طريق شعبة أن عاصمًا روى له عن أبي وائل، عن المغيرة: (أن النبي عليه السلام أتى سباطة قوم فبال قائمًا)، ولم يذكر فيه (ومسح على خفيه)، ولا يقدح في ذلك عدم ذكره لها، فإنها زيادة من ثقة حافظ لكن قال في «عمدة القاري» نقلًا عن الترمذي: حديث أبي وائل عن حذيفة أصح من حديثه عن المغيرة، قال: وأيضًا لا يبعد أن يكون أبا وائل رواه عن رجلين، والرجلان شاهدا ذلك من فعله عليه السلام، وأن أبا وائل أدى الحديثين عنهما فسمعه جماعة، فأدى كلٌّ ما سمع، ودليله أن غيرهما حكى ذلك عنه عليه السلام أيضًا؛ منهم: سهل بن سعد رضي الله عنه وحديثه في «صحيح ابن خزيمة»، وأبو هريرة وحديثه عند الحاكم والبيهقي.
ففي الحديث جواز البول قائمًا فقاعدًا أجوز؛ لأنَّه أمكن، ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم: أنه يُكْرَهُ البول قائمًا؛ لتنجيس الشخص به غالبًا إلا لعذر؛ كوجع بصلبه ونحوه، وهو مذهب ابن مسعود، وإبراهيم بن سعد، وكان سعد لا يجيز شهادة من بال قائمًا، وهو قول الجمهور، وقال مالك: إن بال في مكان لا يتطاير عليه منه شيء؛ فلا بأس به، وإلا؛ مكروه، وقال قوم: إنه مباح، وهو مروي عن عمر وابنه، وزيد بن ثابت، وسهل بن ساعد, فإنهم بالوا قيامًا، وبه قال سَعِيد بن المسيب، وابن سيرين، والنخعي، والشعبي، وأحمد، وقال الشافعي: يُكْرَهُ قائمًا كراهة تنزيه بدون عذر، وكذلك روي البول قائمًا عن أنس، وعلي، وأبي هريرة رضي الله عنهم، قال في «عمدة القاري»: وكل ذلك ثابت عن النبي عليه السلام.
فإن قلت: رويت أحاديث ظاهرها يعارض حديث الباب؛ منها: حديث المقداد، عن أبيه، عن عائشة قالت: (من حدثك أن رسول الله عليه السلام بال قائمًا؛ فلا تصدقه؛ أنا
%ص 201%
رأيته يبول قاعدًا)، أخرجه البستي في «صحيحه»، ورواه الترمذي في «صحيحه» بلفظ: (ما بال قائمًا منذ أنزل عليه القرآن)، ومنها: حديث بريدة، رواه البزار بسند صحيح: أن رسول الله عليه السلام قال: «ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائمًا ... »؛ الحديث؛ ومنها: حديث عمر، أخرجه البيهقي من حديث ابن جريج قال عمر: رآني رسول الله عليه السلام أبول قائمًا، فقال: «يا عمر؛ لا تبل قائمًا»، قال: فما بلت قائمًا بعد، ومنها: حديث جابر، أخرجه البيهقي أيضًا من حديث عدي بن الفضل، عن جابر قال: (نهى رسول الله عليه السلام أن يبول الرجل قائمًا).
قلت: أما الجواب عن حديث عائشة؛ فإنه مسند إلى علمها فيُحْمَلُ على ما وقع منه في البيوت، وأما غير البيوت؛ فلا تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة رضي الله عنه وهو من كبار الصحابة، وأيضًا يمكن أن يكون قول عائشة: (ما بال قائمًا)؛ يعني: في منزله، ولا اطلاع لها على ما في خارجها، وقول أبي عوانة في «صحيحه»، وابن شاهين: (إن حديث حذيفة منسوخ بحديث عائشة) ممنوع، والصواب أنه لا يقال: إنه منسوخ؛ لأنَّ كلًّا من عائشة وحذيفة أخبر بما شاهده، فدل على أن البول قائمًا وقاعدًا يجوز، ولكن كرهه العلماء قائمًا؛ لوجود أحاديث النهي وإن كان أكثرها غير ثابت، وأما حديث بريدة؛ فقال الترمذي: (إنه غير محفوظ)، لكن فيه نظر؛ لأنَّ البزار أخرجه بسند صحيح كما ذكرنا، وأما حديث عمر؛ فضعيف؛ لأنَّ ابن جريج رواه عن عبد الكريم بن أبي أمية، وهو ضعيف، وقال الترمذي: إنَّما رفعه عبد الكريم، وقد ضعفه أيِّوب، وتكلم فيه، وروى عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمر: ما بلت قائمًا منذ أسلمت، وهذا أصح من حديث عبد الكريم، وأما حديث جابر؛ ففي روايته عدي بن الفضل، وهو ضعيف، وقول أبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي: (حديث حذيفة فاحش منكر لا نراه إلا من قبل بعض الزنادقة)؛ فمردود؛ لأنَّه كلام سوء لا يساوي سماعه وهو في غاية الصحة، كذا قرره في «عمدة القاري».
قال في «شرح المشكاة»: (قيل: النهي للتنزيه، وقيل: للتحريم)، وذكر في «البناية شرح الهداية» عن الحافظ الطحاوي: (أنه لا بأس بالبول قائمًا) انتهى.
والحاصل: أن البول قائمًا مكروه عندنا، والتعبير بـ (لا بأس) يفيد أن تركه أولى، وهو مفاد كراهة التنزيه، وكذا يُكْرَهُ البول في محل التوضؤ، وكذا في محل الاغتسال؛ لقوله عليه السلام: «لا يبولنَّ أحدكم في مستحمه، ثم يغتسل فيه أو يتوضأ، فإن عامة الوسواس منه»، قال ابن الملك: لأنَّ ذلك الموضع يصير نجسًا فيقع في قلبه وسوسة بأنه هل أصابه منه رشاش أم لا؟ حتى لو كان بحيث لا يعود منه رشاش أو كان فيه منفذ بحيث لا يثبت فيه شيء من البول؛ لم يكره البول فيه؛ لأنَّه لا يجره إلى الوسوسة حينئذ؛ لأمنه من عود الرشاش إليه في الأول، ولطهر أرضه في الثاني بأدنى ماء طهور يمر عليها، كذا في «شرح المشكاة».
وكذا يكره أن يبول أو يتغوط في الماء ولو كان جاريًا والكراهة للتنزيه، وكذا يكره أن يبول أو يتغوط في الماء الراكد، والكراهة للتحريم، كذا في «البحر»، وقيل: إنه في الراكد القليل يحرم؛ لأنَّه ينجسه وتنجيس الطاهر حرام، وفي الكثير يكره تحريمًا، والتغوط كالبول، بل هو أقبح، أفاده المحشي، وكذا يُكْرَهُ البول مضطجعًا أو متجردًا من ثوبه بلا عذر، وفي أسفل الأرض إلى أعلاها، كما في «الدر»، وكذا يُكْرَهُ في الماء بالليل مطلقًا؛ خشية أن يؤذيه الجن؛ لما قيل: إن الماء بالليل مأواهم، انتهى.
وكذا يُكْرَهُ البول والتغوط بقرب بئر، أو نهر، أو حوض، أو مصلَّى عيد، أو قافلة، أو خيمة، أو بين الدواب، أو مصلَّى جنازة، والطريق، والظل، والجحر، وتحت شجرة مثمرة، أو مكان معد لنزهة الناس، كذا في «منهل الطلاب»، وهذا إذا كان مباحًا، أما إذا كان مملوكًا؛ فيحرم فيه قضاء الحاجة بغير إذن مالكه، كما في «شرح المشكاة».
وفي الحديث دليل على أن مدافعة البول ومصابرته مكروهة؛ لما فيه من الضرر، كما في «عمدة القاري»، قلت: فإن داء الحصبة يحصل منه غالبًا، وربما يورث داء الاستسقاء؛ لأنَّه لحصره ينفذ البول إلى الجلد فيعفن ويحصل المرض، ويقاس على هذا التغوط، فإنه كذلك يضر البدن، فمدافعته مكروهة؛ لأنَّه يحصل منه وجع الرأس بسبب البخار الصاعد منه إلى الدماغ، ويورث وجع الظهر، وغير ذلك كما بينته في «منهل الطلاب».
وفي الحديث أيضًا جواز البول بالقرب من الديار وجواز طلب البائل من صاحبه الماء للوضوء، وخدمة المفضول للفاضل، والله تعالى أعلم، اللهم فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.
==================
(1/392)
(61) [باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط]
هذا (باب البول)؛ أي: حكم بول الرجل (عند صاحبه)؛ أي: رفيقه (و) حكم (التستر)؛ أي: تستره (بالحائط)؛ أي: الجدار، فالألف واللام في (البول) بدل من المضاف إليه وهو كما قدرنا، والضمير في (صاحبه) يرجع إلى المضاف إليه المقدر؛ وهو الرجل البائل، كذا قاله في «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني وقد حاول العجلوني العبارة كما هي عادته؛ أي قال: أي: جواز البول عند صاحب البائل المدلول عليه بالبول، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الركاكة والمحاولة؛ فافهم.
==========
%ص 202%
==================
(1/393)
[حديث حذيفة: رأيتني أنا والنبي نتماشى فأتى سباطة قوم خلف حائط]
225# وبه قال: (حدثنا عثمان ابن أبي شيبة) نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا فاسم أبيه محمَّد بن إبراهيم، الكوفي، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا جرير)؛ هو ابن عبد الحميد، (عن منصور)؛ هو ابن المعتمر، (عن أبي وائل)؛ هو شقيق الكوفي، (عن حذيفة)؛ هو ابن اليمان رضي الله عنه (قال) أي: حذيفة: (رأيتُني)؛ بضمِّ المثناة الفوقية للمتكلم؛ ومعناه: رأيت نفسي؛ بمعنى: أبصرتها، وبهذا التقدير يندفع سؤال من يقول: كيف جاز أن يكون الفاعل والمفعول عبارة عن شيء واحد؟ وهذا التركيب جائز في أفعال القلوب؛ لأنَّه من خصائصها، ولا يجوز في غيرها، كذا في «عمدة القاري»، وهذا القائل تبعه القسطلاني وهو وهم، وقال العجلوني: (وقد تجعل منها وإن كان منشأ المعرفة القلبية الإبصار، وحينئذٍ لا يحتاج إلى تقدير نفسي)، قلت: وفيه نظر فإنه لا بد من تقدير نفسي حتى يصح التركيب والتقدير؛ لأنَّ منشأ هذه الأفعال القلبية الإبصار وهو مفقود هنا؛ فليحفظ (أنا والنبي) ولفظ (أنا) للتأكيد، ولصحة عطف (النبي) على الضمير المنصوب على المفعولية؛ والتقدير: رأيت نفسي ورأيت النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وقال الكرماني: (بنصب «النبي»؛ لأنَّه عطف على المفعول لا على الفاعل، وعليه الرواية)، قال في «عمدة القاري»: (ويجوز رفع «النبي»؛ لصحة المعنى عليه، ولكن إن صحت رواية النصب؛ يقتصر عليها)، قلت: ونقل القسطلاني عن «فرع اليونينية»: أن النصب والرفع ثابت في الرواية، فالرفع عطف على ضمير الرفع في (رأيتني) لا على (أنا) كما توهمه القسطلاني؛ فليحفظ.
وقوله: (صلَّى الله عليه وسلَّم): جملة خبرية لفظًا إنشائية معنًى، وجملة: (نتماشى)؛ بالنون أوله، والشين المعجمة المفتوحة في محل نصب على الحال من الفاعل والمفعول معًا؛ والتقدير: رأيت نفسي ورأيت النبي حال كونهما متماشيين، (فأَتى)؛ بفتح الهمزة؛ أي: النبي عليه السلام (سُباطة)؛ بضمِّ السين المهملة؛ أي: كناسة (قوم) من الأنصار، وبه علم أن هذه القضية كانت بالمدينة كما سبق (خلف حائط)؛ بالنصب على الحال من (سباطة)، والحائط: الجدار، من الحوط، فأصله واوي، وقدمنا أنه يجيء بمعنى البستان من النخل إذا كان محوطًا؛ فافهم.
(فقام)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (كما يقوم أحدكم)؛ إذا أراد أن يقضي حاجته، (فبال)؛ أي: شرع في البول،
%ص 202%
(فانتبذت)؛ بنون ساكنة، بعدها فوقية مفتوحة، فموحدة، فمعجمة؛ أي: تنحيت (منه)؛ أي: ذهبت ناحية منه، ومادته: نون، وباء موحدة، وذال معجمة، قال الجوهري: (جلس فلان نَُبذة؛ بفتح النون وضمها؛ أي: ناحية، وانتبذ فلان؛ أي: ذهب ناحية)، وقال الخطابي: (فانتبذت منه)؛ أي: تنحيت عنه حتى كنت منه على نبذة)، كذا في «عمدة القاري»، (فأشار)؛ أي: النبيُّ عليه السلام، (إليَّ)؛ بتشديد الياء، بعد أن بعدت منه بيده أو برأسه، ولكن لم يبعد منه بحيث لا يراه، وفي رواية مسلم: (ادْنُه)، وقال ابن حجر: (رواية البخاري هذه بينت أن رواية مسلم (ادنه) كان بالإشارة لا باللفظ)، ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: يرد عليه رواية الطبراني من حديث عصمة بن مالك قال: خرج علينا رسول الله عليه السلام في بعض سكك المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فقال: «يا حذيفة؛ استرني ... »؛ الحديث، فهذا صريح على أن إعلامه كان باللفظ، ويمكن أن يُجمع بين الروايتين بأنه كان عليه السلام أشار أولًا بيده أو برأسه، ثم قال: استرني) انتهى.
واعترضه العجلوني: (بأنه يجوز أن يراد بقوله: فقال: «يا حذيفة؛ استرني» الإشارة؛ لأنَّ القول كالكلام يعبر به لغة عن الإشارة) انتهى.
قلت: فقد زاد في الطنبور نغمة، وهو ممنوع؛ لأنَّه كيف يراد بالقول هنا الإشارة وقد صرح بالقول في قوله: (فقال: يا حذيفة) وهل هذا إلا خروج عن الظاهر؟ ولا يلزم من كون القول يعبر به لغة عن الإشارة أن تكون جميع الأقوال يراد بها الإشارة، فإن الكلام هنا في الحقيقة، وكلامه في المجاز، وإذا وجدت الحقيقة؛ لا يصار إلى المجاز عند المحققين، على أن رواية مسلم (ادنه) تعين أن الإشارة كانت باللفظ فقط على أن المعنى اللغوي هنا غير محتاج إليه أصلًا؛ لأنَّه خروج عن الظاهر فما قاله غير معتدٍّ به؛ فافهم.
وقال ابن حجر: (وليست فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول).
ورده في «عمدة القاري» حيث قال: قلت: هذا كلام من غير روية؛ إذ إشارته عليه السلام إلى حذيفة، أو قوله: (استرني) لم يكن إلا قبل شروعه في البول، فكيف يظن من ذلك ما قاله حتى ينفي ذلك) انتهى.
واعترضه العجلوني بأن قوله: (إذ إشارته ... ) إلخ؛ ممنوع لا سيما في الإشارة، إذ قوله: (فبال ... ) إلخ؛ كالتصريح في أنها وقعت في حال الشروع في البول، وحينئذٍ فصحَّ قول ابن حجر: (ليس فيه ... ) إلخ؛ فتأمل.
قلت: تأملته فوجدته قد زاد في الشطرنج جملًا وهو ممنوع، فإن قوله: (فقام كما يقوم أحدكم)؛ أي: تهيَّأ لقضاء الحاجة.
وقوله: (فبال) صريح في أنه شرع في البول، ثم قوله: (فانتبذت) دليل ظاهر على أنه شرع في البول؛ لأنَّه لو لم يشرع به ولم يتهيأ له؛ لما كان انتبذ عنه، فانتباذه دليل على شروعه، والإشارة التي هي دالَّة على أنه قد قال: (ادنه) كما في «مسلم» إنَّما حصلت بعد الشروع بدليل قوله: (فجئته فقمت عند عقبه)، والقيام عند عقبه لا يكون إلا حال قضاء الحاجة، على أن قوله: (استرني) دليل ظاهر على أنه بعد الشروع؛ لأنَّه لو لم يشرع؛ لما أمره بالستر عليه؛ لأنَّ الستر لا يكون إلا بعد الكشف، كما لا يخفى؛ فافهم ذلك ولا تغتر بهذه العصبية الزائدة من العجلوني، فإنه قد أتى بها من عجلون؛ وهي جبال قاسية.
وقال الكرماني: (وإنما بعد منه وعينه تراه؛ لأنَّه كان يحرسه)؛ أي: يحرس النبيَّ عليه السلام، واعترضه في «عمدة القاري»: (بأن هذا إنَّما يتأتَّى قبل نزول قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؛ لأنَّه عليه السلام كان يحرسه جماعةٌ من الصحابة قبل نزول هذه الآية، فلما نزلت؛ ترك عليه السلام الحرس) انتهى.
وتعقبه العجلوني: بأنه لعلَّ حرسه كان من حذيفة من غير أمر منه، أو المعصوم منه المذكور في الآية القتل أو نحوه؛ فلا يرد الاعتراض؛ فتأمل.
قلت: تأملته فوجدته منقوضًا بوجوه؛ لأنَّ قوله: (لعل حرسه ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ حذيفة صحابي جليل يعلم بنزول الآيات وأسبابها وما يتعلق بها، وحين نزول الآية لا ريب أنه كان حاضرًا، أو سمعه من النبيِّ عليه السلام، أو أخبر الصحابة بنزولها، ولا ريب أنه إذا تكفل الله تعالى بعصمته لا يتجرأ أحد على ذلك بعد إخباره تعالى عن عصمته إياه، ويدل لذلك: أنه عليه السلام لم يأمره بالحراسة، وذلك لنزول الآية، فقد تحقق عند النبيِّ عليه السلام العصمةُ من الناس، فلم يحتج إلى الحراسة، وحذيفة لما علم بنزول الآية؛ ترك الحراسة؛ لأنَّ عصمة الله تعالى أبلغ وأعظم، وحراسته لا فائدة بها بعد إخباره تعالى عن العصمة، فهو ممنوع.
وقوله: (المعصوم منه ... ) إلخ؛ ممنوع أيضًا، فإن العصمة له عليه السلام كانت من الإيذاء، كما أنه عليه السلام كانوا شجُّوه [1] بالحجارة في وجهه، وكسرت رباعيته، وأُطْعِمَ شاة مسمومة، أو بوضع شيء على ظهره الشريف حين يصلي، أو بكلام قبيح كما ثبت ذلك في الصحيح، وعصمته من القتل خارج عن ذلك؛ لأنَّه معصوم منه قبل نزول الآية بدليل قصة بحيرة الراهب وأمثالها؛ لأنَّه لو لم يكن معصومًا؛ لتناوله اليهود والجاهلية وغيرهم وأعدموه عليه السلام، وهو محال قطعًا، فعصمته في الآية مما عدا القتل كما ذكرنا؛ لأنَّ الآية في المائدة، وهي آخر ما نزل من القرآن؛ فافهم وهو موضَّح في كتب التفسير؛ فليحفظ.
(فجئته) عليه السلام، فقال: «يا حذيفة؛ استرني» كما عند الطبراني كما قدمناه، (فقمت عند عقبه)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (عند عقبيه)؛ بالتثنية، والعَقِب؛ بفتح العين المهملة، وكسر القاف: وهو مؤخر القدم، وهي مؤنثة، وعقب الرجل أيضًا: ولده وولد ولده، وفيها لغتان؛ كسر العين وسكونها، وهي أيضًا مؤنثة، انتهى (حتى فرغ)؛ أي: من بوله، قال ابن بطَّال: (من السنة أن يقرب من البائل إذا كان قائمًا هذا إذا أمن أن يرى منه عورته، وأما إذا كان قاعدًا؛ فالسنة البعد منه، وإنما انتبذ حذيفة منه؛ لئلا يسمع شيئًا مما يجري في الحدث، فلما بال عليه السلام قائمًا وأمن عليه السلام ما خشيه حذيفة؛ أمره بالقرب منه)، وقال الخطابي: المعنى في إدنائه إياه مع استحباب إبعاده في الحاجة إذا أرادها أن يكون سترًا بينه وبين الناس، وذلك أن السباطة إنَّما تكون في أفنية البيوت المسكونة أو قريبة منها، فلا تكاد تخلو من المار.
وقال ابن حجر: (واستدنى حذيفة؛ ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يمرُّ به، وكان قدامه مستورًا بالحائط، أو لعله فعله؛ لبيان الجواز، ثم هو في البول وهو أخف من الغائط؛ لاحتياجه إلى زيادة تكشف ولما يقترن به من الرائحة، والغرض من الإبعاد التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنوِّ من الساتر)، ثم قال: (وقدَّم المصلحة في تقريب حذيفة؛ ليستره من المارة على مصلحة تأخُّره عنه؛ إذ لم يمكن جمعهما) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن كلامه مأخوذ من كلام الخطابي، وكلامه لا نظر فيه، لكن قد زاد عليه قوله: (ولما يقترن به من الرائحة) وهو ممنوع في حق النبيِّ عليه السلام؛ لأنَّ رائحة فضلاته أطيب من ريح المسك؛ لأنَّها طاهرة، ويدل لذلك أن الصحابة إذا مرُّوا بمكان وشمُّوا رائحة طيبة يعلمون أن النبيَّ عليه السلام تغوَّط في تلك المكان، وكأنه قصد بهذا التعبير الإشارةَ إلى ما قاله الشافعية: من أن فضلاته عليه السلام ليست طاهرة، نعوذ بالله من هذا القول القبيح الذي لا يرضاه ذو [2] العقل الصحيح.
وقوله: (أو لعله فعله؛ لبيان الجواز) ممنوع، بل إنَّما فعله لأجل الستر فقط بدليل قوله له: «يا حذيفة؛ استرني»؛ لأنَّه لو كان لبيان الجواز؛ لقال له: اقرب مني؛ حتى لا أحد يمر بنا فينظر ما نفعله، وفي باقي كلامه نظر، ولو بيَّناه؛ لطال المقام.
وفي الحديث: أنه إذا أراد قضاء حاجته يتوارى عن أعين الناس بما يستره من حائط ونحوه، وفيه: جواز البول قائمًا وقاعدًا، وفيه: جواز قرب الإنسان من البائل، وجواز طلب البائل القرب منه؛ ليستره، واعترض بأنه قد صح في «الصحيح» أنه عليه السلام قال حين أراد قضاء الحاجة: «تنحَّ»، وتباعده عن الناس حين قضائها هو المعروف من عادته، وأجيب: بأن ما هنا من التقريب، كأنْ كان عند القيام، وما هناك كان من الإبعاد والتنحِّي كان عند القعود، والفرق بينهما خوف سماع الصوت الخارج مع القعود
%ص 203%
وعدمه مع القيام، والله تعالى أعلم.
وفي نهار الأربعة الرابع من ربيع الأول شنقوا تسعة أنفار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم فرج عناوعن المسلمين بجاه سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين صلَّى الله عليه وسلَّم، آمين ... آمين ... آمين.
==========
[1] في الأصل: (يشجوه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (يشجوه)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (يشجوه)، وليس بصحيح.
(1/394)
(62) [باب البول عند سباطة قوم]
هذا (باب) جواز (البول عند سُباطة) بضمِّ السين المهملة: الكناسة كما قدمناه (قوم)؛ أي: جماعة من الناس.
==========
%ص 204%
==================
(1/395)
[حديث حذيفة: ليته أمسك أتى الرسول سباطة]
226# وبالسَّند قال: (حدثنا محمَّد بن عَرْعَرَة)؛ بعينين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة، ثم أخرى بعدها مفتوحة؛ لوقوع هاء التأنيث بعدها (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن منصور) هو ابن المعتمر، (عن أبي وائل) هو شقيق الكوفي (قال: كان أبو موسى) هو عبد الله بن قَيْس (الأشعري) رضي الله تعالى عنه (يشدد في البول): جملة محلها النصب خبر (كان)؛ أي: أنه كان يحتاط احتياطًا عظيمًا في الاحتراز عن رشاش البول حتى إنه كان يبول في القارورة؛ خوفًا من أن يصيبه من رشاشه شيء، وأخرج ابن المُنْذِر من طريق عبد الرحمن بن الأسودعن أبيه: أنه سمع أبا موسى ورأى رجلًا يبول قائمًا، فقال: ويحك! أفلا قاعدًا؟ ثم ذكر قصة بني إسرائيل، (ويقول: إن بني إسرائيل)؛ أي: أولاد يعقوب عليه السلام، وإسرائيل لقبه، ووجه تلقيب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام بإسرائيل ما قاله في «عمدة القاري»: (من أنه كان يعقوب وعيصوا أخوين [1] كانا في بطن [2] أمهما معًا، فلما جاء وقت وضعهما؛ اقتتلا في بطنها لأجل الخروج أولًا، فقال عيصو: والله لئن خرجت قبلي؛ لأعترض في بطن أمي لأقتلها، فتأخَّر يعقوب وخرج عيصو قبله فسمِّي عيصوا، وسُمِّي يعقوب؛ لأنَّه خرج آخرًا عقب عيصو، وكان يعقوب أكبرهما في البطن، وكان أحبهما إلى أمه، وكان عيصو أحبهما إلى أبيه، وكان صاحب صيد، فلما كبر أبوهما إسحاق وغشي على عينيه؛ قال لعيصو: يا بني؛ أطعمني لحم صيد أدعو لك بدعاء كان أبي دعا لي به، وكان أشعر، وكان يعقوب أجرد، فخرج عيصو إلى الصيد، فقالت أمه ليعقوب: خذ شاة واشوها، والبس جلدها، وقدمها إلى أبيك، وقل: أنا ابنك عيصو، ففعل فمسَّه إسحاق، فقال: المسُّ مسُّ عيصو، والريح ريح يعقوب، فقالت أمه: ابنك عيصو فادع له، فأكل منها، ودعا له بأن يجعل الله في ذريته الأنبياء والملوك، ثم جاء عيصو بالصيد فقال إسحاق: يا بني؛ لقد سبقك أخوك فغضب، وقال: والله لأقتلنه، فقال إسحاق: يا بني؛ قد بقيت دعوة، فدعا له بأن يكون ذريته عدد التراب ولا يملكهم أحد غيرهم، وقالت أمُّ يعقوب له: الحق بخالك، فكن عنده خشية أن يقتلك عيصو، فانطلق يعقوب إلى خاله لابان، فكان ببابل، وقيل: بحران، فكان يسري بالليل ويمكن بالنهار؛ فلذلك سمي إسرائيل، فأخذ من السرى والليل، وقيل: معناه: عبد الله؛ لأنَّ إيل اسم من أسماء الله تعالى بالسريانية، كما يقال: جبرائيل، وميكائيل [3]) انتهى.
قلت: قيل: إن ذرية عيصو الإفرنج المشهورين بالروسية الموسكوف، وقال البغوي: (قال ابن عباس، ومُجَاهِد، وغيرهما: أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلًا قويًّا، فلقيه مَلَك، فظن يعقوب أنه لصٌّ فعالجه أن يصرعه، فغمز الملك فخذ يعقوب، ثم صعد إلى السماء ويعقوب ينظر إليه فهاج به عرق النسا، ولقي من ذلك شدة فكان لا ينام الليل من الوجع، ويبيت وله زقاء؛ أي: صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله؛ لا يأكل عرقًا ولا طعامًا فيه عرق، فحرَّمه على نفسه، فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق يخرجونها من اللحم) انتهى.
قلت: وهذا مشاهد معلوم من اليهود، فإن لهم جماعة عند الجزارين ينقُّون العروق، قيل: إن يعقوب لما استوطن في بيت المقدس وجاءه أولاده المذكورون [4] في القرآن العظيم وكبروا؛ ذهب عيصو يدِّور على أخيه إلى أن قرب إلى بيت المقدس، فأُخبِر يعقوب بمجيئه، فقال لأولاده: اذهبوا إلى باب البلد وقفوا عنده، فإذا جاء عيصو ومرَّ عليكم؛ فقبِّلوا يديه، وقولوا له: نحن عبيد عيصو، فإن سأل عني وعنكم؛ فأخبروه ففعلوا، فلما رآهم عيصو؛ سألهم، فأجابوه، فسألهم عن أبيهم يعقوب، فقالوا [5]: في محل كذا، فذهب إليه وقبَّلوا بعضهم بعضًا، وعفا عنه، ورضي، وتمامه في «عقود الجمان في أخبار الزمان» للشيخ بدر الدين العيني صاحب «عمدة القاري» قُدِّس سرُّه، فإنه كتاب لم أجد [من] سبقه إليه، جمع فيه فأوعى، وأودع فأغنى، وهو يبلغ نحوًا من عشرة مجلدات، وكان عندي منه مجلد واحد رضي الله عن هذا المؤلف ما أغزر علمه واطلاعه!
(كان)؛ للشأن، وليس ضميرها يعود على (بني إسرائيل) حتى يرد أنهم جمع، وهو مفرد، بل هو ضمير الشأن، والجملة الشرطية من (كان) وخبرها خبر (إنَّ)، ويحتمل عوده على (بني)؛ لأنَّه بمعنى ولد أو سبط مثلًا، والأظهر الأول؛ فتأمل، (إذا أصاب) أي: البول (ثوبَ أحدهم)؛ بنصب (ثوب) على المفعولية، ووقع في رواية مسلم: (إذا أصاب جلد أحدهم)، قال القرطبيُّ: (مراده بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبسونها)، وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الأمر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود، عن عبد الرحمن بن حسنة، قال: انطلقت أنا وعمرو بن العاص إلى النبيِّ عليه السلام فخرج ومعه درقة، ثم استتر بها، ثم قال: فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة، فسمع ذلك فقال: ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم البول؛ قطعوا ما أصابه البول منهم، فنهاهم فعُذِّبَ في قبره، قال منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى: جلد أحدهم، وقال عاصم، عن أبي وائل، عن أبي موسى: جسد أحدهم).
وقوله: (انظروا يبول كما تبول المرأة)، وهذا القول منهما وقع من غير قصد، أو وقع بطريق التعجب، أو بطريق الاستفسار عن هذا الفعل؛ فلذلك قال عليه السلام: «ألم تعلموا ... إلخ»، ولم يقولا هذا بطريق الاستهزاء والاستخفاف؛ لأنَّ الصحابة براء [6] من هذا الكلام، وأراد بـ (صاحب بني إسرائيل): موسى الكليم عليه السلام.
فإن قلت: كيف يترتب قوله على قوله: فنهاهم؟
قلت: فيه حذف؛ تقديره: فنهاهم عن إصابة البول ولم ينتهوا، فعذبهم الله، والفاء في (فعذب) فاء السببية؛ نحو قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]، كذا في «عمدة القاري».
(قَرَضَه)؛ بفتح القاف والراء، والضاد المعجمة؛ أي: قطعه، وفي رواية الأصيلي، والإسماعيلي: (قرضه) بالمقراض، وهذه الرواية ترد قول من يقول: بالقرض الغسل بالماء، وهذا من الأمر المدفوع عن هذه الأمة، ورواية المؤلف هنا صريحة في أنَّ المراد: الجلد الملبوس؛ لتصريحه بالثياب، فلعل ما في «أبي داود» تصرُّف من بعض الرواة؛ لظنه أن المراد بالجلد الواقع في بعض الروايات: الجسد، وليس كذلك، كما علمت؛ فافهم وتأمل، (فقال حذيفة) أي: ابن اليمان، عن أبي موسى الأشعري: (ليته أمسك)؛ أي: ليت أبا موسى أمسك نفسه عن هذا التشديد في أمر البول أو لسانه عن هذا القول، أو كليهما عن كليهما، ومقصوده: أن هذا التشديد خلاف السنة، فالإمساك عنه خير، (فقد أتى) بفتح الهمزة (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم سُباطة) بضمِّ السين المهملة: كناسة (قوم)؛ أي: جماعة من الأنصار، (فبال قائمًا) وفي رواية الإسماعيلي: (لوددت أن صاحبكم لا يشدِّد هذا التشديد)؛ أي: ولا شك في كون القائم معرَّضًا للرشاش، ولم يلتفت عليه السلام إلى هذا الاحتمال ولم يتكلَّف البول في القارورة، قال ابن بطال: (وهذا الحديث حجة لمن رخَّص في يسير البول؛ لأنَّ المعهود ممن بال قائمًا أن يتطاير إليه مثل رؤوس الإبر، وفيه يسر وسماحة على هذه الأمة حيث لم يوجب القرض كما أوجب على بني إسرائيل)، وقال سفيان الثوري: كانوا يرخِّصون في
%ص 204%
القليل من البول.
قلت: والمراد من رؤوس الإبر محل إدخال الخيط وإن امتلأ منه الثوب والبدن للضرورة؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، لا سيما في مهبِّ الريح، فسقط اعتباره، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذا، فقال: إنا لنرجو من الله تعالى أوسع من هذا، كما في «السراج الوهاج»، فهذا حجة ودليل ظاهر لإمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله عنه في قوله: إنه معفوٌّ عنه، وسهل فيها كما سهل في يسير كل النجاسات، وقال مالك: يغسلها استحبابًا وتنزُّهًا، وهو قول الإمام أبي يوسف، وشدد الأمر الشافعي، وقال: يجب غسل ما يدركه الطرف من سائر النجاسات، وهذا الحديث حجة عليه؛ لأنَّ الاحتراز عنه غير ممكن ضرورة، وفيه حرج بيِّنٌ وهو مدفوع، وروي عن محمَّد بن علي زين العابدين: أنه تكلَّف لبيت الخلاء ثوبًا، ثم تركه، وقال: لم يتكلَّف لهذا من هو خير مني؛ يعني: رسول الله عليه السلام، والخلفاء رضي الله عنهم، ويدل لذلك: حديث أبي هريرة السابق، وفيه: «فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، فهو يشير إلى عدم اعتبار نجاسة الرشاش من النجاسات؛ لأنَّه لو اعتبرناه نجسًا؛ لزال معنى التيسير المأمور به، ولثبت معنى التعسير وهو خلاف المأمور به، والله تعالى أعلم، اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين، واكشف يا ربنا هذا الهم والغم عن أمة نبيك محمَّد عليه السلام.
وقال القسطلاني: (وفي الاستدلال على الرخصة المذكورة ببوله عليه السلام قائمًا نظر؛ لأنَّه عليه السلام في تلك الحالة لم يصل إليه منه شيء)، قال ابن حبَّان: (إنما بال قائمًا؛ لأنَّه لم يجد مكانًا يصلح للقعود، فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة عاليًا، فأمن من أن يرتد عليه شيء من بوله، أو كانت السباطة رخوة لا يرتد إلى البائل شيء من بوله) انتهى.
قلت: وهذا ممنوع، فإن بوله عليه السلام قائمًا وكذا غيره لا بدَّ وأن يصل إليه الرشاش من البول غالبًا، والغالب كالمتحقق.
وقوله: (لم يصل إليه منه شيء) دعوة باطلة؛ لتضمنها النفي وهو غير مقبول، ودعوانا مثبتة، والمثبت مقدم على النافي، على أنه لا دليل يدل على عدم الوصول، بل الظاهر المتبادر من هذه الحالة إنَّما هو الوصول لا غير.
وقوله: (لأنَّه لم يجد مكانًا يصلح للقعود) ممنوع، فإن الأرض واسعة صالحة للقعود، وليس لأحد إنكار ذلك، وإنكاره كإنكار وجود الشمس في السماء في رابعة النهار.
وقوله: (لكون الطرف الذي يليه من السباطة عاليًا ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ السباطة على وجه الأرض في العادة ليست عالية ولا متسفلة، وأي دليل على أنها عالية؟ وإذا كانت ليست بعالية؛ فالطرف منها غير عالٍ ضرورة، وفي هذه الحالة إذا بال أحد؛ فلا ريب أنه يصله الرشاش، فدعوى عدم الوصول باطلة لا دليل عليها.
وقوله: (فأمن من أن يرتد ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل على ذلك، فإن السباطة ليس لها أطراف، وإنما هي مكان على وجه الأرض معد لرمي الأوساخ المجتمعة في البيوت، وهي تضمحل وتذهب بالريح أو يأخذها أرباب البساتين.
وقوله: (أو كانت السباطة رخوة ... ) إلخ ممنوع؛ فإن السباطة ليست ببناء ولا من غيره، وإنما هي أرض صلبة بدليل أنها في فناء البيوت، وفناؤها أرض صلبة غير رخوة، وتارة يكون محلها صخر أو جبل كما هو العادة في القرى والبلدان، فلا ريب أنه في الحالة المذكورة إذا بال؛ يرتد عليه شيء من الرشاش لما ذكرنا؛ لأنَّ الصخر والجبل لصلابته، وكذا الأرض المعهودة كذلك صلبة؛ لعدم ورود الماء عليها ودائمًا الشمس عليها صلبة، لا يستقر البول عليها، بل يتطاير على البائل غالبًا، والغالب كالمتحقق؛ فافهم.
ولا داعي لهذا التشديد حتى يدخل في تشديد بني إسرائيل، فإن الله تعالى أمر باليسر ونبيُّه عليه السلام كذلك كما علمت، وقال تعالى: {[اجْتَبَاكُمْ] وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ولا ريب أن اعتبار ذلك حرج بيِّنٌ، وقد أمرنا سبحانه وتعالى باجتنابه ورفعه عنا، فباعتباره إلزام الحرج علينا، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (أخوان)، وليس بصحيح.
[2] زيد في الأصل: (واحد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (فجبرائل ومكائل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (المذكورين)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فقال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (بريئات).
==================
[1] في الأصل: (أخوان)، وليس بصحيح.
[2] زيد في الأصل: (واحد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (فجبرائل ومكائل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (المذكورين)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فقال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (أخوان)، وليس بصحيح.
[2] زيد في الأصل: (واحد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (فجبرائل ومكائل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (المذكورين)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فقال)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/396)
(63) [باب غسل الدم]
هذا (باب) حكم (غَسل) بفتح الغين المعجمة (الدم)؛ بتخفيف الميم، وقد تشدَّد؛ أي: دم الحيض، وكذا غيره من سائر الدماء وسائر النجاسات بطريق القياس عليه.
==========
%ص 205%
==================
(1/397)
[حديث: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه]
227# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا محمَّد بن المثنى) بضمِّ الميم، وفتح المثلثة، وتشديد النون المفتوحة، المعروف بالزمن (قال: حدثنا)) وفي رواية بالإفراد (يحيى)؛ هو ابن سَعِيْد القطان، (عن هشام) بكسر الهاء: هو ابن عروة بن الزبير (قال: حدثتني فاطمة)؛ هي بنت المُنْذِر بن الزبير زوجة هشام المذكور، وابنة عمه، (عن أسماء)؛ بالمد؛ هي بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وجدة فاطمة، وزوجها لأبويهما، المعروفة بذات النطاقين أم عبد الله بن الزبير، وهي من المهاجرات، عارفة بتعبير الرؤيا؛ حتى قيل: إن ابن سيرين أخذ التعبير عن ابن المسيب، عن أسماء، وهي أخذته عن أبيها، وهي آخر المهاجرات وفاة، توفيت في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بمكة بعد ابنها عبد الله بأيام، بلغت مئة سنة لم يسقط لها سنٌّ، ولم ينكر لها عقل رضي الله عنها (قالت)؛ أي: أسماء: (جاءت امرأة للنبيِّ) الأعظم، وللأربعة: (إلى النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) والمرأة السائلة: هي أسماء بنت يزيد التي يقال لها: خطيبة النساء، أو أسماء بنت شَكَل؛ بفتحتين، قال جماعة من المحدثين: والأولى [1] هي الصواب، واعتمده وقوَّاه النووي، وقيل: إنه يجوز أن تكون فاطمة بنت حبيش الآتية.
قلت: وهو ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل على ذلك، وأي عذر كان في إبهامها هنا؟ فإن المخبرة فيما يأتي عائشة، وهنا أسماء، وكل قصة على حدة، فلو كانت هذه؛ لأخبرت أسماء بها أنها فاطمة، وعدم ذلك دليل على أنها غيرها، والصواب الأول، ووقع في رواية الشافعيِّ: أن السائلة هي أسماء بنت أبي بكر المذكورة، ولا يبعد أن يبهم الراوي نفسه، كما وقع لأبي سَعِيْد الخدري في الرقية بفاتحة الكتاب، وضعف هذا النووي.
قلت: ويدل لذلك أنها لو كانت هي السائلة؛ لم تُبْهِم نفسها، بل صرَّحت وقالت: قلت للنبيِّ عليه السلام، أو قالت: أتيت النبيَّ عليه السلام فقلت: يا رسول الله عليه السلام، على أنه لا عذر ولا غرض لها في هذا الإبهام، بل التصريح أشرف وأحسن لها، وإبهام أبي سَعِيْد نفسه لا يدل على هذا؛ لأنَّه لما رقي وأخبر النبيَّ عليه السلام؛ خشي من النبيِّ عليه السلام عدم الرضا؛ فأبهم نفسه، فلما علم الرضا؛ أظهر نفسه بأنه الراقي؛ فافهم.
وأما أسماء هذه؛ فلا عذر لها في الإبهام، لا يقال: إن الحياء منعها من التصريح؛ لأنا نقول: هذا حكم شرعي، والنبيُّ عليه السلام أمر بعدم الحياء في الأحكام الشرعية والسؤال عنها، ولذا فإن [2] أم سليم لما أتته تسأله؛ قالت: إن الله لا يستحي من الحق، فالحياء من الحق مذموم، وأسماء هي أشد اتباعًا لسنة النبيِّ عليه السلام، فلا يمنعها ذلك؛ فافهم.
(فقالت: أرأيت)؛ أي: أخبرني يا رسول الله؛ قال الفاضل الزمخشري: فيه تجوز لإطلاق الرؤية وإرادة الإخبار؛ لأنَّ الرؤية سبب الإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر؛ بجامع الطلب، كذا في «عمدة القاري» (إحدانا)؛ بالنصب مفعول (أرأيت) على معنى: أخبرني عن إحدانا، واستظهر بعضهم أنه على حذف مضاف؛ أي: أخبرني خبر زيد أو حاله؛ لأنَّ النصب بإسقاط الخافض غير مقَيْس، ولا يجوز رفعه كما نص عليه سيبويه، قال: لأنك لو قلت: أرأيت أبو من زيد؛ لم يحسن؛ لأنَّ فيه معنى أخبرني عن زيد، وجوز في «عمدة القاري» رفعه على الابتداء، و (تحيض) خبره.
قلت: والمعنى عليه صحيح حسن؛ لأنَّه على معنى الاستئناف، فكأنه قال: أخبرني حكم الله تعالى وهو (إحدانا تحيض)؛ فتأمل.
وقوله: (تَحِيض)؛ بفتح الفوقية، وكسر المهملة، جملة محلها النصب حال من (إحدانا)، أو الرفع خبر (إحدانا) كما علمت (في الثوب) إما حال، أو متعلق بـ (تحيض)؛ والمعنى: تحيض حال كونها في الثوب، ومن ضرورة ذلك وصول الدم إلى الثوب، كذا قاله في «عمدة القاري»، ويدل لذلك ما عند المؤلف عن عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم؛ قالت
%ص 205%
بريقها، فمصعته بظفرها)، وما عند أحمد عن أبي هريرة: أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله؛ ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه، قال: «فإذا طهرت؛ فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه»، قالت: يا رسول الله؛ أرى لم يخرج أثره، قال: «يكفيك الماء ولا يضرك أثره»، وقال الكرماني، وتبعه ابن حجر: أن معنى (تحيض في الثوب) أن دم الحيض يصل إليه، ويدل له ما رواه المؤلف من طريق مالك عن هشام: (إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة)، وما رواه مسلم: (أرأيت المرأة يصيب ثوبها من دم الحيضة).
قلت: وما قاله في «عمدة القاري» أظهر وأحسن للمعنى؛ فليحفظ.
وجملة (كيف تصنع) إما في محل نصب على أنه مفعول ثان لـ (أرأيت) المذكورة إن قلنا: بأنها تعلق، أو بدل من الأول، وإما لا محل لها، وإن قلنا: بأنها تعلق؛ لأنَّها مستأنفة؛ لبيان الحال المستخبر عنها، كما قاله الرضي، وكذا إن قلنا بعدم تعليق (أرأيت) المذكورة بناء على أحد قولي الإمام الزمخشري: إن شرط التعليق أن يذكر بعد العامل ما يسد مسد منصوبيه معًا، وكذا لا محل لها إن قلنا لا تتعدى (أرأيت) إلى اثنين، والكلام على (أرأيت) المذكورة، ومتعلقاتها مستوفًى في «التسهيل» وشروحه، والله أعلم.
(قال) وللأصيلي: (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام: (تحُتُّه)؛ أي: الثوب، بضمِّ الحاء المهملة، وبالفوقية المشددة؛ من حتَّ الشيء عن الثوب وغيره تحتُّه حتًّا، وفي «المنتهى»: (الحت: حتك الورق من الشجر، والمني، والدم، ونحوهما من الثوب وغيره، وهو دون النحت)، وعند ابن طريف: (حت الشيء نفضه [3]، وقيل: معناه: تحكه)، كما وقع في رواية ابن خزيمة، والمراد من ذلك: إزالة عينه المتجسدة، (ثم تَقرُضه)؛ أي: الثوب، وهو بضمِّ الراء، والضاد المعجمة مع فتح أوله، وسكون ثانيه، وفي رواية: (قرِّضيه)؛ بالتشديد، قال أبو عبيد: (أي: قطِّعيه)، وقال عياض: (رُوِّيناه: بفتح المثناة فوق، وإسكان القاف، وضم الراء، وبضمِّ المثناة، وفتح القاف، وكسر الراء المشددة)، قال: (وهو الدلك بأطراف الأصابع مع صبِّ الماء عليه حتى يذهب أثره)، وفي «المغرب»: (الحت: القرض باليد، والقرض بأطراف الأصابع)، وفي «المحكم»: (القرض: التخميش والغمز بالإصبع، والمقرض: المقطوع المأخوذ من شيئين)، وفي «الجامع»: (كل مقطوع مقرض)، وفي «الصحاح»: (اقرضيه بماء)؛ أي: اغسليه بأطراف أصابعك، والمراد من ذلك: أنها تفرك مواضع الدم بأطراف أصابعها (بالماء)؛ أي: مع صبِّ الماء عليه؛ ليتخلل بذلك ويخرج ما تشرَّبه الثوب منه، ولا يضر بقاء أثر شق زواله حتى يتكلف إلى إزالته بنحو صابون، أو أشنان، أو ماء حار، فإن ذلك غير لازم للحرج، وهو مدفوع بالنص.
فإن قلت: وقع في حديث أم قَيْس بنت محصن عند ابن خزيمة: (واغسليه بالماء والسدر وحكيه ولو بضلع)، وعند أبي أحمد العسكري: (حكيه بضلع، وأتبعيه بالماء والسدر)، وعند أبي داود عن امرأة من غفار: أن رسول الله عليه السلام لما رأى ثيابها من الدم؛ قال: «أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء واطرحي فيه ملحًا، ثم اغسلي ما أصاب من الدم، ثم عودي لركبك»
قلت: ذكر السدر والحك بالضلع بالملح إن صح؛ فهو أمر محمول على الندب لا الوجوب، وقد قال ابن القطان: الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر الضلع والسدر، وعاب على أبي أحمد [قوله]، ويدل لذلك ما رواه أحمد في «مسنده» من حديث أبي هريرة قال: «يكفيك الماء، ولا يضرك أثره» كما تقدم قريبًا، وعند الدارمي عن أم سَلَمَة: (إن إحداهن تسبقها القطرة [4] خفيةً من الدم، فقال عليه السلام: «إذا أصاب إحداكن ذلك؛ فلتقصعه بريقها»)، وعند ابن خزيمة: (وقيل لها: كيف كنتن تصنعن بثيابكنَّ إذا طمثن على عهد رسول الله عليه السلام؟ قالت: إن كنا لنطمث في ثيابنا أو في دروعنا، فما نغسل منه إلا أثر ما أصابه الدم)، ويدل لذلك أحاديث يطول سردها، وعلى كل؛ فهو محمول على الندب والإرشاد لا الوجوب؛ فليحفظ.
(وتنضَحُه) وفي رواية: (ثم تنضحه) وهو بفتح الضاد المعجمة، وضم الحاء المهملة من باب (فتَح يفتَح)؛ بفتح عين الفعل فيهما، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه في «فتح الباري»، وقال الكرماني، وتبعه مغلطاي: (إنه بكسر الضاد المعجمة)، قال في «عمدة القاري»: (وهو غلط).
قلت: ووجه الغلط، إما أنه من حيث الرواية؛ فإن الرواية بالفتح، وإما من حيث اللغة، وفي «المصابيح»: (أن أبا حيَّان قرأ في بعض المجالس: وانضَح فرجك؛ بفتح الضاد المعجمة، فرد عليه الدمنهوري وقال: نص النوويُّ على أنه بالكسر، فقال أبوحيان: حق النووي أن يستفيد هذا مني، والذي قلته هو القياس) انتهى.
فهذا دليل على أنه بالفتح لا غير، لكن نقل صاحب «الجامع» أن الفتح أفصح والكسر لغة، ولا ريب أن غير الفصيح شاذ وغلط، فتعيَّن الفتح فقط؛ فافهم.
والضمير في (تنضحه) يرجع إلى الماء لا غير، والمراد بالنضح: الغسل؛ أي: تغسله، قاله الخطابي، وقدمنا ذلك مفصلًا، ويدل له قوله في الحديث الآتي بعد هذا: «فاغسلي عنك الدم» فهو يعيِّن أن المراد بالنضح في كلامهم الغسل لا غير؛ فليحفظ.
واستدل الإمام محمَّد والشافعي بهذا الحديث على أن النجاسات إنَّما تُزَال بالماء دون غيره من المائعات؛ لأنَّ جميع النجاسات بمثابة الدم إجماعًا، وهو مردود؛ فإن الماء في الحديث خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط؛ والمعنى في ذلك: أن الماء أكثر وجودًا من غيره، فصرح به باعتبار الغالب أو الكثرة، ورد أيضًا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ورد أيضًا بأن هذا مفهوم اللقب وهو غير حجة عند الشافعي، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض؛ قالت بريقها فمصعته [5] بظفرها)، وعند أبي داود: (بلته بريقها)، فلولا أن الريق مطهر؛ لزادت النجاسة، واعترض باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره، ثم غسلته بعد ذلك، ورُدَّ بأن هذا احتمال بعيد؛ لأنَّه لا دليل يدل على أنها غسلته بعد ذلك، ولئن سلَّمنا أنها غسلته؛ فبالغسل يحصل تحليل أثره من غير احتياج إلى مضغه أو بله بريقها، فمضغه أو بله بريقها دليل على أنها لم تغسله وهو كذلك؛ لأنَّه لم يثبت عنها ذلك ولا أحد نقله عنها، فهذا مجرد دعوى بلا دليل، وهي باطلة لا يعتد بها، على أن المقصود من تطهير النجاسات إزالة عينها وأثرها، والمائعات الطاهرات، وكذا الريق لا ريب أنها تزيل العين والأثر، وبها يحصل المقصود؛ فلا خصوصية بالماء، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور رضي الله تعالى عنهم.
(وتصلي فيه) وفي رواية: (ثم تصلي فيه)، فقد علمت أن الضمير المنصوب في (تحته) وفي (تقرضه) يرجع إلى الثوب، وفي قوله: (وتنضحه) يرجع إلى الماء، وقد ذكرنا عن قريب أن الخطابي قال: (تنضحه)؛ أي: تغسله؛ لأنَّ المراد بالنضح في كلام العرب: الغسل)، وقال القرطبي: (المراد به: الرش؛ لأنَّ غسل الدم استفيد من قوله: «تقرضه بالماء»، وأما النضح؛ فهو لما شكَّت فيه من الثوب)، وقال ابن حجر: (فعلى هذا؛ الضمير في قوله: (تنضحه) يعود إلى الثوب بخلاف (تحته)، فإنه يعود إلى الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل، ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا نسلم ذلك؛ لأنَّ لفظ الدم غير مذكور صريحًا، والأصل في عود الضمير أن يكون إلى شيء مذكور صريح، والمذكور هنا صريحًا الثوب والماء، فالضميران الأوَّلان يرجعان إلى الثوب؛ لأنَّه المذكور قبلهما، والضمير الثالث يرجع إلى الماء؛ لأنَّه المذكور قبله، وهذا هو الأصل؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أيضًا
%ص 206%
أن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئًا؛ لأنَّه إن كان طاهرًا؛ فلا حاجة إليه، وإن كان متنجسًا؛ لم يطهر بذلك، فالأحسن ما قاله الخطابي.
ورده في «عمدة القاري» قال: قلت: الذي قاله القرطبي هو الأحسن؛ لأنَّه يلزم التكرار من قول الخطابي، فلا فائدة فيه؛ لأنا قد ذكرنا أن الحت: هو الفرك، والقرض: هو الدلك بأطراف الأصابع مع صبِّ الماء عليه حتى يذهب أثره لما نقلناه عن القاضي عياض، ففهم الغسل من لفظة القرض، فإذا قلنا الرش بمعنى الغسل؛ يلزم التكرار.
وقوله: (إن الرش ... ) إلخ كلام من غير روية؛ لأنَّ الرش ههنا لإزالة الشك المتردد في الخاطر، كما في الحديث: في رش المتوضئ الماء على سراويله بعد فراغه من الوضوء، وليس معناه على الوجه الذي ذكره؛ فافهم، انتهى.
قلت: وهو في غاية من التحقيق؛ فليحفظ.
والمراد بالوضوء؛ أي: الاستنجاء، أو أنه من العادة أن الإنسان إذا أراد الاستنجاء؛ حل سراويله، وبعده استنجى وتوضأ، ثم يلبسها ويرشها لأجل الوسوسة من الشيطان الرجيم؛ فافهم واحفظ.
وقال ابن بطال: (حديث أسماء أصل عند العلماء في غسل النجاسات من الثياب، وهذا الحديث محمول عندهم على الدم الكثير الفاحش إلا أن الفقهاء اختلفوا في مقدار ما يتجاوز عنه من الدم، فاعتبر الكوفيُّون فيه وفي سائر النجاسات دون الدرهم في الفرق بين قليله وكثيره)، قال في «عمدة القاري»: فلما ذكره صاحب «الأسرار» عن علي وابن مسعود رضي الله عنها أنهما قدرا النجاسة بالدرهم، وكفى بها حجة في الاقتداء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي «المحيط»: (أنه قدره بظفره أيضًا، وكان ظفره قريبًا من كفنا)، فدل على أن ما دون الدرهم لا يمنع، وقال في «المحيط» أيضًا: الدرهم الكبير: ما يكون مثل عرض الكف، وفي صلاة الأصل الدرهم الكبير المثقال. يعني: يبلغ مثقالًا، وعند شمس الأئمَّة السرخسي: (يعتبر بدرهم زمانه، وأما الحديث الذي رواه الدارقطني في «سننه» عن روح بن عطيف، عن الزُّهري، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هريرة، عن النبيِّ عليه السلام قال: «تعاد من قدر درهم من الدم»، وفي لفظ: «إذا كان في الثوب قدر الدرهم من الدم؛ غسل الثوب وأعيدت الصَّلاة»؛ فاتفق الحفَّاظ على أنه حديث منكر؛ بل قال البخاري: إنه حديث باطل؛ فلهذا لم يحتج به الإمام الأعظم، وأصحابه رضي الله عنهم.
فإن قلت: النص _وهو قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]_ لم يفصل بين القليل والكثير، فلا يعفى عن القليل.
قلت: القليل غير مراد من النص بالإجماع بدليل عفو موضع الاستنجاء، فتعيَّن الكثير، وقد قدر الكثير بالآثار، انتهى.
وقال ابن بطال: (وقال مالك: قليل الدم معفوٌّ عنه، ويغسل من قليل سائر النجاسات، وروى عنه ابن وهب: أن قليل دم الحيض كالكثير؛ لقوله عليه السلام لأسماء: «حتيه، ثم اقرضيه» حيث لم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره، ولم يجد فيه مقدار الدرهم، ولادونه.
قلت: حديث عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد فيه نحيض، فإن أصابه شيء من دم؛ بلته بريقها، ثم قصعته بريقها)، رواه أبو داود، وأخرجه البخاري أيضًا، ولفظه: (قالت بريقها، فمصعته) يدل على الفرق بين القليل والكثير، انتهى.
وقال البيهقي: (هذا في اليسير الذي يكون معفوًّا عنه، وأما الكثير منه؛ فصحَّ عن عائشة أنها كانت تغسله، فهذا دليل على عدم الفرق بين القليل والكثير من النجاسة، وهو حجة على الشافعي في قوله: إنَّ يسير الدم يُغْسَل كسائر النجاسات إلا دم البراغيث، فإنه لا يمكن التحرُّز عنه) انتهى.
ورده ابن بطال: بأنه قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسًا بالقطرة والقطرتين من الدم في الصَّلاة، وعصر ابنُ عمر رضي الله عنهما بثرة فخرج منها دم، فمسحه بيده وصلى، فالشافعية ليسوا بأكثر احتياطًا من أبي هريرة، وابن عمر، ولا أكثر دراية منهما حتى خالفوهما؛ حيث لم يفرقوا بين القليل والكثير، على أن قليل الدم موضع ضرورة؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو في غالب ضرورة من بثرة، أو دمل، أو برغوث فعفي عنه، ولهذا حرَّم الله المسفوح منه، فدل على أن غيره ليس بمحرَّم) انتهى.
وفي الحديث: دلالة على أن الدم نجس بالإجماع، وفيه دلالة على أن العدد ليس بشرط في إزالة النجاسة؛ بل المراد الاتِّقاء، وفيه: دلالة على أنها إذا لم تر في ثوبها شيئًا من الدم؛ ترش عليه وتصلي فيه، انتهى «عمدة القاري»؛ أي: لأجل الوسوسة من الشيطان.
==========
[1] في الأصل: (الأول)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (إن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (نقصه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (القرطة)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فمصغته)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (الأول)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (إن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (نقصه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (القرطة)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الأول)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (إن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (نقصه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (القرطة)، وليس بصحيح.
(1/398)
[حديث: جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي]
228# وبه قال: (حدثنا محمَّد) 9 غير منسوب عند الأكثرين، وللأصيلي: (محمَّد بن سلَام)، ولأبي ذر: (محمَّد) هو ابن سلام، ولغيرهما: (محمَّد)؛ يعني: ابن سلَام؛ بتخفيف اللام، البيكندي (قال: حدثنا) ولابن عساكر: (أخبرنا) (أبو معاوية) هو محمَّد بن خازم؛ بالمعجمتين، الضرير، (قال: حدثنا هشام)؛ أي: ابن عروة، كما عند الأصيلي، (عن أبيه) أي: عروة بن الزبير، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (قالت) أي: عائشة: (جاءت فاطمة بنت) وفي رواية: (ابنة) (أبي حبيش)؛ بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره معجمة، القرشية الأسدية، واسم أبي حبيش قَيْس بن عبد المطلب بن أسد، هذا هو الصواب، وقد ذكره الذهبي في «التجريد»، كذا في «عمدة القاري»، فما زعمه ابن حجر من أنه قَيْس بن المطلب، وتبعه العجلوني خطأ؛ فافهم، ثم قال في «عمدة القاري»: (وهي غير فاطمة بنت قَيْس التي طُلِّقت ثلاثًا) انتهى، (إلى النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو متعلق بقوله: (جاءت) (فقالت) أي: فاطمة: (يا رسول الله؛ إني امرأة) وكلمة (إنَّ) لا تستعمل إلا عند إنكار المخاطب لقوله [1] أو التردد فيه، وما كان لرسول الله عليه السلام إنكار لاستحاضتها ولا تردد فيها، فوجه استعمالها ههنا يكون لتحقيق نفس القضية؛ إذ كانت بعيدة عن الوقوع نادرة الوجود؛ فلذلك أكدت قولها بكلمة (إن)، كذا في «عمدة القاري»، (أُسْتَحاض)؛ بضمِّ الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، قال الجوهري: (استحيضت المرأة؛ أي: استمر بها الدم بعد أيامها، فهي مستحاضة، وفي الشرع الحيض: الدم الخارج من الرحم، وهو موضع الولد لا يعقب ولادة مقدار وقت معلوم)، وقال الإمام الكرخي: (الحيض دم تصير به المرأة بالغة بابتداء خروجه، والاستحاضة: اسم للدم الذي تراه في أيام أقل الحيض، أو في الزائد على أكثره، وكذا ما تراه الحامل، وما تراه المعتادة فوق عادتها وتجاوز العشرة، وكذا ما تراه قبل أن تبلغ تسع سنين، وكذا ما تراه النفساء زائدًا على عادتها وتجاوز الأربعين، وكذا ما زاد على الأربعين في النفاس، وكذا ما تراه الآيسة وهي أن تبلغ من السن ما لا تحيض مثلها فيه، أو هو مقدر بخمس وخمسين، فإن ذلك كله دم استحاضة لا يمنع صلاةً، ولا صومًا، ولا وطئًا، وسيأتي تمامه.
ووجه بناء الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الاستحاضة، فيقال: استحيضت أنَّه لما كان الأول معتادًا معروفًا؛ نسب إليها، والثاني لما كان نادرًا غير معروف الوقت وكان منسوبًا إلى الشيطان كما جاء أنها ركضة من الشيطان؛ بُنِيَ لما لم يسم فاعله، والسين فيه يجوز أن تكون للتحوُّل كما في استحجر الطين، وهنا أيضًا تحول دم الحيض إلى غير دمه؛ وهو دم الاستحاضة؛ فافهم، كذا قرره في «عمدة القاري»، والله أعلم.
(فلا أطهُر)؛ بضمِّ الهاء؛ أي: لا ينقطع دمي على العادة،بل يستمر، (أفأدع)؛ أي: أفأترك (الصَّلاة؟) فرضها ونفلها، وقد وجد في هذا التركيب الهمزة وهي تقتضي عدم المسبوقية بالغير، والفاء وهي تقتضي المسبوقية به، فكيف يجتمعان؟
وأجاب الكرماني: (بأن الهمزة مقحمة، وتوسطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة؛ لعدم انسحاب ذكر الأول
%ص 207%
على الثاني، أو الهمزة ليست باقية على صرافة الاستفهامية؛ لأنَّها للتقرير هنا، فلا تقتضي الصدارة، أو هو عطف على مقدر؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟) انتهى.
قال في «عمدة القاري»: (هذا سؤال على استمرار حكم الحائض في حالة دوام الدم وإزالته وهو كلام من تقرر عنده أن الحائض ممنوعة من الصَّلاة) انتهى.
والحاصل: أن في مثل هذا التركيب وجهين؛ أحدهما وعليه جمع: أن الهمزة مقدمة من تأخي؛ ر لصدارتها، وثانيهما وعليه جرى الإمام الزمخشري: أن الفاء للعطف على مقدر بين الهمزة والفاء؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟
(فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: لا)؛ هي حرف من حروف الجواب التي يستغنى بها عما بعدها؛ أي: لا تدعي الصَّلاة أيام استحاضتك، ومثل الصَّلاة الصوم؛ أي: بل صلي وصومي ولو قطر الدم على الحصير، (إنما ذلكِ) بكسر الكاف (عِرْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الراء، وهو المسمى بالعاذِل؛ بالعين المهملة، والذال المعجمة المسكورة، وقد تهمل، وباللام أو بالراء؛ أي: دم عرق؛ لأنَّ الخارج ليس بعرق، كذا في «عمدة القاري»، وقال البيضاوي: (معنى «إنما ذلكِ عرق»؛ أي: أنه دم عرق انشق وليس بحيض، فإنه دم تميزه القوة المولدة هيأه الله تعالى من أجل الجنين، ويدفعه إلى الرحم في مجال مخصوصة، فيجتمع فيه، ولذلك سمي حيضًا من قولهم: استحوض الماء؛ أي: اجتمع، فإذا كثر وامتلأ الرحم ولم يكن فيه جنين، أو كان أكثر مما يحتمله الرحم؛ فإنه ينصب منه) انتهى (وليس بحيض)؛ لأنَّ الحيض يخرج من أصل الرحم، وهذا يخرج من قعر الرحم، فهو دم عرق لا دم حيض، (فإذا أقبلت) أي: وجدت (حيضتك)؛ بفتح الحاء المهملة وكسرها، فالفتح للمرة، والكسر اسم للدم والخرقة التي تستثفر بها المرأة والحالة، وقال الخطابي: (المحدثون يقولون: بالفتح، وهو خطأ، والصواب الكسر؛ لأنَّ المراد بها الحالة)، ورده القاضي عياض وغيره وقالوا: (الأظهر الفتح، وهو الموجود في «فرع اليونينية»؛ لأنَّ المراد إذا أقبل الحيض)، كذا في «عمدة القاري»؛ (فدعي الصَّلاة)؛ أي: اتركيها، ومثلها الصوم، والطواف، وغيرهما، ففيه: نهي المستحاضة عن الصَّلاة في زمن الحيض وهو نهي تحريم، ومقتضاه فساد الصَّلاة هنا بالإجماع، ويستوي فيها الفرض والنفل؛ لظاهر الحديث، ويتبعها الطواف، وصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر، وغيرها، (وإذا أدبرت) من الإدبار؛ وهو انقطاع الحيض؛ أي: إذا انقطعت حيضتك، وعلامة إدبار الحيض وانقطاعه والحصول في الطهر الزمان والعادة، فهو الفيصل بينهما، فإذا أضلت عادتها؛ تحرَّت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنه، وقال الشافعي: علامة انقطاع الحيض والحصول في الطهر أن ينقطع خروج الدم والصفرة والكدرة سواء خرجت رطوبة بيضاء أو لم يخرج شيء أصلًا، قاله النووي، وقال البيهقي: (التريَّة: رطوبة خفيفة لا صفرة ولا كدرة تكون على النفطة أثر لا لون، وهذا بعد انقطاع الحيض)، قال في «عمدة القاري»: (التَرِيَّة؛ بفتح المثناة الفوقية، وكسر الراء، وتشديد الياء آخر الحروف)، قال ابن الأثير: (التريَّة؛ بالتشديد: ما تراه بعد الحيض، والاغتسال منه من كدرة أو صفرة، وقيل: هو البياض الذي تراه عند الطهر، وقيل: هي الخرقة التي تعرف به المرأة حيضها من طهرها، والتاء فيه زائدة؛ لأنَّه من الرؤية، والأصل فيها الهمزة، ولكنهم تركوه وشددوا الياء، فصارت اللفظة كأنها فعيلة، وبعضهم يشدد الراء والياء) انتهى والله أعلم، (فاغسلي عنك) بكسر الكاف (الدم) وظاهره مشكل؛ لأنَّه لم يذكر الغسل ولا بد بعد انقضاء الحيض من الغسل، وأجيب: بأن الغسل وإن لم يذكر في هذه الرواية؛ فقد ذكر في رواية أخرى صحيحة، قال فيها: (فاغتسلي)، والحديث يفسِّر بعضه بعضًا، وجواب آخر: وهو أن يحمل الإدبار على انقضاء أيام الحيض والاغتسال.
وقوله: (واغسلي عنك) محمول على دم يأتي بعد الغسل، والأول أوجه وأصح، وأما قول بعضهم: (فاغسلي عنك الدم)؛ أي: واغتسلي؛ فغير موجَّه أصلًا، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وأراد بقوله: (بعضهم) ابن حجر العسقلاني، فإنه لعدم اطلاعه [2] على الرواية الأخرى قال: أي: واغتسلي، ولا ريب في عدم توجيهه أصلًا؛ لأنَّه يخلُّ في الحكم، والإحالة بالدليل على المجهول لا يفيد شيئًا، فلا شك أن الدليل الصريح المذكور هو التحقيق، فكلام ابن حجر غير حقيق، وكلام «عمدة القاري» في غاية من التدقيق؛ فافهم.
(ثم صلي)؛ أي: الصَّلاة التي تدركينها [3] أوَّلًا، ففيه: أن الصَّلاة تجب بمجرد انقطاع دم الحيض، وأنها إذا مضى زمن حيضها؛ وجب عليها أن تغتسل في الحال لأوَّل صلاة تدركها، ولا يجوز لها بعد ذلك أن تترك صلاةً ولا صومًا، ويكون حكمها حكم الطاهرات؛ فلا يستظهر بشيء أصلًا، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وهو رواية عن مالك، وبه قال الشافعي، وفي رواية عن مالك: (أنها تترك الصَّلاة إلى انتهاء خمسةَ عشرَ يومًا، وهو أكثر مدة الحيض عنده) انتهى، (قال) أي: هشام بن عروة بالإسناد المذكور فهو موصول كما بينه الترمذي في روايته (وقال أبِي) بكسر الموحدة؛ أي: عروة بن الزبير: (ثم توضئي) بصيغة الأمر (لكل) وقت (صلاة) فرض، لا لكل صلاة فرض ولا نفل، فإنما كان وضوءها للوقت، فيبقى ببقائه ما لم تُحدِث حدثًا غيره، يدل لهذا ما رواه سبط ابن الجوزي عن الإمام الإعظم: أنه عليه السلام قال: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة»، وفي «شرح مختصر الحافظ الطحاوي»: روى الإمام الأعظم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيَّ عليه السلام قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «توضئي لوقت كل صلاة»، ولا شك أن هذا محكم لا يحتمل غيره بالنسبة إلى كل صلاة؛ لأنَّه لا يحتمل غيره بخلاف حديث: «توضئي لكل صلاة»، فإن الصَّلاة_ أي: لفظ الصَّلاة_ شاع استعمالها في لسان الشرع والعرف في وقتها، فمن الأول: قوله عليه السلام: «إن للصلاة أوَّلًا وآخرًا»؛ أي: لوقتها، فوجب حمل حديث: «توضئي لكل صلاة» على المحكم؛ لأنَّ (اللام) للوقت؛ كما في قوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]؛ أي: زوالها، يقال: آتيك لصلاة الظهر؛ أي: وقتها، فكان ما رواه الشافعي نصًّا محتملًا للتأويل، وما رواه الإمام الأعظم مفسَّرٌ لا يحتمل التأويل، فيترجح عليه كما عرف في موضعه، على أن الحفاظ اتفقوا على ضعف حديث الشافعي، كذا حكاه النووي في «المهذب»، وباقي أصحاب الأعذار في حكم المستحاضة، فالدليل يشملهم، وسيأتي بقية الكلام عليه؛ فافهم، (حتى يجيء ذلكِ) بكسر الكاف (الوقت)؛ أي: وقت إقبال الحيض، وادَّعى قوم من المحدثين: أن قوله: (ثم توضئي ... إلى آخره) من كلام عروة موقوفًا عليه، وقال الكرماني: (السياق يقتضي الرفع إلى رسول الله عليه السلام)، وقال ابن حجر: (لو كان من كلامه؛ لقال: ثم تتوضأ؛ بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر؛ شاكل الأمر الذي في المرفوع وهو (اغسلي).
قلت: وردهما في «عمدة القاري» فقال: (كلام كل من الكرماني وهذا القائل احتمال، فلا يقع به القطع،
%ص 208%
ولا يلزم من مشاكلة الصيغتين)، واعترضه العجلوني بقوله: (لم يدَّعيا القطع، بل أرادا الظهور).
قلت: لو أرادا الظهور لا القطع؛ لصرحا بالظهور، وعدم تصريحهما بالظهور دليل على ادعائهما القطع، وهو ممنوع، بل احتمالهما أيضًا ممنوع، والحق ما عليه الجماعة المحققون من أن قوله: (ثم توضئي ... ) إلخ من كلام عروة موقوفًا عليه بدليل ظاهر السياق، فإن ظاهره يدل على أنه موقوف على عروة؛ لأنَّ قوله: (قال: وقال أبي) يدل على ذلك، فإنه لو كان من المرفوع؛ لم يقل (قال: وقال أبي)؛ بل أسقطها، ووصله.
وقوله: (ثم توضئي ... ) إلخ؛ مقول القول، ودعوى ابن حجر: أنه لو كان هذا كلام عروة؛ لقال: ثم تتوضأ؛ بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر؛ شاكل الأمر الذي هو المرفوع، وهو قوله: (فاغسلي) ممنوع؛ لأنَّه لا يلزم من إتيانه بصيغة الأمر أن يكون مرفوعًا، وإنما أتي به بهذه الصيغة؛ لإفادة أنها مأمورة بالوضوء لوقت كل صلاة بدليل آخر غير هذا من الأحاديث التي أوردناها، والمشاكلة لا تدل على الرفع؛ لأنَّه يقع في الكلام كثير [4] مما ظاهره المشاكلة، ويكون الأمر على خلافه، فالحق ما عليه القوم من المحدثين من أنه موقوف على عروة، وليس من المرفوع، كما لا يخفى؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث: جواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بأمر من أمور الدين، وفيه: جواز استماع صوت المرأة عند الحاجة الشرعية، وفيه: دليل على نجاسة الدم، وفيه: دليل واضح على إيجاب الوضوء من خروج الدم من غير السبيلين؛ لأنَّه عليه السلام علل نقض الطهارة بخروج الدم من العرق، وكل دم يبرز من البدن؛ فإنما يبرز من عرق؛ لأنَّ العروق هي مجاري الدم من الجسد)، وقال الخطابي: (وليس معنى الحديث ما ذهب إليه هؤلاء، ولا مراد رسول الله عليه السلام من ذلك ما توهموه، وإنما أراد أن هذه العلة إنَّما حدثت بها من تصدع العرق، وتصدُّع العرق علة معروفة عند الأطباء يحدث ذلك عند غلبة الدم، فتتصدَّع العروق إذا امتلأت تلك الأوعية).
ورده في «عمدة القاري»: (بأنه ليس معنى الحديث ما ذهب إليه الخطابي؛ لأنَّه قيَّد إطلاق الحديث، وخصَّص عمومه من غير مخصص، وهو ترجيح بلا مرجح وهو باطل) انتهى.
قلت: على أن قوله عليه السلام في الحديث: «إنما ذلك عرق» يشمل جميع العروق التي في الجسد؛ لأنَّه قد أتى به نكرة، وهي في مثله تعمُّ، وإنما أراد عليه السلام بيان الحيض والاستحاضة، فبيَّن أن الاستحاضة هي التي تخرج من عروق البدن؛ لأنَّه مركَّب على العروق، وهي مجاري الدم، فكل دم يخرج؛ فإنما يخرج من العروق، وأما الحيض؛ فإنه يخرج من الرحم فقط، فما قاله الخطابي، وتبعه الكرماني غير ظاهر، وإنما هو من التعصُّب بمكان؛ لأنَّه كلام بارد، وبحث جامد، وهذا دأب الشافعية في الكلام، والله الموفق الموصل لكل مرام.
==========
[1] في الأصل: (لدخوله)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (تدركيها)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (كثيرًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (لدخوله)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (تدركيها)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (لدخوله)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (تدركيها)، وليس بصحيح.
(1/399)
(64) [باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة]
هذا (باب) بيان حكم (غسل المنيِّ) عند كونه رطبًا (و) بيان حكم (فركه) عند كونه يابسًا، والفرك: هو الدلك حتى يذهب أثره، والمنيُّ؛ بتشديد الياء: ماء خاثر أبيض يتولَّد منه الولد وينكسر به الذكر، ورائحته رائحة الطلع، (و) بيان (غسل ما يصيب) الثوب أو الجسد (من المرأة) عند مخالطته إياها، وهذه الترجمة مشتملة على ثلاثة أحكام، ولم يذكر في هذا الباب إلا حكم غسل المنيِّ، وذكر الحكم الثالث في أواخر كتاب (الغسل) من حديث عثمان رضي الله عنه، وقال ابن حجر: (لم يُخَرِّجِ البخاري حديث الفرك، بل اكتفى بالإشارة إليه في الترجمة على عادته؛ لأنَّه ورد من حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا اعتذار بارد؛ لأنَّ الطريقة أنه إذا ترجم الباب بشيء ينبغي أن يذكره.
وقوله: (بل يكتفي بالإشارة إليه) كلام واهٍ؛ لأنَّ المقصود من الترجمة معرفة حديثها، وإلا؛ فمجرد ذكر الترجمة لا يفيد شيئًا، والحديث الذي في هذا الباب لا يدل على الفرك، ولا على ما يصيب من المرأة، واعتذر الكرماني عنه بقوله: واكتفى بإيراد بعض الحديث، وكثيرًا يفعل مثل ذلك، أو كان في قصده أن يضيف إليه ما يتعلق به، ولم يتفق له أو لم يجد رواته على شرطه، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا كله لا يجدي شيئًا.
قلت: أي: لأنَّ قوله: (واكتفى ... ) إلخ؛ ممنوع، فإن المذكور في هذا الباب من الحديثين لا يدل على الفرك أصلًا.
وقوله: (أو كان في قصده ... ) إلخ؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لم يُظْهِر العذر الحامل له على عدم ذِكْره.
وقوله: (أو لم يجد رواته على شرطه) ممنوع أيضًا، فإن رواة حديث الفرك رواة «الصحيحين»، وسيصرح به المؤلف، فمن أين جاء الكرماني بهذا الكلام الذي هو غير موصل للمرام؟ وقد ذكر العجلوني عبارة الكرماني بالحرف، وادَّعى أن صاحب «عمدة القاري» قد أهمل ما يدفع الإيراد.
قلت: وهو باطل، فإن صاحب «عمدة القاري» نقل عبارة الكرماني بالمعنى الصحيح من كلامه، ولم يهمل منه شيئًا من حيث المعنى، ومعلوم أن إهمال محلِّ المقصود معيب، ولكن العجلوني لما كان قصير الفهم ولا قدرة له على نقل الكلام بالمعنى؛ قال ذلك متورِّكًا على صاحب «عمدة القاري»، ولا ريب أن العجلوني لو اشتغل آناء الليل وأطراف النهار؛ لما وصل إلى فهم صاحب «عمدة القاري» حتى يتورَّك عليه، وأين هو منه وشتان ما بينهما؟ فإن صاحب «عمدة القاري» حين كان يدرس ويؤلِّف ويفيد الخاص والعام كان العجلوني منيًّا في ظهر آبائه، ثم صار يرعى البقر في عجلون في الصحراء، فالفهم السقيم جاءه من هناك؛ فافهم.
==========
%ص 209%
==================
(1/400)
[حديث: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي فيخرج إلى الصلاة]
229# وبه قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الباء الموحدة، لقب عبد الله بن عثمان العتكي المروزي (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (عبد الله بن المبارك) وفي رواية إسقاط (ابن المبارك)، وفي أخرى: (عبد الله هو ابن المبارك)، وفي أخرى وعليها شَرَحَ الكرماني: (عبد الله؛ أي: ابن المبارك)، قال في «عمدة القاري»: فكأنه وقع في نسخته عبد الله منسوبًا إلى الأب بـ (التفسير) من «البخاري»، ثم قال: (وقاله على سبيل التعريف؛ إشعارًا بأنه لفظه لا لفظ شيخه) انتهى؛ فافهم، (قال: أخبرنا عمرو) بفتح العين (بن مَيمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية (الجَزَرَي) بالزاي، والراء، والجيم المفتوحات، منسوبًا إلى الجزيرة، المتوفى سنة مئة وخمس [1] وأربعين، وكان ميمون بن مهران والد عمرو، نزلها فنسب إليها ولده، وفي رواية: (عمرو ابن مهران) نسبة لجدِّه، وقال ابن حجر: (وقع في رواية الكشميهني وحده (الجوزي)؛ بواو ساكنة، بعدها زاي، وهو غلط منه.
ورده في «عمدة القاري»: (بأن الظاهر أن الغلط من الناقل، أو الكاتب فدوَّر رأس الزاي، ونقط الراء، فصار: الجوزي، وقد يقع من الناقلين والكتاب الجهلة أكثر من هذا وأفحش) انتهى.
(عن سيلمان) بضمِّ السين المهملة (ابن يسار) بفتح التحتيتة أوله، وتخفيف السين المهملة، ضد اليمين، مولى ميمونة أم المؤمنين، فقيه المدينة، العابد الحجة، المتوفى سنة سبع ومئة، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (قالت: كنت أغسل الجنابة)؛ أي: أثرها أو موجبها على حذف مضاف، أو سمِّي المنيُّ بها مجازًا من باب تسمية الشيء
%ص 209%
باسم سببه، فإن وجوده سبب لبعده عن الصَّلاة ونحوها، فلا يرد أن الجنابة معنًى لا عين [2]، فكيف تغسل؟ قاله الكرماني، وقال في «عمدة القاري» بعد ذكره: قلت: يجوز أن تكون عائشة رضي الله عنها أطلقت على المنيِّ اسم الجنابة وحينئذٍ فلا حاجة إلى التقدير بالحذف أو المجاز.
قلت: وحينئذٍ فإطلاق الجنابة على المنيِّ حقيقة؛ فليحفظ.
(من ثوب النبيِّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) قالت عائشة: (فيخرج)؛ أي: من حجرتي (إلى الصَّلاة) أي: في المسجد (وإنَّ) بكسر الهمزة، وتشديد النون لوقوعها في أول الجملة الحالية (بقع الماء في ثوبه) الشريف عليه السلام، والبُقَع؛ بضمِّ الموحدة، وفتح القاف، وبالعين المهملة، جمع بقعة؛ كالنطفة، والنطف، والنطفة، والبقعة في الأصل: قطعة من الأرض يخالف لونها لون ما يليها، وفي بعض النسخ بفتح الموحدة، وسكون القاف، جمع بقعة؛ كتمر، وتمرة، ويفرق بين الجنس والواحد منه بالتاء، وقال التيمي: (يريد بالبقعة: الأثر)، قال أهل اللغة: البقع اختلاف اللونين يقال: غراب أبقع، كذا في «عمدة القاري»، وقال ابن بطال: البقع بقع المنيِّ وطبعه، ورده في «عمدة القاري»: (بأن هذا ليس بشيء؛ لأنَّه [3] في الحديث صرح: «وإن بقع الماء»، ووقع عند ابن ماجه: «وأنا أرى أثر الغسل فيه»؛ يعني: لم يجف) انتهى؛ أي: فبقيت البقع في ثوبه عليه السلام بعد غسله؛ لأنَّه خرج مبادِرًا إلى الصَّلاة، ولم يكن له ثياب أخر ليلبسها، وفي الحديث حجة قوية ومحجة مستقيمة للأئمة الحنفية على أن المنيَّ نجس؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (كنت أغسل الجنابة من ثوب النبيِّ عليه السلام)، فقولها: (كنت) يدل على تكرار هذا الفعل منها، واستمراره، فهذا أدل دليل على نجاسة المني، وهو حجة على الشافعية بقولهم: إنه طاهر، وقال الكرماني: (وليس في الحديث حجة لمن قال بنجاسة المني؛ لاحتمال أن يكون غسله بسبب أنه ممن كان نجسًا، أو بسبب اختلاطه برطوبة فرجها على مذهب من قال بنجاسته رطوبة الفرج) انتهى.
ورده في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: بل له حجة، وتعليله بهذا لدعواه لا يفيد شيئًا؛ لأنَّ المشرِّحين من الأطباء الأقدمين قالوا: إن مستقر المني في غير مستقر البول، وكذلك أكثر مخرجيهما، وأما نجاسة رطوبة فرج المرأة؛ ففيها خلاف عندهم) انتهى.
قلت: والصحيح عندهم أن رطوبة فرج المرأة طاهرة، ودعوى أن المني لا يَسْلَمُ من المذي فيتنجس به؛ ممنوعة باطلة؛ لأنَّ الشهوة إذا اشتدت خرج المني بلا مذي ولا بول؛ كحالة الاحتلام، وما عداه نادر لا حكم له؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن قولها: (كانت تغسله) ليس يقتضي إيجابه، ورده في «عمدة القاري»: بأن قولها: (كنت) يدل على تكرار الغسل منها، وهو علامة الوجوب من ورود الأمر فيه بالغسل، والأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، كما قاله أهل الأصول، وهذا القائل يريد تمشية مذهبه من غير دليل.
قال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث: خدمة المرأة لزوجها في غسل ثيابه ونحو ذلك خصوصًا إذا كان من أمر يتعلق بها وهو من حسن المعاشرة وجميل الصحبة، وفيه: نقل أحوال المقتدى به وإن كان يستحي من ذكرها عادة، وفيه خروج المصلي إلى المسجد بثوبه الذي غسل منه المني قبل جفافه) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (وخمسة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (غير)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (فإن)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (وخمسة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (غير)، ولعله تحريف.
[1] في الأصل: (وخمسة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (غير)، ولعله تحريف.
(1/401)
[حديث: كنت أغسله من ثوب رسول الله]
230# وبه قال: (حدثنا قُتِيْبة) هو ابن سَعِيْد؛ بضمِّ القاف، وفتح الفوقية، وسكون التحتية (قال: حدثنا يزيد) من الزيادة غير منسوب، قال في «عمدة القاري»: (واختلف فيه فقيل: هو يزيد بن زريع، وقيل: يزيد بن هارون، وكلاهما رويا عن عمرو بن ميمون، ووقع في رواية الفربري غير منسوب، ووقع في رواية ابن السكن أحد الرواة عن الفربري: حدثنا يزيد هو ابن زريع، وكذا أشار إليه الكلاباذي، ثم قال: (فإن قلت: الاختلاف المذكور في يزيد هل هو ابن زريع أو ابن هارون التباسٌ وهو يقدح في الحديث؟
قلت: لا التباس ولا قدح؛ لأنَّ أيَّا كان هو عدل ضابط بشرط البخاري، وإنما كان يُقْدَحُ لو كان أحدهما على غير شرطه) انتهى، والله أعلم.
ورجح القطب الحلبي أنه ابن هارون قال: لأنَّه لم يوجد من رواية ابن زريع، ووجد من رواية ابن هارون، واعترضه ابن حجر: بأنه لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود، وقد جزم ابن مسعود: بأنه رواه، فدل على وجدانه، ورده في «عمدة القاري»: بأنه ليس كذلك، فإن أبا مسعود ما جزم به، وإنما قال: يقال: هو ابن هارون لا ابن زريع، ورواه الإسماعيلي من طريق الدورقي، وأحمد بن منيع، ويوسف بن موسى؛ قالوا: حدثنا يزيد بن هارون، ورواه أبو نعيم من حديث الحارث بن أبي أسامة أخبرنا يزيد بن هارون، وذكره الجيَّاني أيضًا، ورجح ابن حجر كلامه في كون يزيد هذا ابن زريع لا ابن هارون بشيئين لا ينهض كلامه بهما؛ أولهما: بقوله: وقد خرجه الإسماعيلي وغيره من حديث يزيد بن هارون بلفظ مخالف للسياق الذي أورده البخاري، وهذا من مرجحات كونه ابن زريع، والثاني: قال: وقتيبة معروف بالرواية عن يزيد بن زريع دون ابن هارون، ورد الأول في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: هذا الذي قاله حجة عليه، ورد لكلامه؛ لأنَّ مخالفة لفظ من روى هذا الحديث لسياق البخاري، وليست بمرجحة؛ لكون يزيد هذا هو ابن زريع مع صراحة ذكر هارون في الروايات المذكورة)، ورد الثاني بقوله: (قلت: هذا أيضًا حجة عليه، ومردود عليه؛ لأنَّ كون قتيبة معروفًا بالرواية عن يزيد بن زريع لا ينافي روايته عن يزيد بن هارون بعد أن ثبت أن قتيبة روى عنهما جميعًا، ولقد غره في هذا ما قاله المزِّيُّ: «الصحيح أنه يزيد بن زريع، فإن قتيبة مشهور بالرواية عن ابن زريع دون ابن هارون») انتهى.
قالوا: وفيه نظر، ووجهه ما ذكرناه، وكان قصد هذا القائل توهية كلام الحلبي، والدليل عليه ذكره إياه بما ذكره، ولا يخفى ذلك على من له فطانة، انتهى كلامه رضي الله عنه.
(قال: حدثنا عَمرو) بفتح العين، وفي رواية؛ (يعني: ابن ميمون)، (عن سليمان)؛ بضمِّ السين المهملة، هو ابن يسار، كما في رواية (قال: سمعت عائشة)؛ الصديقة رضي الله عنها.
(ح) إشارة إلى التحويل من إسناد قبل ذكر متن الحديث إلى إسناد آخر له: (وحدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد البصري أبو بشر ثقة صدوق، المتوفى سنة سبع وسبعين ومئة بالبصرة، قال في «عمدة القاري»: (وفي طبقته عبد الواحد بن زيد البصري، ولم يخرِّج له المؤلف شيئًا) (قال: حدثنا عمرو) بفتح العين؛ (يعني: ابن ميمون) أشار به إلى أن شيخه لم ينسبه، وهذا تفسير له من تلقاء نفسه، وفي رواية عمرو غير منسوب، (عن سُليمان) بضمِّ المهملة: هو ابن يسار (قال: سألت عائشة)؛ الصديقة رضي الله عنها، وأشار المؤلف في الإسناد الأول بقوله: سمعت، وفي هذا الثاني (سألت) إلى الرد على من زعم أن سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة رضي الله عنها؛ منهم: أحمد ابن حنبل، والبزار، وقد صرح المؤلف بسماعه منها، وكذا هو في «صحيح مسلم»، قال في «عمدة القاري» بعد ذكره وفي (سمعت)، و (سألت) لطيفة أخرى لم يأت بها الشراح، وهي أن كل واحدة من هاتين اللفظتين لا تسلتزم الأخرى؛ لأنَّ السماع لا يستلزم السؤال، ولا السؤال يستلزم السماع، فلذلك ذكرهما في الإسنادين؛ ليدل على صحة السؤال، وصحة السماع؛ فافهم، والله أعلم، (عن المني) أي: عن حكم المني (يصيب الثوب) هل يُغْسَلُ رطبًا، ويُفْرَكُ يابسًا؟ (فقالت)؛ أي: عائشة رضي الله عنها: (كنت أغسله) أي: المني (من ثوب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)
%ص 210%
وأتت بـ (كنت)؛ إشارة إلى تكرار الفعل منها واستمراره، ففيه: دليل واضح على أن المني نجس؛ لأنَّ الطاهر لا يغسل، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والجمهور وهو حجة على الشافعي؛ حيث قال بطهارته، ولا دليل يدل على ما قاله، فإن أحاديث الباب واضحة الدلالة على أنه نجس؛ فليحفظ، (فيخرج) أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام من الحجرة (إلى الصَّلاة) أي: في المسجد الشريف (وأثر الغسل في ثوبه)؛ أي: لم يجفَّ (بُقَعُ الماء)؛ بضمِّ الموحدة، وفتح القاف، مرفوع على جواب سؤال مقدر؛ تقديره: أن يقال ما ذلك الأثر؟ فأجاب بقوله: بقع الماء، وفي الحقيقة؛ أي: هو بقع الماء يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، ويجوز فيه النصب على الاختصاص؛ أي: أعني بقع الماء، وقول ابن حجر: هو بدل ليس بشيء، أفاده في «عمدة القاري»، وقدمنا أن ترجمة الباب مشتملة على ثلاثة أحكام ولم يذكر المؤلف فيه إلا حكم غسل المني، والحكم الثالث: ذكره في أواخر كتاب (الغسل)، وأما الحكم الثاني؛ فقد أفصح عنه في «عمدة القاري» حيث قال: ثم إن بعضهم ذكر كلامًا لا يَذْكُرُه من له بصيرة ورؤية، وفيه رد لما ذهب إليه الأئمَّة الحنفية، ومع هذا أخذ كلامه هذا من الخطابي مع تغييره، وهو أنه قال: وليس بين حديث الغسل وحديث الفرك تعارض؛ لأنَّ الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني بأن يُحْمَل الغسل على الاستحباب؛ للتنظيف لا على الوجوب، وهذه طريقة الشافعية وأحمد، وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبًا، والفرك على ما كان يابسًا، وهذه طريقة الحنفية، والطريقة الأولى أرجح؛ لأنَّ فيها العمل بالخبر والقياس معًا؛ لأنَّه لو كان نجسًا؛ لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه؛ كالدم وغيره، وهم لا يكتفون فيما لا يُعْفَى عنه من الدم بالفرك.
ورده في «عمدة القاري» بقوله: قلت: من هذا الذي ادَّعى تعارضًا بين الحديثين المذكورين حتى يحتاج إلى التوفيق، ولا نسلم التعارض بينهما أصلًا، بل حديث الغسل يدلُّ على نجاسة المني بدلالة غسله، وكان هذا هو القياس أيضًا في يابسه، ولكن خُصَّ بحديث الفرك.
وقوله: (بأن يحمل الغسل على الاستحباب؛ للتنظيف لا على الوجوب) كلام واهٍ، وهو كلام من لا يدري مراتب الأمر الوارد في الشرع فأعلى مراتب الأمر الوجوب وأدناها الإباحة، وهنا لا وجه للثاني؛ لأنَّه عليه السلام لم يتركه على ثوبه أبدًا، وكذلك الصحابة من بعده، ومواظبته عليه السلام على فعل شيء من غير ترك في الجملة تدل على الوجوب بلا نزاع فيه، وأيضًا الأصل في الكلام الكمال، فإذا أطلق اللفظ؛ ينصرف إلى الكامل إلا أن يصرف ذلك بقرينة تقدم، فيدل عليه حينئذٍ، وهو فحوى كلام أهل الأصول أن الأمر المطلق _أي: المجرد عن القرائن_ يدل على الوجوب.
وقوله: (والطريقة الأولى أرجح ... ) إلخ؛ هذه غير راجحة فضلًا على أن تكون أرجح، بل هو غير صحيح أصلًا؛ لأنَّه قال فيها: العمل بالخبر؛ لأنَّ من يقول بطهارة المني يكون غير عامل بالخبر؛ لأنَّ الخبر يدل على نجاسته، كما قلنا، وكذلك قوله فيها: العمل بالقياس، غير صحيح أيضًا؛ لأنَّ القياس وجوب غسله مطلقًا، ولكن خُصَّ بحديث الفرك، كما ذكرنا.
فإن قلت: ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه؛ كالمخاط؟
قلت: لا نسلم أن القياس غير صحيح؛ لأنَّ المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلًا، والمني موجب لأكبر الحدثين؛ وهو الجنابة، وسقوط الغسل في يابسه لا نسلم أنه يدل على الطهارة؛ لأنَّه لا يلزم من سقوط الغسل الطهارة، كما في موضع الاستنجاء.
وقوله: (كالدم وغيره ... ) إلخ؛ قياس فاسد؛ لأنَّه لم يأت نصٌّ بجواز الفرك في الدم ونحوه، وإنما جاء في يابس المني على خلاف القياس، فيقتصر على مورد النص.
فإن قلت: قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا} [الفرقان: 54]، سمَّاه ماء وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل على أنه أراد به التشديد في الحكم، ومن حكم الماء أن يكون طاهرًا؟
قلت: إن تسميته ماء لا يدل على طهارته؛ فإن الله تعالى سمَّى من الدواب بقوله: والله خلق كل دابة من ماء، فلا يدل ذلك على طهارة ماء الحيوان.
فإن قلت: إنه أصل الأنبياء والأولياء، فيجب أن يكون طاهرًا.
قلت: هو أيضًا أصل الأعداء؛ كنمرود، وفرعون، وهامان، وغيرهم، على أنا نقول: العلقة أقرب إلى الإنسان من المني، وهو أيضًا أصل الأنبياء عليهم السلام، ومع هذا لا يقال: إنها طاهرة، وقال هذا القائل أيضًا: وترد الطريقة الثانية أيضًا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها: (كان يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحتُّه من ثوبه يابسًا، ثم يصلي فيه)، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين.
قلت: رد الطريقة الثانية بهذا غير صحيح، وليس فيه دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون عليه السلام يفعل بذلك فيطهر الثوب، والحال أن المني في نفسه نجس، كما قد روي فيما أصاب النعل من الأذى، وهو ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ عليه السلام: «إذا وطئ الأذى بخفيه؛ فطهورهما التراب»، ورواه الحافظ الطحاوي أيضًا، ولفظه: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه أو نعله؛ فطهورهما التراب»، وقال الحافظ الطحاوي: (مكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما، وليس في ذلك دليل على طهارة الأذى في نفسه، فكذلك ما روي في المني).
فإن قلت: في سنده محمَّد بن كثير الصغاني، وقد تكلموا فيه.
قلت: قد وثقه ابن حبَّان وغيره، وروى الحديث في «صحيحه»، وأخرجه الحاكم في «مستدركه»، وقال: (صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه)، وقال النوويُّ في «الخلاصة»: (رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولا يلتفت إلى قول ابن القطان، هذا حديث رواه أبو داود من طريق لا يظن بها الصحة، ورواه أبو داود أيضًا من حديث عائشة بمعناه، والمراد من الأذى: النجاسة، وقال هذا القائل أيضًا، وأما مالك؛ فلم يعرفِ الفركَ، والعمل عندهم على وجوب الغسل؛ كسائر النجاسات).
ورده في «عمدة القاري»: بأنه لا يلزم من عدم معرفته الفرك أن يكون المني طاهرًا عنده، فإن عنده المني نجس كما هو عندنا، وذكر في «الجواهر» للمالكية: المني نجس، وأصله دم، وهو يمر في ممرِّ البول، فاختُلف في سبب التنجيس: هل هو رده إلى أصله، أو مروره في مجرى البول؟ وقال هذا القائل أيضًا: وقال بعضهم الثوب الذي اكتفت عائشة فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته ثوب الصَّلاة، وهو مردود أيضًا بما له في إحدى روايات مسلم من حديثها أيضًا: (لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله عليه السلام فركًا، فيصلي فيه)، وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصَّلاة، وأصرح منه رواية ابن خزيمة: (أنها كانت تحكه من ثوبه، وهو يصلي).
ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: أراد بقوله: (وقال بعضهم): الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي؛ فإنه قال في «معاني الآثار»: حدثنا ابن مرزوق: حدثنا بشر بن عمر قال: حدثنا شعبة عن الحكم، عن همام بن الحارث: أنه كان نازلًا على عائشة رضي الله عنها، فاحتلم، فرأته جارية لعائشة، فقالت عائشة: (لقد رأيتني وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله عليه السلام)، وأخرج الحافظ الطحاوي
%ص 211%
هذا من أربعة عشر طريقًا، وأخرجه مسلم أيضًا، ثم قال: (فذهب الذاهبون: إلى أن المني طاهر وأنه لا يُفْسِدِ الماء وإن وقع فيه، وأن حكمه في ذلك حكم النجاسة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار)، وأراد بهؤلاء الذاهبين: الشافعي، وأحمد، وغيرهما، ثم قال: (وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل هو نجس)، وأراد بالآخرين: الإمام الأعظم، وأصحابه، والأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالكًا، والليث بن سعد، والحسن ابن حيٍّ، وهو رواية عن أحمد، ثم قال الحافظ الطحاوي: وقالوا لكم في هذه الآثار؛ لأنَّها إنَّما جاءت في ذكر ثياب ينام فيها، ولم تأت في ثياب يصلي فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط، والدم، والبول لا بأس بها، ولا تجوز الصَّلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المني كذلك، وإنما يكون هذا الحديث حجة علينا إن لو كنا نقول: لا يصلح النوم في الثوب النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم عن النبيِّ عليه السلام، وقد جاء عن عائشة فيما كانت تفعل بثوب رسول الله عليه السلام الذي كان يصلي فيه إذا أصابه الشيء: حدثنا يونس: حدثنا يحيى بن حسان قال: حدثنا عبد الله بن المبارك وبشر بن المفضل، عن عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: (كنت أغسل المني من ثوب رسول الله عليه السلام، فيخرج إلى الصَّلاة وإن بقع الماء لفي ثوبه)، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وأخرجه الجماعة أيضًا على ما يأتي بيانه)، قال الحافظ الطحاوي: (فهكذا كانت تفعل عائشة بثوب رسول الله عليه السلام الذي كان يصلي فيه؛ تغسل المني منه وتفركه من ثوبه الذي كان لا يصلي فيه)، ثم قال هذا القائل واستدلَّ في رده على الحافظ الطحاوي فيما ذكرناه بأن قال: (وهذا التعقيب بالفاء ينفي ... ) إلخ، ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا الاستدلال فاسد؛ لأنَّ كون الفاء للتعقيب لا تنفي احتمال تخلُّل الغسل بين الفرك والصَّلاة؛ لأنَّ أهل العربية قالوا: التعقيب في كل شيء بحسبه، لا يقال: إنه يقال تزوَّج فلان فولد له إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل؛ وهو مدة متطاولة، فيجوز على هذا أن يكون معنى قول عائشة: (لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله عليه السلام)، وأرادت به ثوب النوم، ثم تغسله فيصلي فيه.
ويجوز أن تكون الفاء بمعنى (ثم)، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14]، فالفاءات فيها بمعنى (ثم)؛ لتراخي معطوفاتها، فإذا ثبت جواز التراخي في المعطوف؛ يجوز أن يتخلَّل بين المعطوف والمعطوف عليه مدة، ويجوز وقوع الغسل في تلك المدة، ويؤيد ذلك: ما رواه البزار في «مسنده»، والحافظ الطحاوي في «معاني الآثار» عن عائشة قالت: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله عليه السلام، ثم يصلي فيه).
وقوله: (وأصرح منه رواية ابن خزيمة ... ) إلخ؛ لا يساعده أيضًا فيما ادَّعاه؛ لأنَّ قوله: (وهو يصلي): جملة اسمية وقعت حالًا منتظرة؛ لأنَّ عائشة ما كانت تحك المني من ثوب النبيِّ عليه السلام حال كونه في الصَّلاة، فإذا كان كذلك؛ يحتمل تخلل الغسل بين الفرك والصَّلاة، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.
اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين بجاه سيد المرسلين، فإنه قد ضاق الحال، وتغيِّرت الأحوال، وعدمت الرجال، وكثر القيل والقال.
==================
(1/402)
(65) [باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره]
هذا (باب)؛ بالتنوين في بيان حكم غسل المني أو غيره، ولم يذهب أثره، وإليه أشار بقوله: (إذا غَسل) بفتح الغين المعجمة (الجنابة) أي: المني، (أو غيرها)؛ أي: غير الجنابة؛ نحو: دم الحيض وغيره من النجاسة؛ (فلم يذهب أثره) ومراده: أن الأثر إذا كان باقيًا؛ لا يضره، وقال ابن حجر: (الأثر: أثر الشيء المغسول)، قال في «عمدة القاري»: وفيه نظر؛ لأنَّ على قوله يكون الباقي أثر المني ونحوه، وهذا يضره؛ بل المراد الأثر المرئي للماء لا للمني، ولفظ حديث الباب يدلُّ على هذا، وهو قوله: (وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء)، والفاء في قوله: (فلم يذهب) للعطف لا للجزاء؛ لقوله: (إذا غسل)؛ لأنَّ جزاءه محذوف؛ تقديره: صحت صلاته أو نحو ذلك، والضمير في (أثره) يرجع إلى كل واحد من غسل الجنابة وغيرها إلا أنه أَنَّثَ ضمير (غيرها)؛ نظرًا إلى لفظ (الجنابة)، وذكر في قوله: (أثره)؛ نظرًا إلى أنها بمعنى المني، وغيرها بمعنى الدم، وقال الكرماني: (فلم يذهب أثره)؛ أي: أثر الغسل) @، وقال ابن حجر: (وأعاد الضمير مذكرًا على المعنى؛ أي: فلم يذهب أثر الشيء المغسول)، قال في «عمدة القاري»: (وكلام الكرماني أوجه؛ لأنَّ المعنى على أن بقاء أثر الغسل لا يضرُّ لإبقاء المغسول، اللهم إلا إذا عسر إزالة أثر المغسول، فلا يضر حينئذٍ؛ للحرج، وهو مدفوع شرعًا)، وقال الكرماني: (وفي بعض النسخ: «أثرها»؛ أي: أثر الجنابة)، قال في «عمدة القاري»: (إن صحت هذه النسخة؛ فلا حاجة إلى التأويل المذكور، ولكن تفسيره بقوله: «أي: أثر الجنابة» يرجع إلى تفسير القائل المذكور، وفساده ظاهر) انتهى.
ولم يذكر في الباب حديثًا يدل على هذه الترجمة، وزعم ابن حجر بأنه ذكر في الباب حديث الجنابة، والحق غيرها قياسًا، وأشار بذلك إلى ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة: أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله؛ ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض، فكيف أصنع؟ قال: «إذا طهرت؛ فاغسليه»، قالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: «يكفيك الماء، ولا يضرُّك أثره»، انتهى.
ورده في «عمدة القاري»: (بأن المؤلف يذكر مسألة، ثم يقَيْس عليها غيرها، أو يسرد حديثًا في باب مترجم دالًّا على الترجمة، ولا فائدة في ذكر ترجمة بدون ذكر حديث موافق لها مشتمل عليها، ولم يعرف ما مراده من هذا القياس: هل هو لغوي أو اصطلاحي؟ شرعي أو منطقي؟ وما هذا إلا قياس فاسد، وأيضًا من أين عرفنا أنه أشار بهذا إلى ما رواه أبو داود؟ ومن أين عرفنا أنه وقف على هذا، ولم يقف؟ ولكن كل ذلك تخمين بتخبيط) انتهى.
==========
%ص 212%
==================
(1/403)
[حديث: كنت أغسله من ثوب رسول الله ثم يخرج إلى الصلاة]
231# وبه قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل المِنْقَري)؛ بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف، نسبة إلى بني منقر؛ بطن من تميم، وهو أبو سَلَمَة التبوذكي (قال: حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد (قال: حدثنا عَمرو) بفتح العين المهملة (بن مَيمُون) بفتح الميم الأولى، وضم الثانية (قال: سمعت سُليمان) بضمِّ السين المهملة (بن يسار)؛ بفتح التحتية، وتخفيف السين المهملة، هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية: (سألت سليمان بن يسار) (في الثوب)؛ أي: سمعت سليمان يقول في حكم الثوب الذي (تصيبه الجنابة)؛ أي: المني، وعلى الرواية الثانية؛ أي: قلت لسليمان: ما تقول في الثوب الذي تصيبه الجنابة؟ على هذه الرواية يجوز أن يكون (في) بمعنى (من)، كما في قوله: (وهل يقمن من صلبه العصر الخالي) (قال: قالت عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (كنت أغسله)
%ص 212%
أي: المني (من ثوب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وليس معناه: أغسل أثر المني، ولا أغسل أثر الجنابة؛ لأنَّ تذكير الضمير باعتبار معنى الجنابة؛ لأنَّ معناها المني ههنا كما قدمناه؛ فليحفظ، (ثم يخرج) أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام من الحجرة (إلى الصَّلاة)؛ أي: في مسجده الشريف (وأثر الغَسل) بفتح الغين المعجمة (فيه)؛ أي: في ثوبه الشريف (بقع الماء)؛ يعني: أنه لم يجفَّ، وهو بالرفع على جواب سؤال مقدر؛ تقديره: أن يقال ما ذلك الأثر؟ فأجاب: بقع الماء؛ أي: هو بقع الماء، فيكون خبرًا لمبتدأ محذوف، ويجوز النصب فيه على الاختصاص؛ أي: أعني بقع الماء، وزعم ابن حجر أنه بدل، وهو ليس بشيء، كما لا يخفى، وفي الحديث: أيضًا كالأحاديث السابقة دليل ظاهر على أن المني نجس؛ كالبول؛ لأنَّه دم استحال بالنضج من حرارة الشهوة، ولهذا من جماعه حتى فترة شهوته يخرج دمًا أحمر، ونجاسة المني مغلَّظة، وكذا مني كلِّ حيوان، ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى، هذا مذهب الإمام الأعظم، ومالك، وأصحابهما، وهو رواية عن أحمد، وبه قال الأوزاعي، والثوري، والحسن ابن حيٍّ، والليث بن سعد، وغيرهم، وخالفهم الشافعي وقال: إنه طاهر، وهو رواية عن أحمد، والحديث والأحاديث الدالة على ما قلناه حجة على الشافعي، ولا دليل يدل لما قاله.
قال في «الدر المختار»: (ولا يضر بقاء أثر؛ كلون وريح لازم، فلا يكلف في إزالته إلى ماء حار، أو صابون ونحوه، بل يطهر ما صبغ، أو خضب بنجس بغسله ثلاثًا) انتهى.
أقول: والكاف في قوله: (كلون) استقصائية؛ لأنَّ المراد بالأثر هو ما ذكره فقط، كما فسره به في «فتح القدير»، و «البحر»، وغيرهما، وأما الطعم؛ فلا بد من زواله؛ لأنَّ بقاءه يدل على بقاء العين، كما نقله البرجندي، واقتصر القهستاني على تفسير الأثر بالريح فقط، وظاهره: أنه يعفى عن الرائحة بعد زوال العين وإن لم يشق زوالها، وفي «البحر»: أنه ظاهر ما في غاية البيان، وهو صريح ما نقله شيخ الإسلام نوح أفندي عن «المحيط» حيث قال: (لو غسل الثوب عن الخمر ثلاثًا ورائحتها باقية؛ طهر، وقيل: لا يطهر ما لم تزل الرائحة)، كذا في حواشي شيخ شيخنا.
فإن قلت: في حديث أم قَيْس بنت محصن عند ابن خزيمة: «واغسليه بالماء والسدر، وحكيه ولو بضلع»، وعند أبي أحمد العسكري: «حكيه بضلع، وأتبعيه بالماء والسدر»، وعند أبي داود عن امرأة من غفار: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما رأى ثيابها من الدم؛ قال: «أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء واطرحي فيه ملحًا، ثم اغسلي ما أصاب [حقيبة] الرحل من الدم، ثم عودي لمَرْكبِك [1]».
قلت: ذكر السدر والحك بالضلع والملح أمر محمول على الندب والإرشاد، قال ابن القطان: الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر الضلع والسدر، ويدل لذلك حديث خولة بنت يسار المتقدم، وفيه: «يكفيك الماء، ولا يضرك أثره»، رواه أبو داود، وكذا رواه أحمد، وابن أبي خيثمة في «الكبير»، والطبراني، وغيرهما.
وعند الدارمي عن أم سَلَمَة قالت: إن إحداهن تسبقها القطرة [2] من الدم، فقال عليه السلام: «إذا أصاب إحداكن ذلك؛ فلتقصعه بريقها»، وعند ابن خزيمة: (وقيل لها كيف كنتن تصنعن بثيابكنَّ إذا طمثن على عهد رسول الله عليه السلام؟ قالت: إن كنا لنطمث في ثيابنا، أو في دروعنا فما نغسل منه إلا أثر ما أصابه الدم)، وفي حديث مُجَاهِد عن عائشة عند البخاري: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم؛ قالت بريقها فمصعته بظفرها)؛ أي: عركته، فهذا كله يدل على أن ذكر السدر، والحك، والملح أمر ندب للتنظيف، وأن الأحاديث الأولى ضعيفة، ولهذا لم يذكرها المؤلف، بل اكتفى بالإشارة من حديث عائشة المذكور في الباب، ولأن ذهاب الأثر بالكلية لا يمكن؛ لأنَّ فيه حرجًا وهو مدفوع بالنص، ولأن تكلف السدر والضلع أمر عسر؛ لاحتياجه إلى تسخين الماء، والدلك الشديد، وربما يتمزع الثوب من ذلك، ففيه عسر، وقد أمرنا عليه السلام بالتسهيل، وفيه إضاعة الأموال، وهو سرف وتبذير، وقد نهى عنه عليه السلام، والله تعالى أعلم.
اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (لركبك).
[2] في الأصل: (يسبقها القرطة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (لركبك).
[1] في الأصل: (لركبك).
(1/404)
[حديث عائشة: أنها كانت تغسل المني من ثوب النبي ثم أراه فيه بقعة]
232# وبه قال: (حدثنا عمرو) بفتح العين المهملة (بن خالد) قال في «عمدة القاري»: (وليس في شيوخ البخاري عُمر بن خالد، بضمِّ العين) (قال: حدثنا زهير) بضمِّ الزاي؛ مصغرًا، هو ابن معاوية (قال: حدثنا عَمرو) بفتح العين (بن مَيمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية (بن مِهرانَ)؛ بكسر الميم، غير منصرف، ولم يذكر المؤلف جد عمرو في هذا الحديث الذي رواه عن عائشة من خمسة أوجه إلا في هذا الوجه، وفي هذا الوجه نكتة أخرى؛ وهي أن فيه الإخبار عن سليمان، عن عائشة: أنها كانت تغسل، على سبيل الغيبة، وفي الأوجه الأربعة المتقدمة الإخبار عنها على سبيل التكلم عنها، أفاده في «عمدة القاري»، (عن سُليمان) بضمِّ السين (بن يَسار)؛ بفتح التحتية، وتخفيف السين المهملة، مولى ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنها كانت تغسل المني) أي: الرطب (من ثوب النبيَّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ لنجاسته؛ حيث لا تصح الصَّلاة وهو حامله في ثوبه، فأفادت (كانت) استمرار الغسل وتكراره منها؛ لأنَّه عليه السلام لم يتركه على ثوبه أبدًا، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم من بعده، ومواظبته عليه السلام على فعل شيء من غير ترك تدل على الوجوب بلا نزاع فيه على أن الأمر المطلق؛ أي: المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، هذا مذهب الإمام الأعظم، والجمهور؛ فليحفظ، (ثم أَراه)؛ بفتح الهمزة، من رؤية العين؛ أي: أبصره، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى الثوب، وفي بعض النسخ: (ثم أرى)؛ بدون الضمير، فعلى هذا؛ مفعول (أرى) محذوف كما سيأتي.
فإن قلت: كيف التئام هذا بما قبله؛ لأنَّ ما قبله إخبار عن سليمان، وقوله: (ثم أراه) نقل عن عائشة؟
قلت: فيه محذوف؛ تقديره: قالت: ثم أراه، وهذا أوجه من كلام الكرماني؛ لأنَّ أوَّل الكلام نقلٌ بالمعنى عن لفظة عائشة، وآخره نقل للفظها بعينه، كذا في «عمدة القاري».
(فيه) أي: في الثوب، هذا على تقدير: أن يكون (أرى) بدون الضمير المنصوب، والتقدير: ثم أرى في الثوب (بقعة) فيكون انتصاب (بقعة) على المفعولية، وأما على تقدير (أراه) بالضمير المنصوب؛ فمرجعه يكون الأثر الذي يدل عليه قوله: (يغسل المني من ثوب النبيِّ الأعظم عليه السلام)؛ أي: أرى أثر الغسل في الثوب بقعة، (أو بقعًا)؛ بالنصب؛ بتقدير: أعني مثلًا، أو حالًا [1]، قال في «عمدة القاري»: (والظاهر: أنه من كلام عائشة، ويحتمل أن يكون شكًّا من سليمان، أو من أحد الرواة) انتهى.
وقال ابن بطال: وأثر الغسل يحتمل معنيين؛ أحدهما: أن يكون معناه بلل الماء الذي غسل به الثوب، والضمير راجع إلى أثر الماء، فكأنه قال: وأثر الغسل بالماء بقع الماء فيه؛ يعني: لا بقع الجنابة، وثانيهما: أن يكون معناه: وأثر الغسل بمعنى: أثر الجنابة التي غسلت بالماء فيه بقع الماء التي غسلت به الجنابة، والضمير فيه راجع إلى أثر الجنابة، وكلا الوجهين جائزان، لكن لفظ: (ثم أراه) في الحديث الآخر يدل على أن البقع كانت بقع المني؛ لأنَّ العرب ترد الضمير إلى أقرب مذكور، وضمير المني أقرب من
%ص 213%
ضمير الغسل) انتهى.
واعتُرض: بأن محل بقع الماء على الوجهين خبرًا لقوله: (وأثر الغسل) نعم؛ يحتمل أن يقال: جعله مبتدأ، و (فيه) خبره، والجملة خبر الأثر سيما حيث حصر؛ إذ لا طريق للحصر هنا إلا التقديم على المبتدأ، ثم لا نسلم أن (ثم أراه) يدل على أنها بقع المني؛ إذ أقرب المذكورات النبيُّ عليه السلام؛ أي: ثم أرى النبيَّ عليه السلام فيه بقعة أو بقعًا من الماء، انتهى.
وفي يوم الخامس عشر ربيع الأول، سنة سبع وسبعين طلع نجم في النهار من الغرب، ورأيته قبل هذا اليوم بنحو جمعة قبيل الزوال، والله أعلم، اللهم فرَّج عنا وعن المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (حال)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/405)
(66) [باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها]
هذا (باب) في بيان حكم (أبوال الإبل والدواب والغنم) وإنما جمع الأبوال؛ لأنَّه ليس المراد ذكر حكم بول الإبل فقط، بل المراد بيان حكم بول الإبل، وبول الدواب، وبول الغنم، ولكن ليس في الباب إلا ذكر بول الإبل فقط، ولا واحد للإبل من لفظها، وهي مؤنثة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لها لازم، وقد تسكن الباء فيه؛ للتخفيف، والجمع آبال، والدواب جمع دابة، وهي في اللغة: اسم لما يدب على الأرض، فيتناول سائر الحيوانات، وفي العرف: اسم لذي الأربع خاصة، وزعم الكرماني أن معناه العرفي: وهو ذوات الحوافر؛ يعني: الخيل والبغال والحمير، ورده في «عمدة القاري»: بأنه ليس معناه العرفي منحصرًا في هذه؛ بل يطلق على كل ذي أربع، والبخاري لم يذكر في هذا الباب إلا حديثين؛ أحدهما يُفْهَمُ منه حكم بول الإبل، والآخر يُفْهَمُ منه جواز الصَّلاة في مرابض الغنم، فعلى هذا؛ ذِكْرُ لفظة الدواب لا فائدة فيها [1]، واعترضه العجلوني بما زعمه ابن حجر أن حكم الدواب أشار إليه سياق أثر أبي موسى في صلاته في دار البريد؛ لأنَّها مأوى الدواب التي تركب، ويحتمل أن يكون أشار إلى حديث ليس على شرطه، انتهى.
قلت: وهو مردود؛ فإن أثر أبي موسى لا يدل على ما زعمه؛ لأنَّ البريد في الأصل الدابة المرتبة للرباط، ثم سمي به الرسول الراكب عليها، ثم سميت به المسافة المشهورة كما في «المغرب»، ودعوى أن يكون أشار إلى حديث ليس على شرطه ممنوعة باطلة؛ لأنَّه من المعيب أن يترجم لحكم ولا يذكر حديثًا يدل عليه، وإذا كان للحكم حديثٌ [2] ليس على شرطه؛ فعدم تعرُّضه له دليل على أنه غير راضٍ به، فلا يذكر الحكم في الترجمة، ويشير إليه؛ لأنَّه إذا كان الدليل غير قوي، فكيف الحكم المبنيُّ عليه؟! وهذا من التخبيط، وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص، واعترضه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: هو كذلك، فأي شيء ذكر فيه الاحتمال فيه وفيه عطف الخاص على العام أيضًا، وهو عطف الغنم على الدواب) انتهى.
وقد ركب العجلوني متن عمياء، وخبط خبطًا عشواء هنا؛ فليحفظ.
(ومرابضها) بالجر عطفًا على قوله: (والغنم)؛ وهي جمع مربض؛ بفتح الميم، وكسر الموحدة، من رَبَضَ بالمكان يَرْبِض من باب (ضرَب يضرِب)؛ إذا لصق به وأقام ملازمًا له، والمربض: المكان الذي يربض فيه، والمرابض للغنم؛ كالمعاطن للإبل؛ وربوض الغنم؛ كنزول الجمل، والضمير في (مرابضها) يرجع إلى الغنم؛ لأنَّه أقرب المذكورات، كما لا يخفى، والغنم: اسم جنس جمعي؛ كالإبل يقع على المذكر والمؤنث، وإذا صغرتها؛ قلت: غُنَيمة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لازم لها، كما قلنا.
وزعم ابن حجر أن المِرَابض؛ بكسر أوله، وفتح الموحدة، ورده في «عمدة القاري»: (بأن هذا غلط صريح وليس لقائله مس بالعلوم الأديبة) انتهى.
وزعم العجلوني بأنه قد يتكلف لتصحيحه بأن مكان الربوض يمكن جعله آلة تجوُّزًا، انتهى.
قلت: وهو مردود وممنوع، فإنه لا يجوز المصير إلى المجاز مع وجود الحقيقة، على أنه لا داعي إلى هذا التكلف، وما هو إلا تشديد بني إسرائيل، فإن ابن حجر ليس بمعصوم، بل يجوز عليه الخطأ والغلط وغيرهما؛ فافهم.
(وصلى أبو موسى)؛ هو عبد الله بن قَيْس الأشعري، وهذا الأثر وصله أبو نعيم شيخ المؤلف في كتاب «الصَّلاة» له، قال: حدثنا الأعمش، عن مالك بن الحارث _هو السلمي الكوفي_ عن أبيه قال: (صلى بنا أبو موسى في دار البريد، وهناك سرقين الدواب، والبرية على الباب)؛ فذكره، وهذا تفسير لما ذكره المؤلف معلَّقًا، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في «مصنفه» فقال: حدثنا وكيع: حدثنا الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبيه قال: (كنا مع أبي موسى في دار البريد، فحضرت الصَّلاة، فصلى بنا على روث وتبن، فقلنا: تصلي ههنا، والبرية إلى جنبك؟ فقال: البرية وههنا سواء)، وتمامه في «عمدة القاري»، (في دار البريد)؛ وهي دار ينزلها من يأتي برسالة السلطان، والمراد بـ (دار البريد) ههنا: موضع بالكوفة كانت الرسل تنزل فيه إذا حضروا من الخلفاء إلى الأمراء، وكان أبو موسى أميرًا على الكوفة في زمن عمر، وفي زمن عثمان رضي الله عنه، وكانت الدار في طرف البلد، ولهذا كانت البرية إلى جنبها، والبَريد؛ بفتح الموحدة: المرتب، والرسول، واثنا عشر ميلًا، قاله الجوهري، وقال في «المغرب»: (البريد في الأصل: الدابة المرتبة للرباط، ثم سمِّي به الرسول الراكب عليها، ثم سميت به المسافة المشهورة) انتهى.
قلت: فكأن البريد صار اسمًا [3] لهذه المسافة المشهورة، وهو حقيقة عرفية؛ فليحفظ.
(والسِّرقين)؛ بكسر السين المهملة، وسكون الراء؛ هو الزبل، وحكي فيه: فتح أوله، وهو فارسي معرب، ويقال له: السرجين؛ بالجيم، وهو في الأصل حرف بين القاف والجيم يقرب من الكاف، ويجوز فيه أن يكون معطوفًا على الدار، وعلى البريد، قال الكرماني: (ويروى بالرفع)، ولم يذكر وجهه، قال في «عمدة القاري»: (ووجهه أن يكون مبتدأ)، وقوله: (والبَرِّيَّة)؛ بالرفع عطفًا عليه، وهي بتشديد الراء، وفتح الموحدة، وتشديد التحتية؛ الصحراء منسوبة إلى البر خلاف البحر، والجمع البراري، وقوله: (إلى جنبه): خبره، ويكون محل الجملة النصب على الحال، وعلى تقدير جر (السِّرقين) يكون ارتفاع (البرية) على الابتداء، وما بعده خبره، والجملة حال أيضًا، والضمير يعود لأبي موسى رضي الله عنه، والجنب والجانب والجنبة والناحية، يقال: قعدت إلى جنب فلان، وإلى جانب فلان بمعنى واحد؛ أي: ناحيته، كذا قرره في «عمدة القاري»، (فقال)؛ أي: أبو موسى جواب لمقدر كما دل عليه ما تقدم في رواية ابن أبي شيبة: (فقالوا: تصلي ههنا والبرية إلى جنبك؟) (ههنا): إشارة إلى المكان القريب، وهو دار البريد، وهي مصلاه، ومحله رفع على الابتداء، وقوله: (وثَمَّ)؛ بفتح المثلثة، وتشديد الميم، إشارة إلى المكان البعيد؛ وهو البرية، عطف عليه، وخبره قوله: (سَواء)؛ بالمدِّ، وفتح السين؛ بمعنى مستوٍ؛ يعني: أنهما متساويان في صحة الصَّلاة، وقال ابن بطال: (وافق البخاري أهل الظاهر، وقاس بول ما لا يؤكل لحمه على بول الإبل، ولذلك قال: (وصلى أبو موسى في دار البريد والسرقين)؛ ليدل على طهارة أرواث الدواب وأبوالها، ولا حجة له فيها؛ لأنَّه يمكن أن يكون صلى على
%ص 214%
ثوب بسطه فيه، أو في مكان يابس لا تعلق به نجاسةٌ، وقد قال عامَّة الفقهاء: إن من بسط على موضع نجس بساطًا وصلى فيه أنَّ صلاته جائزة، ولو على السرقين بغير بساط؛ لكان مذهبًا له، ولم يجز مخالفة الجماعة به) انتهى؛ يعني: أنه من فعل أبي موسى، وقد خالفه غيره من الصحابة؛ كابن عمر وغيره، فلا يكون حجة، والتمسك بعموم الأحاديث الصحيحة التي منها ما رواه ابن خزيمة، وصححه وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: «استَنْزِهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه»؛ أولى؛ لظهوره في تناول جميع الأبوال، فيجب اجتنابها؛ لهذا الوعيد الشديد، وقال ابن حجر معترضًا على ابن بطال: بأن الأصل عدم الحائل، وقد رواه سفيان في «جامعه» عن الأعمش، ولفظه: (صلى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين)، وهذا ظاهر أنه بغير حائل، ورده في «عمدة القاري»: (بأن الظاهر أنه كان بحائل؛ لأنَّ شأنه يقتضي أن يحترز عن الصَّلاة على السرقين) انتهى.
وزاد في الطنبور نغمة العجلوني، وقال: (بل الظاهر من قوله: (ههنا وثَمَّ سواء) في جواب اعتراضهم عليه أنه لم يحترز والحالة ما ذكر، ولا ينافي هذا ما تقدم أنه كان يشدد في البول؛ لأنَّ المراد به بول الناس) انتهى.
قلت: وهذا مردود وممنوع فإن قوله: (ههنا وثَمَّ سواء)؛ أي: في صحة الصَّلاة كما علمت، واعتراضهم عليه إنَّما كان لأجل أنهم كانوا في مهب ريح أو قرب نجاسة، فاعترضوا عليه؛ لأنَّه ربما يأتي على البساط من السرقين أو النجاسات، فالظاهر المتبادر أنه كان بحائل.
وقوله: (ولا ينافي هذا ... ) إلخ، بل هو منافٍ له حقيقة؛ لأنَّه إذا كان يشدد في البول؛ ففي غيره من السرقين من باب أولى، على أن المراد بالبول جميع الأبوال، ويدل له حديث: «استنزهوا من البول»، فإنه عام في جميع الأبوال، وإذا كان يحترز عن البول؛ ففي احترازه عن السرقين أولى؛ لأنَّه كان يرى الطهارة من النجاسة شرطًا في صحة الصَّلاة، ويدل له ما تقدم عن أبي نعيم، ولفظه: (صلى بنا أبو موسى في دار البريد وهناك سرقين الدواب)، فهذا ظاهر في أنه كان يحترز عن السرقين، وأنه كان بحائل؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر بأنه قد روى سَعِيْد بن منصور، عن سَعِيْد بن المسيِّب، وغيره: أن الصَّلاة على الطنفسة محدث، إسناده صحيح، ورده في «عمدة القاري»: بأن كون الصَّلاة على الطنفسة محدثة لا يستلزم أن يكون على الحصير ونحوه كذلك، فيحتمل أن يكون أبو موسى قد صلى في دار البريد أو السرقين على حصير أو نحوه، وهو الظاهر على أن الطَِّنفسة؛ بكسر الطاء وفتحها: بساط له خمل رقيق، ولم يكونوا يستعملونها في حالة الصَّلاة؛ لاستعمال المُسرِفين إياها، فكرهوا ذلك في الصدر الأول، واكتفَوا بالدون من السجاجيد تواضعًا، بل كان أكثرهم يصلي على الحصير، بل كان الأفضل عندهم الصَّلاة على التراب تواضعًا ومسكنة) انتهى كلامه رحمه ورضي عنه الله تعالى، اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين.
==========
[1] في الأصل: (فيه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حديثًا)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (اسم)،و ليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (فيه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حديثًا)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فيه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حديثًا)، وليس بصحيح.
(1/406)
[حديث: قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم]
233# وبه قال: (حدثنا سُليمان) بضمِّ السين المهملة (بن حَرْب)؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء؛ ضد الصلح، الأزدي الواشحي؛ بمعجمة فمهملة، البصري القاضي بمكة، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين عن ثمانين سنة (قال: حدثنا حمَّاد بن زيد)؛ هو ابن درهم الأزدي الجهضمي البصري، وفي نسخة: (عن حمَّاد بن زيد)، (عن أيُّوب)؛ هو البصري السختياني، (عن أبي قِلابة)؛ بكسر القاف، عبد الله، وتابعه أبو داود، وأبو عوانة، وأبو نعيم في روايتهم عن سليمان بن حرب، وخالفهم مسلم فأخرجه عن هارون بن عبد الله عن سليمان بن حرب، وزاد بين أيُّوب وأبي قِلابة أبا رجاء مولى أبي قلابة، قال الدارقطني وغيره: ثبوت أبي رجاء وحذفه في حديث حمَّاد بن زيد عن أيُّوب صواب؛ لأنَّ أيُّوب حدث به عن أبي قلابة بقصة العرنيين خاصة، وحدث به أيضًا عن أبي رجاء، عن أبي قلابة مولاه، وزاد فيه قصة في (القسامة) مع عمر بن عبد العزيز، والطريقان صحيحان، كذا قاله في «عمدة القاري»، وتمامه فيه، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك رضي الله عنه)، ورجال السند كلُّهم بصريون (قال: قدم أُناس)؛ بالهمزة المضمومة عند الأكثرين، وفي رواية بدون الهمزة، وعند المؤلف في (الديات): (قدم أناس على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أو إلى المدينة)، قال الكرماني: (يحتمل أن تكون «المدينة» متعلقًا به على التنازع في قوله: «اجتووا المدينة»)، وكان قدومهم فيما ذكره ابن إسحاق في «المغازي» في غزوة ذي قرد في جماد الآخرة سنة ستٍّ، وذكر المؤلف: بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها، وذكر الواقدي: أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد، وابن حبان، وغيرهما، وذكر الواقدي: أن السرية كانت عشرين ولم يقل من الأنصار، وسمى منهم جماعة من المهاجرين منهم؛ يزيد بن الحصيب، وسَلَمَة ابن الأكوع، وكذا سليمان بن جندب، ورافع ابنا مكيت الجهنيان، وأبو ذر، وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنييان [1]، وزعم ابن حجر أن الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟ ورده في «عمدة القاري» بقوله: قلت: ما للواقدي؟ وهو إمام وثقه جماعة منهم الإمام أحمد وغيره، والعجب من هذا القائل أنه يقع فيه وهو أحد مشايخ إمامه، انتهى، (من عُكْل)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الكاف، آخره لام، وهي خمس قبائل؛ لأنَّ عوف بن عبد مناة ولد قَيْسًا، فولد قَيْسٌ وائلًا وعوانة، فولد وائلٌ عوفًا وثعلبة، فولد عوفُ بن وائل الحارثَ وجشمًا وسعدًا وعليًّا وقَيْسًا، وأمهم بنت ذي اللحية؛ لأنَّه كان مطائلًا لحيته، فحضنتهم أمة سوداء يقال لها عُكْل، وقيل: عكل امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قَيْس بن عوف بن عبد مناة بن أد بن طابخة، وزعم السمعاني أنهم بطن من غنم، ورد: بأن عكل امرأة من حِمْيَر يقال لها: بنت ذي اللحية، تزوجها عوف بن قَيْس بن وائل بن عوف بن عبد مناة بن أد، فولدت له سعدًا وجشمًا وعليًّا، ثم ملكت الحميرية، فحضنت عكل ولدها وهم من جملة الرباب الذين تحالفوا على بني تميم، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ فافهم، (أو عُرَيْنَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وفتح الراء، وسكون التحتية، وفتح النون مصغر عِرنة؛ بضمِّ العين، وعرينة بن نذير [2] بن قيسر بن عبقر بن أنمار بن أراش بن الغوث بن طيِّئ بن أدد، وزعم السكري أن عرينة بن عرين بن نذير، فعرينة: حي من بجيلة لا من قحطان، وليس عرينة عكلًا؛ لأنَّهما قبيلتان متفاوتتان، عكل من عدنان، وعرينة من قحطان، وزعم ابن حجر أن الشك فيه من حمَّاد، وزعم الكرماني أن الشك من أنس، وزعم الداودي أنه من الراوي، قال: إنه من حمَّاد لا يدري أي شيء وجه تعيينه بذاك، وللمؤلف في (المحاربين) عن قتيبة، عن حمَّاد: (أن رهطًا من عكل، أو قال: عرينة)، وله في (الجهاد) عن وهيب عن أيُّوب: (أن رهطًا من عكل)، ولم يشكَّ، وكذا في (المحاربين) عن يحيى بن أبي كثير، وفي (الديات) عن أبي رجاء؛ كلاهما عن أبي قلابة، وله في (الزكاة) عن شعبة، عن قتادة، عن أنس: (أن ناسًا من عرينة)، ولم يشكَّ أيضًا،
%ص 215%
وكذا لمسلم من رواية معاوية بن قرة، عن أنس، وفي (المغازي) عن سَعِيْد بن أبي عروبة، عن قتادة: (أن ناسًا من عكل وعرينة)؛ بالواو العاطفة، قيل: هو الصواب، والدليل عليه: ما وقع في رواية أبي عوانة، والطبري من حديث قتادة، عن أنس قال: (كانوا أربعة عن عرينة، وثلاثة من عكل)، قال: هذا يخالف ما عند المؤلف في (الجهاد) من طريق وهيب عن أيُّوب، وفي (الديات) من طريق حجاج الصواف، عن أبي رجاء؛ كلاهما عن أبي قلابة، عن أنس: (أن رهطًا من عكل ثمانية)، ووجهه أنه صرح بأن الثمانية من عكل، ولم يذكر عرينة، ويمكن التوفيق بأن أحدًا من الرواة طوى ذكر عرينة؛ لأنَّه روي عن أنس تارة: (من عكل أو عرينة)، وتارة: (من عرينة) بدون ذكر (عكل)، وتارة: (من عكل وعرينة)، كما بيَّنَّا.
قال في «عمدة القاري»: لا مخالفة أصلًا؛ لاحتمال أن يكون الناس من غير القبيلتين وكان من أتباعهم فنسب إليهم، وغفل من نسب عدتهم ثمانية لأبي يعلى، وغلط من نسبهم لبني فزارة؛ كعبد الرزاق؛ لأنَّ بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل ولا مع عرينة أصلًا، وهؤلاء المذكورون كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج، كما عند المؤلف في (المحاربين)، وأسلموا وبايعوا النبيَّ عليه السلام على الإسلام.
(فاجْتَوَوُا): الفاء فيه للعطف، وهو بجيم ساكنة، بعدها مثناة فوقية مفتوحة، بعدها واوين أولاهما مفتوحة، وثانيهما مضمومة، وضميره يعود على الأناس المتقدمين؛ أي: استوخموا (المدينة) كما عند ابن ماجه في روايته بدل (فاجتووا)؛ أي: أصابهم الجوى؛ بالجيم وهو داء الجوف؛ إذا تطاول، وقيل: هو كراهة المقام في مكان يقال: اجتويت البلد؛ إذا كرهتها، وإن كانت موافقة لك في بدنك وكنت في نعمة واستوبلتها؛ إذا لم توافقك في بدنك وإن أحببتها، وقيَّده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة، قيل: هو المناسب لهذه القصة، وقيل: معناه: لم توافقهم، وقيل: الجوى: داء قريب من الوباء، وللمؤلف من رواية سَعِيْد عن قتادة في هذه القصة، فقالوا: (يا نبي الله؛ إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف)، وله في (الطب) عن أنس: (أن ناسًا كان بهم سقم قالوا: يا رسول الله؛ آونا وأطعمنا، فلما صحوا؛ قالوا: إن المدينة وخمة)، وفي رواية أبي عوانة من رواية غيلان عن أنس: (كان بهم هزال شديد)، وعنده من رواية ابن سعد عنه: (مصفرًا ألوانهم بعد أن صحت أجسادهم، فهو من حمى المدينة)، والظاهر: أنهم قدموا سقامى، فلما صحوا منه؛ كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها، والسقم الذي كان بهم، فقد كان بهم هزال شديد، وجهد من الجوع جهيد، وكانت ألوانهم مصفرة، وأما الوخم الذي شكَوا منه بعد أن صحت أجسادهم؛ فهو من حمى المدينة، كما عند أحمد، وأبي عوانة، وسيأتي في (الطب): (أنه عليه السلام دعا الله أن ينقلها إلى الجحفة)، وعند الإمام مسلم عن أنس: (أنه وقع بالمدينة المُوْم)، وهو بضمِّ الميم، وسكون الواو: البِرسام؛ بكسر الموحدة، سرياني معرب يطلق على اختلال العقل، وعلى ورم الرأس، وعلى ورم الصدر، وهو المراد هنا، يدل له ما عند أبي عوانة عن أنس في هذه القصة: (فعظمت بطونهم)؛ أي: فطلبوا منه الخروج، ففي «مسلم»: (أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: يا رسول الله عليه السلام؛ قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا؛ فخرجنا إلى الإبل)، وللمؤلف من رواية وهيب أنهم قالوا: (أبغنا رسلًا)؛ أي: اطلب لنا لبنًا، قال: «ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود»، (فأمرهم النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بلِقاح) أي: فأمرهم أن يلحقوا بها، وهي بكسر اللام؛ وهي الإبل، الواحدة لقوح، وهي الحلوب؛ مثل: قلوص وقلاص، قال أبو عمرو: فإذا نتجت؛ فهي لقوح شهرين أو ثلاثة، ثم هي لبون بعد ذلك، وعند المؤلف من رواية همام عن قتادة: (فأمرهم أن يلحقوا براعيه)، وعنده من رواية قتيبة عن حمَّاد: (فأمر لهم)؛ بزيادة اللام، ووجهها أن تكون (اللام) زائدة أو للاختصاص، وليست للتمليك، وعند أبي عوانة من رواية معاوية بن قرة التي أخرج مسلم إسنادها: (أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: يا رسول الله؛ قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا؛ فخرجنا إلى الإبل)، وللمؤلف من رواية وهيب عن أيُّوب: (أنهم قالوا: يا رسول الله؛ أبغنا رسلًا)؛ أي: اطلب لنا لبنًا، قال: «ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود»، وفي رواية أبي رجاء: (هذه نعم لنا تخرج، فاخرجوا فيها)، وله في (المحاربين) عن موسى، عن وهيب بسنده: (فقالوا: إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، وله فيه من رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير بسنده: (فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة)، وكذا في (الزكاة) من طريق شعبة، عن قتادة، وطريق التوفيق بين هذه الأحاديث: أنه عليه السلام كانت له إبل من نصيبه من المغنم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترعى مع إبل الصدقة، وأخبره مرة عن إبله، ومرة عن إبل الصدقة؛ لاجتماعهم في موضع واحد، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أن الجمع بينها أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبيِّ عليه السلام بلقاحه إلى المرعى، فطلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء؛ لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا معه إلى الإبل، ففعلوا ما فعلوا، انتهى.
قلت: وفيه نظر، وقال القاضي عياض: (اللقاح؛ بكسر اللام، ويقال: بفتحها: وهي ذوات الألبان)، وذكر ابن سعد والواقدي: أن عدد هذه اللقاح خمس عشرة [3]، وأنهم نحروا منها واحدة يقال لها: الحناء، وعند أبي عوانة: وكانت اللقاح ترعى بذي الجَدْر؛ بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة؛ ناحية قباء قريبًا من عين، بينها وبين المدينة ستة أميال.
وقوله: (وأن يشربوا) عطف على (لقاح)؛ نحو: أعجبني زيد ولبنه، وكلمة (أن) مصدرية؛ والتقدير: فأمرهم بالشرب (من ألبانها وأبوالها) وفي رواية: (من أبوالها وألبانها)؛ أي: فأمرهم بالشرب من أبوال الإبل وألبان اللقاح؛ لأجل التداوي، وفي رواية المؤلف عن أبي رجاء: (فاخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها)؛ بصيغة الأمر، وفي رواية شعبة عن قتادة: (فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا)، (فانطلقوا)؛ أي: وشربوا منهما حتى صحُّوا لما أنها كانت ترعى الشيح والفيوم، فتدخل في علاج مرض الاستسقاء، فشرَّبهم لبن الصدقة؛ لكونهم أبناء سبيل، وشربهم لبن اللقاح الذي للنبيِّ الأعظم عليه السلام؛ لكونه بإذن منه عليه السلام، ففيه: دليل على أنه لا يجوز التصرف في مال الغير إلا بالإذن، ولو علم الرضا ولم يستأذن؛ لا يجوز؛ لأنَّ الرضا أمر موهوم والأحكام لا تُبْنَى إلا على اليقين؛ فافهم، (فلما صحُّوا)؛ بتشديد الحاء المهملة المضمومة، فيه حذف؛ تقديره: فشربوا من ألبانها وأبوالها، ويدل عليه رواية أبي رجاء: (فانطلقوا فشربوا من ألبانها وأبوالها)، وفي رواية وهيب: (وسمنوا)، وفي رواية الإسماعيلي من رواية ثابت: (ورجعت إليهم ألوانهم)؛ (قتلوا) جواب (لما) (راعي النبيِّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) واسمه يَسار؛ بفتح التحتية أوله، وبالسين المهملة الخفيفة، وكان نونيًّا أصابه النبيُّ الأعظم عليه السلام في غزوة محارب،
%ص 216%
فلما رآه يحسن الصَّلاة؛ أعتقه، وبعثه في اللقاح الذي له إلى الحرة، فكان بها إلى أن قتله العرنيون، وفي «طبقات ابن سعد»: (أرسل رسول الله عليه السلام في إثرهم كرز بن جابر الفهري، ومعه عشرون فارسًا، وكان العرنيون ثمانية، وكانت اللقاح أدركهم يسار مولى رسول الله عليه السلام، ومعه نفر، فقاتلهم فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ففعل بهم النبيُّ عليه السلام كذلك، وأنزل عليه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ... }؛ الآية [المائدة: 33]، فلم يسمل بعد ذلك عينًا)، وقال ابن عيينة: (كان أمير السرية سَعِيْد بن زيد بن عمر بن نفيل، وحمل يسار رضي الله عنه ميتًا، فدفن بقباء)، وزعم الرشاطي أنهم من غير عرينة التي في قضاعة، وفي «مصنف عبد الرزاق»: (كانوا من بني فزارة)، وفي «كتاب ابن الطلاع»: (أنهم كانوا من بني سليم)، وفيه نظر؛ لأنَّ هاتين القبيلتين لا يجتمعان مع العرنيين، وفي «مسند الشاميين» للطبراني عن أنس: (كانوا سبعة؛ أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل)، فقيل: العرنيين؛ لأنَّ أكثرهم كان من عرينة، وقال الطبري بإسناده إلى جرير بن عبد الله البجلي قال: (قدم قوم من عرينة حفاة، فلما صحُّوا واشتدوا؛ قتلوا رعاة اللقاح، فبعثني رسول الله عليه السلام، فلما أدركناهم بعدما أشرفوا على بلادهم ... )؛ فذكره إلى أن قال: (فجعلوا يقولون: الماء الماء، ورسول الله عليه السلام، يقول: «النار النار») انتهى.
قلت: هذا مشكل؛ لأنَّ قصة العرنيين كانت في شوال سنة ست، كما ذكرنا، وإسلام جرير في السنة العاشرة، وهذا قول الأكثرين إلا أن الطبراني وابن قانع قالا: أسلم قديمًا، فإن صح ما قالاه؛ فلا إشكال، كذا في «عمدة القاري».
(واستاقوا) من الاستياق؛ وهو السوق؛ بالسين المهملة (النَّعَم)؛ بفتحتين، واحد الأنعام، وهي الأموال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، كذا في «عمدة القاري»، وفي «القاموس»: (النَّعَم؛ بفتحتين، وقد تسكن عينه: الإبل والشاء، أو خاص بالإبل، والجمع أنعام، وجمع الجمع أناعيم) انتهى.
وبهذا ظهر فساد ما زعمه ابن حجر من أن النعم الإبل والبقر والغنم؛ فتأمل.
وفي القسطلاني وفي بعض النسخ: (واستاقوا إبلهم) انتهى، فهو يعين أن النعم خاص بالإبل؛ فافهم.
(فجاء الخبر في أول النهار) وفي رواية وهيب عن أيُّوب: (فجاء الصريخ)؛ بالصاد المهملة، والخاء المعجمة، وهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ هو أحد الراعيَين، كما ثبت في «صحيح أبي عوانة» من رواية معاوية بن قرة عن أنس، وقد أخرج إسناده، ولفظه: (فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: فقتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل)، كذا في «عمدة القاري»، وقدمنا عنه أن اسم المقتول يسار مولى رسول الله عليه السلام، وأما الآتي بالخبر؛ فقال: لم يُعلَم اسمه، والذي يظهر أنه راعي إبل الصدقة، وذكر مسلم من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس: (ثم مالوا على الرعاة، فقتلوهم بالجمع)، وكذا ذكره ابن حبَّان، والطبري كما مر قريبًا، فالظاهر: أن إبل الصدقة كان لها رعاة، فقتلوا بعضهم مع راعي اللقاح، فاقتصر بعض الرواة على ذكر راعي النبيِّ الأعظم عليه السلام؛ لأنَّه أشهر وأشرف، ولم يذكروا بقية الرعاة المقتولين، وزعم ابن حجر أن من عبر بالجمع؛ فتسمح وهو الأرجح؛ لأنَّ أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، فإن الروايات التي رواها مسلم، وابن حبان، والطبري، وغيرهم بالجمع، وهو يقتضي أن المقتولين جمع لا فرد.
وقوله: (إن من عبر ... ) إلخ؛ فاسد؛ لأنَّ في مثل هذا لا يقال: إنه تسمح، وأي دليل على ذلك؟ وما هو إلا خبط وتخمين.
وقوله: (لأن أصحاب المغازي ... ) إلخ؛ مردود وفاسد، فإن عدم ذكرهم غيره لا يستلزم عدم وجوده مطلقًا، بل إنَّما ذكروا يسارًا؛ لشهرته، وتركوا بقية الرعاة؛ لعدم شهرتهم، كما يقال: جاء الأمير، والحال أنه جاء مع حَشَمِه وخَدَمِه.
وقوله: (الأرجح ... ) إلخ؛ هذا فاسد، فكيف يكون أرجح؟ وأي دليل على أرجحيته؟ ويدل على فساده ما ذكره مسلم، وابن حبان، والطبري من التعبير بالجمع، وهو يقتضي أن المقتولين جمع فذكروا يسارًا؛ لشهرته وشرفه، وتركوا غيره؛ لعدمها؛ فليحفظ.
(فبعث)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومفعوله محذوف؛ أي: الطلب، كما جاء في رواية الأوزاعي (في آثارهم)؛ جمع إِثْر؛ بكسر الهمزة، وسكون المثلثة، يقال: خرجت في إثره؛ إذا خرجت وراءه، وفي حديث سَلَمَة ابن الأكوع كما ذكره ابن إسحاق وغيره: (فبعث في آثارهم خيلًا من المسلمين أميرهم كُرْز بن جابر الفهري)، وكُرْز؛ بضمِّ الكاف، وسكون الراء، بعدها زاي معجمة، وعند ابن عُقْبَة: (أنه سعد بن زيد)، وعند «النسائي»: (فبعث في طلبهم قافة)؛ وهو جمع قائف، وعند «مسلم»: (أنهم شبان من الأنصار قريب من عشرين رجلًا، وبعث معهم قائفًا يَقْتَصُّ آثارهم، ولم يُعْلَم اسم هذا القائف، ولا اسم واحد من العشرين، لكن ذكر الواقدي: أن السرية كانت عشرين، ولم يقل من الأنصار، وسمَّى منهم جماعة من المهاجرين منهم؛ يزيد بن الخطيب وسَلَمَة ابن الأكوع الأسلميان، وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيان، وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، وغيرهم، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أن الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟
ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ما للواقدي وهو إمام وثقه جماعة منهم أحمد؟ والعجب من هذا القائل أنه يقع فيه وهو أحد مشايخ إمامه!) انتهى.
واعترضه العجلوني: بأن الأكثر على تجريحه وهو مقدم على التعديل، وكونه أحد مشايخ إمامه لا يلزم أن يروي عنه، انتهى.
قلت: وهو فاسد، فإن الجمهور على أنه عدل ثقة مقبول، ولا سيما قد وثقه حافظ السنة الإمام أحمد ابن حنبل، والتعديل مقدم على الجَرْح لا كما زعم أنه بالعكس، فإن العدالة أصل مثبت، ونافيها مطالب بالدليل ولم يوجد.
وقوله: (وكونه ... ) إلخ؛ فاسد أيضًا، فإنه إذا كان من مشايخ إمامه؛ يلزمه التأدب معه، وهو يسلتزم أن يكون قد روى عنه، فإن الشيخ لا يسمَّى شيخًا إلا إذا أخذ عنه وروى عنه، وهذا كذلك، فهذا الاعتراض مردود عليه، وما هو إلا خبط وخلط؛ فافهم ذلك ولا تغترَّ بهذه العصبية الزائدة من العجلوني، فإنه قد أتى بها من عجلون؛ فليحفظ.
(فلما ارتفع النهار) فيه حذف قبل (الفاء)، وتسمَّى الفصيحة؛ تقديره: فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا فلما ارتفع النهار؛ (جيء بهم)؛ أي: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهم أسارى، فأمر بمعاقبتهم على حسب جنايتهم، (فقطع أيديهم وأرجلهم) أي: من خلاف؛ كما في آية (المائدة) المنزلة في القضية، كما رواه ابنا جرير وحاتم، وغيرهما إسناد الفعل فيه إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مجاز، والدليل عليه ما جاء في رواية أخرى: (فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم) جمع يد، وجمع رجل، فإما أن يُراد بها أقل الجمع الذي هو اثنان عن بعض العلماء؛ لأنَّ لكل منهم يدين ورجلين، وإما أن يراد التوسيع عليهم بأن يقطع من كل واحد [4] منهم يد واحدة، ورجل واحدة، والجمع في مقابلة الجمع يفيد التوزيع، كذا في «عمدة القاري»، وعند المؤلف من رواية الأوزاعي: (ولم يحسمهم)؛
%ص 217%
بالحاء المهملة، قال الجوهري: (حسمته: قطعته فانحسم، ومنه: حسم العرق)، وفي الحديث: أتيبسارق [5] فقال: «احسموه»؛ أي: اكووه بالنار؛ لينقطع الدم، ذكره في الحاء، وتبعه في «القاموس»، وهذه الرواية الظاهر أنها تحريف، وأصلها: وحسمهم [6]، فلفظة (ما [7]) زائدة، ويدل لذلك ما عند المؤلف في (المحاربين): «إن عاد؛ فاقطعوه»، وعليه الإجماع، ولأنَّه إذا لم يحسم وتركه ينزف الدم منه؛ لتلف ومات، وهو خلاف المقصود، ولم يبق لقوله: «إن عاد؛ فاقطعوه» معنًى، فالحسم واجب؛ لكي ينقطع الدم، ولعل رواية الأوزاعي كانت من الراوي حين لم يَرَ أنه لم يحسمهم، والحال أن الصحابة حسموهم ولم يَعْلَمْ بذلك الراوي فعبَّرَ بما رأى بدليل أن الأكثر من الروايات لم يذكر أحد الحسم، فدل على التحريف، أو على التأويل، والله تعالى أعلم العليم الجليل.
وفي يوم السبت مات أحد أعدائي المشهورين، وقد استجاب الله تعالى دعائي، ولله الحمد، في خامس ربيع الثاني سنة سبع وسبعين، وفيه سافر شيخنا الشيخ عبد الله أفندي الحلبي، وشيخنا السيد عمر أفندي الغزي، وكذا عبد الهادي العمري، ومحمَّد طاهر أفندي المفتي، وعبد الله بيك، وابنه علي بيك عظم، وأحمد أفندي النقيب العجلاني، وعبد الله بيك ناصيف باشا، وأحمد أفندي الحسيبي، وابنه أبو السعود، وغيرهم، والله تعالى أعلم.
(وسُمرت أعينهم)؛ بضمِّ السين المهملة، وتخفيف الميم وتشديدها؛ أي: كحلت بمسامير محمية، وفي رواية: (سملت)؛ بـ (اللام) بدل (الراء)، يقال: سُمِلَت عينه بصيغة المجهول ثلاثيًّا؛ إذا فُقِئت بحديدة محماة، وقيل: هما بمعنًى واحد، ولم تختلف روايات البخاري كلُّها بالراء، ووقع لمسلم من رواية عبد العزيز: (وسلمت)؛ بالتخفيف، واللام، وللبخاري من رواية وهيب عن أيُّوب، ومن رواية الأوزاعي عن يحيى؛ كلاهما عن أبي قلابة: (ثم أمر بمسامير فأحميت، فكحلهم بها)، ولا يخالف هذا رواية السمل؛ لأنَّه فقأ العين بأي شيء كان، كذا في «عمدة القاري»، ثم قال: وما وجه تعذيبهم بما ذكر، وقد نهى النبيُّ الأعظم عليه السلام عن التعذيب بالنار؟
وأجاب: بأنه كان قبل نزول الحدود، وآية المحاربة، والنهي عن المثلة، فهو منسوخ، وقيل: ليس بمنسوخ، وإنما فعل النبيُّ الأعظم عليه السلام بما فعل قصاصًا؛ لأنَّهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك، وقد رواه مسلم في بعض طرقه ولم يذكره المؤلف، قال المهلَّب: وإنما لم يذكره؛ لأنَّه ليس على شرطه، ويقال: فلذلك بوَّب المؤلف في كتابه، فقال: باب إذا حرق المشركون هل يحرق؟ أو وجهه أنه عليه السلام لما سمل أعينهم _وهو تحريق بالنار_؛ استدل به من أنه لو جاز تحريق أعينهم بالنار، ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاة بالنار؛ أنه أولى بالجواز تحريق المشرك إذا أحرق المسلم، وقال ابن المنيِّر: (وكأن البخاري جمع بين حديث: «لا تعذبوا بعذاب الله»، وبين هذا بحمل الأول على غير سبب، والثاني على مقابلة السببية بمثلها من الجهة العامةوإن لم يكن من نوعها الخاص، وإلا؛ فما في هذا الحديث أن العرنيين فعلوا ذلك بالرعاة، وقيل: النهي عن المثلة نهي تنزيه لا نهي تحريم) انتهى كلامه، (وأُلقوا)؛ بضمِّ الهمزة، مبني للمجهول (في الحَرَّة)؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء؛ وهي الأرض ذات الحجارة السود، وتجمع على حر، وحرار، وحرات، وحرين، وأحرين، وهو من الجموع النادرة؛ كتبين وقلين في جمع تبنة وقلة، والمراد من الحرة: هذه الأرض الحرة التي هي بظاهر مدينة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، بها حجارة سود كثيرة، وكانت بها وقعة مشهورة أيام يزيد بن معاوية رضي الله عنه، كذا في «عمدة القاري»، وزعم البرماوي تبعًا للكرماني بأنه يحتمل أن يراد بها حرارة الشمس، وزعم العجلوني أنه ربما يؤيده رواية أبي رجاء: (ثم نبذهم في الشمس) انتهى.
قلت: وهذا فاسد، والاحتمال باطل، فإن المراد من الحرة الأرض ذات الحجارة السود، كما علمت، وهذه الرواية لا تأييد بها لذلك؛ لأنَّ المراد منها أنه نبذهم في الشمس في هذه الأرض المسماة بالحرة، على أنه لو كان المراد بها حرارة الشمس؛ لقال: وألقوا في الشمس، فتصريحه بكونهم في الحرة دليل واضح على أنهم ألقوا في هذه الأرض المعلومة، وكانت عليهم الشمس؛ فافهم واحفظ، والبرماوي كالكرماني والعجلوني لهم احتمالات بعيدة عن العقل، والعادة، والنقول، والرواية؛ فافهم.
(يَستسقون)؛ بفتح المثناة التحتية أوله، مبني للفاعل من الاستسقاء؛ وهو طلب السقي، وطلب السقيا أيضًا، وهو المطر؛ (فلا يُسقَون)؛ بضمِّ المثناة التحتية، وفتح القاف، قال في «عمدة القاري»: زاد وهيب والأوزاعي: (حتى ماتوا)، وفي رواية سَعِيْد: (يعضون الحجارة)، وفي رواية أبي رجاء: (ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا)، وفي (الطب) من رواية ثابت قال أنس: (فرأيت رجلًا منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت)، ولأبي عوانة من هذا الوجه: (يعضُّ الأرض؛ ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة)، وزعم الواقدي أنهم صلبوا، ولم يثبت ذلك في الروايات الصحيحة، انتهى فافهم، لكن عند أبي عوانة، عن أنس: (فصلب اثنين، وقطع اثنين، وسمل اثنين)، فذكر ستة فقط، فإن كان محفوظًا؛ فعقوبتهم موزعة؛ فتأمَّل.
ثم قال: والمنع من السقي مع أن الإجماع قام على من وجب عليه القتل فاستسقى الماء؛ أنه لا يمنع منه؛ لئلا يجتمع عليه عذابان.
وأجاب: بأنه إنَّما لم يسقوا هنا؛ معاقبة لجنايتهم، ولأنَّه عليه السلام دعا عليهم، فقال: «عطَّشَ الله من عطَّشَ آل محمَّد الليلة»، أخرجه النسائي، فأجاب الله تعالى دعاءه، وكان ذلك بسبب أنهم منعوا في تلك الليلة إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يراح به إلى النبيِّ الأعظم عليه السلام من لقاحه في كل ليلة، كما ذكره ابن سعد، ولأنَّهم ارتدوا، فلا حرمة لهم، وقال القاضي عياض: (لم يقع نهي من النبيِّ عليه السلام عن سقيهم، وفيه نظر؛ لأنَّه عليه السلام اطَّلع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم)، وقال النووي: (المحارب لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته؛ ليس له أن يسقيه المرتد، ويتيمم، بل يستعمله ولو مات المرتد عطشًا)، وزعم الخطابي: إنَّما فعل النبيُّ عليه السلام لهم ذلك؛ لأنَّه أراد لهم الموت بذلك، وفيه نظر لا يخفى، وقيل: الحكمة في تعطيشهم كونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجزع والوخم، وفيه ضعف، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: إن مالكًا استدل بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وبه قال الإمام محمَّد بن الحسن، وأحمد ابن حنبل، والإصطخري، والرُّوياني من أصحاب الشافعي، وهو قول الشعبي، وعطاء، والنخعي، والزُّهري، وابن سيرين، والحكم، والثوري، وقال داود، وابن علية: بول كل حيوان ونحوه، وإن كان لا يؤكل لحمه؛ طاهر غير بول الآدمي، وقال الإمام الأعظم، وأبو يوسف، وأبو ثور، والشافعي، والجمهور: الأبوال كلها نجسة إلا ما عُفِيَ عنه، وأجابوا عنه: بأن ما في الحديث قد كان للضرورة، فليس فيه دليل على أنه مباح في غير حال الضرورة؛ لأنَّ ثمة أشياء أبيحت للضرورة ولم تُبَحْ في غيرها؛ كما في لبس الحرير، فإنه حرام للرجال، وقد أبيح لبسه في الحرب، وللحكة، أو لشدة إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع.
والجواب المقنع في ذلك: أنه عليه السلام عرف بطريق الوحي شفاءهم، والاستشفاء بالحرام جائز عند التيقُّن بحصول الشفاء؛ كتناول الميتة للمخمصة، والخمر عند العطش، وإساغة اللقمة، وإنما لا يباح ما لم يَسْتيقن حصول الشفاء به، وقال ابن حزم: (صحَّ يقينًا أن رسول الله عليه السلام إنَّما أمرهم بذلك على سبيل التداوي من السقم الذي أصابهم، وأنهم صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلة ضرورة، وقد قال عزَّ وجلَّ: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، فما اضطر المرء إليه؛ فهو غير محرم عليه من المأكل والشراب)، وقال شمس الأئمَّة: (حديث أنس رضي الله عنه قد رواه قتادة: أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل، ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكره في رواية حميد الطويل عنه، والحديث حكاية حال، فإذا دار
%ص 218%
الأمر بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة؛ سقط الاحتجاج به، ثم نقول: خصهم رسول الله عليه السلام بذلك؛ لأنَّه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، وهو كما خص الزبير رضي الله عنه بلبس الحرير؛ لحكة كانت به، أو للقمل فإنه كان كثير القمل، أو لأنَّهم كانوا كفارًا في علم الله عز وجل، ورسوله عليه السلام علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس) انتهى.
فإن قلت: هل لأبوال الإبل تأثير في الاستشفاء حتى أمرهم عليه السلام بذلك؟
قلت: قد كانت [8] إبله عليه السلام ترعى الشيح والفيوم، وأبوال الإبل الذي ترعى ذلك وألبانها تدخل في علاج نوع من أنواع الاستسقاء، فإذا كان كذلك؛ كان الأمر في هذا أنه عليه السلام عرف بطريق الوحي كون هذه شفاء، وعرف أيضًا من هضم الذي تزيله هذه الأبوال فأمرهم بذلك، ولا يوجد هذا في زماننا حتى إذا فرضنا أن أحدًا عرف مرض شخص بقوة العلم وعرف أنه لا يزيله إلا تناول المحرم؛ يباح له حينئذٍ تناوله كما يباح شرب الخمر عند العطش الشديد، وتناول الميتة عند المخمصة، وأيضًا التمسك بعموم قوله عليه السلام: «استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه» أولى؛ لأنَّه ظاهر في تناول جميع الأبوال فيجب اجتنابها لهذا الوعيد، والحديث رواه أبو هريرة وصححه ابن خزيمة وغيره مرفوعًا.
فإن قلت: لو كانت أبوال الإبل محرمة الشرب؛ لما جاز التداوي بها؛ لما روى أبو داود من حديث أم سَلَمَة رضي الله عنها: «أن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها».
قلت: هذا محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار؛ فلا يكون حرامًا؛ كالميتة للاضطرار، كما ذكرنا، وقال ابن حزم: (هذا حديث باطل؛ لأنَّ في سنده سلمان الشيباني، وهو مجهول).
قلت: أخرجه ابن حبان في «صحيحه»، وصحَّحه.
وقوله: (إن في سنده سلمان) وهم، وإنما هو سليمان؛ بزيادة مثناة تحتية، وهو أحد الثقات، أخرج عنه البخاري ومسلم في «صحيحيهما».
فإن قلت: يردُّ عليه قوله عليه السلام في الخمر: «إنها ليست بدواء، وإنها داء» في جواب من سأله عند التداوي بها؟
قلت: هذا روي عن سويد بن طارق: أنه سأل رسول الله عليه السلام عن الخمر، فنهاه، ثم سأله فيها، فنهاه، فقال: يا نبي الله؛ إنها دواء، فقال: «لا، ولكنها داء»، وأجاب ابن حزم عن ذلك، فقال: (لا حجة فيه؛ لأنَّ في سنده سماك بن حرب، وهو يقبل التلقين شهد عليه بذلك شعبة وغيره، ولو صح؛ لم يكن فيه حجة؛ لأنَّ فيه أن الخمر ليست [9] بدواء، ولا خلاف بيننا في أن ما ليس بدواء لا يحل تناوله)، وقد أجاب ابن حجر: بأن ذلك خاص بالخمر، ويلتحق به غيره من المسكرات.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ دعوى الخصوصية بلا دليل لا تسمع، والجواب القاطع: أن هذا محمول على حالة الاختيار، كما ذكرنا، قاله في «عمدة القاري»، واعترضه العجلوني: بأنه إنَّما ذكر النبيُّ عليه السلام الدائية في الخمر، فقيس عليها بقية المسكرات، وأما باقي المسكرات؛ فليس كذلك، فالمثبت لها حكم الخمر هو المحتاج للدليل.
قلت: وهذا خبط فاسد، فإن دليل باقي المسكرات ثابتة بالقياس على الخمر؛ لكمال الجامع بينهما على أنهادِّعاء الخصوصية غير مزال، بل هو باقٍ، ومدعيها مطالب بالدليل، وذكر النبيُّ الأعظم عليه السلام الدائية في الخمر؛ نظرًا إلى حالة الاختيار كما علمت؛ فليحفظ.
ثم قال في «عمدة القاري»: (فإن قلت: روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا)، وروي عن جابر والبَرَاء رضي الله عنهما مرفوعًا: «ما أكل لحمه؛ فلا بأس ببوله»، وحديث ابن مسعود الآتي ذكره في باب (إذا ألقي على ظهر المصلي قذرًا وجيفة؛ لم تفسد صلاته)، والحديث الصحيح الذي ورد في غزوة تبوك: (فكان الرجل يجر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي في كبده)، قلت: أما حديث ابن عمر؛ فغير مسند؛ لأنَّه ليس فيه أنه عليه السلام علم بذلك، وأما حديث جابر والبَرَاء؛ فرواه الدارقطني وضعَّفه، وأما حديث ابن مسعود؛ فلأنَّه كان بمكة قبل ورود الحكم بتحريم النجو والدم، وقال ابن حزم: (هو منسوخ بلا شك)، وأما حديث غزوة تبوك؛ فقد قيل: إنه كان للتداوي، وقال ابن خزيمة: (لو كان الفرث إذا عصره نجسًا؛ لم يجز للمرء أن يجعله على كبده) انتهى.
(قال أبو قِلابة)؛ بكسر القاف، عبد الله: (فهؤلاء)؛ أي: العرنيون والعكليون (سرقوا) إنَّما أطلق عليهم سراقًا؛ لأنَّهم أخذوا اللقاح سرقة؛ لكونه من حرز حافظ، كذا في «عمدة القاري».
قلت: الحافظ هو الراعي، فإذا كان مع المواشي راعٍ وهو حافظ لها، وسرق منها شيء؛ قطع، كذا أطلقه شيخ الإسلام خواهر زاده، وقيل: لا بد للقطع من وجود حافظ سوى الراعي، كذا قاله الإمام البقالي، وأفتى به، ووفق في «فتح القدير»: بأن الراعي لم يقصد حفظها من السارق بخلاف غيره، ولو كانت تأوي في الليل إلى بيت بني لها عليه باب مغلق فكسره وسرق منها شاة؛ قطع، ولا يعتبر الغلق إذا كان الباب مردودًا إلا أن يكون بيتًا منفردًا في الصحراء بمأوى المراح، كذا في «النهر الفائق»، وسيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
(وقتلوا)؛ أي: قتلوا راعي لقاح النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ورعيان إبل الصدقة كما قدمناه؛ فافهم، (وكفروا بعد إيمانهم) قال الكرماني: عُلِم ذلك من الطرق الأُخر، فقد روى مسلم في «صحيحه»، والترمذي: أنهم ارتدوا عن الإسلام، قال القسطلاني: وهو في رواية سَعِيْد عن أنس في (المغازي)، وفي رواية وهيب في (الجهاد) في أصل الحديث؛ فتأمل، (وحاربوا) بالحاء المهملة (الله ورسوله) عليه السلام، وإنما أطلق عليهم محاربين؛ لما ثبت عند أحمد من رواية حميد عن أنس رضي الله [عنه] في أصل الحديث، وهربوا محاربين، وقول المؤلف: (قال أبو قلابة ... ) إلخ إن كان داخلًا [10] في قول أيُّوب مفعولًا له؛ يكون داخلًا تحت الإسناد، وإن كان مقول البخاري؛ يكون تعليقًا منه، كذا قاله في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر: أن هذا قاله أبو قلابة استنباطًا، ثم قال: ليس موقوفًا على أبي قلابة كما توهمه بعضهم، ورده في «عمدة القاري»، فقال: (قلت: كلامه متناقض، كما لا يخفى) انتهى.
قلت: ولم يذكر وجه التناقض، ووجهه ظاهر، فإن قوله: (قاله استنباطًا) يفيد أنه موقوف عليه.
وقوله: (ليس موقوفًا) يفيد أنه مرفوع، وهذا التناقض ظاهر، وزعم العجلوني: أن مراد ابن حجر أنه استنباط من أبي قلابة هو قوله: (سرقوا)، وأما الذي جعله ليس موقوفًا على أبي قلابة؛ فهو قوله: (وكفروا بعد إيمانهم ... ) إلخ؛ فتأمل.
قلت: تأملته فرأيته خلطًا وخبطًا، فإن المتبادر من كلام ابن حجر والظاهر منه أن قول أبي قلابة جميعه استنباطًا، وأنه ليس موقوفًا، وهذا التفصيل الذي زعمه العجلوني هو غير مراده؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لصرح به، وما هو إلا كلام بارد، وذهن شارد.
قال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث من الأحكام: نظر الإمام في مصالح قدوة القبائل والغرباء إليه وأمره لهم بما يناسب حالهم، وإصلاح أبدانهم، وفيه: جواز التطبُّب وطب كل جسد بما اعتاده، ولهذا أفرد البخاري بابًا لهذا الحديث وترجم عليه: (الدواء بأبوال الإبل وألبانها)، وفيه: ثبوت أحكام المحاربة في الصحراء، فإنه عليه السلام بعث في طلبهم لما بلغه فعلهم بالرعاء، واختلف
%ص 219%
العلماء في ثبوت أحكامها في الأمصار، فنفاه الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وأثبته مالك، والشافعي، وفيه: مشروعية المماثلة في القصاص، وفيه: جواز عقوبة المحاربين، وهو موافق لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ... }؛ الآية [المائدة: 33]، وهل كلمة (أو) فيها للتخيير أو للتنويع قولان، وفيه: قتل المرتد من غير استتابة، وفي كونها واجبة أو مستحبة خلاف مشهور، وقيل: هؤلاء حاربوا والمرتد إذا حارب لا يُسْتَتَاب؛ لأنَّه يجب قتله، فلا معنى للاستتابة، انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (المذنبييان)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (بدير)، وهو تصحيف، وكذا في الموضع اللاحق.
[3] في الأصل: (خمسة عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (واحدة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (سارق)، ولعله تحريف.
[6] في الأصل: (وحمسهم)، وكذا في الموضع اللاحق: (لم يحمس)، ولعله تحريف.
[7] في الأصل: (لا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (كان).
[9] في الأصل: (ليس)، وكلاهما صحيح.
[10] في الأصل: (دخلًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (المذنبييان)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (بدير)، وهو تصحيف، وكذا في الموضع اللاحق.
[3] في الأصل: (خمسة عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (واحدة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (سارق)، ولعله تحريف.
[6] في الأصل: (وحمسهم)، وكذا في الموضع اللاحق: (لم يحمس)، ولعله تحريف.
[7] في الأصل: (لا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (كان).
[9] في الأصل: (ليس)، وكلاهما صحيح.
[1] في الأصل: (المذنبييان)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (بدير)، وهو تصحيف، وكذا في الموضع اللاحق.
[3] في الأصل: (خمسة عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (واحدة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (سارق)، ولعله تحريف.
[6] في الأصل: (وحمسهم)، وكذا في الموضع اللاحق: (لم يحمس)، ولعله تحريف.
[7] في الأصل: (لا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (كان).
[9] في الأصل: (ليس)، وكلاهما صحيح.
(1/407)
[حديث: كان النبي يصلي قبل أن يبنى المسجد في مرابض الغنم]
234# وبه قال: (حدثنا آدم)؛ بفتح الهمزة الممدودة، هو ابن أبي إياس؛ بكسرها (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (أبو التَّيَّاح)؛ بفتح المثناة الفوقية المشددة، وتشديد التحتية، آخره حاء مهملة بعد الألف، وثبت في رواية زيادة: (أبو التياح يزيد بن حميد)، (عن أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه (قال: كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي قبل أن يبني المسجد) أي: مسجده عليه السلام (في مرابض الغنم)؛ جمع مَربِض؛ بفتح الميم، وكسر الموحدة، من ربَض بالمكان يربِض من باب (ضرَب يضرِب)؛ إذا لصق به، وأقام ملازمًا له، والمربض: المكان الذي يربض فيه، والمرابض للغنم كالمعاطن للإبل، وربوض الغنم كنزول الجمل، وقول ابن حجر: (المِربَض؛ بكسر أوله، وفتح الموحدة) غلط فاحش صريح، كما لا يخفى، قال ابن المُنْذِر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على إباحة الصَّلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي، فإنه قال: لا أكره الصَّلاة في مرابض الغنم إذا كان سليمًا من أبعارها وأبوالها، وممن روي عنه إجازة ذلك وفعله: ابن عمر، وجابر، وأبو ذر، والزبير، والحسن، وابن سيرين، والنخعي، وعطاء، وقال ابن بطال: حديث الباب حجة على الشافعي؛ لأنَّ الحديث ليس فيه تخصيص موضع من آخر، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من البعر والبول، فدل على الإباحة، وعلى طهارة البول والبعر، ففيه المطابقة للترجمة قال في «عمدة القاري»: قد استدلَّ به من يقول بطهارة بول المأكول ولحمه [1]، وروثه، وقالوا: لأنَّ المرابض لا تخلو عن ذلك، فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم فلا تكون نجسة، وأجاب مخالفوهم: باحتمال وجود الحائل، ورد عليهم: بأنهم لم يكونوا يصلون على حائل دون الأرض، ورد عليهم: بأنه شهادة على النفي، وأيضًا فقد ثبت في «الصحيحين» عن أنس رضي الله عنه: (أن النبيَّ عليه السلام صلى على حصير في دارهم)، وصح عن عائشة رضي الله عنها: (أنه عليه السلام كان يصلي على الطريق)، وقال ابن حزم: هذا الحديث _يعني: حديث الباب _منسوخ؛ لأنَّ فيه أن ذلك كان قبل أن يُبْنى المسجد، فاقتضى أنه في أول الهجرة، ورد عليه بما صح عن عائشة: (أنه عليه السلام أمرهم ببناء المساجد في الدور، وأن تُطَيَّبَ وتُنَظَّف)، رواه أبو داود وأحمد وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وغيره، ولأبي داود نحوه من حديث سمرة، وزاد: (وأن يطهرها)، قال: وهذا بعد بناء المسجد، وما ادُّعي من النسخ يقتضي الجواز، ثم المنع، ويرد هذا إذنه عليه السلام في الصَّلاة في مرابض الغنم، وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: «إن لم تجدوا إلا مرابض الغنم، وأعطان الإبل؛ فصلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل»، قال الطوسي والترمذي: (حديث حسن صحيح)، وفي «تاريخ نيسابور» من حديث أبي حيان، عن أبي زرعة، عنه مرفوعًا: «الغنم من دوابِّ الجنة، فامسحوا رغامها، وصلوا في مرابضها»، وعند البزار في «مسنده»: «وأحسنوا إليها، وأميطوا عنها الأذى»، وفي حديث عبد الله بن المغفَّل: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين».
قال البيهقي: (كذا رواه جماعة)، وقال بعضهم: كنا نؤمر ولم يذكر النبيَّ عليه السلام، وفي لفظ: «إذا أدركتم الصَّلاة وأنتم في مراح الغنم؛ فصلوا فيها؛ فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتم الصَّلاة وأنتم في أعطان الإبل؛ فاخرجوا منها؛ فإنها جن خلقت من الجن، ألا ترى أنها إذا نفرت؛ كيف تشمخ بأنفها»، وفي مسند عبد الله بن وهب البصري، عن سَعِيْد بن أبي أيُّوب، عن رجل حدثه عن ابن المغفَّل: (نهى النبيُّ عليه السلام أن يصلَّى في معاطن الإبل، وأمر أن يصلَّى في مراح الغنم والبقر)، وعند ابن ماجه بسند صحيح من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: «لا يُصلَّى في أعطان الإبل، ويُصلَّى في مراح الغنم»، وعند أبي القاسم بسند: لا بأس به، عن عُقْبَة بن عامر: «صلوا في مرابض الغنم»، وكذا رواه ابن عمر، وأُسَيْد بن حضير، وعند ابن خزيمة من حديث البَرَاء: سئل النبيُّ عليه السلام عن الصَّلاة في مرابض الغنم، فقال: «صلُّوا فيها؛ فإنها بركة».
وقال ابن المُنْذِر: (تجوز الصَّلاة أيضًا في مراح البقر؛ لعموم قوله عليه السلام: «أينما أدركتك الصَّلاة؛ فصلِّ»، وهو قول عطاء، ومالك).
قلت: ذهل ابن المُنْذِر عن حديث عبد الله بن وهب الذي ذكرناه آنفًا حتى استدل بذلك، فلو وقف عليه؛ لاستدل به، والله أعلم، انتهى كلامه رحمه الله، ورضي عنه.
==========
[1] في الأصل: (لحمه)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 220%
==================
(1/408)
(67) [باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء]
(باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء)؛ فـ (ما) موصول اسمي، أو حرفي، أو نكرة موصوفة، واقتصر في «عمدة القاري» على جعلها مصدرية، وجعل (من) بيانية، فقال: هذا باب في بيان حكم وقوع النجاسة في السمن والماء، واعترض تقدير ابن حجر هل ينجسها أم لا؟ أو لا ينجس الماء إلا إذا تغيَّر دون غيره، انتهى، فقال: (لا حاجة إلى هذا التفسير، فكأنه لما خفي عليه المعنى الذي ذكرناه؛ قدر ما قدره) انتهى كلام «عمدة القاري»، وابن حجر.
قلت: ولا يخفى على المنصف حسن كلام «عمدة القاري» وما قدرناه، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وأشار المؤلف بـ (السمن) إلى كل جامد رطب؛ كالدبس، والعسل، وغيرهما، وبـ (الماء) إلى سائر المائعات، وأن الجامد الرطب لا يتنجس منه إلا ما لاقى النجس فقط، وأما المائع؛ فإن كان ماء؛ ينظر، فإن كان جاريًا؛ فلا ينجس إلا بالتغيير، وإن كان غيره؛ فيتنجَّس مطلقًا بمجرد الملاقاة له، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
(وقال) محمَّد بن مسلم ابن شهاب (الزُّهري)؛ الفقيه المدني نزيل ديارنا الشريفة الشامية، وهذا تعليق من المؤلف، ولكنه قد وصله عبد الله بن وهب في «مسنده» عن يونس عنه قال: (كل ماء فضل مما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه، ولا لونه، ولا ريحه؛ فلا بأس أن يتوضَّأ به)، وروي في هذا المعنى حديث عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله عليه السلام: «إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه، وطعمه، ولونه»، رواه ابن ماجه، وقال الدارقطني: (إنما يصح هذا من قول راشد بن سعد، ولم يرفعه غير رشيد بن سعد).
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ أبا أحمد بن عديٍّ رواه في «الكامل» من طريق أحمد بن عمر، عن حفص بن عمر: حدثنا ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة؛ فرفعه، وقال: لم يروه عن ثور إلا حفص.
قلت: وفيه نظر أيضًا؛ لأنَّ البيهقي رواه من حديث أبي الوليد، عن الساماني، عن عطية بن بقية بن الوليد، عن أبيه، عن ثور، وقال البيهقي: والحديث غير قوي إلا أنا لا نعلم في
%ص 220%
نجاسة الماء إذا تغير بالنَّجاسة خلافًا، كذا في «عمدة القاري».
قلت: على أنه قد ورد هذا الحديث في بئر بُِضاعة اسم امرأة، وهي بكسر الموحدة وضمها؛ بئر قديمة بالمدينة يلقى فيها الجِيَف ومحايض النساء، فذكر ذلك للنبيِّ عليه السَّلام حين توضأ منها، فقال: «الماء طهور ... »؛ الحديث، وقد كان ماؤها جاريًا في البساتين تسقى منه خمسة بساتين، وفي الماء الجاري لا يتنجس بوقوع النَّجاسة فيه عندنا، فهذا الحديث إن صح؛ فهو محمول على بئر بضاعة، وهو غير مراد إجماعًا؛ لأنَّه إذا تغير الماء بالنَّجاسة؛ تتنجس بالإجماع، وتمامه في «منهل الطلاب».
(لَا بَأْسَ)؛ أي: لا حرج (بِالْمَاءِ)؛ أي: في استعمال الماء المطلق؛ لأنَّه باقٍ على طهارته (مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله وكسر التحتية آخره، وضميره يعود على الماء، و (ما): ظرفية مصدرية مأولة بمدة، وقوله: (طَعْمٌ)؛ بالرفع فاعله (أَوْ لَوْنٌ أَوْ رِيحٌ)؛ أي: كل ماء طاهر في نفسه ولا ينجس بإصابة الأذى؛ أي: النَّجاسة إلا إذا تغير أحد الأشياء الثلاثة منه؛ وهي الطعم واللون والريح، فكل ماء دائم وقعت فيه نجاسة؛ لم يجز الوضوء به قليلًا كان أو كثيرًا، وأمَّا الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة؛ جاز الوضوء منه إذا لم ير لها أثر، وهو إمَّا طعم أو لون أو ريح؛ لأنَّ النَّجاسة لا تستقر فيه مع جريان الماء، والمراد بالجاري ما يعده العرف جاريًا على الأظهر، وقيل: هو ما يذهب بقشة واحدة، وهو الأشهر، قال في «عمدة القاري»: فإن قلت: الطعم أو الريح أو اللون هو المغيَّر _بفتح التحتية المشددة_ لا المغيِّر على صيغة الفاعل، والمغيِّر؛ بالكسر: هو الشيء النجس الذي يخالطه، فكيف يجعل الطعم أو الريح أو اللون مغيرًا على صيغة الفاعل على ما وقع في عبارة البخاري، وأمَّا الذي في عبارة عبد الله بن وهب؛ فهو على الأصل؟
قلت: المغير في الحقيقة هو الماء، ولكن تغيره لما كان لم يعلم إلا من جهة الطعم أو الريح أو اللون؛ فكأنه هو المغير، وهو من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب، وزعم الكرماني، فقال: لا بأس؛ أي: لا يتنجس الماء بوصول النجس إليه قليلًا أو كثيرًا، بل لا بد من تغيير أحد الأوصاف الثلاثة في تنجسه، والمراد من لفظ: (ما لم يتغير): طعمه، فنقول: لا يخلو إما أن يراد بالطعم المذكور في لفظ الزُّهري: طعم الماء أو طعم الشيء المنجس، فعلى الأول معناه: ما لم يغير الماء من حاله التي خلق عليها طعمه له لا بد أن يكون بشيء نجس؛ إذ البحث فيه، وعلى الثاني معناه: ما لم يغير الماء طعم النجس، ويلزم منه تغيير طعم الماء؛ إذ لا شك أن الطعم هو المغير للماء للطعم، واللون للون، والريح للريح؛ إذ الغالب أن الشيء يؤثر في الملاقي بالنسبة، وجعل الشيء متصفًا بصفة نفسه، ولهذا يقال: لا يسخن الحار، ولا يبرد البارد، فكأنه قال: ما لم يغير طعم الماء طعم الملاقي النجس أو لا بأس؛ معناه: لا يزول طهوريته ما لم يغيره طعم من الطعوم الطاهرة أو النجسة، نعم؛ إذا كان المغير طعمًا نجسًا؛ نجسه، وإن كان طاهرًا؛ يزيل طهوريته لا طهارته، ففي الجملة: في [1] اللفظ تعقيد، انتهى.
وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: تفسيره هكذا هو عين التعقيد؛ لأنَّه قد فسر قوله: «لا بأس» بمعنيين؛ أحدهما: بقوله: «لا يتنجس ... » إلى آخره، والآخر: بقوله: «لا تزول طهوريته»، وكلا المعنيين لا يساعد اللفظ، بل هو خارج عنه، وقوله: «المغير للطعم هو الطعم»: غير سديد؛ لأنَّ المغير للطعم غير الطعم، وهو الشيء الملاقي له، وكذلك اللون والريح، وكذلك قوله: «والمراد من لفظ: ما لم يغيره طعمه ما لم يتغير طعمه»: غير موجه؛ لأنَّه تفسير للفعل المتعدي بالفعل اللازم من غير وجه، وكذلك ترديده بقوله: «لا يخلو إما أن يراد بالطعم المذكور ... » إلى آخره: غير موجه؛ لأنَّ الضمير في «لم يغيره» يرجع إلى الماء، فيكون المعنى على هذا: لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم الماء، وطعم الماء ذاتي، فكيف يغير ذات الماء؟ وإنما يغير طعم الشيء الملاقي، والفرق بين الطعمين ظاهر) انتهى.
وقد خبط وخلط العجلوني في هذا المقام وادَّعى أنه التحقيق، وعرج عن عبارة الكرماني وعبارة «عمدة القاري»، ثم اختصر عبارة «عمدة القاري» بعبارة مغلقة ونسبها لنفسه، ونقل أثر الزُّهري بعبارة غير العبارة السابقة التي ذكرناها، واعترض على صاحب «عمدة القاري»: بأنَّه ليس الذي رواه ابن وهب على الأصل كما يتوهم.
قلت: والحال أن الواهم في ذلك هو العجلوني؛ لعدم نقل عبارة الزُّهري بالتحقيق، وإنما نقلها بلفظ مخل محرف حتى يعترض، واعتراضه مردود عليه، كما لا يخفى، وإنما لم يذكر عبارة الكرماني؛ لكونها غير جارية على التحقيق، ولم يذكر عبارة «عمدة القاري»؛ للتعصب والتعنت، بل غيَّرها بعبارة مغلقة غير واضحة، واعتمدها ونسبها لنفسه؛ فافهم واحفظ؛ لكونها في غاية من التحقيق، ونهاية من الدقيق، فلله در صاحب «عمدة القاري» ما أغزر علمه وأوفر فهمه! وإنما يعرف الفضل من الناس ذووه.
قلت: وحاصله: أن الطعم وأخويه مغير، والماء متغير به، وهو طعم النجس أو لونه أو ريحه؛ فإنه هو الذي غير الماء أو طعم الماء أو لونه أو ريحه الحاصل بمخالطة النَّجاسة، فالمتغير هو الماء، لكنه لمَّا لم يعلم تغيره من جهة طعمه أو ريحه أو لونه؛ كان هو المتغير، فهو من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، والله تعالى أعلم.
وقال في «منهل الطلاب»: المراد من هذه الأوصاف _أعني: الطعم واللون والريح_ أوصاف النَّجاسة لا الشيء المتنجس؛ كماء الورد والخل مثلًا، فلو صب في ماء جار؛ يعتبر أثر النَّجاسة التي فيه لا أثره نفسه؛ لطهارة المائع بالغسل، وكذا الثوب المصبوغ بالصبغ النجس، والمخضوبة بالحناء النجس والعضو ونحوه المتلطخ بالدهن النجس إذا وضع في الماء الجاري فظهر فيه لون الصبغ والحناء وأثر الدهن؛ لا يتنجس ما لم يظهر فيه أثر النَّجاسة لا أثر هذه الأشياء، وتمامه فيه؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري»: واستنبط منه: أن مذهب الزُّهري في الماء الذي يخالطه شيء نجس الاعتبار بتغييره بذلك من غير فرق بين القليل والكثير، وهو مذهب جماعة، وشنع أبو عبيد في كتاب (الطهور) على من ذهب إلى هذا بأنَّه يلزم منه أن من بال في إبريق ولم يغير للماء وصفًا؛ أنه يجوز له التطهير به، وهو مستبشع.
وزعم ابن حجر أن هذا نصر قول التفريق بالقلتين.
وردَّه في «عمدة القاري» قال: قلت: كيف ينصر هذا بحديث القلتين، وقد قال ابن العربي: مداره على علقمة أو مضطرب في الرواية أو موقوف؟! وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد بن كثير وهو إباضي، واختلفت روايته؛ فقيل: قلتين، وقيل: قلتين أو ثلاثًا، وروي: أربعون قلة، وروي: أربعون غربًا، ووقف على أبي هريرة وعبيد الله بن عمر، وقال اليعمري: حكم ابن منده بصحته على شرط مسلم من جهة الرواة، ولكنه أعرض عنه من جهة الرواية بكثرة الاختلاف فيها والاضطراب، ولعل مسلمًا تركه لذلك.
قلت: ولذلك لم يخرِّجه البخاري؛ لاختلاف وقع في إسناده، وقال أبو عمر في «التمهيد»: ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت في الأثر؛ لأنَّه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، وقال الدبوسي في كتاب «الأسرار»: وهو خبر ضعيف، ومنهم من لم يقبله؛ لأنَّ الصحابة والتابعين لم يعملوا به، انتهى، وقال في «منهل الطلاب»: وحديث القلتين ضعيف بالاضطراب سندًا ومتنًا، أما الأول؛ فقال أبو دواد: إن في إسناده ضعفًا، وقال ابن المديني شيخ البخاري: حديث القلتين مما لا يثبت، وقال البيهقي: الحديث غير قوي، وقد
%ص 221%
تركه الغزالي والروياني مع شدة اتباعهما للشافعي؛ لشدة ضعفه، وأما الثاني؛ فلأنَّه روي بطريق مختلفة، فتارة روي: (إذا بلغ الماء قلتين)، وتارة: (ثلاثًا)، وتارة: (أربعين قلة)، وتارة: (أربعين دلوًا)، وقول الشافعي في الحديث: (بقلال هجر) منقطع للجهالة، والقلة في نفسها مجهولة؛ لأنَّها تذكر، ويراد بها: قامة الرجل، وتُذكر ويُراد بها: رأس الجبل، كما روي ذلك عن علي، وتذكر ويُراد بها: الجرة، والتعيين لـ (قلال هجر): لا يثبت بقول جرير؛ لأنَّه مقلد، فيبقى الاحتمال ويبطل الاستدلال به، والله أعلم.
ومذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه: أن الماء إما جار أو راكد، قليل أو كثير، فالجاري إذا وقعت فيه نجاسة وكانت غير مرئية؛ كالبول، والخمر، ونحوهما؛ فإنه لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، وإن كانت مرئية؛ كالجيفة ونحوها، فإن كان يجري عليها جميع الماء؛ لا يجوز التوضؤ به من أسفلها، وإن كان يجري أكثره عليها؛ فكذلك اعتبارًا للغالب، وإن كان أقله يجري عليها؛ يجوز التوضؤ به من أسفلها، وإن كان يجري عليها النصف دون النصف؛ فالقياس جواز التوضؤ، وفي الاستحسان لا يجوز احتياطًا، والراكد اختلف فيه؛ فقال الظاهرية: لا ينجس أصلًا، وقال عامة العلماء: إن كان الماء قليلًا؛ ينجس، وإن كان كثيرًا؛ لا ينجس، لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بينهما؛ فعندنا: بالخلوص، فإن كان يخلص بعضه إلى بعض؛ فهو قليل، وإلا؛ فهو كثير، واختلف أئمتنا في تفسير الخلوص بعد أن اتفقوا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك، وهو أن يكون بحال لو حرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر؛ فهو مما يخلص، وإلا؛ فهو مما لا يخلص، واختلفوا في جهة التحريك؛ فروى الإمام أبو يوسف عن الإمام الأعظم: أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وروى الإمام محمَّد: أنه يعتبر بالوضوء، وروي: أنه باليد من غير اغتسال ولا وضوء، وأمَّا اعتبارهم في تفسير الخلوص؛ فروى الإمام أبو حفص الكبير: أنه اعتبره بالصبغ، وروى أبو نصر: أنه اعتبره بالصبغ، وروى أبو نصر: أنه اعتبره بالتكدير، وروى الجوزجاني: أنه اعتبره بالمساحة، فقال: إن كان عشرًا في عشر؛ فهو لا يخلص، وإن كان دونه؛ فهو مما يخلص، وعن ابن المبارك: أنه اعتبره بالعشرة أولًا، ثم بخمسة عشر، وإليه ذهب الإمام أبو مطيع البلخي، فقال: إن كان خمسة عشر في خمسة عشر؛ أرجو أن يجوز، وإن كان عشرين في عشرين؛ لا أجد في قلبي شيئًا، وعن الإمام محمَّد: أنه قدره بمسجده، وكان ثمانيًا في ثمان، وبه أخذ الإمام محمَّد بن سَلَمَة، وقيل: كان مسجده عشرًا في عشر، وقيل: كان ثمانيًا في ثمان، وخارجه عشرًا في عشر، وعن الإمام الكرخي: أنه لا عبرة للتقدير، وإنما المعتبر هو التحرِّي، فإن كان أكبر، رأيه: أن النَّجاسة خلصت إلى الموضع الذي يتوضأ منه؛ لا يجوز، وإن كان أكبر، رأيه: أنها لم تصل إليه؛ يجوز.
قال في «منهل الطلاب»: (والتحقيق: أن الخلوص مفوض إلى رأي المبتلى غير مقدر بشيء، فإن غلب على ظنه عدم الخلوص؛ أي: وصول النَّجاسة إلى الجانب الآخر؛ جاز منه الوضوء، وإن لم يغلب على ظنه عدم الخلوص أو اشتبه عليه الخلوص؛ لا يجوز)، وهو ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم، وإليه رجع الإمام محمَّد، وهو الأصح، كما في «غاية البيان» و «الينابيع»، وحقق في «البحر الرائق»: أنه المذهب، وبه يعمل، وهو الأليق بأصل الإمام الأعظم، وقال شمس الأئمَّة: (المذهب التحرِّي والتفويض إلى رأي المبتلى، وهو الأصح) انتهى.
ومثله في «فتح القدير»، لكن قال في شرح «المنية»: وعامة المتأخرين سهلوا الأمر، واختاروا ما اختاره الإمام أبو سليمان الجوزجاني: أنه يعتبر الخلوص بالمساحة، وهو أن يكون عشرًا في عشر؛ أي: طوله عشرة أذرع، وعرضه كذلك، فيكون وجه الماء مئة ذراع، وجوانبه أربعون ذراعًا إن كان مربعًا، كذا ذكره شيخ الإسلام في «المبسوط»، وبه أخذ مشايخ بلخ، والإمام المعلى، قال الإمام أبو الليث: وهو قول أكثر أصحابنا، وعليه الفتوى، ومشى عليه بعض أصحاب المتون، وفي «الهداية»: (وعليه الفتوى)، وقواه في «النهر»، ورد ما قاله في «البحر»، وحققه شيخ الإسلام سعد الدين الديري في «رسالته»، ورد على من قال بخلافه، وقد جرى كثير من المتأخرين عليه؛ فليكن هو المذهب، وإلى غيره لا يذهب، والله تعالى أعلم، وتمامه في «منهل الطلاب»؛ فافهم.
(وقال) الإمام الكبير (حمَّاد)؛ بتشديد الميم، على وزن (فعَّال)؛ بالتشديد: هو ابن سليمان، فقيه الكوفة، وشيخ الإمام الأعظم رضي الله عنهما، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في «مصنفه»: حدثنا معمر عن حمَّاد بن سليمان أنَّه قال: (لا بأس) أي: لا حرج (بريش الميتة)؛ يعني: ليس بنجس ولا ينجس الماء الذي وقع فيه، سواء كان ريش المأكول لحمه أو غيره، وهذا مذهب الأئمَّة الحنفية والمالكية، وزعم الشافعية أنه نجس، ولا دليل يدل لهم؛ لأنَّه لا تحله الحياة، ولا يتألم الحيوان بقطعه؛ فهو طاهر لا يغير الماء والمائعات عن الطهورية، (وقال الزُّهري): محمَّد بن مسلم ابن شهاب (في عِظام) بكسر العين المهملة، جمع عظمة (الموتى): جمع ميت، ويجمع أيضًا على أموات، يشمل العاقل وغيره كما هنا؛ (نحو) أي: مثل (الفيل وغيره)؛ أي: غير الفيل مما لا يؤكل لحمه، وكذا جميع أجزاء الميتة التي لا دم فيها؛ كالقرن، والسن، والظلف، والحافر، والوبر، والصوف، والشعر؛ كلها طاهرة لا تنجس بالموت، وهو مذهب الأئمَّة الحنفية، ومحمَّد بن عبد العزيز، والحسن البصري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، والمزني، وابن المُنْذِر، لكن قالوا: هؤلاء _العظم، والقرن، والظلف_ نجسة، فخالفونا في هذه الثلاثة، وفي العصب روايتان: الطهارة والنَّجاسة، والأصح: أنه طاهر، وخالف الشافعية، فزعموا أنها كلها نجسة إلا الشعر، فإن فيه خلافًا ضعيفًا، وفي العظم أضعف منه، وأمَّا الفيل؛ ففيه خلاف، فعند الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف: هو كسائر السباع، فيجوز الانتفاع بعظمه وجلده بالدباغ، وعند الإمام محمَّد: هو نجس العين حتى لا يجوز بيع عظمه، ولا يطهر جلده بالدباغ ولا بالذكاة، والمعتمد الأول، وعليه الفتوى؛ فافهم: (أدركت ناسًا)؛ أي: كثيرين، فالتنوين فيه للتكثير (من سلف العلماء): وهم الصحابة والتابعون رضي الله عنهم (يمتشطون بها)؛ أي: بعِظام الموتى؛ يعني: يجعلون منها مشطًا ويستعملونه، فهذا يدل على طهارته، وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، (ويدَّهنون)؛ بتشديد الدَّال (فيها)؛ أي: في عِظام الموتى؛ أي: يجعلون فيها ما يحط فيه الدهن، وأصل (يدَّهنون): يتدهنون؛ لأنَّه من باب (الافتعال)، فقلبت الفاء دالًا، وأدغمت الدَّال في الدَّال.
وزعم ابن حجر أنه يجوز ضم أوله، وإسكان الدَّال.
وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّه على هذا يكون من باب الإدهان، فلا يناسب ما قبله، إلا إذا جاءت فيه رواية بذلك، وذلك لأنَّ معناه بالتشديد: هم يدهنون أنفسهم، وإذا كان من باب (الإفعال)؛ يكون معناه: هم يدهنون غيرهم، فلا مانع من ذلك، إلا أنه موقوف على الرواية، وقال بعض الشراح عن السفاقسي: فيه ثلاثة أوجه؛ اثنان منها ما ذكرناهما الآن، والوجه الثالث:
%ص 222%
هو تشديد الدَّال وتشديد الهاء أيضًا.
قلت: ولا منع من ذلك من حيث قاعدة التصريف، ولكن رعاية السماع أولى مع رعاية المناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه، انتهى.
(لا يرون) أي: من سلف من الصحابة والتابعين (به) أي: باستعمال عِظام الموتى (بأسًا)؛ أي: حرجًا، فلو كان نجسًا؛ لما استعملوه امتشاطًا وادهانًا، وعلم منه ضرورة أنه إذا وقع منه شيء في الماء؛ لا يفسده؛ لأنَّه طاهر، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور؛ لأنَّه لا تحله الحياة، ولحديث أم سَلَمَة رضي الله عنها مرفوعًا: «لا بأس بمسك الميتة إذا دُبِغ، ولا بشعرها إذا غُسِل بالماء»، ولحديث ابن عباس: (إنما حرم من الميتة ما يؤكل منها، وهو اللحم، فأمَّا السن، والجلد، والعظم، والشعر، والصوف؛ فهو حلال)، رواهما الدارقطني وغيره، وقال البيهقي: وقد روى عبد الجبار بن مسلم عن الزُّهري شيئًا بمعناه.
وزعم ابن بطال أن حديث أم سَلَمَة رواه يوسف بن أبي السفر، وهو متروك.
وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّه لا يؤثر فيه ما قال إلا بعد جهته، والجرح المبهم غير مقبول عند الحذاق من الأصوليين، وكان هو كاتب الأوزاعي، وقال ابن حبيب: أجاز الليث، وابن الماجشون، وابن وهب، ومطرف، وإصبغ: الامتشاط بها، والادهان فيها، وقال الليث وابن وهب: إن غلا العظم في ماء سخن وطبخ؛ جاز الادهان منه، والامتشاط فيه، وقال مالك والشافعي: عظم الفيلة ونحوه نجس؛ لما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمَّد، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أنه كان يكره أن يدهن في مدهن من عِظام الفيل، وقال ابن المواز: نهى مالك عن الانتفاع بعظم الميتة والفيل، ولم يطلق تحريمها؛ لأنَّ عروة، وابن شهاب، وربيعة أجازوا الامتشاط بها، وقال مالك: إذا ذكي الفيل؛ فعظمه طاهر، وقال الشافعي: الذكاة لا تعمل في السباع؛ فهو نجس؛ لأنَّه تحله الحياة، قال تعالى: {قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78 - 79].
قلت: ما رواه الشافعي لا يدل على أنه نجس؛ لأنَّه موقوف عليه، والكراهة لا تفيد النَّجاسة، بل يفيد الطهارة مع كراهة التنزيه، فيجوز استعماله، لا سيما وقد روي ذلك مرفوعًا إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فكيف يترك العمل بالحديث المرفوع؟! وأيضًا الآية لا تدل على ما قاله؛ لأنَّ معنى إحياء العظام: ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بَدَنٍ حيٍّ حساس؛ بدليل أن أجزاء الإنسان تفرق في مشارق العالم ومغاربه، ويصير بضعه في أبدان السباع، وبعضه في حواصل الطيور، وبعضه في جدران المنازل، فيجمعها سبحانه وتعالى ويردها كما كانت عليه، وهذا معنى الآية، فالعظم لا تحله الحياة؛ فافهم.
(وقال ابن سيرين): هو محمَّد التابعي المشهور (وإبراهيم): هو النخعي، وأسقط أكثر الرواة ذكر إبراهيم النخعي، أمَّا تعليق ابن سيرين؛ فذكره عبد الرزاق عن الفربري، ولفظه: (أنه كان لا يرى بالتجارة في العاج بأسًا)، وفي بعض الروايات ذكر إبراهيم النخعي، ولم أر من الشراح من ذكر لفظ أثره، ولعله باللفظ الذي ذكره المؤلف بقوله: (لا بأس) أي: لا حرج (بتِّجارة العاج)؛ أي: بتجارة في العاج، والتِّجارة؛ بكسر المثناة الفوقية، وفي بعض النسخ: (بنُّجارة)؛ بالنُّون المضمومة، من النجر؛ وهو القشر والخرط؛ والمعنى: لا بأس باستعمال نشارة [2] العاج؛ لأنَّها طاهرة، والرواية المصححة: أنه بالمثناة، ويحتمل أن النجارة؛ بالنُّون محرفة عنها، أو غلط من الناسخين؛ فافهمو (العاج)؛ بتخفيف الجيم، جمع عاجة، قال الجوهري: العاج: عظم الفيل، وكذا قال في «العباب»، ثم قال: (والعاج أيضًا: الذَّبل؛ وهو ظهر السلحفاة البحرية، يتخذ منه السوار، والخاتم، وغيرهما، وقال جرير:
ترى العبس الحولي جونًا بكوعها [3] ... لها مسكًا من غير عاج ولا ذبل
فهذا يدل على أنَّ العاج غير الذَّبل، وفي «المحكم»: العاج: أنياب الفيلة، ولا يسمى غير الناب عاجًا، وقد أنكر الخليل أن يسمى سوى أنياب الفيلة، وذكر غيره أن الذَّبل يسمى: عاجًا، وكذا قاله الخطابي، وأنكروا عليه، والذَّبْل؛ بفتح الذال المعجمة، وسكون الموحدة، قال الأزهري: الذَّبل: القرون، فإذا كان من عاج؛ فهو مسك وعاج، ووقف، وإذا كان من ذبل؛ فهو مسك لا غير.
وزعم ابن حجر قال القالي: العرب تسمي كل عظم: عاجًا، فإن ثبت هذا؛ فلا حجة في الأثر المذكور على طهارة عظم الفيل.
وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: مع وجود النقل عن الخليل لا يعتبر نقل القالي مع ما ذكرنا من الدليل على طهارة عظم الميتة مطلقًا) انتهى؛ أي: سواء كانت من مأكول اللحم أو غيره، والمراد من الدليل: الأحاديث المرفوعة إلى النبيِّ الأعظم عليه السَّلام، كما وقفت عليها؛ فافهم.
فالأحاديث والآثار في هذا الباب تدل صريحًا على أنَّ عظام الميتة طاهرة مطلقًا، وهو مذهب ابن سيرين وإبراهيم النخعي، فإن أثرهما يدل على الطهارة مطلقًا، كما ذكرنا، ويدل لذلك ما ذكره ابن الملقن من أنه روي عن النبيِّ [عليه] السَّلام: (أنه امتشط بمشط من عاج)، وروى أبو داود: أنه عليه السَّلام قال لثوبان [4]: «اشتر لفاطمة سوارين من عاج»، لكنهما ضعيفان.
قلت: لكنهما قد تعددت طرقهما، وبتعدادها يتقويان؛ فافهم.
وزعم القسطلاني: أن إيراد المؤلف لهذا كله يدل على أنَّ عنده أن الماء قليلًا كان أو كثيرًا لا ينجس إلا بالتغيير، كما هو مذهب مالك، انتهى.
قلت: ولا يلزم من إيراده لها أن يكون عنده كذلك؛ لأنَّ مراده بيان المذاهب من الصحابة والتابعين لا بيان مذهبه، على أنه لو كان مذهبه هكذا؛ لأورد حديثًا يدل لما عنده مع أنه قد أنكر حديث القلتين هو وأشياخه، وبعضهم ضعفه من حيث السند والمتن، وقد بسطنا الكلام عليه فيما مضى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ففي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بشارة)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (الفيل يجري وجوه بكعوبها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (لنوبان)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (ففي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بشارة)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (الفيل يجري وجوه بكعوبها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (ففي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بشارة)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (الفيل يجري وجوه بكعوبها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/409)
[حديث: ألقوها وما حولها فاطرحوه]
235# وبه قال: (حدثنا إسماعيل): هو ابن أبي أويس (قال: حدثني) بالإفراد (مالك): هو ابن أنس الأصبحي، (عن ابن شهاب): زاد في الرواية: (الزُّهري)؛ أي: محمَّد بن مسلم، (عن عُبيد الله)؛ بالتصغير، بضمِّ العين (بن عبد الله)؛ بالتكبير، زاد في رواية: (ابن عُتْبَة بن مسعود)، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما، (عن ميمونة): أم المؤمنين بنت الحارث خالة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سُئل)؛ بضمِّ السين المهملة، مبنيًّا للمفعول، قال القسطلاني: ويحتمل أن يكون السائل ميمونة.
قلت: وهذا الاحتمال بعيد؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لقالت: قلت: يا رسول الله عليه السَّلام، ولم تقل: (سُئل)؛ بالبناء للمجهول؛ لأنَّها لو كانت هي السائلة؛ يلزم منها بالإبهام صفة الكبر والعجب، وهي وأمثالها منزهة عن ذلك؛ فليحفظ، فالتحقيق أنه لم يعلم السائل، (عن فأْرة)؛ بهمزة ساكنة، وجمعها: فأر؛ بالهمز أيضًا، وقد تبدل الهمزة ألفًا (سقطت)؛ أي: وقعت (في سمن)؛ أي: جامد، كما في رواية النسائي عن مالك، وزاد المؤلف في (الذبائح): (فماتت)؛ لأنَّها في حال حياتها طاهرة، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه جميعًا بلا خلاف بينهم، وهو مذهب مالك والجمهور، وعند الشافعي: هي نجسة، كما زعمه ابن العربي؛ فافهم، (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (أَلقوها)؛ أي: الفأرة؛ بقطع الهمزة المفتوحة؛ أي: ارموها (وما حولها)؛ أي: وما حول الفأرة من السمن، ويعلم من هذه الرواية: أن السمن كان جامدًا، كما صرح به في الرواية الأخرى؛ لأنَّ المائع لا حوله [1] له؛ إذ الكل حوله، قاله صاحب «عمدة القاري» رحمه الله، ورضي الله عنه، وقوله: (فاطرحوه): ثبت في رواية؛ ومعناه: اطرحوا الملقي [2] من الفأرة وما حولها، وهذا مراد من عبر بـ (اطرحوا) بالجميع، ويكون تأكيدًا لما قبله، (وكلوا سمنكم)؛ أي: الباقي؛ لعدم تنجسه بسريان النَّجاسة إليه؛ لأنَّه جامد؛ لأنَّ الجامد لا يسري بعضه إلى بعض، بخلاف المائع، قال في «عمدة القاري»: وفي الحديث: أن السمن الجامد إذا وقعت فيه فأرة أو نحوها؛ تُطْرَحُ الفأرة، ويؤخذ ما حولها من
%ص 223%
السمن، وتُرْمَى به، ولكن إذا تحقق أن شيئًا منها إذا لم يصل إلى شيء خارج عما حولها، والباقي يُؤْكَل، ويقاس على هذا نحو العسل والدبس إذا كان جامدًا؛ فيجري فيه هذا الحكم، وأما المائع؛ فقد اختلفوا فيه؛ فذهب الجمهور إلى أنَّه ينجس كله قليلًا كان أو كثيرًا، وقد شذَّ قوم؛ فجعلوا المائع كله كالماء، ولا يعتبر ذلك؛ لأنَّهم ليسوا عند أهل العلم ممن يعتد لهم بخلاف، فلا وجه للاشتغال برده، وسلك داود بن علي الظاهري مسلكهم إلا في السمن الجامد والذائب، فإنه تبع فيه ظاهر هذا الحديث، وخالف معناه في العسل والخل وسائر المائعات، فجعلها كلها في لحوق النَّجاسة إياها بما ظهر فيها، فشذ أيضًا، ويلزمه ألَّا يتعدى الفأرة، كما لا يتعدى السمن، قال: واختلف العلماء في الاستصباح به بعد إجماعهم على نجاسته، فقالت طائفة: لا يستصبح به، ولا ينتفع بشيء منه، وممن قال بذلك الحسن بن صالح وأحمد ابن حنبل محتجين بالرواية المذكورة، وإن كان مائعًا؛ فلا تقربوه، وبعموم النهي عن الميتة في الكتاب العزيز، وقال آخرون: يجوز الاستصباح به والانتفاع في كل شيء إلا الأكل والبيع، وهو قول مالك بن أنس، ومحمَّد بن إدريس، والثوري، أما الأكل؛ فمجمع على تحريمه إلا الشذوذ الذي قدمناه، وأما الاستصباح؛ فروي عن علي وابن عمر رضي الله عنهم: أنهما أجازا ذلك، ومن حجتهم في تحريم بيعه قوله عليه السَّلام: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها، وأكلوا ثمنها، إن الله إذا حرم أكل شيء؛ حرم ثمنه»، وقال الجمهور منهم: يجوز أن ينتفع به، ويجوز بيعه، ولا يؤكل، وممن قال بذلك: الإمام الأعظم، والإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد، وأصحابه، والليث بن سعد، وقد روي ذلك عن أبي موسى الأشعري، والقاسم، وسلام محتجين بالرواية الأخرى وإن كان مائعًا، فاستصبحوا به، وانتفعوا به، والبيع من باب الانتفاع.
وأما قوله في حديث عبد الرزاق: (وإن كان مائعًا؛ فلا تقربوه)؛ فيحتمل أن يراد به الأكل، وقد أجرى صلَّى الله عليه وسلَّم التحريم في شحوم الميتة من كل وجه، ومنع الانتفاع بشيء منها غير الأكل، ومن حجة النظر: أن شحوم الميتة محرمة العين والذات، وأما الزيت ونحوه إذا وقعت فيه الفأرة الميتة؛ فإنما يَنْجُس بالمجاورة، وما يَنْجُس بالمجاورة؛ فبيعه جائز؛ كالثوب تصيبه النَّجاسة من الدم وغيره؛ فيصح بيعه.
وأما قوله عليه السَّلام: «إن الله إذا حرم أكل شيء؛ حرم ثمنه»؛ فإنما حرم على لحوم الميتة التي حرم أكلها، ولم يُبَحِ الانتفاع بشيء منها، وكذلك الخمر، وأجاز عبد الله بن نافع: غسل الزيت وشبهه تقع فيه الميتة، وروي عن مالك أيضًا، وصفته: أن يعمد إلى ثلاثة أوان أو أكثر، فيجعل النجس في واحدة منها حتى يكون نصفها أو نحوه، ثم ينصَبُّ عليه الماء حتى يمتلئ، ثم يؤخذ الزيت من أعلى الماء، ثم يجعل في آخر، ويعمل به كذلك، ثم في آخر، وهو قول ليس لقائله سلف فيه، ولا تسكن النفس إليه.
وقال الإمام أبو يوسف رضي الله عنه: يطهر ما لا ينعصر بالعصر بغسله ثلاثًا، وتجفيفه في كل مرة، وذلك كالحنطة، والخرقة الجديدة، والحصير، أو السكين المموه بالماء النجس، واللحم المغلي بالماء النجس، فالطريق فيه أن تُغْسَلَ الحنطة ثلاثًا، وتجفف في كل مرة، وكذلك الحصير، وتغسل الخرقة حتى لا يبقى له بعد ذلك طعم، ولا لون، ولا رائحة، وتُمَوَّه السكين بالماء الطاهر ثلاث مرات، ويُطْبَخ اللحم ثلاث مرات، ويجفف في كل مرة، ويرد من الطبخ، وأما العسل، واللبن، ونحوهما إذا ماتت فيه فأرة ونحوها؛ فتجعل في الإناء، وتصب فيه الماء، ويطبخ حتى يعود إلى ما كان، هكذا يفعل ثلاث مرات.
وقال الإمام محمَّد بن الحسن رضي الله عنه: ما لا ينعصر بالعصر إذا تنجس؛ لا يطهر أبدًا، وقد روي ذلك عن عطاء، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عنه قال: ذكروا أنه يُدْهَنُ به السفن، ولا يمس ذلك، ولكن يؤخذ بعود، فقلت: يُدْهَنُ به غير السفن؟ قال: لم يعلم، قلت: وأين يُدْهَنُ به من السفن؟ قال: ظهورها ولا يُدْهَنُ بطونها، قلت: فلا بد أن يمس، قال: يغسل يديه من مسه، وقد روي عن جابر: المنع من الدهن به، وعن سحنون: إن موتها في الزيت الكثير غير ضار، وليس الزيت كالماء، وعن عبد الملك: إذا وقعت فأرة أو دجاجة في زيت أو بئر؛ فإن لم يتغير طعمه ولا ريحه؛ أزيل ذلك منه، ولم يتنجس، وإن ماتت فيه؛ تنجس وإن كثر [3]؛ لأنَّ الفأرة حال حياتها طاهرة عندنا وعند مالك، وقول ابن العربي: إنها نجسة عندنا خطأ، بل النَّجاسة قول الشافعي، والله تعالى أعلم، انتهى.
==========
[1] في الأصل: (لا حول)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الملقو)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (كثير).
==================
[1] في الأصل: (لا حول)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الملقو)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (لا حول)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الملقو)، وليس بصحيح. 

==================المجلد الرابع======

 

4 : أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)
[حديث: خذوها وما حولها فاطرحوه]

236# وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو ابن المديني (قال: حدثنا مَعْن)؛ بفتح الميم، وسكون العين المهملة، آخره نون: ابن عيسى أبو يحيى القزَّاز _بالقاف، والزايين المنقوطتين؛ أولاهما مشددة_ المدني، كان له غلمان حاكة وهو يشتري القز، ويلقي إليهم، وكان يتوسد عُقْبَة بن مالك، قرأ «الموطأ» على مالك للرشيد وبنيه، مات سنة ثمان وتسعين ومئة (قال: حدثنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي، (عن ابن شهاب): محمَّد بن مسلم الزُّهري، (عن عُبيد الله)؛ بضمِّ العين، بالتصغير (بن عبد الله)؛ بالتكبير (بن عُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الفوقية، وفتح الموحدة بعدها (بن مسعود) رضي الله عنهما، و (عُتْبَة): هو أخ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهم أجمعين، (عن ابن عباس): عبد الله رضي الله عنهما، (عن مَيْمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وسكون التحتية، وضم الميم الثانية: بنت الحارث أم المؤمنين، وخالة ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم سُئل)؛ بضمِّ السين المهملة، مبني للمجهول، فالظاهر هنا وفيما سبق: أن السائل غير ميمونة، وزعم ابن حجر أن السائل عن ذلك هي ميمونة، ووقع في رواية القطان، وجويرة عن مالك في هذا الحديث: (أن ميمونة استفتت)، رواه الدارقطني.
وردَّه في «عمدة القاري»: بأن في رواية البخاري من طريقين صريح بأنَّ السائل غير ميمونة مع أنه يحتمل أنها هي، ولكن لا يمكن الجزم بأنَّها هي السائلة، كما جزم به هذا القائل، انتهى.
واعترضه العجلوني: بأنَّه إذا كان في رواية البخاري تصريح بأنَّ السائل غيرها كيف يحتمل أن تكون هي؟ انتهى.
قلت: ولا يخفى عليك أن ميمونة زوجة النبيِّ الأعظم عليه السَّلام وهي عنده في مجسله، فجاء السائل وسأله عن حكم وقوع الفأرة، فأجابه عليه السَّلام عن ذلك، ثم إن ميمونة سألت النبيَّ عليه السَّلام عن ذلك حتى تعلم الحكم الذي قصه عليه السَّلام، فأجابها عليه السَّلام بذلك أيضًا، فالقصة واحدة، والسائل متعدد، ويحتمل تعدد القصة أيضًا، ويحتمل أن السائل غير معلوم، ورواية الدارقطني لا تدل على أنَّ ميمونة سألت؛ لأنَّه يحتمل أن السائلة امرأة عندها أمرتها بالسؤال منه عليه السَّلام؛
%ص 224%
فتأمل.
(عن فأْرة) بهمزة ساكنة، وقد تبدل ألفًا (سقطت)؛ أي: وقعت (في سمن)؛ أي: جامد فماتت فيه، كما سبق التصريح بهذا في الروايات، (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقوله: (خذوها)؛ أي: الفأْرة، يدل على أنَّ السائلين جماعة؛ لأنَّه أتى بصيغة الجمع، وأقله اثنان ميمونة والسائل، كما قدمناه؛ فافهم (وما حولها)؛ بالحاء المهملة؛ أي: وما حول الفأْرة، وهو يدل على أنَّ السمن كان جامدًا؛ لأنَّ المائع لا حول له؛ إذ الكل حوله كما سبق، (فاطرحوه): الضمير المنصوب فيه يرجع إلى المأخوذ الذي دل عليه قوله: (خذوها)، والمأخوذ هو الفأْرة وما حولها، ويرى المأخوذ ويؤكل الباقي، كما دلت عليه الرواية الأولى.
فإن قلت: من أين يعلم في هذه الرواية جواز أكل الباقي؟
قلت: لأنَّ الطرح لأجل جواز مأكوليته، ويفهم منه جواز مأكولية الباقي؛ بدليل الرواية الأخرى، قاله في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(قال معن) أي: ابن عيسى السابق قريبًا: (حدثنا مالك) أي: ابن أنس الأصبحي: (ما لا أُحصيه)؛ بضمِّ الهمزة، بعدها مهملتين؛ معناه: لا أعده ولا أضبطه؛ لكثرته، فإن أصل الإحصاء العد، استعير للبيان والحفظ؛ لأنَّ العد يكون لأجلهما، ومنه قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12]، (يقول عن ابن عباس) رضي الله عنهما، (عن ميمونة): خالته أم المؤمنين رضي الله عنها، فأشار المؤلف بهذا إلى أنَّ الصحيح في هذا عن ابن عباس عن ميمونة وإن كانت هذه الطريقة أنزل من الطريقة الأولى؛ لأنَّ في إسناد هذا الحديث اختلافًا كثيرًا بيَّنه الدارقطني حيث روي تارة بإسقاط ميمونة من حديث الزُّهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن النبيِّ الأعظم عليه السَّلام، وهذه رواية الأوزاعي عن الزُّهري، ومنهم من لم يذكر عن عبد الله بن عباس ولا ميمونة؛ كيحيى بن بكير، وأبي مصعب، وتارة بإسقاط ابن عباس، كما لم يذكر في رواية ابنِ وهب ابن عباس، وكذا في رواية القعنبي عن مالك من غير ذكر ميمونة، ورواه أبو داود من حديث عبد الرزاق عن الزُّهري، عن سَعِيْد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، ولفظه: (سُئل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الفأْرة تقع في السمن، قال: «إذا كان جامدًا؛ فألقوها، وإن كان مائعًا؛ فلا تقربوه»)، وقال أبو عمرو: (هذا اضطراب شديد من مالك في سند هذا الحديث)، وقال الإسماعيلي: هذا الحديث معلول، وفي رواية: (سئل الزُّهري عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد وغير جامد، فقال: بلغنا أن رسول الله عليه السَّلام أمر بفأْرة ماتت في سمن، فأمر بما قَرُبَ منها، فطُرِحَ، ثم أكل)، ولما كان الأمر كذلك؛ بيَّن البخاري أن الرواية التي فيها ابن عباس عن ميمونة هي الأصح، ألا ترى أن معن بن عيسى يقول: حدثنا مالك _يعني: هذا الحديث_: (ما لا أُحصيه)؛ يعني: مرارًا كثيرة لا يضبطها؛ لكثرتها، يقول عن ابن عباس عن ميمونة، كذا في «عمدة القاري»، وتمامه فيه، وقال الكرماني: (قال معن): هو كلام ابن المديني، فهو داخل تحت الإسناد، ويحتمل وإن كان احتمالًا بعيدًا أن يكون تعليقًا من البخاري.
وزعم ابن حجر أنه متصل وأبعد من قال: إنه معلق.
وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّ احتمال التعليق غير بعيد، ولا يخفى ذلك، انتهى.
فالحاصل: أنه إما متصل أو معلق.
==================
(1/411)
[حديث: كل كلْم يكلمه المسلم في سبيل الله]
237# وبه قال: (حدثنا أحمد بن محمَّد): هو ابن موسى المروزي المعروف بمردويه، هكذا قاله الحاكم أبو عبد الله، والكلاباذي، والإمام أبو نصر حامد بن محمود بن علي الفزاري في كتابه، وذكر الدارقطني: أنَّه أحمد بن محمَّد بن عدي المعروف بشبويه، وقال: أبو أحمد بن عدي بن أحمد بن محمَّد عن عبد الله بن معمر: لا يعرف، ومردويه مات سنة خمس وثلاثين ومئتين، أخرج له الترمذي والنسائي، ولا بأس به، وشبويه مات سنة تسع وعشرين أو ثلاثين ومئتين، روى عنه أبو داود، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (قال: أخبرنا): ولابن عساكر: (حدثنا) (عبد الله): هو ابن المبارك (قال: أخبرنا مَعْمَر)؛ بفتح الميمين، وسكون العين المهملة بينها، آخره راء: هو ابن راشد، (عن همَّام): على وزن (فعَّال)؛ بالتشديد (بن مُنَبِّه)؛ بضمِّ الميم، وفتح النُّون، وكسر الموحدة، (عن أبي هريرة): عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قال: كل كَلْم)؛ بفتح الكاف، وسكون اللام، قال الكرماني: أي: جراحة، وردَّه في «عمدة القاري»، فقال: (وليس كذلك، بل الجرح من كَلَمه كلمًا؛ إذا جرحه، من باب «ضرَب يضرِب»، والجمع: كلوم وكلام، ورجل كليم ومكلوم؛ أي: مجروح، ومنه اشتقاق الكلام من الاسم والفعل والحرف) انتهى.
قلت: وما قاله الكرماني مأخوذ من كلام «الصحاح» حيث قال: (والكلم: الجراحة، تقول: كلمته كلمًا، وقرأ بعضهم: (دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تَكْلِمُهُم) [النمل: 82]؛ أي: تجرحهم وتسمهم، والتكليم: التجريح) انتهى، فالجراحة في كلام «الصحاح»: اسم للجرح، وهو الظاهر، وتُطْلَق على الجرح؛ بالضم، ولا يعبر عن الاسم بالمصدر، فهما غير مترادفين؛ فليحفظ، وقد خبط العجلوني هنا؛ فاجتنبه.
(يُكْلَمه)؛ بضمِّ المثناة التحتية، وسكون الكاف، وفتح اللام؛ أي: يتكلم به، فحذف الجار، ووصل المجرور إلى الفعل، وقوله: (المسلمُ): ومثله: المسلمة: مرفوع؛ لأنَّه مفعول لفاعله، ويجوز بناؤه للفاعل، وفي رواية: (كل كلمة يكلمها المسلم) (في سبيل الله): قيد به؛ ليخرج ما إذا كلم الرجل في غير سبيل الله، وعند المؤلف في (الجهاد): (والله أعلم بمن يكلم في سبيله)، وأخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة يرفعه: «والذي نفسي بيده؛ لا يكلم أحد في سبيل الله، والله يعلم بمن يكلم»، وفي لفظ آخر: «ما وقعت قطرة أحب إلى الله من قطرة دم في سبيل الله، أو قطرة دمع في سواد الليل لا يراها إلا الله عز وجل»، ففيه: إشارة إلى أنَّ الأجر الموعود به إنَّما يحصل لمن خلصت نيته يوم القيامة؛ أي: في المحشر؛ لأنَّ القلوب صناديق الأعمال، وإخلاص النية لا يعلمه إلا الله تعالى، فمن أخلص؛ فله الثواب، ومن راءى؛ فلا أجر له، وقد يقال: إن الفرائض لا يدخلها الرياء، كما نقله العلماء، فيحصل له الثواب على الفرائض وإن كان مرائيًا؛ لأنَّ الفرائض لا يدخلها الرياء، والله أعلم، (يكون)؛ أي: الكلم، وفي رواية: (تكون)؛ بالفوقية؛ أي: الكلمة (يوم القيامة)؛ أي: المحشر والمنشر (كهيئتها)؛ أي: كهيئة الكلمة، وأنث الضمير باعتبار الكلمة.
وزعم الكرماني وتبعه ابن حجر أن تأنيث الضمير باعتبار إرادة الجراحة.
وردَّه في «عمدة القاري» قال: قلت: وليس كذلك، بل باعتبار الكلمة؛ لأنَّ الكلمة والكلم مصدران، والجراحة اسم لا يعبر به عن المصدر مع أنَّ بعضهم قال: يوضحه رواية القابسي عن أبي زيد المروزي، عن الفربري: (كل كلمة يكلمها)، كذا هو في رواية ابن عساكر، قال: قلت: هذا يوضح ما قلت لا ما قاله؛ فافهم.
أقول: والمراد بقوله: (بعضهم): ابن حجر، فإنَّه لما قال: (إن تأنيث الضمير باعتبار إرادة الجراحة)؛ استند إلى رواية القابسي وابن عساكر مع أنه قد فهم ذلك بالعكس، فإن هذه الرواية صريح في أنها تدل لما قاله صاحب «عمدة القاري» حيث إنَّه صرح أن التأنيث باعتبار الكلمة، وقد جاء التأنيث في الرواية مصرحًا به؛ فليحفظ، ولعل كلام ابن حجر مبني على رواية كل من التذكير والتأنيث؛ فخلط، وأبهم، وقام، وخبط، والظاهر المتبادر من كلامهم: أن في لفظ (كهيئتها) روايتين؛ التذكير: وهو يرجع إلى الكلم، والتأنيث: وهو يرجع إلى الكلمة، فكلام الإمام صاحب «عمدة القاري» صحيح؛ لأنَّه أراد أن الضمير في (كهيئتها) راجع إلى (الكلمة) المتقدمة، وهو ظاهر، وأنه أراد أن الضمير في (كهيئته) على الرواية الثانية راجع إلى (الكلم)، وهو مذكور أيضًا، وهو ظاهر، والمناسب للحديث إرادة المصدر يدل عليه قوله الآتي: (تفجر دمًا)، والمتفجر: إنَّما هو المصدر لا الجراحة، وعلى ما قاله ابن حجر فيه ركاكة وخبط وخلط، وقد تبعه على ذلك العجلوني، وانتصر له، وانتصاره حيث إنَّه قد ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء، وقال: (ولم
%ص 225%
يدر ما يقول؛ لأنَّه من شدة التعصب والعناد لم يعلم أنه هل أخطأ أم أجاد؟ بل هو إلى الأول أصوب؛ فافهم ذلك)؛ فافهم.
(إذْ)؛ بسكون الذال، وفي بعض النسخ وجميع نسخ «مسلم»: (إذا) (طُعِنَتْ)؛ بألف بعد الذال، وهي هنا لمجرد الظرفية، أو هي بمعنى (إذ)، فقد يتعاقبان، فلا يرد أن (إذا) للاستقبال، ولا يصح المعنى عليه، أو هو لاستحضار صورة الطعن؛ إذ الاستحضار كما يكون بصريح لفظ المضارع؛ كقوله تعالى: {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر: 9] يكون أيضًا بما في معناه، كما فيما نحن فيه، قاله الكرماني، ثم قال: (طُعِنَتْ)؛ بالتأنيث، والبناء للمفعول، والمطعون المسلم؛ لأنَّ أصله طعن بها، فحذف الجار، وأوصل الضمير المجرور إلى الفعل، وصار المنفصل متصلًا.
وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّ هذا تعسف، بل التأنيث فيها باعتبار الكلمة كما في هيئتها؛ لأنَّها هي المطعونة في الحقيقة، والذي يكلم إنَّما يسمى مطعونًا باعتبار الكلمة والطعنة) انتهى.
قلت: فعلى هذا: لا مجاز في إيقاع الطعن على الكلمة، وعلى ما ذكره الكرماني هو من المجاز، ولا يخفى أنَّ الأول هو الأولى؛ لأنَّ الحقيقة لا ريب أنها أولى، ومقدمة على المجاز.
واعترض البرماوي على الكرماني فقال: (إن التاء علامة لا ضمير، فإن أراد الضمير المستتر؛ فتسميته متصلًا طريقة، والأجود أن الاتصال والانفصال وصفان للبارز) انتهى؛ يعني: أن في طعن ضمير المسلم المتقدم وهو نائب عن الفاعل، فإذا حذفنا الجار ووصلنا الضمير؛ صار التقدير: طعنها، فكيف يكون تأنيث الفعل لما ذكر؟! وكأنه اعتبر أن النائب عن الفاعل الجار والمجرور، وهو بعيد؛ فتأمل، والله أعلم.
(تفجَّر دمًا) منصوب على التمييز، و (تفجَّر): بتشديد الجيم؛ لأنَّ أصله: يتفجر، فحذفت إحدى التاءين؛ كما في قوله تعالى: {نَارَا تَلَظَّى} [الليل: 14]، أصله: تتلظى، قاله في «عمدة القاري»، وقال الكرماني: (تفجُر)؛ بضمِّ الجيم، من الثلاثي، وبفتح الجيم المشددة، وحذفت التاء الأولى منه من (التفعيل)، قال صاحب «عمدة القاري»: (أشار بهذا إلى جواز الوجهين فيه، ولكنه مبني على مجيء الرواية بهما) انتهى (اللون): ولأبي ذر: (واللون) بالواو (لون الدم): الجملة إما حالية أو استئنافية، و (اللون) في المبصرات، وهو أظهر الممسوسات حقيقة ووجودًا، فلهذا استغنى عن تعريفه وإثباته بالدليل، ومن القدماء من زعم أنه لا حقيقة للألوان أصلًا، ومنهم من ظن أن اللون الحقيقي ليس إلا السواد والبياض، وما عداهما إنَّما يحصل من تركيبهما، ومنهم من زعم أن الألوان الحقيقية [1] خمسة: السواد، والبياض، والحمرة، والخضرة، والصفرة، وجعل البواقي مركبة منها، والدم أصله: دَمَو؛ بالتحريك، وإنما قالوا: دما يدمي؛ لأجل الكسرة التي قبل الياء، كما قالوا: رضا يرضي، من الرضوان، وقال سيبويه: أصله: دَمي؛ بالتحريك وإن جاء جمعه مخالفًا لنظائره، والذاهبة منه الياء، والدليل عليها قولهم في تثنيته: دميان، وبعض العرب تقول في تثنيته: دموان، كذا قرره صاحب «عمدة القاري» رحمه الله، ورضي عنه، (والعَرْف عَرْف)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الرَّاء، آخره فاء: وهو الرائحة الطيبة، وأصحاب الأعراف: الذين يجدون عَرْف الجنة؛ أي: ريحها، وكذا يقال: هو الرائحة المنتنة أيضًا، لكن الأكثر في الطيبة؛ فافهم (المِسك)؛ بكسر الميم، وهو معرَّب: مُشك؛ بالشين المعجمة، وضم الميم، ويروى: (عرف مسك)؛ منكرًا، وكذا الدم يروى، وهذا لا يستلزم أن يكون مسكًا حقيقة، بل يجعل الله شيئًا يشبه هذا، ولا كونه دمًا يستلزم أن يكون دمًا نجسًا حقيقة، ويجوز أن يحوله الله تعالى إلى مسك حقيقة؛ لقدرته على كل شيء، كما أنه يحول أعمال بني آدم من الحسنات والسيئات إلى جسده؛ ليوزن في الميزان الذي ينصبه يوم القيامة.
ففي الحديث: أن الحكم في دم الشهيد أنه يأتي يوم القيامة على هيئته حتى يشهد لصاحبه بفضله، وعلى ظالمه بفعله، وكون رائحته على رائحة المسك إظهار الفضيلة لأهل المحشر، ولهذا لا يغسل دمه خلافًا لابن المسيب والحسن.
فإن قلت: ما وجه مناسبة الحديث للترجمة؟
قلت: أجاب صاحب «عمدة القاري»: (بأنه لما كان مبنى الأمر في الماء التغيير بوقوع النَّجاسة، وأنه يخرج عن كونه صالحًا للاستعمال لتغير صفته التي خلق عليها؛ أورد له نظيرًا بتغير دم الشهيد، فإن مطلق الدم نجس، ولكنه تغير بواسطة الشهادة في سبيل الله تعالى، ولهذا لا يُغْسَلُ عنه دمُه؛ ليظهر شرفه يوم القيامة لأهل الموقف، فانتقال صفته المذمومة إلى الصفة المحمودة حيث صار انتشاره كرائحة المسك؛ فافهم) انتهى.
وأجاب الكرماني: (بأن المسك أصله دم انعقد، وفضلة نجسة من الغزال، فيقتضي أن يكون نجسًا كسائر الدماء، وكسائر الفضلات، فأراد البخاري أن يبين طهارته بمدح الرسول عليه السَّلام كما بين طهارة عظم الفيل بالأثر، فظهرت المناسبة غاية الظهور وإن استشكله القوم غاية الاستشكال) انتهى.
وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (لم تظهر المناسبة بهذا الوجه أصلًا، وظهورها غاية الظهور بعيد جدًّا، واستشكال القوم باق، ولهذا قال الإسماعيلي: إيراد المصنف لهذا الحديث في هذا الباب لا وجه له أصلًا؛ لأنَّه لا يدخل في طهارة ولا نجاسة، وإنما ورد في «فضل المطعون في سبيل الله») انتهى.
وأجاب ابن حجر: (بأن مقصود المصنف إيراد هذا الحديث تأكيدًا لمذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة ما لم يتغير؛ لأنَّ تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، فكما أن تغير صفة الدم بالرائحة إلى طيب المسك أخرجه من النَّجاسة إلى الطهارة؛ فكذلك [2] تغير صفة الماء بالنَّجاسة؛ لخروجه من صفة الطهارة إلى صفة النَّجاسة، فإذا لم يوجد التغير؛ لم توجد النَّجاسة) انتهى.
وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: هذا القائل أخذها من كلام الكرماني، فإنه نقله في «شرحه» عن بعضهم، ثم قال: هذا القائل وتعقب بأنَّ الغرض إثبات انحصار التنجيس بالتغيير، وما ذكر يدل على أنَّ التنجيس يحصل بالتغير، وهو باقٍ إلا أنه لا يحصل إلا به، وهو موضع النزاع.
قلت: وهذا أيضًا كلام الكرماني، ولكنه سبكه في صورة غير ظاهرة، وقول الكرماني هكذا، فنقول للبخاري: لا يلزم من وجود الشيء عند الشيء ألَّا يوجد عند عدمه؛ لجواز مقتضًى آخر، ولا يلزم من كونه خرج بالتغير إلى النَّجاسة ألَّا يخرج إلا به؛ لاحتمال وصف آخر يخرج به عن الطهارة بمجرد الملاقاة، انتهى.
وحاصل هذا: أنه وارد على قولهم: إن مقصود البخاري من إيراده هذا الحديث تأكيد مذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة، انتهى كلام «عمدة القاري».
قلت: وهذا كله
%ص 226%
فاسد؛ لأنَّه لو كان مقصود المؤلف من إيراد هذا الحديث تأكيد مذهبه في أن الماء لا ينجس بمجرد الملاقاة؛ لكان أورد حديثًا ظاهرَ المناسبة دالًّا على مذهبه، ولما كان يعتمد على حديث المناسبة فيه غير ظاهرة، بل هي خفية، وما هذا إلا تخمين ووهم مع أن المؤلف ليس مراده هنا بيان مذهبه ولا بيان الأحكام، بل مراده بيان الأحاديث الواردة التي استنبط منها العلماء الأحكام، فإن ظهر له منها حكم؛ ترجم به وصدره، وذكر الأحاديث التي أخذ منها العلماء الأحكام، ومع هذا فقد يذكر حديثًا يكون فيه حكم غير مطابق لما ترجم له في الظاهر، والحال أنه له حكم من الأحكام على أنَّ المؤلف قد أنكر حديث القلتين، وضعفه أشياخه من حيث اضطرابه سندًا ومتنًا وغير ذلك، وأنه لا يعتمد عليه كما بسطناه فيما قدمناه.
وأجاب ابن بطال: (بأنه إنَّما ذكر البخاري هذا الحديث في نجاسة الماء؛ لأنَّه لم يجد حديثًا صحيح السند في الماء، فاستدل على حكم المائع بحكم الدم المائع، وهو المعنى الجامع بينهما).
وردَّه في «عمدة القاري»: (بأنَّه وجه غير حسن لا يخفى) انتهى.
قلت: فإن المؤلف قد ذكر أحاديث صحيحة السند في الماء فيما سيأتي، وساقها في باب على حدة بأسانيد صحيحة.
فقوله: (لم يجد ... ) إلخ؛ ممنوع، وإن أراد بما ذكر حديث القلتين؛ فهو ظاهر؛ لأنَّه حديث ضعيف مضطرب من حيث السند والمتن لا اعتماد عليه.
وقوله: (فاستدل على حكم ... ) إلخ؛ هذا ممنوع أيضًا، فأي جامع بين المائع والدم، فإن الفرق بينهما ظاهر؟! وأي دليل على المعنى الجامع بينهما؟! وما هو إلا احتمال بعيد، وتخمين غير سديد؛ فافهم.
وأجاب ابن رشيد: (بأن مراد المؤلف أن انتقال الدم إلى الرائحة الطيبة هو الذي نقله من حالة الذم إلى حالة المدح، فحصل من هذا تغليب وصف واحد، وهو الرائحة على وصفين؛ وهما الطعم واللون، فيُسْتَنْبَطُ منه: أنه متى تغير أحد الأوصاف الثلاثة بصلاح أو فساد؛ تبعه الوصفان الباقيان) انتهى، وبمثله أجاب ابن المنيِّر والقشيري.
وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّ هذا ظاهر الفساد؛ لأنَّه لم يلزم منه إذا تغير وصف واحد بالنَّجاسة ألَّا يؤثر حتى يوجد الوصفان الآخران، وليس كذلك، فإن هذا لم ينقل إلا عن ربيعة، وكل هؤلاء الأوجه خارجون عن الدائرة، ولم يذكر واحد منهم وجهًا صحيحًا ظاهرًا لإيراد هذا الحديث في هذا الباب؛ لأنَّ هذا الحديث في بيان فضل الشهيد على الحكم المذكور فيه من أمور الآخرة، والحكم في الماء بالطهارة والنَّجاسة من أمور الدنيا، وكيف يلتئم هذا بذاك، ورعاية المناسبة في مثل هذه الأشياء بأدنى وجه يلمح فيه كافية، والتكلفات بالوجوه البعيدة غير مستملحة، واعتمد الجواب الذي صدرنا به السؤال في أول البحث، وهو الظاهر من المناسبة لهذا الحديث، وكل هذه الأوجه التي [3] قالها هؤلاء الشارحون خارجة عن دائرة المناسبة، فالذي قاله صاحب «عمدة القاري» هو الوجه الصواب، وعليه الاعتماد؛ لحصول وجهه بالنظر الصحيح، والقول الفصيح الذي لا غبار عليه، فلله در هذا المؤلف ما أغزر علمه وأوفر الفهم والذكاء! رحمه الله، ورضي عنه، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (الحقيقة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (فلذلك)، وهو تحريف.
(1/412)
(68) [باب الماء الدائم]
(باب الماء الدائم)؛ بالجر صفة للمضاف إليه؛ أي: هذا باب في بيان حكم الماء الراكد؛ وهو الذي لا يجري من حيث البول فيه، والتوضؤ، والاغتسال منه، وفي رواية الأصيلي: (باب لا تبولوا في الماء الراكد؛ وهو الذي لا يجري)، وفي بعضها: (باب البول في الماء الدائم الذي لا يجري)، وتفسير (الدائم): هو الذي لا يجري، وذكر قوله بعد ذلك: (الذي لا يجري) يكون تأكيدًا لمعناه، وصفة موضحة له، وقيل: للاحتراز عن راكد لا يجري بعضه؛ كالبرك ونحوها.
وردَّه في «عمدة القاري» قال: (قلت: فيه تعسف، والألف واللام في «الماء» إما لبيان حقيقة الجنس، أو للعهد الذهني، وهو الماء الذي يريد المكلف التوضؤ به، والاغتسال منه) انتهى.
==========
%ص 227%
==================
(1/413)
[حديث: نحن الآخرون السابقون]
238# وبه قال: (حدثنا أبو اليَمَان)؛ بفتح التحتية، وتخفيف الميم: هو الحَكَم _بفتحتين_ بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي جمرة (قال: حدثنا): وفي رواية: (أخبرنا) (أبو الزِّناد)؛ بكسر الزاي، وتخفيف النُّون: عبد الله بن ذكوان: (أنَّ عبد الرحمن بن هُرْمُزَ)؛ بضمِّ الهاء، وسكون الرَّاء، وضم الميم، والمنع من الصرف؛ لأنَّه أعجمي، ففيه العلمية والعجمة (الأعرج) صفته (حدَّثه)؛ أي: حدَّث أبا الزِّناد: (أنَّه سمع أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه: (أنَّه سمع): وللأصيلي: (قال: سمعت)، ولابن عساكر: (أنَّه يقول: سمعت) (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول) جملة محلها نصب على الحال: (نحن الآخِرون)؛ بكسر الخاء المعجمة، جمع الآخر بمعنى المتأخر، يذكر في مقابلة الأول، وبفتحها جمع لآخر أفعل التفضيل، وهذا المعنى أعم من الأول، والرواية بالكسر فقط؛ ومعناه: نحن المتأخرون في الدنيا من حيث الوجود، فإنَّا آخر الأمم وجودًا، ولا توجد بعدنا أمة، بل نحن الآخرون (السابقون)؛ أي: المتقدمون في الآخرة من حيث البعث، والحساب، ودخول الجنة.
قال في «عمدة القاري»: والحكمة في تقديم هذا الحديث فقد اختلفوا فيها؛ فقال ابن بطال: يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع ذلك من النبيِّ عليه السَّلام، وما بعده في نسق واحد، فحدَّث بهما جميعًا، ويحتمل أن يكون همَّام فعل ذلك؛ لأنَّه سمعهما من أبي هريرة، وإلا؛ فليس في الحديث مناسبة للترجمة، قيل: في الاحتمال الأول نظر؛ لتعذره، ولأنَّه ما بلغنا أن النبيَّ عليه السَّلام حفظ عنه أحد في مجلس واحد مقدار هذه النسخة صحيحًا إلا أن يكون من الوصايا الغير الصحيحة، ولا يقرب من الصحيح، وقال ابن المنير: ما حاصله: أن همَّامًا راويه روى جملة أحاديث عن أبي هريرة استفتحها له أبو هريرة بحديث: «نحن الآخِرون»، فصار همام كلما حدث عن أبي هريرة؛ ذكر الجملة من أولها، وتبعه البخاري في ذلك، وذلك في مواضع أخرى في كتابه في (الجهاد)، و (المغازي)، و (الأيمان والنذور)، و (قصص الأنبياء) عليهم السَّلام، و (الاعتصام) ذكر في أوائلها كلها: (نحن الآخرون السابقون)، وقال ابن المنير: هو حديث واحد، فإذا كان واحدًا؛ تكون المطابقة في آخر الحديث، وفيه نظر؛ لأنَّه لو كان واحدًا؛ لما فصله البخاري بقوله: (وبإسناده)، وأيضًا فقوله: (فنحن الآخرون) طرف من حديث مشهور في ذكر يوم الجمعة، ولو راعى البخاري ما ادعاه؛ لساق المتن بتمامه، ويقال: الحكمة في هذا أن حديث: (نحن الآخرون السابقون) أول حديث في صحيفة همَّام عن أبي هريرة، كان همَّام إذا روى الصحيفة؛ استفتح بذكره، ثم سرد [1] الأحاديث، فوافقه البخاري ههنا، ويقال: الحكمة فيه: أن من عادة المحدثين ذكر الحديث جملة؛ لتضمنه موضع الدلالة المطلوبة، ولا يكون ما فيه مقصودًا بالاستدلال، وإنما جاء تبعًا لموضع الدليل، وفيه نظر لا يخفى، وزعم الكرماني ناقلًا عن بعض أهل العصر مناسبة صدر الحديث لآخره: أن هذه الأمة آخر من يُدْفَنُ من الأمم، وأول من يُخْرَجُ منها؛ لأنَّ الأرض لهم وعاء، والوعاء آخر ما يوضع فيه، وأول ما يخرج منه، وكذلك الماء الراكد آخر ما يقع فيه من البول أول ما يصادف أعضاء المتطهر منه، فينبغي أن يجتنب ذلك ولا يفعله، قلت: فيه جر الثقيل، ولا يشفي الغليل، انتهى كلام صاحب «عمدة القاري».
قلت: وقيل: ووجهه: أن بني إسرائيل وإن سبقوا في الزمان؛ لكنَّ هذه الأمة سبقتهم
%ص 227%
باجتناب الماء الراكد إذا وقع فيه البول، فلعلهم كانوا لا يجتنبون.
وردَّ بأنَّ بني إسرائيل كانوا أشدَّ مبالغة في اجتناب النَّجاسة، فكيف يظن بهم التساهل في هذا؟ ألا ترى أن أحدهم إذا أصاب ثوبه نجاسة؛ قرضه بالمقراض؛ تحرُّزًا عن النَّجاسة، وقيل: الصواب أن البخاري يذكر في الغالب الشيء كما سمعه جملة؛ لتضمنه موضع الدلالة وإن لم يكن باقيه مقصودًا، وليس غرضه منها إلا الحديث الأخير، لكنَّه أداهما على الوجه الذي سمعها.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه لا يلزم من ذكره كما سمعه أن يذكر الجملة المشتملة على الحديثين في سياق واحد، ويكون غرضه منها أحدهما، بل يجوز أن يَذْكُرَ الحديث الواحد المتضمن للدلالة فقط ويَتْرُكَ غيره، ونظير ذلك: ما ذكره في أول باب (النية)، فإنَّه ذكر قطعة من الحديث متضمنة لما ترجم له، وساقه بتمامه في موضع آخر؛ لبيان غرضه؛ فافهم.
والظاهر: أنَّ المؤلف ساق الحديث الأول بسنده، ثم أسند الثاني إلى شيخه، ولم يذكر سنده؛ للاختلاف في سنده وأشياخه من حيث تعدُّد طرقه، فإن الحديث الثاني قد ساقه الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي، وأخرجه من عشرة طرق، وكلها صحيحة كما ستقف عليها، ولأنَّ ذلك يفيد قوَّة على الحديث الأول على أنَّه قد اختلف أيضًا في لفظ متنه كما ستعلمه، فلهذا: المؤلف اقتصر على قوله: (وبإسناده) وساق الحديث الأول؛ فافهم.
239# (وبإسناده): الضمير يرجع إلى الحديث؛ أي: حدثنا أبو اليمان بالإسناد المذكور، قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: حدَّثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري، وعلي بن شيبة بن الصلَّت البغدادي قالا: حدَّثنا عبد الله بن يزيد المقري قال: سمعت ابن عوف يحدِّث عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: (نهى _أو نهي_ أن يبول في الماء الدائم _أي: الراكد _ ثم يتوضأ منه، أو يغتسل فيه).
الطريق الثاني: حدثنا علي بن سَعِيْد بن نوح البغدادي قال: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي قال: حدثنا هشام بن حسَّان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه»، وأخرج مسلم نحوه.
الطريق الثالث: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرني أنس بن عياض الليثي، عن الحارث بن أبي ذئاب_ وهو رجل من الأزد_ عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه أو يشرب»، وأخرجه البيهقي بنحوه إسنادًا ومتنًا.
الطريق الرابع: حدثنا يونس قال: أخبرني عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث: أن بكير بن عبد الله بن الأشبح حدَّثه: أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يَغْتَسِلُ أحدُكم في الماء الدائم وهو جنب»، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» نحوه: (عن عبد الله بن مسلم، عن حرملة بن يحيى، عن عبد الله بن وهب ... ) إلى آخره.
الطريق الخامس: حدَّثنا ابن أبي داود قال: حدثنا سَعِيْد بن الحكم بن أبي مريم قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: حدثني أبي، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه».
الطريق السادس والسابع: حدثنا حسن بن نصر البغدادي قال: حدثنا محمَّد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا سفيان.
(ح): وحدثنا فهد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد؛ فذكر مثله.
الطريق الثامن: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال: حدثنا أسد بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة قال: حدثنا عبد الرحمن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل».
الطريق التاسع: حدَّثنا الربيع بن سليمان الجيزي قال: حدَّثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد قال: أخبرنا حيوَة بن شريح قال: سمعت ابن عجلان يحدِّث عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الراكد، ولا يغتسل منه».
الطريق العاشر: حدَّثنا إبراهيم بن منقذ العضوي قال: حدثني إدريس بن يحيى قال: حدثنا عبد الله بن عياش، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مثله غير أنه قال: «ولا يغتسل فيه جنب»، وتمامه في «عمدة القاري».
(قال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا يبولَنَّ)؛ بفتح اللام، وبنون التأكيد الثقيلة، وفي رواية ابن ماجه: (لا يبول)؛ بغير نون التأكيد (أحدكم): خطاب خاص المراد به العام (في الماء الدائم): من دام الشيء يدوم ويدام، يقال: ديمًا ودوامًا وديمومة، قال ابن سيده: وأصله من الاستدارة؛ لأنَّ أصحاب الهندسة يقولون: إن الماء إذا كان بمكان؛ فإنه يكون مستديرًا في الشكل، ويقال: الدائم: الثابت الواقف الذي لا يجري، فقوله: (الذي لا يجري) إيضاح لمعناه، وتأكيد له، ولهذا لم يذكر هذا القيد في رواية مسلم عن جابر، ولا في بعض الروايات، وقيل: احترز به عن الماء الدائر وإن كان جاريًا من حيث الصورة، ساكن من حيث المعنى، وقيل: الدائم: الراكد، كما جاء في بعض الروايات، وفي «تاريخ نيسابور»: (الماء الراكد: الدائم)، وقيل: الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن الدائم: هو الذي له نبع، والراكد: لا نبع له، ويطلق الدائم أيضًا على الجاري؛ كالأنهار التي لا ينقطع ماؤها؛ لديمومة مائها واستمراره، لكنه غير مراد هنا، واحترز به عن الجاري كلًّا أو بعضًا؛ كالبرك التي يجري بعضها، وكالبحرات التي في ديارنا الشريفة الشامية، فإن الجاري إذا خالطه الشيء النجس؛ دفعه الجزء الثاني الذي يتلوه فيغلبه، فيصير في معنى المستهلَك، ويخلفه الطاهر الذي لم يخالطه النجس، فلا ينهى عنه نهي تحريم، بل تنزيه، وأما الراكد؛ فلا يدفع النجس عن نفسه إذا خالطه، بل يتداخله، فمهما أراد استعمال شيء منه؛ كان النجس فيه قائمًا، فالنهي فيه للتحريم، ولهذا قال العلماء: النهي عن البول في الماء يرجع إلى الأصول، فإن كان الماء جاريًا أو ما في حكمه؛ فالنهي للتنزيه، وإن كان راكدًا قليلًا؛ فالنهي للتحريم.
وزعم ابن الأنباري أن الدائم من الأضداد، يقال للساكن والدائر، انتهى.
قلت: لكنه للساكن حقيقة، وللدائر وغيره مجازًا، فهو من باب عموم المجاز بأن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز، فالحمل في قوله: (الذي لا يجري) على التأكيد أو التوضيح أولى وأوجه؛ لأنَّ الذي لا يجري هو الساكن حقيقة؛ فليحفظ، لا يقال: لو لم يقل: (لا يجري)؛ لكان مجملًا؛ لأنَّا نقول: الدائم: هو الذي لا يجري حقيقة، فهو إيضاح لمعناه، وتأكيد له؛ لأنَّ الدائم هو الساكن الذي لا يجري، كما لا يخفى؛ فافهم، على أنه قد فسر النبيُّ الأعظم عليه السَّلام الدائم: بأنَّه هو الذي لا يجري، فلا يجوز العدول عن هذا التفسير، والدائم: يشمل القليل؛ كالبحرات التي في ديارنا، والكثير: وهو الذي لم يبلغ عشرًا في عشر، فإن النجس ينجِّسه وإن لم يتغير في الظاهر، لكنه متغير من حيث إنَّ النجس اختلط في أجزاء الماء، والله تعالى أعلم.
(ثم يغتسل فيه)؛ أي: أو يتوضأ؛ أي: في الدائم الذي لا يجري، وتفرد المؤلف بلفظ: (فيه) هنا،
%ص 228%
وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد: (ثم يغتسل منه)؛ بكلمة (من)، وكل واحد من اللفظين يفيد حكمًا بالنص وحكمًا بالاستنباط، كذا في «عمدة القاري»، وذلك لأنَّ لفظة (فيه) تدل على منع الانغماس بالنص، وعلى منع التناول بالاستنباط، ولفظة: (منه)؛ بعكس ذلك، ويدل لهذا ما قدَّمنا عن أبي هريرة حيث قال: (يتناوله تناولًا)؛ أي: بإناء صغير أو بأصابعه مضمومة، كما سبق البحث فيه، قال في «عمدة القاري»: يجوز في (يغتسل) ثلاثة أوجه: الجزم: عطفًا على (لا يبولنَّ)؛ لأنَّه مجزوم الموضع بـ (لا) التي للنهي، ولكنه بني على الفتح؛ لتوكيده بالنُّون، والرفع: على تقدير: ثم هو يغتسل فيه، وهو المشهور في الرواية، والنصب: على إضمار (أن)، وإعطاء (ثم) حكم واو الجمع، ونظيره في الأوجه الثلاثة قوله تعالى: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ} [النساء: 100]، فإنه قرئ بالجزم للسبعة، والرفع والنصب على الشذوذ.
وزعم النووي أنَّه لا يجوز النصب؛ لأنَّه يقتضي أنَّ المنهيَّ عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقلْه أحدٌ، بل البول فيه منهيٌّ عنه سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أم لا.
وردَّه في «عمدة القاري» بأنه أراد تشبيه (ثم) بـ (الواو) في جواز النصب بعدهما لا في اقتضاء الجمع، ولئن سلمنا ذلك؛ فلا يضرنا؛ إذ كون الجمع منهيًّا عنه يعلم من دليل آخر؛ كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ} [البقرة: 42]: على تقدير النصب، انتهى، ومثله كحديث مسلم مرفوعًا: (نهى النبيُّ عليه السَّلام عن البول في الماء الراكد)، وكحديثه عن أبي هريرة: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب»، وذكر مثله في «المغني»، وقال: إن إجراء (ثم) مجرى (الفاء) و (الواو) هو مذهب الكوفيين.
ومنع القرطبي النصب أيضًا فقال: إذ لا تُضْمَرُ (إن) بعد (ثم)، ولو أراد النهي؛ لقال: ثم لا يغتسل، فحينئذٍ يتساوى الأمران في النهي عنهما؛ لأنَّ المحل الذي توارد عليه شيء واحد، وهو الماء، قال: فعدوله عن ذلك يدلَّ على أنَّه لم يرد العطف، بل (فيه) على مآل الحال؛ والمعنى: أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه، ويمتنع عليه استعماله، ومثَّله بقوله عليه السَّلام: «لا يضربنَّ أحدكم امرأته ضرب الأمة، ثم يضاجعها»، فإنه لم يروِه أحد بالجزم؛ لأنَّ المراد: النهي عن الضرب؛ لأنَّه يحتاج إليه في مثل حاله إلى مضاجعتها، فتمتنع لإساءته إليها، فلا يحصل له مقصوده، وتقديره: ثم هو يضاجعها، وفي حديث الباب: (ثم هو يغتسل منه).
وردَّ بأنَّه لا يلزم من تأكيد النهي ألا يُعْطَفَ عليه نهيٌ آخر غير مؤكد؛ لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما معنًى ليس للآخر، وهذا ظاهر؛ فافهم.
فالحاصل: أنَّه يجوز في (يغتسل) ثلاثة أوجه؛ فليحفظ.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: احتج بالحديث أصحابنا على أن الماء الذي لا يبلغ الغدير العظيم إذا وقعت فيه نجاسة؛ لم يجز الوضوء به قليلًا كان أو كثيرًا، وعلى أنَّ القلَّتين تحمل النَّجاسة؛ لأنَّ الحديث مطلق، فبإطلاقه يتناول القليل، والكثير، والقلتين، والأكثر منهما، ولو قلنا: إنَّ القلتين لا تحمل النجاسة؛ لم يكن للنهي فائدة، على أنَّ هذا الحديث أصح من حديث القلَّتين، انتهى.
قلت: بل حديث القلَّتين مما لا يثبت، كما صرَّح به الحفَّاظ، فهو بالجملة ضعيف واه لا يُعْمَلُ به.
وزعم ابن قدامة: أن حديث القلَّتين وحديث بئر بضاعة نصٌ يخالف ما ذهب إليه الأئمَّة الحنفية، وبئر بضاعة لا يبلغ إلى الحدِّ الذي يمتنع التنجيس عندهم.
وردَّه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (لا نسلم أن هذين الحديثين نصٌ في خلاف مذهبنا، أمَّا حديث القلَّتين؛ فلأنَّه مضطرب سندًا ومتنًا، والقلَّة في نفسها مجهولة، والعمل بالصحيح المتَّفق عليه أولى وأقرب، وأمَّا حديث بئر بضاعة؛ فإنَّا نعمل به، فإنَّ ماءها كان جاريًا) انتهى.
قلت: وبِضاعة: اسم امرأة، وهي بكسر الموحدة وضمها: بئر قديمة بالمدينة، يلقى فيها الجيف ومحايض النساء، فذكر ذلك للنبيِّ عليه السَّلام حين توضأ منها، فقال: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه»، وقد كان ماؤها جاريًا في البساتين يسقى منه خمسة بساتين، وفي الماء الجاري لا ينجس بوقوع النَّجاسة عندنا.
لا يقال: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فكيف اختص بئر بضاعة مع وجود دليل العموم فيه، وهو الألف واللام؟
لأنَّا نقول: هذا ليس من باب الخصوص في شيء، وإنَّما هو من باب الحمل للتوفيق، فإن الحديثين إذا تعارضا وجُهل تاريخهما؛ جُعل كأنهما وردا معًا، ثم بعد ذلك إن أمكن العمل بهما؛ يحمل كلٌّ منهما على محمل، وإن لم يمكن؛ يطلب الترجيح، وإن لم يمكن؛ تهاترتا، وههنا: أمكن العمل بأن يحمل هذا الحديث على بئر بضاعة، وحديث المستيقظ وحديث الباب على غيرها، فعلمنا بذلك دفعًا للتناقض على أنَّ حديث بئر بضاعة لم يثبت، كما ذكره الدارقطني وغيره، فلا يعارض الصحيح القوي، وقال البيهقي: إنه غير قوي، فلا يصحُّ الاستدلال به، وإنما صحَّ بدون استثناء، وظاهره: أنه غير مراد إجماعًا؛ لأنَّه إذا تغيَّر بالنَّجاسة؛ تنجَّس إجماعًا، كذا قرره في «منهل الطلاب».
فقول ابن قدامة: (وبئر بضاعة لا يبلغ ... ) إلخ فاسد؛ لما علمت، على أنَّ البيهقي روى عن الشافعي: أن بئر بضاعة كانت كثيرة الماء واسعة، وكان يُطرح فيها من الأنجاس ما لا يغيِّر لها لونًا، ولا طعمًا، ولا ريحًا؛ فافهم.
ثم قال إمام الشارحين: فإن قالوا: حديثكم عامٌّ في كل ماء، وحديثنا خاصٌّ فيما يبلغ القلَّتين، وتقديم الخاصِّ على العام متعين، كيف وحديثكم لا بدَّ من تخصيصه، فإنَّكم وافقتمونا على الماء الكثير الذي يزيد على عشرة أذرع، وإذا لم يكن بدٌّ من التخصيص، فالتخصيص بالحديث أولى؟
قلنا: لا نسلِّم أنَّ تقديم الخاص على العام متعين، بل الظاهر من مذهب الأئمَّة الحنفية ترجيح العام على الخاص في العمل به، كما في تحريم [2] بئر الناضح، فإنَّه رجح قوله عليه السَّلام: «من حفر بئرًا؛ فله مما حولها أربعون ذراعًا» على الخاص الوارد بقوله عليه السَّلام: «ليس فيما دون خمس أوسق صدقة»، ونُسخ الخاص بالعام.
وقولهم: (التخصيص بالحديث أولى) قلنا: هذا إنَّما يتمُّ ويكون؛ إذا كان الحديث المخصص غير مخالف للإجماع، وحديث القلَّتين خبر آحاد، ورَدَ مخالفًا لإجماع الصحابة، فيُرَدُّ.
وبيانه: أن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أفتيا في زنجيٍّ وقع في بئر زمزم بنزح الماء كله، ولم يَظْهَرْ أثرُه في الماء، وكان الماء أكثر من قلَّتين، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُنْكِرْ عليهما أحد منهم؛ فكان إجماعًا، وخبر الواحد إذا ورد مخالفًا للإجماع؛ يُردُّ، ويدلُّ لهذا أنَّ علي ابن المديني قال: (لا يثبت هذا الحديث عن النبيِّ عليه السَّلام)، وكفى به قدوة في هذا الباب، وقال أبو داود: (لا يكاد يصحُّ لواحد من الفريقين حديث عن النبيِّ عليه السَّلام في تقدير الماء)، وقال صاحب «البدائع»: (ولهذا رجع أصحابنا في التقدير إلى الدَّلائل الحسِّية دون الدلائل السَّمعية) انتهى.
ثم قال إمام الشارحين: فهذا الحديث عامٌّ، فلا بدَّ من تخصيصه اتفاقًا بالماء المستبحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر؛ لما قلنا، أو بالعمومات الدَّالة على طهورية الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، كما ذهب إليه مالك، أو بحديث القلَّتين، كما ذهب إليه الشافعي، وزعم ابن حجر: أن التفصيل بالقلَّتين أقوى؛ لصحة الحديث فيه، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر عن القول به: بأنَّ القلَّة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة والجرَّة، ولم يثبت في الحديث تقديرها، فيكون مجملًا، فلا يُعْمَلُ به، وقوَّاه ابن دقيق العيد، قال إمام الشارحين: هذا القائل ادَّعى، ثم أبطل دعواه بما ذكره، فلا يحتاج إلى ردِّ كلامه بشيء آخر.
%ص 229%
واعترضه العجلوني، فقال: (ليتأمل كلامه من أين أبطل دعواه بما ذكره؟) انتهى.
قلت: كيف خفي عليه ذلك، وهو ظاهر لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم؟ فإن قوله: (القلة في العرف تطلق ... ) إلخ؛ دليل ظاهر على إبطال مدَّعاه، وذلك لأنَّ القلَّة في نفسها مجهولة؛ لأنَّها تذكر ويراد بها: قامة الرجل، وتذكر ويراد بها: رأس الجبل، كما روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وتذكر ويراد بها: الجرَّة، وتطلق على الكبيرة والصغيرة، فلا ريب أنَّها مجهولة، وبالمجهول لا يثبت الأحكام.
وقوله: (ولم يثبت في الحديث تقديرها): ظاهر أيضًا في إبطال دعواه؛ لأنَّه إذا لم يثبت تقديرها في الحديث؛ كيف يصح ويجوز العمل به؟!
وقوله: (فيكون مجملًا، فلا يعمل به): ظاهر أيضًا في إبطال دعواه؛ لأنَّ المجمل لا يجوز العمل به.
وقول الشافعي: (بقلال هجر) منقطع للجهالة التي ذكرناها، والتعيين لـ (قلال هجر)، إنَّما جاء من قول جرير، وهو غير ثابت من غيره، فالتَّعيين بقول جرير لا يثبت؛ لأنَّه مقلِّد فيبقى الاحتمال، ويبطل الاستدلال؛ فافهم.
ونقل العجلوني عن القاسم بن سلام: أن المراد بالقلة: الكبيرة، إذ لو أراد الصغيرة؛ لم يحتج لذكر العدد، فإن الصغيرتين قدر واحدة كبيرة، ويُرجع في الكبيرة إلى العرف، والظاهر: أن الشارع ترك تحديدهما على سبيل التوسعة، والعلم محيط بأنَّه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمونه، فانتفى الإجمال، لكن لعدم التحديد وقع الخلف بين السلف في مقدارهما على تسعة أقوال حكاها ابن المُنْذِر، ثم حدَّث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، فأيُّ دليل دلَّه على أنَّ المراد بالقلة: الكبيرة، وما هي إلا دعوى باطلة؟
وقوله: (إذ لو أراد الصغيرة ... ) إلخ؛ ممنوع، فإن ذكر العدد يحتاج إليه في الكبيرة قطعًا؛ إذ لا فرق بين الكبيرة والصغيرة من حيث العدد.
وقوله: (فإن الصغيرتين ... ) إلخ؛ هذا دليل فاسد، فإنَّ المقادير لا تقدَّر بالرأي، بل بالدليل الظاهر، وهنا ليس كذلك.
وقوله: (ويرجع في الكبيرة ... ) إلخ؛ فاسد، فإن العرف في هذا لا مجال له؛ لأنَّه يختلف باختلاف الأزمان، والبلدان، والأشخاص، فيلزم أن تكون في زمن مقدرة بشيء، وفي غيره بعده بشيء آخر، وكذا في بلد وبلد، وهذا تناقضٌ وقولٌ بالرأي بعينه، وهو مردودٌ لا يُعْمَلُ به.
وقوله: (والظاهر ... ) إلخ، من أين جاءه هذا الظاهر وما هو إلا دعوى من غير دليل؟! فأي ظاهر ظهر له من غير دليل؟!
وقوله: (على سبيل التوسعة): ممنوع، فإنَّ الشارع لو كان مراده التوسعة؛ لبين مقدارها، ولكن علم أنَّها مجهولة في لسان العرب، تطلق ويراد بها: قامة الرجل إلى غير ذلك كما تقدم.
وقوله: (والعلم محيط ... ) إلخ؛ هذا فاسد، فإن الصحابة رضي الله عنهم كان لهم إطلاقات في القلَّة، فإن عليًّا رضي الله عنه كان يطلق القلَّة، ويريد بها: قامة الرجل، ويطلقها ويريد بها: رأس الجبل.
فقوله: (فانتفى الإجمال)؛ ممنوع، بل ثبت الإجمال، وثبتت الجهالة، كما لا يخفى.
وقوله: (لكن لعدم ... ) إلخ؛ استدراك لما قدمه، وفيه إبطال لما ادعاه من عدم الإجمال، وقد رجع إلى القول بالإجمال والجهالة، فإنَّ عدم تحديدها هو عين الإجمال والجهالة.
وقوله: (وقع الخلف ... ) إلخ؛ فإن الخلاف الواقع بين السلف في مقدارها على الأقوال المذكورة دليل ظاهر على الإجمال والجهالة؛ لأنَّها لو كانت معلومة؛ لم يقع الخلاف في مقدارها، والتقدير الذي حدث بعد ذلك بالأرطال هو قولٌ بالرأي بعينه، وهو مردودٌ غير مقبول؛ لأنَّه لم يثبت عن النبيِّ الأعظم عليه السَّلام، ولم يُنْقَل عنه أصلًا، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين، بل اختراع ورأي فاسد على أن قدمنا عن علي ابن المديني شيخ المؤلِّف أنَّه قال: (حديث القلَّتين مما لا يثبت)، وقال البيهقي: (إنه غير قوي)، وقد تركه الغزالي والروياني مع شدَّة تعصبهما للشافعي؛ لشدَّة ضعفه، فلا يعارض القوي الصحيح، وإذا كان كذلك؛ فالاشتغال بردِّه لا حاجة إليه؛ لأنَّه لا يعمل به، ولا يعتمد عليه، لا سيما ومسائل الطهارة مبنيَّة على الاحتياط، وهنا ليس كذلك، بل فيه عدمه؛ فليحفظ.
واستدلَّ بالحديث الإمام الثاني أبو يوسف قدس سره على نجاسة الماء المستعمل، فإنه قرن فيه بين الغسل فيه والبول فيه، أمَّا البول فيه؛ فينجسه، فكذلك الغسل، وفي دلالة القران بين الشيئين مع استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء، فالمذكور عن الإمام أبي يوسف وتبعه المزني ذلك، وخالفهما غيرهما.
واعترض ابن حجر، فزعم أن دلالة القران ضعيفة.
وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّ هذا عجيب منه، فإذا كانت دلالة القران صحيحة عندهم؛ فقوله: (وهي ضعيفة) يردُّ على قائله على أنَّ مذهب أكثر أصحاب إمامه مثل مذهب الإمام أبي يوسف على تنجُّس الماء المستعمل، فإنَّ البول ينجِّس الماء، فكذلك الاغتسال فيه.
ثم قال ابن حجر: وعلى تقدير تسليمها قد يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول؛ لئلا ينجسه، وعن الاغتسال؛ لئلا يسلبه الطهورية.
وردَّه في «عمدة القاري»: بأنَّ هذا أعجب من الأول؛ لأنَّه تحكم حيث لا يفهم هذه التسوية من نظم الكلام، والذي احتجَّ به في نجاسة الماء المستعمل يقول بالتسوية من نظم الكلام.
ثم قال ابن حجر: ويزيد ذلك وضوحًا ما في رواية مسلم: (كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا)، فدلَّ على أنَّ المنع عن الانغماس فيه؛ لئلا يصير مستعملًا، فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره، وهذا من أقوى الأدلة على أنَّ المستعمل غير طهور، انتهى.
قلت: هذا أعجب مما تقدم، فإن رواية مسلم: (يتناوله تناولًا) تدل على النَّجاسة صريحًا؛ لأنَّه دلَّ على منع الانغماس فيه، وأنَّه يأخذ منه بإناء صغير حتى يُفْرِغَ على بدنه وأعضائه، فالمنع عن الانغماس فيه لئلا يصير نجسًا، فيمتنع على الغير الانتفاع به بالكلية، فهذا دليل ظاهر على النَّجاسة، وزاد دليل النَّجاسة وضوحًا، لا كما زعم، فإنه يفهم الشيء بالعكس.
وقوله: (والصحابي أعلم ... ) إلخ سلَّمنا أنه أعلم، لكنَّه هنا لم نسلِّم أنَّه فهم من كلامه أنَّ المستعمل طاهر، بل قوله: (يتناوله تناولًا): يعمُّ معنيين: النَّجاسة وهو الأظهر، والطهارة وهو بعيد؛ لأنَّ التناول الأخذ بإناء من إناء آخر، وهو يدلُّ على كمال التحرُّز، وهو يفيد أنَّه ينجس.
وقوله: (وهذا من أقوى ... ) إلخ، بل هذا دليل واهٍ أوهى من بيت العنكبوت، فإن الأدلة على النَّجاسة ظاهرة؛ كالشمس في رابعة النهار، تقدَّم لنا الكلام عليها، وهذا منها؛ فليحفظ.
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (في الحديث: التأديب بالتنزُّه عن البول في الماء الراكد، وقد أخذ داود الظاهري بظاهر هذا الحديث، وقال: النهي مختصٌّ بالبول، والغائط ليس كالبول، ومختص ببول نفسه، وجاز لغير البائل أن يتوضأ بما بال فيه أيضًا، وجاز أيضًا للبائل إذا بال في إناء، ثم صبه في الماء، أو بال بقرب الماء، ثم جرى إليه، وهذا أقبح ما نُقِلَ عنه) انتهى.
قال العجلوني: تخصيصه الحكم بالبول دون الغائط غير ظاهر، بل هو أشد وأكره، وكذا تخصيصه الحكم ببول نفسه، وأمَّا كونه أقبح ما نقل عنه، فهو ظاهر إن كان هذا الحكم مع فرض الماء كثيرًا ولم يتغير، وأمَّا إذا كان الماء قليلًا أو كان كثيرًا لكنَّه تغير؛ فلا قبح
%ص 230%
في ذلك؛ لتنجيس الماء بذلك) انتهى.
قلت: أما قوله: (تخصيصه الحكم ... ) إلخ مسلَّمٌ، ولا نسلِّم التفصيل الذي ذكره بقوله: (وأمَّا إذا كان الماء قليلًا ... ) إلخ؛ لأنَّه في هذه الحالة أقبح بلا ريب؛ لتنجيس الماء الطاهر، فإنَّ تنجيس كلِّ طاهر حرام، فهو أقبح بلا شبهة.
وحاصله: أنه لا اختصاص بالبول، بل الغائط مثله، بل هو أقبح، وكذا الاختصاص ببول نفسه؛ لأنَّه لا فرق في بول الآدمي بين الفاعل وغيره، وآدميٍ وآدميٍ آخر إلا الأنبياء عليهم السَّلام، وكذا لا اختصاص للبائل إذا بال في إناء، فإن كلَّ ذلك عامٌّ، حكمه حكم البول في الماء؛ لأنَّ المراد به حصول النَّجاسة، وقد وُجدت، وهو قبيح؛ لأنَّ تنجيس الطاهر حرام، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وفي الحديث: دليل على نجاسة بول الآدمي وغيره مما لا يُؤْكَل لحمه؛ لأنَّه عليه السَّلام أضاف البول إلى الآدمي، وهو غير مأكول اللحم، فالحيوان الذي لا يؤكل لحمه بوله كبوله، فاستفيد من الحديث: أن بول ما يُؤْكَل لحمه له حكمٌ خاصٌّ غير هذا، فذهب الإمام الأعظم والإمام أبو يوسف أنه نجس مخفَّف، وذهب الإمام محمَّد إلى أنَّه طاهر، كما قدَّمناه.
وزعم العجلوني أن في الحديث دليلًا [3] على نجاسة بول الآدمي وغيره ولو من مأكول اللحم.
قلت: نجاسة بول الآدمي وغيره مما لا يؤكل لحمه مسلَّمٌ، ولا نسلِّم أن بول مأكول اللحم نجس بدلالة الحديث؛ لأنَّ الحديث لا يدل على ذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «لا يبولنَّ أحدكم»، فأضاف البول إلى الآدمي، فدل على المغايرة بينهما؛ فليحفظ.
وقال إمام الشارحين: إن المذكور في الحديث الغسل من الجنابة، فيلحق به الاغتسال من الحيض والنفاس، وكذلك يلحق به اغتسال الجمعة والعيدين، والاغتسال من غسل الميت عند من يوجبهما، فإن قلت: هل يلحق به الغسل المسنون أم لا؟ قلت: من اقتصر على اللفظ؛ فلا إلحاق عنده، كأهل الظاهر، وأما من يعمل بالقياس؛ فمن زعم أن العلة الاستعمال؛ فالإلحاق صحيح، ومن زعم أن العلة رفع الحدث؛ فلا إلحاق عنده، فاعتبر بالخلاف الثاني بين الإمام أبي يوسف والإمام محمَّد في كون الماء مستعملًا، انتهى.
وزعم العجلوني أن الغسل عامٌّ، وكان تخصيصه بما ذكره؛ لأنَّه المتبادر، فليس في الحديث تخصيص.
قلت: بل فيه تخصيص من حيث إنه عليه السَّلام قد صرح بالغسل من الجنابة، ففي «مسلم» عن أبي هريرة بلفظ: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب»، فالتخصيص بالجنابة مصرَّح به في الحديث بنصِّه عليه السَّلام، فبقية الاغتسالات بطريق الإلحاق لا بطريق العموم، فإن الحديث ليس من العامِّ في شيء، فإن المراد بالغسل إنَّما هو من الجنابة، لا سيما وقد فسره النبيُّ الأعظم عليه السَّلام بأنَّه من الجنابة، فهو من الخصوص قطعًا، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (سود)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (حريم).
[3] في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (سود)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (حريم).
[1] في الأصل: (سود)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (حريم).
(1/414)
(69) [باب إذا ألقى على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته]
هذا (باب إذا أُلقي)؛ بضمِّ الهمزة، مبني للمجهول؛ أي: طرح (على ظهر المصلي): أي صلاة كانت وهو في صلاته (قذَر)؛ بفتح الذال المعجمة: ضد النظافة، يقال: قذِرت الشيء؛ بالكسر؛ إذا كرهته، كذا في «عمدة القاري»، فهو لغة: الشيء المستقذر، والمراد به هنا: النجس؛ لأنَّه مستقذر شرعًا، (أو جيفة): وهي جثَّة الميت المريحة، وجملة: (لم تفسُد)؛ بضمِّ السين؛ أي: لم تبطل، قاله العجلوني، وفيه نظر؛ لأنَّ الفساد والبطلان في العبادات سيَّان لا فرق بينهما، فكيف فسَّر الفساد بالبطلان؟ وما هو إلا لعدم فهم معاني الكلام؛ (عليه صلاته): جواب (إذا)، قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: وجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ الباب الأول يشتمل على حكم وصول النَّجاسة الماء، وهذا الباب يشتمل على حكم وصولها المصلي وهو في الصَّلاة، وهذا المقدار يتلمَّح به في وجه الترتيب وإن كان حكمها مختلفًا، فإن في الباب الأول: وصول البول إلى الماء الراكد ينجسه كما ذكرناه، وفي هذا الباب: وصول النَّجاسة المصلي لا تفسد صلاته على ما زعم البخاري، فإنه وضع هذا الباب لهذا المعنى، ولهذا صرَّح بقوله: (لم تفسد عليه صلاته)، وهذا إنَّما يتمشى على مذهب من يرى عدم اشتراط إزالة النَّجاسة؛ لصحة الصَّلاة، لا على مذهب من يقول: إنَّ من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء؛ لا تبطل صلاته.
وزعم ابن حجر: بأنَّ قوله: (لم تفسد ... ) إلخ محله ما إذا لم يعلم بذلك وتمادى، ويحتمل الصحة مطلقًا على قول من يذهب إلى أنَّ اجتناب النَّجاسة في الصَّلاة ليس بفرض، وعلى قول من ذهب إلى منع ذلك في الابتداء دون ما يطرأ، وإليه ميل المصنف.
وردَّه إمام الشارحين فقال: (قلت: من أين علم ميل المصنف إلى القول الثاني، وقد وضع هذا الباب وترجم له بعدم الفساد مطلقًا، ولم يقيده بشيء مما ذكره هذا القائل؟ على أنَّه قد أكَّد ما ذهب إليه من الإطلاق بما روي عن عبد الله بن عمر، وسَعِيْد بن المسيِّب، وعامر الشعبي رضي الله عنهم، على أنَّ فيه نظرًا على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى) انتهى.
وزعم العجلوني أنَّ ظاهر كلام المصنف يدلُّ لما قاله ابن حجر، فإن تقييده عدم الفساد للصلاة بما إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة؛ يقتضي التفصيل المذكور، انتهى.
قلت: وهذا فهم فاسد، فإنَّ ظاهر كلام المصنف والمتبادر منه يدلُّ لما قاله إمام الشارحين، فإن قول المؤلف: (إذا ألقي على ظهر المصلي ... ) إلخ ليس تقييد لعدم الفساد، بل هو بيان كيفية وصول النَّجاسة [إلى] المصلي، وهو عامٌّ مطلقًا يشمل الابتداء والانتهاء، فهذا ليس بقيد، بل بيان الكيفية في وصول النَّجاسة إلى المصلي، فكلامه يقتضي عدم التفصيل، وهو ظاهر كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، فقد زاد في الطنبور نغمة على ابن حجر.
ثم زعم ابن حجر أن القول بالمنع يخرج عليه صنيع الصحابي الذي استمر في الصَّلاة بعد أن سالت منه الدماء برمْي من رماه.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا الصحابي من حديث جابر رواه أبو داود في «سننه»، قال: (خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم _يعني: في غزوة ذات الرقاع_ ... )؛ الحديث، وفيه: (فنزل عليه السَّلام منزلًا، وقال: «ما من رجل يكلؤنا؟» فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار يصلي، وأتى الرجل، فلما رأى شخصه؛ عرف أنه ريبة للقوم فرماه بسهم، فوضعه فيه، ونزعه حتى قضى ثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد ... )؛ الحديث، وتخريج هذا القائل صنيع هذا الصحابي على ما ذكره غير صحيح؛ لأنَّ هذا فعل واحد من الصحابة، ولعلَّه ذهل عنه، أو كان غير عالم بحاله، والتحقيق فيه: أن الدَّم حين خرج أصاب بدنه وثوبه، فكان ينبغي أن يخرج من الصَّلاة ولم يخرج، فلما لم يدل مضيُّه في الصَّلاة على جواز الصَّلاة مع النَّجاسة؛ لا يدل مضيُّه فيها على أنَّ خروج الدم لا يَنْقُضُ الوضوء، انتهى.
واعترضه العجلوني تعصبًا، فزعم أن كونه فِعْل واحد من الصحابة، واحتمال ذهوله، أو عدم علمه لا ينافي أنَّه عليه السَّلام اطَّلع عليه بعد ذلك بإخبار من الله تعالى أو من غيره، بل هو الظاهر؛ لأنَّه عليه السَّلام كان في تلك الغزاة قطعًا؛ لقول الصحابي: (خرجنا مع رسول الله عليه السَّلام)، ودعواه أن التحقيق ما ذكره لا يخفى ما فيها، فإن جزمه بأنَّ الدم أصاب بدنه أو ثوبه لا مستند له إلا الاحتمال الذي يحتمل خلافه، وقوله: (فلما لم يدل مضيُّه ... ) إلخ هو محل النزاع؛ إذ الخصم يقول: إنًّها صحيحة؛ للاحتمالين اللذين أبداهما، بل يحتمل أنه لم يصبه شيء من الدم يمنع صحتها، وإذا كان كذلك، فيلزم عدم النقض بخروج الدم، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد، واعتراض بارد، فإن كونه فِعْل واحد من الصحابة، وذهوله، أو عدم علمه ينافي أنه عليه السَّلام اطَّلع عليه بعد ذلك بإخبار من ربه أو من غيره؛ ممنوع؛ لأنَّ اطَّلاعه عليه السَّلام عليه في هذه الحالة لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من غيرهم، على أنه لو فرض اطلاعه [1] عليه السَّلام عليه؛ لكان إمَّا أقره على ذلك أو منعه منه، بل المنع هو الظاهر.
وقوله: (بل هو الظاهر ... ) إلخ ممنوع، فأيُّ ظاهر ظهر له أنَّه أخبره ربه أو غيره؟ وما هو إلا دعوى باطلة، ومسندة فارغة.
وقوله: (لأنَّه عليه السَّلام كان في تلك الغزاة ... ) إلخ لا يدل على أنه اطلع [2] عليه؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يتفقد
%ص 231%
جميع أفعال أصحابه؛ لأنَّ ذلك أمر عسر، ولأن الغزوة حال فرار لا حال قرار، بل الظاهر: أن الصحابي كان بعيدًا عن النبيِّ عليه السَّلام والقوم؛ بدليل أن الصحابة إذا أراد أحدهم البراز أو الغائط؛ ذهب بعيدًا عن الناس، فالصحابي أبعد عن القوم، وفعَلَ ذلك إمَّا على طريق الذهول أو كان غير عالم وهو الظاهر، ولعله علم بعد ذلك بسؤال النبيِّ عليه السَّلام عن ذلك، وقضى صلاته، وهو الظاهر من حاله، كما لا يخفى.
وقوله: (ودعواه أن التحقيق ... ) إلخ ممنوع، بل هذا هو الصواب؛ لأنَّ الدم لا يخلو إمَّا أن يصيب البدن أو الثوب، ولا ثالث لهما أصلًا، فهو لا يحتمل خلافه، فهذا دليل على أنه قد تلطَّخ بالدم في بدنه وثوبه؛ لأنَّ خروج الدم وسيلانه لا بدَّ إلا أن يصيب البدن والثوب، كما لا يخفى.
فقوله: (لا مستند له ... ) إلخ، بل هو دليل ظاهر، وحجَّة قويَّة لما قاله، وأيُّ دليل ومسند هذا القائل الذي قال ولا يدري ما يقول؟
وقوله: (إلا الاحتمال ... ) إل، بل هذا الاحتمال هو الصواب، ولا يوجد احتمال يخالفه، ومن ادَّعاه؛ فهو تعصُّب وتعنُّت.
وقوله: (هو من محل النزاع ... ) إلخ ممنوع، فإن الخصم يزعم أن الصَّلاة والدم في الثوب والبدن غير صحيحة.
وقوله: (بل يحتمل ... ) إلخ هذا ممنوع قطعًا؛ لأنَّه متى خرج الدم من بدن الإنسان لا بدَّ وأن يصيبه منه شيء لبدنه وثوبه لا سيما الجراحة والكلام فيها، فإنه قطعًا يحصل للشخص تلطُّخ بالدماء في أثوابه وغالب بدنه، وهذا كالمتحقق لا يحتمل خلافه.
وقوله: (وإذا كان ... ) إلخ ممنوع، فإنَّه بهذه الحالة يلزم النقض بخروج الدم؛ لأنَّه لا يلزم من مضيِّه فيها عدم النقض بخروجه.
والتحقيق: أن يقال: إنَّه لم يعلم بخروج الدم حتى فرغ من صلاته، فلمَّا رآه؛ قضى صلاته؛ لفسادها بطروء الناقض بسؤاله عليه السَّلام عن ذلك، والله تعالى أعلم.
(وكان) وفي رواية: (قال: وكان) (ابن عمر)؛ أي: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، والضمير في (قال) يعود إلى المؤلف رحمه الله تعالى، مما وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (إذا رأى في ثوبه) الذي هو لابسه (دمًا)؛ زائدًا على قدر الدرهم (وهو يصلي): الواو للحال؛ أي: والحال أنه في الصَّلاة؛ (وضعه)؛ أي: ألقى ثوبه عنه، (ومضى في صلاته)؛ أي: بنى عليها، ففيه: دليل ظاهر على جواز البناء في الصَّلاة، وقال في «عمدة القاري»: هذا الأثر لا يطابق الترجمة؛ لأنَّ فيها ما إذا أصاب المصلي نجاسة وهو في الصَّلاة لا تفسد، وهذا الأثر يدل على أنَّ ابن عمر كان إذا رأى في ثوبه دمًا وهو في الصَّلاة؛ وضع ثوبه _بمعنى: ألقاه_ ومضى في صلاته، فهذا صريح على أنَّ ابن عمر كان لا يرى جواز الصَّلاة مع إصابة النَّجاسة في ثوبه، والدليل على صحة ما قلنا: ما رواه ابن أبي شيبة من طريق برد من سنان، عن نافع، عن ابن عمر: (أنه كان إذا كان في الصَّلاة فرأى في ثوبه دمًا فاستطاع أن يضعه؛ وضعه، وإن لم يستطع؛ خرج فغسله، ثم جاء يبني على ما كان صلى) انتهى.
قلت: وهذا ظاهر، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
لكنْ زعم ابن حجر تعصبًا: أن هذا الأثر يقتضي أن ابن عمر كان يرى التفرقة بين الابتداء والدوام.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا يقتضي هذا أصلًا، وإنما يدل على أنَّه كان لا يرى جواز الصَّلاة مع وجود النَّجاسة مع المصلي مطلقًا؛ أي: سواء كان في حال الابتداء أو في حال الدوام، وهذا حجَّة قويَّة للإمام الثاني أبي يوسف قاضي القضاة فيما ذهب إليه من أن المصلي إذا انتضح عليه البول أكثر من قدر الدرهم؛ ينصرف، ويغسله، ويبني على صلاته، وكذلك إذا ضرب رأسه أو صدمه شيء، فسال منه الدم) انتهى؛ أي: فإنه يبني على صلاته، فزعْمُ هذا الزاعم فاسد.
وزعم العجلوني أنَّ المفهوم من الأثر أنَّه إذا رأى قبل دخوله في الصَّلاة لا يفعل ما ذكر، بل لا يدخل أصلًا؛ لوجود النَّجاسة، وأمَّا إذا كان فيها؛ فإن سهل عليه إلقاؤه فورًا؛ ألقاه واستمر في صلاته، وإلا؛ قطعها؛ ليغسل تلك النَّجاسة، ثم يعود، فيبني.
قلت: وهذا زعم فاسد، وفهم بارد؛ لأنَّ الأثر المذكور الذي علمته لا يدل على هذا التفصيل أصلًا، فمن أين فهمه هذا الزاعم؟! وما هو إلا فهم فاسد، وإنما المفهوم صريحًا أن ابن عمر كان لا يرى جواز الصَّلاة مع إصابة النَّجاسة في ثوبه.
وقوله: (وأما إذا كان فيها ... ) إلخ ممنوع، فأيُّ دليل يدلُّ على هذا التفصيل، وإنما الذي دلَّ عليه الأثر المذكور: أن ابن عمر كان لا يرى جواز الصَّلاة مع وجود النَّجاسة مع المصلي مطلقًا؛ أي: سواء كان في حال الابتداء أو في حال الدوام.
وقوله: (وإلا قطعها ... ) إلخ هذا لا يُفهم من الأثر المذكور أصلًا، فمن أين ظهر له هذا التفصيل الفاسد؟! فإنه ليس في الأثر دليل على القطع، بل فيه دليل صريح على البناء وجوازه في الصَّلاة، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، فالفهم المذكور إنَّما نشأ للعجلوني من العصبية الباردة، والتعنت الزائدة.
وقد يقال: إن الأثر المذكور يفهم منه شيئان؛ أحدهما: أن ابن عمر رأى في ثوبه دمًا جامدًا زائدًا على قدر الدرهم وهو في الصَّلاة، فحين رآه؛ ألقاه عنه، فهو جائز، قال في «الظهيرية»: (لو ألقى الثوب المتنجس من غير حدثه وعليه غيره؛ أجزأه)، كذا في «البحر»، والثاني: أن ابن عمر رأى في ثوبه دمًا من جرح أصابه وهو في الصَّلاة، فبنى على صلاته، فهو جائز عند الإمام أبي يوسف، وأما عند الإمام الأعظم والإمام محمَّد: لا يبني، والفرق بينهم: أن الحدث إذا كان بصنع العباد؛ فإنه لا يبني عندهما، ويبني عنده، وما كان بغير صنع العباد؛ يبني اتفاقًا، فلو عضَّه زنبور مثلًا، أو أصابته شجَّةٌ، فسال منه دم؛ لا يبني؛ لأنَّه بصنع العباد، وعند أبي يوسف: يبني؛ لعدم صنع نفسه، ولو وقعت طوبة من سطح، أو سفرجلة من شجرة، أو تعثَّر بشيء موضوع في المسجد، فأدماه؛ قيل: يبني اتفاقًا؛ لعدم صنع العباد، وقيل: هو على الخلاف أيضًا، كذا في «التبيين» وغيره، ولو عطس أو تنحنح فسبقه الحدث بقوَّته؛ قيل: يبني، وقيل: لا يبني، وهو الصحيح، كما في «القهستاني» عن «الظهيريَّة».
واعلم: أن مسائل البناء عند سبق الحدث مروية عن عائشة، وابن عباس، وأبي بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وهؤلاء صحابة، وعن علقمة، وطاووس، وسالم بن عبد الله، وسَعِيْد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء، ومكحول، وسَعِيْد بن المسيِّب رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء تابعون، وكفى بهم قدوة، كما أوضحه الإمام المحقق حيث أطلق كمال الدين بن الهمام في «فتح القدير» رضي الله عنه ورحمه، والله أعلم.
وزعم الشافعية أنه لا يبني، بل يستأنف، وهو مذهب مالك وأحمد، لكنْ قيَّده مالك بالوقت، فإن خرج؛ فلا قضاء.
وزعم العجلوني أن جماعة فرَّقوا بين الابتداء والدوام؛ كمُجَاهِد، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، فقالوا: إذا صلى بنجس لم يَعْلَمْه، ثم علمه بعد الصَّلاة؛ لا يعيد، وكذا إذا أصابه في الصَّلاة وهو يعلمه، واستدلوا بحديث أبي سَعِيْد الذي رواه أبو داود بسند صحيح، وقال الحاكم: إنه على شرط مسلم: بينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي بأصحابه؛ إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك؛ ألقَوا نعالهم، فلما قضى النبيُّ عليه السَّلام صلاته؛ قال: «ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟» قالوا: يا رسول الله؛ رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن جبريل أتاني، فأخبرني أنَّ فيهما قذرًا» انتهى.
قلت: وهذا ذكره ابن بطال، فنقله هذا القائل عنه، والناقل والمنقول عنه مشهوران بالنَّقل الضعيف، فإنَّ هؤلاء الجماعة لم يثبت عنهم هذا الفرق الذي ذكره هذا القائل، بل المنقول المشهور عنهم: أن النَّجاسة تمنع صحة الصَّلاة سواء كانت في الابتداء أو في الدوام،
%ص 232%
وأنهم كان يرون جواز البناء كما قدمناه عن ابن عمر وغيره من الصحابة، والحديث الذي ذكره لا يدل على الفرق أصلًا؛ لأنَّ إلقاء النبيِّ عليه السَّلام نعليه يحتمل أن يكون قبل شروعه في الصَّلاة، ويحتمل أن يكون في وسطها، والظاهر: الأول؛ لأنَّ قوله: (يصلي بأصحابه)؛ أي: يتهيَّأ للصلاة بهم، فرآهم جبريل يريدون الصَّلاة، فجاء، فأخبر النبيَّ عليه السَّلام: بأنَّ فيهما قذرًا، ويدل لهذا مجيء جبريل، فإنه لا يجيء إليه وهو في الصَّلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام مشغول بعبادة ربه، فلا يلتفت لما سواه، وجبريل أيضًا لا يخبره وهو في حال العبادة؛ لأنَّ كلًّا منهما عليهما السَّلام في غاية من الأدب في عبادة الربِّ جلَّ وعزَّ.
وقوله في الحديث: (فلما قضى صلاته): لا يدل على أنَّ الخلع كان في الصَّلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يرهم خلعوا نعالهم إلا بعد فراغه من الصَّلاة، بدليل قولهم: (رأيناك ألقيت نعليك)، ورؤيتهم له عليه السَّلام كانت بعد أن شرع في الصَّلاة، فرأوه قد خلع وشرع في الصَّلاة، فخلعوا وشرعوا معه، فبعد فراغهم من الصَّلاة رآهم، والله تعالى أعلم.
(وقال ابن المسيِّب)؛ بكسر التحتية وفتحها: هو سَعِيْد التابعي (والشَّعْبي)؛ بفتح المعجمة وسكون المهملة: هو عامر التابعي، قال في «عمدة القاري»: وقع للأكثرين: (وقال ابن المسيب)، ووقع للمستملي والسرخسي: (وكان ابن المسيب) بدل (قال).
فإن قلت: فعلى هذا؛ ينبغي أن يثنِّي الضمير؛ لأنَّ المذكور اثنان؟
قلت: أراد كل واحد منهما، انتهى، قلت: ويجوز أن يكون خبر (كان) محذوفًا؛ أي: يقولان؛ فتأمل.
وزعم ابن حجر أن الأكثر بلفظ (قال)، وهو الصواب، وللمستملي والسرخسي بلفظ: (وكان) انتهى.
قلت: وهذا تناقض، فإن قوله: (وهو الصواب)، وتصريحه بالرواية الأخرى كلام من غير رويَّة ولا معنًى؛ لأنَّ المستملي أحفظ الرواة، فجعْلُ روايته خطأ غيرُ صواب، كما لا يخفى، وأيُّ داع إلى قوله: (وهو الصواب)، وما هو إلا كلام مناف فيه تناقض، كما لا يخفى؟ وليس هذا شأن شارح هذا الكتاب، وتمامه في «إيضاح المرام فيما وقع في الفتح من الأوهام»؛ فافهم.
(إذا صلى) أي: الشخص (وفي ثوبه): الواو للحال؛ أي: والحال أنَّ في ثوبه الذي هو عليه (دم) أقل من قدر الدرهم، (أو) صلى وفي ثوبه الذي عليه (جنابة) أي: أثرها؛ وهو المني، وكان أقل من قدر الدرهم، ففيه: إطلاق الجنابة على المني من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، (أو) صلى (لغير القبلة)؛ كالمشارق، والمغارب، والشمال وكان على اجتهاد، (أو تيمم)؛ أي: لعدم وجود الماء المطلق الكافي وكان بينه وبين الماء ميل فأكثر، (وصلى) وفي رواية: (فصلى)؛ أي: فأتم صلاته، (ثم) بعد فراغه منها (أدرك) أي: وجد (الماء) المطلق الكافي لطهارته (في وقته)؛ أي: في وقت هذه الصَّلاة التي صلاها؛ فإنه (لا يعيد)؛ أي: تلك الصَّلاة التي صلاها في هذه الحالة، أمَّا الدم؛ فلأنَّه لمَّا كان أقل من قدر الدرهم؛ كانت الصَّلاة معه صحيحة، لكن مع كراهة التحريم، ويجب إعادتها جبرًا؛ لما حصل بها من الكراهة؛ لأنَّ كلَّ صلاة أديت مع كراهة التحريم؛ يجب إعادتها على وجه غير مكروه، والأولى: هي الفرض، والثانية: جابرة للأولى.
وأما الجنابة _أي: أثرها_؛ فكالدم كما علمت؛ لأنَّ المني نجس عندنا، كما شهدت به الأحاديث الصحيحة، وهذا الأثر يدل له أيضًا؛ فافهم.
وأما على زعم من زعم أنه طاهر؛ فلا كلام له.
وأما الصَّلاة لغير القبلة؛ فإذا كان قد صلى عن تحرٍّ واجتهاد، ثم تبيَّن الخطأ بعد فراغه من الصَّلاة؛ فصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه عند الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، وأحمد، والجمهور، وزعم الشافعية: أنه ليس عليه الإعادة في القديم، والمعتمد عندهم: وجوب الإعادة، وهو القول الجديد، وهذا الأثر حجَّة عليهم؛ لأنَّ الشخص فعل ما في وسعه.
وأمَّا التيمم؛ فإنه إذا لم يجد الماء وكان بينه وبين الماء ميل فأكثر فصلى بالتيمم؛ فصلاته صحيحة، فإذا وجد الماء بعد ذلك؛ فلا إعادة عليه عند الإمام الأعظم، وأصحابه، والثلاثة، وقال في «عمدة القاري»: (وهذا الأثر إنَّما يطابق الترجمة إذا عمل بظاهره على الإطلاق، وأمَّا إذا قيل: المراد من قوله: «دم»: أقل من الدرهم عند من يرى بذلك، أو شيء يسير عند من ذهب إلى أنَّ اليسير عفو، فلا يطابق الترجمة على ما لا يخفى، وكذلك الجنابة لا تطابق عند من يراه طاهرًا) انتهى.
وزعم العجلوني فقال: (إن عمَّمنا في القدر في الترجمة بين القليل وغيره؛ حصلت المطابقة) انتهى.
قلت: ما ذكره قد أخذه من كلام إمامنا الشارح؛ لأنَّه صدَّر كلامه بقوله: (إذا عمل بظاهره على الإطلاق)؛ أي: إن عمَّم في القدر؛ حصلت المطابقة، وقد يقال: بل يتعين حمله على القليل، فلا يطابق الترجمة؛ لأنَّ مراد المؤلف: القليل؛ بدليل الآثار التي ساقها، فإنها تدل على القليل المعفوِّ عنه، كما لا يخفى على من تتبَّع.
==========
[1] في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
(1/415)
[حديث: أن النبي كان يصلي عند البيت وأبو جهل]
240# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين، وسكون الموحدة، مثنَّى: عبد: هو لقب عبد الله بن عثمان المروزي (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي): هو عثمان بن جَبَلة؛ بفتح الجيم، والموحدة، المروزي، (عن شُعْبة)؛ بضمِّ المعجمة، وسكون المهملة: هو ابن الحجاج، (عن أبي إسحاق): السَّبِيعي؛ بفتح السين المهملة، وكسر الموحدة، واسمه عمرو بن عبد الله الكوفي التابعي، (عن عَمرو)؛ بفتح العين المهملة (بن مَيمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: أبو عبد الله الكوفي الأَودي؛ بفتح الهمزة، وبالدَّال المهملة، أدرك زمن النبيِّ عليه السَّلام، ولم يَلْقَه، وحج مئة حجة وعمرة، وأدَّى صدقته إلى عمال النبيِّ عليه السَّلام، وهو الذي رأى قردة زنت في الجاهلية، فاجتمعت عليها القردة ورجموها، مات سنة خمس وسبعين، كذا في «عمدة القاري».
قلت: فهو تابعي مخضرم، وهو غير عمرو بن ميمون المخزومي؛ فافهم.
(عن عبد الله)؛ أي: ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنَّه المراد حيث أطلق، كما أنه إذا أطلق الإمام الأعظم؛ فالمراد به: أبو حنيفة النعمان إمام الأئمَّة، ورئيس المجتهدين رضي الله تعالى عنه (قال) وفي رواية: (قال عبد الله): (بينا) بغير ميم، فإن أصله: (بين)؛ بلا ألف زيدت؛ لإشباع الفتحة، قال في «عمدة القاري»: (وهو مضاف إلى الجملة التي بعده، والعامل فيه: «إذ قال بعضهم لبعض» الآتي بعد التحويل إلى الإسناد الثاني) انتهى.
قلت: وقد تبعه الشراح؛ لأنَّه إمامهم، وهذا هو الصحيح من أن (بينا)؛ بالألف؛ كـ (بينما)؛ بالميم مكفوفان عن الإضافة إلى المفرد، ومضافان للجملة، وهو مذهب الجمهور، وذهب قوم: إلى أنَّ (ما) والألف كافتان عن الإضافة، والجملة بعدهما لا محل لها من الإعراب، وذهب بعضهم: إلى أنَّ الألف لا تكفُّ عن الإضافة إلى الجملة بخلاف (ما)، واختاره المغاربة، كذا في «همع الهوامع»، وتمامه فيه؛ فافهم.
(رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم): فـ (رسول) مبتدأ، خبره قوله: (ساجد)؛ أي: في صلاته، والذي يظهر أنه كان يصلي حينئذ منفردًا، قال في «عمدة القاري»: (وبقية الحديث من رواية عبدان المذكورة: «وحوله ناس من قريش من المشركين ... »، ثم ساق الحديث مختصرًا) انتهى؛ فافهم.
(ح) مهملة: إشارة للتحويل من سند إلى آخر، هذا هو الأصح من أقوال سبق ذكرها، ولابن عساكر: (قال)؛ أي: المؤلف: (وحدثني)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (وحدثنا) (أحمد بن عثمان)؛ أي: ابن حَكِيم؛ بفتح الحاء المهملة، وكسر الكاف، الأَودي؛ بفتح الهمزة، وبالدَّال المهملة، الكوفي، المتوفى سنة ستين ومئتين (قال: حدثنا شُرَيْح)؛ بضمِّ الشين المعجمة، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة؛ مصغرًا (بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميم، وسكون السين المهملة، وفتح اللام، والميم الثانية، الكوفي التنوخي، زعم الكرماني أنه بالمثناة الفوقية، وبالنُّون المشددة، وبالخاء المعجمة.
وردَّه في «عمدة القاري» أن نوخ وتنوخ: حي من اليمن، ولا تشدد النُّون، انتهى.
قلت: ويدلُّ لهذا أن أهل اللغة والتاريخ قالوا: بتخفيف النُّون، وعبارة السيوطي في «لبِّ الألباب»: (التَّنُوخي؛ بالفتح، وضم النُّون الخفيفة، ومعجمة: نسبة إلى تنوخ قبائل أقاموا بالبحرين) انتهى؛ فافهم، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين، وهو غير شريح القاضي؛ لأنَّه كان في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
%ص 233%
(قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف)؛ أي: السبيعي، المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، (عن أبيه): يوسف بن إسحاق، (عن أبي إسحاق): عمرو بن عبد الله الكوفي السبيعي، الذي سبق ذكره قريبًا، قال في «عمدة القاري»: وهنا إسنادان، ومن لطائف إسناد هذا الحديث: أنه قرن رواية عبدان برواية أحمد بن عثمان مع أن اللفظ لرواية أحمد؛ تقويةً لرواية عبدان؛ لأنَّ في إبراهيم بن يوسف مقالًا، فقال: عباس عن ابن معين ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الزوجاني: ضعيف، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه.
ومن لطائفه: أن رواية أحمد خرجت بالتحديث لأبي إسحاق من عمرو بن ميمون، ولعمرو بن عبد الله بن مسعود.
ومنها: أن روايته عيَّنت أن عبد الله المذكور في رواية عبدان هو عبد الله بن مسعود.
ومنها: أن المذكور في رواية عبدان: (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، وفي رواية أحمد: (نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم) انتهى.
(قال: حدثني) بالإفراد (عَمرو) بفتح العين (بن مَيمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: أبو عبد الله السابق قريبًا: (أن عبد الله بن مسعود) وللكشميهني: (عن عبد الله)، ولا فرق بين الروايتين؛ لأنَّه قد صرَّح بالتحديث في قوله: (أي: ابن مسعود) (حدَّثه)؛ أي: حدَّث عمرو بن ميمون: (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي عند البيت) العتيق؛ وهو الكعبة، وإفادة (كان) الدوام والاستمرار (وأبو جَهل)؛ بفتح الجيم: عمرو بن هشام المخزومي، وكان يكنَّى في الجاهلية بأبي الحكم، فكنَّاه النبيُّ عليه السَّلام بأبي جهل، ولهذا قال الشاعر:
الناس كنَّوه أبا حكم ... والله كنَّاه أبا جهل
وقيل: كان يكنَّى أبا الوليد، وكان يعرف بابن الحنظلة، وكان أحول، وفي «المحبر»: (كان مأبونًا)، وفي «الوشاح» لابن دريد: (هو أول من حُزَّ رأسه)، ولما رآه رسول الله عليه السَّلام؛ قال: «هذا فرعون هذه الأمة»، وتمامه في «عمدة القاري» (وأصحاب له)؛ أي: لأبي جهل، قال في «عمدة القاري»: وهم السبعة المدعوُّ عليهم بعدُ، كما بيَّنه البزار من طريق الأجلح عن أبي إسحاق، (جلوس): جمع: جالس؛ أي: عند البيت أيضًا، قال في «عمدة القاري»: (أبو جهل): مبتدأ، و (أصحاب له): عطف عليه، و (جلوس): خبره، والجملة: نصب على الحال، ومتعلق (له): محذوف؛ أي: أصحاب كائنون له؛ أي: لأبي جهل، ويجوز أن يكون (جلوس): خبر (أصحاب)، وخبر (أبي جهل): محذوف؛ كقول الشاعر:
~ ... نحن بما عندنا وأنت ... بما عندك والرأي مختلف
والتقدير: نحن راضون بما عندنا، انتهى.
واعترض البرماوي: بأنَّ الإخبار في البيت عن الجميع متعذر، بخلاف ما هنا، انتهى.
قلت: وهذا الاعتراض سهل، فإنه اعتراض في المثال لا في الحكم، وغاية الأمر: أنه يقال: إن الإخبار في البيت عن المجموع، وهو كافٍ وغير متعذر؛ فافهم.
(إذ قال) وسقط (إذ) لابن عساكر (بعضهم): هو أبو جهل، كما سماه مسلم من رواية زكريا (لبعض)؛ أي: لأصحابه، وزاد مسلم فيه: (وقد نحرت جزور بالأمس)، وجاء في رواية أخرى: (بينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قائم يصلي في ظل الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم؛ إذ قال قائل منهم: ألا تنظروا إلى هذا المرائي؟!) (أيُّكم)؛ بتشديد التحتية، استفهامية (يجيء بسَلَى)؛ بفتح السين المهملة واللام، وبالقصر: هي الجلدة التي تكون فيها الولد، والجمع: أسلاء، وخصَّ الأصمعي: السلى بالماشية، وفي الناس: بالمشيمة، وفي «المحكم»: (السلى: يكون للناس والخيل)، وقال الجوهري: هي جلدة رقيقة إن نزعت عن وجه الفصيل بساعة يولد، وإلا؛ قتلته، وكذلك إذا انقطع السلى في البطن، وألف (سلى) منقلبة عن ياء مثناة، ويقوِّيه ما حكاه أبو عبيد من أنَّ بعضهم قال: سليت الشاة: إذا نزعت سلاها، انتهى «عمدة القاري»، وقوله: (جَزُور) مضاف إليه؛ بفتح الجيم، وضم الزاي، من الإبل يقع على الذكر والأنثى، وهي تؤنَّث، والجمع: الجزر، يقال: جزرت الجزور أجزُرها؛ بالضم، واجتزرتها؛ إذا نحرتها، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أن الجزور: ما يُجْزَرُ؛ أي: يُقْطَع.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا يدرى من أي موضع نقله؟).
وزعم العجلوني أنه نقله من كتب اللغة؛ كـ «الصحاح»، و «القاموس»، و «المحكم»، قال في «الصحاح»: (جزرت الجزور أجزُرها؛ بالضم، وأجزرتها؛ إذا نحرتها)، وقال في «المحكم»: (الجزور: الناقة المجزورة، والجمع: جزائر)، وقال في «القاموس»: (الجزور: البعير أو خاصٌّ بالناقة المجزورة) انتهى.
قلت: ولا يخفى أن هذه النقول دليل واضح لما قاله صاحب «عمدة القاري» من أن الجزور بمعنى: المجزور؛ أي: المنحور، فهي دليل له لا عليه، ولم يصرِّح أحد من هذه النقول أن معناه: المقطوع، كما زعمه ابن حجر، فالردُّ ظاهر؛ لأنَّه لم يجئ بمعنى القطع في اللغة أصلًا، والعجلوني نقل ولم يعلم ما نقل، وما نقل إلا الحق، فإن الشخص إذا أعرض عن الحق لا بدَّ أن الله تعالى يجعل له أسبابًا، ثم يعيده إلى الحق، وهو لا يدري، ويكون مراده غيره، فالحق مع صاحب «عمدة القاري»، والذي زعمه ابن حجر تفسير من عنده لا مستند له فيه، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، وتمامه في «إيضاح المرام»؛ فيراجع.
(بني فلانٍ)؛ بالتنوين: اسم مبهم لقبيلة من قبائل العرب لم تعرف أسماؤهم، (فيضعه) أي: السلى المذكور (على ظهر محمَّد)؛ أي: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (إذا سجد)؛ أي: في صلاته، وكأنَّهم لا يتيسَّر لهم ذلك إلا في الصَّلاة، وذلك لما أنَّه يدعو عليهم، فيكون أقرب للإجابة، وهل كانت هذه الصَّلاة فرضًا أو نفلًا؟ فيه احتمال، ويدلُّ للثاني أنه عليه السَّلام كان يصلي إذ ذاك وحده، وقد يقال: إنه عليه السَّلام كان يصلي النافلة في بيته، ولعلَّه كان يصلي تحيَّة المسجد؛ فهي تحية المسجد على ما يظهر، وصلاته منفردًا دليل على أنَّها نفل لا فرض؛ لأنَّها لو كانت فرضًا؛ لأداها بالجماعة كما هي عادته؛ فتأمل، والله أعلم، (فانبعث)؛ أي: أشرع، وهو مطاوع (بعث)، يقال: بعثه وانبعثه بمعنًى؛ أي: أرسله فانبعث، كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني أن معناه: انطلق.
قلت: وهو ممنوع؛ لأنَّ الانطلاق يكون عن غير أمر، بخلاف الإرسال، فإنَّه يكون عن طلب من الغير، فالمعنى الصحيح هنا أن معناه: أرسله، كما لا يخفى؛ فافهم.
(أشقى القوم) وفي نسخة: (أشقى قومه)، وللسرخسي والكشميهني: (أشقى قومٍ)؛ بالتنكير، قال في «عمدة القاري»: ولا خلاف في أن (أفعل) التفضيل إذا فارق كلمة (من)؛ أنَّه يعرَّف باللام أو بالإضافة.
فإن قلت: أي الفرق في المعنى في إضافته إلى المعرفة والنكرة؟
قلت: بالتعريف والتخصيص ظاهر، وأيضًا النكرة لها شيوع؛ معناه: أشقى قوم أيَّ قوم كان من الأقوام؛ يعني: أشقى كل قوم من أقوام الدنيا، ففيه مبالغة ليست في المعرفة.
وزعم ابن حجر أن المقام يقتضي الأول؛ يعني: أشقى القوم؛ بالتعريف؛ لأنَّ الشقاء هنا بالنسبة إلى أولئك الأقوام فقط.
وردَّه في «عمدة القاري» بأن التنكير أولى؛ لما قلنا من المبالغة؛ لأنَّه يدخل ههنا دخولًا ثانيًا بعد الأول، وهذا القائل ما أدرك هذه النكتة، انتهى.
%ص 234%
وزعم العجلوني، فقال: (قد أدرك هذه النكتة هذا القائل؛ لأنَّه قال: ففيه مبالغة، لكنه داعي المقام، فرجح التعريف لذلك).
قلت: وترجيحه التعريف دليل على عدم إدراكه هذه النكتة، لأنه قال: (ففيه مبالغة)، على أنَّ المقام يقتضي التنكير والعموم، وترجيحه التعريف ترجيح بلا مرجح، بدليل قوله عليه السَّلام حين رأى أبا جهل: «هذا فرعون هذه الأمة»، والأمة: جميع المخلوقات، فهي أمة الدعوة، فكأنه عليه السَّلام قال: هذا فرعون جميع المخلوقات، فاقتضى ذلك التنكير لا التعريف، وترجح التنكير على التعريف، كما لا يخفى، وبهذا ظهر فساد ما زعمه العجلوني؛ فافهم.
وأشقى القوم: هو عُقْبَة بن أبي مُعَيط؛ بضمِّ الميم، وفتح العين المهملة، كما سماه شعبة عند مسلم، وكذا الإسماعيلي، ورواه أبو داود في «مسنده» بلفظ: (فجاء عُقْبَة بن أبي معيط فقذفه على ظهره)، وقال الداودي: (إنه أبو جهل)، كما نقله عنه صاحب «عمدة القاري» وغيره، وعلى هذا؛ فكونه أشقاهم ظاهر، والصحيح: الأول، ولهذا اقتصر عليه أكثر الشراح، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشدُّ كفرًا منه وإيذاءً لرسول الله عليه السَّلام؛ لأنَّه مع مشاركتهم في الكفر انفرد بالمباشرة فكان أشقاهم، ولهذا قتلوا في الحرب، وقتل هو صبرًا، كما سيأتي؛ فافهم.
(فجاء)؛ أي: أتى أشقى القوم (به) أي: بسلى الجزور، (فنظر) أي: فانتظر (حتى إذا سجد النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) في صلاته؛ (وضعه على ظهره) الشريف (بين كتفيه) وكأنَّه وقف خلف ظهره، فلم يدر إلا وهو وضعه، وقوله: (وأنا أنظر): جملة محلها نصب على الحال؛ أي: قال عبد الله: وأنا أشاهد تلك الحالة (لا أغني) أي: في كفِّ شرِّهم (شيئًا)، وفي رواية: (لا أغيِّر)؛ أي: من فعلهم شيئًا، (لو كان) وفي رواية: (لو كانت) (لي منَعة)؛ بفتح النُّون، وحُكي إسكانها.
قال النووي: (وهو شاذٌّ ضعيف).
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: يردُّ عليه ما ذكره في كتاب «المحكم»: المَنعة والمُنعة والمِنعة، وقال يعقوب في «الألفاظ»: منعة ومنعة، وقال القزاز: فلان في منعة من قومه، ومنعة؛ أي: عزٍّ، وفي كتاب ابن القوطية وابن طريف: منع الحصن مناعًا، ومنعة: لم يرم، وفي «الغريبين [1]»: فلان في منعة؛ أي: في تمنِّع على من رامه، وفلان في منعة؛ أي: في قوم يمنعونه من الأعداء) انتهى كلامه.
وقال القرطبي: المنْعة؛ بسكون النُّون، وروي بفتحها على أنَّه جمع: مانع، ورجَّح القزاز والهروي الإسكان في المفرد، وعكس ابن السكيت، وحاصل ما حكاه في «المحكم» ثلاث لغات: فتح النُّون، وإسكانها، والثالث: كسر الميم وإسكان النُّون، ولا ريب أن هذا يردُّ على النووي فيما ادَّعاه.
وزعم العجلوني أنَّه لا يردُّ عليه؛ لأنَّ حكايته لغات فيها لا ينافي أنَّ بعضها شاذ.
قلت: وهو فاسد، فإن هؤلاء الأئمَّة من أهل اللغة كلهم صرَّحوا بعدم الشذوذ، فدعوى الشذوذ باطلة، فلو كان فيه شذوذ؛ لصرَّحوا به، وحكايته اللغات فيها من غير تصريح بالشاذِّ من غيره ينافي ذلك قطعًا، فزعم هذا الزاعم فاسد؛ فليحفظ، والله أعلم.
وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّه لم يكن له بمكة عشيرة؛ لكونه هُذَليًّا حليفًا، وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارًا، وجواب (لو) محذوف؛ أي: لطرحته عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وصرَّح به مسلم، أو لكففت شرَّهم، أو (لو) للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، وللبزار: (وأنا أرهب منهم).
(قال) أي: ابن مسعود: (فجعلوا) أي: أبو جهل وأصحابه (يضحكون)؛ أي: استهزاءً قاتلهم الله تعالى، وفي رواية: (حتى مال بعضهم على بعض من الضحك)، (ويُحِيل)؛ بضمِّ التحتية، وكسر الحاء المهملة (بعضهم على بعض)؛ أي: ينسب فعل ذلك بعضهم إلى بعض باللفظ أو بالإشارة تهكُّمًا واستهزاءً، قال في «عمدة القاري»: من قولك: أحلت الغريم؛ إذا جعلت له أن يتقاضى المال من غيرك، وجاء حال وأحال أيضًا؛ بمعنى: وثب، وفي الحديث: (أن أهل خيبر أحالوا إلى الحصن)؛ أي: وثبوا إليه، وفي رواية مسلم من رواية زكريا: (ويميل)؛ بالميم بدل (ويحيل)؛ أي: من كثرة الضحك، وفي (الصَّلاة) عند المؤلف: (حتى مال بعضهم على بعض) انتهى.
قلت: ومقتضى ما في «عمدة القاري» وتبعه ابن حجر والشرَّاح: أنَّ (ويميل) ليس في روايةٍ للمؤلف.
وزعم العجلوني أنه رأى نسخة صحيحة من «البخاري»: (ويميل) انتهى.
قلت: والله أعلم بصحة هذه النسخة التي رآها، ولعلَّها نسخة طبع الأعجام الشيعة الذين دأبهم التحريف في الكتب الشرعية والحديثية حتى يوقعوا أهل السنة والجماعة في الخطأ والغفلة، والله أعلم.
(ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم): مبتدأ، وقوله: (ساجد) خبره، والجملة: محلها نصب على الحال (لا يرفع رأسه) الشريف؛ أي: من السجود، بل أبطأ (حتى جاءته) ولأبي ذر: (حتى جاءت) (فاطمة)؛ أي: ابنته عليه السَّلام، ورضي عنها، قال في «عمدة القاري»: (أنكحها رسول الله عليه السَّلام علي بن أبي طالب بعد وقعة أحد، وسنُّها يومئذٍ خمسة عشر سنة وخمسة أشهر، روي لها عن رسول الله عليه السَّلام ثمانية عشر حديثًا، وفي «الصحيحين» لها حديث واحد، روت عنها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، توفيت بعد رسول الله عليه السَّلام بستة أشهر بالمدينة، وقيل: بمئة يوم، وقيل غير ذلك، يوم الثُّلاث لثلاث خلت من رمضان، وغسَّلها علي رضي الله عنه، وصلَّى عليها، ودفنت ليلًا، ودفنها بوصيتها له في ذلك، وفضائلها كثيرة لا تحصى، وكفى بها شرفًا كونها بضعة من رسول الله عليه السَّلام)، ثم قال في «عمدة القاري»: (زاد إسرائيل: وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ساجدًا)، (فطرحته)؛ أي: ما وضعه أشقى القوم من سلى الجزور، وللكشميهني: (فطرحت)؛ بحذف الضمير المنصوب (عن ظهره) الشريف، زاد إسرائيل: (فأقبلت عليهم تسبهم)، وزاد البزار: (فلم يردوا عليها شيئًا).
قلت: ففيه: قوَّة نفس فاطمة الزهراء من صغرها؛ لشرفها في نفسها وقوَّتها؛ لكونها صرَّحت بشتمهم وهم من رؤساء قريش، فلم يردُّوا عليها خوفًا من أن تطرحه عليهم؛ لشدَّة تغيُّظها من هذا الفعل القبيح قاتلهم الله تعالى، وهذا الفعل هو بعض من أفعال جماعة عظمة الكلب العقور المملوءة من المكر والخداع والفجور، كما بيَّنت ذلك في كتابي المسمَّى «إنجاء الغريق المخزون فيما يقوله صاحب الهمِّ والغمِّ المحزون».
(فرفع) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (رأسه) الشريف؛ أي: من السجود، زاد البزار من رواية زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق: (فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد؛ اللهم عليك ... »)؛ الحديث، قال البزار: تفرَّد بقوله: (أما بعد) زيدٌ، قاله في «عمدة القاري»، (ثم قال) ولابن عساكر: (وقال)؛ بإبدال (ثم) بـ (الواو)، قال في «عمدة القاري»: وكلمة (ثم) تشعر بمهلة بين الرفع والدعاء، وفي رواية الأجلح عند البزار: (فرفع رأسه، كما كان يرفعه عند تمام سجوده، فلما قضى صلاته؛ قال: «اللهم»)، ولمسلم والنسائي نحوه، والظاهر من ذلك: أن دعاءه وقع خارج الصَّلاة، لكنَّه وقع وهو مستقبل القبلة، كما ثبت من رواية زهير عن أبي إسحاق عند البخاري ومسلم، انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن قوله: (والظاهر ... ) إلخ يدلُّ على أنَّه لم يقف على هذه الرواية، بل غفل عنها؛ لذكره لها، انتهى.
قلت: وهو كلام فاسد؛ لأنَّه ظاهر التناقض، فإن [بين] قوله: (لم يقف عليها وغفل عنها)، وقوله: (لذكره لها) تناقض، والحقُّ أنَّه لم يغفل عنها، وقد وقف عليها كما علمت من سياق كلامه،
%ص 235%
وحين كان صاحب «عمدة القاري» يؤلِّف ويدرِّس ويلقي العلوم إلى العلماء كان العجلوني منيًّا في ظهر أجداده خلف البقر في عجلون، فكيف يقول: (لم يقف) و (غفل)؟! بل قوله: (والظاهر ... ) إلخ؛ منشأ الاستظهار من أن قوله عليه السَّلام كان بعد تمام الصَّلاة، وخارجها من رواية المؤلف هنا، ثم ساق الرواية الدَّالة على ذلك كما علمت؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
(اللهمَّ؛ عليك بقريش)؛ أي: بهلاكهم، والمراد: الكفار منهم، أو من سمَّى منهم؛ وهم أبو جهل وأصحابه، فهو عامٌّ أريد به الخصوص بقرينة القصة، كذا أفاده صاحب «عمدة القاري»، فلا يرِدُ ما يقال: كيف جاز الدعاء على كلِّ قريش وبعضهم كانوا يومئذٍ مسلمين كالصديق وغيره؟ وأما الجواب: بأنَّه لا عموم للَّفظ، ففيه أن لفظ (قريش) موضوع لهذه القبيلة عمومًا؛ فتأمل (ثلاث مرات) متعلق بـ (قال)؛ أي: قال النبيُّ الأعظم عليه السَّلام: «اللهم؛ عليك بقريش» ثلاثًا، قال في «عمدة القاري»: (كرَّره إسرائيل في روايته لفظًا لا عددًا، وزاد مسلم في رواية زكريا: (وكان إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، وإذا سأل؛ سأل ثلاثًا) انتهى، ثم قال: وفيه: حلمه عليه السَّلام عمَّن آذاه، ففي رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة في هذا الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لم أره دعا عليهم إلا يومئذٍ، وإنما استحقوا الدعاء حينئذٍ؛ لما قدموا عليه من التهكُّم به حال عبادته لربه سبحانه وتعالى)، (فشقَّ ذلك) أي: الدعاء (عليهم)؛ أي: على أبي جهل وأصحابه، وفي رواية إسقاط لفظ: (ذلك) فقط، وعليها شرح إمام الشارحين بدر الدين العيني، وتبعه القسطلاني، وقوله: (إذْ دعا عليهم)؛ بسكون الذال بمعنى: حين، متعلق بـ (شقَّ)، وعند مسلم من رواية زكريا: (فلمَّا سمعوا صوته؛ ذهب عنهم الضَّحك، وخافوا دعوته)، ففيه: معرفة الكفار صدق النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لخوفهم من دعائه، ولكنْ لأجل شقائهم الأزلي حملهم الحسد والعناد على ترك الانقياد له عليه السَّلام، وفيه: جواز الدعاء على الظالم، لكنْ قال بعضهم: محلُّه ما إذا كان كافرًا، فأمَّا المسلم؛ فيستحبُّ الاستغفار له، والدعاء له بالتوبة، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنَّه لو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر لما كان بعيدًا؛ لاحتمال أن يكون عليه السَّلام اطَّلع على أنَّ المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يُدعى لكل حيٍّ بالهداية، انتهى.
قلت: والظاهر: أنه يجوز الدعاء بالهلاك على المسلم الظالم، وكذا الكافر؛ لعموم حديث الباب، ولقوله تعالى حكاية عن قول نوح: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، ولعموم قوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]، وذلك فإنَّ في الدعاء بالهلاك تخليص النَّاس من شرِّه وإيذائه لا سيما من يتظاهر في زماننا في إيذاء المسلمين الذين هم أهل التقوى والشرف، ويتجاسرون عليهم بالفجور والشرور، فلا ريب أن الدَّعاء عليهم جائز، بل واجب، وقد رميت بكلام الأعداء الفجار بالقيل والقال، فدعوت الله تعالى عليهم بالهلاك، فبعد سنة واحدة قد أخذ اثنين منهم أخذ عزيز مقتدر، وقد بيَّنت ذلك في كتابي «إنجاء الغريق المخزون».
(قال) أي: ابن مسعود: (وكانوا) أي: أبو جهل وأصحابه (يَرون)؛ بفتح الياء، ويروى بالضم، قاله صاحب «عمدة القاري»، ومقتضاه: أن الفتح أشهر الروايتين.
وزعم العجلوني تبعًا للبرماوي أن الضم أشهر؛ فتأمل.
ولا يخفى أن الفتح من الرأي، ومعناه: يعتقدون، والضم؛ ومعناه: يظنون، والمعنى الصحيح هنا: الاعتقاد لا الظن، فالفتح هنا أوفق للمعنى وأشهر؛ بدليل أنهم قد شقَّ عليهم إذ دعا عليهم، فهو يدلُّ على أنَّهم كانوا يعتقدون ذلك، فصاحب «عمدة القاري» قد أدرك هذا المعنى بخلاف غيره ممن تصدَّر لشرح هذا الكتاب، فإنه قد خفي عليه هذا المعنى ورئيسهم ابن حجر، فإنَّه قد خفي عليه أيضًا، وتبعوه وكأنَّه عندهم معصوم لا يطرأ عليه خطأ ولا غفلة، بل لو قال غير الحق؛ لاتَّبعوه، ولو قيل: إنَّه إله؛ لعبدوه، وما هذا إلَّا من شدَّة التعصب والعناد والتعنت.
(أن الدعوة) ولابن عساكر إسقاط (أن) (في ذلك البلد)؛ أي: مكة المكرمة، كما صرَّح به ابن نعيم في «المستخرج» فقال: (إن الدعوة في مكة)، كذا في «عمدة القاري» (مستجابة)؛ أي: مجابة، يقال: استجاب وأجاب بمعنًى واحد، فليست السين للطلب؛ كقوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وما كان اعتقادهم إجابة الدعوة من جهة رسول الله عليه السَّلام، بل من جهة المكان؛ لشرف البلد، ولتعظيمهم له مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم الخليل عليه السَّلام، (ثم سمَّى)؛ أي: النبي الأعظم عليه السَّلام قريشًا بأن فصَّل في دعائه ما أجمله أولًا، (فقال) عليه السَّلام: (اللهم؛ عليك بأبي جَهل)؛ بفتح الجيم، وفي رواية إسرائيل: (اللهم؛ عليك بعمرو بن هشام)، وهو اسم أبي جهل، فلعلَّه عليه السَّلام سمَّاه وكنَّاه معًا، ويعرف أيضًا بابن الحنظلية، وكان أحول مأبونًا؛ لقول عُتْبَة بن ربيعة فيه: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره؛ لأنَّه فرعون هذه الأمة، كما قدمناه، (وعليك بعُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، بعدها موحدة (بن رَبيعة)؛ بفتح الرَّاء، (وشيبة بن ربيعة): هو أخ عُتْبَة المذكور، (والوَلِيد)؛ بفتح الواو، وكسر اللام (بن عُتْبَة)؛ أي: المذكور، بضمِّ العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، ثم باء موحدة، قال في «عمدة القاري»: (ولم تختلف الروايات فيه أنه كذا إلا [ما] وقع في رواية مسلم من رواية زكريا بالقاف بدل التاء، وهو وهم نبَّه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق شيخ مسلم على الصواب) انتهى؛ فافهم، (وأُمَيَّة) بضمِّ الهمزة، وتخفيف الميم، وتشديد التحتية (بن خلف)، وفي رواية شعبة: (أو أُبَي بن خلف)؛ بالشك من شعبة، والصحيح: أمية؛ لأنَّ المقتول ببدر أمية؛ بإطباق أصحاب المغازي عليه، وأخوه أُبيُّ بن خلف قتل بأحد، قاله في «عمدة القاري»، (وعُقْبَة) بضمِّ العين المهملة، وسكون القاف، فموحدة (بن أبي مُعَيْط)؛ بالتصغير، بضمِّ الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، آخره طاء مهملة (وعدَّ السابع فلم نحفظه)؛ بنون المتكلم، ويروى بالياء المثناة التحتية، وفاعل الفعلين: إما عبد الله بن مسعود، أو عمرو بن ميمون، والظاهر أن فاعل (عد): النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفاعل (نحفظ): أحد المذكورين، وهذا على الروايتين، وقال الكرماني: فاعل (عدَّ): رسول الله عليه السَّلام، أو عبد الله، وفاعل (لم نحفظه): عبد الله، أو عمرو بن ميمون،.
واعترضه ابن حجر فقال: (لا أدري من أين تهيَّأ له الجزم بذلك مع أن في رواية الثوري عند مسلم ما يدل على أنَّ فاعل «فلم نحفظه»: أبو إسحاق، ولفظه: «قال أبو إسحاق: ونسيت السابع»، وعلى هذا؛ ففاعل «عدَّ» عمرو بن ميمون على أنَّ أبا إسحاق قد تذكَّره مرة أخرى فسمَّاه: «عمارة بن الوليد»، كما أخرجه المصنف في «الصَّلاة») انتهى.
قلت: وهذا كلام فارغ، فقد أخرجه المؤلف في (الجهاد)، ولفظه: (قال أبو إسحاق:
%ص 236%
ونسيت السابع)، كما في رواية مسلم المذكورة، وعلى هذا؛ ففاعل (عدَّ) رسول الله عليه السَّلام، وفاعل (لم نحفظه): عمرو بن ميمون، وقوله: (على أنَّ أبا إسحاق ... ) إلخ يرده رواية المؤلف في (الجهاد) بمثل ما في «مسلم».
واعترضه أيضًا صاحب «عمدة القاري» فقال: لم يجزم الكرماني بذلك، بل ذكره بالشكِّ، فكيف ينكر عليه بلا وجه؟
وأجابه ابن حجر في «الانتقاض» فقال: (الإنكار عليه؛ لأنَّه حصر الشك في اثنين، وظهر برواية مسلم أن المراد غيرهما) انتهى.
قلت: وهذا الجواب فاسد، فإنَّ الشك استواء الطرفين لا مزية لأحدهما، وهو لا ينفي ما عداهما، فلا حصر في الشك، كما لا يخفى، فإن مراد الكرماني: أنَّه يحتمل أحد الاثنين، ويحتمل غيرهما، فلا حصر في كلامه، كما لا يخفى؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: (وأما السابع الذي لم يحفظ هنا؛ فهو مذكور عند البخاري في موضع آخر، وهو عمارة بن الوليد بن المغيرة)، وكذا ذكره اليرقاني وغيره، وقال صاحب «التلويح»: (وهو مشكل؛ لأنَّ عمارة هذا ذكره ابن إسحاق وغيره، وله قصة طويلة مع النَّجاشي، وحاصلها: أنَّه تعرَّض لامرأته، فأمر النَّجاشي ساحرًا فنفخ في إحليل عمارة من سحره عقوبة له، فتوحَّش، وصار مع البهائم إلى أن مات في خلافة عمر رضي الله عنه في أرض الحبشة، وقال ابن حجر: (والجواب: أن كلام ابن مسعود في أنه رآهم صرعى في القليب، محمول على الأكثر).
واعترضه في «عمدة القاري» بأن هذا الجواب أخذه من كلام الكرماني، انتهى.
وزعم العجلوني أن ابن حجر لم يدَّع أن الجواب له، فلا اعتراض عليه، انتهى.
قلت: ولمَّا أن ابن حجر ذكر الجواب ولم يَعْزُهُ للكرماني؛ فهو ادِّعاء منه أن الجواب له؛ لأنَّه لو لم يدَّع ذلك؛ لكان عزاه للكرماني، فعدم تصريحه بذلك ادِّعاء منه أنه نسبه لنفسه، كما لا يخفى.
وعبارة الكرماني: (وأجيب: بأنَّ المراد رأى أكثرهم بدليل أن ابن أبي معيط لم يقتل ببدر، بل حمل منها أسيرًا، فقتله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد انصرافه من بدر على ثلاثة أميال مما يلي المدينة)، قال صاحب «عمدة القاري»: (بموضع يسمى عرق الظبية، وهو من الروحاء على ثلاثة أميال من المدينة، وقيل: إنه قال لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أتقتلني من بين سائر قريش؟ قال: «نعم»، ثم قال: بينا أنا بفناء الكعبة وأنا ساجد خلف المقام؛ إذ أخذ بمنكبي، فلف ثوبه على عنقي فخنقني خنقًا شديدًا، ثم جاء مرة أخرى بسلى جزور بني فلان، وكان عُقْبَة من المستهزئين أيضًا، وذكر ابن حبيب أنه من زنادقة قريش، واسم أبي معيط: أبان بن أبي عمرو) انتهى كلامه
(قال) أي: ابن مسعود: (فوالذي نفسي بيده) وفي رواية مسلم: (والذي بعث محمَّدًا بالحق)، وفي رواية النسائي: (والذي أنزل عليه الكتاب)، وفي بعض النسخ: (والذي نفسي في يده)، كذا في «عمدة القاري»، قلت: والمراد باليد: القدرة؛ أي: بقدرته، ولعلَّ ابن مسعود قال ذلك كله تأكيدًا؛ (لقد رأيت الذين) ولابن عساكر: (الذي)؛ بالإفراد؛ لتقدير الموصوف بالقوم أو الفريق، كما في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] (عدَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: عدهم، فمفعوله محذوف، وهم السبعة المدعوُّ عليهم (صرعى): جمع: صريع؛ كجرحى جمع: جريح، مفعول ثان لـ (رأيت)، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني.
وادَّعى العجلوني أنه ينبغي أن يكون حالًا، وعلَّله: بأنَّ (رأيت) بصرية وإن أمكن توجيه الأول بمعنى مقتول.
قلت: وفيه نظر، فإن (رأيت) علمية؛ بمعنى: اعتقدت؛ أي: صدق دعاء النبيِّ الأعظم عليه السَّلام حيث إنَّه نفذ فيهم عن قريب، فإعرابه مفعولًا ثانيًا أولى وأحسن؛ فافهم.
(في القَلِيب)؛ بفتح القاف، وكسر اللام، وهو البئر قبل أن تطوى، يذكَّر ويؤنَّث، وقال أبو عبيد: هي العادية القديمة من لدن عاد لا يعرف صاحبها، وقال ابن سيده: هي البئر مطلقًا، وجمع القلة: أقلبة [2]، والكثرة: قُلُب، كذا في «عمدة القاري» (قليبِ بدر)؛ بالجر بدل من (قليب)، ويجوز فيه الرفع والنصب من جهة العربية، أمَّا الرفع؛ فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هو قليب بدر، وأما النصب؛ فعلى تقدير: أعني قليب بدر، كذا في «عمدة القاري»، فأفاد أن الرواية بالجر فقط، وبه ظهر فساد تعميم العجلوني الأوجه الثلاثة مع عدم بيانه الرواية؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: (وفي رواية إسرائيل من الزيادة: (لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، ثم قال عليه السَّلام: «واتَّبع أصحاب القليب لعنة») انتهى.
قلت: وهذا يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي، فيكون فيه علم من أعلام نبوته، ويحتمل أن يكون قاله عليه السَّلام بعد أن ألقوا في القليب.
قلت: والاحتمال الثاني أظهر؛ لأنَّ الدعاء الماضي كان بعد فراغه من الصَّلاة وهم كانوا أحياء، وهذا كان بعد إلقائهم في القليب، كما لا يخفى، وهذا قد خفي على ابن حجر؛ فليحفظ.
وزاد شعبة في روايته: (إلا أميَّة؛ فإنه تقطَّعت أوصاله؛ لأنَّه كان بادنًا؛ أي: سمينًا)، فعلى هذا؛ يحمل قوله: (لقد رأيت) على رؤيته أكثرهم صرعى في القليب، وقد يقال: إنه رآهم صرعى جميعًا؛ أي: مطروحين في القليب، ولا يدري هل قتلوا جميعًا أم أكثرهم؟ فأخبر عما رآه منهم، فهو على إطلاقه؛ فتدبر، و (بدر): اسم موضع الغزوة العظمى المشهورة، وهو ماء معروف على نحو أربع مراحل من المدينة مذكَّرًا ومؤنثًا، وقيل: بدر: بئر كانت لرجل يسمى بدرًا، فسميت باسمه.
قال في «عمدة القاري»: فإن قلت: كم كان عدد الذين ألقوا في القليب؟ أجيب: بأنَّ قتادة روى عن أنس، عن أبي طلحة قال: (لما كان يوم بدر وظهر عليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أمر بضعة وعشرين رجلًا)، وفي رواية: (بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فألقوا في طويٍّمن أطواء بدر)، فإن قلت: إن إلقاءهم في البئر دفن لهم، والحربي لا يجب دفنه، بل يُتْرَكُ في الصحراء وهم كانوا حربًا؟ وأجيب: بأنَّ إلقاءهم في البئر كان تحقيرًا لهم ولئلا يتأذَّى الناس برائحتهم، ولم يكن ذلك دفنًا، فإن قلت: في «سنن الدارقطني»: أن من سننه عليه السَّلام في مغازيه إذا مرَّ بجيفة إنسان؛ أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنًا كان أو كافرًا؟ قلت: إنَّما كان لا يسأل؛ لأنَّه كان يعلم بالوحي أنه إذا كان مؤمنًا؛ كان يستحقُّ الدفن لكرامته، وإن كان كافرًا؛ فلئلا يتأذى الناس برائحته على أنَّ المراد بدفنه ليس دفنًا شرعيًّا، بل صبُّ التراب عليه للمواراة، فإن قلت: صب التراب عليهم كان يقطع رائحتهم؟ قلت: كان إلقاؤهم في البئر أيسر عليهم في ذلك الوقت مع زيادة التحقير لهم، كما ذكرنا، فإن قلت: كيف كان إلقاؤهم في البئر والناس ينتفعون بمائها؟ وأجيب: بأنَّه لم يكن فيه ماء، وكانت عادته مهجورة، ويقال: إنَّه وافق أنه كان حفرها رجل من بني النار اسمه بدر بن قريش بن مخلد بن النضر بن كنانة الذي سميت قريش به على أحد الأقوال، فكان فألًا مقدَّمًا لهم، انتهى كلام صاحب «عمدة القاري» رضي الله عنه، ثم قال رحمه الله تعالى: والذين دعا عليهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم سبعة أنفس، كما ذكروا؛ وهم أبو جهل، وعُتْبَة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عُتْبَة، وأمية بن خلف، وعُقْبَة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد بن المغيرة.
أمَّا أبو جهل؛ فقتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، ذكره في «الصحيحين»، ومرَّ عليه ابن مسعود وهو صريع فاحتزَّ رأسه، وأتى به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: هذا رأس عدوِّ الله»، ونفله رسول الله عليه السَّلام بسيفه، وقال رسول الله عليه السَّلام: «الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة، ورأس أئمة الكفر»، وفي رواية البيهقي: (فخرَّ رسول
%ص 237%
الله صلَّى الله عليه وسلَّم ساجدًا).
قلت: ففيه: دليلٌ على مشروعية سجدة الشكر، وعلى أنَّ الإنسان إذا طلب من ربه تعالى حاجة فقضاها؛ ينبغي له أن يسجد لله عز وجل؛ شكرًا لما أعطاه؛ فليحفظ.
قال رحمه الله تعالى: وأمَّا عُتْبَة بن ربيعة؛ فقتله حمزة رضي الله عنه، وقيل: حمزة وعلي رضي الله عنهما اشتركا في قتله، وأمَّا شيبة بن ربيعة بن عبد شمس أخو عُتْبَة؛ فقتله حمزة رضي الله عنه أيضًا، وأما الوليد بن عُتْبَة؛ بالمثناة الفوقية؛ فقتله عبيدة بن الحارث، وقيل: علي، وقيل: حمزة، وقيل: اشتركا في قتله رضي الله عنهم، وأما أمية بن خلف بن صفوان بن أمية؛ فقد اختلف أهل السير في قتله، فذكر موسى بن عُقْبَة: أنه قتله رجل من الأنصار من بني مازن، وقال ابن إسحاق: أن معاذ ابن عفراء، وخارجة بن زيد، وحبيب بن إساف اشتركوا في قتله، وذكر ابن الجوزي أنه عليه السَّلام قتله، وفي السير من حديث عبد الرحمن بن عوف: أن بلالًا رضي الله عنه خرج إليه ومعه نفر من الأنصار فقتله، وكان بدينًا، فلما قُتِلَ؛ انتفخ؛ فألقوا عليه التراب حتى غيبه، ثم جرَّ إلى القليب، فتقطَّع قبل وصوله إليه، وكان من المستهزئين، وفيه نزل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، وهو الذي كان يعذِّب بلالًا في مكة، وأما عُقْبَة بن أبي معيط؛ فقتله علي رضي الله عنه، وقيل: عاصم بن ثابت، والأصح: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قتله بعرق الظبية، كما ذكرناه، وأما عمارة بن الوليد؛ فقد ذكرنا أمره مع النَّجاشي، ومات زمن عمر رضي الله عنه في أرض الحبشة، انتهى.
خاتمة: وجه دلالة الحديث على الترجمة استمراره عليه السَّلام في صلاته مع وجود النَّجاسة على ظهره حتى ألقتها فاطمة، فدلَّ هذا على مدَّعاه من أن مَن عرض له في أثناء صلاته ما يمنع انعقادها ابتداءً؛ لا تفسد صلاته، ولو تمادى بخلاف ما لو عرضت نجاسة فأزالها في الحال ولا أثر لها؛ فإنها لا تفسد اتفاقًا، وأجاب الخطابي عن هذا: بأنَّ أكثر العلماء ذهبوا إلى أنَّ السلى نجس، وتأوَّلوا معنى الحديث: على أنه عليه السَّلام لم يكن تعبد إذ ذاك بتحريمه، كالخمر؛ كانوا يلابسون [3] الصَّلاة، وهي تصيب ثيابهم وأبدانهم قبل نزول التحريم، فلماحرمت؛ لم تجز الصَّلاة فيها.
واعترض عليه ابن بطال بأنَّه لا شكَّ أنها كانت بعد نزول قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ لأنَّها أول ما نزل عليه من القرآن قبل كل صلاة.
وردَّ عليه بأنَّ الفرث ورطوبة البدن طاهران والسلى من ذلك.
وقال النووي: هذا ضعيف؛ لأنَّ روث ما يؤكل لحمه ليس بطاهر؛ لأنَّه يتضمن النَّجاسة من حيث إنَّه لا ينفكُّ من الدم في العادة، ولأنَّه ذبيحة عبدة الأوثان، فهو نجس.
والجواب: أنه عليه السَّلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحابًا للطهارة، وما يدرى هل كانت هذه الصَّلاة فريضة؛ فتجب إعادتها على الصحيح، أو غيرها؛ فلا تجب وإن وجبت الإعادة؛ فالوقت يوسع لها، فلعله أعاد.
واعترض عليه بأنَّه لو أعاد؛ لنقل، ولم ينقل.
وردَّه في «عمدة القاري» بأنَّه لا يلزم من عدم النقل عدم الإعادة في نفس الأمر.
فإن قلت: كيف لا يعلم بما وضع على ظهره وإن فاطمة رضي الله عنها ذهبت به قبل أن يرفع رأسه؟
قلت: لا يلزم من إزالة فاطمة إيَّاه عن ظهره إحساسه عليه السَّلام بذلك؛ لأنَّه كان إذا دخل في الصَّلاة؛ استغرق باشتغاله بالله عز وجل، ولئن سلمنا إحساسه به؛ فقد يحتمل أنه لم تتحقَّق نجاسته، والدليل عليه أن شأنه أعظم من أن يمضي في صلاته وبه نجاسة، وقد يقال: إن الفرث والدم كانا داخل الصَّلاة وجلدته الظاهرة طاهرة، فكان كحمل القارورة المرصَّعة، انتهى.
وزعم العجلوني أن هذا الجواب غير صحيح؛ لأنَّ حمل النَّجاسة في الصَّلاة ولو في قارورة طاهرة غير جائز؛ فتأمل.
قلت: بل هذا الجواب صحيح، وكلامه غير صحيح؛ لأنَّ النَّجاسة ما دامت في معدنها؛ تجوز معها الصَّلاة، ألا ترى أن الإنسان يصلي والحال أنه حاملٌ في بطنه أرطال من النَّجاسة، ولا يسع أحدًا أن يحكم بعدم صحَّة صلاته، ففي «الفتاوى الظهيرية»: الصبي إذا كان ثوبه نجسًا، أو هو نجس فجلس على حجر المصلي، وهو يستمسك بنفسه، أو الحمام النجس إذا وقع على رأس المصليوهو يصلي؛ جازت صلاته، وكذلك الجنب، أو المحدث إذا حمله المصلي؛ لأنَّ الذي على المصلي مستعملٌ له؛ فلم يصر المصلي حاملًا للنجاسة، كذا في «البحر».
ولو مس نحو حائط نجس بيابس في الصَّلاة؛ لا يضرُّ؛ لأنَّه لا يُعَدُّ حاملًا للنجاسة، كما في «القهستاني».
ولو صلى ومعه جرو كلب، أو كل ما لا يجوز أن يتوضأ بسؤره؛ فإنه إن كان فمه مفتوحًا؛ لم تجز صلاته؛ لأنَّ لعابه يسيل في كمِّه فيصير مبتلًّا بلعابه فيتنجَّس كمُّه؛ فيمنع الجواز إن كان أكثر من قدر الدرهم، وإن كان فمه مشدودًا بحيث لا يصل لعابه إلى ثوبه؛ جاز؛ لأنَّ ظاهر كل حيوان طاهر ولا ينجس إلا بالموت، ونجاسة باطنه في معدته؛ فلم يظهر حكمها كنجاسة باطن المصلي، كذا في «البحر».
ولو صلى وفي كمِّه بيضة قذرة [4] قد صار مخُّها دمًا؛ جازت صلاته؛ لأنَّه في معدته، والشيء ما دام في معدنه لا يعطى له حكم النَّجاسة، كذا في «المحيط».
فالحاصل: أن الفرث والدم كانا داخل الصَّلاة وجلدته الظاهرة طاهرة؛ فالنَّجاسة في معدنها، والشيء ما دام في معدنه؛ لا يعطى له حكم النَّجاسة، كما ذكرنا؛ فافهم.
والكاف في قوله: (كحمل القارورة): للتشبيه في الهيئة والصفة لا في الحكم؛ لأنَّ المصلي لو صلَّى وفي كمه قارورة مرصَّعة فيها بول؛ لم تجز صلاته؛ لأنَّه في غير معدنه ومكانه، كما في «المحيط»، وهذا ليس بمراد هنا، وإنما المراد التشبيه من حيث الصفة والهيئة؛ يعني: أن صفة الجلدة كصفة القارورة من حيث إنَّها مرصعة لا يصل منها إلى المصلي شيءٌ [5]؛ فافهم ذلك، والله أعلم.
ثم قال صاحب «عمدة القاري»: (واعترض عليه بأنَّه كان ذبيحة وثني، فجميع أجزائها نجسة؛ لأنَّها ميتة.
وأجيب: بأنَّه كان قبل التعبد بتحريم ذبائحهم.
واعترض عليه بأنَّه يحتاج إلى تاريخ ولا يكفي فيه الاحتمال؟
قلت: الاحتمال الناشئ عن دليل كافٍ، ولا شكَّ أن تماديه عليه السَّلام في هذه الحالة قرينة تدل على أنه كان قبل تحريم ذبائحهم؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يستقرُّ على أمر غير مشروع، ولا يقرِّر غيره عليه؛ لأنَّ حاله أجلُّ وأعظم من ذلك) انتهى كلامه
وزعم أشهب المالكي أن الحديث حجة على أنَّ إزالة النَّجاسة ليست بواجبة، قاله القرطبي، وردَّه في «عمدة القاري» بأنَّ الدلائل القطعية توجب إزالتها عن ثوب المصلي وبدنه والمكان الذي يصلي فيه، فهي تردُّ عليه.
وقال القرطبي: (ومنهم من فرَّق بين ابتداء الصَّلاة بالنَّجاسة؛ فقال: لا يجوز، وبيَّن طروءها على المصلي في نفس الصَّلاة؛ فيطرحها عنه وتصحُّ صلاته، والمشهور من مذهب مالك: قطع طروئها للصلاة إذا لم يمكن طرحها؛ بناءً على أنَّ إزالتها واجبة) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (الغربيين)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (أقبلة)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (بلابسون)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (مذرة)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (شيئًا)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الغربيين)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (أقبلة)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (بلابسون)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (مذرة)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (الغربيين)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (أقبلة)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (بلابسون)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (مذرة)، وهو تحريف.
(1/416)
(70) [باب البزاق والمخاط ونحوه في الثوب]
هذا (باب) في بيان حكم (البصاق)؛ على وزن (فُعَال): ما يسيل من فم الإنسان مما ليس بدم، وفيه ثلاث لغات بالصاد، والزاي، والسين، وأعلاها الزاي، وأضعفها السين، كذا في «عمدة القاري».
قلت: فأفاد أن أكثر الروايات: أنه بالزاي، وبه صرَّح بعض
%ص 238%
الشراح، والباء الموحدة مضمومة في اللغات الثلاث؛ فليحفظ، (والمُخاطِ)؛ بالجر عطف على (البصاق)، وهو بضمِّ الميم: ما يسيل من الأنف سواء كان ثخينًا أو رقيقًا، (ونحوِه)؛ بالجر عطف على ما قبله.
فإن قلت: كان ينبغي أن يقول: ونحوهما؛ لأنَّ المذكور شيئان؟
قلت: تقديره: ونحو كل واحد منهما، قاله إمام الشارحين؛ أي: أو نحو المذكور، وذلك كالعرق والبلغم، وهو ما يخرج من الصدر.
وقوله: (في الثوب): يتعلق بمحذوف؛ أي: الكائن أو كائنًا، ومثل الثوب: البدن والمكان للمصلِّي هل يضرُّ أم لا؟ ويجوز أن يكون (باب): مبتدأ يحتاج إلى خبر، فيكون تقديره: باب البصاق ... إلخ لا يضرُّ المصلي، ففيه وجهان، كذا اختاره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري». وقد حاول العجلوني العبارة، فزعم أن قوله: (في الثوب) متعلق بما أضيف إليه الباب، أو بمحذوف صفة، أو حال مما قبله، أو يضاف الـ (باب)، فـ (البزاق)، وما عطف عليه مبتدأ والخبر محذوف؛ أي: لا يضرُّ المصلي ولا غيره.
قلت: وهذه التقديرات غير ظاهرة مع ما فيها من التكلفات التي لا احتياج إليها، كما لا يخفى.
قال صاحب «عمدة القاري»: (وعَرَقُ كل حيوان يعتبر بسؤره الذي يمتزج بلعابه، ويستثنى منه الحمار على ما عرف في الفقه) انتهى.
قلت: أي: فإنه طاهر؛ لما في «شرح الكنز» لابن الحلبي: (وعَرَق كل شيء كسُؤْرِه إلا عَرَق الحمار؛ فإنه طاهر في ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم) انتهى.
ونقل حافظ الدين الأتقاني الإجماع على طهارة عرقه، انتهى.
وقال صاحب «المنية»: (وعرق كل شيء معتبر بسؤره، إلا أن عرق الحمار والبغل طاهر عند الإمام الأعظم في الروايات المشهورة، كذا ذكره الإمام القدوري) انتهى، قال شارحها البرهان الحلبي: وهذا الاستثناء إنَّما يصحُّ على القول بأنَّ الشك في الطهارة، فإذا قيل: إن سؤر الحمار مشكوك في طهارته ونجاسته، وعرق كل شيء كسؤره؛ صحَّ أن يقال: إلا أن عرق الحمار طاهر؛ أي: من غير شك؛ لأنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ركب الحمار معروريًا في حرِّ الحجاز، والغالب أنه يَعْرَق، ولم يُنْقَلْ عنه عليه السَّلام أنه غسل بدنه أو ثوبه منه، انتهى.
قال في «منهل الطلاب»: وعرق كل حيوان حكمه كسؤره؛ لتولُّد كلٍّ منهما من اللحم، كذا في كثير من كتب المذهب، ولا خفاء أن المتولد هو اللعاب؛ أي: لا السؤر، لكن أطلق عليه؛ للمجاورة، كما في «النهر»، فما كان سؤره طاهرًا؛ فعرقه طاهر؛ كالآدمي مطلقًا، والفرس في الأصحِّ، وكل ما يؤكل لحمه، وما كان سؤره نجس؛ فعرقه نجس؛ كالخنزير، والكلب، وسباع البهائم؛ كالأسد، والذئب، والفهد، والنمر، والثعلب، والفيل، والضبع، ونحوها، وما كان سؤره مكروهًا؛ فعَرَقه مكروه؛ كالهرة الأهلية، والدجاجة المخلاة، والإبل، والبقر، والغنم الجلَّالة، وسباع الطير؛ كالصقر، والغراب، والشاهين، والحدأة، والرخم، ونحوها مما لا يؤكل لحمه، وكل ما يسكن في البيوت مما له دم سائل؛ كالحية ولو كانت بريَّة، والفأرة، والوزغة، وما كان سؤره مشكوكًا؛ فعَرَقه مشكوك؛ كالحمار الأهلي لا فرق فيه بين الذكر والأنثى في الأصح، كما في «الدرين»، ومشى عليه الإمام الجليل قاضيخان، والبغل التي أمُّه حمارة؛ لأنَّ العبرة للأم، كما في الشروح، هذا التفصيل هو المعتمد في المذهب، وإلى غيره لا يذهب.
ففي «المستصفى»: (وعرق الحمار إذا وقع في الماء؛ صار مشكلًا على المذهب) انتهى؛ يعني: صار الماء به مشكلًا؛ أي: في الطهورية، فيجمع بينه وبين التيمم كما في لعابه، ويجوز شربه من ذلك الماء، كذا في «السراج» وغيره، وعليه الفتوى، كما في «الدر المنتقى»، واختلف في النية، والأحوط أن ينوي، كما في «النهر» عن «فتح القدير»؛ أي: الأحوط القول بوجوب النية، وأنها شرط فيه، وفي نبيذ التمر، كما في «البحر» عن شرحي «النقاية» و «المجمع»، وأيهما؛ أي: من الوضوء والتيمم قدَّمه على الآخر؛ صحَّ، وهو الأصحُّ، كما في «الدر المختار».
وقال الإمام زفر: يشترط تقديم التيمم على الوضوء أو الغسل، لكن الأفضل تقديم الوضوء أو الغسل على التيمم؛ خروجًا من خلافه، كذا في «البحر»، هذا مذهب رئيس المجتهدين وإمامهم الإمام الأعظم ومن قال بقوله.
وقال الإمام مالك: عرق سائر الحيوانات، وكذا سؤرها طاهر، ولو من غير مأكول اللحم، وكذا عند الشافعي إلا أنه استثنى الكلب، والخنزير، وما تولَّد منهما، أو من أحدهما؛ فإنه نجس؛ كالخارج منه.
وقال أحمد: هو مختصٌّ بالمأكول؛ يعني: أن عَرَقَ المأكول وسؤرَه طاهر بخلاف غير المأكول.
وقال إمام الشارحين: وجه المناسبة بين هذا الباب وبين الباب الذي قبله ظاهرة على وضع البخاري؛ لأنَّه وضع الباب الذي قبله فيما إذا أُلقي على ظهر المصلي قذر، ورأى به عدم بطلان الصَّلاة في مثل هذه الصورة، وحكم هذا الباب كذلك، ولا خلاف فيه.
وزعم ابن حجر أن دخول هذا الباب في أبواب الطهارة من جهة أنه لا يُفْسِدُ الماء.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: حكم هذا الباب في البصاق الذي يصيب الثوب، وذكره عقيب الباب الذي قبله من هذه الجهة، ولا ذكر للماء في البابين، نعم؛ إذا كان حكم البصاق لا يفسد الثوب؛ يكون كذلك لا يفسد الماء) انتهى.
وزعم العجلوني أن ما قاله ابن حجر بيان لوجه إيراده في أبواب الطهارة، لا لبيان المناسبة بين البابين، فلا يردُّ ما قاله.
قلت: إذا كان كذلك؛ فكأنه لم تظهر له وجه المناسبة بين البابين، وهي ظاهرة لمن له أدنى ذوق في العلم على أنَّ مراد ابن حجر بقوله: (دخول هذا الباب ... ) إلخ بيان لوجه المناسبة بين البابين، فإنه لمَّا لم يجد مناسبة على حسب فهمه؛ تعلَّق بدخوله في أبواب الطهارة، ويدل لهذا قوله في «الانتقاض»: قد اعترف بما أنكر) انتهى.
فهو يدل على أنَّ مراده وجه المناسبة بين البابين، ولا يخفى أن إمام الشارحين لم يعترف بما أنكره، بل ذكر أن هذا الباب له وجه بدخوله في أبواب الطهارة من حيث إنَّ البصاق؛ كالماء لا يفسد الثوب، على أنه لا معنى لذكر هذه الجملة؛ لأنَّ المقصود هنا ذكر المناسبة التي بين البابين، ولكن لمَّا خفيت على ابن حجر، ولم يتعرَّض لها، وذكر هذه المناسبة البعيدة؛ التجأ إمام الشارحين أن يبيِّن وجه دخوله في أبواب الطهارة، ووجه المناسبة بين البابين، فلله درُّ هذا الإمام الذي يُطلق عليه أنه إمام الشارحين؛ فافهم.
(وقال عُرْوة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الرَّاء: هو ابن الزُّبير؛ بضمِّ الزاي، التابعي فقيه المدينة، مما وصله المؤلف في (صلح الحديبية)، و (الشروط) في (الجهاد)، وذكر هنا قطعة منه، وهو حديث طويل؛ لبيان مقصوده وما ترجم له، وذكر قطعة منه في باب (استعمال فضل وضوء الناس)؛ فافهم، (عن المِسْوَر)؛ بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الواو، آخره راء: هو ابن مَخْرَمَة؛ بفتحات إلا أن الخاء المعجمة ساكنة، صحابي صغير (ومَرْوَان)؛ بفتح الميم، وسكون الرَّاء: هو ابن عبد الملك بن الحَكَم؛ بفتحتين، الأموي، ولد في حياة النبيِّ الأعظم عليه السَّلام ولم يَسْمَعْ منه؛ لأنَّه خرج طفلًا مع أبيه الحكم إلى الطائف لما نفاه عليه السَّلام إليها؛ لأنَّه كان يفشي سره فبقي معه حتى استخلف عثمان رضي الله عنه، فردَّهما إلى المدينة، وكان إسلام الحكم يوم فتح مكة، ومات في خلافة عثمان، وأمَّا ولده مروان؛ فإنه لمَّا توفي معاوية بن يزيد؛ بايعه بعض الناس في الشام بالخلافة، ومات بدمشق سنة خمس وستين، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وقال في «التقريب»: (ولِّي الخلافة في آخر سنة أربع وستين، ومات سنة خمسة في رمضان، وله ثلاثة، أو إحدى وستون سنة، لا تثبت له صحبة، بل هو من كبار التابعين) انتهى.
%ص 239%
وقال النَّووي في «التهذيب»: (لم يسمع من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا رآه)، قال إمام الشارحين: (فإن قلت: مروان لم يسمع من النبيِّ عليه السَّلام ولا كان بالحديبية، وكيف روايته؟
قلت: رواية المسور هي الأصل، لكن ضم إليه رواية مروان للتقوية والتأكيد) انتهى.
قلت: وبهذا ظهر فساد ما زعمه الكرماني، وتبعه ابن حجر والقسطلاني من أن رواية مروان مرسل صحابي، وهو حجة، بل يقال كما قال إمام الشارحين: ضمت لرواية المسور التي هي الأصل؛ للتقوية والتأكيد، وقد ارتضاه العجلوني فاتبع الحق، وعرج عما ذكره الكرماني وابن حجر، فالعجب منه حيث لم يتعصب هنا لابن حجر، فتبع صاحب «عمدة القاري» في هذا الجواب الذي هو الصواب، لكنه ذكره في شرحه ونسبه لنفسه، وما هو له، بل قد أخذه من شرح إمام الشارحين رضي الله عنه، وجعله من الآمنين.
وقوله: (خرج النبيُّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم ... ) إلخ؛ مقول عروة كما يظهر، لكن في الحقيقة هو مقول المسور ومروان بدليل ما سيأتي في قصة الحديبية بلفظ: عن عروة، عن مروان والمسور؛ قالا: «خرج النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ... »؛ الحديث، ولأنَّهما اللذان حضرا القصة، ولو على سبيل التغليب؛ فافهم، (زمن): متعلق بـ (يخرج)، وللأصيلي: (في زمن) (حُدَيْبِيَة) وفي رواية: (الحُدَيْبِيَة)؛ بـ (أل) التي للمح الأصل، وهي بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الدَّال، وسكون التحتية الأولى، وكسر الموحدة، وفتح التحتية الثانية، كذا قاله أئمة العراق، وبتشديد التحتية عند أكثر المحدثين، وقال ابن المديني: (أهل المدينة يثقِّلونها)، قال صاحب «عمدة القاري»: (وهي تصغير حدباء؛ لأنَّ حديبية قرية سمِّيت بشجرة هناك، وهي حدباء، وكانت الصحابة رضي الله عنهم بايعوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تحت هذه الشجرة، وهي تسمَّى بيعة الرضوان، وقيل: هي قرية سمِّيت ببئر هناك، وعلى كلا التقديرين الصواب التخفيف، وهي على نحو مرحلة من مكة) انتهى كلامه
وبهذا ظهر القول الصواب، وفسد ما قاله القسطلاني والعجلوني من ذكر الأقوال من غير تعبير بالصواب؛ فافهم.
(فذكر)؛ أي: عروة، وقول القسطلاني: (حذيفة) خطأ ظاهر؛ فليحفظ (الحديث)؛ أي: الآتي بتمامه إن شاء الله تعالى في صلح الحديبية، وفيه: (وما تنخَّم النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): فعل ماض من باب (التفعُّل)، يقال: تنخَّم الرجل؛ إذا دفع بشيء من صدره أو أنفه، قاله في «المحكم»، وثلاثيه: نخم نخَمًا ونخْمًا، كذا في «عمدة القاري» (نُخامة)؛ بالنُّون المضمومة: النخاعة، كما في «الصحاح»، و «المجمل»، وفي «المغرب»: (هي ما يخرج من الخيشوم)، وزعم النووي: أنها تخرج من الفم بخلاف النخاعة، فإنها تخرج من الحلق، وقال بعض الفقهاء: النخامة: هي الخارج من الصدر، والبلغم: هو النازل من الدماغ، وبعضهم عكسوا، كذا قاله إمام الشارحين، (إلا وقعت في كف رجل منهم)؛ أي: ما تنخم في حال من الأحوال إلا في حال وقوعها في كفِّ رجلٍ من أصحابه؛ أي: رمى بنخامته في كفه، وهو إما عطف على (خرج)، وإما على (الحديث)، وهل المراد أنه ما تنخم زمن الحديبية إلا وقعت في كف رجل، أو ما تنخم قطٌّ مطلقًا في أي حال من الأحوال إلا وقت وقوعها في كف رجل منهم؛ لمبادرتهم لأخذها للتبرك، فلا يختص بزمن الحديبية، استظهر الكرماني الأول، وهو التقييد بزمن الحديبية، واستظهر إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» الثاني، وهو الإطلاق، وزعم العجلوني أن مقتضى المقام التقييد وإن كان للإطلاق وجه سديد.
قلت: هذا ممنوع، بل مقتضى المقام الإطلاق؛ لأنَّ المقصود من ذلك التبرك والتشرف بآثاره عليه السَّلام، وهو لا يختص بوقت دون وقت، والتقييد هنا بزمن الحديبية اتفاقي ولبيان الواقع، وإلا؛ فهو عام لجميع الأزمان، والمقصود منه التبرك، ولذا قال: (فدلك)؛ بالدَّال المهملة؛ أي: الرجل من أصحابه (بها)؛ أي: بنخامته عليه السَّلام (وجهه وجلده) فيزداد نورًا على نوره، وشرفًا على شرفه؛ لأنَّهم قد حصل لهم النور برؤيتهم له عليه السَّلام، وبمسِّ شيء من آثاره يزدادون نورًا، وشرفًا، وبركةً، وهذا يعين الإطلاق، وينفي التقييد، كما لا يخفى.
وقال الكرماني: (فإن قلت: ما وجه ذكر حديث الحديبية هنا؟ قلت: إما لأنَّ التنخم وقع في الحديث، وإما لأنَّ الراوي ساق الحديثين سوقًا واحدًا، وذكرهما معًا وكثيرًا ما يفعله المحدثون).
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: لم يطَّلع الكرماني على الموضع الذي ساق البخاري فيه الحديث، فلذلك تردَّد [1] في جواب السؤال، فلو كان اطَّلع عليه؛ لم يتردَّد) انتهى.
وتبعه الشراح فقالوا: وغفل الكرماني فظن أنه حديث آخر، ولو راجع الموضع الذي ساق المصنف فيه الحديث تامًّا؛ لظهر له الصواب، انتهى.
==========
[1] في الأصل: (ردد)، وليس بصحيح.
==================
(1/417)
[حديث: بزق النبي صلى الله عليه وسلم في ثوبه]
241# وبه قال: (حدثنا محمَّد بن يوسف): هو الفِريابي؛ بكسر الفاء وبالتحتية قبل الألف، وبالموحدة (قال: حدثنا سفيان): هو الثوري، كما صرَّح به الدارقطني، ولأن الفريابي كثير الملازمة للثوري، وتمامه في «عمدة القاري»، (عن حمُيد)؛ بضمِّ الحاء المهملة، بالتصغير، المشهور بالطويل.
فإن قلت: لم لا يقال: إن حميدًا هذا هو حميد بن هلال؛ لأنَّه في طبقة حميد الطويل؟
قلت: لأنَّ السفيانين لم يرويا عن حميد بن هلال شيئًا، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»؛ أي: فتعين أن يكون هذا هو حميد الطويل؛ فافهم.
(عن أنس)؛ أي: ابن مالك، كما في رواية الأصيلي (قال) أي: أنس رضي الله عنه: (بَزق)؛ بفتح الزاي، من باب (قتل)؛ أي: بصق، وهو إبدال منه، كما نصَّ عليه في «المصباح»، ويقال بالسين أيضًا، كما قدمناه (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم في ثوبه) أي: ثوب النبيِّ الأعظم عليه السَّلام، وهو الظاهر كما قاله إمام الشارحين، وزعم البرماوي تبعًا للكرماني أنه يحتمل عود الضمير إلى أنس رضي الله عنه، وهو بعيد، قال في «عمدة القاري»: قلت: وجه بعده ما رواه أبو نعيم في «مستخرجه»، وهو هذا الحديث من طريق الفريابي، وزاد في آخره: (وهو في الصَّلاة) انتهى.
قلت: فهذه الزيادة تعين رجوع الضمير إلى النبيِّ عليه السَّلام، وتنفي عود الضمير إلى أنس، ولهذا اقتصر عليه القسطلاني، كما لا يخفى.
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، وفي رواية إسقاط (قال أبو عبد الله)، لكن أكثر الأصول على إثباتها، وعليها شرح إمام الشارحين الشيخ الإمام بدر الدين العيني رضي الله تعالى عنه: (طوله)؛ بالضمير، وفي رواية: بحذفه، لكنه مراعًى؛ أي: طول هذا الحديث؛ يعني: ذكره مطولًا في باب (حك البزاق باليد من المسجد)، وسيأتي إن شاء الله تعالى (ابنُ أبي مريم)؛ بالرفع فاعل (طوله)، وهو شيخ المؤلف، واسمه سَعِيْد بن الحكم بن محمَّد بن أبي مريم المصري الثقة، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين (قال: أخبرنا يحيى بن أيُّوب): هو الغافِقي؛ بمعجمة، ففاء مكسورة، فقاف، المصري مولى عمر بن الحكم بن مروان أبو العباس، المتوفى سنة ثمان وستين ومئة، وفيه لين، وقال أبو حاتم: (لا يحتج به)، وقال النسائي: (ليس بالقوي) (قال: حدثني) بالإفراد (حُميد)
%ص 240%
بضمِّ الحاء المهملة؛ أي: الطويل المتقدم (قال: سمعت أنسًا) رضي الله تعالى عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: مثل الحديث المذكور، وهو مفعوله الثاني حذف للعلم به، وفيه التصريح بسماع حميد عن أنس خلافًا لما روى يحيى القطان عن حمَّاد بن سَلَمَة أنه قال: حديث حميد عن أنس في البزاق إنَّما سمعه عن ثابت عن أبي نضرة، فظهر من تصريح سماعه أنه لم يدلس فيه، وقال: يحيى القطان، ولم يقل شيئًا؛ لأنَّ هذا قد رواه قتادة عن أنس غير هذا، وهو أنه عليه السلام قال: «البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها»، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
قال ابن بطال: ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: بزق في ثوبه، وفي (وما تنخم ... ) إلخ، فإن ذلك يفيد طهارة البصاق والمخاط، قال إمام الشارحين: (وهذا أمر مجمع عليه، لا أعلم فيه خلافًا إلا ما روي عن سلمان أنه جعله غير طاهر وإلا الحسن بن حي [1]، فإنه كرهه في الثوب، وعن الأوزاعي أنه كره أن يدخل سواكه في وضوئه، وذكر ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن إبراهيم النخعي أنه ليس بطهور، وقال ابن حزم: صحَّ عن سلمان الفارسي وإبراهيم النخعي: أن اللعاب نجس إذا فارق الفم، وقال بعض الشراح: وما ثبت عن الشارع من خلافهم؛ فهو المتبع والحجة البالغة، فلا معنى لقول من خالف، وقد أمر الشارع المصلي أن يبصق عن شماله، أو تحت قدمه، وبزق الشارع في طرف ردائه، ثم رد بعضه على بعض، وقال: أو يفعل هكذا، وهذا ظاهر في طهارته؛ لأنَّه لا يجوز أن يقوم المصلي على نجاسة، ولا أن يصلي وفي ثوبه نجاسة) انتهى.
لا يقال: إن بزاقه وغيره من فضلاته عليه السلام طاهرة، فلا يدل على طهارة بزاق غيره؛ لأنا نقول: إن لم يدل ما ذكر على الطهارة؛ فيدل عليها قوله عليه السلام لمن أمره بأن يبزق عن يساره، أو تحت قدمه، وبزق في طرف ردائه، ثم رد بعضه على بعض، وقال: أو تفعل هكذا؛ فافهم.
قال إمام الشارحين: (قلت: أما بصاق النبيِّ عليه السلام؛ فهو أطيب من كل طيب، وأطهر من كل طاهر، وأما بصاق غيره؛ فينبغي أن يكون بالتفصيل؛ وهو أن البصاق طاهر إذا كان من فم طاهر، وأما إذا كان من فم شارب الخمر؛ فينبغي أن يكون نجسًا في حال شربه؛ لأنَّ سؤره في ذلك الوقت نجس، فكذلك بصاقه، وكذا إذا كان من فم من فيه جراحة، أو دمل يخرج منه دم أو قيح، وقال أصحابنا: الدم المساوي للريق ينقض الوضوء استحسانًا كالغالب على البزاق بخلاف الناقص عنه، ولو كان لون الريق أحمر؛ نقض، وإن كان أصفر؛ لا ينقض، ثم إذا حكم بطهارة البزاق على الوجه الذي ذكرناه يعلم منه أنه إذا وقع شيء منه في الماء؛ لا ينجسه، ويجوز الوضوء منه، وكذا إذا وقع في الطعام؛ لا يفسده غير أن بعض الطباع يستقذر ذلك، فلا يخلو عن الكراهة) انتهى والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (حيي)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/418)
(71) [باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (لا يجوز الوضوء بالنبيذ)؛ بالذال المعجمة، قال ابن سيده: (النبذ: طرحك الشيء، وكل طرح نبذ، والنبيذ: الشيء المنبوذ، والنبيذ: ما نبذته من عصير ونحوه، وقد نبذ، وانتبذ، ونبذ، والانتباذ: المعالجة)، وفي «الصحاح»: (والعامة تقول: انتبذت)، ومثله في كتاب ابن درستويه، وذكر اللحياني في «نوادره»: ومن حمض الحامض انتبذت؛ لغة، ولكنها قليلة، وذكره أيضًا ثعلب في كتاب (فعلت وأفعلت)، وفي «الجامع» للقزاز: (أكثر الناس يقولون: نبذت النبيذ، ولم أسمعها أنا من العرب)، قال إمام الشارحين: (النبيذ فعيل بمعنى مفعول؛ وهو الماء الذي ينبذ فيه تميرات؛ لتخرج حلاوتها إلى الماء)، وفي «نهاية ابن الأثير»: (النبيذ: ما يعمل من الأشربة من التمر، والزبيب، والعسل، والحنطة، والشعير، وغير ذلك، يقال: نبذت التمر والعنب؛ إذا تركت [1] عليه الماء؛ ليصير نبيذًا، فصرف من مفعول إلى فعل، وانتبذته: اتخذته نبيذًا وسواء كان مسكرًا أو غير مسكر، وهو من باب «فعَل يفعِل»؛ بالفتح في الماضي، والكسر في المضارع؛ كـ (ضرَب يضرِب)، ذكره صاحب «الدستور»، وفي «العباب»: وانتبذت النبيذ، لغة عامية، ونبذت الشيء تنبيذًا؛ شدد للمبالغة) انتهى.
وحاصل كلامه: أن المراد بالنبيذ المطروح في الماء من تمر وغيره؛ لتخرج حلاوته إلى الماء وليس هو الماء المطروح فيه ما ذكر، وجرى عليه القسطلاني، والحامل لهما على تفسيره بما ذكره أن الوضوء في الحقيقة بالماء لا بالمنبوذ فيه؛ فافهم، وتبعه في ذلك ابن حجر حيث قال: (والمراد الماء المطروح فيه التمر ونحوه) انتهى.
(ولا بالمسكر) وفي رواية: (ولا المسكر)؛ بحذف الموحدة؛ أي: لا يجوز أيضًا به، قال ابن حجر: (هو من عطف العام على الخاص)، ورده في «عمدة القاري» فقال: (إنما يكون ذلك إذا كان المراد بالنبيذ ما لم يصل إلى حد الإسكار، وأما إذا وصل؛ فلا يكون من هذا الباب) انتهى؛ يعني: إذا لم يصل النبيذ إلى حد الإسكار؛ فهو من عطف العام على الخاص، وأما إذا وصل إليه؛ كان من عطف المغاير، وهذا ظاهر.
وزعم العجلوني: أن عبارة ابن حجر هكذا من عطف العام على الخاص، أو المراد بالنبيذ ما لم يبلغ حد الإسكار، قال: وكأن النسخة التي وقعت لصاحب «عمدة القاري» سقط منها: (أو المراد ... ) إلخ، فاعترض على إطلاقه، قال: (ومعنى كلام ابن حجر: أنه إذا لم يصل النبيذ إلى حد الإسكار؛ لا يكون من عطف العام؛ بل من المغاير، فإن وصل إليه؛ كان من عطف العام على الخاص) انتهى.
قلت: وهذا ممنوع وفاسد، فإن نسخ ابن حجر كلها هكذا من عطف العام على الخاص، ولم توجد هذه الزيادة التي زادها العجلوني، وهي (أو المراد ... ) إلخ، فلا ريب أنها زيادة منه؛ لأجل ترميم عبارة ابن حجر حتى لا يتوجه عليها اعتراض إمام الشارحين، ويدل لذلك أن ابن حجر رأى الاعتراض عليه، وقال في «الانتقاض» معترضًا على صاحب «عمدة القاري»: (قلت: هو الذي اختُلِفَ في الوضوء به، فيتخصص بالحيثية) انتهى.
فلو كانت عبارته في «الفتح» غير التي نقلها صاحب «عمدة القاري»؛ لذكر ذلك، فعدم تعرُّضه لذلك دليل على أنها زيادة من العجلوني، وصاحب الدار أدرى بالذي فيه، وقول العجلوني: (ومعنى كلام ابن ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لو كان معناها هكذا؛ لكان ذكره ابن حجر في «الانتقاض»، فدل ذلك على أنه ليس بمراد لابن حجر مع أنه فيه خبط وقلب؛ فافهم، وهذا دأب العجلوني ترميم عبارة ابن حجر؛ لأنَّه عندهم من المعصومين لا يجري عليه خطأ ولا غفلة، بل لو ادَّعى النبوة؛ لسلموا له ذلك، وقالوا: لا نبي بعدي؛ أي: لا نبي من الناس لا من الشافعية؛ فافهم، ومن دق الباب؛ سمع الجواب.
قال إمام الشارحين: (وتخصيص النبيذ بالذكر من بين المسكرات؛ لأنَّه محل الخلاف في جواز التوضُّؤ به) انتهى؛ يعني: وأما المسكر؛ فهو نجس إجماعًا؛ فافهم.
(وكرهه)؛ أي: الوضوء بالنبيذ، لكن مع صحة الوضوء به (الحسن)؛ أي: البصري، كما رواه ابن أبي شيبة عن سفيان عمَّن سمع الحسن يقول: (لا يُتَوَضَّأُ بنبيذ، ولا بلبن)، ورواه عبد الرزاق عن إسماعيل بن مسلم المكي، عن الحسن قال: (لا يُتَوَضَّأُ بلبن، ولا بنبيذ)، وروى أبو عبيد من طريق آخر عن الحسن أنه قال: (لا بأس به)، فعلى هذا؛ كراهته عنده كراهة تنزيه، وحينئذٍ لا يساعد الترجمة، كذا قاله إمام الشارحين؛ يعني: أنه يحتمل أن للحسن قولين، وعلى الكراهة التنزيهية لا يناسب الترجمة، وزعم العجلوني أنه يحمل (لا يجوز) في الترجمة على الجواز المستوي الطرفين.
قلت: وهذا الحمل غير صحيح، كما لا يخفى، (و) كذا كرهه (أبو العالية)؛ بالعين المهملة، بعدها ألف، فلام، فتحتية، فهاء تأنيث، رُفَيع؛ بالتصغير؛ بضمِّ الراء، وفتح الفاء، ابن مَهْران؛ بفتح الميم، وسكون الهاء، بعدها راء، فألف، فنون، الرِّياحِي؛ بكسر الراء، بعدها تحتية مخففة، بعدها حاء مهملة مكسورة، كما رواه الدارقطني في «سننه» بسند جيد عن أبي خلدة، قال: قلت لأبي العالية: (رجل ليس عنده ماء وعنده نبيذ أيغتسل به من الجنابة؟ قال: لا)، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا مروان بن معاوية عن أبي خلدة، عن أبي العالية: (أنه كره أن يغتسل بالنبيذ)، وكذا رواه أبو عبيد عن أبي خلدة، وفي روايته: (فكرهه).
قلت: الظاهر: أن هذا أيضًا كراهة التنزيه، كذا قاله إمام الشارحين؛ يعني أنه يحتمل أن يكون لأبي العالية قولين، وعلى القول بالكراهة التنزيه لا يناسب الترجمة؛ فليحفظ.
(وقال عطاء)؛ بالمد، هو ابن أبي رَباح؛ براء مفتوحة، فموحدة مخففة (التيمُّم أحبُّ إليَّ من الوضوء بالنبيذ واللبن)؛ أي: بأحدهما، قال صاحب «عمدة القاري»: وهذا يدل على أن عطاء يجيز استعمال النبيذ في الوضوء،
%ص 241%
لكنَّ التيمُّم أحب إليه منه، فعلى هذا؛ هو أيضًا لا يساعد الترجمة، وروى أبو داود من طريق ابن جريج عن عطاء: (أنه كره الوضوء بالنبيذ واللبن، وقال: إن التيمُّم أعجب إليَّ منه).
قلت: أما التوضؤ باللبن؛ فلا يخلو إما أن يكون بنفس اللبن، أو بماء خالطه اللبن، فالأول: لا يجوز بالإجماع، وأما الثاني؛ فيجوز عندنا خلافًا للشافعي، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ يعني: إن بقي على رقته وسيلانه، وأما الوضوء بالنبيذ؛ فهو جائز عند الإمام الأعظم، لكن بشرط أن يكون حلوًا رقيقًا يسيل على الأعضاء؛ كالماء، وما اشتد منها؛ صار حرامًا لا يجوز التوضُّؤ به وإن غيَّرته النار، فما دام حلوًا؛ فهو على الخلاف، ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة جريًا على قضية القياس، انتهى.
يعني: وترك القياس فيه لوجود النص؛ فافهم.
وقال ابن بطال: (اختلفوا في الوضوء بالنبيذ، فقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز الوضوء بنيِّئه ومطبوخه مع عدم الماء أو وجوده، تمرًا كان أو غيره، فإن كان مع ذاك اشتد؛ فهو نجس لا يجوز شربه ولا الوضوء به، وقال الإمام الأعظم: لا يجوز الوضوء به مع وجود الماء، فإذا عدم الماء؛ فيجوز بمطبوخ التمر خاصة، وقال الحسن: جاز الوضوء بالنبيذ، وقال الأوزاعي: جاز الوضوء بالنبيذ وسائر الأنبذة) انتهى.
وفي «المغني» لابن قدامة: (وروي عن عليٍّ وابن عباس رضي الله عنهم: أنه كان لا يرى بأسًا بالوضوء بنبيذ التمر، وبه قال الحسن، والأوزاعي، وقال عكرمة مولى ابن عباس: النبيذ وضوء من لم يجد الماء، وقال إسحاق: النبيذ الحلو أحب إلي من التيمم، وجمعهما أحب إلي، وهو رواية عن الإمام الأعظم، وفي أخرى عنه: يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا طبخ واشتد عند عدم الماء في السفر؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه) انتهى.
وزعم ابن حجر: أن ما روي عن علي وابن عباس لا يصح عنهما.
قلت: بل هذه النقول تدل على صحته عنهما، وعن غيرهما، والمثبت مقدم على النافي عند الأصوليين، وفي «أحكام القرآن» لأبي بكر الرازي، وعن الإمام الأعظم في ذلك ثلاث روايات؛ أحدها: يتوضأ به، ويشترط فيه النية ولا يتيمم، قال: وهذه هي المشهورة، وقال الإمام قاضيخان: وهي قوله الأول، وبها قال الإمام زفر، والثانية: يتيمم ولا يتوضأ، رواها عنه نوح بن أبي مريم، وأسد بن عمرو، والحسن بن زياد، قال قاضيخان: وهو الصحيح عنه، والذي رجع إليها، وبها قال الإمام أبو يوسف، وأكثر العلماء، واختارها الحافظ أبو جعفر الطحاوي، والثالثة: روي عنه الجمع بينهما؛ أي: بين الوضوء والتيمم، وهو قول الإمام محمَّد، انتهى.
قلت: ورجحه في «غاية البيان» وغيرها، لكن المذهب المصحح المختار المعتمد عندنا هو عدم جواز التوضؤ به؛ لأنَّ المجتهد إذا رجع عن قول لا يجوز الأخذ به، كما صرح به في «التوشيح»، كذا قاله صاحب «البحر الرائق»؛ فليحفظ.
وقال صاحب «المحيط»: (وصفة هذا النبيذ أن يلقى في الماء تمرات حتى يأخذ الماء حلاوتها، ولا يشتد، ولا يسكر، فإن اشتد؛ حرم شربه، فكيف الوضوء به؟ وإن كان مطبوخًا؛ فالصحيح أنه لا يتوضأ به).
وقال في «المفيد»: (إذا ألقي فيه تمرات، فحلا، ولم يزل عنه اسم الماء وهو رقيق؛ فيجوز الوضوء به بلا خلاف بين أصحابنا، ولا يجوز به الاغتسال على الصحيح)، لكن صحح في «المبسوط»: أنه يجوز الاغتسال به أيضًا.
قلت: وقوله: (بلا خلاف بين أصحابنا)؛ أي: أئمتنا المتقدمين، لكن اختار الأئمَّة المتأخرون عدم الجواز، وعليه الفتوى، كما في أكثر الكتب، فافهم.
وقال الإمام الكرخي: (المطبوخ أدنى طبخة يجوز الوضوء به إلا عند الإمام محمَّد)، وقال أبو طاهر الدباس: (لا يجوز)، وقال صاحب «البدائع»: (واختلف المشايخ في جواز الاغتسال بنبيذ التمر على أصل الإمام الأعظم، فقال بعضهم: لا يجوز؛ لأنَّ الجواز إنَّما عرف بالنص، وهو ورد بالوضوء دون الاغتسال، فيقتصر على مورد النص، وقال بعضهم: يجوز؛ لاستوائهما في المعنى).
قلت: وسبق أن صاحب «المفيد» صحَّح القول الأول، وصاحب «المبسوط» صحَّح القول الثاني، وقال صاحب «عمدة القاري»: ثم لا بد من تفسير نبيذ التمر الذي فيه الخلاف؛ وهو أن يلقى في الماء شيء من التمر؛ لتخرج حلاوتها إلى الماء، وهكذا ذكر ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير النبيذ الذي توضأ به النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «تُمَيرات ألقيتها في الماء»؛ لأنَّ من عادة العرب أنها تطرح التمر في الماء؛ ليحلو، فما دام رقيقًا حلوًا أو قارصًا؛ يتوضأ به عند الإمام الأعظم، وإن كان غليظًا؛ كالرُّبِّ؛ لا يجوز التوضؤ به، وكذا إذا كان رقيقًا، لكنه غلا واشتد وقذف بالزبد؛ لأنَّه صار مسكرًا والمسكر حرام؛ فلا يجوز التوضُّؤ به؛ لأنَّ النبيذ الذي توضأ به النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان رقيقًا حلوًا؛ فلا يلحق به الغليظ، والنبيذ إن كان نيئًا أو كان مطبوخًا أدنى طبخة، فما دام قارصًا أو حلوًا؛ فهو على الخلاف وإن غلا واشتد وقذف بالزبد، وذكر الإمام القدوري في «مختصر الإمام الكرخي» الاختلاف فيه، فعلى قول الإمام الكرخي؛ يجوز، وعلى قول أبي طاهر؛ لا يجوز، وستأتي الأدلة في ذلك إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (نزلت)، ولعله تحريف.
==================
(1/419)
[حديث: كل شراب أسكر فهو حرام]
242# وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو المديني (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عُيينة؛ بضمِّ العين المهملة (قال: حدثنا الزُّهري)؛ هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب، وفي رواية: (عن الزُّهري)، (عن أبي سَلَمَة)؛ بفتحات، عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن عائشة) الصديقة رضي الله عنها، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه (قال: كل شراب أسكر؛ فهو حرام)؛ أي: كل واحد من أفراد الشراب المسكر حرام، وذلك لأنَّ كلمة (كل) إذا أضيفت إلى النكرة؛ تقتضي عموم الإفراد، وإذا أضيفت إلى المعرفة؛ تقتضي عموم الأجزاء، وزعم ابن حجر: أن «كل شراب أسكر»؛ أي: كل ما من شأنه الإسكار سواء حصل بشربه الإسكار أم لا، ورده في «عمدة القاري»: (بأنه ليس معناه كذا؛ لأنَّ الشارع أخبر بحرمة الشراب عند اتصافه بالإسكار، ولا يدل ذلك على أنه يحرم إذا كان يسكر في المستقبل) انتهى.
قلت: أي: فإن المراد بحرمة الشراب ما أسكر في الحال، وكونه يُسْكِرُ في المستقبل شيء عارض له، فإنه بسبب طول المدة يعرض له الإسكار، فإذا حصل فيه الإسكار؛ فهو نجس حرام إجماعًا، فالمراد بالشراب الحرام: هو ما أسكر بالفعل في الحال؛ فافهم.
وزعم الخطابي: أنه يدل على أن قليل السكر وكثيره حرام؛ أي: من أي نوع كان؛ لأنَّه صيغة عموم أشير بها إلى جنس الشراب الذي يكون منه السكر، فهو كما قال: كل طعام أشبع؛ فهو حلال، فإنه يكون دالًّا على كل طعام من شأنه الإشباع وإن لم يحصل الشبع به لبعض.
ورده في «عمدة القاري»: بأن قوله: (قليل السكر وكثيره حرام) من أي نوع كان لا يتمشى في كل شراب، وإنما ذلك في الخمر لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا ومرفوعًا: «إنما حرمت الخمر؛ لعينها، والمسكر من كل شراب»، فهذا يدلُّ على أن الخمر حرام قليلها وكثيرها، أسكرت أم لا، وعلى أن غيرها من الأشربة إنَّما يحرم عند الإسكار، وهذا ظاهر.
فإن قلت: ورد عنه عليه السلام: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام».
قلت: طعن فيه يحيى بن معين وغيره من الحفاظ، ولئن سلم؛ فالأصح أنه موقوف على ابن عمر، ولهذا رواه مسلم بالظن، فقال: لا أعلمه إلا مرفوعًا، ولئن سلم؛ فمعناه: كل ما أسكر؛ فحكمه حكم الخمر، انتهى.
وأما النبيذ؛ فلا يحرم شربه، ويجوز التوضُّؤ به، وهو قول عليٍّ، وابن عباس، والحسن، والأوزاعي، وعكرمة، وإسحاق، وهو قول الإمام الأعظم، والإمام زفر، واستدلوا بحديث ابن مسعود حيث قال له النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الجن: «أمعك ماء؟»، وفي رواية: «ما في إداوتك؟» فقال: معي نبيذ، فقال: «نبيذ»، وفي رواية: فقال له عليه السلام: «اصبب عليَّ؛ إنه شراب وطهور»، وفي رواية: «تمرة طيبة، وماء طهور»، رواه أبو داود والترمذي، وزاد: (فتوضَّأ وصلى الفجر).
قلت: فهذا يدل ظاهرًا على ما قالوه،
%ص 242%
وعلى هذا؛ فهذا الحديث لا يطابق الترجمة، وكان ينبغي أن يذكره في كتاب (الأشربة)؛ لأنَّ الشراب إذا كان مسكرًا يكون شربه حرامًا، فكذلك التوضُّؤ به، وأما النبيذ؛ فليس كذلك، فلا يساعد الترجمة، كما نبه عليه إمام الشارحين.
وزعم ابن حجر أن حديث ابن مسعود أطبق علماء السلف على تضعيفه، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: إنَّما ضعفوه؛ لأنَّ في رواته أبا زيد، وهو رجل مجهول لا يعرف له رواية غير هذا الحديث، قاله الترمذي، وقال ابن العربي في «شرح الترمذي»: أبو زيد مولى عمرو بن حريث، روى عنه راشد بن كيسان وأبو روق، وهذا يخرجه عن حد الجهالة، وأما اسمه؛ فلم يُعْرَف، فيجوز أن يكون الترمذي أراد به مجهول الاسم.
على أنه روى هذا الحديث أربعة [عشر] رجلًا عن ابن مسعود، كما رواه أبو زيد:
الأول: أبو رافع عند الحافظ الطحاوي والحاكم.
الثاني: رباح أبو علي عند الطبراني في «الأوسط».
الثالث: عبد الله بن عمر عند أبي موسى الأصبهاني في كتاب «الصحابة».
الرابع: عمرو البكالي عند أبي أحمد في «الكنى» بإسناد صحيح.
الخامس: أبو عبيدة بن عبد الله.
السادس: أبو الأحوص، وحديثهما عند محمَّد بن عيسى المدائني، وقول البيهقي: (إن محمَّد بن عيسى المدائني واهي الحديث) مردود؛ لأنَّ البرقاني قال فيه: إنه ثقة لا بأس به، وأن اللالكائي [1] صالح، قال: ليس يدفع عن السماع.
السابع: عبد الله بن مسَلَمَة عند الحافظ أبي الحسن بن المظفر في كتاب «غرائب شعبة».
الثامن: قابوس أبو ظبيان [2] عن أبيه عند ابن المظفر أيضًا بسند لا بأس به.
التاسع: عبد الله بن عمر بن غيلان الثقفي عند الإسماعيلي في جمعه حديث يحيى بن أبي كثير عن يحيى عنه.
العاشر: عبد الله بن عباس عند الحافظ الطحاوي وابن ماجه.
الحادي عشر: أبو وائل شقيق بن سَلَمَة عند الدارقطني.
الثاني عشر: ابن لعبد الله رواه أبو عبيدة بن عبد الله، عن طلحة بن عبد الله، عن أبيه: أن أباه حدثه.
الثالث عشر: أبو عثمان بن سنة عند أبي حفص بن شاهين في كتاب «الناسخ والمنسوخ» من طريق جيد، وخرجها الحاكم في «مستدركه».
الرابع عشر: أبو عثمان النهدي عند الدورقي في «مسنده» بطريق لا بأس به، انتهى؛ فافهم.
وزعم العجلوني (أنه يمكن أن يجاب بأن إطباقهم على تضعيف الحديث لأمر آخر غير الجهالة في راويه) انتهى.
قلت: وهذا فاسد، فما الأمر الآخر غير الجهالة، وما هو إلا محض تعصب وتعنت، وكأنه لم يعلم بيان طرق الحديث التي [3] قدمناها، والحديث على فرض ضعفه؛ فقد تقوَّى بهذه الطرق العديدة، وبها يرتقي إلى درجة الصحيح؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر تبعًا لابن بطال بأنه قد روي عن ابن مسعود من طرق ثابتة أنه لم يشهد ليلة الجن مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
ورده صاحب «عمدة القاري»: بأنه يجوز أن يكون صحبه في بعض الليل واستوقفه في الباقي، ثم عاد إليه، فصحَّ أنه لم يكن معه عند الجن لا نفس الخروج؛ أي: لا يصح أن يكون قد خرج عنه، وقد قيل: إن ليلة الجن كانت مرتين، ففي أول مرة خرج إليهم لم يكن مع النبيِّ عليه السلام ابن مسعود ولا غيره، كما هو ظاهر حديث مسلم، ثم بعد ذلك خرج إليهم وابن مسعود معه ليلة أخرى، كما رواه أبو حاتم في «تفسيره» في أول سورة الجن من حديث ابن جريج قال: وقال ابن عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة؛ فجن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة؛ فجن نصيبين، انتهى، فليحفظ.
وزعم ابن حجر: وقيل: على تقدير صحة حديث ابن مسعود، فإنه منسوخ؛ لأنَّ ليلة الجن كانت بمكة، ونزول قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] إنَّما كان بالمدينة بلا خلاف، فإنها نزلت في غزوة بني المصطلق بالمدينة حيث فقدت عائشة رضي الله عنها عقدها.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا القائل نقل هذا عن ابن القصار من المالكية، وابن حزم من الظاهرية، والعجب منه أنه مع علمه أن هذا مردود نقل هذا، وسكت عليه! ووجه الرد ما ذكره الطبراني في «الكبير»، والدارقطني: (أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله عليه السلام بأعلى مكة فهمز له بعقبه، فأنبع الماء، وعلمه الوضوء)، وقال السهيلي: (الوضوء مكي، ولكنه مدني التلاوة، وإنما قالت عائشة رضي الله عنها: آية التيمم: ولم تقل: آية الوضوء؛ لأنَّ الوضوء كان مفروضًا قبلُ، غير أنه لم يكن قرآنًا يتلى حتى نزلت آية التيمم)، وحكى القاضي عياض عن ابن الجهم (أن الوضوء كان سنة حتى نزل فيه القرآن بالمدينة) انتهى.
قلت: ولا عجب منه؛ لأنَّه من الأخصام أهل التعصب على الأئمَّة الحنفية، ومنهم العجلوني حيث قال بعد هذا: (ولعله لا يسلم رده).
قلت: بل قد سلم رده؛ حيث إنه قد اطَّلع [4] على هذا الرد في «الانتقاض»، ودرج عليه ولم يقل شيئًا، فهو دليل على تسليمه، وعلى فرض عدم تسليمه فما جوابه مع [ما] لم يجب عنه في «الانتقاض»، وما جوابه إلا جواب المتعصبين؛ فافهم.
ثم زعم ابن حجر أن الحديث_ أي: حديث ابن مسعود_ محمول على ما ألقيت فيه تمرات يابسة لم تغير له وصفًا، وإنما كانوا يضعون ذلك؛ لأنَّ غالب مياههم لم تكن حلوة) انتهى.
قلت: هذا الجواب أخذه هذا القائل من كلام البغوي، وهو فاسد؛ لأنَّ هذا الحمل غير صحيح؛ لأنَّ إلقاء التمر يابسًا مع عدم تغيُّر وصفه لا يُسمَّى نبيذًا، وقد سماه النبيُّ الأعظم عليه السلام نبيذًا، كما سبق في الروايات، على أن التقييد باليابس يحتاج إلى دليل صحيح، ولم يوجد؛ فهو تقييد من عنده على أن كون مياههم لم تكن حلوة؛ أي: فإنها كانت مالحة كما صرح به البغوي يلزم أن يُطرَح في الماء تمر غير يابس حتى يحلو الماء، ويحصل المقصود من طرحها، أما إذا كانت يابسة؛ فلا تحل شيئًا، فوجودها كالعدم، وهو مصادمة الحديث، وفساده ظاهر، كما لا يخفى؛ فليحفظ.
وزعم الكرماني أن القياس حجة على أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه؛ إذ رأينا الأصل المتفق عليه أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب، فقلنا: يجب أن يكون نبيذ التمر كذلك، وأيضًا لما كان خارجًا عن حكم المياه في حال وجود الماء؛ كان خارجًا من حكم المياه في عدم الماء.
قلت: وهذا الزعم فاسد؛ لأنَّ قوله: (إن القياس حجة ... ) إلخ مردود؛ لأنَّه إنَّما يصار إلى القياس إذا لم يوجد النص، وهنا قد وجد النص في التوضؤ بالنبيذ، فكيف يقال بالمنع بالوضوء به قياسًا على نبيذ الزبيب؟ وما هو إلا قياس مع الفارق مع مخالفته لنص الحديث، فمع وجود النص يترك القياس؛ لأنَّه لا مجال له.
وقوله: (وأيضًا لما كان ... ) إلخ مردود أيضًا؛ لأنَّه لا يلزم من عدم جواز الوضوء بالنبيذ مع وجود الماء أنه لا يجوز الوضوء به مع عدم الماء الذي هو من شروطه عند الإمام الأعظم القائل بجواز الوضوء بالنبيذ مع عدم الماء، ألا ترى أن التيمم لا يصح مع وجود الماء، ويصح مع عدم الماء؛ فافهم، وقد ظهر أن كلام الكرماني فاسد؛ فليحفظ.
وتعجب العجلوني من صاحب «عمدة القاري» حيث لم يعترض على الكرماني في هذا الكلام.
قلت: لا عجب، فإن جواب كلامه يعلمه كل من له أدنى ذوق في العلم على أنه قد تعرض له ضمنًا لا صريحًا في أثناء كلامه، ولقد أنصف العجلوني هنا حيث رد كلام الكرماني بنحو ما علمت، والله أعلم.
وزعم الكرماني أن وجه احتجاج المؤلف بهذا الحديث في أن المسكر لا يجوز شربه، وما لا يجوز شربه؛ لا يجوز الوضوء به اتِّفاقًا؛ لخروجه عن اسم الماء لغة وشرعًا، والنبيذ غير المسكر أيضًا في معنى المسكر؛ لأنَّه لا يقع عليه اسم الماء، ولو جاز أن يسمى النبيذ ماء لأنَّ فيه ماء؛ جاز أن يسمَّى الخل ماء؛ لأنَّ فيه ماء، وقال أبو عبيدة إمام اللغة: (النبيذ لا طهورًا أبدًا؛ لأنَّ الله تعالى شرط الطهور بالماء والصعيد، ولم يجعل لهما ثالثًا) انتهى.
قلت: وقد رد هذا صاحب «عمدة القاري»، فقال في رد الأول:
%ص 243%
(قلت: كون النبيذ الغير المسكر في معنى المسكر غير صحيح؛ لأنَّ النبيذ الذي لا يسكر إذا كان رقيقًا وقد ألقيت فيه تميرات؛ لتخرج حلاوتها إلى الماء ليس في معنى المسكر، ولم يقل به أحد، ولا يلزم من عدم جواز تسمية الخل ماء عدم جواز تسمية الذي ذكره ابن مسعود ماء، ألا ترى أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كيف قال: «ثمرة طيبة، وماء طهور» حين سأل ابن مسعود: «ما في إداوتك؟»، قال: نبيذ، وقد أطلق عليه الماء، ووصفه بالطهورية، فكيف ذهل الكرماني عن هذا حتى قال ما قاله ترويجًا لما ذهب إليه والحق أحق أن يتبع؟
والإِداوة؛ بكسر الهمزة: إناء صغير يتخذ من جلد للماء؛ كالسطيحة ونحوها، وجمعها: أداوى).
وقوله: (وقال أبو عبيدة ... ) إلخ قال: (قلت: الكلام مع أبي عبيدة فإنه إن أراد به مطلق النبيذ؛ فغير مسلَّم؛ لأنَّ فيه مصادمة الحديث النبوي، وإن أراد النبيذ الخاص _وهو الغليظ المسكر_؛ فنحن أيضًا نقول بما قال) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فمطابقة الحديث للترجمة بالجر الثقيل وكان حق وضعه في كتاب (الأشربة)، كما لا يخفى.
زاد في الطنبور نغمة العجلوني، فزعم: (أن دعواه بأن النبيذ غير المسكر في معنى المسكر غير صحيح؛ ليس بصحيح على إطلاقه؛ لأنَّ غير المسكر إما أن يسلب عنه اسم الماء بحيث لا يسميه الرائي له ماء، فهذا لا يجوز التطهُّر به وإن كان لا يُسْكِر، وإما ألا يسلب عنه اسم الماء، فهذا نبيذ نقول بجواز [5] التطهير به أيضًا، وعليه؛ يحمل ما في حديث ابن مسعود الذي قال فيه الشارع: «ثمرة طيبة، وماء طهور»، وتبيَّن أن الكرماني لم يذهل، وما قال إلا لاتباع الحق لا لمجرد ترويج ما ذهب، فإن القسم الأول لا تقول الحنفية بجواز التطهير به، والقسم الثاني يقولون به أيضًا، وعبارة «الملتقى» مع «شرحه» للعلاء، وهو من الكتب المعتمدة عندهم: «لا يجوز_ أي: الطهارة_ بما خرج عن طبعه، وهو الرقة بكثرة الأوراق من حيث الصفة أو بغلبة غيره من حيث الأجزاء، وبالطبخ بشرط الثخانة على ما قاله قاضيخان، وكذا بتشرب النبات سواء خرج بعلاج أو لا، على الأظهر كما في «البرهان»؛ كالأشربة، والخل، وماء الورد، وماء الباقلاء، ومن المرق»، انتهت بحروفها، وبهذا يعلم أيضًا اندفاع اعتراضه الثاني، وليس فيه مصادمة للحديث؛ فعليك بالتأمل) انتهت عبارة العجلوني
قلت: وهذا كله فاسد وممنوع، فإن قوله: (ليس بصحيح) ممنوع، فإن النبيذ الغير المسكر لا يكون في معنى المسكر؛ لأنَّه قياس مع الفارق ومصادمة للحديث، ألا ترى أنه عليه السلام سماه نبيذًا، ولم يسمه خمرًا مسكرًا.
وقوله: (لأن غير المسكر ... ) إلخ هذا فاسد أيضًا؛ لأنَّ غير المسكر إذا سلبت عنه اسم الماء، وإذا رآه الرائي؛ لا يسميه ماء، فهذا هو النبيذ بعينه الذي جاء في الحديث، ففي الرواية السابقة قال عليه السلام: «ما في إداوتك؟»، فقال: معي نبيذ، فقال: «نبيذ؟»، فقال: «اصبب علي؛ إنه شراب وطهور»، فهذا ظاهر في أن هذا هو النبيذ بعينه.
وقوله: (لا يجوز التطهُّر به) غير صحيح، فإن الشارع صلَّى الله عليه وسلَّم قال فيه: «إنه طهور».
وقوله: (وإما ألَّا يسلب عنه اسم ... ) إلخ ممنوع أيضًا؛ لأنَّ هذا لا يُسمَّى نبيذًا، بل هو ماء، غاية الأمر أنه قد تغير بعض لونه، فيقال له: ماء متغير لا نبيذ، وكلامنا في النبيذ المختلف فيه، وأما المتغيَّر؛ فيجوز التطهُّر به إجماعًا.
وقوله: (وعليه يحمل ما في حديث ابن مسعود) ممنوع، فإن هذا الحمل غير صحيح، فإنه غير مصادف لمحله؛ لأنَّ الأصوليين قالوا: إذا تعارض الحديثان؛ يحمل كل منهما على محمل حسن، وهنا لم يوجد حديث يعارض حديث ابن مسعود حتى يحمل على هذا، على أن حديث ابن مسعود صريح في أن هذا لا يسمَّى نبيذًا، وإنما النبيذ ما علمت تفسيره فيما سبق، والكلام في النبيذ لا في هذا، فإن هذا خارج عن الحديث، وتسميته ماء في قوله عليه السلام: «ثمرة طيبة، وماء طهور» باعتبار أنه يجوز التطهير به، فيقوم مقام الماء المطلق بدليل الرواية الثانية؛ وهي قوله عليه السلام له: «اصبب علي؛ إنه طهور»، ولا ريب أن صبه كان لأجل الوضوء به، كما لا يخفى.
وقوله: (وتبيَّن أن الكرماني لم يذهل) بل قد ذهل وغفل الكرماني عن هذا، فقال ما قاله تعصُّبًا وترويجًا لما ذهب إليه، ولم يجر على لسانه الحق، والحق أحق أن يتبع.
وقوله: (فإن القسم الأول ... ) إلخ ممنوع، فإن الأئمَّة الحنفية قالوا بجواز التطهير بالنبيذ اتباعًا للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الواجب اتباعه.
وسياقة عبارة «الملتقى» و «شرحه» لشيخ الإسلام علاء الدين أفندي الحصكفي لا تدل على ما قاله؛ لأنَّه قد فهم عبارته [6] بالعكس، ولأن النبيذ لم يذكر في تلك العبارة، وعادة أئمتنا معاشر الأئمَّة الحنفية أن يذكروا حكم النبيذ وحده على حدة؛ لأنَّه جرى على النص لا على القياس، كما لا يخفى، على أن الذي فهمه من عبارة «الملتقى» و «شرحه» فيه مصادمة للحديث، ولم يقل به أحد من أئمتنا الأعلام، بل هذه العبارة إنَّما هي في غير النبيذ؛ لأنَّ النبيذ له حكم آخر غير هذا، وإذا لم يفهم العجلوني عبارة أئمتنا؛ كيف يستدل بها على دعواه الباطلة؟ ولا ريب أن أدنى الطلبة منا معاشر الحنفية يفهمها وفوق كل ذي علم عليم، وقد أشار إلى هذا بالتأمل؛ فلذا قال: (فعليك بالتأمل)، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (اللالكاكي)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (طيبان)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (الذي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (بجوازه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (عبارتها)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (اللالكاكي)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (طيبان)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (الذي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (بجوازه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (اللالكاكي)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (طيبان)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (الذي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (بجوازه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/420)
(72) [باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه]
هذا (باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه) فقوله: (أباها) منصوب؛ لأنَّه مفعول المصدر؛ أعني: غسل المرأة، والمصدر مضاف إلى فاعله، وقوله: (الدم) منصوب بدل من (أباها) بدل اشتمال، ويجوز أن يكون منصوبًا بالاختصاص؛ تقديره: أعني الدم، وفي رواية ابن عساكر: (باب غسل المرأة الدم عن وجه أبيها)، وهذا هو الأجود، وفي رواية الكشميهني: (من وجهه)؛ والمعنى في رواية (عن): إما أن يكون بمعنى (من)، وإما أن يضمن (الغسل) معنى الإزالة، وتجيء (عن) بمعنى (من)، كما وقع في كلام الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: وههنا سؤالان؛ الأول: في وجه المناسبة بين البابين، ووجه إدخال هذا الباب في كتاب (الوضوء).
قلت: أما الأول؛ فيمكن أن يقال: إن كلًّا منهما يشتمل على حكم شرعي، أما الأول؛ ففيه أن استعمال النبيذ لا يجوز، وأما الثاني؛ فلأن ترك النجاسة على البدن لا يجوز، فهما متساويان في عدم الجواز، وهذا المقدار كاف) انتهى.
قلت: وقوله: (إن استعمال ... ) إلخ؛ يعني: إذا كان غليظًا مسكرًا؛ فافهم.
ثم قال: وأما الجواب عن الثاني؛ فهو أن النسخة إن كانت كتاب (الطهارة) بدل كتاب (الوضوء)، فالمراد منه: إما معناه اللغوي؛ لأنَّه مأخوذ من الوضاءة؛ وهي الحسن والنظافة، فيتناول حينئذٍ رفع الخبث أيضًا، وإما معناه الاصطلاحي؛ فيكون ذكر الطهارة عن الخبث في هذا الكتاب، فالتبعية بطهارة الحدث، والمناسبة بينهما كونها من شرائط الصَّلاة، ومن باب النظافة وغير ذلك، فهذا حاصل ما ذكره الكرماني، ولكن أحسن فيه وإن كان لا يخلو عن بعض تعسُّف) انتهى كلام «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(وقال أبو العالية)؛ بالعين المهملة، هو رُفَيع؛ بضمِّ الراء، وفتح الفاء، وسكون التحتية، الرياحي: (امسحوا على رجلي) بالإفراد؛ (فإنها مريضة) وكانت بها جمرة، وهذا يدل على أنه غسل الصحيح ومسح الجريح من غير أن يضم إليه التيمم، كما هو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وزعم الشافعية أنه يضم إليه التيمم، ولا معنى لهذا؛ لأنَّ فيه الجمع بين البدل والمبدل منه [1]، وهو غير مطلوب، ولا فائدة فيه، ويكون عبثًا، فقول أبي العالية قاصر على غسل الصحيح، ومسح الجريح لا صادق بكونه مع التيمم، كما زعمه العجلوني ترويجًا لمذهبه، فإنه احتمال بعيد، ويدل لما قلنا أن هذا التعليق وصله عبد الرزاق عن معمر، عن عاصم بن سليمان قال: (دخلنا
%ص 244%
على أبي العالية وهو وجع، فوضَّؤوه، فلما بقيت إحدى رجليه؛ قال: امسحوا على هذه)، ورواه ابن أبي شيبة، فهذا يدل صريحًا على أنه لم يتيمم؛ فليس فيه دليل للشافعية، وظاهره أنه مسح على نفس الرجل حيث أنه لا يضره، قال الإمام الجليل قاضيخان: (والمسح على الجبائر على وجوه؛ إن كان لا يضره غسل ما تحتها؛ يلزمه الغسل، وإن كان يضره الغسل بالماء البارد ولا يضره الغسل بالماء الحار؛ يلزمه الغسل بالماء الحار، وإن كان يضره الغسل ولا يضره المسح؛ فإنه يمسح ما تحت الجبيرة، ولا يمسح فوقها) انتهى.
وفي «السراج»: (ولو كان لا يمكنه غسل الجراحة إلا بالماء الحار خاصة، ولا يمكنه بما سواه؛ لم يجب عليه تكلف الغسل بالحار، ويجزئه المسح؛ لأجل المشقة) انتهى.
قلت: وهو مخالف لما قاله قاضيخان، لكن قال صاحب «البحر»: وما قاله قاضيخان هو الظاهر، كما لا يخفى.
ولهذا اقتصر عليه المحقق في «فتح القدير»، ولم ينقل غيره، لكن قيَّده في «فتح القدير»: بأن يكون قادرًا عليه وهو ظاهر، انتهى.
قلت: وما في «السراج» أرفق، وما في «قاضيخان» أحوط.
ولا يشترط في مسحها استيعاب ولا تكرار على الأصح، فيكفي مسح أكثرها مرة، وعليه الفتوى كما في «التنوير» و «شروحه».
وزعم ابن حجر فقال: (وزاد ابن أبي شيبة: أنها كانت معصوبة)، ورده صاحب «عمدة القاري»: بأنه ليس في رواية ابن أبي شيبة هكذا، وإنما المذكور في «مصنفه»: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم وداود، عن أبي العالية: (أنه اشكتى رجله فعصبها، وتوضأ، ومسح عليها، وقال: إنها مريضة)، وهذا غير الذي ذكره البخاري على ما لا يخفى؛ فافهم.
ثم قال: (ومطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إنها متضمنة جواز الاستعانة في الوضوء، وإزالة النجاسة) انتهى كلام صاحب «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (عنه).
==================
(1/421)
[حديث سهل: ما بقي أحد أعلم به مني]
243# وبه قال: (حدثنا محمَّد)؛ هو ابن سلَام البيكندي، كما في بعض النسخ، وقال أبو علي الجيَّاني: لم ينسبه أحد من الرواة، وهو عندي أنه ابن سلَام؛ بتخفيف اللام، وبذلك جزم أبو نعيم في «المستخرج»، ووقع في رواية ابن عساكر: (حدثنا محمَّد؛ يعني: ابن سلام) (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (سفيان بن عُيينة)؛ بضمِّ العين المهملة، (عن أبي حازِم)؛ بالحاء المهملة، والزاي المكسورة، هو سَلَمَة بن دينار المدني الأعرج الزاهد المخزومي، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئة في خلافة المنصور: (سمع سَهْل) بفتح السين المهملة، وسكون الهاء، آخره لام (بن سعْد)؛ بسكون العين المهملة (الساعديَّ)؛ بتشديد التحتية آخره، منصوب؛ لأنَّه صفة (سهل)، وهو منصوب؛ لأنَّه مفعول (سمع)، وكان يسمَّى حزنًا، فسماه النبي الأعظم عليه السلام: سهلًا، وسقط من بعض الأصول: (الأنصاري)، وكنيته أبو العباس، روي له عن رسول الله عليه السلام مئة حديث وثمان وثلاثون حديثًا، ذكر البخاري منها تسعة وثلاثين، مات سنة إحدى وتسعين، وهو ابن مئة سنة، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، ومثله في «الكرماني»، وقول القسطلاني: (له في «البخاري» أحد وأربعون حديثًا) فيه نظر، كما لا يخفى، (وسأله الناس) جملة من الفعل والمفعول والفاعل محلها نصب على الحال، وفي بعض النسخ: (وسألوه الناس)؛ بواو الجمع على لغة أكلوني البراغيث (وما بيني وبينه أحد)؛ يعني: عند السؤال، وزعم الكرماني أنها جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، ورده في «عمدة القاري»: بأن الجملة المعترضة: هي التي تقع بين الكلامين وليس لها تعلق بأحدهما وقد تقع في آخر الكلام، ويجوز أن تكون جملة حالية أيضًا، ويكون محلها من الإعراب النصب، ولكن وقعت بلا واو، وذو الحال إما مفعول (سأل)، فيكونان حالين متداخلين، وإما مفعول (سمع)، فيكونان حالين مترادفين، انتهى، وهذا من كلام أبي حازم، (بأي شيء) الباء فيه تتعلق بقوله: (وسأله)، وكلمة (أي) للاستفهام (دُوْوِي)؛ بضمِّ الدال المهملة، وكسر الواو، صيغة مجهول من المداواة، وزعم ابن حجر: أن أحد الواوين حذفت في الكتابة، ورده صاحب «عمدة القاري»: بأنه بالواوين في أكثر النسخ، وفي بعضها بواو واحدة، فحذفت فيها إحدى الواوين في الخط؛ كما حذفت من داود، وطاووس؛ فافهم، (جُرح) بضمِّ الجيم؛ أي: جراحة (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: الذي أصابه في غزوة أحد لمَّا شُجَّ رأسه الشريف وجرح وجهه؛ لأنَّ هذه الواقعة كانت بأحد، فزعم ابن سعد أن عُتْبَة بن أبي وقاص هو الذي شجَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في وجهه، وأصاب رباعيته، وزعم السهيلي: أن عبد الله بن قمئة هو الذي جرح وجهه عليه السلام، فكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل عن النبيِّ عليه السلام الدم، والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم؟»، فأنزل الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ... }؛ الآية [آل عمران: 128]، كذا قاله في «عمدة القاري»، وزعم العجلوني أنه وقع الخلاف في أي شيء دُووِي به جرح النبيِّ عليه السلام، كما في رواية الحميدي عن سفيان؛ فلذا سئل سهل عن ذلك، انتهى.
قلت: ولا يلزم من سؤاله وقوع الخلاف في ذلك، فلعله كان يريد إعلامهم بذلك؛ خوفًا على عدم اطلاعهم [1] عليه حتى لا يخفى عليهم من أمر النبيِّ عليه السلام شيء، بل يكونون على بصيرة في أفعال المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فافهم.
(فقال سهل) المذكور: (ما بقي أحدٌ) أي: من أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، أو من الناس (أعلمُ به مني) برفع (أعلم)؛ لأنَّه صفة (أحد)، ويجوز أن يكون منصوبًا على الحال، قال في «عمدة القاري»: وغرضه من هذا التركيب أنه أعلم الناس بهذه القضية؛ لأنَّ موته متأخر، وكان آخر من بقي من الصحابة بالمدينة، كما صرح به المؤلف في (النكاح) في روايته عن قتيبة، عن سفيان، ومثل هذا التركيب لا يستعمل بحسب العرف إلا عند انتفاء المُساوي، وهو ظاهر، وبهذا يسقط سؤال من قال: لا يلزم منه منافاة مساواة غيره له فيه، انتهى، وقوله: (كان عليٌّ)؛ أي: ابن أبي طالب رضي الله عنه جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا جواب عن السؤال المذكور (يجيء بتُرسه)؛ بضمِّ الفوقية؛ أي: الذي يترس به في الحرب السهم، وهو الدرقة (فيه ماء)؛ لأنَّه كان مجوَّفًا؛ أي: إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وفاطمة)؛ أي: ابنة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وزوجة علي بن أبي طالب، وهي إما عطف على قوله (علي)، أو مبتدأ، وقوله: (تغسل) جملة محلها رفع على الخبرية، والجملة محلها نصب على الحال (عن وجهه) أي: وجه النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (الدم)؛ أي: الذي أصابه من الجراحة، وفيه: المطابقة للترجمة، (فأُخذ)؛ بضمِّ الهمزة مبني للمجهول، والفاعل إما (علي)، أو (فاطمة)، أو غيرهما، وزعم العجلوني: أن الفاء فصيحة.
قلت: ويجوز أن تكون للاستئناف، وهو الأظهر؛ لأنَّ الفاء الفصيحة لا بد لها من جواب شرط مقدَّر، له ذكر قبلها ولم يوجد هنا؛ فافهم.
(حصير)؛ بالحاء المهملة: المتخذ من القشِّ يستوي فيه التذكير والتأنيث، فذكَّره هنا، وأنَّثه في (الطب) كما يأتي، (فأُحرق)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: بالنار حتى صار رمادًا، (فحُشي)؛ بضمِّ الحاء المهملة، من الإحشاء: وهو الإدخال (به) أي: برماده (جُرحه)؛ بضمِّ الجيم؛ أي: جرح النبيِّ الأعظم عليه السلام حتى يستمسك الدم عن البروز، فالفعل في الثلاثة مبني للمجهول، وليس فيه تعيين الفاعل، لكن عند المؤلف في (الطب): أن الفاعل فاطمة، فإنه قال: فلما رأت فاطمة الدم يزيد على الماء كثرة؛ عمدت إلى حصير، فأحرقتها وألصقتها على الجرح فرقأ الدم؛ أي: انقطع؛ لما في رماد الحصير من الاستمساك للدم كما قلنا، ومثله رماد غيره، لكن رماد الحصير ألصق؛ فلذا اختارته، وفي هذا الحديث: أن الفاعل للغسل فاطمة رضي الله عنها، وفيما قدمنا عن «عمدة القاري»: (أن سالمًا مولى أبي حذيفة كان يغسل الدم عن النبيِّ الأعظم عليه السلام ... ) إلخ.
%ص 245%
قلت: وهذا يدل على أن غسل الدم كان مرتين؛ أحدهما: فعله سالم أولًا، والثاني: فعلته فاطمة وعليٌّ، يدل لذلك رواية المؤلف في (الطب) حيث قال: فلما رأت فاطمة الدم يزيد على الماء كثرة؛ أي: بعد أن غسلت المرة الثانية؛ عمدت إلى حصير ... إلخ، وبهذا يحصل الجمع بين الروايتين، ثم رأيت العجلوني قد أجاب بهذا، وزاد عليه جوابًا آخر، وعبارته: (ويمكن الجمع بأن سالمًا فعل ذلك أولًا قبل مجيء فاطمة وعليٍّ رضي الله عنهما، أو أنه كان يعينها).
قلت: وفي الجواب الثاني نظر؛ لأنَّ فاطمة حينئذٍ غير محتاجة للإعانة؛ لوجود زوجها عليٍّ معها، وهو أحق بالإعانة في ذلك على أن صريح الحديث يدل على أن الغسل وحرق الحصير فعلته هي بنفسها من غير إعانة أحد، ولو سلم؛ فإنما يصح هذا الجواب إذا كان ذلك قبل نزول آية الحجاب؛ لأنَّ اختلاط النساء بالرجال حينئذٍ كان مباحًا، أما بعد نزولها؛ فلا ريب أن هذا الجواب فاسد؛ لحرمة اختلاطهنَّ بالرجال، لا سيما بحضرة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنه أشد وأعظم، وفي الحديث كما قال ابن بطال دليل على جواز مباشرة المرأة أباها ومحارمها ومداواة أمراضهم، ولذلك قال أبو العالية لأهله: (امسحوا على رجلي؛ فإنها مريضة)، ولم يخصَّ بعضًا دون بعض، بل عمهم جميعًا، وفيه: إباحة التداوي ومشروعيته واتخاذ الترس والبيضة والدرع في الحرب؛ فإن ذلك لا يقدح في التوكل لصدوره عن سيد المتوكلين، انتهى.
قلت: والبيضة والدرع ليس لهما ذكر في هذا الحديث، فلا يدل عليهما، بل من دليل آخر؛ فافهم.
وقال النووي: وفيه وقوع الابتلاء والأسقام بالأنبياء عليهم السلام؛ لينالوا جزيل الأجر، وليعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم؛ ليقتدوا بهم، وليعلموا أنهم من البشر يصيبهم ما يصيب غيرهم من محن الدنيا، ويطرأ على أجسادهم ما يطرأ على أجسام غيرهم؛ ليتيقنوا أنهم مخلوقون لله تعالى، فلا يفتنون بما ظهر على أيديهم من المعجزات كما افتتن النصارى بعيسى عليه السلام، وفيه: سؤال من لا يعلم؛ ليعلم ما خفي عليه، انتهى كذا في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (اضطلاعهم)، وليس بصحيح.
==================
(1/422)
(73) [باب السواك]
(باب السواك)؛ أي: هذا باب في بيان أحكام السِّواك؛ بكسر السين المهملة على الأفصح، وقد تضمُّ، قال ابن سيده: السواك يذكر ويؤنث، والسواك كالمسواك، والجمع سوك؛ يعني: أنه يطلق على الفعل والآلة، ويجمع على سوك بالواو، وقال الإمام الأعظم: ربما همز، فقيل: سؤك، وأنشد الخليل لعبد الرحمن بن حسان رضي الله عنهما:
أغر الثنايا أحمر اللثات ... [تمنحه] سؤك الأسحل
بالهمزة، ومثله المسواك، كذا في «عمدة القاري»، وزعم العجلوني: أن عبارة «الصحاح» تقتضي أن سوك في البيت بالواو، فإنه قال: السواك يجمع على سوك في البيت بالهمز لا بالواو، بدليل تمثيله بكتب على أن الرسمين واحد في الخط، ويفترق باللفظ، فكأن العجلوني اشتبه عليه الرسم على أن المناقشة في البيت غير معتبرة بعد تصريح أئمَّة اللغة بأنه يجوز فيه الهمز، لا سيما وهو القياس في كل واو مضمومة ضمة لازمة؛ كوقتت، وأُقِّتَتْ، فإن القرآن العظيم نطق بالهمز، ولا ريب أن كلامه تعالى أفصح الفصيح؛ فافهم، وهذا دأب العجلوني فإن دأبه الاعتراض المخل، والتعصب الممل، وكثرة الكلام بلا فائدة؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري»: (يقال: ساك الشيء سوكًا: دلكه، وساك فمه بالعود، واستاك مشتق منه)، وفي «الجامع»: (السواك والمسواك: ما يدلك به الأسنان من العود، والتذكير أكثر، وهو نفس العود الذي يستاك به، وأصله الشيء الضعيف، ويقال: جاءت الإبل والغنم تستاك هزالًا؛ أي: ما تحرك رؤوسها، ويقال: ساك فمه، وإذا لم يذكر الفم؛ يقال: استاك) انتهى.
وفي «القاموس»: (ساك الشيء: دلكه، وفمه بالعود وسوَّكه تسويكًا واستاك وتسوَّك، ولا يذكر العود، ولا الفم معهما، والعود مسواك وسواك) انتهى.
ثم قال إمام الشارحين: (وهنا سؤالان؛ الأول: ما وجه المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله؟ والثاني: ما وجه ذكره بين الأبواب المذكورة ههنا؟ والجواب عن الأول: أن كلَّا منهما يشتمل على الإزالة غير أن الباب الأول يشتمل على إزالة الدم، وهذا الباب يشتمل على إزالة رائحة الفم، وهذا القدر كافٍ، وعن الثاني: ظاهر؛ وهو أن الأبواب كلها في أحكام الوضوء، وإزالة النجاسة، ونحوها، وباب السواك من أحكام الوضوء عند الأكثرين) انتهى؛ أي: أنه من سنن الوضوء، وهو مطهرة للفم مرضاة للرب، فلهذا ذكره في كتاب الطهارة.
(وقال ابن عباس)؛ هو عبد الله رضي الله عنهما، قال صاحب «عمدة القاري»: (وهذا التعليق ليس في رواية المستملي، وهو قطعة من حديث طويل في قصة مبيت عبد الله بن عباس عند خالته ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها؛ ليشاهد صلاة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وقد وصله البخاري من طريق وتقدم بعضه، ويأتي الباقي إن شاء الله تعالى) انتهى؛ أي: في تفسير سورة آل عمران؛ لأنَّه وصله هناك (بتُّ) بتشديد تاء المتكلم؛ أي: ليلة (عند النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) في دار ميمونة رضي الله عنها خالته، (فاستن)؛ أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام من الاستنان وهو: الاستياك، وهو دلك الأسنان وحكها بما يجلوها مأخوذ من السن؛ وهو إمرار الشيء الذي فيه خشونة على شيء آخر، ومنه المسُّ الذي يشحذ به الحديد، ونحوه، وقال ابن الأثير: (الاستنان استعمال السواك «افتعال» من الاستنان، وهو الإمرار على الشيء) انتهى.
قلت: فمأخذه كما ذكره من السَّنِّ؛ بفتح السين المهملة، وقيل: من السِّن؛ بكسر السين؛ لأنَّه يحد الأسنان ويجلوها، وزعم ابن حجر أن مقتضى كلام عبد الحق أن هذا التعليق بهذا اللفظ من إفراد مسلم وليس بجيد، قلت: بل هو جيد؛ لأنَّه عنده حديث مستقلُّ، وهو لاينافي أن المؤلف ذكره مقطعًا بعضه بصيغة التعليق، وبعضه بالإسناد؛ فافهم.
==========
%ص 246%
==================
(1/423)
[حديث: أتيت النبي فوجدته يستن بسواك بيده]
244# وبه قال: (حدثنا أبو النعمان)؛ بضمِّ النون، محمَّد بن الفضل المشهور بعارم؛ بالعين المهملة (قال: حدثنا حَمَّاد) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الميم (بن زيد)؛ أي: ابن درهم أبو إسماعيل الأزرقي الأزدي البصري، المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة، (عن غيلان) بفتح الغين المعجمة، وسكون التحتية (ابن جَرير)؛ بفتح الجيم، وبالراء المسكورة المكررة، الِمعْوَلي؛ بكسر العين المهملة، وفتح الواو، وأما الميم؛ فقال الغساني بفتحها منسوبًا إلى بطن من الأزد، وقال ابن الأثير بكسرها، مات سنة تسع وعشرين ومئة، (عن أبي بردة)؛ بضمِّ الموحدة، وسكون الراء، عامر بن أبي موسى الأشعري، (عن أبيه) هو أبو موسى عبد الله بن قَيْس الأشعري رضي الله عنه (قال: أتيت النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو يتوضأ، (فوجدته يستن)؛ بسكون المهملة، وتشديد النون؛ أي: يدلك أسنانه (بسواك) والجملة في محل نصب على أنها مفعول ثان لـ (وجدته) ووجد من أفعال القلوب؛ لأنَّ معناه: قائم بالقلب، ويأتي (وجد) بمعنى أصاب أيضًا، فإن جعل (وجدته) من هذا المعنى؛ تكون الجملة منصوبة على الحال من الضمير المنصوب الذي في (وجدته)، كذا قاله إمام الشارحين، وزعم العجلوني: بأن الأول يحتاج إلى تكلُّف، انتهى.
قلت: وهو فاسد؛ فأين التكلف الذي يحتاج إليه؟ بل هو ظاهر، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، والله اعلم.
(بيده) الشريفة، والباء فيه تتعلق بمحذوف؛ تقديره: بسواك كائن بيده، ونحو ذلك، أو صفة لـ (سواك)، والأول أظهر وأحسن؛ فافهم (يقول)؛ أي: النبيُُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وزعم العجلوني: أو السواك مجازًا؛ لكونه يحصل عند استعماله، انتهى.
قلت: وهو فاسد؛ فإن القائل بذلك النبيُّ عليه السلام حقيقة، وإذا وجدت الحقيقة والمجاز؛ لا يجوز العدول عنها إلى المجاز، على أن قوله: (لكونه يحصل ... ) إلخ؛ فإن كان مراده الصوت؛ فالصوت يخرج من فم المستعمل لا من السواك، وإن أراد صوت السواك؛ فممنوع؛ لأنَّ السواك لا صوت له، كما لا يخفى، فإرادة المجاز ممنوعة، كما لا يخفى؛ فافهم.
(أُع أُع)؛ بالتكرار مرتين؛ بضمِّ الهمزة، وبالعين المهملة، كذا في رواية أبي ذر،
%ص 246%
وذكر ابن التين: أن غيره رواه بفتح الهمزة، ورواه النسائي، وابن خزيمة عن أحمد بن عبدة، عن حمَّاد بتقديم العين على الهمزة، وكذا أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل القاضي، عن عارم شيخ البخاري فيه، وعند أبي داود: (أُه أُه)؛ بضمِّ الهمزة، وقيل: بفتحها، والهاء ساكنة، وعند ابن خزيمة: (عا عا)، وفي «صحيح» الجوزقي: (إِخ إِخ)؛ بكسر الهمزة، وبالخاء المعجمة، وفي «مسند أحمد»: (كان يرفع لسانه، ووصفه غيلان: بأنه كان يستنُّ طولًا)، وكلها عبارة عن إبلاغ السواك إلى أقاصي الحلق، و (أع) في الأصل حكاية الصوت، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أن في بعض النسخ بالغين المعجمة، انتهى، وقال في «المقدمة»: (أع أع) حكاية الصوت الخارج عند وضع السواك في الفم) انتهى.
وزعم ابن حجر وتبعه القسطلاني أن الرواية الأولى أشهر، وإنما اختلفت الرواة؛ لتقارب مخارج هذه الحروف، وكلها ترجع إلى حكاية صوته إذا جعل السواك على طرف لسانه، كما عند مسلم، والمراد طرفه الداخل، كما عند أحمد، انتهى.
قلت: وهو فاسد؛ فإنه لا شهرة للرواية الأولى إلا في «البخاري»، بل جميع الروايات مشهورة معلومة معروفة.
وقوله: (وإنما اختلفت الرواة ... ) إلخ ممنوع؛ فإن الرواة ثقات أرباب ضبط وتحقيق، وكل واحد منهم عبر كما سمع.
وقوله: (وكلها ترجع ... ) إلخ هذا الحصر ممنوع؛ لأنَّ اختلافهم كان لمغايرة ما سمعوه، بل هذا هو الظاهر، ويدل لذلك ما قدمنا عن أبي داود أنه عنده: (أُه أُه)؛ بضمِّ الهمزة، أو بفتحها، فإنها تدلُّ على المغايرة، كما لا يخفى، وهذا ظاهر لكل من له أدنى ذوق في العلم، ولظهوره لم يتعرض له إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، فلا عجب عليه؛ فليحفظ.
(والسواك في فيه)؛ أي: في فمه، والجملة محلها نصب على الحال، وقوله: (يقول): جملة من الفعل والفاعل في محل نصب على الحال، وقوله: (أع أع) في محل نصب على أنه مقول القول؛ فليحفظ، (كأنه يَتهَوَّع)؛ بفتح التحتية والهاء، وتشديد الواو، آخره عين مهملة؛ أي: يتقيأ، وهو من باب (التفعل) الذي للتكلُّف، يقال: هاع يهوع؛ إذا قاء من غير تكلُّف، فإذا تكلَّف؛ يقال: تهوَّع، وفي «الموعب»: (هاع الرجل يهوع هوعًا وهواعًا: جاء القيء من غير تكلُّف، والذي يخرج من الحلق يسمَّى هواعة، وهوَّعته: ما أكلته إذا استخرجته من حلقك)، وقال ابن سيده: (الهيعوعة في بنات الواو لا يتوجَّه إلا أن يكون محذوفًا)، قاله في «عمدة القاري»، وتمامه فيه، ثم قال: والحديث يدل على أن السواك؛ أي: استعماله سنة مؤكدة؛ لمواظبته عليه السلام عليه ليلًا ونهارًا، وقام الإجماع على كونه مندوبًا حتى قال الأوزاعي: هو شطر الوضوء، وقد جاء أحاديث كثيرة تدل على مواظبته عليه السلام عليه، ولكن أكثرها فيه كلام، وأقوى ما يدل على المواظبة محافظته عليه السلام له حتى عند وفاته كما في «البخاري» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستنُّ به، فأشار رسول الله عليه السلام ببصره إلى أن آخذه فأخذته، وقصمته، وطيبته، ودفعته إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فاستنَّ به ... )؛ الحديث، انتهى.
قلت: ولأن قوله في الحديث الآتي: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) يدل على المواظبة أيضًا، فيفيد أن ذلك كان عادة له عليه السلام، واختلف العلماء فيه، فقال الإمام الأعظم رضي الله عنه: إنَّ السواك من سنن الدين وهو قول الجمهور، وقال في «عمدة القاري» وتبعه الشارحون: إنَّه الأقوى، فيستوي فيه جميع الأحوال؛ فهو سنة مؤكدة على الأصح، وفي «الهداية»: الصحيح استحبابه، وهو قول الشافعي، وقال في «فتح القدير»: (إنه سنة للوضوء)، وبه قال جمع، وقال في «البدائع»: (إنه قول الأكثرين، وقال بعض العلماء: (إنه من سنن الصَّلاة)، وقال ابن حزم: (هو سنة، ولو أمكن لكل صلاة؛ لكان أفضل، وهو فرض لازم يوم الجمعة)، وحكى الماوردي والاسفرائيني عن أهل الظاهر: أنه واجب، وعن إسحاق: أنه واجب أيضًا، إن تركه عمدًا؛ بطلت صلاته، وزعم النووي أن هذا لم يصح عن إسحاق، وفي حواشي «الهداية»: أنه مستحب في جميع الأوقات، ويؤكد استحبابه عند قصد الوضوء، فيُسن أو يُستحب عند كل صلاة، وصرح البرهان الحلبي، والعلامة العمادي: باستحبابه عند الصَّلاة.
قال في «عمدة القاري»: (وكيفيته عندنا: أن يستاك عرضًا لا طولًا عند مضمضة الوضوء)، وأخرج أبو نعيم من حديث عائشة قالت: (كان صلَّى الله عليه وسلَّم يستاك عرضًا لا طولًا)، قال في «البحر»: (وكيفيته: أن يستاك أعالي الأسنان وأسافلها والحنك، ويبتدئ من الجانب الأيمن، وأقله ثلاثة في الأعالي، وثلاث في الأسافل بثلاث مياه) انتهى، أي: بأن يبلَّه في كل مرة.
قال في «معراج الدراية»: (ولا تقدير فيه، بل يستاك إلى أن يطمئن قلبه بزوال النكهة، واصفرار الأسنان، والمستحب فيه ثلاث بثلاث مياه) انتهى.
قلت: والظاهر أنه لو حصل الاطمئنان بأقل من ثلاث؛ فالمستحب إكمالها.
وفي «المغني»: (ويستاك على لسانه وأسنانه)، وقال في «شرح الكنز»: ويستاك عرضًا في الأسنان، وطولًا في اللسان جمعًا بين الأحاديث، وعند فقد السواك أو فقد أسنانه؛ تقوم الخرقة الخشنة أو الإصبع مقامه في تحصيل الثواب، وبأي إصبع استاك لا بأس به، والأفضل أن يستاك بالسبابتين يبتدئ باليسرى، ثم باليمنى، وإن شاء؛ استاك بإبهامه اليمنى، والسبابة اليمنى يبتدئ بالإبهام من الجانب الأيمن فوق وتحت، ثم بالسبابة من الأيسر كذلك، يدل لهذا ما رواه البيهقي: أنه صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يجزئ من السواك الأصابع» ولأن المقصود منه التنظيف وذهاب الرائحة، وقد حصل؛ فافهم.
وأما المرأة؛ فيقوم العلك مقام السواك لها مع القدرة عليه، فيندب لها فعل العلك؛ لضعف بنيتها، وعند فقده تقوم الإصبع مقامه؛ كالسواك، كذا في «النهر»، وإنما يندب لها العلك؛ لأنَّ سنَّ المرأة ضعيف، ويخاف من كثرة السواك سقوط أسنانها، كذا في «المحيط».
ويستحب إمساكه بيمينه؛ لأنَّه المنقول المتوارث والسنة بأخذه أن يجعل الخنصر أسفله، والإبهام أسفل رأسه، وباقي الأصابع فوقه كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه، ولا يقبضه بيده؛ لأنَّه خلاف السنة؛ ولأنَّه يورث الباسور، ويستحب أن يكون السواك لا رطبًا يلتوي؛ لأنَّه لا يزيل القلح؛ وهو وسخ الأسنان، ولا يابسًا يجرح اللثة؛ وهي منبت الأسنان، فالمراد أن رأسه الذي هو محل استعماله يكون لينًا لا في غاية الخشونة، ولا في غاية من النعومة.
ويستحب أن يكون السواك مستويًا من غير عقد ولا اعوجاج، وأن يكون غلظ الخنصر أو الإصبع، وأن يكون طول الشبر المعتاد وقيل: شبر المستعمل ويكره أن يستاك مضطجعًا؛ لأنَّه يورث كبر الطحال، ويكره معه؛ لأنَّه يورث العمى، ونفخ الرئة، وأما بلع الريق بلا مص، فقال الحكيم الترمذي: (وابلع ريقك أول ما تستاك؛ فإنه ينفع الجذام والبرص، وكل داء سوى الموت، ولا تبلع بعده شيئًا؛ فإنه يورث الوسوسة)، يرويه زياد بن غيلان، كذا في «الحلية» للمحقق ابن أمير حاج، وفيها: (ثم بعد الاستياك يُسْتَحَبُّ أن يغسله، وإلا؛ فيستاك الشيطان به، ويُسْتَحَبُّ ألَّا يزاد على شبر، وإلا؛ فالشيطان يركب عليه، ويستحبألَّا يضعَه على الأرض عرضًا، بل ينصبه طولًا، وإلا؛ فخطر الجنون، فإنه روي عن سَعِيْد بن جبير قال: من وضع سواكه على الأرض فجن من ذلك؛ فلا يلومنَّإلا نفسه) انتهى.
ويُكْرَهُ أن يستاك بكل شيء مؤذٍ؛ كقضبان الرمان والريحان؛ لما رواه الحارث في «مسنده» عن ضمير بن حبيب قال: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن السواك بعود الريحان، وقال: «إنه يحرك عرق الجذام»)، كذا في «شرح الهداية» لإمام الشارحين الشيخ الإمام
%ص 247%
شيخ الإسلام بدر الدين العيني قدس سره ورضي عنه، وفي «النهر»: (ويستاك بكل عود إلا الرمان والقصب، وأفضله الأراك، ثم الزيتون؛ لما رواه الطبراني: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة، وهو سواكي، وسواك الأنبياء من قبلي») انتهى.
ويحرم الاستياك بكل ذي سم من الخشب ونحوه؛ لأنَّه يضر، فيكون من الإلقاء في التهلكة، وقد نهينا عنها، والله تعالى أعلم.
==================
(1/424)
[حديث: كان النبي إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك]
245# وبه قال: (عثمان ابن أبي شيبة) كذا في رواية الأصيلي، وابن عساكر، وأبي الوقت، وفي رواية غيرهم إسقاط (ابن أبي شيبة)، وهذا أخو أبي بكر ابن أبي شيبة (قال: حدثنا جرير)؛ هو ابن عبد الحميد، (عن منصور)؛ هو ابن المعتمر، (عن أبي وائل)؛ بالهمز، هو شقيق الحضرمي، (عن حُذيفة)؛ بضمِّ الحاء المهملة، هو ابن اليمان الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه، ولا يخفى أن الإسناد كله كوفيون إلا حذيفة، فإنه عراقي، ومات بالمدائن (قال)؛ أي: حذيفة: (كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قام من الليل)؛ أي: قام في الليل مطلقًا فـ (من) بمعنى (في) فهو عام في كل حالة، ويحتمل أن يخص بما إذا قام إلى الصَّلاة، ويدل لهذا الاحتمال رواية البخاري في الصَّلاة بلفظ: (إذا قام للتهجُّد)، ولمسلم نحوه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما يشهد له أيضًا، كذا قاله إمام الشارحين، وزعم العجلوني أن معنى (من) التبعيض.
قلت: ولا يخفى فساده؛ لاحتياج معناه إلى التكلف، مع ما فيه من الفساد الظاهر.
(يَشوص)؛ بفتح التحتية، وبالشين المعجمة، والصاد المهملة، قال ابن سيده: (شاص الشيء شوصًا: غسله، وشاص فاه بالسواك شوصًا: غسله، وقيل: أمرَّه على أسنانه من سفل إلى علوٍّ، وقيل: هو أن يطعن به فيها، وقد شاصه شوصًا وشوصانًا، وشاص الشيء: دلكه، وشاص الشيء: زعزعه)، وفي «الجامع»: (كل شيء غسلته؛ فقد شصته)، وقال أبو عبيد: (شصته: نقيته)، وفي «الغريبين» [1]: (كل شيء غسلته؛ فقد شصته، ومصته)، وقال ابن عبد البر: (هو الحك)، وقال الخطابي: (الشوص: دلك الأسنان عرضًا، وقيل: الموص غسل الشيء بلين ورفق)، كذا قاله في «عمدة القاري»، وزعم ابن الملقن أنه تحصل له في تفسيره خمسة أقوال متقاربة؛ الغسل، والتنقية، والدلك، والحك، وأنه بالإصبع، وأنه يغني عن السواك، لكن يرده قوله في الحديث بالسواك، والثالث أقواها، وقال ابن زيد: (هو الاستياك من سفل إلى علوٍّ، ومنه سمِّي هذا الداء الشوصة؛ لأنَّه ريح يرفع القلب من موضعه).
قلت: وقوله: (وأنه بالإصبع) هو الخامس.
وقوله: (وأنه يغني عن السواك) بيان له، فهو حكم للسواك بالإصبع من أنه هل يجزئ بها أم لا؟ وقدمنا أنه يجزئ بنص الحديث.
وقوله: (لكن يرده ... ) إلخ قيل: عليه لا يلزم من كونه كان بالسواك أنه لا يكفي بالإصبع، على أن حديث البيهقي صريح في ذلك، ولفظه: «يجزئ من السواك الأصابع»، كما قدمناه.
وقوله: (وقال ابن زيد ... ) إلخ، فهو الحقيقة قول سادس، وهو يقتضي أن السنة في السواك أن يكون من أسفل إلى الأعلى ولو في الأسنان، لكنه خلاف السنة من أن السنة أن يستاك عرضًا لا طولًا، ويدل لذلك ما رواه أبو داود في «مراسيله»: «إذا استكتم؛ فاستاكوا عرضًا لا طولًا»، وأخرجه أبو نعيم من حديث عائشة كما قدمناه، ولأن فيه ضررًا، ويدمي اللثة، وأما اللسان؛ فالسنة فيه الاستياك عرضًا؛ فافهم.
(فاه بالسواك)؛ لأنَّ النوم مُقتضٍ لتغير الفم؛ لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك آلة تنظيفه، فيستحب عند مقتضاه، ففيه: استحباب السواك عند القيام من النوم، وكذا في كل حال سواء كان صائمًا أو لا، بعد الزوال للصائم أو لا؛ لعمومات الأحاديث؛ منها: قوله عليه السلام: «استاكوا أي وقت شئتم»، رواه أبو داود، ومنها: قوله عليه السلام: «لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء»؛ أي: أمر إيجاب، رواه ابن خزيمة، ومنها: قوله عليه السلام: «لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم_ أي: أمر إيجاب_ بالسواك عند كلِّ صلاة»، رواه الطبراني، وهذا يدل على عدم التوقيت بوقت، بل في أي وقت وحال شاء، وهذا حجة على الشافعي حيث كره السواك بعد الزوال للصائم، ويستحب السواك لتلاوة القرآن، والذكر، ولاصفرار الأسنان، وللاستيقاظ من النوم مطلقًا ليلًا أو نهارًا، وعند دخول البيت، وعند الاجتماع بالناس، وعند قراءة الحديث والفقه وغيرهما، وهذا مستفاد من قول إمامنا رئيس المجتهدين وسيدهم الإمام الأعظم رضي الله عنه: السواك من سنن الدين فيستوي فيه جميع الأحوال، ومن منافعه أنه يُبْطِئُ بالشيب، ويحد البصر، وأحسنها أنه شفاء لما دون الموت، وأنه يسرع في المشي على الصراط، وأنه مطهرة للفم، ومرضاة للرب، ومفرحة للملائكة، ويذهب البخر، والحضر، ويبيض الأسنان، ويشد اللثة، ويهضم الطعام، ويقطع البلغم، ويضاعف الصَّلاة، ويزيد في الحسنات، ويصحح الجسم، ويزيد في الحفظ، وينبت الشعر، ويصفي اللون، ويطهر طريق القرآن، ويزيد في الفصاحة، ويقوي المعدة، ويسخط الشيطان، ويقطع المرة، ويسكن عروق الرأس، ووجع الأسنان، ويطيب النكهة، ويسهل خروج الروح، ويذكر الشهادة عند الموت وهو أعظمها، وينمي المال والولد، ويذهب الحقد، وينفي الفقر، ويذهب الصداع، ويقطع كل داء في الجسد، ويعقبه الله صحة، ويفتح باب الجنة، ويغلق باب النار، ويكسى صاحبه رداء كُسِي به الأنبياء يوم القيامة، ويكرمه إذا أكرموا، ويسقى فاعله من حوضه عليه السلام، ومن الرحيق المختوم، ويأتيه ملك الموت على الصورة التي قبض بها الأنبياء عليهم السلام، وتمامه في فضائل السواك المسمَّى بـ «السلاك»، وقد ذكرنا زيادة على ذلك في شرحنا «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الغربيين)، وهو تصحيف.
%ص 248%
==================
(1/425)
(74) [باب دفع السواك إلى الأكبر]
هذا (باب)؛ استحباب (دفع السواك إلى الأكبر) في السِّنِّ.
==========
%ص 248%
==================
(1/426)
[حديث: أراني أتسوك بسواك]
246# (وقال عَفَّان)؛ بفتح العين المهملة، وتشديد الفاء، وبالنون بعد الألف، يحتمل الصرف وعدمه؛ كحسان؛ هو ابن مسلم الصفار الأنصاري البصري، سئل عن القرآن زمن المحنة، فأبى أن يقول القرآن مخلوق، وكان من حكام الجرح والتعديل، جعل له عشرة آلاف دينار على أن يقف عن تعديل رجل، ولا يقول: عدل، أو غير عدل، قالوا: قف فيه، ولا تقل شيئًا، فقال: لا أبطل حقًّا من الحقوق، ولم يأخذها، مات ببغداد سنة عشرين ومئتين، وظاهر قوله: (وقال عفان): أنه تعليق، لكنَّ صاحب «عمدة القاري» [قال]: أخرج البخاري هذا الحديث بلا رواية.
قلت: وهو من شيوخ المؤلف، فليس بتعليق، بل رواه عنه على سبيل المذاكرة، ولو قال: وقال لي عفان؛ لكان تعليقًا، ويدل لهذا قول «عمدة القاري» المذكور كقول صاحب «المقدمة» عفان بن مسلم الصفار من كبار الثقات الأثبات، لقيه البخاري، وروى عنه شيئًا يسيرًا، وحدث عن جماعة من أصحابه عنه؛ فيحتمل أنه أخذ عنه بلا واسطة في هذا الموضع؛ فلا يكون تعليقًا، ويحتمل بالواسطة؛ فيكون تعليقًا، وهو ظاهر قوله: ثانيًا، وكذا أخرجه البيهقي، وفي «عمدة القاري» وصله أبو عوانة في «صحيحه»: عن محمَّد بن إسحاق الصغاني، وغيره عن عفان، وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني: عن أبي أحمد: حدثنا موسى بن العباس الجويني: حدثنا محمَّد بن يحيى: حدثنا عفان، وقال مسلم في «صحيحه»: عن صخر بن جويرية؛
%ص 248%
فذكره، انتهى.
وقوله: (حدثنا صخر) بالصاد المهملة، والخاء المعجمة، آخره راء (بن جُويرية)؛ بضمِّ الجيم، تصغير الجارية _بالجيم_ البصري أبو نافع التميمي الثقة، مقول: (وقال عفان)؛ فافهم، (عن نافع)؛ مولى ابن عمر القرشي العدوي، (عن ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قال: أَراني)؛ بفتح الهمزة؛ أي: أرى نفسي، فالفاعل والمفعول عبارتان عن معبِّر واحد، وهذا من خصائص أفعال القلوب، وفي رواية المستملي: (رآني)؛ بتقديم الراء، والأول أشهر، وفي رواية مسلم: (أراني في المنام)، وفي رواية الإسماعيلي: (رأيت في المنام)، فعلى هذا؛ هو من الرؤيا، كذا قاله في «عمدة القاري».
وقال الكرماني: (وفي بعض النسخ: (أُراني)؛ بضمِّ الهمزة؛ ومعناه: أظن نفسي، واعترضه ابن حجر: بأن الضمة وهم، ورده في «عمدة القاري»: (بأنه ليس بوهم، والعبارتان تستعملان [1]) انتهى.
زعم العجلوني فقال: (لعل المراد من الوهم؛ أي: من حيث الرواية ولئن سلم أن التوهيم مطلقًا لجهة أن (أُرى) بضمِّ الهمزة للظن، والمراد هنا اليقين) انتهى.
قلت: وفيه خبط، بل المراد أن الفتح والضم مستعمل من حيث الرواية والمعنى، وكونها بمعنى الظن لا ينافي اليقين؛ لأنَّ الصيغة صيغة ظن، والمراد بها اليقين، كما لا يخفى، فاندفع الوهم وثبت استعمال الضم؛ فليحفظ.
وزعم القسطلاني أن رواية المستملي بتقديم الراء خطأ؛ لأنَّه إنَّما أخبر عما رآه في النوم، انتهى، يعني: وأن هذه تقتضي اليقظة.
قلت: ولا يلزم من إخباره عما رآه في النوم أنها تقتضي اليقظة؛ لأنَّه يجوز أن يكون قصد بذلك جبريل؛ يعني: أنه رآه في المنام؛ فافهم فلا خطأ في الرواية؛ لأنَّ توجيهها ممكن سائغ، فالحكم عليها بالخطأ خطأ ظاهر؛ فليحفظ.
وقوله: (أتسوَّك بسواك): جملة محلها النصب مفعول ثان، أو حال، والأول أظهر؛ فافهم، (فجاءني رجلان)؛ أي: ملكان على صورة رجلين، أو رجلان حقيقة وهو الظاهر، وهذا على كون (أراني) مَناميَّة؛ لما قدمنا أن (أراني) معناه: أرى نفسي في المنام، وقال ابن حجر في «المنحة»: (وعلى فتح همزة (أراني) وضمها هو إخبار عما رآه في النوم).
قلت: فقد اعترف باستعمال الضم في (أراني)، فكيف زعم عليه بالوهم، وما هو إلا تعصب على الكرماني، وتبعه العجلوني فتعصب على «عمدة القاري»، وهو ممنوع؛ فافهم.
(أحدهما أكبر من الآخر) لعل أحدهما الأكبر هو الأب والأصغر الابن، وكأنه عليه السلام لا يعرفهما قبل ذلك، (فناولت) أي: أعطيت (السواك الأصغر منهما)؛ أي: من الرجلين يحتمل بطلب منه، ويحتمل بغير طلب، والظاهر الثاني حتى تظهر مزية السواك وفضائله، وزعم العجلوني: أن هذا على حد قول الشاعر:
~ وليست بالأكثر منهم حصى .........
فيأتي فيه ما قيل في ذاك، انتهى.
قلت: وفيه نظر.
(فقيل لي) القائل له جبريل عليه السلام كما سيذكره من رواية ابن المبارك: (كبر)؛ أي: قدم الأكبر في السن، (فدفعته) أي: السواك (للأكبر منهما)؛ امتثالًا لأمره، وظاهره: أنه ناوله، ثم أخذه منه وناوله للأكبر، لكن المراد: أنه ناوله الأصغر، فلم يتناوله ولم يستعمله حين قيل له: (كبر)، فدفعه للأكبر، والحال أن السواك لم يخرج من يده إلا إلى الأكبر؛ فافهم، (قال أبو عبد الله) أي: المؤلف (اختصره)؛ أي: متن الحديث، ومعنى الاختصار ههنا أنه ذكر محصل الحديث وحذف بعض مقدماته، كذا قاله في «عمدة القاري» (نُعيم)؛ بضمِّ النون مصغَّرًا، هو ابن حمَّاد المروزي الخزاعي الأعور، سكن مصر، وقال أحمد: كنا نسميه الفارض؛ لأنَّه كان من أعلم الناس بالفرائض، وسئل عن القرآن فلم يجب بما أرادوه منه، فحبس بسامراء [2] حتى مات في السجن سنة ثمان وعشرين ومئتين زمن خلافة أبي إسحاق بن هارون الرشيد، (عن ابن المبارك)؛ هو عبد الله، (عن أسامة)؛ بالسين المهملة، هو ابن زيد الليثي_بالمثلثة_ المدني، وقد تكلم فيه، ولهذا ذكره البخاري استشهادًا، مات سنة ثلاث وخمسين ومئتين، كذا في «عمدة القاري»، (عن نافع) مولى ابن عمر، (عن ابن عمر) رضي الله عنهما، قال في «عمدة القاري»: (ورواية نعيم هذه وصلها الطبراني في «الأوسط» عن بكر بن سهل عنه بلفظ: «أمرني جبريل عليه السلام أن أكبر»، ورواه الإسماعيلي من طريقين؛ فذكره، وفيه قال: إن جبريل عليه السلام أمرني أن أدفع إلى أكبرهم)، وأخرجه أحمد والبيهقي بلفظ: (رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستن، فأعطاه أكبر القوم، ثم قال: «إن جبريل عليه السلام أمرني أن أكبر»، وهذا يقتضي أن تكون القضية وقعت في اليقظة، وتلك الرواية صريحة أنها في المنام، فكيف التوفيق؟
قلت: التوفيق بينهما أن رواية اليقظة لما وقعت أخبرهم النبيُّ عليه السلام بما رآه في النوم، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخرون، ومما يشهد له ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستن وعنده رجلان؛ أحدهما أكبر من الآخر، فأوحي إليه في فضل السواك أن كبر)؛ أي: أعط السواك أكبرهما، وإسناده صحيح، قال: ففيه تقديم حق الأكابر من جماعة الحضور وتبديته على من هو أصغر منه، وهو السنة أيضًا في السلام، والتحية، والشراب، والطيب، ونحو ذلك، ومن هذا المعنى تقديم ذي السن بالركوب، وشبهه من الإرفاق، وكذا المشي، والكلام، والطعام، وقال المهلب: (تقديم ذي السن أولى في كل شيء ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا؛ فالسنة تقديم ذي الأيمن فالأيمن) وهو صحيح؛ أي: لدلالة أحاديث أخر عليه، وقال الكرماني: (فيه: دليل على تقديم حق الأكبر من الجماعة الحاضرين، والبداءة به) انتهى.
قلت: وقوله: (والبداءة به) ليس على إطلاقه؛ لأنَّ هذا حالة الابتداء ما لو ابتدأ بغيره؛ فالأفضل تقديم من على يمين الذي ابتدأ به؛ فافهم.
وقال ابن المنيِّر: (وانظر في جلساء صاحب المنزل إذا أراد تقديم أحدهم للإمامة وعلى يمينه الأصغر وغيره الأكبر وتساوت الصفات في ذلك، هل يقدم الأيمن أو الأكبر، الظاهر الأكبر؛ لأنَّه لا مدخل لليمين في فضيلة الإمامة بخلاف السن).
قلت: فإذا اجتمع فيهم أكبر على اليمين وأكبر على اليسار؛ يُقَدَّمُ من على اليمين على الظاهر، وإذا اجتمع أكبر على اليمين وأصغر على اليسار لكنه أعلم؛ ينبغي أن يَقَدَّمُ الأصغر؛ لأنَّه أعلم بأحكام الصَّلاة واليمين ليس منها.
وقال في «عمدة القاري»: (وفيه: أن استعمال سواك الغير غير مكروه إلا أن السنة فيه أن يغسله، ثم يستعمله) انتهى.
قلت: ويدل لهذا ما رواه أبو داود عن عائشة قال: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعطيني السواك لأغلسه، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله، ثم أدفعه إليه)، وهذا يدل على عظيم فطنتها وأدبها حيث إنها لم تغسله ابتداءً حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه عليه السلام، ثم غسلته تأدُّبًا وامتثالًا، ويحتمل أن المراد بأمرها بغسله: تطييبه وتليينه بالماء قبل أن يستعمله، والله تعالى أعلم؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (مستعملان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بسامر)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (مستعملان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (مستعملان)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/427)
(75) [باب فضل من بات على الوضوء]
هذا (باب فضل) أي: ثواب (من بات) أي: نام (على الوضوء)؛ بالألف واللام في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: (على وضوء)؛ بدون الألف واللام، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر، وزعم القسطلاني أن رواية أبوي [1] ذر والوقت، والأصيلي بالتنكير، ورواية غيرهم بالألف واللام.
قلت: والظاهر الأول.
وقال في «عمدة القاري»: («بات»: من البيتوتة، يقال: بات يبيت، وبات يبات بيتوتة، وبات يفعل كذا؛ إذا فعله ليلًا، وظل يفعل كذا؛ إذا فعله نهارًا) انتهى.
==================
(1/428)
[حديث: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة]
247# وبه قال: (حدثنا محمَّد بن مُقاتل) بضمِّ الميم، أبو الحسن المروزي (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (عبد الله) هو ابن المبارك (قال: أخبرنا سفيان)؛ هو الثوري، وقيل: يحتمل سفيان بن عيينة أيضًا؛ لأنَّ عبد الله يروي عنهما، وهما يرويان عن منصور، لكن الظاهر أنه الثوري؛ لأنَّهم قالوا: أثبت الناس في منصور هو سفيان الثوري، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ فافهم، (عن منصور)؛ بالصاد المهملة، هو ابن المعتمر؛ بالعين المهملة، (عن سعْد)؛ بسكون العين المهملة (بن عُبيدة)؛ بضمِّ العين المهملة، مصغر عبدة، بن حمزة؛ بالزاي، الكوفي،
%ص 249%
وكان يرى رأي الخوارج، ثم تركه، وهو ختن أبي عبد الرحمن السلمي، مات في ولاية ابن هبيرة على الكوفة، وليس في الكتب الستة سعد بن عبيدة سواه، كذا في «عمدة القاري»، (عن البَرَاء) بتخفيف الموحدة، والراء (بن عازب [1]))؛ بالزاي [2]، الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه (قال: قال لي النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: إذا أتيت)؛ بقصر الهمزة؛ أي: إذا أردت أن تأتي (مضجَعك)؛ بفتح الجيم، من ضجَع يضجَع من باب (منَع يمنَع)، وعن القرطبي: كسرها أيضًا؛ كالمطلع، وفي «عمدة القاري»: ويروى: «مضجعك» أصله مضتجعك، من باب الافتعال، لكن قُلِبَتِ التاء طاء؛ والمعنى: إذا أردت أن تأتي مضجعك؛ (فتوضأ) كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98]؛ أي: إذا أردت قراءته، والفاء في جواب (إذا) (وضوءك للصلاة)؛ أي: مثل وضوء الصَّلاة، والمراد به الوضوء الشرعي؛ أي: وصل عقبه ركعتين سنته، قال في «عمدة القاري»: (وقد روى هذا الحديث الشيخان من طرق عن البَرَاء بن عازب، وليس فيها ذكر الوضوء إلا في هذه الرواية، وكذا عند الترمذي) انتهى، ويندب هذا الوضوء أيضًا للجنب، وزعم ابن حجر أن ظاهره استحباب تجديد الوضوء لكل من أراد النوم ولو كان على طهارة، ويحتمل أن يكون مخصوصًا بمن كان محدثًا، انتهى.
قلت: وظاهر كلامه اعتماد الأول وهو فاسد؛ لأنَّ الذي صرح به العلماء أن المطلوب أن ينام على طهارة لما في «سنن أبي داود» عن معاذ مرفوعًا: «ما من مسلم يبيت على طهارة فيستعار من الليل فيسأل الله خيرًا من الدنيا والآخرة؛ إلا أعطاه إياه»، فيفيد أن الوضوء مخصوص بمن كان محدثًا وهو المتعيَّن، ولهذا قال في «عمدة القاري»: (فيه: أن الوضوء عند النوم مندوب إليه مرغوب فيه، وكذلك الدعاء؛ لأنَّه قد يقبض روحه في نومه فيكون قد ختم عمله بالوضوء والدعاء الذي هو أفضل الأعمال، ثم إن هذا الوضوء مستحب وإن كان متوضئًا؛ كفاه ذلك الوضوء؛ لأنَّ المقصود النوم على طهارة؛ مخافة أن يموت في ليلته، وليكون أصدق لرؤياه، وأبعد من تلاعب الشيطان به في منامه) انتهى؛ ولهذا كان ابن عمر يجعل الدعاء آخر عمله، فإذا تكلَّم بعده؛ استأنف ذلك لينام عليه اقتداء بالشارع في قوله: «واجعلهن آخر ما تكلم به»؛ فليحفظ، والله أعلم.
وقوله: (ثم اضطجع على شقك الأيمن) هذا أيضًا من سنن النوم مطلقًا ليلًا أونهارًا؛ لأنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يحب التيامن في شأنه كله، ولأنَّه يتعلق القلب على الجانب الأيمن، فلا يثقل في النوم، فيكون أسرع إلى الانتباه؛ ليقوم إلى ورده من تهجُّد أو غيره؛ بخلاف النوم على الشق الأيسر، فإنه يستغرق في النوم؛ لاستراحته فيفوته ذلك العمل، ولأن النوم بمنزلة الموت، فيستعد له بالهيئة التي يكون عليها في قبره، فيكون فيه تذكير بالموت، والقبر، وغيرهما من أحوال الآخرة، وقال الكرماني: (إن النوم على الشق الأيمن يكون أسرع إلى انحدار الطعام كما هو مذكور في «الطب»)، ورده صاحب «عمدة القاري»: بأن المذكور في (الطب) خلاف هذا؛ فافهم.
قالوا: النوم على الأيسر أروح للبدن، وأقرب إلى انهضام الطعام، ولكن اتباع السنة أولى، انتهى.
وقال العجلوني: (ما نقله في «عمدة القاري» لا ينافي ما نقله الكرماني، فإن ذاك في انحدار الطعام، وهذا في انهضامه).
قلت: وهو فاسد، بل فيه منافاة لا تخفى، فإن الانحدار غير الانهضام؛ لأنَّ الأول يكون بعد الثاني، ويمكن التوفيق بين العبارتين بما نقله ابن الجوزي، قال: (إن الأطباء يقولون ينبغي أن يضطجع على الجانب الأيمن ساعة، ثم ينقلب إلى الأيسر فينام، فإن النوم على اليمين سبب لانحدار الطعام؛ لأنَّ قصبة المعدة تقتضي ذلك، والنوم على اليسار يهضم؛ لاشتمال الكبد على المعدة) انتهى؛ فتأمل.
(ثم قل: اللهم؛ [أسلمت] وجهي إليك)؛ أي: استسلمت، كذا فسروه وليس بوجه، والأوجه أن يفسر (أسلمت): بسلَّمت ذاتي إليك منقادة لك طائعة لحكمك؛ لأنَّ المراد من الوجه الذات، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، قال العجلوني: لعل غرضه من هذا الكلام أن «أسلمت» متعد، فكيف يفسر: باستسلمت اللازم؟ بل حقه أن يفسر: بسلَّمت المضعَّف؛ ليكون متعدِّيًا إلى (وجهي)، لكن قوله: لأنَّ المراد من الوجه الذات يظهر أن للتعليل به وجهًا [3]، وقد يجاب بأن تفسيرهم له بما ذكر تفسير معنًى لا إعراب.
قلت: لقد أنصف أولًا، ثم عدل، وقوله: (وقد يجاب ... ) إلخ ممنوع؛ فإن هذا تفسير إعراب لا معنًى، كما لا يخفى؛ فافهم.
ثم قال صاحب «عمدة القاري»:وجاء في رواية أخرى: (أسلمت نفسي إليك)، والوجه والنفس ههنا بمعنى الذات، ويحتمل أن يراد به الوجه حقيقة، ويحتمل أن يراد به القصد، وكأنه يقول: قصدتك في طلب سلامتي، وقيل: إن معنى الوجه: القصد والعمل الصالح، وكذا جاء في رواية أخرى: (أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك)، فجمع بينهما، فدل على تغايرهما، ومعنى (أسلمت): سلَّمت، واستسلمت: أي سلَّمتها لك؛ إذ لا قدرة لي ولا تدبير بجلب نفع، ولا دفع ضرٍّ، فأمرها مفوَّض إليك تفعل بها ما تريد، واستسلمت لما تفعل، فلا اعتراض عليك فيه، وفيه: إشارة إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه) انتهى كلام «عمدة القاري».
قلت: وهذا يدل على أن تفسيرهم بما ذكر تفسير إعراب لا تفسير معنًى؛ فليحفظ.
(وفوضت) من التفويض؛ وهو التسليم؛ أي: رددت (أمري إليك) وبرئت من الحول والقوة إلا بك، فاكفني همه، وتولَّني صلاحه، ففيه: إشارة إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوَّضة إليه لا مدبِّر لها غيره تعالى، (وألجأت) بالهمز؛ أي: أسندت (ظهري إليك) يقال: لجأت إليه لَجَأً؛ بالتحريك، وملجأ والتجأت إليه بمعنًى، والموضع أيضًا لجأ وملجأ وألجأته إلى الشيء: اضطررته إليه؛ والمعنى هنا: توكلت عليك، واعتمدتك في أمري كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده، وأتى بقوله: (وألجأت ظهري إليك) بعد قوله: (وفوضت أمري إليك)؛ إشارة إلى أنه بعد تفويض أموره التي يفتقر [4] إليها، وبها معاشه، وعليها مدار أمره يلتجأ إليه مما يضره ويؤذيه من الأسباب الداخلة عليه والخارجة، كذا قرره إمام الشارحين رحمه الله تعالى (رغبةً)؛ بالغين المعجمة؛ أي: طمعًا في ثوابك، (ورهْبةً)؛ بسكون الهاء؛ أي: خوفًا من عقابك، وهما منصوبان على المفعول له على طريقة اللَّفِّ والنشر؛ أي: فوضت أمري (إليك)؛ رغبة، وألجأت ظهري عن المكاره والشدائد إليك؛ رهبةً منك، ويجوز أن يكون انتصابهما على الحال بمعنى راغبًا وراهبًا.
فإن قلت: كيف يتصور أن يكون راغبًا وراهبًا في حالة واحدة؛ لأنَّهما شيئان متنافيان؟
قلت: فيه حذف؛ تقديره: راغبًا إليك، وراهبًا إليك، كذا قرره في «عمدة القاري».
قلت: فقوله: (إليك) متعلق بـ (رغبة ورهبة)، ويجوز أن يتعلق بـ (رغبة)، ومتعلق بـ (رهبة) محذوف؛ لدلالة المقام عليه؛ أي: منك.
ثم قال إمام الشارحين: فإن قلت: إذا كان التقدير: راهبًا منك، كيف استعمل بكلمة (إلى)، والرهبة لا تستعمل إلا بكلمة (من)؟
قلت: (إليك) متعلق بـ (رغبة)، وأعطى لـ (الرهبة) حكمها، والعرب تفعل ذلك كثيرًا؛ كقول الشاعر:
ورأيت بعلك في الوغى ... متقلدًا سيفًا ورمحا
والرمح لا يتقلد، وكقول الآخر:
وعلفتها تبنًا وماء باردًا
والماء لا يعلف. انتهى كلامه.
(لا ملجأ)؛ بالهمزة، ويجوز التخفيف، (ولا منجى)؛ بالألف؛ لأنَّه مقصور من نجا ينجو، والمنجى (مفعل) منه، ويجوز همزه للازدواج، وإعرابهما مثل إعراب (عصًا)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذا يقتضي أنهما مقصوران؛ فتأمل (منك إلا إليك) قال في «عمدة القاري»: (وفي هذا التركيب) خمسة أوجه؛ لأنَّه مثل: لا حول ولا قوة إلا بالله، والفرق نصبه وفتحه بالتنوين، وعند التنوين تسقط الألف، ثم إنهما إن كانا مصدرين يتنازعان
%ص 250%
في (منك)، وإن كانا مكانين؛ فلا؛ إذ اسم المكان لا يعمل؛ وتقديره: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجًى إلا إليك) انتهى.
قلت: والأوجه المشهورة هي فتح الأول والثاني، وفتح الأول ونصب الثاني، وفتح الأول ورفع الثاني، ورفع الأول وفتح الثاني، ورفع الأول والثاني، ومع التنوين تسقط الألف، كما قدمنا وعلى كونهما مكانين؛ فـ (منك) حال من ضمير الخبر أو صفة لهما؛ فافهم.
(اللهم)؛ أي: يا الله، وسيأتي عند المؤلف في الأدعية بحذف (اللهم)؛ (آمنت)؛ أي: صدقت (بكتابك)؛ أي: القرآن، وقوله: (الذي أنزلت) صفته، وضمير المفعول محذوف؛ أي: أنزلته على نبيك محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنما خصص الكتاب بالصفة؛ ليتناول جميع الكتب المنزلة.
فإن قلت: أين العموم ههنا حتى يجيء التخصيص؟
قلت: المفرد المضاف يفيد العموم؛ لأنَّ المعرف بالإضافة كالمعرف باللام يحتمل الجنس، والاستغراق، والعهد، فلفظ الكتاب المضاف هنا محتمل لجميع الكتب ولجنس الكتب، ولبعضها؛ كالقرآن، قالوا: وجميع المعارف كذلك، وقد قال جار الله الزمخشري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6]: يجوز أن تكون للعهد، وأن يراد بهم ناس بأعيانهم؛ كأبي جهل، وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، وأحزابهم، وأن تكون للجنس متناولًا منهم كل من صمم على كفره.
قلت: التحقيق أن الجمع المعرَّف تعريف الجنس؛ معناه: جماعة الآحاد، وهي أعم من أن يكون جميع الآحاد أو بعضها، فهو إذا أطلق؛ احتمل العموم والاستغراق، واحتمل الخصوص والحمل على واحد منها يتوقف على القرينة كما في المشترك، هذا ما ذهب إليه الزمخشري، وصاحب «المفتاح» ومن تبعهما، وهو خلاف ما ذهب إليه أئمة الأصول، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
قلت: أي: من أن (اللام) تبطل معنى الجمعية، ويصير مدخولها؛ لاستغراق الأفراد؛ فتأمل.
(وبنبيك)؛ بالموحدة في أكثر النسخ، وفي بعضها بحذفها، ويؤيدها قوله: (ورسولك) بدونها، وكذا قوله: (ونبيك) الآتي، فإنه بدونها، وعند المؤلف في (الأدعية) بالموحدة؛ كأكثر النسخ هنا، والمراد به: محمَّد النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، والخطاب فيه كسابقه لله عزَّ وجلَّ (الذي أرسلت)؛ أي: أرسلته، ويحتمل أن يراد كل نبي أرسله كما سبق في (بكتابك)، (فإن متَّ)؛ بفتح التاء، الخطاب للبراء، وليس المراد به وحده على التعيين، بل كل من يحصل ذلك؛ كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وَقِفُوا} [الأنعام: 27]، أو المراد المعيَّن، ويعلم حكم غيره بالقياس عليه، والظاهر: أن يقال الخطاب خاص أريد به عام؛ فافهم (من ليلتك؛ فأنت على الفطرة)؛ أي: على دين الإسلام، وقد تكون (الفطرة) بمعنى الخلقة؛ كقوله تعالى: {فِطْرَةَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وبمعنى السنة؛ كقوله عليه السلام: «خمس من الفطرة ... »؛ الحديث، وقال الطيبي: أي: مات على الدين القويم ملة إبراهيم عليه السلام أسلم واستسلم، وقال: أسلمت لرب العالمين، وجاء بقلب سليم، كذا في «عمدة القاري»، (واجعلهنَّ) أي: هذه الكلمات (آخر) وفي رواية الكشميهني: (من آخر) (ما تتكلم به) ولابن عساكر: (ما تكلم)؛ بحذف إحدى التاءين تخفيفًا، ورواية الكشميهني مبينة أنه لا يمتنع أن يقول بعدهن شيئًا من المشروع ذكره عند النوم، وهو كذلك، لكن الأكمل والأحسن جعلها آخرًا حقيقة وتسمية ما ذكر كلامًا بالنظر إلى اللغة والاصطلاح وإن كان لا يسمى في عرف الفقهاء في الإيمان كلامًا، وإنما يسمَّى ذكرًا ودعاء؛ فافهم، (قال)؛ أي: البَرَاء بن عازب: (فردَّدتها)؛ بتشديد الدال المهملة الأولى، وسكون الثالثة؛ لإدغامها في التاء؛ أي: كررت هذه الكلمات (على النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: لأحفظهن، (فلما بلغت)؛ أي: وصلت في القراءة: (اللهم؛ آمنت بكتابك الذي أنزلت) والمراد: بلغت آخر هذه الجملة، فلا يرد أن السياق يقتضي أن يقول: فلما بلغت (ونبيك) (وقلت: ورسولك) زاد الأصيلي: (الذي أرسلت) (قال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا)؛ أي: لا تقل: ورسولك، بل قل: (ونبيك الذي أرسلت) حتى يجمع بين صفتيه؛ وهما الرسول والنبيُّ صريحًا وإن كان وصف الرسالة يستلزم النبوة، ويحتمل أن ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ، وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ زيادة تبيين ليس في الآخر وإن كان يرادفه في الظاهر، ويحتمل أنه أوحى إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده؛ لأنَّه ذكر ودعاء، فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ويحتمل أنه ذكره؛ احترازًا ممن أرسل من غير نبوة؛ كجبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام؛ لأنَّهم رسل لا أنبياء، ويحتمل أن يكون رده دفعًا للتكرار؛ لأنَّه قال في الأولى: (وبنبيك الذي أرسلت)، فلو قال: (ورسولك)؛ لزم التكرار، ويحتمل أن النبيَّ (فعيل) بمعنى (مفعول) من النبأ، وهو الخبر؛ لأنَّه إنباء عن الله عز وجل؛ أي: أخبر، وقيل: إنه مشتق من النباوة: وهو الشيء المرتفع، ورد النبيُّ عليه السلام على البَرَاء؛ ليختلف اللفظان، ويجمع الثناء بين معنى الارتفاع والإرسال ويكون تعديدًا للنعمة في الحالين، وتعظيمًا للمنَّة على الوجهين، ويحتمل أن ألفاظه عليه السلام ينابيع الحكمة، وجوامع الكلم، فلو جوز أن يعبر عن كلامه بكلام غيره؛ سقطت فائدة النهاية في البلاغة التي أعطيها عليه السلام، وزعم ابن حجر: ويحتمل أن لفظ النبيِّ أمدح من لفظ الرسول؛ لأنَّه مشترك في الإطلاق على كل من أرسل بخلاف لفظ النبي، فإنه لا اشتراك فيه عرفًا، وعلى هذا؛ فقول من قال: كل رسول نبي من غير عكس؛ لا يصح إطلاقه، انتهى.
ورده في «عمدة القاري»: بأن هذا غير موجه؛ لأنَّ لفظ النبيِّ كيف يكون أمدح وهو لا يستلزم الرسالة؟ بل لفظ الرسول أمدح؛ لأنَّه يسلتزم النبوة؛ فافهم.
وزعم القسطلاني بأن المعنى يختلف، فإنه لا يلزم من الرسالة النبوة ولا عكسه.
قلت: وهو فاسد، بل يلزم من الرسالة النبوة، ألا ترى أن الرسول لا يرسل إليه إلا بعد أن يصير نبيًّا، على أن الاختلاف في التعبير من حيث الإطلاق، فإذا قيد بالبشر؛ يصح الكلام، ويحصل المرام.
قال الخطابي: (وفي الحديث حجة لمن منع رواية الحديث بالمعنى وهو قول ابن سيرين وغيره، فكان يذهب هذا المذهب أبو العباس النحوي ويقول: ما من لفظة من الألفاظ المتناظرة من كلامهم إلا وبينها وبين صاحبتها فرق وإن دق ولطف؛ كقولك: بلى ونعم).
قال في «عمدة القاري»: (هذا الباب فيه خلاف بين المحدثين وقد عرف في موضعه، ولكن لا حجة في هذا للمانعين؛ لأنَّه يحتمل الأوجه التي ذكرناها بخلاف غيره) انتهى.
وقد تبعه ابن حجر فقال: (ولا حجة لمن استدل به على أنه لا يجوز إبدال لفظ: (قال نبي الله) مثلًا في الرواية بلفظ: «قال رسول الله» وبالعكس، ولو جازت الرواية بالمعنى، وكذا لا حجة فيه لمن جوز الأول دون الثاني؛ لكون الأول أخص؛ لأنَّ الذات المخبر عنها في الرواية واحدة، فبأيِّ وصف وصفت به الذات من أوصافها؛ علم القصد بالمخبر عنه ولو تباينت معاني الصفات، بخلاف ما في حديث الباب؛ فإنه يحتمل ما تقدم من الأوجه) انتهى.
وإنما ختم كتاب (الوضوء) بهذا الحديث؛ لأنَّه آخر وضوء أمر به المكلف في اليقظة، ولقوله في الحديث: «واجعلهنَّ آخر ما تتكلم به»، فأشعر ذلك بختم الكتاب.
اللهم؛ اختم لنا بالوفاة على الإيمان، وارزقنا علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعافية من جميع البلايا، وتمام النعمة، والنصر على الأعداء، اللهم؛ أطل عمري بطاعتك، وكثر أولادي، ووفِّقهم لما تحب وترضى، واجعلنا وإياهم من الآمنين يا أرحم الراحمين.
وفي يوم الخامس عشر جماد أول سنة سبع وسبعين أمر الحكام أهل البلد أن يتهيؤوا لرفع التراب من حارة النصارى.
اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.
%ص 251%
==========
[1] في الأصل: (عاذب)، ولعل المثبت هو الصواب، وكذا في الموضع اللاحق.
[2] في الأصل: (بالذال)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[3] في الأصل: (وجه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (مفتقر)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (عاذب)، ولعل المثبت هو الصواب، وكذا في الموضع اللاحق.
[2] في الأصل: (بالذال)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[3] في الأصل: (وجه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (عاذب)، ولعل المثبت هو الصواب، وكذا في الموضع اللاحق.
[2] في الأصل: (بالذال)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[3] في الأصل: (وجه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/429)
((5)) [كتاب الغُسْل]
(بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الغسل) كذا في الرواية، ووقع في رواية الأكثر تأخير البسملة عن (كتاب الغسل)، قيل: وجهه أن الترجمة قائمة مقام اسم السورة، والأحاديث المذكورة بعدها كالآيات المفتتحة بها، وأما وجه تقديمها؛ فظاهر؛ لأنَّ كتاب الوضوء قد تم وختم، وهنا قد ابتدأ بحكم آخر؛ وهو غسل الجنابة، ووقع في رواية الأصيلي: (باب الغسل)؛ بإسقاط البسملة، وإبدال (كتاب) بـ (باب)، قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: (وهذا أوجه؛ لأنَّ الكتاب يجمع الأنواع، والغسل نوع واحد من أنواع الطهارة وإن كان في نفسه يتعدد)، و (الغُسل)؛ بضمِّ الغين؛ لأنَّه اسم للاغتسال: وهو إسالة الماء، وإمراره على الجسم، وقيل: الماء، وبفتح الغين مصدرًا، وفي «المحكم»: (غسل الشيء يغسله غسلًا) انتهى.
قال في «عمدة القاري»: (وهذا لم يفرق بين الفتح والضم وجعل كلاهما مصدرًا، وغيره يقول: بالفتح مصدر، وبالضم اسم، وبالكسر: اسم لما يجعل مع الماء؛ كالأشنان) انتهى.
وقال بعض الشراح: (وأما المصدر؛ ففيه الضم والفتح)، قاله الأصمعي وهو يوافق ما في «المحكم»، لكن الأشهر فيه لغة الفتح، والأشهر عند الفقهاء فيه الضم، انتهى.
وبهذا ظهر فساد ما زعمه القسطلاني من أن الفتح أفصح وأشهر من الضم؛ فليحفظ.
فإذا علمت أن الضم هو المشهور، وأنه اسم من الاغتسال وهو تمام غسل الجسد؛ ظهر لك أنه لا فرق بين المعنى اللغوي والشرعي، وقال أبو زيد: الغسل؛ بالفتح: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذي يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء؛ كالأشنان، وحقيقة الغسل؛ لغة: هو السيلان مطلقًا، وشرعًا: سيلان الماء على جميع الجسد والشعر، ومنه: المضمضة والاستنشاق، وهما فرضان عملًا لا اعتقادًا، سواء نوى_ وهو الأكمل_ أو لم ينو، فإن الجمهور من الفقهاء: على أن النية ليست بشرط فيه؛ كالوضوء، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، وزعم الشافعية أنها شرط، وسواء تدلك_ وهو الأكمل_ أو لم يدلك؛ لأنَّ الجمهور ومنهم الإمام الأعظم، وأصحابه، والشافعي على أن الدلك فيه _كالوضوء_ ليس بشرط، وقال الإمام أبو يوسف: إنه شرط في الغسل فقط، وقال مالك، والمزني: إن الدلك شرط في الغسل والوضوء، واحتجوا بالقياس على الوضوء، وبالإجماع على إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب في الغسل؛ لعدم الفرق بينهما، ورُدَّ: بأنا لا نسلم وجوب الدلك في الوضوء أيضًا؛ لأنَّ جميع من لم يوجب الدلك؛ أجاز، وأغمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار اليد؛ فبطل دعوى الإجماع، وانتفت الملازمة، واحتج الإمام أبو يوسف بقوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ لما فيها من المبالغة وهي تقتضي افتراض الدلك كما تقتضي افتراض المضمضة والاستنشاق؛ فافهم.
وإنما ذكر الغسل بعد الوضوء؛ اقتداءً بالكتاب العزيز، ولأن الحاجة إلى الوضوء أكثر، والحاجة إلى الغسل أقل، ولأن محل الوضوء جزء من البدن، ومحل الغسل جميع البدن، والجزء مقدَّم على الكل طبعًا، فقدم وضعًا؛ ليوافق الوضع الطبع؛ ولأنَّه يسن تقديم الوضوء على الغسل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(وقولُِ الله تعالى)؛ بالرفع أو الجر، وفي بعض النسخ: (وقول الله)، وللأصيلي: (عزَّ وجلَّ)، وإنما افتتح كتاب بالآيتين الكريمتين؛ للإشعار بأن وجوب الغسل على الجنب بنصِّ القرآن، فقال: ({وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}) [المائدة: 6]، هذه الآية الشريفة من سورة المائدة؛ يعني: اغسلوا أبدانكم على وجه المبالغة من الحدث الأكبر، وهذا هو المراد وإن كانت الطهارة تعم الحدث والخبث، ويستفاد منه: أن المغتسل يسن له أن يبدأ فيغسل يديه، وفرجه، ويزيل النجاسة بالماء، وبكل مائع طاهر إن كانت موجودة على بدنه؛ ليطمئن بزوالها قبل أن تشيع على جسده ولو كانت قليلة، والمراد: أن السنة نفس البداءة بغسل النجاسة، وأما نفس غسلها؛ فلا بد منه ولو قليلة؛ لتنجس الماء بها، فلا يرتفع الحدث عما تحتها ما لم تزل.
ويستفاد منه أيضًا: أن المسلم إذا مات ينجس نجاسة خبثٍ، على ما عليه عامة العلماء؛ لأنَّه حيوان دموي فينجس بالموت؛ كغيره من الحيوانات وهو الصحيح كما في «الكافي»، و «المحيط»، وغيرهما، فإذا وقع في الماء القليل؛ يفسده، وإذا حمله وصلى؛ لا تصح صلاته، فإذا غسل؛ فإنه يطهر، وأما الكافر إذا مات؛ فإنه لا يطهر بالغسل، ولا تصح صلاة حامله بعده بالاتفاق، كذا في «منهل الطلاب»، وأما قوله عليه السلام: «سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس»؛ فمعناه: ما دام حيًّا أو ما بعد تغسيله من حيث صحة الصَّلاة عليه، أو معناه: لا تنجسه الذنوب حتى لا يطهر بعد الغسل، على أن الحديث قد تكلم فيه الحفاظ النقاد؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: والجنب يستوي فيه الواحد والاثنان، والجمع، والمذكر والمؤنث؛ لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، يقال: أجنب يجنب إجنابًا، والجنابة الاسم، وهو في اللغة: البعد، وسمي الإنسان جنبًا؛ لأنَّه ينهى أن يقرب من مواضع الصَّلاة ما لم يتطهر، ويجمع على أجناب، وجنبين، وقوله: {فَاطَّهَّرُوا} القاعدة تقتضي أن يكون أصله: تطهَّروا، فلما قصد الإدغام؛ قلبت التاء طاء، وأدغمت [1] التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل؛ ومعناه: طهِّروا أبدانكم.
قلت: أصله من باب (التفعُّل)؛ ليدل على التكلُّف والاعتماد، وكذلك باب (الافتعال) يدل عليه نحو: (اطَّهروا)، أصله من طهر يطهر، فنقل (طهر) إلى باب (الافتعال)، فصار اتطهر على وزن (افتعل)، فقلبت طاء، وأدغمت الطاء في الطاء، وفيه من التكلُّف ما ليس في (طهر)، انتهى.
ومثل الجنب الحائض، والنفساء؛ إذا طهرتا، كما لا يخفى، ({وَإِن كُنتُم مَّرْضَى})؛ أي: مرضًا يخاف معه إن اغتسل بالماء أن يقتله البرد، أو يمرضه، أو يتلف بعض أعضائه، أو يزداد مرضه، أو يبطئه بغلبة الظن بتجربة، أو إخبار طبيب مسلم؛ فإنه يتيمَّم عند الإمام الأعظم رضي الله عنه ولو كان بالمصر، وقال الصاحبان: إذا كان بالمصر؛ لا يتيمم؛ لأنَّ تحقق عدم الماء في المصر نادر، والمعتمد الأول، ولهذا جزم به الإمام قاضيخان، فقال في «الخانية»: (الجنب الصحيح في المصر إذا خاف الهلاك من الاغتسال؛ يباح له التيمم، في قول الإمام الأعظم) انتهى.
وهذا مشروط بأن لا يجد قدرة على تسخين الماء، ولا على أجرة الحمام في المصر، ولا يجد ثوبًا يتدفأ به، ولا مكانًا يأويه، كما في «البدائع»، وشرح «الجامع الصغير»، قال في «البحر»: (فصار الأصل فيه أنه متى قدر على الاغتسال بوجه من الوجوه لا يباح له التيمُّم اتفاقًا) انتهى.
وروى ابن أبي حاتم عن مُجَاهِد: أنها نزلت في مريض من الأنصار لم يكن له خادم ولم يستطع أن يقوم ويتوضأ.
قلت: فإن وجد خادمًا؛ كعبده وولده وأجيره؛ لا يجزئه التيمم اتفاقًا، كما في «البحر» عن «المحيط»، وإن وجد غير خادمه ممن لو استعان به؛ أعانه ولو زوجته؛ فظاهر المذهب أنه لا يتيمم أيضًا بلا خلاف، كما يفيده كلام صاحبي «المبسوط» و «البدائع»، وغيرهما.
({أَوْ عَلَى سَفَرٍ}): والمعتبر هنا هو السفر العرفي والشرعي؛ لما في «الخانية»: (قليل السفر وكثيره سواء في التيمم والصَّلاة على الدابة خارج المصر، وإنما الفرق بين القليل والكثير في ثلاثة؛ قصر الصَّلاة، والإفطار، والمسح على الخفَّين) انتهى، وفي «المحيط»: أو كان في مكان خارج المصر سواء كان خروجه لتجارة، أو لمزارعة، أو احتطاب، أو احتشاش، أو غير ذلك، وكان بينه وبين المصر نحو الميل على المعتمد، ويكفي في تقديره غلبة الظن هو المشهور، كما في أكثر الكتب، وروى البغوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر، فشجه في رأسه فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: لم نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله تعالى، ألا تسألوا إذ لم تعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنَّما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة،
%ص 252%
ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده»، انتهى، وفي «الفتاوى الظهيرية»: مقطوع اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة يصلي بغير طهارة، ولا يتيمم ولا يعيد في الأصح، قاله في «البحر»، ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ})؛ أي: فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين، وأصل الغائط: المكان المطمئن من الأرض، فالمجيء من الغائط كناية عن الحدث؛ لأنَّ نفس المجيء من المطمئن من الأرض لا يوجب الطهارة، وسُمِّيَ الحدث غائطًا تسمية للشيء باسم مكانه؛ لأنَّهم كانوا قبل اتخاذ الكنف في البيوت يأتون الغائط؛ أي: المطمئن من الأرض احتجابًا عن أعين الناس، ({أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ})؛ أي: جامعتم النساء؛ لأنَّ المس بإجماع أهل اللغة: الجماع، فإن جميع العرب كانت تُكَنِّي عن الجماع بالمسِّ، وقرئ: {أو لمستم}، فهي محمولة على (لامستم) على أن المراد منهما المس؛ وهو الجماع، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وهو مذهب ترجمان القرآن ابن عباس، وعليٍّ، والجمهور من الصحابة والتابعين، وزعم الشافعية أن {لامَسْتُمُ}؛ أي: لمستم المشتَهَيات منهن من غير المحارم؛ أي: مسستم بشرتهن ببشرتكم، واستدلوا بقراءة حمزة والكسائي: {أو لمستم} وإن كان خلاف الظاهر، وخلاف ما عليه أئمة اللغة ومن عادة العرب؛ فافهم، ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً})؛ أي: لم تقدرا على استعماله؛ لعدمه أو بعده، أو لفقد آلة الوصول إليه من الدلو، والرشاء، أو لمانع عنده من حية أو سبع، أو عدو، أو مشغول بحاجته للعطش سواء كان لنفسه، أو لكلبه، أو لرفيقه، أو دابته حالًا أو مآلًا أو للعجين، أو الطبيخ، أو لإزالة النجاسة، فإن ذلك كله كالمعدوم، فالمراد من عدم الوجدان عدم القدرة على استعمال الماء المطلق الكافي لطهارته لصلاة تفوت إلى خلف؛ كالصلوات الخمس، فإن خلفها قضاؤها، وكالجمعة فإن خلفها الظهر، واحترز به عمَّا لا يفوت إلى خلف؛ كصلاة الجنازة والعيدين، والكسوف، والسنن الرواتب، فلا يشترط لها عدم الوجدان، وظاهر النظم الشريف يدل على أن يكون المرض والسفر من الأسباب الموجبة للطهارة؛ كالحدث الواقع بخروج ما خرج من أحد السبيلين، وبملامسة النساء، وليس كذلك؛ بل المرض والسفر من الأسباب المرخصة لا من الأسباب الموجبة للطهارة إلا أن ما يوجب الطهارة لما كان منحصرًا في الحدث الأصغر والجنابة، وكان أغلب الأحوال المقتضية لترخص من اتصف بها بالتيمم منحصرًا في المرض والسفر كان الظاهر أن يقال: وإن كنتم جنبًا مرضى أو مسافرين، أو كنتم محدثين مرضى أو مسافرين إلا أن الجنب _لما سبق ذكره_ اقتصر على بيان حاله المقتضية لترخصه بالتيمم والمحدث لما لم يَجْرِ ذكره؛ علم أن التفصيل لحال الجنب، فإن عدم وجدان الماء بمعنى عدم التمكن من استعماله عذر يرخص التيمم، وعدم التمكن من استعمال الماء مجمل حيث لم يبين أن سببه هو المرض أو السفر هكذا يجب أن يفهم هذا المحل؛ فافهم، والفاء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} عطفت ما بعدها على الشرط، وقوله: ({فَتَيَمَّمُوا}): جواب الشرط، وضمير (تيمموا) لكل من تقدم من مريض، ومسافر، ومتغوط، وملامس، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة؛ لأنَّ قوله: {كُنتُمْ} {أَوْ لامَسْتُمُ} خطاب، وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} غيبة غلب الخطاب في {كُنتُمْ} وما بعده على الغيبة في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} وما أحسن الإتيان هنا بالغيبة! لأنَّه كناية عما يستحي منه، فلم يخاطبهم به وهو من محاسن الكلام، ({صَعِيدًا طَيِّبًا})؛ يعني: أن التيمم بمعنى: القصد والتعمد، وأن الصعيد: هو وجه الأرض ترابًا كان أو غيره، سمِّي صعيدًا؛ لكونه صاعدًا ظاهرًا، وأن الطيب بمعنى: الطاهر سواء كان منبتًا أو غير منبت حتى لو فرضنا صخرًا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح؛ كان ذلك كافيًا؛ لظاهر الآية الشريفة، هذا مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال الإمام أبو يوسف، وتبعه الشافعي: لا بدَّ من تراب يلتصق بيده؛ لأنَّ هذه الآية مقيدة، وهي قوله تعالى: ({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ}): وكلمة (من) للتبعيض، ومسح بعض الصعيد لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه، ورُدَّ: بأنَّا لا نسلم أن (من) للتبعيض؛ بل هي لابتداء الغاية؛ لأنَّه لا يصح فيها ضابط التبعيض والبيان، وهو وضع بعض موضعها في الأول، ولفظ الذي في الثاني و (الباء) في الأول بحاله، ويزاد في الثاني جزء؛ ليتم صلة الموصول؛ كما في {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30]؛ أي: الذي هو الأوثان، ولو قيل: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم بعضه؛ أفاد أن المطلوب جعل الصعيد ممسوحًا والعضوين آلته، وهو منتف إجماعًا، وزعم في «الكشاف» أن قولهم: (من) لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أخذه من العرب من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن، ومن الماء، ومن التراب إلا معنى التبعيض، والإذعان للحق أحق.
قلنا: إن هذا مردود، والجواب: أن عدم الفهم إنَّما نشأ من اقتران (من) بالزمن ونحوه مما هو أسهل من التبعيض، ولو قرنت بما ليس كذلك؛ لانعكس الحكم، فيقال: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت يدي من الحجر والحائط معنى التبعيض أصلًا، بل معنى الابتداء، ومدخولها ههنا هو الصعيد، وهو مشتمل على ما يتبعض بشموله له ولغيره، ومعناها الحقيقي المجمع عليه هو الابتداء، على أنه قد أنكر معنى التبعيض جماعةٌ من أهل العربية؛ كأبي العباس المبرد، والأخفش، وابن السراج، والسهيلي، وغيرهم، وقالوا: إنها لا تدل على غير الابتداء، وسائر المعاني راجعة إليه، وقلنا أيضًا: إن الصعيد اسم لوجه الأرض ترابًا وغيره، قال الزجاج: لا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة فيه، وإذا كان هذا مفهومه؛ وجب تعميمه، ويدل له قوله عليه السلام في «الصحيحين»: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فإن (اللام) فيه للجنس، فلا يخرج شيء منها؛ لأنَّ الأرض كلها جعلت مسجدًا، وما جعل مسجدًا هو الذي جعل طهورًا، ويدل للعموم أيضًا قوله تعالى: {صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]؛ أي: حجرًا أملس، فإن التراب لا يكون زلقًا، وأما الطيب؛ فلفظ مشترك يستعمل بمعنى المنبت، وبمعنى الحلال، وبمعنى الطاهر، وقد أريد به الطاهر إجماعًا، فلا يُراد غيره؛ لأنَّ المشترك لا عموم له، ولأن التيمم إنَّما شرع لدفع الحرج، كما يفيده سياق الآية الكريمة، وهو فيما قلنا، فيتعين أن يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض؛ كالتراب، والرمل، والحجر، والجص، والتورة، والكحل، والزرنيخ، وأما الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وما أشبهها، فما دامت على الأرض ولم يُصْنَع منها شيء؛ يجوز، وبعد السبك لا يجوز، وهذا ما عليه الجمهور من أهل التفسير، وأهل اللغة، وغيرهم، والإذعان للحق أحق من المراء؛ فافهم.
وإنما كان التيمم في الوجه واليدين خاصة؛ لأنَّه بدل عن الغسل، وهو الأصل، والرأس ممسوح، والرجلان فرض متردد بين المسح والغسل، كذا في «الجوهرة»؛ يعني: إذا لبس الخفين؛ كان فرضهما المسح على الخفين، وإلا؛ ففرضهما الغسل، كذا في «منهل الطلاب»، فيمسح من وجهه ظاهر البشرة والشعر على الصحيح، كما في «فتح القدير»، والاستيعاب شرط على المختار، فيخلل لحيته وأصابعه ويحرك الخاتم، كما في «النهر» عن الفيض، ويجب مسح ما تحت الحاجبين ومؤق العينين، كما في «المحيط»، ولا يشترط الترتيب في التيمم كأصله، كما في «البحر»؛ بل هو سنة، كما في «منهل الطلاب»، والقصد شرط؛ لأنَّه النية، كما في «البحر»، وقال الإمام زفر: النية في التيمم ليست بشرط؛ كالوضوء، كما في «المجتبى»، وقال أبو بكر الرازي: لا بد من التمييز بين الحدث والجنابة، وعند أئمتنا الأعلام:
%ص 253%
ينوي الطهارة أو إباحة الصَّلاة، فيجوز به كل فعل لا صحة له بدون الطهارة، كما في «الأشباه والنظائر»، واليد لغة: اسم من رؤوس الأصابع إلى الإبط، وبه قال الزُّهري في (التيمم) بخلاف (الوضوء)، وقال الأوزاعي: إلى الرسغ، ومذهب الإمام الأعظم والجمهور: إلى المرافق، والغاية داخلة، وقال الإمام زفر: غير داخلة، وما روي: أنه عليه السلام تيمم ومسح على يديه إلى المرفقين، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ههنا: وأيديكم إلى المرافق، وعند مالك وأحمد: الفرض أن يمسح يديه إلى كوعيه فقط، ولكن يسن إلى مرفقيه.
({مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ})؛ أي: ضيق أو مشقة؛ أي: لا يريد تكليف الوضوء، والاغتسال، والتيمم تضييق الأمر عليكم، وإلحاق المشقة بكم، ({وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ})؛ أي: ولكن يريد تطهيركم من الحدث والجنابة، أو من الذنوب، فإن الوضوء مكفر لها، أو تطهيركم بالتراب إذا فقدتم الماء، فمفعول {يُرِيدُ} في الموضعين محذوف، و (اللام) للجحود وهي للتعليل متعلقة به، وقيل: زائدة، فالمفعول المحذوف إما الأمر بمطلق الطهارة سواء كان بالتوضؤ، أو الاغتسال، أو التيمم، وإما الأمر بالتيمم بخصوصه بشهادة ذكر الإرادة متصلًا بذكر الأمر بالتيمم؛ أي: ما يريد بالأمر المذكور تضييقًا عليكم، ولكن يريده؛ لينظفكم وينقيكم عن النجاسة الحكمية الحاصلة بخروج النجس من مخرجه، فإن الحدث والجنابة لا يوجبان نجاسة حقيقية إذا غسل موضع إصابة النجس، فالطهارة إنَّما تنظف من النجاسة الحكمية، ({وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ})؛ أي: ويريد إتمام النعمة عليكم بإباحة التيمم لكم، والتخفيف في حالة السفر والمرض، أو يدخلكم الجنة، فإنه لا تتم نعمته إلا به ({لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ})؛ أي: نعمته، فيزيدها عليكم، وهذه الآية مشتملة على سبعة أمور؛ كلها مثنى طهارتان أصل وبدل، فالأصل ما يكون بالماء، والبدل ما يكون بالصعيد، وما يكون بالماء اثنان مستوعب؛ وهو الغسل، وغير مستوعب؛ وهو الوضوء، ثم الوضوء باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود؛ وهو غسل اليدين والرجلين؛ حيث ذكر كل واحد منهما بكلمة الغاية وهي تفيد التحديد، وغير محدود؛ وهو غسل الوجه ومسح الرأس، فإن شيئًا منهما لم يذكر بكلمة الغاية، وآلة كل واحدة من الطهارتين مائع؛ وهو الماء، وجامد؛ وهو الصعيد، وموجب تلك الطهارتين حدث أصغر أو أكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب، أو الأحداث، وإتمام النعمة؛ فليحفظ.
ولمَّا بين آية المائدة شرع في آية النساء، فقال: (وقوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ})؛ أي: لا تدنوا إلى مواضع الصَّلاة وهي المساجد ({وَأَنْتُمْ سُكَارَى}) الواو للحال؛ أي: حالة السكر، فذكر الصَّلاة، وأراد بها مواضعها؛ كما في قوله تعالى: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]، وهو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ويدل لهذا الإضمار أنه عطف عليه {ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء: 43]، وهي نهي الجنب عن قربان المساجد، فإنه استثنى عابر سبيل، وذلك في حق المساجد؛ لحرمة الصَّلاة، فكان النهي عن هذا نهي عن ذلك، ثم النهي ليس عن غير الصَّلاة؛ فإنها عبادة فلا ينهى عنها، بل هو نهي عن اكتساب السكر الذي يعجزه عن الصَّلاة، ويدل له أيضًا أن الحذف اعتمادًا على دلالة القرينة على المحذوف صحيحٌ شائع، والقرينة ههنا قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا}؛ فإن قرب نفس الصَّلاة حقيقة لا يتصور؛ فلا بد من حمله على المعنى المجازي بخلاف قرب المسجد حقيقة؛ فإنه يصح ويتصور، فيتعين الحمل على مواضع الصَّلاة؛ وهي المساجد، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: إلى أن المراد من لفظ: {سُكَارَى} في الآية: السكر من الخمر وهو نقيض الصحو، وقال الضحاك: ليس المراد منه سكر الخمر، وإنما المراد منه سكر النوم، فإن لفظ السكر يستعمل في سكر النوم أيضًا؛ بناءً على أن السكر بالضم مأخوذ من سكر الماء؛ وهو سد مجراه، يقال: سكِر يسكَر سكرًا؛ مثل: بطِر يبطَر بطرًا، والاسم السُّكر؛ بالضم، والسَّكر؛ بالفتح مصدر سكرت النهر أسكره سكرًا؛ إذا سددته، والسِّكر؛ بالكسر: العزم، فلما كان السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق سُمِّي السكر من الشراب سكرًا؛ لما فيه من انسداد طريق المعرفة بغلبة السرور، وانسداد مجاري الروح المنبسط إلى الحواس الظاهرة بغلبة بخار الشراب عليها؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15]؛ أي: سدت ومنعت النظر، وسكرات الموت أُخِذَت منه، وقوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} [الحج: 2]: هو تشبيه بحال سكر الشراب، وأكثر المفسرين: على أن المراد من لفظ {سُكَارَى}: السكر من الشراب، وهو الأظهر الأشهر عندهم، لا سيما وعليه الجمهور من الصحابة والتابعين؛ فليحفظ.
وفي الآية: دلالة على أن السكران مخاطب؛ لأنَّه قال تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، وإذا كان مخاطبًا؛ عمل طلاقه، ونفذت عقوده، وسبب نزولها: (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صنع طعامًا فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، فأكلوا وسقاهم خمرًا _ وذلك قبل تحريمها _ فحضرت صلاة المغرب، فأمَّهم عبد الرحمن بن عوف)، وفي رواية: (فأمهم رجل من خيارهم)، وفي رواية: (فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فطرح اللاءات)، فنزلت هذه الآية، وقيل: إن المراد بالصَّلاة في هذه الآية نفس الصَّلاة، وإن المعنى: لا تصلوا إذا كنتم سكارى ({حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ})؛ أي: حتى تفهموا معنى الذي تقولونه، فبيَّن سبحانه أن السكر هو أن يصير بحال لا يعلم ما يقول، وحدُّ السكر عند الإمام الأعظم رضي الله عنه: هو ألَّا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمَّد، وتبعهما الشافعي: هو أن يخلط في كلامه، وفي الآية: دلالة على أن في الصَّلاة قولًا فرضًا نهي عن قربانها في حالة السكر؛ مخافة تركه، أو خوفًا من أن يدخل فيها قولًا ليس منها، وفيه: دليل على فساد الصَّلاة بالكلام عمدًا أو خطأً؛ لأنَّ السكران غير عامد، وفيه: دليل على أن الخطأ الفاحش في القراءة مفسد للصلاة، وعلى أن ردة السكران ليست بردة، فإن حديث قراءة بعضهم سورة الكافرون بطرح اللاءات مع أن اعتقادها كفر، ولم يكن كفرًا من ذلك القارئ حيث كان سكران دليل على ما قلنا، وفيه: دليل على أنه إذا جرى الكفر على لسانه خطأ من غير تعمد؛ لم يكفر به؛ لأنَّ ما يجري على لسان السكران خطأ، فعلى ذلك غير السكران وهذا؛ لأنَّ الكفر بالقلب، واللسان معبر عنه، وفي هذه الحالة لا يكون دليلًا على اعتقاد القلب فلم يجعل كفرًا؛ فليحفظ، وقرئ: (سَكارى)؛ بالفتح، و (سَكرى) على أنه جمع؛ كـ (هَلكى)، أو مفرد؛ بمعنى: وأنتم قوم سكرى، و (سُكرى) كـ (حُبلى) على أنها صفة الجماعة، ({وَلاَ جُنُبًا})؛ أي: لا تقربوا المساجد وأنتم مجنبون، والجنب للجمع هنا، وهو مشتق من الجنابة؛ وهي البعد، وسمي الرجل الذي يجب عليه الغسل جنبًا؛ لبعده عن الصَّلاة، والمساجد، والقرآن، والجملة في موضع نصب على الحال؛ أي: لا تقربوها حال كونكم جنبًا ({إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ})؛ أي: إلا مسافرين عاجزين عن الماء، فلكم حينئذٍ أن تصلوا بالتيمم، فيكون هذا الاستثناء دليلًا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصَّلاة عند العجز عن الماء، قيل: إن نفرًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة فيريدون الماء ولا يجدون ممرًّا إلا في المسجد، فرخص لهم، وروي: أنه عليه السلام لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمر فيه وهو جنب إلا لعليٍّ رضي الله عنه؛ لأنَّ بيته كان في المسجد، وقال عليه السلام: «وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض
%ص 254%
ولا جنب»، كذا عند المؤلف، ومسلم، وغيرهما، وبه يعلم أنه لا يجوز دخول المسجد لجنب، وحائض، ونفساء ولو على سبيل المرور إلا إذا كان بيته في فناء المسجد وليس له ممرٌّ إلا في المسجد، وجوز الشافعي عبور المسجد لهن على الإطلاق، والحديث حجة عليه، فإن المساجد لم تُبْنَ إلا للعبادة، والمرور لغير حاجة ضرورية فيه ليس من العبادة في شيء أصلًا، بل هو غير جائز على أنه يُكْرَهُ المرور في المساجد، واتخاذها طريقًا لغير الجنب إجماعًا، فالجنب من باب أولى، فافهم، ويدل لهذا ما قاله عليٌّ، وابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية {وَلاَ جُنُبًا}؛ أي: لا تصلوا في حالة الجنابة إلا عابري سبيل؛ أي: مسافرين غير واجدين للماء ({حَتَّى تَغْتَسِلُوا}) أو تيمموا، فتزول الجنابة، وهذا متعلق بـ {لاَ تَقْرَبُوا}، فهو غاية للنهي عن القربان حال الجنابة، وفي الآية: تنبيه على أن المصلي ينبغي له أن يحترز عمَّا يلهيه، ويغسل قلبه، ويزكِّي نفسه عما يجب تطهيرها عنه، ({وَإِن كُنتُم مَّرْضَى}) جمع مريض؛ كالجرحى جمع جريح، والمراد به مرض يخاف معه إذا استعمل الماء ازداد مرضه، أو امتد، أو غيرهما، وذلك بغلبة الظن إما بتجربة، أو بإخبار طبيب مسلم، كما تقدم، ({أَوْ عَلَى سَفَرٍ})؛ أي: مسافرين وهو أن يكون بعيدًا عن العمران ومواضع الماء، ولما ثبت أن الحكم لم يتعلق بغير المرض والسفر، بل بمعنى فيهما؛ وهو العجز عن استعمال الماء؛ ثبت أن الحكم كذلك في كل موضع يحقق العجز، وثبت به صحة قول الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في إجازة التيمم للجنابة في المصر إذا عدم الماء الحار؛ فليحفظ، ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ})؛ أي: فأحدث، ({أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ})؛ أي: جامعتموهن، قال حبر هذه الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (الملامسة، واللمس، والمس، والمباشرة، والإفضاء، والرفث كنايات عن الوطء) انتهى، ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}) مطلقًا كافيًا، حقيقة أو حكمًا كما قدمناه؛ ({فَتَيَمَّمُوا})؛ أي: اقصدوا، فالقصد شرط فيه؛ لأنَّه النية ({صَعِيدًا})؛ أي: وجه الأرض من تراب، ورمل، وحجر، وغيرها ({طَيِّبًا})؛ أي: طاهرًا؛ ({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}) أي: بالاستيعاب، ({وَأَيْدِيكُمْ})؛ أي: إلى المرافق ({إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43])؛ أي: كثير العفو، وكثير المغفرة؛ حيث سهل وخفف عليكم بإقامة الصعيد الطيب مقام الماء مع كثرة المغفرة لذنوبكم، وقد ذكرنا الآيتين بتمامهما؛ لثبوتهما في «الفرع»، وفي رواية: ({فَتَيَمَّمُوا ... } إلى قوله: {تَشْكُرُونَ})، وفي أخرى: ({وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ... })؛ الآية، وفي أخرى [2]: ({وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ... } إلى قوله: {تَشْكُرُونَ}) هذا في الآية الأولى، وأما الثانية؛ ففي رواية: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ... } إلى قوله: {عَفُوًّا غَفُورًا})، وفي أخرى: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ... }؛ الآية إلى قوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّاغَفُورًا}).
وزعم ابن حجر فقال: (قدم الآية التي في سورة المائدة على الآية التي من سورة النساء لدقيقة؛ وهي أن لفظ التي في المائدة: {فَاطَّهَّرُوا}، ففيها إجمال، ولفظ التي في النساء: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، ففيها تصريح بالاغتسال، وبيان للتطهير المذكور).
قلت: قد ردَّ هذا صاحب «عمدة القاري»: بأنه لا إجمال في قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا}؛ لأنَّ معناه: طهروا أبدانكم كما ذكرنا، وتطهير البدن هو الاغتسال، ولا إجمال لا لغة ولا اصطلاحًا على ما لا يخفى، انتهى.
وزعم العجلوني: أنا ما قاله ابن حجر ظاهر؛ لأنَّ قوله: {فَاطَّهَّرُوا} معناه: أوجدوا الطهارة وهي صادقة بطهارة أعضاء الوضوء، وبطهارة جميع البدن وبكونها بنيَّة أو بغيرها فهي مجملة، وأما قوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}؛ فمدلوله غسل جميع الأعضاء؛ إذ حقيقة الاغتسال جريان الماء على جميع البدن، إذا علمت هذا؛ ظهر لك اندفاع الاعتراض.
قلت: وهذا غير صحيح.
وقوله: (إن ما قاله ... ) إلخ هذا ظاهر له فقط، غير ظاهر لغيره من العلماء، وظهوره مردود عليه، فإن قوله: {فَاطَّهَّرُوا} معناه: طهِّروا أبدانكم من الجنابة، وهو المراد من الآية بالإجماع، وهو دال عليه بخصوصه؛ لأنَّ اللفظ لا يحتمل غيره بخلاف الطهارة، فإنها تعم الصغرى والكبرى، وليست بمرادة هنا، بل المراد الكبرى فقط بدليل صيغة المبالغة وهي تدل على غسل جميع البدن، كما لا يخفى، وهذا هو الاغتسال، فلا إجمال فيها أصلًا.
وقوله: (وبكونها بنيَّة أو بغيرها) هذا لا يقال: إنَّ فيه إجمالًا؛ لأنَّ النيَّة ليست بشرط في الوضوء والغسل عند الجمهور، ومن شرطها استدل بالسنة لا بالكتاب، فلا دخل لها في ذلك، كما لا يخفى على أنه كيف يقال: (مجمل) وقد اقترن بقوله قبله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا}، ولا ريب أن الجنابة تحل جميع البدن فيتعين أن المعنى: طهروا أبدانكم من الجنابة، ولا يجوز، ولا يُفْهَمُ شرعًا ولا لغة أنه يكفي الجنب غسل الأعضاء فقط؛ لأنَّ غسل جميع البدن ثابت إجماعًا شرعًا ولغة، على أنه كيف يكون فيه إجمال وقد قدم سبحانه حكم الطهارة الصغرى في أول الآية؟ وهو يدل صريحًا على أن المراد هنا الطهارة الكبرى، وهو لا يحتمل غيرها أصلًا؛ فليحفظ.
ومن ادَّعى غير ذلك؛ فهو تعصب وتعنت، والحق أحق أن يتبع، وما بعد الحق إلا الضلال؛ فافهم والله تعالى أعلم بالأحوال.
==========
[1] في الأصل: (أدغم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أخر)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (أدغم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (أدغم)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/430)
(1) [باب الوضوء قبل الغسل]
هذا (باب) بيان حكم (الوضوء قبل الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: قبل أن يشرع في الاغتسال هل هو واجب أم سنة أم مستحب؟ كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، ومن قدَّر الاستنان أو الاستحباب؛ لم يصب؛ لأنَّ هذا الوضوء فيه خلاف بين العلماء، كما يأتي؛ فلا تكون الترجمة مع هذا التقدير شاملة؛ لاختلافهم بخلاف عبارة «عمدة القاري»، فإنها شاملة لجميع الأقوال التي للعلماء؛ لأنَّ الفعل إما حكمه الوجوب أو السنية أو الاستحباب؛ فليحفظ.
وهذه الترجمة موجودة في أكثر النسخ ساقطة في بعضها؛ فافهم.
وزعم ابن حجر: بأن الوضوء قبل الغسل؛ أي: استحبابه، قال الشافعي في «الأم»: (فرض الله تعالى الغسل مطلقًا لم يذكر فيه شيئًا يبدأ به قبل شيء، فكيفما جاء به المغتسل؛ أجزأه إذا أتى بغسل جميع بدنه) انتهى.
واعترضه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: إن كان النص مطلقًا ولم يذكر فيه شيئًا؛ يبدأ به، فعائشة رضي الله عنها ذكرت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه كان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة قبل غسله فيكون سنة غير واجب، أما كونه سنة؛ فلفعله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأما كونه غير واجب؛ فلأنَّه يدخل في الغسل؛ كالحائض إذا أجنبت يكفيها غسل واحد، ومنهم من أوجبه إذا كان محدثًا قبل الجنابة، وقال داود: يجب الوضوء والغسل في الجنابة المجردة بأن يأتي الغلام أو البهيمة، أو لف ذَكَرَهُ بخرقة فأنزل، وفي أحد قولي الشافعي: يلزمه الوضوء في الجنابة مع الحدث، وفي قول آخر يقتصر على الغسل، لكن يلزمه أن ينوي الحدث والجنابة في قول يكفي نية الغسل، ومنهم من أوجب الوضوء بعد الغسل، وأنكره علي بن أبي طالب، وابن مسعود رضي الله عنهما، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يتوضأ بعد الغسل)، رواه مسلم والأربعة، انتهى كلامه.
وزعم العجلوني فقال: (إن أراد الاعتراض على الشافعي؛ فلا يرد؛ لأنَّه قال فرض الله الغسل مطلقًا، فلا يضر ورود البيان في السنة، على أن هذا البيان في الحقيقة ليس لفرض الغسل، بل لأمر مندوب يتعلق به، وإن أراد الاعتراض على ابن حجر؛ فكذلك لا يرد؛ لأنَّه قال: والاختيار في الغسل ما روت عائشة رضي الله عنها، وأما تقديره حكم الوضوء وإن كان شاملًا للوجوب كما يقول به داود؛ فهو أكثر فائدة من تقدير استحبابه، لكنه إنَّما يتم إن كان داود يقول بوجوبه قبل الغسل، وإلا؛ فلا، وفي تعبيره بقوله: «إن كان النص مطلقًا» إشعار بالتوقف فيه ولا خفاء في كونه مطلقًا ومجملًا كما قررناه في الآية) انتهى.
قال العبد الضعيف: وهذا ممنوع.
وقوله: (إن أراد الاعتراض على الشافعي) قلت: هو لم يعين الاعتراض على الشافعي، بل قصد بهذا الكلام بيان الحكم لكل أحد من الناس، وقوله: (فلا يرد) بل هو وارد؛ لأنَّ قوله: (فرض الله الغسل) يلزم تقييده بأن يكون النص مطلقًا على أنه قد ورد البيان في السنة له.
وقوله: (فلا يضر ورود البيان في السنة) ممنوع، بل يضر؛ لأنَّه لو لم يرد البيان منها لم يعلم كيفية هذا الغسل.
وقوله: (على أن هذا البيان في الحقيقة ... ) إلخ ممنوع أيضًا؛ لأنَّ الشافعي في أحد قوليه يلزمه الوضوء في الجنابة
%ص 255%
مع الحدث، وإن داود يقول: يجب الوضوء والغسل في الجنابة المجردة، فلا ريب أن هذا يكون لفرض الغسل؛ لأنَّه لو لم يوجد الوضوء لم يصحَّ الغسل في زعمهما.
وقوله: (بل لأمر مندوب) ممنوع، بل هو لأمر مفروض كما علمت، فكأنه جعل الوضوء عندهما من فرض الغسل، إن وجد؛ صح، وإلا؛ فلا، فكيف يقال: فلا يضر البيان؟ وما هو إلا قول بارد.
وقوله: (وإن أراد الاعتراض على ابن حجر) علمت أنه لم يعين بذلك ابن حجر، بل قصد بيان الحكم لكل واحد من الناس.
وقوله: (فكذلك لا يرد ... ) إلخ ممنوع، بل هو وارد، وكلامه مردود عليه.
وقوله: (لأنَّه قال: والاختيار في الغسل ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه عام يحتمل الوجوب، والسنية، والاستحباب، ولم يبيِّن واحدًا منها عند قوله: هذا بل عدل عنه، وقدر في الترجمة الاستحباب وهو قاصر.
وقوله: (وأما تقديره حكم الوضوء ... ) إلخ هذا اعتراف منه بأن عبارة «عمدة القاري» هي الصحيحة؛ لأنَّها شاملة للوجوب القائل به داود.
وقوله: (فهو أكثر فائدة من تقدير استحبابه) قلت: بل هو الفائدة بعينها، ولا فائدة في ذلك؛ لأنَّه قاصر على قول من أقوال العلماء بخلاف تقدير الحكم، فإنه عام يشمل الأحكام كلها.
وقوله: (لكنه ... ) إلخ هذا الاستدراك ممنوع بعد أن علمت أن داود يقول بوجوبه قبل الغسل لا بعده.
وقوله: (وفي تعبيره ... ) إلخ ممنوع، بل ليس فيه إشعار بالتوقف أصلًا، بل فيه قطع ويقين في كونه غير مجمل، وغير مطلق؛ لأنَّ النص لا يحتمل غيره لا سيما والقرينة عينته، بل فيه قرائن التعيين.
وقوله: (كما قررناه في الآية) ممنوع؛ لأنَّه قد علمت رده فيما سبق مفصلًا، فلا تغفل، قال في «منهل الطلاب»: فإن قيل: ما فائدة تقديم الوضوء مع أنه يجب غسل جميع البدن؟ قلت: لأنَّ فيه إعمالًا لنص إيجاب الوضوء، ولنص إيجاب الغسل، واتباعًا للسنة، وحتى تنقَّى أعضاء الوضوء؛ لأنَّها لا تخلو عن أوساخ؛ كالرجلين، فيتعاهدها كما يتعاهد المؤقين، والمنخرين، والفم، والأذنين، فإذا اغتسل؛ فقد ارتفع عنه الحدث الأكبر والأصغر سواء نوى أو لم ينو؛ لأنَّ النية ليست بشرط عند الجمهور، فإن نوى؛ كان أكمل؛ لأنَّها سنة، وعن مالك أنه ينوي به رفع حدث الجنابة في تلك الأعضاء فإن نوى الفضيلة؛ لزمه إعادة غسلها، والمعتمد عند الشافعية: أنه إذا تجردت جنابته عن الحدث الأصغر يكفيه أن ينوي بوضوئه سنة الغسل، وإلا؛ فلا بد من نية رفع الحدث الأصغر، والله تعالى أعلم.
==================
(1/431)
[حديث: أن النبي كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه]
248# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي (قال: حدثنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن هشام) هو ابن عروة، (عن أبيه)؛ هو عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنه، (عن عائشة زوج النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها: (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا اغتسل)؛ أي: أراد أن يشرع في الاغتسال (من الجنابة)؛ يعني: لأجل الجنابة، فـ (من) للسببية، قال في «عمدة القاري»: فإن قلت: لم ذكر في ثلاثة مواضع بلفظ الماضي وهي قولها: (بدأ)، و (فغسل)، و (ثم توضأ)، وذكر البواقي بلفظ المضارع، وهي قوله: (يدخل)، و (فيخلل)، و (يصب)، و (يفيض)؟
قلت: النكتة فيه أن (إذا) إذا كانت شرطية؛ فالماضي بمعنى المستقبل، والكل مستقبل معنًى، وأما الاختلاف في اللفظ؛ فللإشعار بالفرق بما هو خارج من الغسل وما ليس كذلك، وإن كانت ظرفية؛ فما جاء ماضيًا؛ فهو على أصله، وعدل عن الأصل إلى المضارع؛ لاستحضار صورته للسامعين) انتهى؛ (بدأ)؛ بالهمزة في آخر، من البداءة، وهي الفعل الأول (فغسل يديه)؛ أي: ثلاثًا إلى الرسغين قبل أن يدخلهما في الإناء، كما في رواية ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام، وهذا هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويشهد له هذه الرواية، ويحتمل أن هذا الغسل لأجل التنظيف مما به يكره، وقولها: (أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان ... ) إلخ يدل على الملازمة والتكرار، وهو يدل على استحباب غسل يديه قبل الشروع في الوضوء والغسل إلا إذا كان عليهما [1] شيء مما يجب إزالته؛ فحينئذٍ يكون واجبًا، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، وهذا الغسل غير الغسل الذي في الوضوء، فلا تكفيه عن تثليث الوضوء لما في «مسلم» في هذا الحديث: (فيفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه)، ولما عند ابن خزيمة: (يصب من الإناء على يده اليمنى، فيفرغ عليها فيغسلها، ثم يصب على شماله، فيغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة)، ومثله عند أبي داود، والترمذي، فهذا يدل على أنه يغسلهما؛ ليكون متناولًا الماء بآلة طاهرة لمزيد التنظيف، ويؤيده قوله في الحديث: «ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة»، فلا شك في التغاير، وهو ظاهر عبارة «الهداية»، و «التنوير»، وزيادة غسل الفرج فائدة عظيمة؛ لأنَّه مظنة النجاسة، فيفيض الماء عليه بيده اليمنى، ويغسله باليسرى حتى ينقيه وإن لم يكن به نجاسة كما فعله عليه السلام؛ ليطمئن قلبه بوصول الماء إلى الجزء الذي ينضم حال القيام وينفرج حال الجلوس، وبهذا يعلم وجه تسميته فرجًا، وإنما وسطه بين غسل اليدين والوضوء؛ لأنَّه مظنة النجاسة فيطمئن قلبه بزوالها حتى لا تشيع على بدنه ولو كانت قليلة فيتنجس، والمراد بالفرج قُبل الرجل والمرأة، وقد يطلق على الدبر أيضًا، كما في «المغرب» للعلامة المطرزي، وفي «البرجندي»: (والمراد به هنا: القبل والدبر وإن اختص لغة بالقبل)، كذا في «منهل الطلاب»، (ثم يتوضأ) ولأبي ذر: (ثم توضأ) (كما يُتوضَّأ للصلاة) مبني للمفعول أو للفاعل؛ أي: مثل وضوء الصَّلاة فيثلث الغسل، ويأتي بجميع سننه وآدابه كما في «البحر»، قال: (ويمسح رأسه هو الصحيح)، وفي «البدائع»: أنه ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم، وروى الإمام الحسن عن الإمام الأعظم أنه لا يمسحه؛ لأنَّه لا فائدة فيه؛ لأنَّ الإسالة تقوم مقام المسح، لكن المذهب المصحح أنه يمسحه كما نص عليه في «مبسوط شيخ الإسلام»؛ لأنَّه أتمُّ للغسل، وهذا الوضوء قبل الغسل سُنَّة كما دل عليه الحديث، كما دل على أنه لا يؤخر غسل رجليه سواء كان في مستنقع الماء أو لا، وهو ظاهر إطلاق «الكنز»، و «التنوير»، لكن ظاهر حديث ميمونة الآتي يدل على أنه يؤخر غسلهما سواء كان في مستنقع الماء أو لا، وهو ظاهر إطلاق الأكثرين، ووفق بين الحديثين في «البحر»: بأنه إن كان في مستنقع الماء؛ فيؤخر، وإن كان على شيء مرتفع؛ كقبقاب أو كرسي؛ لا يؤخر، وصحَّحه في «المجتبى»، وجزم به في «الهداية»، و «الكافي»، و «المبسوط»، قال في «البحر»: (والظاهر: أن الخلاف في الأولوية لا في الجواز)، كذا في «منهل الطلاب»، وروى هذا الحديث مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام، وقال في آخره: (ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه)، وهذه الزيادة تفرَّد بها أبو معاوية عن هشام دون أصحابه، وقول البيهقي: إنها صحيحة، يرده: أن الحفاظ قد تكلموا في رواية [2] أبي معاوية وعلى فرض صحتها؛ فالمحفوظ في حديث عائشة هو الأول، أو يحمل على أنه أعاد غسلهما؛ لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء، فيوافق ما في حديث الباب، وهذا هو الأفضل عند الشافعي ومالك على المشهور، وقيل: يؤخر إلى ما بعد الفراغ من الغسل؛ لحديث ميمونة، وعن مالك: إن كان في موضع وسخ؛ أخَّرهما، وإلا؛ فلا، وزعم ابن حجر أن الروايات عن عائشة تحمل على أكثر الوضوء، ويستدل برواية أبي معاوية على جواز التفريق في الوضوء.
قلت: وهذا غير صحيح، فإن الوضوء ليس له أكثر ولا أقل شرعًا بخلافه لغة، فكأنه خلط معناه اللغوي بالمعنى الشرعي مع أن المقام هنا والمراد معناه الشرعي، فإن كان الوضوء ناقصًا؛ فلا يقال: إنه توضَّأ، ولا تصح معه الصَّلاة، كما لا يخفى.
وقوله: (ويستدل ... ) إلخ هذا غير ظاهر، بل الظاهر منها أنه يستدل بروايته على عدم
%ص 256%
وجوب المولاة في الوضوء، وعلى أن الوضوء يندرج في ضمن الغسل، ولا يحتاج إلى نية فيرتفع عنه الحدثان، وهذا ظاهر؛ فليحفظ، وهو مذهب الأئمَّة الحنفية.
وزعم ابن بطال أن الإجماع على أنه لا يجب الوضوء مع الغسل.
ورد: بأن جماعة كأبي ثور، وداود، وغيرهما ذهبوا إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث، وما روي عن عليٍّ: أنه كان يتوضأ بعد الغسل؛ فغير ثابت عنه، ولو ثبت؛ فهو محمول على أنه انتقض وضوءه أو شك فيه، وما علمت من سنية غسلها كبقية أعضاء الوضوء ثلاثًا خالف فيه القاضي عياض، كما نقله أبيأبو عبد الله عنه، فقال: لم يأت في شيء من وضوء الجنب ذكر التكرار، وأجيب: بأن قول البخاري كما يتوضأ للصلاة يفيد التكرار ثلاثًا فيهما، وكذا في حديث ميمونة الآتي، وقدقال بعض شيوخنا: التكرار في الغسل لا فضيلة فيه، ولا يلزم من عدم الفضيلة في الغسل عدمها في الوضوء، ومنهم من كان يفتي بالتكرار، ومنهم من كان يفتي بعدمه، انتهى كلامه.
(ثم يُدخِل)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أصابعه في الماء) ففيه جواز إدخال الأصابع في الماء، ولا يصير الماء مستعملًا؛ لأنَّ الطهارة لا تتجزأ على الصحيح؛ فافهم، (فيخلل بها) أي: بأصابعه التي أدخلها في الماء (أصول شَعَره)؛ بالتحريك؛ أي: شعر رأسه، وفي رواية: (أصول الشعر)، ويدل على أن المراد شعر رأسه: رواية حمَّاد بن سَلَمَة عن هشام: (يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك)، رواه البيهقي، وعند الترمذي، والنسائي: (ثم يشرب شعره الماء)؛ أي: شعر رأسه كما مر، وهذا يدل على أنه يفترض عليه غسل داخل المضفور من شعره، ويفترض عليه أيضًا نقض ضفائره، ولو كان علويًّا أو تركيًّا على الصحيح لعدم الضرورة، ولأنَّه لا يكون التخليل إلا بهذا، ولأنَّه ممكن حلقه بخلاف المرأة، فإنها منهية عنه بالحديث، وتصير مثلة، فلا يمكنها حلقه شرعًا وعرفًا، هذا مذهب الإمام الأعظم، وفي رواية عنه: لا يجب نقض ضفائر العلوي والتركي نظرًا للعادة، والصحيح أنه ينقضها مطلقًا كما علمت، وفي «شرح المنية»: ويفترض عليه إيصال الماء إلى ما استرسل من شعره هو الصحيح، ومذهب المالكية أنه يجب تخليل شعر رأسه؛ لقوله عليه السلام: «خللوا الشعر، ونقوا البشرة؛ فإن تحت كل شعرة جنابة»، وهو عام، فيشمل جميع ما تقدم، فليحفظ، كذا في «منهل الطلاب»، وزعم الشافعية والحنابلة: أن التخليل غير واجب إلا إن كان ملبدًا يتوقف إيصال الماء إلى باطنه، والحديث حجة عليهم؛ فافهم، ويدل هذا أيضًا على أنه يفترض غسل أصول اللحية، ففي «الفتاوى الهندية»: ويجب على الرجل إيصال الماء إلى أثناء اللحية كما يجب إلى أصولها، وهذا مستفاد من الحديث، فتخليل الشعر فرض في الغسل، سنة في الوضوء، وفي اللحية قولان للمالكية، فروى ابن القاسم: عدم الوجوب، ونقل ابن بطال: الوجوب، وقال القاضي عياض: واحتج بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل، إما لعموم قوله عليه السلام «أصول الشعر»، وإما بالقياس على شعر الرأس.
قلت: وهو ظاهر، فإن قوله: (أصول الشعر) يشمل الرأس واللحية، فيفترض غسل شعرها؛ لهذا العموم.
فإن قلت: رواية حمَّاد بينت أن التخليل في شعر الرأس دون اللحية.
قلت: يفترض غسل اللحية بالقياس على غسل شعر الرأس؛ لأنَّه المتفق في الروايات على أن رواية حمَّاد تحتمل أن الراوي رآه حين كان يخلل شعر رأسه، ولم يره حين خلل شعر لحيته، وكلٌّ روى بما شاهد؛ فافهم.
(ثم يصبُّ) أي: الماء (على رأسه ثلاث غُرف)؛ بضمِّ الغين المعجمة، جمع غُرفة؛ بالضم أيضًا؛ وهي قدر ما يغرف من الماء بالكف، وفي بعض النسخ: (غرفات)، والأول رواية الكشميهني، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ مميز الثلاثة ينبغي أن يكون من جموع القلة، ولكن ذكر وجه الغرف أنَّ جمع الكثرة يقوم مقام جمع القلة، وبالعكس، وعند الكوفيين: (فعل) بضمِّ الفاء وكسرها من باب جموع القلة؛ كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} [هود: 13]، وقوله تعالى: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، كذا في «عمدة القاري»، وقوله: (بيديه)؛ بالتثنية، وفي بعض النسخ بالإفراد، متعلق بـ: (يصب)، وعند أبي داود من حديث رجل من سواءة عن عائشة: (أنه عليه السلام كان يغسل رأسه بالخطمي وهو جنب يجتزئ بذلك، ولا يصب عليه الماء)، وفي لفظ: (حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة، أو أنقى البشرة؛ أفرغ على رأسه ثلاثًا، وإذا فضلت فضلة؛ صبَّها عليه)، وعند الطوسي مصحَّحًا: (ثم يشرب شعره الماء، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات)، وفي لفظ: (ثم غسل مرافقه، وأفاض عليه، فإذا أنقاها؛ أهوى إلى حائط، ثم يستقبل الوضوء، ثم يفيض الماء على رأسه)، وعند ابن ماجه: (كان يفيض على كفيه ثلاث مرات، وأما نحن؛ فنغسل رؤوسنا خمس مرار من أجل الظفر)، (ثم يفيض)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: يسيل من الإفاضة؛ وهي الإسالة (على جلده كله)؛ أي: على جميع بدنه، وهذا التأكيد بلفظ الكل يدل على أنه عمَّم جميع بدنه بالغسل، فالمراد بقوله: (جلده)؛ أي: بدنه لا جسده، كما زعمه العجلوني، كما في «القاموس» (البَدَنُ؛ محركة: من الجسد ما سوى الرأس) انتهى، فكأنه لم يفرق بين الجسد والبدن؛ فافهم.
وقولها: (ثم يفيض ... ) إلخ لا يفهم منه الدلك؛ لأنَّ الإفاضة بمعنى: الإسالة، فليس بفرض، بل هو مستحب عند الإمام الأعظم، والشافعي، وأحمد، وبعض المالكية. وخالف مالك، والمزني فذهب إلى وجوبه بالقياس على الوضوء، وقال ابن بطال: (هذا لازم)، ورده في «عمدة القاري»: (بأنه ليس بلازم؛ إذ لا نسلم وجوب الدلك في الوضوء) انتهى؛ أي: فإن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطلت دعوى اللزوم، وقال الإمام أبو يوسف: الدلك في الغسل فرض، وفي الوضوء سنة؛ لقوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ بصيغة المبالغة، وهي تقتضي الدلك، وأجيب: بأنها تقتضي التعميم لا الدلك.
وقال المازري: (لا حجة في قوله: «ثم يفيض»؛ لأنَّ أفاض بمعنى: غسل، والخلاف في الغسل قائم).
قال ابن حجر: (ولا يخفى ما فيه؛ فافهم)؛ أي: لأنَّ أفاض بمعنى: سال، يقال: فاض الماء: سال، وأفاض الماء على بدنه؛ أي: أساله؛ أي: صبه؛ فليحفظ.
ففي الحديث: استحباب التثليث في الغسل، وهو مذهب الإمام الأعظم، والجمهور، وعند الشافعي: استحبابه في مسح الرأس أيضًا.
وقال القرطبي: لا يستحب التثليث في الغسل؛ لأنَّه لا يفهم من هذه الغرفات الثلاث أنه غسل رأسه ثلاثًا؛ لأنَّ التكرار في الغسل غير مشروع؛ لما في ذلك من المشقة، وإنما كان ذلك العدد؛ لأنَّه بدأ بجانب رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على وسط رأسه، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلابة، فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه)، رواه المؤلف، وأبو داود على ما يجيء، وقال النووي: لا نعلم في استحباب التثليث في الغسل خلافًا إلا ما انفرد به الماوردي، فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل، وقال ابن حجر: وكذا قال به أبو علي السنجي في «شرح الفروع»، وكذا القرطبي، انتهى.
قلت: مراد النووي بقوله: (لا نعلم فيه خلافًا)؛ أي: من أصحابه الشافعية، وإلا؛ فالمرجح عند الماليكة: أنه لا يثلث إلا غسل الرأس؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (عليها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (روايته)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (عليها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (عليها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/432)
[حديث: توضأ رسول الله وضوءه للصلاة غير رجليه وغسل فرجه]
249# وبه قال: (حدثنا محمَّد بن يوسف)؛ هو الفِريابي؛ بكسر الفاء؛ لكثرة ملازمته للثوري بخلاف البيكندي (قال: حدثنا سفيان)؛ هو الثوري، وجزم الكرماني: بأن الأول البيكندي، والثاني ابن عيينة، وقال في «عمدة القاري»: وفيه سفيان غير منسوب، وقالت جماعة من الشراح وغيرهم: إنه سفيان الثوري، وقال الحافظ المزي في «الأطراف»: حديث غسل النبيِّ عليه السلام من الجنابة منهم من طوله، ومنهم من اختصره، ثم وضع صورة (خ) بالأحمر؛ يعني: أخرجه البخاري في (الطهارة) عن محمَّد بن يوسف، وعن عبدان عن ابن المبارك؛ كلاهما عن سفيان الثوري، وعن الحميدي، عن سفيان بن عيينة في روايته عن عبدان، عن ابن المبارك، ولم يميز الكرماني ذلك، فخلط، انتهى.
وأما محمَّد بن يوسف؛ فإنه
%ص 257%
فهو الفريابي؛ لأنَّه كثير الملازمة للثوري، فدل على أنه هو؛ فافهم، (عن الأعمش) هو سليمان بن مهران، (عن سالم بن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، رافع، (عن كُريب) بضمِّ الكاف بالتصغير، مولى ابن عباس، (عن ابن عباس)؛ عبد الله رضي الله عنهما، (عن مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، بنت الحارث (زوج النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وخالة ابن عباس رضي الله عنهم (قالت: توضأ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وضوءه للصلاة)؛ أي: مثل وضوء الصَّلاة في سننه وآدابه، فيسن الابتداء بالنية؛ وهي أن ينوي رفع الحدث واستباحة الصَّلاة، أو ما لا يحل إلا بالطهارة، وتسن التسمية في ابتدائه، فلو نسيها فتذكرها في خلاله؛ لا يأتي بها، لما في «مراقي الفلاح»، ويكره الدعاء؛ لأنَّه في مصبِّ الأقذار، انتهى.
قلت: والتسمية أولى بذلك، كذا في «منهل الطلاب» إلا أنه لا يستقبل القبلة؛ لأنَّه يكون مع كشف العورة غالبًا، فالمراد بهذا الوضوء: الشرعي؛ احترازًا عن اللغوي الذي هو غسل اليدين فقط، (غير رجليه)؛ أي: إلا رجليه، فأخرهما عن الغسل في وضوء الغسل؛ ليحصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء، كما قاله القرطبي، ففيه عدم وجوب الموالاة في الوضوء، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور.
قال في «عمدة القاري»: (فيه: التصريح بتأخير الرجلين في وضوء الغسل، وبه احتج أصحابنا على أن المغتسل إذا كان توضأ أولًا؛ يؤخر غسل رجليه، لكن أكثر أصحابنا حملوه على أنهما إن كانتا في مستجمع الماء؛ يؤخرهما، وإن لم يكونا فيه؛ لا يؤخرهما، وكل ما جاء من الروايات التي فيها تأخير الرجلين؛ فمحمول على ما قلنا، وهذا هو التوفيق بين الروايات التي في بعضها تأخير الرجلين صريحًا لا مثل ما قاله بعضهم، ويمكن الجمع بأن تحمل رواية عائشة على المجاز، وإما على حالة أخرى)، قلت: هذا خباط؛ لأنَّ المجاز لا يصار إليه إلا عند الضرورة، وما الداعي لها في رواية عائشة حتى يحمل كلامها على المجاز؟ وما الصواب الذي يرجع إليه إلا ما قلنا، انتهى؛ أي: من أنه إن كان في مستنقع الماء؛ يؤخر غسلهما، وإلا؛ فلا، وبه جزم في «الهداية»، و «المبسوط»، و «الكافي»، وقال في «المجتبى»: (إنه الصحيح)، ومراده بقوله: (بعضهم): هو ابن حجر العسقلاني، فإنه قد ذكر هذا الخباط، وقد بينه صاحب «إيضاح المرام»؛ فافهم.
وزعم الكرماني أن التوفيق بين ما هنا وبين رواية عائشة، وهي زيادة ثقة مقبولة، فيحمل المطلق على المقيد، فرواية عائشة محمولة على أن المراد بوضوء الصَّلاة: أكثره؛ وهو ما سوى الرجلين، ويحتمل أن يقال: إنهما كانا في وقتين مختلفين، فلا منافاة بينهما.
ورده في «عمدة القاري»: بأنا قد ذكرنا وجه التوفيق بين الروايات، وأن ما ذكره هو الحقيقة، حاصل ما ذكرنا: من أنه إن كانتا في مستجمع الماء؛ يؤخرهما، وإلا؛ فلا.
قلت: على أن قوله: (إن المراد بوضوء الصَّلاة أكثره) منقوض، فإن الوضوء لا يقال: إن له أكثر أو أقل، فإن ميمونة رضي الله عنها قد سمته وضوء الصَّلاة، ولا ريب أن وضوء الصَّلاة هو الوضوء الكامل، وقد أتى به غير أنه أخَّر الرجلين عن محلهما، فكل منهما وضوء كامل، فليس فيه حمل المطلق على المقيد.
وقوله: (ويحتمل ... ) إلخ هو محل وجه التوفيق، لكن ما ذكره صاحب «عمدة القاري» في وجه التوفيق هو الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وفي الأفضل عند الشافعي قولان، قال النووي: أصحهما وأشهرهما أنه يكمل وضوءه؛ لأنَّ أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك.
قلت: وهذا ليس بشيء، فإن رواية عائشة صريحة في أنه كان يكمل الوضوء، أما رواية ميمونة؛ فإنها صريحة بأنه يؤخِّر غسل الرجلين، وكذا رواية أبي معاوية السابقة، وفي رواية أحمد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، ولفظه: (كان إذا اغتسل من الجنابة؛ يبدأ فيغسل يديه ... )؛ الحديث، وفي آخره: (يتنحى فيغسل رجليه)، فقد اختلفت الروايات عنهما، والتوفيق بينهما: بأن يحمل على أنه إن كان في مستجمع الماء؛ يؤخِّر، وإن كان على مكان مرتفع؛ لا يؤخر؛ جمعًا بين الروايات، وهذا هو الصواب، (وغسل)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (فرجه)؛ أي: ذكره، فدل هذا على صحة إطلاق الفرج على الذكر، وذلك بأن يفيض الماء عليه بيده اليمنى، ويغسله باليسرى حتى ينقِّيه وإن لم يكن به نجاسة؛ ليطمئن قلبه بزوالها، والمراد به: قُبُل الرجل والمرأة، وقد يطلق على الدبر أيضًا كما في «المغرب» للمطرزي، لكن قال البرجندي: والمراد به هنا: القبل والدبر وإن اختص لغة بالقبل، وإنما وسطه بين الوضوء غير رجليه وبين غسل الأذى؛ أي: النجس؛ لأنَّه مظنة النجاسة؛ لخروجها منه، فيلحق باللاحق في صورة، وبالسابق في أخرى، ومن هنا ظهر نكتة الإتيان بـ (الواو) والعدول عن (ثم)؛ فافهم.
وظاهره كعبارة القدوري وغيره: أن غسل فرجه هو الاستنجاء، فلا يسن أن يأتي به قبل الوضوء، كذا في «منهل الطلاب».
وزعم الكرماني فقال: (إن قلت: غسل الفرج مقدم على التوضؤ، فلِمَ أخَّره؟ قلت: لا يجب التقديم، أو الواو ليست للترتيب، أو أنه للحال).
ورده في «عمدة القاري» فقال: (قلت: كيف يقول لا يجب التقديم، وهذا ليس بشيء؟).
وقوله: (أو الواو ليست للترتيب) حجة عليه؛ لأنَّهم يدعون أن الواو في الأصل للترتيب، ولم يقل به أحد ممن يعتمد عليه.
وقوله: (أو أنه للحال) غير سديد، ولا موجه؛ لأنَّه كيف يتوضأ في حالة غسل فرجه؟ انتهى.
قلت: وعلى هذا فقوله: (وغسل) مصدر قطعًا، لا فعل، كما زعمه العجلوني تبعًا للكرماني؛ حيث جعل (الواو) للحال، وهذا ليس بشيء كما علمت؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر قال: (فيه تقديم وتأخير؛ لأنَّ غسل الفرج كان قبل الوضوء؛ إذ (الواو) لا تقتضي الترتيب).
ورده صاحب «عمدة القاري»: بأن هذا تعسف وهو أيضًا حجة عليه، وهو أن ما ذكره خلاف الأصل الذي استدلوا به، واعتمدوا عليه، والصواب: أن (الواو) للجمع في أصل الوضع؛ والمعنى: أنه جمع بين الوضوء وغسل الفرج، وهو وإن كان لا يقتضي تقديم أحدهما على الآخر على التعيين؛ لكن ظاهره أنه غسل فرجه بعدما توضأ، وما رواه المؤلف من طريق ابن المبارك عن الثوري من أنه ذكر أولًا غسل اليدين، ثم غسل الفرج، ثم مسح يده على الحائط، ثم الوضوء غير رجليه، وذكره بـ (ثم) الدالة على الترتيب؛ محمول على أنهما كانا في وقتين مختلفين، فتارة كان يقدم غسل الفرج على الوضوء، وتارة كان يؤخره على الوضوء، على أنه أكثر الروايات تقديم الوضوء على غسل الفرج، كما هو ظاهر حديث ميمونة، ففيه: دليل على أن مس الفرج ليس بناقض للوضوء، وعلى أن الترتيب في الوضوء ليس بفرض، كما لا يخفى.
(و) غسل عليه السلام (ما) أي: الذي (أصابه من الأَذَى)؛ بفتح الهمزة، وتخفيف الذال المعجمة المفتوحة؛ أي: النجس فهو ضد النظافة لغة، يقال: تأذيت من الشيء؛ إذا استقذرته لنجاسته، فالمراد به النجس، ولهذا ترجم المؤلف في (الصَّلاة): (باب المرأة تطرح عن المصلي شيئًا من الأذى) والمطروح: هو سلاجزور بني فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها، ولا ريب أن الدم نجس بالإجماع، فالذي أصابه عليه السلام هو المني ورطوبة الفرج، فلا ريب في كونهما نجسان؛ لأنَّه لو لم يكونا نجسين لم يغسلهما، فالغسل دليل النجاسة، كما لا يخفى، وذلك حتى لاتشيع على بدنه عند صب الماء عليه، فيتنجس.
وزعم ابن حجر فقال: (قوله: «وما أصابه من الأذى» ليس بظاهر في النجاسة)، ورده في «عمدة القاري»، فقال: (قلت: هذه مكابرة) انتهى.
قلت: أي: وتعصب، وإنما قاله ترويجًا لما ذهب إليه إمامه.
واعترض العجلوني فزعم: أن الأذى لغة: المكروه، وهو صادق بالطاهر، والنجس من غير ظهور في النجس، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، فإن الأذى لغة: ضد النظافة، وهو النجس، ولا ريب أنه مكروه شرعًا وطبعًا، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، والمراد بـ {المَحِيضِ}: الحيض؛ وهو اللوث الخارج من الرحم، فإنه أذًى مستقذر مؤذٍ، من يقربه؛ نفر منه، فقد سمى الله تعالى دم الحيض {أَذًى}، وهو نجس بالإجماع، وكذلك ما نحن فيه، فإنه نجس، فسماه عليه السلام كما سماه ربه تعالى {أَذًى}؛ فافهم.
وقوله: (وهو صادق ... ) إلخ؛ أي: من حيث اللغة، أما من حيث الشرع؛ فالمكروه هو الذي تستقذره النفس
%ص 258%
وتعافه، ولا يوصف بذلك إلا النجس.
وقوله: (من غير ظهور في النجس) هذا قيد من عنده، فأي دليل دله على ظهوره فيه؟ وما هي إلا دعوى باطلة. على أن البخاري سمَّى الدم (أذًى) فيما يأتي، وهو أعلم باللغة من غيره بلا ريب، ويدل لهذا ما في «مسلم»: (فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح يده بالحائط أو الأرض)، فإنه لو لم يكن نجسًا؛ لما مسح يده بالحائط أو الأرض، وذلك حتى يزول أثر النجس المستقذر، وفي لفظ: (ثم غسل فرجه، ثم مال بيده إلى الأرض فمسحها بالتراب، ثم غسلها)، وهذا كله يدل على أن المراد بالأذى: النجس؛ كالمني ورطوبة الفرج، فإنهما نجسان، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، خلافًا لمن خالف؛ منهم: ابن حجر، فزعم وقال: وأبعد من استدل به على نجاسة المني، أو على نجاسة رطوبة الفرج.
ورده في «عمدة القاري»، فقال: (قلت: هذا القائل هو الذي أبعد؛ لأنَّ من استدل بنجاسة المني ما اكتفى بهذا في احتجاجه، وقد ذكرناه فيما مضى مستقصًى) انتهى.
على أن هذه الروايات هنا تدل ظاهرًا على نجاستهما، لا سيما الأحاديث السابقة في غسل المني؛ فإنها صريحة في النجاسة، كما لا يخفى على أولي الألباب، وقدمنا الكلام على هذا بما يشفي العليل، ويقمع المتعصب الغليل، والله أعلم.
ففيه: استحباب مسح اليد بالتراب من الحائط أو الأرض حتى يزول أثر النجاسة وكراهتها، وهذا بالنسبة إلينا، أما في حقه عليه السلام؛ ففضلاته كلها طاهرة أطيب من المسك عندنا، وهو قول العلماء خلافًا لمن شذ وزعم من الشافعية فخبط وقال، ولا يدري ما يقول.
(ثم أفاض) أي: صب النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (عليه الماء) فالإفاضة: بمعنى الصب؛ سنة، فلو لم يصبَّ؛ لم يكن الغسل مسنونًا وإن زال به الحدث، كما صرح به في «الدرر»، وأتى بـ (ثَمَّ)؛ للإشارة إلى الترتيب، وإنما لم يقل: ثم تمضمض واستنشق، للإشارة إلى أن فعلهما في الوضوء كاف عن فعلهما في الغسل، فالسنة نابت مناب الفرض، ولو انغمس المغتسل في الماء الجاري أو الحوض الكبير، أو مكث تحت المطر بعد المضمضة والاستنشاق قدر الوضوء والغسل؛ فقد أكمل السنة، لكن يشترط في الحوض والمطر التحريك، وكذا لو للوضوء فقط؛ فيحصل كمال السُّنَّة، كما في «الإمداد»، و «الدر»؛ أي: من التثليث، والترتيب، والدلك، والوضوء، وأما الماء الجاري؛ فيحصل ذلك من دون مكث ولا تحرك؛ لأنَّ الجريان قائم مقام الصبِّ، وأما إذا انغمس في الماء الراكد؛ فلا بد من التحريك أو الانتقال؛ لأنَّه قائم مقام الصبِّ، وقدمنا أنه لو لم يصبَّ؛ لم يكن الغسل مسنونًا، كذا في «منهل الطلاب»، (ثم) بعد أن عمم جميع بشرته، وشعره، ومعاطف بدنه بحيث لم يبق منه شيء لم يصبه الماء حتى تحت خاتمه الضيق، وكذا سرته؛ (نحَّى)؛ بالحاء المهملة المشددة، قبلها نون؛ أي: باعد (رجليه) عن ذلك المكان الذي اغتسل فيه إلى مكان آخر؛ لاجتماع الماء المستعمل فيه، (فغسلهما)؛ أي: الرجلين في المكان الآخر.
وزعم العجلوني: أن قوله: (نحَّى)؛ أي: أخَّر.
قلت: وهو فاسد، وليس المعنى عليه؛ لأنَّ التنحِّي: التباعد عن المكان الأول إلى مكان آخر، على أن [1] غسل الرجلين مؤخر في الفعل؛ لأنَّه لم يبق عليه إلا غسلهما؛ فافهم.
وكيفية غسلهما: أن يأخذ الماء بيمينه، ويفيض على مقدم رجله اليمنى، ويدلكها بيساره فيغسلها ثلاثًا، ثم يفيض الماء على مقدم رجله اليسرى، ويدلكها بيساره، ويغسلها ثلاثًا، وهذا الغسل مستحب؛ ليكون البداءة والختم بأعضاء الوضوء، (هذا) أي: ما ذكر (غُسله)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: غسل النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (من الجنابة) هكذا في رواية الكشميهني، وهي على الأصل، وعند غيره: (هذه)؛ بالتأنيث، فتكون الإشارة إلى الأفعال المذكورة صفة (غُسله) عليه السلام؛ بضمِّ الغين.
قال في «عمدة القاري»: قال الإسماعيلي: قد تبين أن قوله: (من الجنابة) ليس من قول ميمونة، ولا من قول ابن عباس، وإنما هو من قول سالم بن أبي الجعد، ومما ذكره البخاري في حديث ميمونة على ما يأتي: (ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكًا شديدًا، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه)، وفي أخرى: (ثم أُتِيَ بالمنديل فرده)، وفي رواية: (وجعل يقول بالماء هكذا ينفضه)، وفي لفظ: (فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثًا)، وفي لفظ: (ثم أفرغ بيمينه على شماله، فغسل مذاكيره)، وفيه: (ثم غسل رأسه ثلاثًا)، وفي لفظ: (فغسل كفيه مرتين أو ثلاثًا)، وعند ابن خزيمة: (ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه، فأُتِي بمنديل، فأبى أن يقبله)، وعند أبي عليٍّ الطوسي مصححًا: (فأتيته بثوب، فقال بيده هكذا)، وعند الدارقطني: (ثم غسل سائر جسده قبل كفيه)، وعند أبي محمَّد الدارمي: (فأعطيته ملحفة، فأبى)، قال أبو محمَّد: (هذا أحب إلي من حديث عائشة)، وعند ابن ماجه: (فأكفأ الإناء بشماله على يمينه، فغسل كفيه ثلاثًا، ثم أفاض على فرجه، ثم دلك يده بالأرض، ثم تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا، ثم أفاض على سائر جسده، ثم تنحَّى، فغسل رجليه).
قال صاحب «عمدة القاري»: (وفي هذه الروايات استحباب الإفراغ باليمين على الشمال للمغترف من الماء، وفيها: مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة) انتهى.
قلت: فإن المضمضة والاستنشاق فرضان في الغسل، سنتان في الوضوء، وهو ظاهر من الحديث.
وزعم ابن حجر فقال: (وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما، وتعقب بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب إلا إذا كان بيانًا لمجمل تعلَّق به الوجوب).
ورده صاحب «عمدة القاري»: (بأنه ليس الأمر هنا كذلك؛ لأنَّهم إنَّما أوجبوهما في الغسل بالنص، وهو قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ أي: طهروا أبدانكم، وهذا يشملهما وحققناه فيما مضى) انتهى.
قلت: وتطهير البدن يشمل كل شيء لا حرج في تطهيره من البدن؛ كالمضمضة والاستنشاق، وكذا غسل السرة، وتحت الخاتم الضيق، والأُذُنِ، والقرط، وأما غسل داخل القلفة؛ فإن أمكن فسخها بلا مشقة؛ يجب، وإلا؛ فلا للحرج، كذا في «منهل الطلاب».
وزعم العجلوني أنه يلزم الحنفية القول بوجوبهما في الوضوء؛ لأنَّه عليه السلام لم يواظب على فعلهما فيه، بل فعلهما تارة، وتركهما أخرى، فدل ذلك على السنيَّة، وأما هما في الغسل؛ فواجبان بالنص، ولأنَّه عليه السلام قد واظب على فعلهما، ولم يُنقَل عنه تركهما، وعند المؤلف من حديث ميمونة، كما يأتي قد صرح بهما، ولفظها: (صببت للنبيِّ عليه السلام ... ) إلى أن قالت: (ثم مضمض واستنشق)، فدل على المواظبة، وهي تدل على الوجوب، على أن الروايات السابقة تدل على أنه عليه السلام كان يواظب على الوضوء، ولا ريب أن فيه المضمضة والاستنشاق، فإذا احتمل أنه لم يذكر في غُسله أنه لم يفعلهما؛ يكون قد اكتفى بفعلهما في الوضوء عن فعلهما في الغسل، لا يقال: إن الوضوء سنة وهما من توابعه؛ لأنا نقول: هما سنتان من سنن الوضوء، ولما لم يأت بهما في الغسل _والوضوء من سنن الغسل_؛ فبعد إتيانه بهما في الوضوء اتصفتا بالفرضية للغسل، فإن السنة تنوب عن الفرض كما قدمنا، كما لو قرأ في صلاته القرآن كله، فبعد قراءته اتصف جميعه بالفرضية؛ فافهم، ولا تغتر بهذه العصبية الزائدة التي جاءت
%ص 259%
من عسقلان وعجلون؛ فافهم.
وفي هذه الروايات: دليل على استحباب التستُّر في الغسل ولو كان في البيت، فلو تجرَّد وحده للاغتسال؛ يكره، وقيل: إن أمن دخول أحد عليه؛ لا يكره، كما لا يكره تجرده للغسل، وتجرد زوجته للجماع في بيت مقداره خمسة أذرع أو عشرة، وقيل: لا يكره أن يغتسل متجردًا في الماء الجاري أو غيره في الخلوة، وفي «مسائل أبي الفرج»: (لا بأس به) انتهى.
وفيها: جواز الاستعانة بإحضار الماء للغسل أو الوضوء، وفيها: خدمة الزوجات للأزواج، وفيها: الصب باليمين على الشمال.
وفيها: كراهة التنشف بالمنديل ونحوه، قال الإمام الأعظم قدس الله روحه: لا خلاف في أنه لا يحرم تنشيف الماء عن أعضاء الوضوء والغسل، ولكن هل يكره، فيه خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، قال في «شرح المجمع»: (قيل: يكره حمل المنديل لمسح العرق؛ لأنَّه بدعة، والصحيح أنه لا يكره؛ لأنَّه يدفع الوسخ، وقيده بعضهم بعدم التكبُّر، فإن فعله للتكبُّر؛ كره، ومن فعله لحاجة؛ لم يكره)، قال في «البحر»: (والمنقول في «معراج الدراية» وغيرها: أنه لا بأس بالتمسُّح بالمنديل للمتوضئ والمغتسل إلا أنه ينبغي ألَّا يبالغ ويستقصي فيبقى أثر الوضوء على أعضائه)، ولم أر من صرَّح باستحبابه إلا صاحب «المنية»، فقال: (ويستحب أن يتمسَّح بمنديل بعد الغسل) انتهى، وفي «الفتاوى التاترخانية»: (لا بأس للمتوضئ والمغتسل أن يتمسح بالمنديل، وكره ذلك بعضهم للمتوضئ دون المغتسل) انتهى.
والصحيح: أنه يتمسَّح، ولكن لا يبالغ فيبقى أثر الوضوء، والصحيح: أنه لا يكره استعمال الخرقة؛ لتمسُّح العرق، ولإلقاء النخامة والمخاط، كما في «الكافي»، و «شرح الوقاية»، وغيرهما، ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها: (كان للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم خرقة يتنشف بها بعد الوضوء)، رواه الترمذي، وضعَّفه، وصحَّحه الحاكم، وحديث معاذ رضي الله عنه: (كان النبيُّ عليه السلام إذا توضأ؛ مسح وجهه بطرف ثوبه)، رواه الترمذي، وضعفه، وحديث أبي بكر: (كانت للنبيِّ عليه السلام خرقة يتنشف بها بعد الوضوء)، رواه البيهقي، وقال: إسناده غير قوي، وحديث أبي مريم عن رجل من الصحابة: (أنه عليه السلام كان له منديل أو خرقة يمسح بهما وجهه إذا توضأ)، رواه النسائي في «الكنى» بسند صحيح، وحديث أم هانئ عند الشيخين: (قام رسول الله عليه السلام إلى غُسله فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبه فالتحف به)، وهذا ظاهر في التنشُّف، فيحمل حديث ميمونة رضي الله عنها في رده عليه السلام بأنه قد رأى شيئًا فيه فكرهه، أو أنه قد حان وقت الصَّلاة، فاستعجل إلى القيام للصلاة، أو فعله عليه [السلام] تواضعًا، ويحتمل أن الثوب كان من حرير؛ لأنَّ الخرقة من الحرير يحرم استعمالها للرجال دون النساء إذا كانت من حرير خالص؛ كالقطن، والكتان المطرز بالحرير، أو بالفضة، أو بالذهب قدر أربعة أصابع، ويحمل حديث عائشة وغيره على الضرورة وشدة البرد؛ ليزيل برد الماء عن أعضائه، هذا وقد أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان، والحسن بن علي، وأنس، وبشير بن أبي مسعود، ورخص فيه الحسن، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، والضحاك، وكان أهل الكوفة، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق لا يرون به بأسًا، وكرهه ابن أبي ليلى، والنخعي، وابن المسيب، ومُجَاهِد، وأبو العالية.
وقال ابن دقيق العيد: (نفضُ الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشف؛ لأنَّ كلًّا منهما إزالة)، ورده صاحب «عمدة القاري»: (بأنه ليس فيه دليل على ذلك؛ لأنَّ التنشيف من عادة المتكبرين، ورده عليه السلام الثوب؛ لأجل التواضع مخالفة لهم) انتهى.
قلت: فما يفعله المتعصبون في زماننا من تعليق الخرقة أو المنديل بعد التمسح به في الأواسط أو على كتفه مكروه؛ لأنَّ فيه الزينة، والتكبر، وإظهار أنه قد صلى في المسجد الجامع، وأنه من الورعين الصالحين، فلسان حاله يقول وهو مارٌّ على أرباب الدكاكين: إنهم مقصرون، والحال يحتمل أنه يستحق حبلًا، وطبلًا، وشيحًا، وكبريتًا، وتنحِّيًا إلى القهقرى؛ فافهم.
وزعم ابن حجر واستدل بالحديث على طهارة الماء المتقاطر من أعضاء المتطهر، خلافًا لمن غلا من الحنفية، فقال بنجاسته.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا القائل هو الذي أتى بالغلوِّ حيث لم يدرك حقيقة مذهب الأئمَّة الحنفية؛ لأنَّ الذي عليه الفتوى في مذهبهم: أن الماء المستعمل طاهر حتى يجوز شربه واستعماله في الطبخ والعجن، والذي ذهب إلى نجاسته لم يقل بأنه نجس في حالة التقاطر، وإنما يكون ذلك إذا سال من أعضاء المتطهر، واجتمع في مكان) انتهى.
قلت: على أن القول بالنجاسة ضعيف، والمعتمد الطهارة، وهذا دأب المتعصبين ينظرون الأقوال الشاذة، ويتصدرون للاعتراض عليها، ولم يميزوا بين الضعيف والصحيح، على أن الحديث يدل ظاهرًا على نجاسة المستعمَل؛ لأنَّ نفض الماء من أعضائه عليه السلام يدل على ذلك، وكذا رده المنديل حتى لا ينجس، والأحاديث التي فيها أنه استعمل المنديل كلها فيها مقال، ولو أوضحنا دليل النجاسة؛ لضاق القرطاس، وعمي المتعصب الخناس، لكن الضرورات تقدر بقدرها؛ فافهم.
وحديث: «لا تنفضوا أيديكم في الوضوء، فإنها مراوح الشيطان»، فقد أخرجه ابن حبان في «الضعفاء»، وابن أبي حاتم في «العلل» من حديث أبي هريرة، وقال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووي وغيره، ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيصُ على مسح الرأس في هذا الوضوء فتمسك به المالكية، فقالوا: إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفى عنه بغسله.
قلت: وعموم لفظ: (توضأ وضوءه للصلاة) يدل على أنه قد مسح رأسه، كما لا يخفى على أولي الألباب، والله أعلم بالصواب.
==========
[1] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/433)
(2) [باب غُسل الرجل مع امرأته]
هذا (باب) حكم (غُسل) بضمِّ الغين المعجمة (الرجل مع امرأته) أو أمته من إناء واحد.
==========
%ص 260%
==================
(1/434)
[حديث: كنت أغتسل أنا والنبي من إناء واحد]
250# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا آدم) بفتح الهمزة الممدودة (بن أبي إِياس)؛ بكسر الهمزة، وتخفيف التحتية (قال: حدثنا ابن أبي ذِئب)؛ بكسر الذال المعجمة: هو محمَّد بن عبد الرحمن القرشي، (عن الزُّهري) هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب، (عن عُروة)؛ بضمِّ العين المهملة، هو ابن الزُّبير_بضمِّ الزاي_ ابن العَوَّام؛ بفتح المهملة، وتشديد الواو، (عن عائشة)؛ أم المؤمنين رضي الله عنها (قالت)؛ أي: السيدة عائشة: (كنت أغتسل أنا) أبرزت المضمر؛ لتعطف عليه المُظهَر، وهو قولها: (والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) فهو مرفوع، ويجوز فيه النصب مفعولًا معه.
فإن قلت: كيف يستقيم العطف؛ إذ لا يقال: أغتسل والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟
قلت: هو على تغليب المتكلم على الغائب كما غلَّب المخاطب على الغائب في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [الأعراف: 19] فعطف {زَوْجُكَ} على {أَنْتَ}.
فإن قلت: الفائدة في تغليب {اسْكُنْ} هي أن آدم كان أصلًا في سكنى الجنة وحواء تابعة له عليه السلام، فما الفائدة فيما نحن فيه؟
قلت: الإيذان بأن النساء محل الشهوات وحاملات للاغتسال، فكن أصلًا فيه، كذا قرره صاحب «عمدة القاري».
(من إناء واحد من قَدَح)؛ بفتحتين: واحد الأقداح التي للشرب، والقِدْحُ؛ بكسر القاف، وسكون الدال: السهم قبل أن يراش ويركَّب نصله، وبفتح القاف، وسكون الدال: خلاف التعديل، وهو القول المذموم في الشخص من عرضه ودينه، و (مِن) الأولى: ابتدائية، والثانية: بيانية، وزعم الكرماني أن الأولى أن يكون (من قدح) بدلًا (من إناء واحد)، بتكرار حرف الجر في البدل، و (من) فيهما ابتدائية، وارتضاه إمام الشارحين.
وإنما لا يجوز أن يكون التقدير: أغتسل أنا ورسول الله عليه السلام
%ص 260%
من إناء مشترك بيني وبينه، فيبادرني ويغتسل ببعضه، ويترك ما بقي فأغتسل أنا منه؛ لأنَّه يخالفه الحديث الآخر، وهو: أنه عليه السلام نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وكذا عكسه أيضًا على ما تقدم فيما مضى، كذا قرره في «عمدة القاري».
قلت: ولأنَّه خلاف الظاهر من قولها، بل الظاهر المتبادر من قولها: (كنت أغتسل ... ) إلخ: أن يكون ذلك في وقت واحد لا سيما إذا جعل لفظ (والنبي) مفعولًا معه، ويدل لهذا ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى: أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته، فقال: سألت عطاء، فقال: سألت عائشة؛ فذكرت هذا الحديث، فهو نص في المقصود؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: (ثم هذا الإناء المذكور كان من شَبَه، يدل عليه ما رواه الحاكم من طريق حمَّاد بن سَلَمَة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، ولفظه: «من تور من شَبَه»؛ بفتح الشين المعجمة، وفتح الموحدة: نوع من النحاس، يقال: كوز شَبَه وشِبَه بمعنًى) انتهى.
(يقال له)؛ أي: لذلك القدح، وزعم العجلوني: أن الضمير يرجع إلى الإناء.
قلت: وهو فاسد؛ لأنَّه خلاف الظاهر، ويدل له أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فالصواب أنه يرجع إلى القدح، كما قلنا؛ فافهم: (الفَرَق)؛ بفتح الفاء، وفتح الراء، قاله العتبي وغيره وهو الأفصح، كما قاله النووي، وقال ابن التين: بتسكين الراء، وحكي ذلك عن أبي زيد، وابن دريد، وغيرهما من أهل اللغة، وزعم الباجي أن الفتح هو الصواب، قال النووي: وليس كما قال، بل هما لغتان.
قلت: ولعله اشتبه عليه ما نقله صاحب «عمدة القاري» عن ثعلب: (الفرَق)؛ بالفتح، والمحدثون يسكنونه، وكلام العرب بالفتح، فتوهم أن الإسكان خطأ، وليس كذلك، بل هما لغتان؛ فليحفظ، ويدل لذلك: ما نقله صاحب «عمدة القاري» عن أبي زيد الأنصاري: أن إسكان الراء جائز، وهو لغة فيه، واختلفوا في مقداره؛ ففي «الصحاح»: الفرق: مكيال معروف بالمدينة، وهو ستة عشر رطلًا، وقال أبو زيد: مقداره ثلاثة أصوع ستة عشر رطلًا، وقال ابن الأثير: الفرَق؛ بالفتح ستة عشر رطلًا، وبالإسكان مئة وعشرون رطلًا.
قلت: وإطلاق أهل اللغة يدل على أن الفرق ستة عشر رطلًا من غير فرق بين مفتوح ومكسور، وحكى أبو عبيد الاتفاق على ذلك، وهذا يدل على أن الفرق صاعان، قال القسطلاني كما عليه الجماهير، ويدل لذلك ما قاله ابن عبد البر في «شرح موطأ مالك» عن ابن وهب: الفرق: مكيال من خشب، كان ابن شهاب يقول: إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية.
قلت: والقِسط؛ بكسر القاف: نصف صاع وزيادة، فيكون الفرق: صاعين، كما لا يخفى، فصح أن الصاع: ثمانية أرطال بالبغدادي على الصواب، وهو قول رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، وإليه ذهب إبراهيم النخعي، والحجاج بن أرطاة، والحكم بن عيينة، وأحمد ابن حنبل في رواية، وبعض أصحاب الشافعي لما أخرجه النسائي عن موسى الجهني، قال: أُتي مُجَاهِد بقدح فقال: حزرته ثمانية أرطال، فقال: حدثتني عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يغتسل بمثل هذا، وقد أخرجه أيضًا الحافظ أبو جعفر الطحاوي عن موسى الجهني، عن مُجَاهِد، قال: (دخلنا على عائشة رضي الله عنها، فاستسقى بعضنا، فأُتي بقس؛ أي: قدح، قالت عائشة: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يغتسل بمثل هذا)، قال مُجَاهِد: (فحزرته ثمانية أرطال، أو تسعة أرطال، أو عشرة أرطال)، ورجال الحديث كلهم ثقات رجال مسلم، وأصحاب السنن، والمراد بقوله: (حزرته)؛ أي: قدَّرته، فمُجَاهِد لم يشك في الثمانية في هذا الحديث، وإنما شك فيما فوقها؛ فثبتت الثمانية بهذا الحديث، وانتفى ما فوقها، والدليل على عدم شكه في الثمانية: رواية النسائي المتقدمة؛ فإنها نص في ذلك، وقال الإمام أبو يوسف، ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية: الفرق ثلاثة أصوع؛ لما في مسلم قال ابن عيينة: (الفرق: ثلاثة آصع)، ولما حكاه أبو عبيد من الاتفاق على ذلك، ولما رواه ابن حبان من طريق عطاء، عن عائشة، ولفظه: (قدر ستة أقساط)، والقسط: نصف صاع، فيكون الصاع على هذا: خمسة أرطال وثلث بالبغدادي.
قال ابن حجر: (وهذا هو الصحيح، فإن الحزر لا يعارض التحديد، ومُجَاهِد لم يصرح بأن الإناء المذكور صاع، فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها).
قلت: وهذا مردود، فإن قول ابن عيينة: (الفرق: ثلاثة آصع) حزر وتخمين في المقدار، لا من نص عائشة، وهو لا يعارض تقدير مُجَاهِد؛ لأنَّ تقدير مُجَاهِد أرجح وأثبت؛ لأنَّه كان ذلك بحضرة عائشة، حيث أشارت إليه بحضرتهم، فهو عن مشاهدة منها، فلا ريب أنه أرجح وأثبت.
وقوله: (ولما حكاه أبو عبيد ... ) إلخ مردود أيضًا، فإن النووي قال: (الفرق: ثلاثة آصع، وقيل: صاعان، وعليه الجماهير)، هكذا عبارة النووي الصحيحة، فعلم بها أن في ذلك خلافًا، فبطلت دعوى الاتفاق.
وزعم العجلوني أن قوله: (وعليه الجماهير) يرجع إلى قوله: (ثلاثة أصوع) وهو باطل، فإنه يرجع إلى قوله: (وقيل: صاعان)، كما لا يخفى؛ لأنَّ الضمير يعود على أقرب مذكور، فقد غفل وذهل عن هذا، وقد تنبه القسطلاني لهذا، فقال: (وهو صاعان كما عليه الجماهير)، ولم يذكر غيره؛ فافهم.
وقوله: (ولما رواه ابن حبان ... ) إلخ هذا مردود أيضًا؛ لأنَّه حزر وتخمين، بدليل قوله: (قدر ... ) إلخ، ويدل له أيضًا قول ابن شهاب: (يسع خمسة أقساط)، فعلى هذا؛ يقع الخلاف في مقدار القسط، وهو يدل على أنه حزر وتخمين، وقد اتفق أهل اللغة على أن الفرق: ستة عشر رطلًا، ودعوى الاتفاق على أن القسط نصف صاع مردود بقول ابن شهاب، فإنه لم يبلغ نصف صاع، كما لا يخفى، وما زعمه ابن حجر رده في «عمدة القاري» فقال: (ثم قول هذا القائل: هو الصحيح، غير صحيح؛ لأنَّ فيه ذكر الفرق وهو كما ترى فيه أقوال، فكيف يقول: الحزر لا يعارض به التحديد؟ ففي أي موضع التحديد المعين؟ وأما حديث عائشة؛ فالمذكور فيه الفرق الذي كان يغتسل منه النبيُّ عليه السلام، ولم يذكر مقدار الماء الذي كان فيه، هل ملؤه أو أقل من ذلك) انتهى.
قلت: أي: فبطل دعوى التحديد، وما زعمه ابن حجر من قوله: (ومُجَاهِد ... ) إلخ باطل؛ لأنَّ تصريح عائشة بأن الإناء المذكور: هو الذي كان النبيُّ عليه السلام يغتسل بمثله وهو صاع لم يحتج مُجَاهِد للتصريح بأن الإناء صاع؛ لأنَّ من المعلوم أنه عليه السلام كان يغتسل بالصاع.
وقوله: (فيحمل ... ) إلخ هذا الحمل باطل بعد تصريح عائشة به، وتقدير مُجَاهِد له بحضرتها عن مشاهدة وعيان، وإذا سلم الاختلاف في الأواني مع تقاربها؛ يلزمه التسليم لتقدير مُجَاهِد، وأنه الصحيح فقد اعترف بما منع، والحق أحق أن يتبع؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري»: وفي الحديث جواز اغتسال [1] الرجل والمرأة من إناء واحد، وكذلك الوضوء، وهذا بالإجماع، وفيه تطهير المرأة بفضل الرجل، وأما بالعكس؛ فجائز عند الجمهور سواء خلت المرأة بالماء أو لم تخل، وذهب الإمام أحمد إلى أنها إذا خلت بالماء واستعملته؛ لا يجوز للرجل استعمال فضلها.
فإن قلت: ذكر ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أنه: كان ينهى أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد؟
قلت: غاب عنه الحديث المذكور، والسنة قاضية عليه.
فإن قلت: ورد نهي النبيِّ عليه السلام أن يغتسل الرجل بفضل المرأة؟
قلت: أهل المعرفة بالحديث
%ص 261%
لم يرفعوا طرق أسانيد هذا الحديث، ولو ثبت؛ فهو منسوخ، وقد استقصينا الكلام في باب (وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد)، وفيه: طهارة فضل الجنب والحائض، وقال الداودي: وفيه: جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه، قال في «عمدة القاري»: (ويؤيده ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى: أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته، فقال: سألتُ عائشةَ، فذكرت هذا الحديث، وهو نص في المقصود) انتهى والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الاغتسال)، وليس بصحيح.
==================
(1/435)
(3) [باب الغسل بالصاع ونحوه]
هذا (باب) حكم (الغُسل) بضمِّ الغين المعجمة (بالصاع)؛ أي: بالماء قدر ملء الصاع؛ لأنَّ الصاع اسم للخشبة، فلا يتصور الغسل به (ونحوه)؛ أي: ونحو الصاع من الأواني التي يسع فيها ما يسع في الصاع، ويجوز تذكيره وتأنيثه، قال الجوهري: (الصاع: الذي يكال به، وهو أربعة أمداد، والجمع أصوع، وإن شئت؛ أبدلت من الواو المضمومة همزة، والصواع لغة فيه) انتهى.
قلت: وهي فصيحة، وبها جاء القرآن، قال تعالى: {صُوَاعَ المَلِكِ} [يوسف: 72]، وقال القاضي عياض: (جمع الصاع أصوع، وآصع لكن الجاري على العربية أصوع لا غير، والواحد صاع وصواع وصوع، ويقال: أصوع؛ بالهمزة) انتهى، وقدمنا لك: أن الصاع عند الجمهور ثمانية أرطال بالبغدادي، وهو الصحيح، وقيل: هو خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وهو ضعيف، والرطل البغدادي: مئة وثلاثون درهمًا على الصحيح، فالصاع: ما يسع ألفًا وأربعين درهمًا، وقيل: هو مئة وثمانية وعشرين درهمًا وأربعة أسباع درهم، والعمل على الأول، وهو المعتمد؛ لأنَّ الأصل الثاني، فزادوا فيه مثقالًا لجبر الكسور، فصار مئة وثلاثين درهمًا، وعليه استقر الحال.
وزعم العجلوني: أن الأرجح الثاني؛ لأنَّه كان موجودًا وقت تقدير العلماء به.
قلت: وهو فاسد، فإن هذا لا يدل على الرجحان؛ لأنَّ المقصود بيان ملء الصاع، وإذا كان موجودًا وقت التقدير؛ لا ينافي الزيادة لأجل الكسور، فإنه إذا كان كاملًا خير من أن يكون ناقصًا، على أن المقام مقام الاحتياط، فيؤخذ بالأول، ووفَّق بعض علمائنا بين القولين في مقدار الصاع، وجعل الخلاف ليس بحقيقي، فقال من قال: إنه خمسة أرطال ... إلخ؛ فمراده بالرطل رطل المدينة: وهو ثلاثون إستارًا، ورطل العراق: عشرون إستارًا، فيكون المجموع على القولين مئة وستين إستارًا، والإستار: ستة دراهم ونصف، وقال بعضهم: الاختلاف بينهم ثابت بالحقيقة، والإستار؛ بكسر الهمزة: أربعة مثاقيل ونصف، كذا في «شرح الوقاية» معزوًّا [1] لـ «الينابيع».
==========
[1] في الأصل: (معزيًّا)، وليس بصحيح.
%ص 262%
==================
(1/436)
[حديث أبي سلمة: دخلت أنا وأخو عائشة]
251# وبه قال: (حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية بالإفراد (عبد الله بن محمَّد)؛ هو الجعفي الُمسندي؛ بضمِّ الميم من ذرية الجعفي الذي أسلم جد البخاري المغيرة على يديه (قال: حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (عبد الصمد)؛ هو ابن عبد الوارث التنوري (قال: حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (شعبة)؛ هو ابن الحجاج (قال: حدثني)؛ بالإفراد (أبو بكر بن حفص)؛ هو ابن عمر بن سعد بن أبي وقاص، وهو مشهور بالكنية، وقيل: اسمه عبد الله (قال: سمعت أبا سَلَمَة)؛ هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ابن أخت عائشة من الرضاعة، أرضعته أم كلثوم أخت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعائشة خالته (يقول)؛ أي: أبو سَلَمَة، والجملة محلها النصب على الحال، هذا هو الصحيح؛ لأنَّ (سمعت) لا يتعدَّى إلا إلى مفعول واحد، وعلى قول من يقول يتعدى إلى مفعولين؛ منهم: الفارسي؛ يكون في محل النصب على أنها مفعول ثان، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»: (دخلت أنا وأخو عائشة) رضي الله عنها؛ أي: من الرضاعة، وهو عبد الله بن يزيد البصري، كما عند مسلم في (الجنائز)، واختاره النووي، وقيل: هو: كثير بن عبيد الكوفي كما في «الأدب المفرد» للمؤلف، و «سنن أبي داود»، وأما قول الداودي: إنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وقول الآخرين: إنه الطفيل بن عبد الله؛ فإنه أخوها لأمها، فقال صاحب «عمدة القاري»: (قيل: إنه وهم وغير صحيح، والدليل على فساد هذين القولين: ما رواه مسلم من طريق معاذ، والنسائي من طريق خالد بن الحارث، وأبو عوانة من طريق يزيد بن هارون؛ كلهم عن شعبة في هذا الحديث أنه أخوها من الرضاعة) انتهى وتبعه ابن حجر، والقسطلاني، والعجلوني، لكن قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: (ثم الذي ادَّعى أنه عبد الله بن يزيد استدلَّ بما روى مسلم في (الجنائز) عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد، والظاهر أنه لم يتعين، والأقرب أنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ولا يلزم من رواية مسلم وغيره أن يتعين عبد الله بن يزيد؛ لأنَّ الذي سألها عن غسل رسول الله عليه السلام لا يتعين أن يكون هو الذي روى عنه أبو قلابة في «الجنائز») انتهى.
قلت: على أن عبد الرحمن أعم؛ لأنَّه أخوها من النسب والرضاعة، وظاهر حديث الباب يدل عليه؛ لأنَّه المشهور بالأخوَّة لها، والذي استدل بأنه كثير بن عبيد فاستدل بما رواه المؤلف في «الأدب المفرد»، وأبو داود في «السنن»؛ كلاهما عن أبي قلابة عن كثير بن عبيد، وهذا يدل على أنه لا يتعين؛ لأنَّه لا يلزم من روايتهما أن يتعين كثير بن عبيد؛ لأنَّ الذي سألها عن غسله عليه السلام لا يتعين أن يكون هو الذي روى عنه أبو قلابة في (الصَّلاة)، فالظاهر أنه لم يتعين واحد منهم، بل يحتمل كل واحد منهم، والظاهر أنه عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لأنَّه هو الأخ الحقيقي من النسب والرضاعة، وحديث الباب يدل عليه؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري»: وقوله: «وأخو عائشة» عطف على الضمير المرفوع المتصل بعد التوكيد بضمير منفصل، وهو قوله: (أنا)، وهذه هي القاعدة؛ لأنَّه لا يحسن العطف على الضمير المتصل بارزًا كان أو مستترًا إلا بعد توكيده بضمير منفصل؛ نحو: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [الأنبياء: 54]) انتهى؛ فليحفظ.
(على عائشة)؛ الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، (فسألها أخوها)؛ أي: عبد الرحمن، أو غيره على ما مر (عن غُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وفي بعض الأصول بفتحها (النبيُّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: من الجنابة، وعن بيان كيفيته، (فدعت)؛ أي: عائشة (بإناءٍ نحو)؛ بالجر والتنوين في (نحو)؛ لأنَّه صفة (إناء)، وفي رواية كريمة: (نحوًا)؛ بالنصب، فيحتمل وجهين؛ أحدهما: كون موصوفه منصوب المحل؛ لأنَّه مفعول قوله: (فدعت)، والثاني: بإضمار (أعني)، ونحوه، كذا قاله في «عمدة القاري».
قلت: وعلى الأول: فيكون نعتًا للمجرور باعتبار المحل، فإن المعنى: طلبت إناء نحوًا، وعلى الثاني: فيكون مفعولًا لفعل محذوف، وزعم العجلوني: أن الثاني أولى.
قلت: هو غير ظاهر، فإنه لا أولوية لأحدهما، بل الوجهان على حد سواء في ظهور المعنى على أنه يقال: الوجه الأول أولى؛ لأنَّه في الحقيقة مفعول فعل مذكور، والوجه الثاني فعله مقدر، وإذا دار الأمر بين الظاهر والمقدر؛ فالظاهر هو الأولى، كما لا يخفى؛ فافهم.
(من صاع)؛ أي: قريبًا من الصاع لما سيأتي في تفسيره بذلك، (فاغتسلت)؛ أي: عائشة، (وأفاضت) أي: أسالت الماء (على رأسها) وهذه الجملة كالتفسير لقوله: (فاغتسلت) (وبيننا وبينها حجاب)؛ أي: ستر، والجملة وقعت حالًا.
قال القاضي عياض: ظاهر هذا الحديث أنهما رأيا [1] عملها في رأسها وأعالي جسدها؛ مما يحل للمَحرَم نظره من ذات الرحم، ولولا أنهما شاهدا ذلك كله في ستر، كله في ستر عنهما؛ لرجع الحال إلى وصف أيهما، وإنما فعلت الستر؛ لئلا يرى أسافل البدن، وما لا يحل للمحرم النظر إليها، وفي فعلها هذا دلالة على استحباب التعلم بالفعل، فإنه أوقع في النفس من القول، وأدل عليه، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنه لما كان السؤال محتملًا للكيفية والكمية؛ بينت لهما ما يدل على الأمرين معًا؛ أما الكيفية؛ فبالإقتصار على إفاضة الماء، وأما الكمية؛ فبالاكتفاء بالصاع.
ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: (قلت: لا نسلم أن السؤال عن الكمية أيضًا، ولئن سلم؛ فلم يتبين إلا الكيفية؛ لأنَّها طلبت إناء ما مثل صاع، فيحتمل أن يكون ذلك الماء ملء الإناء أو أقل منه) انتهى.
قلت: وهو ظاهر، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
%ص 262%
ثم قال في «عمدة القاري»: (وفيه ما يدل على أن العدد والتكرار في إفاضة الماء ليس بشرط، والشرط وصول الماء إلى جميع البدن) انتهى.
قلت: فإذا حصل التعميم والوصول بمرة؛ فلا يزاد عليها؛ لأنَّ الأمر لا يقتضي التكرار، على أن الإسراف في الماء مكروه، كما قدمنا، فينبغي أن يراعي حالًا وسطًا من غير إسراف ولا تقتير، ويكره ضرب الماء بجسده؛ لأنَّه خلاف السنة، وهي: الإفاضة، فما يفعله بعض المتعصبين في الحمامين حيث يصب على رأسه عشرة أجران ماء، ثم يذهب إلى المغطس وينغمس عشر مرار أو أكثر مكروه قطعًا؛ لأنَّ فيه إتلاف مال الغير وهو حرام، وفيه إيذاء الناس بانتظارهم فراغه، وفيه جلب الغيبة له، وغير ذلك مما لم يأذن به الشرع، وهذا كله بدع خارجة عن فعل الشارع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة بالنار؛ فافهم.
(قال أبو عبد الله:) أي: المؤلف: (قال) وفي رواية: (وقال)، وبإسقاط: (قال: أبو عبد الله)، وزيادة واو (يزيد بن هارون) مما هو موصول في «مستخرج أبي نُعيم، وأبي عوانة»، (وبَهْز)؛ بفتح الموحدة، وسكون الهاء، آخره زاي، هو: ابن أسد أبو الأسود بن سعد البصري، المتوفى بمرو في بضع وتسعين ومئة، وطريقه موصول عند الإسماعيلي، (والجُدِّي)؛ بضمِّ الجيم، وتشديد الدال المهملة، نسبة إلى جُدَّة التي في ساحل البحر من ناحية مكة، وهو: عبد الملك بن إبراهيم، ونسب إليها؛ لأنَّ أصله منها، لكنه سكن البصرة، مات سنة خمس ومئتين، وأما طريقه؛ فقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (فلم أقف عليه) انتهى، وهؤلاء الثلاثة روَوا (عن شعبة)؛ هو: ابن الحجاج، هذا الحديث، فقوله: (عن شعبة) متعلق بهؤلاء الثلاثة، وهذه متابعة ناقصة ذكرها المؤلف تعليقًا، ولفظ الحديث: (قدر صاع)؛ بدل (نحو من صاع)؛ تقديره: فدعت بإناء قدر صاع، ويجوز الوجهان المذكوران في (نحو من صاع) ههنا أيضًا، كذا قاله إمام الشارحين.
قلت: فالجر يجوز أن يكون صفة لـ (إناء) كما مر، ويجوز أن يكون بيانًا لـ (إناء)، والنصب ظاهر، والأولى الصفة لا البيان، كما لا يخفى.
وزعم ابن حجر وتبعه العجلوني أن المراد من الروايتين أن الاغتسال وقع على الصاع من الماء تقريبًا لا تحديدًا، واعترضه صاحب «عمدة القاري» فقال: (هذا القائل ذكر في الباب السابق في حديث مُجَاهِد عن عائشة: أنه حزر الإناء ثمانية أرطال، إن الحزر لا يعارض التحديد، ونقض كلامه هذا بقوله: والمراد من الروايتين ... إلى آخره) انتهى.
قلت: فالتناقض في كلامه ظاهر، وما اعترض ابن حجر به وقع فيه، وقدمنا أن المراد بالحزر التقدير، وأن مُجَاهِد لم يشك في الثمانية كما رواه النسائي والحافظ الطحاوي، وعليه أهل اللغة؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (رأى)، والمثبت هو الصواب.
==================
(1/437)
[حديث: كان يكفي من هو أوفى منك]
252# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمَّد)؛ هو الجعفي المسندي المتقدم (قال: حدثنا يحيى بن آدم)؛ هو الكوفي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومئتين، قال الغساني: وقد سقط ذكر (يحيى) في بعض النسخ، وهو خطأ؛ إذ لا يتصل الإسناد إلا به، كذا في «عمدة القاري» (قال: حدثنا زُهَير)؛ بضمِّ الزاي بالتصغير، هو ابن معاوية الكوفي الجزري، وفي رواية: (أخبرنا زهير)، (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله الكوفي السَّبيعي؛ بفتح السين المهملة (قال: حدثنا أبو جعفر)؛ هو محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بالباقر، دفن بالبقيع في القبة المشهورة بالعباس: (أنه كان عند جابر بن عبد الله) الصحابي المشهور (هو) أي: محمَّد بن علي (وأبوه)؛ أي: علي بن الحسين زين العابدين (وعنده) أي: جابر (قوم) قال في «عمدة القاري»: (هكذا في أكثر النسخ، وفي بعضها: (وعنده قومه)، وكذا وقع في «العمدة») انتهى.
ومثله في «ابن حجر» قال: (وجعل شرَّاحها الضمير يعود على جابر، وفيه ما فيه، وليست هذه الرواية في «مسلم» أصلًا، وذلك وارد على قول صاحب «العمدة»: إنه لا يخرج إلا المتفق عليه) انتهى.
قلت: وقوله: (وفيه ما فيه) ممنوع، فإن قوم جابر هم الأنصار، كما لا يخفى، فعود الضمير إليه صحيح.
وقوله: (وليست هذه ... ) إلخ هذا لا يقدح فيما روي هنا من هذه الرواية، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، ومراده بهذا الرد على المؤلف، وهو غير وارد، بل رده مردود عليه، كما لا يخفى.
وقوله: (وذلك وارد ... ) إلخ ممنوع فإن مراد صاحب «العمدة» بقوله: (إنه لا يخرِّج ... ) إلخ أنه ويزيد المختلف فيه، لا أنه يخرج المختلف به فقط، بل يذكر المتفق عليه، والمختلف به؛ فافهم، فهذا لا يرد عليه، كما لا يخفى.
(فسألوه عن الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: عن مقدار ماء الغسل والسائل هو: أبو جعفر كما في «مسند إسحاق بان راهويه»، (فقال) أي: جابر رضي الله عنه: (يكفيك صاع)؛ أي: ملء صاع من الماء.
قال في «عمدة القاري»: (فإن قلت: القوم هم السائلون، فلم أفرد الكاف حيث قال: يكفيك صاع، والظاهر يقتضي أن يقال: يكفي كل واحد منكم صاع؟
قلت: السائل كان شخصًا واحدًا من القوم، وأضيف السؤال إليهم؛ لأنَّه منهم، كما يقال: النبوة في قريش وإن كان النبيُّ عليه السلام واحدًا منهم، أو يراد بالخطاب العموم، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السجدة: 12]، وكقوله عليه السلام: «بشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام»؛ أي: يكفي لكل من يصح الخطاب له صاع) انتهى.
(فقال رجل)؛ المراد به: الحسن بن محمَّد بن علي بن أبي طالب الذي يعرف أبوه بابن الحنفية، مات سنة مئة أو نحوها، واسم الحنفية: خولة بنت جعفر، وفي رواية الإسماعيلي: (فقال رجل منهم)؛ أي: من القوم: (ما يكفيني) أي: لا يكفيني ملء صاع من الماء، (فقال جابر) أي: ابن عبد الله: (كان) أي: الصاع، والمراد: الماء الذي فيه (يكفي من هو أوفى منك) أي: أكثر منك (شعَرًا)؛ بفتح العين المهملة، وارتفاعه بالجبرية، و (شَعَرًا) منصوب على التمييز، وأراد به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (وخير منك) روي بالرفع والنصب، أما الرفع؛ فبكونه عطفًا على (أوفى)، وأما النصب؛ فبكونه عطفًا على الموصول؛ أعني قوله: (من)، فإنه منصوب؛ لأنَّه مفعول (يكفي)، وفي رواية الأَصيلي: (أوخيرًا [1])؛ بالنصب، كذا في «عمدة القاري»، وقال الزركشي: بنصب (خير) عطفًا على (شعر)؛ لأنَّ (أوفى) بمعنى أكثر، ورده في «المصابيح»: بأنه إنَّما يتأتى إذا أريد بخير واحد الخيور، لا ما يقصد به التفضيل، والتفضيل فيه مراد لاقترانه بـ (مَن)، فالصواب عطفه على (مَن)، ثم أشكله بأن العطف يقتضي المغايرة مع أن المراد واحد، وأجاب: بأنه كعطف الصفات والموصوف واحد، قال: وجعل (مَن) الثانية مؤكدة للأولى حتى لا يكون (خير) للتفضيل بعده ظاهر، انتهى.
وزعم العجلوني فقال: (دعواه أن المراد واحد فيه نظر؛ لأنَّ الأول أكثر من جهة الشعر، والثاني من جهة الخيرية، وكأنه جعل الخيرية باعتبار الشعر).
قلت: وهذا مردود، فإنه عليه السلام خير من جميع الوجوه والاعتبارات، ومهما وصفته بالخيرية؛ فهو أعظم وأبلغ، والإشكال غير وارد، فالصواب عطفه على (مَن)، كما قدمناه عن «عمدة القاري»، فلله دره ما أفطنه، وأغزر علمه، وأوفر فهمه! رضي الله تعالى عنه.
(ثم أمَّنا) أي: صلى بنا جابر إمامًا (في ثوب)؛ أي: واحد ليس عليه غيره، والضمير المرفوع الذي فيه يرجع إلى جابر، وهو من مقول أبي جعفر، وقال الكرماني: قوله: (ثم أمَّنا)، إما مقول جابر؛ فهو معطوف على قوله: (كان يكفي)، فالإمام رسول الله عليه السلام، وإما مقول أبي جعفر؛ فهو عطف على (فقال جابر)، والإمام جابر رضي الله عنه.
وزعم ابن حجر أن فاعل (أمنا) جابر، كما سيأتي ذلك موضحًا في كتاب (الصَّلاة)، ولا التفات إلى من جعله من مقول جابر، والفاعل رسول الله عليه السلام.
واعترضه إمام الشارحين فقال: (قلت: أراد بهذا الرد على الكرماني فيما ذكرنا عنه، وجزم بقوله: (إن الإمام جابر)، واحتج عليه بما روي مما جاء في كتاب (الصَّلاة)، وهو ما رُوِيَ عن محمَّد بن المنكدر، قال: رأيت جابرًا يصلى في ثوب، فإن كان استدل بهذا الحديث في رده على الكرماني؛ فلا وجه له، وهو ظاهر لا يخفى) انتهى كلام صاحب «عمدة القاري».
قلت: وظاهره أنَّ مراده الرد على الكرماني مستدلًّا بهذا الحديث، وليس له وجه كما ذكره؛ لاحتمال أنَّ جابرًا كان يصلي خلف رسول الله عليه السلام، فإنَّه ليس فيه ما يدل على أنَّ جابرًا هو الإمام؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث بيان ما كان السلف عليه من الاحتجاج بفعل النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والانقياد إلى ذلك، وفيه: جواز الرد على من تمادى بغير علم؛ إذ القصد من ذلك إيضاح الحق، والإرشاد إلى من لا يعلم، وفيه: كراهية الإسراف في استعمال الماء، وفيه: استحباب قدر الصاع في الاغتسال، وفيه: جواز الصَّلاة في الثوب الواحد) انتهى.
قلت: والسنة في الغسل ملء الصاع، وفي الوضوء ملء المُدِّ، كذا قدره مجتهد المذهب الإمام محمَّد بن الحسن في «ظاهر الرواية» عن الإمام الأعظم رضي الله عنهما، وهو تقدير أدنى الكفاية عادة، وليس بلازم حتى إنَّ من أسبغ بدون ذلك أجزأه، وإن لم يكفه؛ زاد عليه؛ لأنَّ طباع الناس وأحوالهم تختلف، كذا في «البدائع».
وقال في «الخلاصة»: (والتقدير في الوضوء بالمد إذا كان لا يحتاج إلى الاستنجاء، فإن احتاج إليه؛ لا يكفيه، بل يستنجي برطل أو يتوضأ بالمد، فإن كان لابس الخفين؛ يتوضأ برطل.
فالحاصل: أنَّ الرطل للاستنجاء، والرطل للقدمين، والرطل لسائر الأعضاء) انتهى.
واعلم: أنَّ الوضوء على أربعة أوجه: إما ألَّا يستنجي ويمسح على الخفين، أو يستنجي ويمسح على الخفين، أو لا يستنجي ويغسل الرجلين، أو يستنجي ويغسل الرجلين، أمَّا الأول؛ فيكفيه رطل، وأمَّا الثاني؛ فاثنان: واحد للاستنجاء، وآخر للوضوء، وأمَّا الثالث؛ فكذلك: واحد للرجلين، وواحد للبقية، وأمَّا الرابع؛ فثلاثة أرطال: واحد للاستنجاء، وواحد للرجلين، وواحد للبقية، وأدنى مايكفي من الماء في الغسل في الغالب صاع، وفي الوضوء ربعه، وهو: المد، وللاستنجاء ثمنه؛ وهو: الرطل، وإن أراد أن يمسح على خفيه؛ كفاه في الوضوء رطل، كذا في «منهل الطلاب»، والله أعلم.
وقال ابن عبد البر في «شرح موطأ مالك»: (غسل الأعضاء في الوضوء وسائر الجسم إنَّما يكون بمباشرة الماء لذلك، وأمَّا ما أمر الله بغسله؛ فلا يجزئ فيه المسح، فمن قدر على أن يتوضأ بمد أو أقل ويغتسل بصاع أو دونه بعد أن يسبغ ويعم؛ فذاك حسن عند جمهور العلماء بالعراق والحجاز، ولا يخالف في ذلك إلا ضال مبتدع) انتهى.
وفي يوم الثاني جماد الثاني سنة سبع وسبعين شرعوا في عدد الأنفس بدار رستم أفندي والله تعالى المهدي.
==========
[1] في الأصل: (وخيرًا)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
%ص 263%
==================
(1/438)
[حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد]
253# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون؛ هو: الفضل بن دُكين؛ بضمِّ الدال المهملة (قال: حدثنا ابن عُيينة)؛ بضمِّ العين المهملة؛ هو: سفيان (عن عَمرو)؛ بفتح العين المهملة؛ هو: ابن دينار، (عن جابر بن زيد): هو أبو: الشَعْثاء_ بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة، بعدها مثلثة، وبالمد_ الأزدي البصري المتوفَّى سنة ثلاث ومئة، (عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم ومَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية؛ بنت الحارث زوجة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالة ابن عباس (كانا يغتسلان)؛ أي: من الجنابة (من) ولأبي الوقت (في) وهي بمعنى (من) (إناء واحد)؛ أي: في وقت واحد، كما يظهر من السياق، وتعبيره بـ (كان) يدل على أنَّ عادتهما ذلك على الدوام والاستمرار.
قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: ومطابقة هذا الحديث للترجمة غير ظاهرة، ووجه الكرماني في ذلك بثلاثة أوجه بالتعسف؛ الأول: أن يراد بالإناء الفرق المذكور، الثاني: الإناء كان معهودًا عندهم أنَّه هو: الذي يسع الصاع والأكثر، فنزل تعريفه اعتمادًا على العرف والعادة، الثالث: أنَّه من باب الاختصار في الحديث، وفي تمامه ما يدل عليه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، ووجَّهه بعضهم بأن مناسبة الترجمة تستفاد من مقدمة أخرى، وهو أنَّ أوانيهم كانت صغارًا، فيدخل هذا الحديث تحت قوله: «ونحوه»؛ أي: نحو الصاع، أو يحمل المطلق فيه على المقيَّد في حديث عائشة وهو الفرق؛ لكون كل منهما زوجة له، واغتسلت معه، فتكون حصة كل منهما أزيد من صاع، فتدخل تحت الترجمة تقريبًا، قال: قلت: قول هذا القائل أكثر تعسفًا وأبعد وجهًا من كلام الكرماني؛ لأنَّ المراد من هذا الحديث: جواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد، وهذا هو مورد الحديث، وليس المراد: منه بيان مقدار الإناء، والباب في بيان المقدار، فمن أين يلتئم وجه التطابق بينه وبين الباب؟
وقوله: (لكون كل منهما زوجة)؛ كلام من لم يمس شيئًا من الأصول، وكون كل واحدة منهما امرأة له، كيف يكون وجهًا لحمل المطلق على المقيد؟ مع أنَّ الأصل أن يجري المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده، والحمل له مواضع، كما عرفت في موضعها) انتهى كلام «عمدة القاري».
وأراد بقوله: (بعضهم): ابن حجر العسقلاني، فإنَّه ذكر هذا الكلام في «شرحه»، ولا يخفى ما فيه من الركاكة، والتعسف، والبعد، وزعم العجلوني فقال: (إذا كان كلام كل منهما متعسفًا وأحدهما أكثر تعسفًا؛ فينبغي له أن يبدي ولو وجهًا سالمًا عن ذلك).
قلت: ولا يخفى عليك أنَّ الحديث إذا كان غير مطابق للترجمة، فكيف إبداء الوجه السالم من التعسف؟ وما هذا إلا كلام من ليس له ذكاء وفطنة، وهو نظير المثل المشهور بين الناس يقولون: احلبه، فيجيبه: إنه ثور، فيعيد عليه قوله: احلبه، وهكذا، فلو كان للحديث وجه صحيح؛ لكان ذكره إمام الشارحين، وأقول وبالله التوفيق: الظاهر: أنَّ المؤلف وضع هذا الحديث؛ لنكتة أخرى وهي: الاختلاف في السند، وفيه خلاف: فبعضهم لم يفرق بينهما، وبعضهم فرق، وإليه ذهب المؤلف،؛ فذكر الحديث، ثم أعقبه بالمتابعة للإشارة إلى هذا الاختلاف، وعدم مطابقته للترجمة لا يضر؛ لأنَّ المؤلف ذكر الترجمة وذكر حديثين مطابقتُهما للترجمة ظاهرة، ومناسبة الحديث لهما في أنَّه له تعلق بأحكام الغسل، والله أعلم.
(قال أبو عبد الله) أي: المؤلف: (كان ابن عيينة) أي: سفيان (يقول أخيرًا)؛ بالتحتية بعد الخاء المعجمة؛ أي: في آخر عمره: (عن ابن عباس عن ميمونة) وهذا تعليق من المؤلف، ولم يقل: (وقال ابن عيينة)، بل قال: وكان ... ؛ ليدل على أنه في آخر عمره كان مستقرًّا على هذه الرواية، فعلى هذا التقدير: التحديث من مسانيد ميمونة، وعلى الأول: من مسانيد ابن عباس (والصحيح)؛ أي: من الروايتين (ما روى) أي: الذي رواه (أبو نعيم) المذكور، وهو: أنَّه من مسانيد ابن عباس، وهذا من كلام البخاري، وهو المصحح له، وصححه الدارقطني أيضًا، ورجح الإسماعيلي أيضًا ما صححه البخاري باعتبار أنَّ هذا الأمر لا يطلع عليه من النبيِّ عليه السلام إلا ميمونة، فدل على أنَّه أخذ عن ميمونة خالته، وأخرجه مسلم، وابن أبي شيبة، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ كلهم في (الطهارة) عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنهما، واللفظ: (كنت أغتسل أنا والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من إناء واحد من الجنابة)، كذا في «عمدة القاري»، ثم قال: (والمستفاد من الحديث جواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد) انتهى.
==========
%ص 263%
==================
(1/439)
(4) [باب من أفاض على رأسه ثلاثًا]
هذا (باب) بيان (من أفاض) أي: أسال الماء (على رأسه) في الغسل من الجنابة (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرَّات.
==========
%ص 263%
==================
(1/440)
[حديث: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا]
254# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون؛ هو الفضل بن دُكين؛ بالدال المهملة المضمومة (قال: حدثنا زُهير)؛ بضمِّ الزاي؛ هو ابن معاوية الجعفي، (عن أبي إسحاق): هو عمرو بن عبد الله السَّبيعي_ بفتح السين المهملة_ الكوفي (قال: حدثني) بالإفراد (سُليمان)؛ بضمِّ السين المهملة
%ص 263%
(ابن صُرَد)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وفتح الراء، بعدها دال مهملات، من أفاضل الصحابة، الخزاعي الصحابي ابن الصحابي، سكن الكوفة أول ما نزل بها المسلمون، خرج أميرًا في أربعة آلاف يطالبون [1] بدم الحسين رضي الله عنه سموا: بالتوابيين، وهو أميرهم، فقتله عسكر عبيد الله بن زياد بالجزيرة سنة خمس وستين (قال: حدثني) بالإفراد (جُبَيْر)؛ بضمِّ الجيم، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره راء (بن مُطعِم)؛ بلفظ الفاعل من الإطعام، القرشي النوفلي من سادات قريش، مات بالمدينة سنة أربع وخمسين (قال) أي: جبير (قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أمَّا»)؛ بفتح الهمزة، وتشديد الميم، حرف شرط وتفصيل وتوكيد، والدليل على الشرط لزوم الفاعل بعدها؛ نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 26]، والتفصيل نحو قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79]، {وَأَمَّا الغُلامُ} [الكهف: 80]، {وَأَمَّا الجِدَارُ} [الكهف: 82]، وأمَّا التوكيد؛ فقد ذكره جار الله الزمخشري، فإنَّه قال: (فائدة: «أمَّا» في الكلام للتوكيد، تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدت ذلك، وأنَّه _لا محالة_ ذاهب، وأنَّه بصدد الذهاب، وأنَّه منه عزيمة).
قلت: أمَّا زيد؛ فذاهب، وههنا هي أيضًا للتأكيد، فإذا كانت للتأكيد؛ فلا يحتاج إلى التقسيم، ولا يحتاج أن يقال: إنَّه محذوف، كذا حققه في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني: أنَّ (أمَّا) للتفصيل، فأين قسيمه؟
قلت: اقتضاء التقسيم غير واجب، ولئن سلمنا؛ فهو محذوف يدل عليه السياق، روى مسلم في «صحيحه»: أنَّ الصحابة تماروا في صفة الغسل عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أمَّا أنا؛ فأفيض»؛ أي: وأمَّا غيري؛ فلا يفيض، أو فلا أعلم حاله كيف يعمل.
ورده في «عمدة القاري» بأنَّه كلام من غير تحقيق، والتحقيق ما قدمناه، وأمَّا الذي رواه مسلم؛ فإنَّه من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق: تماروا في الغسل عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال بعض القوم: (أمَّا أنا؛ فاغسل رأسي بكذا وكذا ... )؛ فذكر الحديث.
وقال بعضهم: هذا هو القسيم المحذوف.
قلت: لا يحتاج إلى هذا؛ لأنَّ الواجب أن يعطى حق كل كلام بما يقتضيه الحال، فلا يحتاج إلى تقدير شيء من حديث روي من طريق لأجل حديث آخر في باب من طريق آخر) انتهى كلام «عمدة القاري».
والمراد بقوله: (بعضهم): ابن حجر، فإنَّه تبع الكرماني في ذلك، ولا يخفى ما في كلامهما من عدم الاحتياج إليه؛ لأنَّه متعسف كما علمت (أنا فأُفيض)؛ بضمِّ الهمزة من الإفاضة؛ وهي الإسالة (على رأسي ثلاثًا)؛ أي: ثلاث أكف، وهكذا في رواية مسلم؛ والمعنى: ثلاث حفنات؛ كل واحدة منهن بملء الكفين، ويدل عليه ما رواه أحمد في «مسنده»: (فآخذ ملء كفي، فأصب على رأسي).
وما رواه أيضًا عن أبي هريرة: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصب بيديه على رأسه ثلاثًا)، وفي «معجم الإسماعيلي»: أنَّ وفد ثَقيف سألوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: إنَّ أرضنا باردة، فكيف نفعل في الغسل؟ فقال: «أمَّا أنا؛ فأفرغ على رأسي ثلاثًا»، وفي «الأوسط» للطبراني مرفوعًا: «تفرغ بيمينك على شمالك، ثم تدخل يدك في الإناء، فتغسل فرجك، وما أصابك، ثم تتوضأ وضوءك للصلاة، ثم تفرغ على رأسك ثلاث مرات تدلك رأسك كل مرة»، وقال الداودي: (الحفنة باليد الواحدة)، وقال غيره: باليدين جميعًا، والحديث المذكور يدل عليه، والحفنة باليد الواحدة، وبما ذكرنا سقط قول بعضهم: إنَّ لفظة (ثلاثًا) محتملة للتكرار، ومحتملة أن تكون للتوزيع على جميع البدن، كذا قرره صاحب «عمدة القاري».
قلت: وقوله: (بعضهم): المراد به: ابن حجر، فإنَّه ذكر في «شرحه» الاحتمالين، والذي دلت عليه الأحاديث إنَّما هو التكرار لا التوزيع، فإنَّ حديث الطبراني المتقدم صريح في الدلالة على التكرار فقط، فاحتمال التوزيع بعيد جدًّا، كما لا يخفى.
وزعم العجلوني (أنَّ السياق أشعر أنَّه عليه السلام لا يفيض إلَّا ثلاثًا، وأنَّ غيره المذكور كان يفيض أكثر منها أو أقل) انتهى.
قلت: وليس كذلك، فإنَّ السياق مشعر بأنَّه عليه السلام كان يفيض ثلاثًا فقط، وقوله: (وإنَّ غيره ... ) إلخ هذا ليس يفهم من الحديث أصلًا، فإنَّ معنى (أمَّا) التأكيد، كما علمت، ويدل لهذا ما تقدم عند أحمد، والإسماعيلي، والطبراني، فإنَّه يدل على أنَّه لا يشعر الحديث بما ادَّعاه، ورواية مسلم السابقة لا تدل على ما ادَّعاه أيضًا؛ لأنَّ المراد من قول بعض القوم (أمَّا أنا ... ) إلخ غسل الرأس فقط بدون إفاضة عليه وعلى جميع البدن، فهو خاص بالرأس، فعمَّم لهم عليه السلام بأنَّه يفيض على رأسه ثلاثًا وعلى سائر بدنه وهذا ظاهر، كما لا يخفى.
وقوله: (وأشار) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (بيديه) الشريفتين بلفظ التثنية (كلتيهما) من كلام جبير بن مطعم، وفي رواية الكشميهني: (كلاهما)، وحكى ابن التين في بعض الروايات: (كلتاهما)، والأولى رواية الأكثرين.
قال صاحب «عمدة القاري»: كون كلتا وكلا عند إضافتهما إلى المضمر في الأحوال الثلاثة بالألف لغة من يراها تثنية، وأنَّ التثنية لا تتعين، كما في قول الشاعر:
إنَّ أباها وأبا أباها ... .....
وأمَّا وجه رواية الكشمهني: (كلاهما)؛ بدون الياء؛ فبالنظر إلى اللفظ دون المعنى)؛ انتهى.
وزعم ابن حجر: أنَّه يجوز الرفع فيها على القطع.
قلت: وهو فاسد، فإنَّ النحاة صرَّحوا بأنَّ ألفاظ التوكيد لا يجوز قطعها، بخلاف النعوت، فإنَّها يجوز فيها القطع إذا علم المنعوت، وهنا ليس كذلك؛ فافهم، وتمامه في «إيضاح المرام» فيما وقع في «الفتح» من الأوهام؛ فيراجع.
قال في «عمدة القاري»: (ويستنبط من الحديث: أنَّه يكون الغسل ثلاث مرات، وعليه إجماع العلماء، وأمَّا الفرض فيه؛ فغسل سائر البدن بالإجماع، وفي المضمضة والاستنشاق خلاف، والجمهور على أنَّهما فرضان)، وقال النووي: (لا نعلم خلافًا في استحباب التكرار في الغسل إلا ما تفرد به الماوردي، وهو شاذٌّ، ورد عليه: بأنَّ أبا علي السنجي قاله أيضًا، ذكره في «شرح الفروع»، فلم يتفرد به، وتمامه فيه).
قلت: وقال علماؤنا: ثم يفيض الماء باديًا بالصبِّ على رأسه ثلاثًا مستوعبات، ويفيض الماء على سائر بدنه ثلاثًا يستوعب الجسد بكل واحدة منها، وهو سنة؛ للحديث، فإن لم يستوعب في كل واحدة؛ لم تحصل سنة التثليث، والأولى فرض، والثنتان بعدها سنتان على الصحيح كما في «الهندية»، و «السراج».
وقال في «الجوهرة»: (الثنتان سنة على الصحيح حتى لو لم يحصل بالثلاث استيعاب؛ يجب أن يغسل مرة بعد أخرى حتى يحصل، وإلا؛ فلم يخرج عن الجنابة، كما في «مجمع الأنَهر»، وما علمت من أنَّه يبتدأ بالرأس هو ما مشى عليه الإمام أبو الحسن القدوري، وهو ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم، وهو الأصح؛ كما في أكثر المعتبرات، وهو ظاهر الأحاديث الصحيحة، وتمامه في «منهل الطلاب»، والله تعالى يلهمنا الصواب).
==========
[1] في الأصل: (يطلبون)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/441)
[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرغ على رأسه ثلاثًا]
255# وبه قال: (حدثنا) وفي رواية: (حدثني)؛ بالإفراد (محمَّد بن بَشَّار)؛ بفتح الموحدة، وتشديد الشين المعجمة، الملقب ببندار، قال في «عمدة القاري»: (وليس في «الصحيحين» محمَّد بن بشار غيره، وضبط بعضهم له بالمثناة، والسين المهملة؛ فخطأ ظاهر؛ فليحفظ) (قال: حدثنا غُنْدَر)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة على الأصح، واسمه: محمَّد بن جعفر البصري، وكان شعبة زوج أمه (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج، (عن مُخَوَّل)؛ بلفظ اسم المفعول من التخويل؛ بالخاء المعجمة، ويروى: بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، وهاتان الروايتان عن أبي ذر، ورواية الأكثرين: بكسر الميم، ورواية ابن عساكر: بضمِّ الميم، ابن راشد _بالشين المعجمة_ النهدي _بالنون_
%ص 264%
الكوفي، روى له الجماعة، وليس له في «البخاري» غير هذا الحديث، وهو عزيز، كذا في «عمدة القاري»، (عن محمَّد بن علي): هو أبو جعفر الملقب بالباقر، (عن جابر بن عبد الله): الصحابي الجليل رضي الله عنه أنه (قال: كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يُفرِغ)؛ بضمِّ المثناة التحتية، آخره غين معجمة: مضارع أفرغ من الإفراغ؛ أي: يصب (على رأسه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث غرفات وزاد، وفي رواية الإسماعيلي: (قال: أظنه من غسل الجنابة)، وفيه: فقال رجل من بني هاشم: إن شعري كثير، فقال جابر: شعر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان أكثر من شعرك وأطيب، وفي الحديث: دلالة على ملازمة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الصب ثلاثًا في الغسل؛ لأنَّ لفظة (كان) تدل على الاستمرار، وفيه: دلالة على فضل جابر رضي الله عنه؛ حيث إنه يلازمه حتى حين غسله عليه السلام.
==================
(1/442)
[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه]
256# وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون: هو الفضل بن دكين؛ بالدال المهملة (قال: حدثنا مَعْمَر)؛ بفتح الميم، وسكون العين المهملة في أكثر الروايات، وبه جزم الحافظ المزِّيُّ، وفي رواية القابسي: بضمِّ الميم الأولى، وتشديد الميم الثانية على وزن (مُحَمَّد)، وبه جزم الحاكم (بن يحيى بن سام)؛ بالسين المهملة، وتخفيف الميم، وقد ينسب إلى جده، فيقال: معمر ابن سام، وليس له في «البخاري» إلا هذا الحديث، وقول القسطلاني والعجلوني: وجوَّز الغساني الوجهين؛ لا معنى له بعد ثبوت رواية الأكثرين ورواية القابسي، فإذا كانت الروايتان ثابتتين؛ فما معنى جواز الوجهين، فإنَّ الحافظ المزِّيَّ لا ينكر رواية القابسي؛ بل يسلمها، لكن رواية الأكثرين عنده أرجح، وكذلك الحاكم لا ينكر الرواية الأولى، ولكن عنده الثانية أرجح؛ فافهم.
(قال: حدثني)؛ بالإفراد، وللأَصيلي: بالجمع (أبو جعفر): هو محمَّد بن علي الباقر، (قال) أي: أبو جعفر (قال لي جابر) زاد الأَصيلي: (ابن عبد الله): (أتاني ابن عمك)؛ أي: ابن عم أبيك علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ففيه مسامحة؛ لأنَّ الحسن هو ابن عم أبيه لابن عمه؛ فافهم.
(يعرِّض): جملة وقعت حالًا من (جابر)، والتعريض خلاف التصريح من حيث اللغة، ومن حيث الاصطلاح: هو عبارة عن كناية مسوقة لأجل موصوف غير مذكور، وقال في «الكشاف»: (التعريض أن يذكر شيئًا يدل به على شيء لم يذكره)، كذا في «عمدة القاري» (بالحسن): وسقطت الموحدة من أوله لابن عساكر (بن محمَّد ابن الحَنفية)؛ بالحاء المهملة، واسمها: خولة بنت جعفر، تزوجها علي بن أبي طالب بعد فاطمة الزهراء، فولدت له محمَّدًا هذا، فاشتُهر بها رضي الله عنه (قال) أي: الحسن بن محمَّد: (كيف الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة (من الجنابة؟)؛ أي: على أي كيفية يغتسل الجنب، قال في «عمدة القاري»: وههنا سؤال الحسن بن محمَّد عن جابر بن عبد الله عن كيفية الغسل من الجنابة، وفي الحديث المذكور قبل هذا الباب السؤال وقع عن جماعة بغير لفظ: «كيف»، ووقع جوابه هناك بقوله: «يكفيك صاع»، وههنا جوابه بقوله: «كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يأخذ ثلاث أكف ... » إلى آخره، والسؤال في الموضعين عن الكيفية غير أنه لم يذكر لفظ «كيف» هناك؛ اختصارًا، والجواب في الموضعين بالكمية؛ لأنَّ هناك قال: «يكفيك صاع»، وههنا قال: «ثلاثة أكف»، وكل منهما «كم»، وقول بعضهم: السؤال في الأول عن الكمية أشعر بذلك، قوله في الجواب: «يكفيك صاع» ليس كذلك؛ لأنَّه اغتر بظاهر قوله: «يكفيك الغسل»، وقد ذكرنا أن لفظة: «كيف» هناك مطوية؛ لأنَّ السؤال في الموضعين عن حالة الغسل وصفته بلفظ «كيف»؛ لأنَّها تدل على الحالة، فإن قلت: كيف يقول السؤال في الحالتين عن كيفية الغسل والجواب بالكمية؟ قلت: الحالة هي الكيفية، وللغسل حقيقة وحالة، فحقيقته: إسالة الماء على سائر البدن، وحالته: استعمال ماء نحو صاع أو ثلاثة أكف منه، ولم يكن السؤال عن حقيقة الغسل، وإنما كان عن حالة، فوقع الجواب بالكم في الموضعين؛ لأنَّ (كيف) و (كم) من العوارض المنحصرة في المقولات التسع، فطابق الجواب السؤال والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما بعث لبيان الحقائق، وإنما بعث لبيان الأحكام، والأحكام من عوارض الحقائق) انتهى كلامه رحمه الله تعالى، (فقلت) هذا من كلام جابر للحسن المذكور: (كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يأخذ ثلاثة أكف): هي رواية كريمة بالتاء، وفي رواية غيرها: (ثلاث أكف)؛ بغير التاء، و (أكف): جمع كف، والكف يذكر ويؤنث، فيجوز دخول التاء وتركها على الاعتبارين، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني: فإن قلت: الكف مؤنث، فلم دخلت التاء في الـ (ثلاثة)؟
قلت: المراد من الكف: قدر الكف وما فيها، فباعتباره دخلت أو باعتبار العضو، ورده في «عمدة القاري» فقال: (قلت: في الجواب الأول نظر، والثاني لا بأس به، والأحسن أن يقول ... ) إلى آخر ما علمت، ثم قال إمام الشارحين: (والمراد أن يأخذ في كل مرة كفين؛ لأنَّ الكف اسم جنس فيجوز حمله على الاثنين، والدليل عليه رواية إسحاق ابن راهويه من طريق حسن بن صالح، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه قال في آخر الحديث: «وبسط يديه»، ويؤيده حديث جبير بن مطعم الذي في أول الباب) انتهى؛ أي: فإنه أشار بيديه، فهو مقيد باليدين، فيحمل هذا المطلق على المقيد.
وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن تكون هذه الغرفات الثلاث؛ للتكرار، ويحتمل أن تكون لكل جهة من الرأس غرفة؛ كما في حديث القاسم بن محمَّد الآتي.
قلت: إن أراد بقوله هذه الغرفات ... إلى آخره أنه يأخذ في كل مرة كفًّا واحدًا؛ فممنوع؛ لأنَّه غير مفهوم من الحديث مع ما يدل على ذلك من رواية إسحاق وحديث جبير المتقدم، ويلزم من ذلك تفريق بين اليدين في الفرق، وهو ينافي قوله ويفيضها، فإن الإفاضة: الإسالة، وإذا رفع يده إلى رأسه؛ لا يبقى فيها شيء من الماء، ولا يحصل التعميم، كما لا يخفى، وإن أراد أنه يأخذ في كل مرة كفين كما قاله إمام الشارحين؛ فمسلَّمٌ، وإن أراد غير ذلك؛ فجوابه على الله تعالى.
وقوله: (ويحتمل أن تكون ... ) إلى آخره؛ ممنوع؛ لأنَّ ظاهر قوله: (ويفيضها) يقتضي أن يصبها على رأسه من غير ملاحظة جهة من الجهات؛ لأنَّ المراد التعميم، وبما ادَّعاه لا يحصل، فإن الصب في وسط الرأس هو الذي يحصل منه التعميم، كما لا يخفى.
وقوله: (كما في حديث القاسم ... ) إلى آخره: هذا لا يدل على ما ادَّعاه؛ لأنَّ لفظه أنَّه (فأخذ [1] بكفه، فبدأ بشق رأسه الأيمن ... ) إلى آخر الحديث، فهو صريح في أنه أخذ بكفٍّ واحد، وهنا ليس كذلك، فكيف يدل على ما ادعاه؟ وكأنه أخذ الاحتمال الأول من هذا الحديث، وهو غير ظاهر كما لا يخفى، وما مثله إلَّا كمثل مَن غرق في بحر عظيم ولم يجد مسلكًا فتعلق بحبال العرمط وهي شرش شجر الصفصاف، ضعيف الحال، لا ينهض الضعيف وينقطع حالًا، والله يحسن الأحوال.
(فيفيضها)؛ بالفاء؛ أي: ثلاثة الأكف، وفي رواية بالواو؛ أي: يصب الماء (على رأسه) وفي بعض النسخ: بدون (على)، كذا في «عمدة القاري»، وكأنه لتضمنه معنى يوصل، (ثم يفيض)؛ أي: الماء بعد أن أفاض على رأسه.
فإن قلت: لم لا يكون مفعوله المحذوف: ثلاثة أكف، بقرينة عطفه عليه؟
قلت: لأنَّ
%ص 265%
الثلاثة الأكف لا تكفي لسائر الجسد عادة، كذا في «عمدة القاري» (على سائر جسده)؛ أي: باقيه، فـ (سائر) بمعنى: باقٍ؛ لأنَّ الرأس من الجسد، قال جابر بن عبد الله: (فقال لي الحسن)؛ أي: ابن محمَّد المذكور: (إنَّي رجل كثير الشَّعَر)؛ بالتحريك؛ أي: كثير شعر الرأس، فلا يكفيني هذا القدر من الماء، (فقلت) من كلام جابر للحسن: (كان النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم أكثر منك شعَرًا)؛ بفتح العين المهملة، أفصح من سكونها؛ يعني: وقد كفاه هذا القدر من الماء، فالزيادة على ذلك خلاف السنة، ومنشؤه وسوسة الشيطان، فلا يلتفت إليه.
قال في «عمدة القاري»: (ومما يستنبط من الحديث جواز الاكتفاء بثلاث غرف على الرأس وإن كان كثير الشعر، وفيه: تقديم ذلك على إفاضة الماء على جسده، وفيه: الحث على السؤال في أمر الدين من العلماء، وفيه: وجوب الجواب عند العلم به، وفيه: دلالة على ملازمة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على ثلاث أكف في الغسل؛ لأنَّ لفظة «كان» تدل على الاستمرار، والله أعلم) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (أخذ)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
==================
(1/443)
(5) [باب الغسل مرةً واحدةً]
هذا (باب) حكم (الغُسل) بضمِّ الغين العجمة (مرة واحدة): في الجنابة، (مرة): منصوب على الحال، أو المصدرية، أو الظرفية، وهذا بناء على عدم تنوين (باب)، فإنَّ نونته؛ فـ (الغسل) مبتدأ، و (مرة) خبره بالرفع أو النصب، والمراد بالمرة الواحدة: الاقتصار في الغسل على المرة الواحدة، فإنَّ الفرض لا يقتضي التكرار، وقد حصل المقصود؛ وهو تعميم ما أمكن غسله من الجسد؛ كالمضمضة، والاستنشاق، والسرَّة، وداخل القلفة، ونحوها.
==========
%ص 266%
==================
(1/444)
[حديث: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماءً للغسل فغسل يديه مرتين]
257# وبالسَّند قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل [1])): هو التَّبُوذكي، وفي رواية: الاقتصار على (موسى) فقط (قال: حدثنا عبد الواحد): هو ابن زياد البصري، (عن الأعمش): هو سليمان بن مهران، (عن سالم)؛ بالسين المهملة (بن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، (عن كُريب)؛ بضمِّ الكاف: مولى ابن عباس، (عن ابن عباس) رضي الله عنهماأنَّه (قال: قالت مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: بنت الحارث زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالة ابن عباس: (وضعت للنبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم ماء للغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة من الجنابة؛ أي: لأجل أن يغتسل فيه منها، (فغسل يديه)؛ بالتثنية للكشميهني، وفي رواية المستملي والحَمُّوي: بالإفراد (مرتين أو ثلاثًا)؛ بالشك، والظاهر أنَّه من ميمونة، ولذا قال الكرماني: (الشك من ميمونة)، وزعم ابن حجر أنَّ الشك من الأعمش؛ كما سيأتي من رواية أبي عَوانة عنه، وغفل الكرماني، فقال: (الشك من ميمونة).
واعترضه إمام الشارحين فقال: (قلت: هذا مرَّ في باب «من أفرغ بيمينه على شماله في الغسل»، ولفظه: «فغسلها مرة أو مرتين»، قال سليمان: «لا أدري أذكر الثانية أم لا؟»، وسليمان هو الأعمش، ولكن الشك ههنا بين مرتين أو ثلاثًا، وهناك بين مرة أو مرتين، فعلى هذا: تعين الشك من الأعمش، ولكن موضعه مختلف) انتهى.
قلت: ولما كان موضعه مختلفًا؛ تبين أنَّ الشك ليس من الأعمش ههنا، أمَّا هناك؛ فالشك منه؛ كما قال صاحب «عمدة القاري» على أنَّ هذا الحديث ليس له تعلق بالحديث الذي سبق من رواية أبي عَوانة، وفي الحديث ههنا التصريح بمرتين أو ثلاث [2]، وهناك بالمرة أو المرتين، ولا شك أنَّ بين الحديثين اختلافًا [3]، فدل ذلك على أنَّ الشك ليس من الأعمش، وتعين أنَّ الشك من ميمونة، وهو ظاهر السياق؛ فافهم.
وبهذا ظهر أنَّ الكرماني لم يغفل، بل الغافل الذاهل ابن حجر، فإنَّه لم يفرق بين الحديثين مع اختلاف ألفاظهما وتباينهما في اللفظ والمعنى، وليس هذا شأن أهل الحديث؛ فليحفظ.
(ثم أفرغ على شِماله)؛ بكسر الشين المعجمة، ضد اليمين، وبالفتح: ضد الجنوب، (فغسل مذاكيره): هو جمع ذكر على خلاف القياس؛ كأنَّهم فرقوا بين الذكر الذي هو خلاف الأنثى، والذكر الذي هو الفرج في الجمع.
وقال الأخفش: (هو جمع لا واحد له؛ كأبابيل).
قلت: قيل: إنَّ الأبابيل جمع أبول؛ كعجاجيل جمع عجول، وقيل: هو جمع مذكار، ولكنهم لم يستعملوه وتركوه، والنكتة في ذكره بلفظ الجمع الإشارة إلى تعميم غسل الخصيتين وحواليهما؛ كأنَّه جعل كل جزء من هذا المجموع كذكر في حكم الغسل، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»؛ فافهم.
(ثم مسح) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يده) بالإفراد؛ أي: الشمال (بالأرض) مبالغة في إزالة ما عساه يكون عليها، وفيه حذف؛ أي: ثم غسلها، كما دلت عليه الروايات السابقة، ويأتي التصريح به في باب (المضمضة والاستنشاق)، وعند مسلم في هذا الحديث: (فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح يده بالحائط أو الأرض، ثم غسلها)، (ثم مضمض واستنشق): كل واحدة بثلاث غرفات، فلو فعلهما مرة واحدة؛ سقط الفرض وترك السنة، ويكفي الشرب عبًّا عن المضمضة لا مصًّا؛ لأنَّ المجَّ _وهو طرح الماء من الفم_ ليس بشرط على الصحيح، وقيل: إنَّه شرط، وأمَّا الشرب مصًّا؛ فلا يجزئه، كما صرَّح به في «البحر».
ولو كان سنُّه مجوفًا، أو بين أسنانه طعام، أو درن رطب؛ يجزئه؛ لأنَّ الماء لطيف يصل إلى كل موضع غالبًا، كذا في «التجنيس».
وذكر الإمام الحسامي: أنَّه إذا كان في أسنانه كوَّات فيها طعام؛ لا يجزئه ما لم يخرجه، ويجري عليها الماء.
وفي «المعراج»: (الأصح أنَّه يجزئه).
قال في «البحر»: (فالاحتياط أن يخرجه) انتهى.
ويفترض غسل ما تحت الدرن الذي في الأنف، قال في «فتح القدير»: (والدرن اليابس في الأنف؛ كالخبز الممضوغ والعجين يمنع) انتهى؛ أي: إيصال الماء إلى ما تحته؛ فلا بد من إخراجه، وهذا غير الدرن المجتمع تحت الأظفار، وقيد باليابس لما في «شرح الدرر»: أنَّ الدرن الرطب اختلف فيه المشايخ، كما في «القنية» عن «المحيط»، والمعتمد إخراجه أيضًا؛ لأنَّه لزج غالبًا لا يصل الماء إلى ما تحته، ولو نسي المضمضة والاستنشاق في الغسل وصلى، ثم تذكر؛ فلو صلى نفلًا؛ لم يعد؛ لعدم صحة شروعه، وأمَّا لو صلى فرضًا؛ فيلزمه قضاؤه؛ لعدم انعقاده، كذا في «منهل الطلاب».
(وغسل وجهه): وإن اكتحل بكحل نجس؛ لا يجب غسله، كما في «الدر المختار»، لكن في «الخادمي»: (ينبغي غسله زجرًا، ولعدم الحرج؛ للقلة) انتهى.
قلت: بل، لا ينبغي غسله لما قالوا: إذا جرى الدم في العين لا يجب غسله، ودعوى عدم الحرج ممنوعة للضرر؛ لأنَّ العين شحم، فيخشى عليها من الماء انجماده فيقع في العمى، وهو حرج مدفوع بالنص، كذا في «منهل الطلاب».
(و) غسل (يديه)؛ بالتثنية، وعند ابن ماجه: (فغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا)، ولم يذكر مسح رأسه هنا، ولا في «ابن ماجه» وغيرها، فدل على أنه لم يتوضأ قبل الغسل، بل هذه كيفية الغسل الفرض حيث إنَّه غسل يديه، وهو كالغسل عند الاستيقاظ من النوم، ثم غسل مذاكيره، وهذا هو الاستنجاء، ثم تمضمض واستنشق؛ لأنَّها من تمام غسل البدن، (ثم أفاض)؛ أي: أسال الماء (على جسده) كله، فيدخل فيه غسل الرأس، والأذنان، واللحية، والسرة، والحاجبان، وغيرها؛ لأنَّ الجسد: الرأس وما نزل عنه إلى القدمين، ويدل لذلك رواية الحسن عن النعمان.
وزعم العجلوني أنَّه لم يذكر مسح الرأس إمَّا للنسيان، وإلا؛ فلا بد من مسحه.
قلت: فقد غفل وذهل؛ لأنَّ المراد من هذا الحديث بيان الغسل الفرض فقط من غير إتيان بسننه بدليل أنَّه ترجم له المؤلف بالغسل مرة، والفرض لا يقتضي التكرار، وللتنبيه على أنَّه إذا فعل الجنب هذه الأفعال من غير تقدم وضوء؛ يجزئه ذلك، وعلى أنَّ المراد تعميم ما يمكن غسله من الجسد بلا حرجٍ؛ فرضٌ، والنسيان من الراوي غير ممكن؛ لأنَّه حجة ثقة عليه نظر رسول الله عليه السلام، فلا يمكن ذهول الراوي عن ذكر شيء من ذلك؛ لأنَّه مأمون في ذلك.
وقوله: (فلا بد من مسحه)؛ ممنوع؛ لأنَّه [4] في الإفاضة على الجسد مسح وغسل، على أنَّه لم يتوضأ وضوء الصَّلاة حتى يلزم مسح الرأس، على أنَّه ليس في الحديث تصريح بأنَّه توضَّأ وضوء الصَّلاة، بل بيان كيفية فرائض الغسل،
%ص 266%
كما لو تمضمض واستنشق وانغمس بالماء؛ فقد أجزأه، وإن مكث قدر الوضوء والغسل؛ فقد أكمل السنة، كما قدمناه؛ فليحفظ.
(ثم تَحَوَّل)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو بالمثناة الفوقية، والحاء المهملة، والواو المشددة المفتوحات؛ أي: تباعد (عن مكانه)؛ أي: الذي اغتسل فيه تحرُّزًا عن الماء المستعمل؛ لاجتماعه (فغسل قدميه)؛ أي: رجليه الشريفتين في المكان الثاني؛ تنظيفًا لهما عن الماء المستعمل، وهذا الغسل مستحب؛ ليكون البداءة والختم بأعضاء الوضوء، وهذا هو ظاهر الحديث وإن استبعده العجلوني تعصبًا، واستظهر أن غسلهما تكميلًا للوضوء الذي يسن قبل الغسل.
قلت: وهو مردود، فإن لم يوجد الوضوء منه عليه السلام في هذا الغسل لما قدمنا أن المراد بيان فرائض الغسل فقط، وسننه ثبتت بأحاديث أخرى غير هذا، أما هذا الحديث؛ فإنه ظاهر في أن غسلهما كان لما أصابهما من الماء المستعمل، ولم يوجد تصريح بالوضوء فيه أصلًا، فدل على أن هذا كيفية الغسل المفروض فقط من غير إتيان بسننه؛ فليحفظ.
ومطابقته للترجمة في قوله: (ثم أفاض على جسده) حيث لم يقيده بالمرة ولا المرتين، فحمل على أقل ما يسمَّى غسلًا، وهو المرة الواحدة، فإن الأمر لا يقتضي التكرار، وأجمع العلماء على أن الشرط في الغسل التعميم والإسباغ لا العدد من المرات، فالفرض في الغسل تعميم ما يمكن غسله من البدن من الماء مع سائر شعوره ولحيته ولو كثيفة؛ لخبر الحسن وإن ضعفه النووي، بل قال القرطبي: (إنه صحيح عن علي بن أبي طالب يرفعه: «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسله؛ فعل به كذا وكذا [5] من النار»، قال: فمن ثم عاديت شعر رأسي)، فيفترض غسل داخل المضفور من شعر الرجل ونقض ضفائره، ولو كان علويًّا أو تركيًّا، وإيصال الماء إلى ما استرسل من شعره، هذا هو الصحيح، أمَّا الشعر المعقود بنفسه؛ فالظاهر أنه لا يجب غسله؛ لأنَّ الاحتراز عنه غير ممكن، سواء كان من شعر الرجل أو المرأة، وأما الدرن المتولد من الجسد الذي يذهب بالدلك في الحمام؛ فإنه لا يمنع وصول الماء إلى الجسد، بخلاف الدرن الذي في الأنف؛ فإنه يمنع كما سبق، ولا يمنعه وسخ وتراب وطين، ولو كان في ظفر سواء كان قرويًّا أو مدنيًّا على الأصحِّ، وفرق بعضهم بينهما بأن القروي درنه من التراب والطين؛ فينفذ الماء إلى ما تحته، وأما المدني؛ فليس كذلك، بل يكون من الودك، فلا ينفذ الماء إلى ما تحته، وهو الاحتياط، ولا يمنعه دهن؛ كزيت، وسمن مائع، ودسومة.
قال نور الدين المقدسي: دهن رجليه، ثم توضأ وأمر الماء عليهما ولم يقبل الماء للدسومة؛ يجزئه لوجود غسل الرجلين بخلاف نحو عجين، وشحم، وسمن جامد، وعلك، وشمع، وقشر سمك، وخبز ممضوغ؛ فإنه مانع يجب إزالته، لكن ذكر في «النهر»: (ولو في أظفاره طين أو عجين؛ فالفتوى على أنه مُغتفَر قرويًّا كان أو مدنيًّا) انتهى.
وفي الحديث: استحباب الإفراغ باليمين على الشمال، وفيه: مسح اليد بالتراب من الأرض، وفيه: جواز الاستعانة بإحضار ماء الاغتسال والوضوء، وفيه: خدمة الزوجات للأزواج، وفيه: غسل اليدين ثلاثًا في أول الغسل، وفيه: دلالة ظاهرة على افتراض المضمضة والاستنشاق في الغسل. وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ أي: طهِّروا أبدانكم، يدل على ذلك، ولأن الأمر يقتضي أنه يجب غسل كل ما يمكن غسله من الجسد، وهذا يشمل المضمضة والاستنشاق، وهو ظاهر، وقد مضى الكلام على ذلك، وسيأتي تمام لذلك، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
وفيه: دلالة على نجاسة الماء المستعمل؛ لأنَّ قوله: (ثم يتحول ... ) إلى آخره صريح في ذلك؛ لأنَّه لو لم يكن نجسًا؛ لما تحول من مكانه ذلك، وما تحوله إلا لنجاسته، والاحتراز عنه أحوط، كما لا يخفى، والمذهب المصحَّح المفتى به عندنا: أن الماء المستعمل طاهر في نفسه، يجوز شربه والعجن به، إلا أن النفس تعافه، وقدمنا ذلك، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (إسماعيلي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ثلاثًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (اختلاف)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (كذا)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (إسماعيلي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ثلاثًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (اختلاف)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (إسماعيلي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ثلاثًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (اختلاف)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/445)
(6) [باب من بدأ بالحِلاب أو الطيب عند الغسل]
هذا (باب) حكم (من)؛ أي: الذي (بدأ بالحِلاب أو الطيب عند الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: من الجنابة، قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: واستشكل القوم مطابقة هذه الترجمة لحديث الباب، فافترقوا ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: قد نسبوا البخاري إلى الوهم، والغلط منهم إلا الإسماعيلي، فإنه قال في «مستخرجه»: يرحم الله أبا عبد الله؛ يعني: البخاري من ذا الذي يسلم من الغلط، سبق إليه قلبه أن الحلاب طيب، وأي معنى للطيب عند الاغتسال قبل الغسل؟ وإنما الحلاب: إناء يحلب فيه، وسمي محلبًا أيضًا، وهذا الحديث له طرق يتأمل المتأمل بيان ذلك حيث جاء فيه: (كان يغتسل من حلاب)، ورواه هكذا أيضًا ابن خزيمة وابن حبان، وروى أبو عوانة في «صحيحه» عن يزيد بن سنان، عن أبي عاصم بلفظ: (كان يغتسل من حلاب فيأخذ غرفة بكفيه، فيجعلها على شقه الأيمن، ثم الأيسر)؛ كذا الحديث، فقوله: (يغتسل)، وقوله: (غرفة) أيضًا مما يدل على أن الحلاب: إناء الماء، وفي رواية لابن حبان والبيهقي: (ثم يصب على شق رأسه الأيمن)، والطيب لا يعبر عنه بالصب، وروى الإسماعيلي من طريق بندار عن أبي عاصم بلفظ: (كان إذا أراد أن يغتسل من الجنابة دعا بشيء دون الحلاب، فأخذ بكفه فبدأ بالشق الأيمن ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه ماء، فأفرغ على رأسه)، فلولا قوله: (ماء)؛ لأمكن حمله على الطيب قبل الغسل، ورواية أبي عَوانة أصرح من هذه، ومن هؤلاء الفرقة ابنُ الجوزي حيث قال: غلط جماعة في تفسير الحلاب؛ منهم: البخاري، فإنَّه ظنَّ أن الحلاب شيء من الطيب.
والفرقة الثانية: منهم الأزهري: قالوا: هذه تصحيف، وإنما هو الجُلَّاب؛ بضمِّ الجيم، وتشديد اللام؛ وهو ماء الورد، فارسي معرب.
والفرقة الثالثة: منهم الطبري: قالوا: لم يرد البخاري بقوله: (أو الطيب) ما له عرف طيب، وإنما أراد تطييب البدن وإزالة ما فيه من وسخ ودرن ونجاسة إن كانت، وإنما أراد بالحلاب: الإناء الذي يغتسل منه يبتدأ به فيوضع فيه ماء الغسل، قال الطبري: وكلمة (أو) في قوله: (أو الطيب) بمعنى الواو، كذا ثبت في بعض الروايات، ثم قال إمام الشارحين: أقول وبالله التوفيق: لا يظن أحد أن البخاري أراد بالحلاب ضربًا من الطيب؛ لأنَّ قوله: (أو الطيب) يدفع ذلك، ولم يرد إلا الإناء يوضع فيه ماء، قال الخطابي: الحلاب: إناء يتَّسع قدر حلبة ناقة، والدليل على أن الحلاب ظرف: قول الشاعر:
صاح هل رأيت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما بقي في الحلاب
وقال القاضي عياض: الحلاب والمِحلب؛ بكسر الميم: وعاء ملؤه قدر حلب الناقة، ومن الدليل على أن المراد من الحلاب غير الطيب: عطفُ (الطيب) عليه بكلمة (أو)، وجعله قسيمًا له، وبهذا يندفع ما قاله الإسماعيلي: إن البخاري سبق إلى قلبه أن الحلاب طيب وكيف يسبق إلى قلبه ذلك، وقد عطف (الطيب) عليه، والمعطوف غير المعطوف عليه، وكذلك دعوى الأزهري التصحيف غير صحيحة؛ لأنَّ المعروف في الرواية بالمهملة والتخفيف، وكذلك أنكر عليه أبو عبيد الهروي، وقال القرطبي: الحِلاب؛ بكسرالمهملة، وقد وهم من ظنه من الطيب، وكذا من قاله بضمِّ الجيم على أن قوله بتشديد اللام غير صحيح؛ لأنَّ في اللغة الفارسية: ماء الورد هو جُلَاب؛ بضمِّ الجيم، وتخفيف اللام، وأصله: كُلَاب، فكلٌّ بضمِّ الكاف: الصماء، وبسكون اللام: اسم للورد عندهم، وآب؛ بمد الهمزة، وسكون الموحدة: اسم للماء؛ لأنَّ عندهم أنَّ المضاف إليه يتقدم على المضاف، وكذلك الصفة تتقدم على الموصوف، وإنما الجلَّاب بتشديد اللام؛ فاسم
%ص 267%
للمشروب.
فإن قلت: إذا ثبت أنَّ الحلاب اسم للإناء؛ فالمذكور في الترجمة شيئان؛ أحدهما: الإناء، والآخر: الطيب، وليس في حديث الباب ذكر الطيب، فلا يطابق الحديث الذي فيه إلا بعض الترجمة؟
قلت: قد عقد الباب؛ لأحد الأمرين حيث جاء بـ (أو) الفاصلة دون (الواو) الواصلة، فوفى بذكر أحدهما على أنَّه كثيرًا يذكر في الترجمة شيئًا ولا يذكر في الباب حديثًا متعلقًا به لأمر يقتضي ذلك.
فإن قلت: ما المناسبة بين ظرف الماء والطيب؟
قلت: من حيث أنَّ كلًّا منهما يقع في مبدأ الغسل، ويحتمل أيضًا أنَّه أراد بالحلاب: الإناء الذي فيه الطيب؛ يعني به: تارة يطلب ظرف الطيب، وتارة يطلب نفس الطيب، كذا قاله الكرماني، ولكن يرد عليه ما رواه الإسماعيلي من طريق مكي بن إبراهيم عن حنظلة في هذا الحديث: (كان يغتسل بقدح) بدل قوله: (بحلاب)، وزاد فيه: (كان يغسل يديه، ثم يغسل وجهه، ثم يقول بيديه ثلاث غرف) انتهى كلام «عمدة القاري» رحمه الله تعالى.
==================
(1/446)
[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب]
258# وبه قال: (حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (محمَّد بن المثنى)؛ بالمثلثة، البصري (قال: حدثنا أبو عاصم): هو الضحاك بن مَخْلد؛ بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، البصري المتفق عليه علمًا وعملًا، ولُقِّب بالنبيل؛ لأنَّ شعبة حلف أنَّه لا يحدث شهرًا، فبلغ ذلك أبا عاصم، فقصده فدخل مجلسه، وقال: حدث وغلام العطار حرٌّ عن كفارة يمينك فأعجبه ذلك، وقال: أبو عاصم النبيل، فلقِّب به، وهو من كبار شيوخ المؤلف، وقد أكثر عنه في هذا الكتاب، لكنه نزل في هذا الإسناد، فأدخل بينه وبينه محمَّد بن المثنى، كذا قاله في «عمدة القاري»، (عن حنظلة)؛ بالحاء المهملة أوله: هو ابن أبي سفيان القرشي، (عن القاسم): هو ابن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه التيمي المدني، أفضل أهل زمانه، كان ثقةً عالمًا فقيهًا من الفقهاء السبعة بالمدينة، إمامًا ورعًا من خيار التابعين، المتوفى سنة بضع ومئة، (عن عائشة): أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أنَّها (قالت: كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم إذا اغتسل)؛ أي: إذا أراد أن يغتسل (من الجنابة دعا)؛ أي: طلب ماء (بشيء نحو الحِلاب)؛ بكسر الحاء المهملة؛ أي: إناء مثل الإناء الذي يسمى الحلاب، وقد وصفه أبو عاصم: بأنَّه أقل من شبر في شبر، أخرجه أبو عَوانة في «صحيحه» عنه، وفي رواية لابن حبان: (وأشار أبو عاصم بكفيه يصف به دوره الأعلى)، وفي رواية للبيهقي: (كقدر كوز يسع ثمانية أرطال)، وفي حديث مكي عن القاسم: (أنَّهسئل كم يكفي من غسل الجنابة؟ فأشار إلى القدح والحلاب)، ففيه: بيان مقدار ما يحمل من الماء لا الطيب والتطيب، ومن له ذوق من المعاني وتصرف في التراكيب؛ يعلم أنَّ الحلاب المذكور في الترجمة إنَّما هو الإناء، ولم يقصد البخاري إلا هذا غير أنَّ القوم أكثروا الكلام فيه من غير زيادة فائدة، ولفظ الحديث أكبر شاهد على ما ذكرنا؛ لأنَّه قال: (دعا بشيء نحو الحلاب)، فلفظ (نحو) ههنا بمعنى: المثل، ومثل الشيء: غيره، فلو كان دعا بالحلاب؛ كان ربما يشكل، على أنَّ في بعض الألفاظ: (دعا بإناء مثل الحِلاب)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (فأخذ) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (بكفه)؛ بالإفراد، وفي رواية الكشميهني: (بكفيه)؛ بالتثنية، وكذا وقع في رواية مسلم بعد قوله: (الأيسر)، وكذا وقع في رواية أبي داود؛ أي: من الماء الذي في الإناء الذي يسمى الحلاب، وهذا هو المعنى الصحيح، وزعم العجلوني أنَّ المراد بالحلاب: الطيب، فيكون (فأخذ)؛ أي: من الطيب الذي في الإناء.
قلت: وهو فاسد، فأي معنى لوضع الطيب في الإناء؟ على أنَّ [1] الطيب إنَّما يستعمل بعد الغسل لا قبله، وهنا يكون الغسل بعد التطيُّب فلا فائدة فيه، ولا ثمرة تحويه؛ فافهم.
(فبدأ بشِق) بكسر الشين المعجمة (رأسه الأيمن): وهو القوذ الأيمن؛ لأنَّ الرأس أربع قطع: الناصية، والقذال، والقوذان، (ثم) بشق رأسه (الأيسر): وهو القوذ الأيسر، فغسلهما بالماء، (فقال بهما)؛ أي: بكفيه، وهذا يدل على أنَّ الرواية الصحيحة: (فأخذ بكفيه)؛ بالتثنية حيث أعاد الضمير بالتثنية، وأمَّا على رواية مسلم؛ فظاهر؛ لأنَّه زاد في روايته بعد قوله: (الأيسر فأخذ بكفيه)، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه أيضًا على غير الكلام، فتقول: قال بيده؛ أي: أخذ، وقال برجله؛ أي: مشى، قال الشاعر:
وقالت له العينان سمعًا وطاعة ....
أي: أومأت.
وجاء في حديث آخر: (فقال بثوبه)؛ أي: رفعه، وكل ذلك على المجاز بالاتساع، ويقال: إنَّ (قال) يجيء لمعان كثيرة بمعنى: أقبل، ومال، واستراح، وذهب، وغلب، وأحب، وحكم. تقول: أخذ العصا وقال به كذا؛ أي: ضرب، وأخذ ثوبه وقال به عليه؛ أي: لبسه، وغير ذلك، كذا في «عمدة القاري»، ومعنى (قال بهما): أي: قلب بكفيه الماء (على وسط رأسه) والجار والمجرور متعلق بـ (قال)، وسقط في رواية لفظ: (وسط)، قال في «عمدة القاري»: (بفتح السين)، وقال الجوهري: (بالسكون ظرف، وبالحركة اسم، وكل موضع صلح فيه (بين)؛ فهو بالسكون، وإن لم يصلح فيه؛ فهو بالتحريك)، وقال المطرزي: سمعت ثعلبًا يقول: استنبطنا من هذا الباب: أنَّ كل ما كان أجزاء تنفصل.
قلت: فيه (وسْط) بالتسكين، وما كان لا ينفصل، ولا يتفرق.
قلت: بالتحريك تقول من الأول: اجعل هذه الخرزة وسط السبحة، وانظم هذه الياقوتة وسط القلادة، وتقول أيضًا: لا تقعد وسط الحلقة ووسط القوم، هذا كله يتجزأ، ويتفرق، وينفصل، فتقول فيه بالتسكين، وتقول في القسم الثاني: احتجم وسط رأسه، واقعد وسط الدار، وقس على هذا، انتهى، ثم قال: ومما يستنبط من الحديث: أنَّ المغتسل يستحب له أن يجهز الإناء الذي فيه الماء؛ ليغتسل منه، وفيه أنَّ قولها: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم) دليل على مداومته على ذلك؛ لأنَّ هذه اللفظة تدل على الاستمرار والدوام، ويستحب للمغتسل أن يبدأ بشقه الأيمن، ثم بالشق الأيسر، ثم على وسط رأسه، انتهى.
قلت: وهذا قول شمس الأئمَّة الحلواني من الأئمَّة الحنفية، ومشى عليه في «تنوير الأبصار والدرر والغرر» قائلًا: (هو الأصح)، وقدمنا أنَّ الصحيح أنَّه يبدأ بالرأس، فينبغي للمغتسل أن يفعل مرة هكذا، ومرة هكذا؛ ليكون فعله موافقًا لحديث الباب، ولما سبق من الأحاديث، والله أعلم.
وزعم ابن حجر أنَّ المراد بـ (الطيب) في الترجمة الإشارة إلى حديث عائشة أنَّها كانت تطيِّب النبيَّ عليه السلام عند الإحرام، والغسل من سنن الإحرام، فكان الطيب حصل عند الغسل.
قال: ويقويه تبويب البخاري بعد سبعة أبواب بـ (باب من تطيب ثم اغتسل)، وساق حديث: (أنا طيَّبت رسول الله عليه السلام، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرمًا)، فعلى هذا؛ فقوله: (من بدأ بالحلاب)؛ أي: بالطيب عند إرادة الغسل، قال: (وهذا أحسن الأجوبة) انتهى.
قلت: وهذا ليس بشيء، فإنَّ قوله: (إنَّ المراد ... ) إلخ بعيد؛ لأنَّ عادة المؤلف يذكر الترجمة، ويستدل لها بحديث فأكثر، فلا يلزم أن يشير في ترجمة باب على حدة إلى حديث آخر مذكور في باب آخر هذا بعيد جدًّا، على أنَّ حديث عائشة إنَّما هو في حال الإحرام، وهنا في غسل الجنابة، كما صرح به الحديث، فإنَّ حال الإحرام لا يقاس على حال الإحلال، فإنَّه قياس مع الفارق؛ لأنَّ حال الإحرام يحرم التطيُّب، فيلزم ذلك قبل الغسل للسنَّة، والغسل وإن كان من سنن الإحرام لكنه ممنوع من التطيب بعد الغسل.
وقوله: (ويقويه ... ) إلخ؛ هذا ليس بشيء أيضًا؛ لأنَّ تبويب البخاري مخصوص لحكم التطيب قبل غسل الإحرام، وسياق الحديث يدل عليه، فهذا ليس له فائدة هنا؛ لأنَّ كل ترجمة وأحاديثها مخصوصة بحكمها لا تعلق لها بأحاديث أخرى مذكورة في باب آخر.
وقوله: (فعلى هذا ... ) إلخ؛ بعيد جدًّا، أما سمعت قول الإسماعيلي سبق لقلب البخاري أنَّ الحلاب طيب، وأي معنى للطيب عند الاغتسال قبل الغسل؟
وقول ابن الأثير: لأن يستعمل الطيب بعد الغسل أليق منه قبل الغسل؛ لأنَّه إذا بدأ به ثم اغتسل؛ أذهبه الماء؛ فلا فائدة له
%ص 268%
في ذلك، فهذا الجواب ضعيف، وليس بحسن، فضلًا عن أن يكون أحسن، فإنَّ المقصود من التطيب ليس استعمال الطيب فقط، بل استعماله مع الانتفاع برائحته ونحو ذلك، واستعماله قبل الغسل لا معنًى [له]؛ لأنَّ الماء لا يبقى له أثرٌ [2] في البدن، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
==========
[1] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أثرًا)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/447)
(7) [باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة]
هذا (باب) حكم (المضمضة والاستنشاق في) الغسل من (الجنابة) هل هما واجبان أو سنتان، ومثل الجنابة الحيض والنفاس، كما لا يخفى، والإمام المؤلف قصد بهذه الترجمة إثبات وجوب المضمضة والاستنشاق، فاستنبط من الحديث الآتي في هذا الباب وجوبهما، وكذلك الحديث السابق في الباب قبله، فإنَّه يدل على وجوبهما أيضًا؛ حيث إنَّه لم يذكر فيه أنَّه توضأ وضوءه للصلاة، فدل ذلك على وجوبهما، كما لا يخفى، ولهذا عقب هذا الباب بالباب الذي قبله، وهذا ظاهر، كما لا يخفى، وبهذا ظهر فساد ما زعمه ابن حجر تبعًا لما زعمه ابن بطال: من أنَّ المؤلف استنبط عدم وجوبهما من هذا الحديث؛ لأنَّ في رواية الباب الذي بعده في هذا الحديث: (ثم توضأ وضوءه للصلاة)، فدل على أنَّهما للوضوء، وقام الإجماع على أنَّ الوضوء في غسل الجنابة غير واجب وهما من توابع الوضوء، فإذا سقط الوضوء؛ سقط توابعه، ويحمل ما روي من صفة غسله عليه السلام على الكمال والفضل.
ورد هذا صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: (هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأنَّ هذا الحديث ليس له تعلق بالحديث الذي يأتي بعده، وفيه تصريح بالمضمضة والاستنشاق، ولا شك أنَّه عليه السلام لم يتركهما؛ فدل ذلك على المواظبة، وهي تدل على الوجوب، والدليل على المواظبة عدم النقل عنه عليه السلام تركه إياهما، وسقوط الوضوء القصدي لا يستلزم سقوط الوضوء الضمني، وعلى كل حال لم ينقل تركهما، وأيضًا النص يدل على وجوبهما، كما ذكرنا فيما مضى) انتهى.
قلت: والنص هو قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، فإنَّ معناه: طهروا أبدانكم، فيدخل فيه كل ما أمكن تطهيره من البدن من غير حرج، ولا ريب أنَّ المضمضة والاستنشاق داخلان تحت هذا الأمر، وهو للوجوب، فدل ذلك على وجوبهما بالنص، على أنَّ قول ابن بطال: (استنبط عدم وجوبها ... ) إلخ؛ فاسد، فإنَّ الظاهر أنَّ المؤلف استنبط وجوبهما بدليل أنَّه عقب هذا الباب بالباب الذي قبله، والأحاديث التي فيهما لم يذكر فيها أنَّه توضأ وضوءه للصلاة، فدل ذلك على أنَّه اغتسل الغسل المفروض بدون سننه، وهو دليل على وجوبهما قطعًا، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
وزعم ابن حجر في «الانتقاض» معترضًا على صاحب «عمدة القاري»، فقال: (حكاية هذا الكلام تغني عن تكلف الرد عليه، وقد صرح الحذاق بأنَّ عدم النقل لا يدل على عدم الوقوع، ولا سيما إن وجدت قرينة تدل على عدم الوقوع، وهذا المعترض أكثر من الطعن على من تقدمه) انتهى.
قلت: وهذا الزعم باطل، وأشار بقوله: (حكاية هذا ... ) إلخ: إلى أنَّ الدليل الذي ذكره صاحب «عمدة القاري» قوي؛ كالجبل الراسخ، فلم يوجد ما يعارضه إلا قوله: (وقد صرح ... ) إلخ، وهو لا يعارضه أصلًا، فأي قرينة وجدت مع النقل بالوقوع والتصريح بعدم نقل الترك؟ على أنَّ الأحاديث الواردة في ذلك قرينة ظاهرة على أنَّه عليه السلام لم يتركهما أصلًا، هذا وقد روى البيهقي والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثًا فريضة»، وما زعمه بعضهم من أنَّه ضعيف فاسد؛ لأنَّه روي بطرق متعددة، وبتعدد طرقه يرتقي إلى درجة الصحيح، كما لا يخفى، وقد انعقد الإجماع على أنَّ الفرض مرة واحدة، فهذا دليل ظاهر، وقرينة واضحة على أنَّه عليه السلام لم يتركهما أصلًا، فدل ذلك على الوجوب قطعًا، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
وقوله: (وهذا المعترض ... ) إلخ؛ فإنا لم نعهد سوء أدب من هذا الإمام الشارح مع من تقدمه من المجتهدين، فإنَّه سيد المؤدبين من الشراح، بل عهدنا سوء الأدب من ابن حجر في حقهم كثيرًا، فلا له أن يقول هذا الكلام، ومقصد إمامنا الشارح بيان الحق والرجوع إليه؛ إذ ما بعد الحق إلا الضلال؛ فافهم، وبما قررناه ظهر فساد ما زعمه ابن حجر من أنَّ الله تعالى لم يذكرهما في كتابه ولا أوجبهما رسوله، ولا اتفق الجميع على إيجابهما، والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه، وما كان في معناها) انتهى.
قلت: فإنَّ هذا كلام من لم يشمَّ شيئًا من العلم كيف ولم يذكرهما الله تعالى؟ وقد قال [الله] تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ ومعناه: طهروا أبدانكم، فيدخلان تحت الأمر، فكأنَّه تعالى قال ذلك صريحًا، والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قد ثبت عنه وجوبهما قولًا وفعلًا، كما قدمناه، وهما من الفروض العملية، وهي لا تحتاج لإثباتها الإجماع كما زعمه، فإنَّ الإجماع يُحتاج إليه في الفروض العلمية ألا ترى أنَّ من أنكر فرضيتهما لا يكفر؛ لأنَّهما من الفروض العملية لا العلمية، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، وفي هذا القدر كفاية للمتعصبين؛ فافهم.
==========
%ص 269%
==================
(1/448)
[حديث: صببت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلًا فأفرغ بيمينه]
259# وبه قال: (حدثنا عُمر)؛ بضمِّ العين المهملة (بن حفص بن غِياث)؛ بكسر الغين المعجمة، آخره مثلثة، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين (قال: حدثنا أبي): هو حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي، وُلِّي القضاء ببغداد، أوثق أصحاب الأعمش، ثقة، فقيه، عفيف، حافظ، مات سنة ست وتسعين ومئة (قال: حدثنا الأعمش): هو سليمان بن مهران (قال: حدثني) بالإفراد (سالم)؛ بالسين المهملة: هو ابن أبي الجعد، التابعي، (عن كُريب)؛ بضمِّ الكاف؛ مصغرًا: مولى ابن عباس، (عن ابن عباس): عبد الله رضي الله عنهما قال: (حدثتنا)؛ بتاء التأنيث بعد المثلثة (مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: بنت الحارث زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالة ابن عباس رضي الله عنها أنَّها (قالت: صببت للنبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم غُسلًا)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: ماء للاغتسال من الجنابة، (فأفرغ): من الإفراغ؛ أي: صب النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (بيمينه على يساره)؛ أي: صب الماء الذي طلبه أولًا في يمينه من الإناء، أو أخذه بها، فيكون هذا على وفق عادته عليه السلام؛ لأنَّ عادته عليه السلام غالبًا الإفراغ بشماله على يمينه؛ لما رواه مسلم من حديث أبي سَلَمَة عن عائشة قالت: (كان النبي عليه السلام إذا اغتسل بدأ بيمينه، فصب عليها من الماء فغسلها)، وقد يقال: إنَّما أفرغ بيمينه على يساره لما كان فيها من المني وغيره؛ ليكون متناولًا الماء بيديه الطاهرتين، وهذا معنًى صحيح؛ فليحفظ، (فغسلهما)؛ أي: اليمين واليسار معًا بعد أن غسل اليسار أولًا، ثم جعل الماء فيهما فغسلهما معًا هذا هو الظاهر؛ فافهم، (ثم غسل فرجه)؛ أي: مذاكيره القبل والدبر وما حولهما بعد أن أفرغ بيمينه على شماله، (ثم قال بيده)؛ أي: اليسار التي استنجى بها (الأرض)؛ أي: ضرب بيده الأرض، فإنَّ العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام، كما ذكرناه عن قريب، وسيجيء في رواية في هذا الموضع: (فضرب بيديه الأرض)؛ بالتثنية، كذا في «عمدة القاري»، وفي رواية أبي ذر، وابن عساكر: (على الأرض)؛ أي: ضرب بيده عليها، أو يقال: مسح بيده على الأرض، فإنَّ
%ص 269%
المراد بـ (قال) إمَّا ضرب أو مسح، قال ابن بطال: سمى الفعل في (ثم قال بيده الأرض): قولًا، كما سمى القول فعلًا في حديث: «لا حسد إلا في اثنتين» حيث قال في الذي يتلو القرآن: «لو أوتيت مثل ما أوتي؛ لفعلت مثل ما فعل») انتهى؛ فتأمل، (فمسحها) أي: اليد (بالتراب) لما أنَّه أصابها شيء من المني، أو المذي، أو غيرهما وهذا لزج لا يخرجه إلا الدلك، فلهذا احتاج إلى مسحها بالتراب.
وقال ابن الملقن: (لعله لأذًى كان فيها، وإلا؛ لكان يكتفي بالماء وحده) انتهى.
قلت: نعم؛ قد كان فيها أذًى من مني أو غيره، كما قلنا.
(ثم غسلها)؛ أي: اليد بالماء؛ لأجل الغسل من الجنابة بدليل قوله: (ثم مضمض) وفي رواية: (ثم تمضمض)؛ بزيادة مثناة فوقية أوله، (واستنشق) فإنَّهما فرضان في الغسل بدليل أنَّه لم يذكر غسل اليدين، ولا مسح الرأس، وبه ظهر فساد ما زعمه العجلوني (من أنَّه غسلها لأجل الوضوء المسنون، فيكون فيه حذف غسل اليدين، ومسح الرأس) انتهى؛ لأنَّه إنَّما قال ذلك تعصبًا وترويجًا لما ذهب إليه إمامه من سنيتهما، وهو مردود، فإنَّ هذا الحديث وغيره يدل على وجوبهما؛ لأنَّ قوله: (ثم غسلها) ظاهر في أنَّه لأجل الغسل لا للوضوء.
وقوله: (ثم مضمض)؛ أي: ابتدأ بفروض الغسل، وهكذا فليس فيه وضوء؛ لأنَّه لو كان فيه وضوء؛ لما ترك غسل اليدين ومسح الرأس.
وقوله: (وفيه حذف ... ) إلخ؛ ممنوع، فأي دليل دله على الحذف وما هو إلا مجرد دعوى بلا دليل، وتعصب لا يشفي العليل؛ فافهم.
(ثم غسل) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وجهه) الشريف؛ أي: ولحيته الشريفة، (وأفاض) أي: صب الماء (على رأسه)؛ أي: وغسل باقي جسده ثلاثًا يستوعب الجسد بكل واحدة منها، وعطف (وأفاض على رأسه) بـ (الواو) يصدق بتقديمه على غسل الوجه، وبتأخيره عنه؛ لأنَّ الواو لمطلق الجمع على التحقيق، وهو يدل على أنَّ هذا ليس بوضوء، كما زعمه، بل غسل؛ فليحفظ، (ثم تَنَحَّى)؛ بمثناة فوقية، بعدها نون، ثم حاء مهملة مشددة المفتوحات؛ أي: تحول وتباعد عن مكانه الذي اغتسل فيه إلى مكان آخر، (فغسل قدميه)؛ أي: رجليه؛ تنظيفًا لهما عن الماء المستعمل، وتتميمًا للغسل؛ ليكون البدء والختم بأعضاء الوضوء، (ثم أُتي)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (بمِنديل)؛ بكسر الميم، واشتقاقه من الندل؛ وهو الوسخ؛ لأنَّه يندل به، ويقال: تندلت بالمنديل، قال الجوهري: (ويقال أيضًا: تمندلت)، وأنكرها الكسائي، ويقال: تمدلت، وهو لغة فيه، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ففيه ثلاث لغات، وهو معروف لا يخفى.
(فلم ينفُض بها)؛ بضمِّ الفاء، وفي بعض النسخ: (فلم ينتفض بها)؛ بزيادة فوقية مفتوحة بعد النون، قال الجوهري: النفض: التنشف؛ أي: لم يتنشف، وإنَّما أنَّث الضمير؛ لأنَّ المنديل في معنى الخرقة، وعن عائشة رضي الله عنها: (أنَّه عليه السلام كانت له خرقة يتنشف بها)، كذا في «عمدة القاري»، قال: زاد في رواية: (كريمة): (قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف: (يعني)؛ أي: يقصد، ويريد أنَّه (لم يتمسح به)؛ أي: بالمنديل، وفي نسخة: (بها)؛ أي: بالخرقة، كما مر؛ أي: من بلل ماء الغسل، وأراد النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بتركه المنديل إبقاء بركة الماء _لأنَّه أثر عبادة_ والتواضع؛ لأنَّ فعله عادة المتكبرين المترفهين، مع أنَّه يحتمل أن يكون تركه لشيء رآه فيه، أو لاستعجاله إلى الصَّلاة، أو لأنَّه عنده خرقة مخصوصة بنفسه، كما روت عنه عائشة؛ لأنَّ ظاهر الحديث يدل على أنَّه عليه السلام كان يتنشف، ولولا ذلك؛ لم تأته بالمنديل، ففيه: دليل على أنَّه لا بأس بالتمسح بالمنديل للمتوضئ والمغتسل، إلا أنَّه ينبغي ألَّا يبالغ، ويستقصي فيبقي أثر الوضوء على أعضائه، كما صرح به في «معراج الدراية»، وصرح في «المنية» باستحباب التمسح بالمنديل بعد الغسل، والصحيح أنَّه لا يكره استعمال الخرقة؛ لتمسح العرق، ولإلقاء النخامة والمخاط، كما في «الكافي»، و «شرح الوقاية»، وقال النووي: (واختلف فيه في الوضوء والغسل، والأظهر أنَّ المستحب تركه، وقيل: مكروه) انتهى.
فما يفعله بعض الناس في زماننا من تعليق الخرقة أو المنديل بعد التمسح به في الأواسط مكروه؛ لأنَّ فيه إظهار الزينة والتكبر، وأنَّه قد صلى في المسجد الجامع مع الجماعة، وأنَّه من الورعين الصالحين، ويمر على أرباب الدكاكين، وهم قعود ولسان حاله يقول: إنَّ هؤلاء الجماعة مقصرون في العبادة ومقبلون على الدنيا، والحال يحتمل أنَّه من المنافقين المرائين الذين يستحقون حبلًا، وطبلًا، وشيحًا، وكبريتًا، ورجوعًا إلى القهقرى، والله أعلم، هذا وقد أخذ المنديل عثمان بن عفان، والحسن بن علي، وأنس، وبشير بن أبي مسعود، ورخص فيه الحسن، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، والضحاك، وكان الإمام الأعظم، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق لا يرون به بأسًا، وكرهه ابن أبي ليلى، والنخعي، وابن المسيب، ومُجَاهِد، وأبو العالية، وفي الحديث أيضًا دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل؛ لقولها في بيان غسله عليه السلام: (ثم تمضمض واستنشق)، وبهذا تحصل المطابقة للترجمة، وممن قال بوجوبهما: رأس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وإسحاق، وأحمد ابن حنبل، وبعض أصحاب الشافعي، وبعض أصحاب مالك.
وقال في «المنتهى الحنبلي»: (ويصح أن يسميا فرضين في أصح الروايتين، وهما واجبان في الوضوء والغسل، فلا يسقط واحد منهما سواء على المشهور).
وعن أحمد: (أنَّ الاستنشاق وحده واجب في الطهارتين) انتهى.
وممن قال بوجوبهما أيضًا: حمَّاد بن سليمان، والزُّهري، وعطاء، وبعض أصحاب داود، وأبو ثور، وأبو عبيد، وغيرهم، ففي الحديث الصحيح قوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة؛ فبلوا الشعر، وأنقوا البشرة ... »؛ إلى آخر الدلائل الواضحة التي قدمناها الدالة على وجوبهما في الغسل.
وقال مالك، والشافعي، والأوزاعي، والطبري، والليث، والحكم، وقتادة: إنَّهما سنة في الغسل؛ كالوضوء.
قال في «المنهاج» و «شرحه»: ولا يجب مضمضة واستنشاق لأمرين؛ أحدهما: القياس على الوضوء، وعلى غسل الميت، والثاني: ما رواه أحمد أنَّه ذكر عند النبيِّ عليه السلام الغسل من الجنابة، فقال: (أمَّا أنا؛ فآخذ ملء كفي ثلاثًا، فأصبه على رأسي، ثم أفيض بعده على سائر جسدي) انتهى.
وما رواه مسلم: («عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار،
%ص 270%
وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتفاض الماء»، قال وكيع: يعني: الاستنجاء، قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) انتهى.
قلت: وهذا مرود؛ لأنَّ قوله: (القياس على الوضوء ... ) إلخ غير ظاهر؛ لأنَّ الله تعالى بيَّن فرائض الوضوء في كتابه العزيز، وبيَّن أنَّ الفرض غسل الوجه، وهو ما يواجه به الإنسان، والمواجهة في الفم والأنف منعدمة غير حاصلة، فلا يتناولها افتراض غسل الوجه، فتثبت سنيتهما في الوضوء، أمَّا الغسل؛ فإنَّه لما أمر سبحانه بقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ ومعناه: طهروا أبدانكم، وهو يشملها؛ لأنَّهما من البدن؛ علم منه افتراضهما في الغسل؛ لأنَّ المراد افتراض غسل كل ما يمكن غسله من البدن من غير حرج، وغسلهما ممكن، فثبتت فرضيتهما، فالقياس على الوضوء غير صحيح، كما لا يخفى.
وقوله: (والثاني ما رواه أحمد ... ) إلخ هذا أيضًا مردود؛ لأنَّ هذا الحديث قد ورد في وفد ثقيف، ففي «مسلم»: أنَّ الصحابة تماروا في الغسل عند النبيِّ عليه السلام، فقال بعض القوم: أمَّا أنا؛ فأغسل رأسي بكذا وكذا، فقال النبيُّ عليه السلام: «أمَّا أنا؛ فأفيض ثلاثًا»، انتهى.
فعلم أنَّ السؤال وقع عن غسل الرأس بمرة، أو مرتين، أو أكثر لا عن بيان فرض الغسل بدليل أنَّ بعض القوم قال: (أمَّا أنا؛ فأغسل رأسي بكذا وكذا)؛ أي: مرات، فأجابهم النبيُّ عليه السلام بأنَّ الإفاضة ثلاث أكف، فوقع الجواب طبق السؤال، فليس فيه دليل على عدم افتراضهما، بل فيه دليل على وجوبهما، ويدل لهذا ما في «أوسط الطبراني» مرفوعًا: «تفرغ بيمينك على شمالك، ثم تدخل يدك في الإناء، فتغسل فرجك، وما أصابك، ثم تتوضأ وضوءك للصلاة، ثم تفرغ على رأسك ثلاث مرات تدلك رأسك كل مرة»، فعلم بهذا أنَّ ما رواه أحمد فيه طيٌّ، فحذف منه هذه الجملة؛ لأنَّه وقع جوابًا للسؤال، والمضمضة والاستنشاق إذا وقعا في ضمن الوضوء الذي للغسل يكفي عن الإتيان بهما مرة أخرى؛ لأنَّ الفرض التعميم، وقد حصل؛ فافهم.
وقوله: (وما رواه مسلم: «عشر من الفطرة ... ») إلخ هذا مردود أيضًا؛ لأنَّ الفطرة الإسلام، ومنه قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة»؛ والمعنى: عشر من الإسلام؛ أي: فرائض الإسلام، إلا أنَّ بعضها خرج عن الفرضية بدلائل أخر وبقي على السنية؛ كالاستنجاء ونحوه، وبعضها بقي على أصله؛ كاللحية، فإنَّها إذا طالت عن مقدار القبضة؛ يجب أخذ الزائد عليها، وبعضها بقي على أصله، وهو الوجوب؛ كالمضمضة والاستنشاق في الغسل مع ما ضم إلى ذلك من الدلائل المفيدة للوجوب، على أنَّ قول مصعب: (ونسيت العاشرة) يحتمل أن تكون غير المضمضة، وأن يكون المراد بـ (الاستنشاق)؛ أي: حال الوضوء؛ لذكره (السواك)، وهو من سنن الوضوء، (ونتف الإبط، وحلق العانة) يكون حال الجنابة، كما ورد ذلك في حديث، فالذي ترجح أنَّ المضمضة والاستنشاق في الغسل واجبان، وفي الوضوء سنتان، وهو الحق الذي لا يعدل عنه، وأدين اللهَ على ذلك، والله أعلم.
==================
(1/449)
(8) [باب مسح اليد بالتراب ليكون أنقى]
هذا (باب مسح اليد) أي: يد المغتسل (بالتراب؛ لتكون) أي: اليد (أنقى)؛ بالنون الساكنة بعد الهمزة المفتوحة، وبالقاف؛ أي: أطهر وأنظف من غير الممسوحة، أو منها قبل مسحها على حد قوله تعالى: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34]، وذلك لأنَّ أفعل التفضيل لا يستعمل إلا بإضافة، أو بـ (اللام)، أو بـ (من)، والضمير في (لتكون) اسم كان، وخبره قوله: (أنقى)، فلا مطابقة بينهما مع أنَّها شرط بين اسم كان وخبره، وذلك أنَّ أفعل التفضيل إذا كان بـ (من) ولو مقدرة؛ فهو مفرد مذكر، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، ونحوه للكرماني، واعترضه البرماوي فقال: (إن عنى أنَّ اسمها ضمير اليد؛ صح ما قاله، والظاهر أنَّ اسمها يعود على المسح أو نحوه) انتهى.
قلت: وهذا ممنوع، فإنَّ نسخة صاحب «عمدة القاري» التي شرح عليها كالكرماني بمثناة فوقية، ولهذا أعيد اسم (تكون) إلى اليد.
فقوله: (والظاهر ... ) إلخ؛ ليس بظاهر، ولا صحيح، كما لا يخفى، نعم؛ لو كانت النسخة بمثناة تحتية يلزم أن يكون اسم (تكون) عائدًا على المسح، وليست النسخة كذلك، بل النسخ بالفوقية فلا يرد ما قاله؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري»: (فإن قلت: هذه الترجمة قد علمت من حديث الباب المتقدم في قوله: (ثم قال بيده الأرض، فمسحها بالتراب)، فما فائدة التكرار؟ وأجاب: بأنَّ في الباب الأول دلك اليد على التراب، وههنا دلك اليد على الحائط، وبينهما فرق) انتهى.
زاد الكرماني فقال: (غرض البخاري من أمثاله؛ الشُّعور باختلاف استخراجات الشيوخ وتفاوت سياقاتهم؛ مثلًا: عمر بن حفص يروي هذا الحديث في معرض بيان المضمضة والاستنشاق في غُسل الجنابة، والحميدي رواه في معرض بيان مسح اليد بالتراب، فحافط على السياق، وما استخرجه الشيوخ فيه مع ما فيه من التقوية والتأكيد) انتهى.
==================
(1/450)
[حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده]
260# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا الحُميْديُّ)؛ بضمِّ الحاء المهملة، وسكون التحتية؛ مصغَّرًا، ولأبي ذر: (عبد الله بن الزَّبير الحميدي)؛ بفتح الزاي (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عيينة؛ بضمِّ العين المهملة (قال: حدثنا الأعمش): هو سليمان بن مهران، (عن سالم)؛ بالسين المهملة (ابن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، (عن كُريب) بضمِّ الكاف؛ مصغَّرًا: مولى ابن عباس، (عن ابن عباس): عبد الله رضي الله عنهما، (عن مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: بنت الحارث زوج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالة ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم اغتسل من الجنابة) والفاء في قوله: (فغسل فرجه)؛ أي: مذاكيره؛ القبل والدبر وما حولهما بعد أن أفرغ بيمينه على شماله (بيده) اليسرى لتفصيل المجمل وللتعقيب، والمفصل يعقب المجمل، فلا يرد أنَّ غسله الفرج ليس متعقبًا على الغسل، وكذا الدلك والوضوء، (ثم دلك بها) أي: بيده (الحائط) وفي الرواية السابقة: (دلك يده بالتراب) وذلك لأجل أن يذهب أثر المني اللزج، وهذا موضع مطابقة الترجمة، (ثم غسلها)؛ أي: بالماء؛ ليكون الغسل أطهر وأنظف، (ثم توضأ وضوءه للصلاة) بأن تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ثلاثًا ثلاثًا، ومسح رأسه، وأفاض على جسده ثلاثًا، (فلما فرغ من غُسله)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: لجميع ما يمكن غسله من بدنه الشريف؛ (غَسل رجليه)؛ أي: بعد أن تنحى عن مكانه الذي اغتسل فيه تحرُّزًا عن الماء المستعمل.
وزعم ابن حجر أنَّ هذه (الفاء) تفسيرية، وليست بتعقيبية؛ لأنَّ غسل الفرج لم يكن بعد الفراغ، ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: (من دقق النظر وعرف أسرار العربية يقول: الفاء ههنا عاطفة، ولكنها للترتيب؛ أي: المستفاد من (ثم) الدالة عليه، ومعنى الحديث: أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم اغتسل فرتب غسله، فغسل فرجه، ثم توضأ، وكون الفاء للتعقيب لا يخرجها عن كونها عاطفة) انتهى.
وزعم العجلوني (أنَّ معنى كلام ابن حجر أنَّها تفصيلية محضة لا تعقيب فيها؛ لما ذكره، وذلك لا ينافي كونها عاطفة، لكن يرد عليه صحة التعقيب فيها لما ذكرنا؛ فافهم) انتهى.
قلت: فإنَّ كونها للتعقيب معنًى صحيح فيها، فمنعه غير صحيح، على أنّه قد يقال كونها
%ص 271%
عاطفة ينافي أنَّها تفصيلية محضة؛ لأنَّ التعقيب من لوازم العطف، وتعقيب كل شيء بحسبه، كما هو مقرر في محله، فما زعمه ابن حجر ليس بشيء؛ فافهم.
وزعم ابن حجر (أنَّ من فوائد هذا السياق الإتيان بـ (ثم) فيه الدالة على ترتيب ما ذكر فيه من صفة الغسل) انتهى.
قلت: أشار فيه بـ (ثم) إلى أنَّ الوضوء لا يفعل إلا بعد غسل اليدين، وإزالة النجاسة من مني ونحوه من يديه؛ ليطمئن بزوالها قبل أن تشيع على جسده، لا أنَّ نفس غسل الجسد يلزم ترتيبه كما زعمه؛ لأنَّ جميع أعضاء البدن في الغسل متحدة حكمًا وعرفًا حتى قال صاحب «القنية»: (لو وضع الجنب إحدى رجليه على الأخرى في الغسل؛ تطهر السفلى بماء العليا)، فترجح الاتحاد الحكمي بالعرفي، بخلاف ما لو نقل البلة في الغسل من عضو بدن إلى عضو بدن آخر؛ حيث لا يجوز، كما لو نقل البلة في الوضوء من إحدى اليدين أو الرجلين إلى الآخر؛ فإنَّه لا يجوز أيضًا؛ لأنَّ أعضاء الوضوء مختلفة حقيقةً وعرفًا، وتمامه في «القُهْستاني» كذا في «منهل الطلاب»، فما زعمه ابن حجر ليس بشيء، كما لا يخفى.
==================
(1/451)
(9) [باب: هل يُدخل الجنب يده في الإناء]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (هل يُدخل)؛ بضمِّ التحتية (الجنب يده في الإناء) أي: الذي فيه الماء المطلق لأجل الاغتسال (قبل أن يغسلها)؛ أي: اليد بماء خارج الإناء؛ لترتفع جنابتها، (إذا لم يكن على يده قَذَر)؛ بالقاف والذال المفتوحتين؛ أي: شيء مستقذر ومستكره، وهو النجس؛ كالمني ونحوه (غير الجنابة)؛ أي: المعنوية، أمَّا الحسية التي هي المني، والبول، وغيرهما؛ فإنَّها يجب غسلها من الجنب وغيره قبل أن يدخلها في الإناء حتى لا ينجس الماء بذلك، وقد أشار المؤلف في هذه الترجمة إلى شيئين؛ أحدهما: نجاسة المني، والثاني: نجاسة الماء المستعمل، فإنَّه استنبط من الأثرين المذكورين والأحاديث الأربعة المذكورة هذا الحكم، وظاهره أنَّ هذا هو مذهب المؤلف رحمه الله تعالى.
وقال صاحب «عمدة القاري»: (يشعر قوله: «غير الجنابة» بأن الجنابة نجس وليس كذلك؛ لأنَّ المؤمن لا ينجس، كما ثبت ذلك في «الصحيح») انتهى؛ يعني: أنَّ يد الجنب إذا كانت نظيفة من المني وغيره؛ يجوز له إدخال الإناء لأجل الاغتراف قبل أن يغسلها؛ لأنَّه ليس شيء من أعضائه نجسًا بسبب كونه جنبًا؛ لقوله عليه السلام: «سبحان الله! إنَّ المؤمن لا ينجس».
وزعم ابن حجر أنَّ قوله: (غير الجنابة)؛ أي: حكمها؛ لأنَّ أثرها مختلف فيه فدخل في قوله: (قذر).
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: لم تدخل الجنابة في القذر أصلًا؛ لأنَّها أمر معنوي لا يوصف بالقذر حقيقة، فما مراد هذا القائل من قوله: أي حكمها؟ فإن كان الاغتسال؛ فلا دخل له ههنا، وإن كان النجاسة؛ فقد قلنا: إنَّ المؤمن لا ينجس، وكذا إن كان مراده من قوله: لأنَّ أثرها؛ أي: المني، فهو طاهر في زعمه) انتهى.
وزعم العجلوني فقال: وصف الجنابة بالنجاسة الحكمية وبالقذر مجازًا لا مانع منه، ولم يدَّعِ ابن حجر الحقيقة؛ ليردها، على أنَّه لا مانع أيضًا من جعل الاستثناء منقطعًا، وأثر الجنابة ما ينشأ عنها من كون مائها المستعمل في رفعها غير طهور أو نجس، فلا يدخل الجنب يده في الماء القليل؛ لئلا ينجس، وهذا المعنى صحيح، وإن أريد بالأثر المني؛ فكذلك؛ لأنَّه وإن كان طاهرًا عند الشافعي، لكنه فيه خلاف، فقيل بنجاسته، فلعل البخاري يرى ذلك، أو لأنَّه لا يلزم من طهارته أنَّه لا يغسل؛ لاستقذاره، فلذا قال: (غير الجنابة)، والشارح يشرح على مقتضى اللفظ الذي يشرحه، ثم يبين مذهبه إن شاء، سواء وافق ما تقتضيه العبارة أو لا؛ فتأمل.
قلت: وهذا ممنوع، فلذا أَمر بالتأمل، فإنَّ قوله: (وصف الجنابة ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا يجوز حمل الكلام على المجاز إلا عند تعذُّر الحقيقة، وهنا هو ممكن؛ لأنَّ المراد بالجنابة المعنوية وهي نجاسة حكمية حقيقة، وأنَّ المراد بالقذر المني، وهو نجاسة حقيقية حقيقة، فإذا كانا كذلك؛ لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز، وهذا دأبهم يحملون الكلام على المجاز وهو لا يجوز إلا عند تعذر الحقيقة، وهذا هو المانع.
وقوله: (ولم يدع ابن حجر ... ) إلخ ممنوع؛ فإنَّه قد ادَّعاها بدليل أنَّه فسرها بالحكم، وأدخلها تحت القذر.
ولا ريب أنَّ زعمه الحقيقة، وقوله: (على أنَّه لا مانع ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه إذا أريد بالجنابة أثرها_ وهو المني_؛ فلا ريب أنَّ الاستثناء يكون متصلًا، وإذا أمكن أن يكون متصلًا؛ لا يجوز العدول عنه إلى المنقطع.
وقوله: (وأثر الجنابة ... ) إلخ هذا يؤيد كون الاستثناء متصلًا؛ لأنَّ قوله: (وأثر الجنابة ... ) إلخ دليل على أنَّ أثر الجنابة نجس حقيقة؛ لأنَّ قوله: (غير طهور) هو النجس من حيث إنَّه لا يجوز الوضوء والغسل به.
وقوله: (أو نجس) هو الحقيقي، على أنَّه لا دخل لهذا الكلام هنا؛ لأنَّ المراد بالأثر السبب، وهو المني، وما ينشأ عن الجنابة من مائها إنَّما هو أثر الغسل لا أثر الجنابة، ألا ترى إذا سئلت عن هذا الماء ما تجيب؟ ولا يسع أحدًا أن يجيب إلا بماء الاغتسال، كما هو ظاهر، ووصفه بأنَّه غير طهور أو نجس أمرٌ آخر لا دخل له هنا؛ لأنَّ المراد أنَّ يد الجنب إذا كانت نظيفة؛ جاز له إدخالها الإناء، ولا يوصف بالاستعمال، كما قررناه.
وقوله: (فلا يدخل ... ) إلخ هو رد لكلامه الأول، فقد اعترف بما منع.
وقوله: (وإن أريد بالأثر ... ) إلخ ظاهر، إلا أنَّ قوله: (لأنَّه وإن كان ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ كون المني طاهرًا في زعمه يمنع تفسير الجنابة بالحكم وإدخالها تحت القذر، وما هذا إلا تناقض من ابن حجر، فإنَّه قد خبط وخلط.
وقوله: (فقيل بنجاسته ... ) إلخ هذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين.
وقوله: (فلعل ... ) إلخ ظاهر؛ فإنَّه قد علم ذلك من الترجمة والاستدلال أنَّ مذهب المؤلف نجاسة المني، كما هو قول الجمهور.
وقوله: (أو لأنَّه لا يلزم ... ) إلخ ممنوع، فإنَّه إذا وجب غسل الشيء لما أصابه يلزم أن يكون الذي أصابه نجسًا؛ لأنَّه لو لم يصبه لم يجب غسله، ألا ترى أنَّ البول يجب غسله؛ لأنَّه نجس، والبزاق لا يجب غسله؛ لأنَّه طاهر، فالغسل الواجب المراد به هنا لا يجب إلا للنجس، فيلزم القول بطهارته أنَّه لا يجب غسله، مع أنَّه صرح في الترجمة بأنَّه يغسل المني؛ لأنَّه نجس؛ لأنَّ المراد بالجنابة: الأثر، كما فسره، وما هذا إلا تناقض ظاهر.
وقوله: (والشارح يشرح ... ) إلخ ممنوع؛ فإنَّ الواجب على الشارح أن يبين الحق الصحيح، لا يقتصر على بيان ما ذهب إليه إمامه ترويجًا له، على أنَّ مقتضى اللفظ يخالف ما فسره ابن حجر، كما علمت، وهو غير موافق لما ذهب إليه إمامه فقد خبط وخلط؛ لأنَّ كلامه لا يوافق ما ذهب إليه المؤلف، ولا ما ذهب إليه إمامه، وكان مراده موافقة مذهبه، لكنه اختلط عليه الشرح، فلا يدري ما تكلم، وهذا من هفواته، كما بينه في «إيضاح المرام».
(وأدخل) هذه الواو تسمى واو الاستفتاح يستفتح بها كلامه، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» (ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب (والبَرَاء)؛ بفتح الباء الموحدة، والراء المخففة (بن عازب) رضي الله تعالى عنهم (يداه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (يده)؛ بالإفراد؛ أي: أدخل كل واحد منهما يده (في الطَّهور)؛ بفتح الطاء: وهو الماء الذي يتطهر به في الوضوء والاغتسال، (ولم يغسلاها)؛ بالتثنية أيضًا، وفي رواية: (ولم يغسلها)؛ بالإفراد؛ أي: اليد كل واحد منهما، (ثم توضَّأا)؛ بالتثنية أيضًا، وفي رواية بالإفراد؛ أي: كل واحد منهما.
قال في «عمدة القاري»: وهذا الأثر غير مطابق للترجمة على الكمال؛ لأنَّ الترجمة مقيَّدة، والأثر مطلق، أمَّا أثر ابن عمر رضي الله عنهما؛ فقد وصله سَعِيْد بن منصور بمعناه، وأمَّا أثر البَرَاء؛ فقد وصله ابن أبي شيبة بلفظ: (أنَّه أدخل يده في المطهرة قبل أن يغسلها).
فإن قلت: روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من اغترف من ماء وهو جنب؛ فما بقي نجس)، وهذا يعارض ما ذكره البخاري، قلت: حملوا هذا على ما إذا كان بيده قذر توفيقًا بين الأثرين انتهى.
قلت: والقذر كالمني، والبول، وغيرهما.
وزعم ابن حجر:
%ص 272%
بأن يحمل الغسل على الندب، والترك على الجواز، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: قلت: (كيف يكون تركه للجواز إذا كان بيده قذر، وإن لم يكن؛ فلا يضر، فلم يحصل التوفيق بينهما بما ذكره هذا القائل، وهذا الأثر من أقوى الدلائل لمن ذهب من الأئمَّة الحنفية إلى نجاسة الماء المستعمل؛ فافهم) انتهى.
وزعم العجلوني على الأول أنَّه ليس في قول ابن حجر: (أو غسل للندب، وترك للجواز) ما يدل على أنَّ القذر لو وجد؛ كان نجسًا، ولو لم يوجد قذر؛ جاز أن يغسلهما لأمر آخر لمزيد النظافة.
قلت: وهو ممنوع ومردود، فإنَّ ما زعمه ابن حجر من أنَّه غسل للندب وترك للجواز يدل على أنَّه كان بيده قذر، والقذر نجس وهو ينجس الماء، وهو صريح لفظ الأثر، فإنَّ لفظه: (فما بقي منه نجس)، وإنَّما ينجس الماء القذر النجس، وإن لم يوجد على يده قذر؛ فلا يضر الغسل، وهذا ظاهر من لفظ الأثر صريحًا، فقول العجلوني: (ليس ... ) إلخ مردود على أنَّ قوله: (ولو لم يوجد ... ) إلخ مردود؛ لأنَّه إمَّا أن يظن أو يتيقن، فإن أراد الأول؛ فليس بشيء؛ لأنَّه وهم، والأحكام لا تبنى عليه، وإن كان الثاني؛ فإنَّه يرجع إلى الأول.
وقوله: (لأمر آخر ... ) إلخ مردود؛ فإنَّ الغسل لمزيد النظافة لا يكون الماء الباقي نجسًا، وقد صرح في الأثر (باب ما بقي منه نجس)، وعلى كلٍّ؛ فلم يوجد التوفيق، فكيف قال العجلوني ما قال؟ فليحفظ.
وزعم العجلوني على الثاني، فقال بعد ثبوته _أي: الأثر_: علمت الجواب عنه؛ أي: وهو أنَّه محمول على أنَّه كان في يده قذر؛ كما قدمناه.
قلت: وهذا تعصب وتعنت، فإنَّ الأثر ثابت لا محالة؛ لأنَّه رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن محمَّد بن فضيل، عن أبي سنان ضرار، عن محارب، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو يدل على أنَّ الماء المستعمل نجس، والجواب المذكور ممنوع؛ لأنَّه تأويل غير صحيح، فأي دليل جاء على أنَّه كان في يده قذر؟ وما هي إلا دعوى باطلة، مع أنَّ الأصل عدم القذر ومدعيها مطالب بالدليل، ولم يوجد هذا، وقد روى عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن عمر: (أنَّه كان يغسل يده قبل التطهُّر)، وهو عام يشمل الجنابة والحدث الأصغر، وهو أيضًا يدل على أنَّ الماء المستعمل نجس، فاحتمال وجود القذر عليها بعيد جدًّا؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان؛ فليحفظ.
وقال في «عمدة القاري»: (وفي الأثر المذكور جواز إدخال الجنب يده في إناء الماء قبل أن يغسلها إذا لم يكن عليها نجاسة حقيقية، وقال الشَّعبي: «كان الصحابة يدخلون أيديهم الماء قبل أن يغسلوها، وهم جنب، وكذا النساء ولا يفسد ذلك بعضهم على بعض»، ورُوِيَ نحوه عن ابن سيرين، وعطاء، وسالم، وسعد بن أبي وقاص، وسَعِيْد بن جبير، وابن المسيب) انتهى.
قلت: والظاهر: أنَّ إدخال أيديهم كانت لأجل الاغتراف لا مطلقًا، كما زعمه العجلوني، فإنَّ الآثار التي عن ابن عمر والبَرَاء صريحة في أنَّ الإدخال إنَّما كان لأجل الاغتراف، وهي أقوى وأرجح من نقل الشعبي؛ فليحفظ.
(ولم ير) من الرؤية، وهي الاعتقاد (ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب (وابن عباس): هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (بأسًا) أي: مشقة (بما ينتضح)؛ أي: يرتش (من غُسل الجنابة)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: حال الاغتسال.
قال في «عمدة القاري»: (وجه مطابقة هذا الأثر بالتعسف يأتي، وهو من حيث إنَّ الماء الذي يدخل الجنب يده فيه لا ينجسه إذا كانت طاهرة، فكذلك انتشار الماء الذي يغتسل به الجنب في إنائه؛ لأنَّ في تنجسه مشقة؛ أي: فإنَّه مما يشق الاحتراز عنه، فكان معفوًّا عنه، ألا ترى كيف قال الحسن البصري: ومن يملك انتشار الماء؛ فإنَّا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا.
أمَّا أثر ابن عمر؛ فوصله عبد الرزاق بمعناه.
وأمَّا أثر ابن عباس؛ فرواه ابن أبي شيبة عن حفص، عن العلاء بن المسيب، عن حمَّاد، عن إبراهيم، عن ابن عباس في الرجل يغتسل من الجنابة، فينتضح في إنائه من غسله، فقال: (لا بأس به)، وهو منقطع فيما بين إبراهيم وابن عباس، روي مثله عن أبي هريرة، وابن سيرين، والنخعي، والحسن فيما حكاه ابن بطال عنهم، ويقرب من ذلك ما روي عن الإمام أبي يوسف رحمة الله عليه فيمن كان يصلي فانتضح عليه البول أكثر من قدر الدرهم؛ فإنَّه لا يفسد صلاته، بل ينصرف ويغسل ذلك ويبني على صلاته) انتهى كلام «عمدة القاري».
قلت: وفي هذا الأثر أنَّ ما يصيب الإنسان من الرشاش من غُسله حال الجنابة معفوٌّ عنه؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، وفيه: دليل لمن ذهب من الأئمَّة الحنفية إلى أنَّ الماء المستعمل نجس؛ لأنَّه إنَّما عفي عن الرشاش؛ لعدم الاحتراز عنه، أمَّا الذي أمكن الاحتراز عنه؛ فليس هو من المعفوِّ عنه، فيكون نجسًا، على أنَّ قوله: (ولم ير بأسًا) يفيد أنَّ الاحتراز عن الرشاش أحسن وأولى؛ لأنَّه إنَّما عفي عنه؛ للضرورة، وإذا لم يكن ضرورة؛ فلا عفوًا، وهذا ظاهر.
ونقل ابن التين عن الحسن أنَّه قال: (إن كانت جنابته من وطء، ويده نظيفة؛ فلا بأس بها، وإن كانت من احتلام هراقه ليلًا؛ فإنَّه لا يدري أين باتت يده، فيصيبه، فأفاد بقوله: «فلا بأس أنَّ المعفو عنه الاغتراف للضرورة الداعية لتناول الماء»؛ يعني: وإذا لم يكن ضرورة؛ فلا يعفى عنه، فظاهره أنَّه ينجس الماء).
وأفاد بقوله: (وإن كانت من احتلام ... ) إلخ إلى أنَّه ينجس الماء، وبه صرح ابن حبيب، فقال: من أدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها ساهيًا، أو عامدًا؛ فلا شيء عليه، إلا أن يكون بات جنبًا؛ فلا يدري ما أصاب يده من جنابته، فإن أدخلها قبل الغسل؛ نجس الماء.
فإنَّ قوله: (فلا شيء عليه)؛ يعني: فيما إذا كان لأجل الاغتراف.
وقوله: (إلا أن يكون ... ) إلخ ظاهره يدل على نجاسة المستعمل، وفيه: دليل ظاهر على نجاسة المني؛ حيث لا يصيب الإنسان من جنابته إلا المني، ورطوبة الفرج، وهذا ظاهر، وعلى كل حال؛ فهذه الآثار تدل على نجاسة المستعمل، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
==================
(1/452)
[حديث: كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف]
261# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مسَلَمَة)؛ بفتح الميم الأولى والثانية؛ هو القعنبي، ولذا زاد مسلم: (ابن قعنب) (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (أَفْلَح)؛ بفتح الهمزة واللام، وسكون الفاء، آخره حاء مهملة (بن حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة، الأنصاري المدني، وقد وقع في نسختنا الصحيحة هكذا، (أفلح بن حميد)؛ بذكر أبيه (حميد)، كما وقع في رواية مسلم، وفي أكثر النسخ: (أفلح) غير منسوب، وهو ابن حميد بلا خلاف، وليس في البخاري غيره، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، (عن القاسم بن محمَّد): هو ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أجمعين، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، (قالت: كنت أغتسل) أي: من الجنابة (أنا والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع عطف على الضمير المرفوع في (كنت)، وأبرز الضمير؛ ليصح العطف عليه، ويجوز فيه النصب على أنَّه مفعول معه، فتكون الواو للمصاحبة، كذا في «عمدة القاري» (من إناء واحد تختلف أيدينا فيه)؛ أي: في الإناء، والظاهر أنَّه الفرق، وهو صاعان، كما قدمنا، والجملة محلها النصب؛ لأنَّها حال من قوله: (من إناء واحد)، والجملة بعد المعرفة حال، وبعد النكرة صفة، والإناء هنا موصوف، ومعنى اختلاف الأيدي في الإناء؛ يعني: الإدخال فيه، والإخراج منه.
وفي رواية مسلم في آخره: (من الجنابة)؛ أي: لأجل الجنابة.
وفي رواية أبي عَوانة وابن حبان بعد قوله: (تختلف أيدينا فيه: وتلتقي).
وفي رواية الإسماعيلي من طريق إسحاق بن سليمان عن أفلح: (تختلف فيه أيدينا؛ يعني: حتى تلقتي).
وفي رواية البيهقي من طريقه: (تختلف أيدينا فيه؛ يعني: وتلتقي)، وفيه إشعار بأنَّ قوله: (وتلتقي) مدرج.
وفي رواية أخرى لمسلم من طريق معاذ عن عائشة: (فيبادرني حتى أقول: دع لي).
وفي رواية النسائي وأبي ذر: (حتى يقول: دع لي)، ومما يستنبط منه: جواز اغتراف الجنب من الماء الذي في الإناء، وجواز
%ص 273%
التطهير بذلك الماء، وبما يفضل منه، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري»، ثم قال: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث جواز إدخال الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن عليها قذر، يدل عليه قول عائشة: «تختلف أيدينا فيه»، واختلاف الأيدي في الإناء لا يكون إلا بعد الإدخال، فدل ذلك على أنَّه لا يفسد الماء، فإن قلت: الترجمة مقيدة، وهذا الحديث مطلق.
قلت: القيد المذكور في الترجمة مراعًى في الحديث للقرينة الدالة على ذلك؛ لأنَّ شأن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وشأن عائشة أجل من أن يدخلا أيديهما في إناء الماء، وعلى أيديهما ما يفسد الماء، وحديث هشام الآتي أقوى القرائن على ذلك، وهذا هو التحقيق في هذا الموضع، وبهذا ظهر فساد ما ذكره الكرماني من أنَّ ذلك ندب، وهذا جائز) انتهى كلام «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنَّ في الحديث دلالة على أنَّ النهي عن انغماس الجنب في الماء الدائم إنَّما هو للتنزيه؛ كراهية أن يستقذره لا لكونه يصير نجسًا بانغماس الجنب فيه.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: (هذا الكلام على إطلاقه غير صحيح؛ لأنَّ الجنب إذا انغمس في الماء الدائم لا يخلو إمَّا أن يكون ذلك الماء كثيرًا أو قليلًا، فإن كان كثيرًا؛ نحو الغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، فإنَّ الجنب إذا انغمس فيه لا يفسد الماء، وهل يطهر الجنب أم لا؟ فيه خلاف) انتهى.
واعترضه العجلوني فقال: (لا إطلاق في كلامه للقرينة الدالة على التقييد، وهي قوله: «كراهية أن يستقذر»، ولئن سلمنا أنَّه مطلق؛ فالنهي للتنزيه، كما قال، وحينئذٍ فلا يفسد الماء بتنجيسه وإن كان يسلبه الطهورية لو كان قليلًا) انتهى.
قلت: وهو مردود، فإنَّ الإطلاق في كلامه ظاهر.
وقوله: (كراهية أن يستقذر) ليس بقرينة على عدم الإطلاق؛ لأنَّ القرائن لا بد لها من دليل، ولم يوجد، بل القرينة ظاهرة على الإطلاق؛ لأنَّه عليه السلام حين يتوضأ؛ يبتدر الصحابة وضوءه، فهو دليل على أنَّ قوله: (كراهية أن يستقذر) ممنوع؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما فعل الصحابة ذلك، وصرح أئمتنا بجواز شربه، والعجن به، وغير ذلك.
وقوله: (ولئن سلمنا ... ) إلخ تسليم منه هذا الإطلاق.
وقوله: (فالنهي للتنزيه ... ) إلخ ممنوع؛ فإنَّه عليه السلام قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلن فيه من الجنابة»، فهذا النهي مطلق، وهو يوجب التحريم، كما هو ظاهر على أنَّ فساد الفعل مشروع عندنا، وهو قول الجمهور خصوصًا على قول إمامه الشافعي إذا تجرد عن التأكيد، فكيف وقد أُكِّد؟ ولأنَّه لو كان كذلك؛ لما قُيِّد بالدائم، فالجاري يشاركه فيه، ولأنَّه نهاه عن الاغتسال مع شدة الاحتياج إليه؛ لأنَّه مأمور به، فلو لم يستأثر المأمور به؛ لم يفد النهي، وكلام الشارع مصون عن عدم الفائدة، ولأنَّ القياس في الكثير أن ينجس؛ لأنَّ الجزء الذي لاقته النجاسة ينجس بملاقاة النجاسة إياه، وإذا تنجس ذلك الجزء؛ تنجس الجزء الذي يليه بالسريان إليه، وهكذا حتى ينجس جميع الماء، لكن تركنا القياس في الكثير؛ للضرورة؛ لأنَّ صون الكثير في الأواني غير ممكن ولا ضرورة في القليل؛ لإمكان صونه في الأواني، فعملنا فيه بالقياس، وتمامه في «منهل الطلاب»؛ فافهم.
==================
(1/453)
[حديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يده]
262# وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا حمَّاد)؛ بالحاء المهملة، وتشديد الميم: هو ابن زيد؛ لأنَّ البخاري لم يرو عن حمَّاد بن سَلَمَة، كذا قاله في «عمدة القاري»، (عن هشام): هو ابن عروة، (عن أبيه): هو عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وأفادت (كان) أنَّ ذلك كان على الدوام والاستمرار (إذا اغتسل من الجنابة)؛ أي: إذا أراد الاغتسال منها؛ (غسل يده)؛ بالإفراد، وفي رواية: (يديه)؛ بالتثنية؛ أي: قبل أن يدخلهما الإناء.
قال صاحب «عمدة القاري»: (هذا الحديث مفسِّر للحديث السابق؛ لأنَّ في الحديث السابق اختلاف الأيدي في الإناء، وظاهره يتناول اليد الطاهرة واليد التي عليها ما يفسد الماء، وبيَّن في هذا أنَّه إذا اغتسل من الجنابة؛ غسل يده؛ يعني: إذا أراد الاغتسال من الجنابة؛ غسل يده، ثم بعد ذلك لا يضر إدخاله اليد في الإناء، لكن هذا عند خشيته من أن يكون بها أذى من الجنابة أو غيرها، أمَّا عند تيقنه بطهارة اليد، فلم يكن يغسلها؛ فبهذا ينتفي التعارض بينهما، أو يكون الحديث السابق محمولًا على تيقنه بعدم طهارة الأخرى، وهذا بظاهره يدل على أنَّه يغسلها قبل إدخالها في الإناء؛ لعدم تيقنه بطهارتها)، ثم قال: والبخاري أخرج هذا الحديث مختصرًا، وأخرجه أبو داود في (الطهارة) عن سليمان بن حرب ومسدد؛ كلاهما عن حمَّاد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا اغتسل من الجنابة) قال سليمان: (يبدأ فيفرغ بيمينه)، وقال مسدد: (غسل يده، فصب الإناء على يده اليمنى)، ثم اتفقا: (فيغسل فرجه)، ثم مسدد: (يفرغ على شماله_ وربما سكت عن الفرج_ ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة، ثم يدخل يده في الإناء، فيخلل شعره حتى إذا رأى أنَّه أصاب البشرة أو أنقى البشرة؛ أفرغ على رأسه ثلاثًا، وإذا فضل فضلة؛ صبَّها عليه) انتهى.
==========
%ص 274%
==================
(1/454)
[حديث: كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من جنابة]
263# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد): هو هشام بن عبد الملك البصري الطيالسي (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج، (عن أبي بكر بن حفص): هو ابن غياث، (عن عروة): هو ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت) وفي رواية بحذف (قالت): (كنت أغتسل أنا والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع والنصب، وسبق توجيههما قريبًا، (من إناء واحد من جنابة) وفي رواية الكشميهني: (من الجنابة)، وههنا كلمة (من) في موضعين، فالأولى متعلقة بمقدر؛ كقولك: خذ من الماء من إناء واحد، أو الأولى ظرف مستقر، والثانية لغو، ويجوز تعلق الجارين بفعل واحد إذا كان بمعنيين مختلفين، فإنَّ الثانية بمعنى لأجل الجنابة، والأولى بمعنى الابتداء، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (وعن عبد الرحمن) هذا معطوف على قول شعبة: (عن أبي بكر حفص)، (بن القاسم): هو ابن محمَّد الفقيه الرضي بن الرضي، وأمه أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال ابن عيينة: (لم يكن بالمدينة رجل أرضى من عبد الرحمن، كان ثقة، ورعًا، كثير الحديث، مات سنة ست وعشرين ومئة، قيل: بالمدينة، وقيل: بالقدس)، (عن أبيه): هو القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (مثله)؛ بالنصب والرفع؛ أي: مثل حديث شعبة، عن أبي بكر بن حفص، وللأَصيلي: (بمثله)؛ بزيادة الموحدة.
قال صاحب «عمدة القاري»: (فبيَّن بهذا أنَّ لشعبة إسنادين إلى عائشة؛ أحدهما: عن عروة، والآخر: عن القاسم، وكلاهما عن عائشة، لا يقال: إنَّ رواية عبد الرحمن معلقة؛ لأنَّا نقول: قد بيَّن اتصالها أبو نُعيم والبيهقي من طريق أبي الوليد بالإسنادين، وقالا: أخرجه البخاري عن أبي الوليد بالإسنادين جميعًا، وكذا قال أبو سَعِيْد وغيره في «الأطراف»، وكذا أخرجه النسائي في «الطهارة» عن ابن عبد الأعلى، عن ابن الحارث، عن شعبة به) انتهى.
قلت: فهو موصول، ومن زعم أنَّه معلق؛ فقد أخطأ ووهم؛ فليحفظ.
==================
(1/455)
[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد]
264# وبالسَّند قال: (حدثنا أبو الوليد): هو هشام الطيالسي المتقدم، (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج، (عن عبد الله بن عبد الله)؛ بتكرار (عبد) مع التكبير في الاسمين (بن جَبْر)؛ بفتح الجيم، وسكون الباء الموحدة: (سمعت أنس بن مالك رضي الله عنهما يقول) والجملة محلها نصب على الحال لا مفعول ثاني لـ (سمعت)، كما تقدم مرارًا: (كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم والمرأةَُ)؛ بالرفع على العطف، والنصب على المعية، واللام للجنس، فيشمل كل امرأة (من نسائه) رضي الله تعالى عنهن الطاهرات (يغتسلان من إناء واحد) وهذا الإسناد بعينه ذكر في باب (علامة الإيمان) لكن بمتن آخر، وهو ثالث الإسناد لشعبة في هذا المتن، لكن من طريق صحابي آخر، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: (ومطابقة هذا الحديث والذي قبله وإن لم يذكر فيهما غسل
%ص 274%
اليد، ولكنهما محمولان على معنى الحديث الثاني، وهو القذر، وهو كاف للتطابق، ولا معنى لتطويل الكلام بلا فائدة نافعة، كما ذكره ابن بطال، وابن المُنيِّر، وغيرهما) انتهى؛ فليحفظ، ثم قال: (وهذا الحديث من أفراد البخاري) انتهى.
قلت: ولا ينافيه قول المؤلف: (زاد مسلم)؛ لأنَّه ليس هذا مسلم بن الحجاج صاحب «الصحيح» المشهور، فإنَّه قد أخذ عن المؤلف، بل هذا هو مسلم بن إبراهيم الأزدي الحافظ الثقة من مشايخ المؤلف، فالمؤلف وقع بين مسلمين (ووهب): هو ابن جرير بن حازم، وفي رواية الأَصيلي وأبي الوقت: (ابن جرير)؛ أي: ابن حازم، وبذلك جزم أبو نُعيم وغيره، ووقع في رواية أبي ذر: (وُهَيب)؛ بالتصغير، والظاهر أنَّه من الكاتب، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر (أنَّ وهيبًا [1]؛ بالتصغير في ظني أنَّه وهم، ومن جملة إثبات الوهم أنَّ وهب بن جرير من الرواة عن شعبة، ووهيب من أقرانه).
ورده صاحب «عمدة القاري» بأنَّ كونه من أقرانه لا يقتضي منع الرواية عنه، انتهى.
واعترضه العجلوني فزاد في الطنبور نغمة على ابن حجر، فزعم أنَّه لما كان الغالب في الأقران عدم رواية أحدهما عن الآخر؛ صح ما قاله.
قلت: وهو مردود، فإنَّ المفهوم من كلامه أنَّه قد يأخذ الأقران من الأقران وتروي الأقران عن الأقران؛ فصح ما قاله إمام الشارحين، وبطل ما قاله ابن حجر، على أنَّ دعوى كون الغالب في الأقران ... إلخ فيما إذا كانوا بصفة الكبر والعجب؛ فإنَّ أحدهم لا ينزل نفسه منزلة التلميذ، كما في زماننا، أمَّا في الأزمان الماضية؛ فالغالب عليهم التواضع والأدب، فالغالب في أقرانهم رواية أحدهما عن الآخر، وهو ظاهر؛ فليحفظ.
فذكر مسلم ووهب في روايتهما لهذا الحديث، (عن شعبة) بهذا الإسناد الذي رواه عنه أبو الوليد، فزاد في آخره: (من الجنابة) وروى الإسماعيلي هذا الحديث عن وهب حدثنا شعبة، وقال: لم يذكر (من الجنابة)، وذلك بعد أن أخرجه بغير هذه الزيادة أيضًا من طريق ابن مهديٍّ.
فإن قلت: هل يعد هذا الحديث الذي رواه مسلم ووهب متصلًا أو معلَّقًا؟
قلت: الظاهر: أنَّه تعليق من البخاري بالنسبة إليه؛ لأنَّه حين وفاة وهب كان ابن ثنتي عشرة سنة، ويحتمل أنَّه كان قد سمع منه، وإدخاله في مسلك مسلم يرد ذلك أيضًا.
فإن قلت: لم يذكر شيخ شعبة؟
قلت: يحمل على الشيخ المذكور في الإسناد المتقدم، وهو عبد الله، فكأنَّه عن شعبة، عن عبد الله قال: سمعت أنسًا رضي الله عنه، كذا في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم؛ اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.
وفي يوم السبت التاسع من جماد الثاني سنة سبع وسبعين ومئتين وألف احترق سوق القطن، وأخذ دارًا من زقاق البرغل حتى وصلت الحريقة إلى باب الحديد باب السيدة جابية؛ بسبب أنَّ الحاكم نبه أنَّه لا يطلع أحد ليلًا من أهل البلد من الساعة الثالثة [2] ليلًا إلى الساعة الثانية عشرة [3] نهارًا؛ اللهم؛ اكشف عنا العذاب إنَّا مؤمنون يا أرحم الراحمين، آمين.
==========
[1] في الأصل: (وهيب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (هو ثلاثة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (اثني عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (وهيب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (هو ثلاثة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (وهيب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (هو ثلاثة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/456)
(10) [باب تفريق الغُسل والوضوء]
هذا (باب) حكم (تفريق الغُسل) بضمِّ الغين المعجمة (والوضوء) هل هو جائز أم لا؟ كذا قدره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني، قال في «عمدة القاري»: (وذهب البخاري إلى أنَّه جائز، وأيده بفعل ابن عمر رضي الله عنهما على ما نذكره، وهذا الباب وقع في بعض النسخ بعد الباب الذي يليه، وفي أكثرها قبله، كما ترى ههنا، والمناسبة بين البابين من حيث اشتمال كل منهما على فعل جائز، أمَّا في الباب قبله؛ فجائز إدخال اليد في إناء الماء إذا كانت طاهرة، وأمَّا في هذا الباب؛ فجواز التفريق في الغسل والوضوء) انتهى كلامه.
وزعم العجلوني فقدر (جواز) فقط تبعًا للتقدير الذي زعمه ابن حجر، قال العجلوني: (وهو أولى؛ لأنَّ ما ذكره المؤلف في الباب لا يدل إلا على الجواز) انتهى.
قلت: وهو ممنوع، فإنَّه لا يلزم مما ذكره في الباب أنَّه يدل على الجواز أن يكون جائزًا بالإجماع، فإنَّ المؤلف وإن كان مذهبه الجواز، لكن ليس مراده بيان مذهبه، بل مراده بيان الأحكام وبيان مذاهب الناس من الجواز وعدمه، على أنَّ تفريق الغسل والوضوء فيه خلاف كما يأتي، فكيف قال العجلوني تعصبًا وتعنتًا ما قال؟ فافهم.
(ويُذكر) بضمِّ التحتية أوله على صيغة المجهول (عن ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهذا تعليق بصيغة التمريض، ولو قال: وذكر ابن عمر، على صيغة المعلوم لأجل التصحيح؛ لكان أولى؛ لأنَّه جزم بذلك.
ومطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرة في الوضوء، كذا قاله إمام الشارحين؛ فليحفظ.
وزعم العجلوني أنَّه لم يجزم به؛ لكونه ذكره بالمعنى.
قلت: لا يلزم من روايته بالمعنى ذكره بصيغة التمريض، ولعله عند صيغة المجهول والمعلوم واحدة، أو أنَّ في سنده الموصول عند البيهقي رجلًا متهمًا غير معتمد عليه؛ فتأمل.
(أنَّه غسل قدميه) أي: رجليه (بعد ما جف وَضوءه)؛ بفتح الواو؛ أي: الماء الذي توضأ به، وفي رواية بضمِّها، وقد وصله البيهقي عن ابن عمر: (أنَّه توضأ بالسوق، فغسل وجهه، ويديه، ومسح برأسه، ثم دعي لجنازة، فدخل المسجد ليصلي عليها، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها)، فهذا نص صريح في عدم وجوب الموالاة بين الأعضاء في التطهير، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، وابن عمر، وابن المسيب، وعطاء، وطاووس، والنخعي، والحسن، وسفيان بن سَعِيْد، ومحمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، وقال الإمام الأعظم: إنَّ الموالاة سنة لهذا الحديث، ولأنَّ الله تعالى إنَّما أوجب غسل هذه الأعضاء، فالواجب على الإنسان أن يأتي به سواء كان مفرقًا أو مواصلًا، وهذا قول الشافعي في الجديد وهو الأصح، ورُوِيَ عن عمر، وقتادة، وربيعة، والأوزاعي، والليث، وابن وهب أنَّ الموالاة واجبة، فلو تركها ناسيًا أو عامدًا؛ لا يجزئه، وهو قول الشافعي في القديم، وهو المشهور عن مالك.
وقال ابن القاسم: (إنَّ فرقه يسيرًا أو ناسيًا؛ يجزئه، وعن مالك يجزئه في الممسوح دون المغسول، لكن صرح ابن الحاجب في «مختصره»: أنَّ الأصح أنَّ الموالاة واجبة في الوضوء والغسل مطلقًا) انتهى.
ومذهب أحمد أنها فرض في الوضوء، سنة في الغُسل على الصحيح، وفي رواية عن أحمد: أنها سنة في الوضوء أيضًا، كما في «المنتهى»، قال: فقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ .. }؛ الآية [المائدة: 6]، الأول: شرط، والثاني: جواب، فإذا وجد الشرط؛ وجب ألَّا يتأخر جوابه، وهذا في (الوضوء) يدل على الموالاة أنَّها واجبة.
قلت: وهو لا يدل على الوجوب؛ لأنَّه لا يلزم من وجود الشرط والجواب ألَّا يكون الجواب متأخرًا عن الشرط؛ لأنَّ المأمور به إنَّما هو غسل هذه الأعضاء، وهو يشمل الوصل والتفريق في غسلها، ويدل لهذا فعل ابن عمر رضي الله عنهما، واستدلوا أيضًا بما رواه أحمد، وأبو داود: (أنَّ النبيَّ عليه السلام رأى رجلًا يصلي، وفي ظهر قدميه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء).
قلت: وهو لا يدل على وجوب الموالاة؛ لاحتمال أنَّ الرجل غسل قدميه، وجف هذا الموضع؛ لأنَّ الحر حر الحجاز، فأمره بإعادة الوضوء؛ لوجود ناقض للوضوء من إخراج دم ولم يشعر الرجل، أو غيره، أو أنَّه أمره بإعادة الوضوء زجرًا له حيث إنَّه لم يسبغ الوضوء، أو غير ذلك، والدليل: إذا طرأه الاحتمال؛ بطل الاستدلال به؛ فليحفظ، والعجب من العجلوني مع تعصبه لمذهب إمامه لم يتعرَّض لهذا الاستدلال، بل نقله ومضى عليه؛ فافهم.
أمَّا الغُسل؛ فالموالاة فيه غير واجبة إجماعًا؛ لأنَّ المغسول منه بمنزلة العضو الواحد، كما قدمناه، فلو اغتسل، ثم تمضمض أو استنشق؛ صح غسله؛ لأنَّ البدن عضو واحد؛ فليحفظ.
وقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (جفوف الوضوء ليس بحدث؛ فلا ينقض، كما أنَّ جفوف سائر الأعضاء لا تبطل الطهارة) انتهى.
==========
%ص 275%
==================
(1/457)
[حديث: وضعت لرسول الله صلى الله عليه سلم ماءً يغتسل به فأفرغ على يديه فغسلهما]
265# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن مَحبوْب)؛ بموحدتين
%ص 275%
بينهما واو ساكنة، قبلها حاء مهملة ساكنة، أوله ميم مفتوحة؛ هو أبو عبد الله البصري، قيل: محبوب لقب، واسمه الحسن، مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا عبد الواحد): هو ابن زياد_ بكسر الزاي_ البصري (قال: حدثنا الأعمش): هو سليمان بن مهران، (عن سالم)؛ بالسين المهملة (بن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، آخره دال مهملة، (عن كُريب) بضمِّ الكاف (مولى ابن عباس) رضي الله عنهما، (عن ابن عباس): هو عبد الله رضي الله عنهما (قال: قالت مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: بنت الحارث زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالة ابن عباس رضي الله عنهما: (وضعت للنبيِّ) الأعظم، وفي رواية: (لرسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) وقد تقدم هذا المتن من رواية موسى بن إسماعيل عنه في باب (الغسل مرة واحدة)، غير أنَّ في بعض ألفاظها اختلافًا، كما ترى (ماء يغتسل به) وهناك: (ماء للغُسل)؛ أي: من الجنابة، (فأفرغ على يديه، فغسلهما)، وهناك: (فغسل يديه) (مرتين) بلا تكرار (مرتين)، وفي رواية بتكرار (مرتين)، (أو ثلاثًا) الظاهر أنَّ الشك من ميمونة، ويحتمل غيرها، (ثم أفرغ)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (بيمينه على شماله) وهناك: (ثم أفرغ على شماله)، (فغسل مذاكيره)؛ أي: القبل والدبر، وما حولهما، (ثم دلك يده بالأرض) وهناك: (ثم سمح يده بالأرض)؛ أي: لما لزق فيها من المني للزاجته، (ثم تَمضمض)؛ بالمثناة الفوقية أوله، وفي رواية بحذفها (واستنشق)؛ لأنَّهما من تمام غسل البدن، (ثم غسل وجهه)؛ أي: ولحيته الشريفة، (ويديه) الشريفتين، (وغسل) وهناك: (ثم غسل) (رأسه)؛ أي: وشعره إلى أن بلغ الماء أصوله (ثلاثًا) الظاهر: رجوعه إلى هذه الجملة الأخيرة فقط؛ لأنَّ القاعدة الأصولية في مذهب الأئمَّة الحنفية أنَّ القيد إذا تأخر عن جمل؛ يختص بالمتأخر منها، ويحتمل على بُعْدٍ رجوعُه لجميع الأفعال السابقة؛ بناء على ما زعمه الشافعية من أنَّ القيد إذا تأخر عن جمل؛ يعود على الكل وإن كان خلاف الظاهر، وإن استظهره الكرماني وغيره ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم؛ فليحفظ، (ثم أفرغ) عليه السلام من الإفراغ؛ أي: صب الماء (على جسده) وهناك: (ثم أفاض على جسده)؛ أي: كله مرة واحدة، كما هو الظاهر، (ثم تنحَّى)؛ بالمثناة الفوقية، بعدها نون، بعدها حاء مهملة؛ أي: تباعد (من مَقامه)؛ بفتح الميم أولى: اسم مكان، وأصله مكان القيام، فيحتمل أنَّه عليه السلام اغتسل قائمًا، ويحتمل قاعدًا؛ لأنَّه اشتهر بعرف الاستعمال أنَّه لمطلق المكان قائمًا كان أو قاعدًا فيه، والظاهر الأول؛ فليحفظ، (فغسل قدميه)؛ أي: رجليه، وهناك: (ثم تحول عن مكانه)؛ أي: إلى مكان آخر فغسلهما فيه؛ تحرزًا عن الماء المستعمل.
ومطابقة الحديث للترجمة في تفريق غسل أعضائه بإفراغ الماء على جسده والتنحي عن مقامه.
فإن قلت: هذا تفريق الغُسل، فأين ما يدل على تفريق الوضوء؟
قلت: دل على تفريقه ذكر ميمونة صفة وضوئه عليه السلام بكلمة (ثم) التي تدل على التراخي مطلقًا، انتهى؛ أي: أنَّ التنحي يعم القريب والبعيد، والمراد به هنا: البعيد؛ لدلالة (ثم) على التراخي؛ فليحفظ.
وفي الحديث: أنَّ المضمضة والاستنشاق في الغسل فرضان، وأنَّ الماء المستعمل نجس، وفيه: الإفراغ باليمين على الشمال وعكسه، وفيه: خدمة الأزواج، وفيه: استحباب تهيئة ماء الاغتسال، وفيه: عدم وجوب الموالاة في الوضوء والغسل، وبقية المباحث تقدمت هناك.
==================
(1/458)
(11) [باب من أفرغ بيمينه على شماله في الغُسل]
هذا (باب) حكم (من) أي: الشخص الذي (أفرغ)؛ أي: الماء من الإفراغ؛ أي: صبه (بيمينه على شماله في الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: غسل الجنابة عند الاستنجاء، وهذا الباب مقدم على الباب الذي قبله عند ابن عساكر والأَصيلي، وعلى كل تقدير؛ فالمناسبة بينهما ظاهرة من حيث إنَّ كلًّا منهما يتعلق بالوضوء، وإفراغ الماء بيمينه على شماله في الاستنجاء في الغسل، وأمَّا في غسل الأطراف؛ فإن كان الإناء الذي يتوضأ منه إناء واسعًا؛ يضعه عن يمينه، ويأخذ منه الماء بيمينه، وإن كان ضيقًا؛ كالقماقم؛ يضعه عن يساره، ويصب الماء منه على يمينه، كذا قرره في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
%ص 276%
==================
(1/459)
[حديث: وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غُسلًا وسترته فصب على يده]
266# وبالسَّند قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل): هو التبوذكي (قال: حدثنا أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة، وتخفيف الواو: هو اسمه الوضاح_ بالمهملة آخره_ اليشكري (قال: حدثنا الأعمش): هو سليمان بن مهران، (عن سالم)؛ بالسين المهملة (بن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون المهملة، (عن كُريب)؛ بضمِّ الكاف (مولى ابن عباس، عن ابن عباس) رضي الله عنهما (عن) خالته (مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية (بنت الحارث): الهلالية زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وسقط (بنت الحارث) في رواية، وهذا الحديث تقدم من رواية موسى بن إسماعيل المذكور أيضًا في باب (الغسل مرة)، لكن شيخه هناك عبد الواحد، وهنا أبو عَوانة، وفي ألفاظهما اختلاف كما ترى؛ فافهم، (قالت: وضعت لرسول الله) وهناك: (للنبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم غُسلًا)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ هو ما يغتسل به، وبالفتح مصدر، وبالكسر اسم ما يغتسل به؛ كالسدر ونحوه، والمراد الأول، ويحتمل أنَّها ضمت إليه الثالث؛ لأجل التنظيف من الجنابة، (وسترته)؛ بضمير المتكلم، وهذا معطوف على قولها (وضعت)، كما هو ظاهر، زاد ابن فضيل عن الأعمش: (بثوب)؛ أي: غطيت رأسه، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، وتبعه الشراح، فالضمير في (سترته) يعود على الماء بمعنى الإناء الذي فيه الماء، وإنَّما أرجعوه إليه؛ لقرب المرجع، كما هو القاعدة، والحامل لها على ستره خوف وقوع قذر أو غيره في الماء من ريح أو غيره فينجس الماء أو يستقذر، ويحتمل أن يعود الضمير على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فيكون المعنى: وضعت بيني وبينه ثوبًا ساترًا؛ مخافة أن ترى عورته، وأيد هذا الاحتمال العجلوني بما سيأتي في باب (نفض اليدين في الغسل)، فإنَّه قد صرح بالنبيِّ عليه السلام.
قلت: وهذا ليس يؤيد هذا الاحتمال؛ لأنَّ القصة مختلفة على أنَّ الحاجة لوضع الثوب ستر العورة، والنبيُّ عليه السلام كان في حجرتها، وليس عنده غيرها، فاحتمال أن ترى عورته بعيد، بل الاحتياج إلى ستر الماء أشد لاحتمال وقوع فأرة فيه ونحوها مما يفسد الماء.
وزعم ابن حجر أنَّ الواو في (وسترته) حالية، ورده صاحب «عمدة القاري» بأنَّه ليس كذلك، بل هي عاطفة، فهو معطوف على (وضعت) انتهى.
وزعم العجلوني: أنَّه لا يتعين العطف، بل يجوز الوجهان.
قلت: بل يتعيَّن أن تكون الواو عاطفة؛ لصحة المعنى، وظهوره بخلاف الحالية، فإنَّها بعيدة المعنى مع خفائه؛ فليحفظ.
(فصب) معطوف على محذوف؛ أي: فأراد النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الغسل، فكشف رأسه، فأخذه فصب (على يده)؛ بالإفراد، وفي رواية بالتثنية، والمراد من اليد الجنس، فصح إرادة كلتيهما منه.
وزعم ابن حجر أنَّ (فصب) عطف على (وضعت)؛ المعنى: وضعت له ماء فشرع في الغسل، ورده صاحب «عمدة القاري»: (بأنَّ هذا تصرف من ليس له ذوق من معاني التركيب، وكيف يكون الصب معقبًا بالوضع وبينهما أفعال أخرى؟ ولا يجوز تفسير «صب» بمعنى شرع) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن لا وجه لإنكاره ما قاله، فإنَّه إذا فرض أنَّ الإدارة والكشف وقعا قبل الوضع؛ جاز كون الصب معقبًا عليه من غير واسطة أفعال أخرى، ولا مانع من تفسير (صب) بمعنى شرع؛ لأنَّ من شرع في إفراغ ماء مثلًا؛ جاز أن يقال فيه: صبه، نعم؛ في قول ابن حجر: (والكشف يمكن كونه وقع قبل الوضع) مؤاخذة؛ لأنَّ المراد به كشف رأس الإناء، وكأنَّ ابن حجر ظن أنَّه رأس النبيِّ عليه السلام، وكذا في قوله: (والأخذ عين الصب) فيه ما فيه؛ لأنَّ الصب ينشأ عن الأخذ لا عينه، ولا داعي إلى التجوُّز بجعله عينه؛ فتأمل.
قلت: تأملت قوله: (أن لا وجه لإنكاره)، فرأيته له وجه وجيه.
وقوله: (فإنَّه إذا فرض ... ) إلخ هذا كلام من لم يشمَّ شيئًا من رائحة العلم، فإنَّ المعاني والأحكام لا تبنى على الفرض والتقدير، كيف وقد ثبت في الحديث وجود الواسطة بين الوضع والصب، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، ولا ينكر هذا إلا كل متعنت خال الفهم؟
وقوله: (ولا مانع من تفسير ... ) إلخ، بل المانع
%ص 276%
فيه ظاهر، وهو عدم صحة المعنى؛ لأنَّ الشروع في إفراغ الماء لأجل الغسل كما هنا، أو غيره التهيُّؤ لذلك من خلع الثياب ونحوها، والصب: كفاء الماء من الإناء، فلا يجوز لمن شرع في إفراغ الماء أن يقال فيه: صبه؛ لاختلاف المعنى، وهذا ظاهر، كما لا يخفى.
وقوله: (نعم؛ في قول ابن حجر .... ) إلخ هذا اعتراض من العجلوني عليه؛ لأنَّ هذه العبارة المفقودة الغائرة ذكرها في شرحه، لكنها غير صحيحة، وكيف يكون وقع الكشف قبل الوضع مؤاخذة مع أنَّه صرحت في الحديث أنَّ الوضع قبل الكشف، فكلامه مصادم للحديث، ولا وجه له أصلًا وعلى كلامه، فالكشف على من وقع وأين الماء الموضوع؟ وما هو إلا لقلقة لسان.
وقوله: (وكأنَّ ابن حجر ... ) إلخ؛ فإنَّه قد اعترض على الكرماني، واختلط عليه الكلام في عود الضمير إمَّا على الماء، أو على النبيِّ عليه السلام مع أنَّه في أول كلامه جزم بأنَّه يعود على الماء، فخبط هذا الخبط.
وقوله: (وكذا قوله والأخذ ... ) إلخ هذا كلام من لم يدر شيئًا من معاني التركيب، فكيف يكون الأخذ عين الصب وبينهما فرق ظاهر لا يخفى؟ وما هذا إلا معنًى فاسد.
وقوله: (لأنَّ الصب ... ) إلخ، فإنَّه إذا أراد الصب؛ أخذ الإناء وكفئه، فالصب غير الأخذ لا عينه لا محالة.
وقوله: (لا داعي ... ) إلخ، بل هو ممنوع؛ لأنَّه لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وهذا غير متعذر، فيتعين الكلام على الحقيقة، وهذا دأب ابن حجر وضع الكلام في شرحه بلا معنًى ولا فائدة، وقد بين ذلك في «إيضاح المرام»، ولو ذكرناه؛ لطال المقام؛ فيراجع.
وقوله: (مرة أو مرتين) متعلق بـ (غسلها)، والشك فيه من أبي عوانة، وهو القائل: (قال سليمان) هو ابن مهران الأعمش: (لا أدري أذكر)؛ أي: سالم بن أبي الجَعْد شيخ الأعمش (الثالثة)؛ أي: الغسلة الثالثة (أم لا؟)، وقد مر في رواية عبد الواحد، عن الأعمش: (فغسل يديه مرتين أو ثلاثًا)، ولابن فضيل عن الأعمش: (فصب على يديه ثلاثًا) ولم يشكَّ، أخرجه أبو عَوانة في «مستخرجه»، فكأن الأعمش كان يشك فيه، ثم ذكر فجزم؛ لأنَّ سماع ابن فضيل منه متأخر، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، (ثم أفرغ) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الماء (بيمينه على شماله) ففيه المطابقة للترجمة، كما لا يخفى، (فغسل فرجه) المراد به: القبل والدبر، (ثم دلك يده)؛ بالإفراد، وهي التي استنجى بها (بالأرض أو بالحائط) الظاهر: أنَّ الشك فيه من ميمونة، ويحتمل غيرها، وهناك: (فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض) من غير شك، وذلك لأذًى من مني ونحوه عليها، وهناك: (ثم غسلها)؛ أي: اليد بالماء؛ ليكون الغسل أطهر وأنقى؛ لأنَّ المني لزج، فيحتمل لصوق شيء منه، (ثم تمضمض)؛ بفوقية أوله لغير الأَصيلي، وله بحذفها، كما هناك (واستنشق)؛ لأنَّهما من تمام غسل البدن، (وغسل وجهه) وأصول لحيته، (ويديه)؛ أي: الذراعين، (وغسل رأسه) وأصول شعره، وأتى بـ (الواو) للإشارة إلى عدم وجوب الترتيب؛ لأنَّ الواو لمطلق الجمع عند أهل اللغة، فهذا يعم التقديم والتأخير، وفيه: دليل واضح إلى أنَّ الترتيب في الوضوء غير شرط، وهو مذهب الجمهور خلافًا لطائفة، (ثم صب) أي: الماء (على جسده)؛ أي: كله وقدم أعضاء الوضوء؛ ليتفقد ما فيها مما يمنع وصول الماء إلى الجسد خصوصًا المضمضة والاستنشاق، ولشرفها، وهناك: (ثم أفاض على جسده)، (ثم تَنَحَّى)؛ بفوقية أوله، بعدها نون مفتوحتين، آخره مهملة، وهناك: (ثم تحول من مكانه)؛ أي: تباعد عن المكان الذي اغتسل فيه إلى مكان آخر، (فغسل)؛ بالفاء للأكثر، ولأبي ذر بالواو (قدميه)؛ أي: رجليه؛ تحرُّزًا عن الماء المستعمل، قالت ميمونة: (فناولته خِرقة)؛ بكسر الخاء المعجمة، واحدة الخروق، وذلك لأجل أن يتنشف بها، (فقال) أي: أشار من إطلاق القول على الفعل، كما قدمناه (بيده)؛ بالإفراد (هكذا)؛ أي: لا أتناولها؛ لما رأى عليها من وسخ، أو لاستعجاله إلى القيام إلى الصَّلاة، أو لأجل بقاء أثر العبادة أو غير ذلك، فقولها: (ولم يُرِدْها)؛ بضمِّ المثناة التحتية، من الإرادة لا من الرد، فهو تأكيد وهو مجزوم بالسكون، وحذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين لا مجزوم بحذف الياء، كما توهمه القسطلاني.
قال إمام الشارحين: (وحكى «المطالع»: أن «لم يردَّها» بالتشديد رواية ابن السكن، ثم قال: وهو وهم؛ لأنَّ المعنى يفسد حينئذ، وقد رواه الإمام أحمد عن عفان، عن أبي عَوانة بهذا الإسناد، وقال في آخره: «فقال هكذا، وأشار بيده أن لا أريدها»، وفي رواية أبي حمزة، عن الأعمش: «فناولته ثوبًا، فلم يأخذه») انتهى كلام «عمدة القاري».
قلت: وفي الحديث: دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل، وفيه: دليل على أنَّ الماء المستعمل نجس، وفيه: جواز خدمة الزوجات للأزواج، وفيه: استحباب تغطية الماء، وفيه: تقديم الاستنجاء، وفيه: رد المنديل لمانع مما سبق، فقد ورد عن قَيْس بن سعد: (أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم اغتسل، فأتيناه بملحفة، فالتحف بها).
قلت: والظاهر: أنَّ الملحفة هو الحرام الذي يلتحف به لا المنديل؛ فافهم، والله أعلم.
==================
(1/460)
(12) [باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (إذا جامع)؛ أي: المجامع امرأته أو أمته، كما للكشميهني، (ثم عاد) أي: إلى جماعها مرة أخرى، وجواب (إذا) محذوف؛ تقديره: ما يكون حكمه، وهو أولى من تقدير: جاز؛ لأنَّ عادة المؤلف أنَّه يطلق الترجمة، ويحيل الحكم على الأحاديث التي [1] تُذكر تحت الترجمة، كما لا يخفى؛ فافهم، وفي رواية الكشميهني: (عاود)؛ من المعاودة؛ أي: جامع مرة أخرى، (ومن دار) عطف على قوله: (إذا جامع)؛ أي: باب من دار؛ بالدالة المهملة: من الدوران (على نسائه في غُسل) بضمِّ الغين المعجمة (واحد) وجواب (من) محذوف أيضًا؛ تقديره: ما يكون حكمه، وهو أولى، وقد رجع العجلوني هنا إليه بعد أن ادَّعى في الأولى أنَّ الجواز أولى، وليس كذلك، كما علمت؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنَّ (عاد) أعم من أن يكون في ليلة أو غيرها، ورده صاحب «عمدة القاري» بأن الجماع في غير ليلة جامع فيها لا يسمى عودًا لا لغة ولا عرفًا، والمراد ههنا: أن يكون الابتداء والعود في ليلة واحدة أو يوم واحد، والدليل عليه حديث رواه أبو داود والنسائي عن أبي رافع: (أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله؛ ألا تجعله غُسلًا واحدًا، قال: «هذا أزكى وأطيب»)، زاد في رواية: (وأطهر) انتهى.
وقد رمرم العجلوني على زعمه عبارة ابن حجر بما لا يخفى فساده، وزعم أنَّ في كلام «عمدة القاري» نظر، ولم يبيِّن وجهه، بل أحال ما ادَّعاه على اللغة والعرف، وزعم أنَّ الحديث واقعة حال فعلية لا تقتضي قصر الحكم عليها.
قلت: وهو ممنوع، فإنَّ الحديث ظاهر فيما قاله صاحب «عمدة القاري»، وهو عام يدل على أنَّ ذلك عادته عليه السلام، فهو يقتضي أنَّ جميع فعله هكذا، يدل لهذا قوله في الحديث: «هذا أزكى، وأطيب، وأطهر»، ومبنى هذا الفعل على السرور والصفا، كما لا يخفى على أهل الوفا، فما زعمه هذا الزاعم تعصب مردود؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: فإن قلت: ظاهر هذا الحديث_ أي: حديث أبي رافع_ يدل على أنَّ الاغتسال بين الجماعين واجب؟ قلت: أجمع العلماء على أنَّه لا يجب بينهما، وإنَّما هو مستحب حتى إنَّ بعضهم استدل بهذا على استحباب الحديث؛ أي: بين الجماعين، على أنَّ أبا داود لمَّا روى هذا الحديث؛ قال: حديث أنس أصح من هذا، وحديث أنس رضي الله عنه رواه أبو داود أيضًا عنه قال: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يطوف على نسائه في غسل واحد)، ورواه الترمذي أيضًا، وقال: حديث صحيح، وضعف ابن القطان حديث أبي رافع، وصححه ابن حزم، وعبارة أبي داود أيضًا تدل على صحته.
وأمَّا الوضوء بين الجماعين؛ فقد اختلفوا فيه؛ فعند الجمهور ليس بواجب، وقال ابن حبيب المالكي وداود الظاهري: إنَّه واجب.
قال ابن حزم: وهو قول عطاء، وإبراهيم، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، واحتجوا بحديث أبي سَعِيْد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود؛ فليتوضأ بينهما وضوء»، أخرجه مسلم من طريق حفص، عن عاصم، عن أبي المتوكل عنه، وحمل الجمهور الأمر بالوضوء على الندب
%ص 277%
والاستحباب لا الوجوب بما رواه الحافظ الطحاوي من طريق موسى بن عُقْبَة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يجامع، ثم يعود ولا يتوضأ).
وقال أبو عمر: ما أعلم أحدًا من أهل العلم أوجبه إلا طائفة من أهل الظاهر.
قلت: روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول: (إذا أراد أن يعود؛ توضأ)، وروي عن عمر بن الوليد قال: سمعت ابن محمَّد يقول: (إذا أراد أن يعود؛ توضأ)، وروي أيضًا عن عطاء مثله.
وما نسب ابن حزم الوضوء إلى الحسن وابن سيرين؛ فيرده ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن الحسن: أنَّه كان لا يرى بأسًا أن يجامع الرجل امرأته، ثم يعود قبل أن يتوضأ.
قال: وكان ابن سيرين يقول: لا أعلم بذلك بأسًا إنَّما قيل ذلك؛ لأنَّه أحرى أن يعود، كذا في «عمدة القاري».
قلت: يحتمل أنَّه رُوِيَ عنهما روايتان.
قلت: هذا الاحتمال بعيد؛ لقول ابن سيرين: لا أعلم بذلك بأسًا، وإنَّما قيل ذلك؛ لأنَّه أحرى أن يعود؛ أي: فهو لأجل نشاط النفس وتطيبها، ويدل لهذا حديث أبي رافع؛ لأنَّ فيه أنَّه (أزكى وأطيب)؛ أي: للنفس، فإنَّه إذا فعل ذلك يكون أقبل للنفس، فهو دليل على أنَّه مستحب لا واجب، كما لا يخفى، ثم قال في «عمدة القاري»: (ونقل عن إسحاق ابن راهويه أنَّه حمل الوضوء المذكور على الوضوء اللغوي؛ حيث نقل عنه ابن المُنْذِر أنَّه قال: لا بد من غسل الفرج إذا أراد العود.
قلت: يرد هذا ما رواه ابن خزيمة من طريق ابن عيينة، عن عاصم في الحديث المذكور: «فليتوضأ وضوءه للصلاة»، وفي لفظ عنده: «فهو أنشط للعود»، وصحح الحاكم لفظ «وضوءه للصلاة»، ثم قال: هذه لفظة تَفرَّد بها عن شعبة، عن عاصم، والتفرد من مثله مقبول عند الشيخين.
فإن قلت: يعارض هذه الأخبار حديث ابن عباس قال عليه السلام: «إنَّما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصَّلاة»، قاله أبو عَوانة في «صحيحه».
قلت: لا يعارض؛ لأنَّ الحافظ الطحاوي قال: العمل على حديث الأسود عن عائشة رضي الله عنها.
وقال المقدسي والثقفي: هذا كله مشروع جائز، من شاء؛ أخذ بهذا، ومن شاء؛ أخذ بالآخر) انتهى كلام «عمدة القاري».
قلت: على أنَّ حديث ابن عباس وإن كان صحيحًا يحمل الأمر فيه على الفرضية للصلاة وهو يرد على من يقول بوجوب الوضوء قبل أن يعود؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الذي)، وليس بصحيح.
==================
(1/461)
[حديث: يرحم الله أبا عبد الرحمن كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف]
267# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن بَشار)؛ بفتح الموحدة، والشين المعجمة، المعروف ببُندار (قال: حدثنا ابن أبي عدي): هو محمَّد بن إبراهيم، مات بالبصرة سنة أربع وتسعين ومئة (ويحيى بن سَعِيْد)؛ بكسر العين المهملة، بعدها تحتية: هو القطان؛ كلاهما يروي (عن شعبة): هو ابن الحجاج، قال في «عمدة القاري»: (وفيه بين قوله: (ويحيى بن سَعِيْد) وبين (شعبة) لفظة (كلاهما) مقدرة؛ لأنَّ كلًّا من ابن أبي عدي ويحيى روى عن شعبة هذا الحديث، وحذفت من الكتابة؛ للاصطلاح ولكن عند القراءة ينبغي أن تثبت) انتهى؛ فافهم، (عن إبراهيم بن محمَّد بن المُنْتَشِر)؛ بضمِّ الميم، وسكون النون، وفتح المثناة الفوقية، وكسر الشين المعجمة، (عن أبيه): هو محمَّد المذكور بن أبي مسروق الكوفي الوداعي (قال: ذكرته)؛ أي: ذكرت قول ابن عمر (لعائشة) رضي الله عنها، ولفظه في حديثه الآخر الذي يأتي: (سألت عائشة رضي الله عنها)، وذكر لها قول ابن عمر: (ما أحب أن أصبح محرمًا أنضخ طيبًا)، فقالت عائشة: (أنا طيبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ... )؛ الحديث.
وقد بيَّن مسلم أيضًا في روايته عن محمَّد بن المنكدر قال: (سألت عبد الله بن عمر عن الرجل يتطيب، ثم يصبح محرمًا ... )؛ فذكره، وزاد: قال ابن عمر: (لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك)، وكذا ساقه الإسماعيلي بتمامه عن الحسن بن سفيان، عن محمَّد بن بشار، كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني وتبعه ابن حجر أنَّ قوله: (ذكرته) _ أي: قول ابن عمر: ما أحب أن أصبح محرمًا أنضخ طيبًا_ وكنى بالضمير عنه؛ لأنَّه معلوم عند أهل هذا الشأن.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» قال: قلت: هذا كلام عجيب، فالوقوف على مثل هذا مختص بأهل هذا الشأن، فإذا وقف أحد من غير أهل هذا الشأن على هذا الحديث؛ يتحير، فلا يدري أي شيء يرجع إليه الضمير في قوله: (وذكرته)، وكان ينبغي للبخاري بل كان المتعين عليه أن يقدم رواية أبي النعمان هذا الحديث على رواية محمَّد بن بشار؛ لأنَّ رواية أبي النعمان ظاهرة، والذي يقف على رواية ابن بشار بعد وقوفه على رواية أبي النعمان لا يتوقف في مرجع الضمير، ويعلم أنَّه يرجع إلى قول ابن عمر رضي الله عنهما.
وزعم ابن حجر والكرماني أيضًا (فكأنَّ المصنف اختصره؛ لكون المحذوف معلومًا عند أهل الحديث في هذه القضية).
ورده إمام الشارحين فقال: (قلت: فعلى هذا؛ كان يتعين ذكره بعد ذكر رواية أبي النعمان، كما ذكرنا) انتهى.
وزعم العجلوني فقال: (المراد في هذا على أهل هذا الشأن، فإنَّهم المرجوع إليهم في مثله في كل أوان؛ فليندفع جميع ما أورده وكثيرًا ما يحيل العلماء في كل فن على توقيف أربابه).
قلت: وهذا مردود، فإنَّه ليس كما قال، فإنَّ أهل هذا الشأن يجب عليهم بيان المعاني والضمائر لهذه المتون وأين مرجعها ومعاني اللغة وغير ذلك، ولهذا وضع العلماء الشروح على المتون، ووضعوا عليها حواشي وعلى الحواشي حواشي، وما هذا إلا لأجل فهم المعاني ومرجع الضمائر وغير ذلك، فلو لم يكن ذلك؛ لوقع الناس والطلبة والعلماء أيضًا في الحيرة والخبط والخلط، فكيف يقول هذا القائل: (المراد في هذا على أهل هذا الشأن) وما هذا إلا كلام من ليس له ذوق في علم التعليم؟
وقوله: (فإنهم المرجوع إليهم ... ) إلخ ليس كذلك؛ لأنَّ علم الحديث ليس هو علم فتوى، ولا علم فرائض، ولا غيره حتى يرجع إلى أهله، وإنَّما المرجوع إليهم أهل الفقه والفرائض؛ لأجل بيان أحكام الله عز وجل، ألا ترى أنَّه لو سئل سائل عن حكم؛ لا يجوز لأحد من الناس أن يستنبط من الحديث هذا الحكم ويجيبه فيه؛ لأنَّ هذا مخصوص بالمجتهد، وهو مفقود في هذه الأزمان، بل الموجود الأحكام التي استنبطها المجتهد الموافقة للصواب.
وقوله: (فليندفع جميع ما أورده) ليس كذلك، بل جميع ما أورده هذا الإمام هو الصواب.
وقوله: (وكثيرًا ما يحيل ... ) إلخ ليس كذلك، فإنَّ القليل من العلماء لا يحيل أصلًا، بل يبين المعاني بأتم مرام، فكيف الكثير؟ فإنَّهم أحق بالبيان، بل الواجب عليهم ذلك، وإذا سكت عن معنًى ولم يسأل عنه ومات على ذلك؛ فيدخل تحت الوعيد المذكور في الحديث، كما لا يخفى؛ فافهم.
(فقالت) أي: عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: (يرحم الله أبا عبد الرحمن)؛ تعني: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وترحمت له؛ إشعارًا بأنَّه سهى فيما قاله من عدم محبته أن يصبح ينضخ طيبًا، وقد غفل عن فعل النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه لو استحضره؛ لما قال ما قال، ومقول فقالت: (كنت أطيب النبيَّ) الأعظم، وفي أكثر الروايات: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: لأجل الإحرام أو للنساء كما يأتي، وجملة (يرحم الله أبا عبد الرحمن) معترضة، ويحتمل أن تكون مقولة لها أيضًا (فقالت) وتركت العاطف في الثاني؛ لإرادة التعداد أو لتقديره، (فيطوف) أي: فيدور النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (على نسائه) الطاهرات؛ أي: يقضي معهن حاجته من جماعهن جميعًا بغسل واحد، ولهذا قال في «عمدة القاري»: (القرينة دلت على أنَّ المراد هو الجماع، والدليل عليه قوله في حديث أنس الذي يأتي: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار) انتهى.
ثم قال: ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: «فيطوف على نسائه»، وقال الإسماعيلي: يحتمل أن يراد به الجماع، ويحتمل أن يراد به تجديد العهد بهن.
قال في «عمدة القاري»: قلت: الاحتمال الثاني بعيد، والمراد به: الجماع،
%ص 278%
يدل عليه الحديث الثاني الذي يليه، فإنه ذكر فيه أنه أعطي قوة ثلاثين، واعلم أن نسخ البخاري مختلفة في تقديم حديث أنس على حديث عائشة وعكسه، ومشى الداودي على تقديم حديث عائشة، وكذا ابن بطال في «شرحه»، انتهى.
قلت: ومشى على هذا إمام الشارحين بدر الدين شيخ الإسلام في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر والقسطلاني والعجلوني، وتبعهم العبد الضعيف جامع هذه الأوراق.
(ثم يصبح محرمًا يَنْضَخ)؛ بفتح التحتية أوله، بعدها نون ساكنة، وفتح الضاد المعجمة، بعدها خاء معجمة؛ أي: يفور، ومنه قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66]، وهذا هو المشهور، وضبطه بعضهم بالحاء المهملة، قال الإسماعيلي: وكذا ضبطه عامة من حدثنا وهما متقاربان في المعنى، وقال ابن الأثير: وقد اختلف في أيهما أكثر، والأكثر بالمعجمة، والأقل بالمهملة، وقيل: المعجمة: الأثر يبقى في الثوب والجسد، وبالمهملة: الفعل نفسه، وقيل: بالمعجمة: ما قيل متعمدًا، وبالمهملة من غير تعمُّد، وذكر صاحب «المطالع» عن ابن كيسان أنَّه بالمهملة: لما رق؛ كالماء، وبالمعجمة: ما ثخن؛ كالطيب.
وقال النووي: هو بالمعجمة أكثر من المهملة، وقيل: عكسه.
وقال ابن بطال: من رواه بالخاء المعجمة؛ كالنضخ عند العرب؛ كاللطخ، يقال: نضخ ثوبه بالطيب، هذا قول الخليل، وفي كتاب «الأفعال»: (نضخت العين بالماء نضخًا _بالمعجمة_؛ إذا فارت، واحتج بقوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَان}، ومن رواه بالحاء المهملة؛ فقال صاحب «العين»: نَضحتِ العينُ بالماء؛ إذا رأيتها تفور، وكذلك العين الناظرة إذا رأيتها معروفة، كذا في «عمدة القاري»، وقيل: النضخ؛ بالإعجام: الرش، مثل النضح؛ بالإهمال.
قلت: وهو قليل نادر في اللغة، ولهذا قال الأصمعي: (النضخ: بالمعجمة أكثر من النضح بالمهملة؛ فافهم)، والله أعلم.
وقوله: (طيبًا)؛ بالنصب على التمييز؛ ومعناه: يفور طيبًا، قال في «عمدة القاري»: ففيه: دلالة على استحباب الطيب عند الإحرام، وأنه لا بأس به إذا استدام بعد الإحرام، وإنما يحرم ابتداره في الإحرام، وهذا مذهب الإمام أبي يوسف، والثوري، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، وداود، وغيرهم، وبه قال جماعة من الصحابة، والتابعين، وجماهير المحدثين، والفقهاء، فمن الصحابة: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة رضي الله عنهم أجمعين، وقال آخرون بمنعه؛ منهم: الإمام محمَّد بن الحسن، والزُّهري، ومالك، وحكي عن جماعة من الصحابة، والتابعين، وادَّعى بعضهم أن هذا التطيُّب كان للنساء لا للإحرام، وادعى أن في هذه الرواية تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: فيطوف على نسائه ينضح طيبًا؛ ثم يصبح محرمًا، وجاء ذلك في بعض الروايات، والطيب يزول بالغسل لا سيما أنه ورد أنه كان يغتسل عند كل واحدة منهن، وكان هذا الطيب ذريرة، كما أخرجه البخاري في (اللباس)، وهو ما يذهبه الغسل، ويقويه رواية البخاري الآتية قريبًا: (طيبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرمًا)، وروايته الآتية: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه وهو محرم)، وفي بعض الروايات: (بعد ثلاث)، وقال القرطبي: هذا الطيب كان دهنًا، له أثر فيه مسك، فزال وبقيت رائحته، وادَّعى بعضهم خصوصيته ذلك بالشارع، فإنه أمر صاحب الجبة بغسله.
قلت: وأجيب بأن الأصل عدم الخصوصية، ولعله أمره لمن ذكر بالغسل؛ مخافة أن ينزعها، ثم يلبسها، أو لأنَّه لا يسن له تطيب الثوب والبدن قبل الإحرام، كما سيأتي في محله.
وقال المهلب: السنة اتخاذ الطيب للنساء والرجال عند الجماع، فكان عليه السلام أملك لإربه من سائر أمته، فلذلك كان لا يتجنب الطيب على الإحرام، ونهانا عنه؛ لتعففنا عن ملك الشهوات؛ إذ الطيب من أسباب الجماع.
وفيه: الاحتجاج لمن لا يوجب الدلك في الغُسل؛ لأنَّه لو كان ذلك لم ينضخ منه الطيب، ورده في «عمدة القاري» فقال: قلت: يجوز أن يكون دلكه، لكنه بقي وبيصه، والطيب إذا كان كثيرًا ربما غسله، فيذهب، ويبقى وبيصه.
وفيه: عدم كراهة كثرة الجماع عند النظافة، وفيه: عدم كراهة التزوج بأكثر من واحدة إلى أربع.
وفيه: أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصَّلاة، وهذا بالإجماع، والسبب في وجوب الغسل: الجنابة مع إرادة القيام إلى الصَّلاة، كما أن سبب الوضوء: الحدث مع إرادة القيام إلى الصَّلاة، وليس الجنابة وحدها، كما زعمه بعض الشافعية، وإلا؛ يلزم أن يجب الغسل عقيب الجماع، والحديث ينافي هذا، ولا مجرد إرادة الصَّلاة، وإلا؛ يلزم أن يجب الغسل بدون الجنابة [1]، انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الغسل)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/462)
[حديث أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة]
268# وبه قال: (حدثنا محمَّد بن بشار): هو المتقدم قريبًا (قال: حدثنا مُعُاذ) بضمِّ الميم، وفتح المهملة، آخره معجمة (بن هشام): هو الدستوائي (قال: حدثني) بالإفراد (أبي): هو هشام المذكور، والدُّسْتُوَائي؛ بالدال المهملة المضمومة، وسكون السين المهملة، وضم المثناة الفوقية، وفتح الواو، آخره همزة، (عن قَتَادَة) بفتحات: هو الأكمه السدوسي صاحب التفسير (قال: حدثنا أنس بن مالك) رضي الله عنه، وسقط (ابن مالك) لابن عساكر، وفيه أن رواته كلهم بصريون، كما قاله في «عمدة القاري» (قال) أي: أنس: (كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وأفاد بلفظ (كان) الدوام والاستمرار (يدور على نسائه) الطاهرات، قال في «عمدة القاري»: (ودورانه عليه السلام في ذلك يحتمل وجوهًا:
الأول: أن يكون ذلك عند إقباله من السفر؛ حيث لا قسم يلزم؛ لأنَّه كان إذا سافر؛ أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج اسمها؛ سافر بها، فإذا انصرف؛ استأنف القسمة بعد ذلك، ولم تكن واحدة منهنَّ أولى من صاحبتها بالبداءة، فلما استوت حقوقهن؛ جمعهن كلَّهن في وقت، ثم استأنف القسم بعد ذلك.
الثاني: أن ذلك كان بإذنهن ورضاهن، أو بإذن صاحبة النوبة ورضاها؛ كنحو استئذانه منهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها، قاله أبو عبيد.
الثالث: قاله المهلب: إنَّ ذلك كان في يوم فراغه من القسم بينهن، فيقرع في هذا اليوم لهن أجمع، ثم يستأنف بعد ذلك.
قلت: هذا التأويل عند من يقول بوجوب القسم عليه صلَّى الله عليه وسلَّم في الدوام، كما يجب علينا وهم الأكثرون، وأما من لا يوجب؛ فلا يحتاج إلى تأويل.
وقال ابن العربي: «إن الله خص نبيه عليه السلام بأشياء؛ أعطاه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حق حتى يدخل فيها على جميع أزواجه، فيفعل ما يريد بهن، ثم يدخل عند التي يكون الدور لها»، وفي كتاب «مسلم»: عن ابن عباس أن تلك الساعة كانت بعد العصر) انتهى كلام «عمدة القاري».
واعترض ابن حجر على ابن العربي بعد ما نقل عبارته فقال: (ويحتاج إلى ثبوت ما ذكره مفصلًا) انتهى.
قلت: ولا يخفى أن كلامه مبني على قول من لا يوجب القسم عليه صلَّى الله عليه وسلَّم، والأشياء التي أعطيها كثيرة لا يمكن تفصيلها، ومنها: القوة على ذلك، فإن ذلك غريب عادة طبعًا وطبًّا، فهي قوة خصوصية له عليه السلام، وهي ثابتة في هذا الحديث وغيره، والخصائص التي اختص بها لها كتب عديدة مفصلة فيها بدليل من الأحاديث العديدة، فكيف قال ابن حجر ما قال؟ فليحفظ، وقد ألف الشيخ الإمام خاتمة المحدثين شيخ مشايخنا الشهاب أحمد المنيني شارح «البخاري» كتابًا في الخصائص نظمًا، وشرحه شرحًا مفيدًا، وقد قرأته ولله الحمد على بعض شيوخي في رمضان سنة خمس وسبعين ومئتين وألف، وللسيوطي أيضًا كتاب في الخصائص وغيره، والله أعلم؛ فافهم.
(في الساعة الواحدة)؛ المراد بها: الحصة، وهي قدر من الزمان لا الساعة الرملية التي هي خمس عشرة درجة (من الليل والنهار)، (الواو) فيه بمعنى (أو)، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ كالكرماني.
وزعم ابن حجر: (أنه يحتمل أن تكون على بابها بأن تكون تلك الساعة جزءًا من آخر أحدهما، وجزءًا من أول الآخر) انتهى.
قلت: هذا ليس بظاهر؛ لأنَّ قول ابن عمر السابق: (ثم يصبح محرمًا)
%ص 279%
يدل على أن الدوران إما في الليل، وإما في النهار، فـ (الواو) بمعنى (أو) على التحقيق؛ فافهم.
(وهن) أي: أزواجه الطاهرات (إحدى عشرة)؛ أي: امرأة، قال ابن خزيمة: (لم يقل أحد من أصحاب قتادة: «إحدى عشرة» إلا معاذ بن هشام عن أبيه، وقد روى الصحابي الرواية الأخرى عن أنس: «تسع نسوة»، وجمع بينهما: بأن أزواجه كن تسعًا في هذا الوقت، كما في رواية سَعِيْد: (وسريتان مارية وريحانة)، على رواية من روى أنَّ ريحانة كانت أَمَةً، وروى بعضهم أنها كانت زوجة، وروى أبو عبيد: (أنه كان مع ريحانة فاطمة بنت شريح).
قال ابن بطال: (إنه عليه السلام لا يحل له من الحرائر غير تسع)، ورده في «عمدة القاري»، وقال: (والأصح عندنا أنه يحل له ما شاء من غير حصر).
وقال ابن حبان: (هذا الفعل ثبت منه أول مقدمه المدينة حيث كان تحته تسع نسوة؛ لأنَّ هذا الفعل كان مرارًا لا مرة واحدة، ولا نعلم أنه تزوج نساءه كلهن في وقت واحد، ولا يستقيم هذا إلا في آخر أمره حيث اجتمع عنده تسع نسوة وجاريتان، ولا نعلم أنه اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة بالتزويج، فإنه تزوج بإحدى عشرة؛ أولهن خديجة، ولم يتزوج عليها حتى ماتت).
واعترضه صاحب «عمدة القاري» فقال: قول ابن حبان: (هذا الفعل منه كان في أول مقدمه المدينة حيث كان تحته تسع نسوة) فيه نظر؛ لأنَّه لم يكن معه حين قدم المدينة امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سَلَمَة وحفصة وزينب بنت خزيمة في الثالثة أو الرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم حفصة وأم حبيبة وميمونة في السابعة، هؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور)، ثم قال قدس سره: (واختلفوا في عدة أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي ترتيبهن، وعدة من مات منهن قبله، ومن دخل بها، ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه، فقالوا: إن أول امرأة تزوجها خديجة بنت خويلد، ثم سودة بنت زمعة، ثم عائشة بنت أبي بكر، ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب، ثم أم سَلَمَة واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة، ثم جويرية بنت الحارث، سباها النبيُّ الأعظم عليه السلام في غزوة المريسيع، ثم زينب بنت جحش، ثم زينب بنت خزيمة، ثم ريحانة بنت زيد من بني قريظة، وقيل: من بني النضر سباها النبيُّ عليه السلام، ثم أعتقها وتزوجها في سنة ستٍّ، وماتت بعد عوده من حجة الوداع، ودفنت بالبقيع، وقيل: ماتت بعده في سنة ستَّ عشرةَ، والأول أصح، ثم أم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان أخت معاوية بن أبي سفيان، وليس في الصحابيات من اسمها رملة غيرها، ثم صفية بنت حيي بن أخطب من سبط هارون عليه السلام، وقعت في السبي يوم خيبر، سنة سبع، فاصطفاها النبيُّ عليه السلام، ثم ميمونة بنت الحارث تزوجها رسول الله عليه السلام في ذي القعدة سنة سبع في عمرة القضاء بسرف على عشرة أميال من مكة، وتزوج أيضًا فاطمة بنت الضحاك، وأسماء بنت النعمان، وأمَّا بقية أزواجه عليه السلام اللاتي دخل بهن، أو عقد ولم يدخل؛ فهن ثمان [1] وعشرون امرأة:
ريحانة بنت زيد، وقد ذكرناها.
والكلابية، واسمها: عَمرة بنت زيد، وقيل: العالية بنت ظبيان، وقال الزُّهري: تزوج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم العالية بنت ظبيان، ودخل بها وطلقها، وقيل: لم يدخل بها وطلقها، وقيل: فاطمة بنت الضحاك، قال الزُّهري: تزوجها فاستعاذت منه فطلقها فكانت تلقط البعر، وتقول: أنا الشقية.
وأسماء بنت النعمان، تزوجها عليه السلام ودعاها قالت: تعال أنت، فطلقها، وقيل: هي التي استعاذت منه.
وقتيلة [2] بنت قَيْس أخت الأشعث بن قَيْس، زوَّجه إياها أخوها، ثم انصرف إلى حضرموت، فحملها إليه فبلغه وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فردها إلى بلاده وارتد عن الإسلام، وارتدت [3] معه.
ومليكة بنت كعب الليثي، قيل: هي التي استعاذت منه، وقيل: دخل بها فماتت عنده، والأول أصح.
وأسماء بنت الصلت السلمية، قيل: اسمها سبأ، قال ابن منده، وقيل: سنا، قاله ابن عساكر، تزوجها عليه السلام فماتت قبل أن يدخل بها.
وأم شريك الأزدية واسمها عزبة [4]، طلقها النبي عليه السلام قبل أن يدخل بها، وهي التي وهبت نفسها للنبيِّ عليه السلام، وكانت امرأة صالحة.
وخولة بنت هزيل، تزوجها عليه السلام، فهلكت قبل أن تصل إليه.
وشراف بنت خالد أخت دحية الكلبي، تزوجها النبيُّ عليه السلام، ولم يدخل بها، وفي «عيون الأثر»: (فماتت قبله).
وليلى بنت الحطيم، تزوجها عليه السلام، وكانت غيورًا، فاستقالته فأقالها.
وعمرة بنت معاوية الكندية، مات النبيُّ عليه السلام قبل أن تصل إليه.
والجندعية بنت جندب، تزوجها عليه السلام، ولم يدخل عليها، وقيل: لم يعقد عليها.
والغفارية، قيل: هي السنا، تزوجها عليه السلام فرأى بكشحها بياضًا، فقال: «الحقي بأهلك».
وهند بنت يزيد، لم يدخل بها.
وصفية بنت بشامة، أصابها سبيًا، فخيرها النبيُّ عليه السلام، فقال: «إن شئت أنا، وإن شئت زوجك»، فقالت: زوجي، فأرسلها، فلعنتها [5] بنو تميم.
وأم هانئ واسمها فاختة بنت أبي طالب، أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خطبها النبيُّ عليه السلام، فقالت: إنِّي امرأة مصبية، واعتذرت إليه، فأعذرها.
وضباعة [6] بنت عامر، خطبها عليه السلام، فبلغه كبرها.
وجمرة بنت عوف المزني، خطبها عليه السلام، فقال أبوها: إنَّ بها سوءًا، ولم يكن بها شيء، فرجع إليها أبوها وقد برصت، وهي أم شبيب ابن برصاء الشاعر.
وسودة القرشية، خطبها عليه السلام، وكانت مصبية، فقالت: أخاف أن يضغو [7] صبيتي عند رأسك، فدعا لها وتركها.
وأمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، عرضت على النبيِّ عليه السلام فقال: «هي ابنة أخي من الرضاعة».
وعزة بنت أبي سفيان بن حرب، عرضتها أختها أم حبيبة على النبيِّ عليه السلام فقال: «إنها لا تحل لي»؛ لمكان أختها أم حبيبة تحت النبيِّ عليه السلام.
وكليبة لم يذكر اسمها، فبعث إليها رسول الله عليه السلام عائشة فرأتها فقالت: ما رأيت طائلًا، فتركها.
وامرأة من العرب لم يذكر لها اسم، خطبها عليه السلام، ثم تركها.
ودرة بنت أم سَلَمَة، قيل له عليه السلام بأن يأخذها، فقال: «إنَّها بنت أخي من الرضاعة».
وأميمة بنت شراحيل، لها ذكر في «صحيح البخاري».
وحبيبة بنت سهل الأنصارية، أراد عليه السلام أن يتزوجها، ثم تركها.
وفاطمة بنت شريح، ذكرها أبو عبيد في أزواج النبيِّ عليه السلام.
والعالية بنت ظبيان، تزوجها عليه السلام وكانت عنده ما شاء الله، ثم طلقها، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري».
قلت: وقد سردها أيضًا الدمياطي، فبلغت ثلاثين، وفي «المختارة» من وجه آخر عن أنس تزوَّج خمس عشرة دخل منهن بإحدى عشرة، ومات عن تسع، وسرد أسماءهن أيضًا أبو الفتح اليعمري، ثم مغلطاي، فزاد على العدد المذكور، وأنكر ابن القيم ذلك.
قلت: ولا وجه لإنكاره ذلك بعد إجماع أهل السير على ذلك، وذكرهم لها في كتبهم مفصلة.
وزعم ابن حجر أنَّ الكثرة المذكورة محمولة على اختلاف في بعض الأسماء، وبمقتضى ذلك تنقص العدة، قال: وهو الحق.
قلت: وهذا ممنوع، وأي داع لهذا الحمل بعد تصريح أكثر الشراح أنَّه عليه السلام يحل له ما شاء من غير حصر.
وقوله: (وهو الحق) مردود؛ فإنَّ الحق ما ذكره إمام الشارحين وأهل السير من العدد المذكور، والاختلاف في بعض الأسماء لا يقتضي نقص العدة المذكورة؛ لأنَّهم اختلفوا في الواحدة من جهة اسمها، ولم يعددوا أسماءها المختلف بها، بل يذكر المختلف بها، بكنيتها، ويختلفوا في اسمها، فهذا يوضح أنَّ العدد يقتضي أكثر مما عدوه لا أنقص، كما زعمه هذا القائل.
ولا يخفى أنَّه لما كان مقام النبيِّ عليه السلام أعلى المقامات يتمنى كل واحد من أصحابه الكرام أن تكون ابنته أو أخته تحت النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا مانع من كثرتهن كما علمت؛ فافهم.
%ص 280%
(قال)؛ أي: قتادة: (قلت) ففاعل (قلت) هو قتادة (لأنس)؛ أي: ابن مالك مستفهمًا: (أوَكان)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، والهمزة في (أوكان) للاستفهام، والواو المفتوحة عاطفة لـ (كان) على مقدر بينها وبين الهمزة؛ أي: أثبتَ ذلك وكان أو نحوه، وقيل: الهمزة مقدمة من تأخير، وهو مذهب جمهور النحاة، كما سبق الكلام على ذلك (يطيقه)؛ أي: مباشرة نسائه المذكورات في ساعة واحدة؟ (قال) أي: أنس بن مالك: (كنا)؛ أي: معشر الصحابة رضي الله عنهم (نَتَحَدَّث)؛ بالنون أوله، بعدها مثناة فوقية، وبالحاء المهملة المفتوحات (أنَّه)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أُعطي)؛ بضمِّ الهمزة، ماض مبني للمفعول (قوة ثلاثين)؛ أي: رجلًا في الجماع، كما في «مراسيل طاووس»، فمميز (ثلاثين) محذوف، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي موسى عن معاذ بن هشام (أربعين) بدل (ثلاثين).
قال في «عمدة القاري»: وهي شاذة من هذا الوجه، لكن في «مراسيل طاووس» مثل ذلك. وزاد في الجماع في (صفة أهل الجنة)، وفي «الحلية» لأبي نُعيم عن مُجَاهِد: (أُعطي قوة أربعين رجلًا كل رجل من رجال أهل الجنة)، وفي «جامع الترمذي» في (صفة الجنة) من حديث عمران القطان، عن قتادة، عن أنس، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع»، قيل: يا رسول الله: أويطيق ذلك؟! قال: «يعطى قوة مئة»، ثم قال: حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث قتادة إلا من حديث عمران القطان، وصحح ابن حبان حديث أنس أيضًا، فإذا ضربنا أربعين في مئة؛ صارت أربعة آلاف.
وذكر ابن العربي: (أنَّه كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم القوة الظاهرة على الخلق في الوطء، كما في هذا الحديث، وكان له في الأكل القناعة؛ ليجمع الله له الفضيلتين في الأمور الاعتبارية كما جمع له الفضيلتين في الأمور الشرعية حتى يكون حاله كاملًا في الدارين) انتهى.
قلت: ولا تنافي بين رواية (ثلاثين) وبين رواية (أربعين)؛ لأنَّ الصحيح أنَّ العدد لا مفهوم له، ولأنَّه يحتمل أن يكون أخبر أولًا بالثلاثين، فأخبر به، ثم بالأربعين، فأخبر به؛ فليحفظ.
(وقال سَعِيْد)؛ بكسر العين المهملة، هو ابن أبي عَروبة، كذا هو عند الجميع، وقال الأَصيلي: إنَّه وقع في نسخة (شعبة) بدل (سَعِيْد) قال: وفي عرضنا على أبي زيد بمكة: سَعِيْد، قال أبو علي الجياني: (هو الصواب)، وقال الكرماني: (والظاهر أنَّه تعليق)، قال في «عمدة القاري»: هذا تعليق بلا نزاع، ولكنه وصلها المؤلف في باب: (الجنب يمشي في السوق)، وهو في الباب الثاني عشر من هذا الباب، (عن قتادة: أنَّ أنسًا حدثهم)؛ أي: قتادة وأصحابه، فقال في حديثه وهن (تسع نسوة)؛ أي: بدل إحدى عشرة، والنِّسوة؛ بكسر النون، وقد تضم، فـ (تسع) مرفوع؛ لأنَّه خبر (وهن) المذكورة أو المحذوفة، ولفظه فيما يأتي: أنَّ أنس بن مالك حدثهم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة، وأمَّا رواية سَعِيْد لهذا الحديث عن قتادة؛ فقد وصلها الإمام أحمد رحمه الله، ويحتمل أن يكون من كلام ابن أبي عدي ويحيى القطان؛ لأنَّهما يرويان عن ابن أبي عَروبة، وأن يكون من كلام معاذ إن صح سماعه من سَعِيْد.
وفي الحديث من الأحكام ما أعطي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من القوة على الجماع، وهو دليل على كمال البنية، ومنها: ما استدل به ابن التين لقول مالك بلزوم الظهار من الإماء بناء على أنَّ المراد بالزائدتين على التسع مارية وريحانة، وقد أطلق على الجميع لفظ (نسائه)، وفيه نظر؛ لأنَّ الإطلاق المذكور بطريق التغليب.
ومنها: ما استدل به ابن المُنيِّر على جواز وطء الحرة بعد الأمة من غير غسل بينهما ولا غيره، والمنقول عن مالك أنَّه يتأكد الاستحباب في هذه الصورة، كذا قرره في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (ثمانية)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (قبيلة)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (وارتد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (عزيهة)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فلقيها)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (طباعة)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (يضفوا)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (ثمانية)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (قبيلة)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (وارتد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (عزيهة)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فلقيها)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (طباعة)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (ثمانية)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (قبيلة)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (وارتد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (عزيهة)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فلقيها)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (طباعة)، وهو تحريف.
(1/463)
(13) [باب غسل المذي والوضوء منه]
هذا (باب) حكم (المَذْيِّ)؛ بفتح الميم، وسكون الذال المعجمة، وبكسر الذال المعجمة، وتشديد الياء، حكي ذلك عن ابن الأعرابي؛ وهو ماء يخرج من الذَّكَر عند الملاعبة والتقبيل، يقال: مذى الرجل؛ بالفتح، وأمذى؛ بالألف، مثله، ويقال كل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذي من قذت الشاة إذا ألقت من رحمها بياضًا، وقال ابن الأثير: المذي: البلل اللزج الذي يخرج من الذَّكَر عند ملاعبة النساء، ورجل مذَّاء؛ يقال بالتشديد للمبالغة في كثرة المذي، وفي «المطالع»: (هو ماء رقيق يخرج عند التذكر أو الملاعبة، يقال: مذى وأمذى ومذى، وقد لا يحس بخروجه)، (و) حكم (الوضوء منه)؛ أي: من المذي، ووجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ في الباب الأول بيان حكم المني، وفي هذا بيان حكم المذي، وهو من توابع المني، ومثله في النجاسة غير أنَّ في المني الغسل، وفي المذي الوضوء؛ فليحفظ.
قلت: ومثل المذي الودي؛ وهو ماء ثخين يخرج عقب البول عند استمساك الطبيعة، أو حمل شيء ثقيل.
==================
(1/464)
[حديث علي: كنت رجلًا مذاء فأمرت رجلًا]
269# وبه قال: (حدثنا أبو الوليد): هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري (قال: حدثنا زائدة): هو ابن قُدامة؛ بضمِّ القاف، وتخفيف الدال المهملة الثقفي أبو الصلت الكوفي المتوفى سنة ستين ومئة غازيًا بالروم، (عن أبي حَصِين)؛ بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، واسمه: عثمان بن عاصم الكوفي التابعي، (عن أبي عبد الرحمن) عبد الله بن حَبيب مكبر بن السُّلَمي؛ بضمِّ المهملة، وفتح اللام، مقرئ الكوفة، أحد أعلام التابعين، صام ثمانين رمضانًا، مات سنة خمس ومئة، (عن علي): هو ابن أبي طالب رضي الله عنه (قال: كنت رجلًا مذَّاء)؛ بفتح الميم، وتشديد الذال المعجمة، وبالمد: صيغة مبالغة؛ يعني: كثير المذي، وذكر الموصوف مع صفته تكون لتعظيمه؛ نحو: رأيت رجلًا صالحًا، أو لتحقيره؛ نحو: رأيت رجلًا فاسقًا، ولما كان المذي يغلب على الأقوياء الأصحاء؛ حسن ذكر الرجولية معه؛ لأنَّه يدل على معناها، وراعى في (مذاء) الموصوف؛ كقولك: أنا رجل يأمر بالمعروف، ولو راعى تاء المتكلم؛ لقال: رجلًا أمذى؛ كقوله تعالى: {أُجِيبُ} بعد قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] راعى الياء في {إِنِّي}، ولو راعى {قَرِيبٌ}؛ لقال: يجيب، وكقوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47]، وعبارة القسطلاني هنا غير محررة، واعترض عليها بعض المصححين في دار الطباعة المصرية، فقال: (انظر ما معناه، ثم إنَّ تنظيره بالآية لا يظهر إلا لو قال: كنت رجلًا أمذى أو يمذي، حتى يقال: إنَّه راع الأول أو الثاني، وأمَّا مع تعبيره بمذاء؛ فلا يصح أن يقال: إنَّه راعى الثاني أو الأول؛ إذ لا يقال خلافه مع كليهما) انتهى؛ فتأمل.
وزاد الحافظ الطحاوي وأحمد عن عليٍّ: (فإذا أمذيت؛ اغتسلت)، وزاد أبو داود: (فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري)، وزاد في الرواية السابقة: (فأحببت أن أسأل): (فأمرت رجلًا) يحتمل أنَّه المقداد بن الأسود، ويحتمل أنَّه عمار بن ياسر، ويجوز أن يكون غيرهما، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ فليحفظ؛ لأنَّه قد روى الحافظ الطحاوي من حديث محمَّد ابن الحنفية عن أبيه قال: (كنت أجد مذيًا، فأمرت المقداد) وأخرجه مسلم كذلك.
وأخرج الحافظ الطحاوي أيضًا من حديث رافع بن خَديج: أنَّ عليًّا أمر عمارًا، وأخرجه النسائي أيضًا.
وأخرج الحافظ الطحاوي أيضًا من حديث حَصين بن قُبيصة عن علي قال: (كنت رجلًا مذاء، فسألت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم)، وأخرجه أبو داود كذلك.
وأخرج الحافظ الطحاوي أيضًا من حديث ابن عباس قال: (قال عليٌّ: كنت رجلًا مذاء، فأمرت رجلًا) فقد علمت أنَّ السائل هو المقداد، وفي بعضها: هو عمار، وفي بعضها: هو علي نفسه، وجمع ابن حبان بين هذه الاختلافات بأنَّ عليًّا سأل عمارًا أن يسأل، ثم أمر المقداد بذلك، ثم سأل بنفسه.
وروى عبد الرزاق،
%ص 281%
عن عائش بن أنس قال: (تذاكر عليٌّ والمقداد وعمار رضي الله عنهم المذي، فقال علي: إنني رجل مذاء، فاسألا عن ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فسأله أحد الرجلين)، وقال ابن بشكوال: (إنَّ الذي تولى السؤال عن ذلك هو المقداد)، وصححه.
وزعم ابن حجر أنَّ على هذا فنسبةُ عمارٍ [1] إلى أنَّه سأل عن ذلك محمولة على المجاز؛ لكونه قصده، لكن تولى المقداد الخطاب، ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (كلاهما كانا مشتركين في هذا السؤال غير أنَّ أحدهما قد سبق به، فيحتمل أن يكون هو المقداد، ويحتمل أن يكون هو عمار)، وتصحيح ابن بشكوال على أن يكون هو المقداد يحتاج إلى حجة وبرهان، ورد ما ذكر في الأحاديث المذكورة أنَّ كلًّا منهما قد سأل، وأنَّ عليًّا سأل، فلا يحتاج بعد هذا إلى زيادة حشو في الكلام؛ فافهم والله أعلم.
(يسأل النبيَّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم لمكان ابنته)؛ أي: بسبب أنَّ ابنته فاطمة رضي الله عنها كانت تحت نكاحه، وفي رواية مسلم من طريق محمَّد ابن الحنفية، عن عليٍّ: (من أجل فاطمة رضي الله عنها)؛ أي: لأنَّها زوجته، وفي رواية النسائي عن علي: (كنت رجلًا مذاء، وكانت ابنة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تحتي، فاستحييت أن أسأله)؛ أي: بنفسه فيما يتعلق بالشهوة.
ففيه: استحباب حسن العشرة مع الأصهار، وأنَّ الزوج يستحب له ألَّا يذكر شيئًا يتعلق بجماع النساء والاستمتاع بهن بحضرة أبيها وأخيها وابنها وغيرهم من أقاربها، كذا في «عمدة القاري»، ثم قال: (وفيه: جواز الاستتابة في الاستفتاء، ويؤخذ منه جواز دعوى الوكيل بحضرة موكِّله، وفيه: قبول خبر الواحد، والاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع، فإنَّ عليًّا اقتصر على قول السائل مع تمكُّنه من سؤال رسول الله عليه السلام) انتهى؛ فافهم.
(فسأله) وفي رواية بحذف الهاء؛ أي: عن حكم المذي، زاد أحمد: (فضحك النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم)، والظاهر: أنَّه علم أنَّه من عليٍّ رضي الله عنه، (فقال)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (توضأ)؛ أي: وضوءك للصلاة، كما صُرِّح به في رواية أبي داود وأحمد، وغيرهما، وهو أمر مجزوم خطاب للرجل الذي في قوله: (فأمرت رجلًا) على الخلاف في تفسيره.
وزعم القسطلاني أنَّه حيث استحى عليٌّ أن يسأل بنفسه لأجل فاطمة تعين الحمل على المجاز بأن الراوي أطلق أنَّه سأل؛ لكونه أُمِرَ بذلك.
قلت: قد أخذ هذا من كلام ابن حجر، وهو فاسد؛ لأنَّ الأحاديث التي تقدمت صريحة في أنَّ عليًّا هو الذي سأل بنفسه، منها: ما أخرجه أبو داود من طريق حصين بن قبيصة عن عليٍّ قال: كنت رجلًا مذاء، فسألت النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «إذا رأيت المذي؛ فتوضأ واغسل ذكرك، وإذا رأيت المني؛ فاغتسل»، وأخرجه أحمد، والطبراني، وأخرج الحافظ الطحاوي عن هانئ بن هانئ، عن عليٍّ قال: (كنت رجلًا مذاء، وكنت إذا أمذيت اغتسلت، فسألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «فيه الوضوء») فهذا يعين أن يكون عليٌّ هو الذي تولى السؤال بنفسه وهو ظاهر، فأين يتعين الحمل على المجاز؟ وما هو إلا حمل فاسد؛ لأنَّه إذا وجدت الحقيقة والمجاز؛ لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز، كما هو رأي أهل التحقيق.
و (كون الراوي أطلق ... ) إلخ بعيد جدًّا؛ لأنَّه لا حاجة له بذلك مع ما يلزم عليه من ارتكاب ما هو مأمون منه، على أنَّ الحياء في الأمور الشرعية مذموم شرعًا، وعليٌّ رابع الخلفاء أحق باتباع الأمور الشرعية؛ فافهم.
(واغسل ذكرك) أمر مجزوم أيضًا، خطاب للرجل المذكور، فيحتمل أن يكون سأل لنفسه، ويحتمل أن يكون لعليٍّ أو لمبهم، فوقع هنا تقديم الأمر بالوضوء على غسل الذكر، ووقع في «العمدة» عكسه منسوبًا إلى المؤلف، واعترض عليه ورده في «عمدة القاري»، فقال: لا يرد؛ لأنَّ الواو لا تدل على الترتيب، وقد أخرج الحافظ الطحاوي في روايته تقديم الغسل على الوضوء في رواية رافع بن خَديج عن عليٍّ، فقال عليه السلام: (يغسل مذاكيره ويتوضأ)، فيجوز تقديم غسله على الوضوء، ويجوز عكسه، ولا أولوية لأحدهما؛ لأنَّ الوارد في الأحاديث غير معين، وظاهرها: أنَّه عليه السلام كان يقدم الوضوء على غسل الذَّكَر كما هو في أكثر الروايات؛ ففيه: دليل على أنَّ مس الذكر غير ناقض للوضوء؛ لأنَّ الغاسل لا بد وأن يمس لاحتياجه إلى الدلك حتى تذهب النجاسة بالكلية؛ فليحفظ؛ فافهم.
وفي رواية للحافظ الطحاوي عن أبي عبد الرحمن، عن عليٍّ: فقال عليه السلام: «توضأ واغسله».
وفي رواية أخرى له عن عليٍّ قال: سئل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن المذي، فقال: «فيه الوضوء»، ومثله عند أحمد.
وروى الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي قال: سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن المذي فقال: «من المذي الوضوء، ومن المني الغسل»، قال أبو عيسى: (هذا حديث حسن صحيح).
وروى الحافظ الطحاوي من حديث ابن الحنفية: فقال عليه السلام: «إنَّ كل فحل يمذي، فإذا كان المني؛ ففيه الغسل، وإذا كان المذي؛ ففيه الوضوء»، وأخرجه مسلم أيضًا، وقال عليه السلام: «يغسل ذكره ويتوضأ».
وأخرج مسلم أيضًا من طريق ابن عباس، عن عليٍّ، وفي رواية أحمد: «فليغسل ذكره وأنثييه»، وأخرجه النسائي، وابن ماجه، والترمذي.
قال في «عمدة القاري» بعد سرده لهذه الأحاديث: (فهذا كما رأيت هذا الاختلاف فيه، ولكن لا خلاف في وجوب الوضوء ولا خلاف في عدم وجوب الغسل) انتهى.
وزعم ابن حجر فقال: (والظاهر أنَّ عليًّا كان حاضرًا السؤال؛ فقد ذكر أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند علي، ولو حملوه على أنَّه لم يحضر؛ لأوردوه في مسند المقداد، ويؤيده ما في رواية النسائي عن علي: فقلت لرجل جالس إلى جنبي: سله، فسأله) انتهى.
قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّه لا يلزم من ذكر أصحاب المسانيد هذا الحديث في مسند علي أن يكون علي حاضرًا، ولا يلزم من عدم حملهم له على أنَّه لم يحضر ذكره في مسند المقداد؛ لأنَّ الأحاديث التي علمتها مطلقة لا تعين السائل، غاية الأمر فيها أنَّ السائل إمَّا عليٌّ نفسه، أو عمار، أو المقداد، فهذا الكلام فاسد، كما لا يخفى.
وما ذكره من رواية النسائي من التأييد لكلامه مردود عليه؛ لما أخرجه الحافظ الطحاوي عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال: (كنت رجلًا مذاء، وكانت عندي ابنة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأرسلت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ... )؛ الحديث، فهذا يعين أنَّ عليًّا لم يكن حاضرًا، لا سيما وقد سبق في الأحاديث أنَّه كان يستحي من سؤاله عليه السلام، فكيف يحضر حين السؤال؟ وما هو إلا كلام بعيد جدًّا؛ فافهم.
قال الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (لم يكن أمره عليه السلام بغسل ذكره؛ لإيجاب غسله كله، ولكن ليتقلص؛ أي: ليتروى وينضم ولا يخرج، كما إذا كان له هوى وله لبن، فإنَّه ينضح ضرعه بالماء؛ ليتقلص ذلك منه فلا يخرج).
قال صاحب «عمدة القاري»: (من خاصية الماء البارد أنَّه يقطع اللبن ويرده إلى داخل الضرع، وكذلك إذا أصاب الأنثيين؛ رد المذي وكسره).
ثم قال الحافظ الطحاوي: وقد جاءت الآثار متواترة في ذلك، فروي منها حديث ابن عباس، عن علي، وقد ذكرناه وعن غير ابن عباس، عن علي، ثم قال: أفلا ترى أنَّ عليًّا لما ذكر عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ما أوجب عليه في ذلك وضوء الصَّلاة، فثبت بذلك أنَّ ما كان سوى وضوء الصَّلاة مما أمره به، فإنَّما كان لغير المعنى الذي أوجب وضوء الصَّلاة، وقد روى سهل بن حنيف عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما دل على هذا، ولفظه: أنَّه سأل النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن المذي، فقال: «فيه الوضوء».
قال أبو جعفر: (فأخبر أنَّ ما يجب فيه هو الوضوء، وذلك ينفي أن يكون عليه مع الوضوء غيره)، وأخرج الترمذي هذا الحديث أيضًا، ولفظه: كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فكنت أكثر منه الغسل، فذكرت ذلك للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسألته عنه، فقال: «إنَّما يجزئك من ذلك الوضوء»، قلت: يا رسول الله؛ كيف بما يصيب ثوبي منه، فقال: «يكفيك أن تأخذ كفًّا من ماء، فتنضح به ثوبك حيث ترى أنَّه أصاب منه»، ثم قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وأخرجه ابن ماجه أيضًا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: (هو المني والمذي والودي، فأمَّا المذي والودي؛ فإنَّه يغسل ذكره ويتوضأ، وأمَّا المني؛ ففيه الغسل)، وأخرجه الحافظ الطحاوي من طريقين حسنين جيدين، وأخرج ابن أبي شيبة نحوه.
وروي أيضًا عن الحسن: (أنَّه يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة).
وروي عن سَعِيْد بن جبير قال: (إذا أمذى الرجل؛ غسل الحشفة وتوضأ وضوءه للصلاة)،
%ص 282%
وأخرج ابن أبي شيبة نحوه، وهذا مذهب الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف رضي الله عنهما، وذهب الزُّهري إلى أنَّه يجب غسل جميع الذكر إذا أمذى وإذا بال.
وروي عن أحمد: أنَّه لا يجب الاستنجاء والوضوء، وروي عنه: أنَّه يجب غسل الذكر والأنثيين مع الوضوء وهي الأصح، وعند مالك خلاف، والأصح أنَّه يجب الوضوء منه، ويجب غسله؛ لنجاسته، ومذهب الشافعي كمذهبنا، وروي عن سلمان بن ربيعة الباهلي أنَّه تزوج امرأة من بني عقيل، فكان يأتيها فيلاعبها فيمذي، فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك، فقال: (إذا وجدت الماء؛ فاغسل فرجك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة)، فيحتمل كما قال صاحب «عمدة القاري» أنَّه أمر بغسل الأنثيين لرد المذي وكسره، أو لاحتمال إصابة شيء منه.
واستدل ابن دقيق العيد بالحديث على تعيين الماء فيه دون الأحجار ونحوها أخذًا بالظاهر، ووافقه النووي على ذلك في «شرح مسلم»، وخالفه في باقي كتبه، وحمل الأمر بالغسل على الاستحباب.
قلت: وهذا هو المعروف عندهم، وعند المالكية لا يجزئ فيه الحَجَر.
ومن أحكام هذا الحديث: دلالته على نجاسة المذي وهو ظاهر، ونقل عن ابن عباس الحنبلي أنَّه خرَّج من قول بعضهم: (إنَّ المذي من أجزاء المني) رواية بطهارته، ورد عليه بأنَّه لو كان كذلك؛ لوجب الغسل منه؛ فليحفظ.
واستدل بقوله: (توضأ) على أنَّ الغسل لا يجب بخروجه، وصرح بذلك في رواية أبي داود وغيره وهو بالإجماع.
واستدل به أيضًا: على وجوب الوضوء على من به سلس المذي؛ للأمر بالوضوء مع الوضوء بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة، ورُدَّ بأنَّ الكثرة هنا ناشئة عن غلبة الشهوة مع صحة الجسم بخلاف صاحب السلس، فإنَّه ينشأ عن علة في الجسد.
وقد يقال: لما أمر الشارع بالوضوء منه ولم يفصل؛ دل على عموم الحكم، ورُدَّ بأنَّه لا رخصة عند أحد من علماء المسلمين في المذي الخارج عن صحة، فكلهم يوجبون [2] الوضوء منه وهو سنة مجمع عليها، ولما صح الإجماع في وجوب الوضوء منه؛ لم يبق إلا أن تكون الرخصة في خروجه عن فساد وعلة، فإذا كان خروجه كذلك؛ فلا وضوء ما دام في الوقت؛ لأنَّ ما لا يرقأ ولا ينقطع لا وجه للوضوء منه في الوقت، فإذا خرج الوقت؛ انتقض وضوءه؛ لأنَّه صار صاحب عذر؛ فليحفظ.
واستدل بالحديث: على قبول خبر الواحد، وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع، كما قدمناه، ونظر فيه ابن حجر فزعم أنَّ السؤال كان بحضرة علي، ولو صح أنَّه كان في غيبته؛ لم يكن دليلًا على المدَّعي؛ لاحتمال وجود القرائن التي تحفُّ الخبر فترقيه عن الظن إلى القطع.
وردَّه ابن دقيق العيد: بأنَّ المراد الاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه واحدًا في صورة من الصور التي تدل وهي حجة بجملتها، لا بفرد معين فيها.
قلت: ونظره فاسد، فإنَّ قوله: (إنَّ السؤال كان بحضرة عليٍّ) ممنوع؛ لما علمت من الأحاديث أنَّه كان بغيبته.
وقوله: (ولو صح ... ) إلخ، نعم؛ قد صح أنَّه كان في غيبته.
وقوله: (لم يكن دليلًا ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه على كل حال لما اقتصر علي رضي الله عنه على قول المقداد مع تمكنه من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بنفسه؛ دل على أنَّه قادر، فالقدرة مقطوع بها، وقول المقداد مظنون، وقد اعتمد عليه، ولا قرينة توجد حتى تحق الخبر .. إلخ، فإنَّها غير موجودة.
غاية الأمر أنَّه قد اختلف في السائل، فالاختلاف فيه ليس بقرينة، كما لا يخفى، وقد يظهر أنَّ هذا هو الصواب؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (عمارًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (يوجبوا)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (عمارًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (عمارًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/465)
(14) [باب من تطيب ثم اغتسل وبقى أثر الطيب]
هذا (باب) حكم (مَن تطيَّب) قبل الاغتسال من الجنابة، (ثم اغتسل) منها (وبقي أثر الطيب) في جسده، وكانوا يتطيَّبون عند الجماع لأجل النشاط، فالسنة اتخاذ الطيب للرجال والنساء عند الجماع، والمناسبة بين البابين من حيث إنَّ في الباب السابق يحصل الطيب في الخاطر عند غسل المذي، وهنا يحصل الطيب في البدن والنشاط في الخاطر عند التطيُّب، كذا في «عمدة القاري».
==========
%ص 283%
==================
(1/466)
[حديث عائشة: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طاف في نسائه]
270# وبه قال: (حدثنا أبو النُّعمان)؛ بضمِّ النون: هو محمَّد بن الفضل (قال: حدثنا أبو عَوانة): هو الوضاح اليشكري، (عن إبراهيم بن محمَّد بن المُنْتَشر)؛ بضمِّ الميم، وسكون النون، وفتح المثناة الفوقية، بعدها شين معجمة، (عن أبيه): هو محمَّد بن أبي مسروق الكوفي (قال: سألت عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها عن التطيب قبل الإحرام، (وذكرتُ)؛ بالواو، وفي رواية: بالفاء (لها) حين السؤال (قول) عبد الله (ابن عمر) ابن الخطاب رضي الله عنهما: (ما أُحب أن أُصبح)؛ بضمِّ الهمزة في الفعلين (محرمًا أَنضخ)؛ بفتح الهمزة، وبالخاء المعجمة، وفي رواية بالمهملة؛ أي: أفور؛ لأنَّ النضخ هو الفوران، قال الله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66]، قال البيضاوي: (فوارتان)؛ فافهم.
وقوله: (طِيبًا) منصوب على التمييز، وهذا إخبار عن نفسه، (فقالت عائشة) رضي الله تعالى عنها: (أنا طيبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم طاف) أي: دار (في نسائه)، وهو كناية عن الجماع، ومن لوازمه الاغتسال؛ لأنَّه ضروري لا بدَّ منه، ففيه: مطابقة الحديث للترجمة الأولى، قيل في رواية: (على نسائه)، فتكون (في) بمعنى: (على)؛ فافهم.
(ثم أصبح) على صيغة الماضي مفردًا؛ أي: ثم أصبح النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (محرِمًا) ينضخ طيبًا، ومن لوازمه؛ بقاء أثر الطيب عليه، ففيه: المطابقة للترجمة الثانية، فإنَّها ردت على ابن عمر، ولا بد من تقدير (ينضخ طيبًا) بعد لفظ (أصبح محرِمًا) حتى يتم الرد، وفي الحديث: أنَّ التطيب قبل الإحرام سنة، وفيه: جواز رد بعض الصحابة على بعض، وفيه: خدمة الأزواج، وتمامه سبق في باب: (إذا جامع، ثم عاد)، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 283%
==================
(1/467)
[حديث: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرِم]
271# وبه قال: (حدثنا آدم): هو ابن أبي إياس_ بكسر الهمزة_ كما صرح به في رواية (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (قال: حدثنا الحكم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة مصغر عُتْبَة، (عن إبراهيم): هو النخعي، (عن الأسود): هو خال إبراهيم النخعي، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (قالت: كأني أنظر إلى وَبِيْص)؛ بفتح الواو، وكسر الموحدة، بعدها تحتية ساكنة، بعدها صاد مهملة؛ وهو البريق واللمعان، وهو مصدر وَبَصَ يَبِصُ وبيصًا، (الطِّيْب)؛ بكسر الطاء المهملة، وسكون التحتية، قال الإسماعيلي: (وبيص الطيب؛ تلألؤه، وذلك لعين قائمة لا للريح فقط) (في مَفرِق النبيِّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) بفتح الميم، وكسر الراء؛ وهو مكان مفرق الشعر من الجبين إلى دائرة وسط الرأس، وجاء فيه: فتح الراء، وفي «المصابيح»: بميم مفتوحة، وراء مكسورة، وبالعكس، انتهى؛ فتأمل.
(وهو محرم)؛ أي: والحال أنَّه محرم، فالجملة محلها نصب على الحال، وفي الحديث المطابقة للترجمة الثانية، وهي قوله: (وبقي أثر الطيب)، واستنبط من الحديث: أنَّ بقاء أثر الطيب على بدن المحرم إذا كان قد تطيب به قبل الإحرام غير مؤثر في إحرامه، ولا يوجب عليه كفارة، قاله الخطابي، وهو مذهب الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، وكرهه الإمام محمَّد بما يبقى عينه بعد إحرامه، ومنعه مالك قائلًا: إنَّ التطيب كان لمباشرة النساء، مؤولًا قولها: (بأنَّه ينضخ طيبًا) بأنَّه قبل غسله، وقولها: (كأنَّي أنظر إلى وبيصه، وهو محرم) بأنَّ المراد منه أثره لا جرمه.
قال النووي: (وهذا غير مقبول منه لما قالت: «كنتُ أطيِّبُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لحِلِّه ولحرمه»، وهو ظاهر في أنَّ الطيب للإحرام لا للنساء وكذا تأويله؛ لأنَّه مخالفة للظاهر لغير ضرورة) انتهى.
وقال ابن بطال: (في الحديث: أنَّ السنة اتخاذ الطيب للرجال والنساء عند الجماع، وكان عليه السلام أمَلك لأربه من سائر أمته، فلذلك كان لا يجتنب الطيب في الإحرام ونهانا عنه؛ لضعفنا؛
%ص 283%
إذ الطيب من أسباب الجماع ودواعيه، والجماع مفسد للحج فيمتنع فيه الطيب؛ لسد الذريعة) انتهى.
قلت: وأفاد كلامه أنَّ التطيُّب قبل الإحرام وبقاء أثره بعده خصوصية للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو ممنوع؛ لأنَّ الأصل عدمها وهي لا بد لها من دليل، ولم يوجد ما يدل عليها، ولا يلزم من كون الطيب من أسباب الجماع أن يوجد الجماع ودواعيه، فكم من متبع للسنة متطيب في إحرامه، ولا ينظر إلى زوجته فقد يملك الشخص إربه، وما هذا إلا محاولة، وخروج عن الظاهر، أما رأيت قول عائشة في إنكارها على ابن عمر رضي الله عنهما، وردها عليه، والعجب من العجلوني كيف نقل كلامه، ولم يتعرَّض له مع تعصبه لما ذهب إليه إمامه؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==================
(1/468)
(15) [باب تخليل الشعر حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه]
هذا (باب) حكم (تخلل الشَّعَر)؛ بفتح العين أفصح من سكونها؛ أي: في الاغتسال من الجنابة بالماء قبل إفاضته؛ ليكون أبعد عن الإسراف في الماء، وفي نسخ: (تخليل)، وكلاهما مصدر، فالأول من (التفعُّل)، والثاني من (التفعيل)، (حتى إذا ظَنَّ)؛ أي: تيقن أو غلب على ظن المغتسل (أنَّه أروى) فعل ماض من الإرواء، يقال: أروى إذا جعله ريانًا (بشرته)؛ أي: ظاهر جلده، والمراد به: ما تحت الشعر، وفي «المصابيح»: هو من الري خلاف العطش، استُعير لشدة بلِّ الشعر بالماء، وضمير (بشرته) عائد على (الشعر)، أو على المغتسل.
قلت: والظاهر الثاني؛ فليحفظ.
وقوله: (أفاض) جواب (إذا) من الإفاضة؛ وهي الإسالة (عليها)؛ أي: على بشرته، وفي بعض النسخ: (عليه)؛ أي: على الشعر، واقتصر ابن عساكر على (أفاض) ولم يزد (عليها) ولا (عليه)، ووجه المناسبة بين البابين: من حيث وجود التخليل فيهما، أمَّا في الأول؛ فلأنَّ المتطيب يخلل شعره بالطيب، وأمَّا في هذا؛ فإنَّ المغتسل يخلله بالماء، كذا في «عمدة القاري».
==========
%ص 284%
==================
(1/469)
[حديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ]
272# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا عبدان): هو عبد الله العتكي (قال: أخبرنا عبد الله): هو ابن المبارك (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (هشام بن عروة): هو الزبير، (عن أبيه): هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) إفادة لفظة (كان) الاستمرار والدوام (إذا اغتسل)؛ أي: إذا أراد الاغتسال (من الجنابة)، وقوله: (غسل يديه)؛ بالتثنية، إلى الرسغين جواب (إذا) (وتوضأ وضوءه للصلاة)؛ أي: مثل وضوءها بجميع سننه وآدابه، وإفادة الواو الدالة على الجمع المطلق أنَّه غسل يديه، وتوضأ، يحتمل تقديم أحدهما على الآخر وتأخيره، لكن غسل اليدين إنَّما كان بعد الاستنجاء، ثم إنَّه توضأ وغسل يديه؛ لقولها: (وضوءه للصلاة)؛ فافهم.
(ثم اغتسل)؛ أي: اشتغل وشرع في أفعال الاغتسال من الجنابة، (ثم يخلل)؛ بضمِّ التحتية (بيده)؛ أي: اليمنى (شَعَره)؛ بالتحريك؛ أي: كله أو شعر رأسه بأن يأخذ غرفة من الماء، ويخلل؛ ليكون أبعد عن الإسراف، وليصل الماء إلى أصول الشعر (حتى إذا ظن) يجوز أن يكون على بابه، فيكتفى بالغلبة، ويجوز أن يكون بمعنى: تيقن، واستظهر العجلوني الأول.
قلت: لا أولوية لأحدهما؛ لأنَّ المعنى صحيح في كلٍّ منهما، وقد يقال: الثاني أظهر؛ لأنَّ مرتبة اليقين أقوى وأبعد عن الوهم من مرتبة الظن أو غلبته؛ فافهم.
(أنَّه)؛ بالضمير، وللحمُّوي والمستملي بحذف الضمير، فـ (أن)؛ بالفتح والتخفيف وأصلها بالتثقيل فتكون (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها المحذوف ضمير الشأن، وبه يعلم جواز جعل ضمير (أنَّه) للشأن، وجملة (قد أروى بشرته) خبرها، و (أن) وما بعدها سدت مسد مفعول (ظن)، والضمائر من (ظن) وما بعدها راجعة إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويجوز في بعضها رجوعه إلى (الشَّعَر).
قلت: بل جميعها راجع إليه عليه السلام، ولا يجوز غيره، كما لا يخفى؛ فافهم.
وجملة (أفاض) من الإفاضة؛ وهي الإسالة؛ أي: أسال (عليه) أي: على شعره، والمراد: على رأسه (الماء) جواب (إذا)، واختلفوا في الشعر، فقال بعضهم: هو على عمومه، وخصص الآخرون بشعر الرأس، كما في «عمدة القاري» (ثلاث مرات)؛ بالنصب على المصدرية؛ لأنَّه عدد المصدر، وعدد المصدر مصدر، كما لا يخفى، (ثم غسل سائر جسده)؛ أي: بقية جسده بالماء، وتقدم في رواية مالك عن هشام في أول كتاب (الغُسل): (على جلده كله)، فإذا حملنا لفظة (سائر) على معنى الجميع؛ يجمع بين الروايتين، كذا قاله في «عمدة القاري»، ولا يخفى أنَّ مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (ثم يخلل ... إلى آخره)، ففي الحديث: دليل على وجوب إيصال الماء إلى أثناء اللحية، كما يجب إيصاله إلى أصولها في الغُسل، وعلى وجوب غسل شعر الرأس ولو كان ملبدًا، وعلى وجوب غسل داخل المضفور، فإنَّ التخليل يشمل ذلك كله.
وقال ابن بطال: (أمَّا تخليل شعر الرأس في غسل الجنابة؛ فمجمع عليه)، وقاسوا عليه شعر اللحية، فروى ابن القاسم: أنَّه لا يجب تخليلها مطلقًا، وروى أشهب: أنَّ تخليلها في الغسل واجب؛ لهذا الحديث ولا يجب في الوضوء؛ لحديث عبد الله بن زيد في (الوضوء)، ولم يذكر فيه تخليل اللحية، وبه قال الإمام الأعظم، وأحمد ابن حنبل.
قلت: مذهب الإمام الأعظم، والإمام محمَّد أنَّ التخليل في الوضوء سنة، وقال الإمام أبو يوسف: إنَّه سنة مؤكدة، وهو المختار، وكذا مشى عليه أصحاب المتون، وهذا ما لم تكن كثة، فإن كانت خفيفة؛ فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها؛ كالغسل، كذا في «منهل الطلاب».
وقال الشافعي: (التخليل مسنون، وإيصال الماء إلى البشرة مفروض في الجنابة).
وقال المزني: (تخليلها واجب في الوضوء والغسل جميعًا) انتهى.
وزعم العجلوني أنَّ حجة من لم ير تخليلها في الجنابة أنَّا قد اتفقنا على أنَّ داخل العين لا يجب غسله؛ لأنَّ عليه ساترًا، فكذا هنا.
قلت: وهذا قياس فاسد؛ لأنَّ داخل العين إنَّما سقط غسله للحرج؛ حيث إنَّ العين شحم، فيتضرر بالماء، وقد عمي من تكلف لغسله، لا لأنَّ عليه ساترًا، ألا ترى أنَّ داخل الفم، والأنف، ووراء الأذن، وداخل القُلفة مستور ويجب غسله، فهذا القياس غير صحيح، وقال أيضًا: الأمرد الذي لا لحية له يجب عليه غسل ذقنه في الوضوء والجنابة، ثم يسقط غسله في الوضوء إذا غطاه الشعر، فكذا ينبغي أن يسقط في الجنابة.
قلت: وهذا أيضًا قياس مع الفارق، فإنَّ الأمرد ما دام كذلك؛ حكمه حكم المرأة، وهي يجب غسل بشرتها، فكذا هذا، أمَّا إذا نبتت له لحية؛ يصير حكمه حكم الرجال، فيجب إيصال الماء إلى أثنيائها وأصولها في الغسل؛ لأنَّ الجنابة تحل أعضاء البدن كله، ألا ترى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خللوا الشعر؛ فإنَّ تحت كل شعرة جنابة»، وأمَّا في الوضوء؛ فالحدث يحل الظاهر دون الباطن، بخلاف الحدث الأكبر؛ فإنَّه يحل الباطن والظاهر؛ فافهم، والله أعلم.
(وقالت)؛ بالواو عطف على (قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، والضمير فيهما يرجع إلى عائشة، فيكون متصلًا بالإسناد المذكور: (كنت اغتسل أنا والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) (أنا) تأكيد لاسم (كان)؛ لأجل صحة العطف على الضمير المرفوع المستتر، ويجوز فيه النصب على أنَّه مفعول معه؛ أي: مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، واختلفوا فيه؛ فالجمهور: على أنَّه من باب عطف المفردات، وبعضهم: على أنَّه من باب عطف الجمل؛ والتقدير: كنت أغتسل أنا ويغتسل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (من إناء واحد نَغْرف)؛ بالنون المفتوحة، والغين المعجمة الساكنة، يليها راء (منه)؛ أي: من الماء الذي في الإناء (جميعًا)؛ بالنصب على الحال من فاعل (نغرف) أو من فاعل (أغتسل)، وما عطف عليه مستأنفة، أو صفة، أو حال، وعند المؤلف في (الاعتصام)
%ص 284%
نشرع فيه جميعًا.
قال في «عمدة القاري»: (ولفظ «جميعًا» يؤكد به، يقال: جاؤوا جميعًا؛ أي: كلهم، ومثله في «شرح الكرماني»، واعترضه البرماوي، فقال: «إنَّه وهم»، واختار أنَّها حال؛ أي: نغرف منه حال كوننا جميعًا، قال: والجمع ضد التفريق، ويحتمل هنا أن يراد جميع المغروف، أو جميع الغارفين) انتهى.
قلت: وهذا ليس بوهم كما زعم، فقد عدها جمال الدين بن مالك من ألفاظ التوكيد، قال: وأغفلها النحويون، وقد نبه سيبويه على أنَّها بمنزلة «كل» معنًى واستعمالًا، ولم يذكروا شاهدًا من كلام العرب، وقد ظفرت بشاهد لها، وهو قول امرأة من العرب ترقص ابنًا لها، فتقول:
فداك حي خولان ... جميعهم وهمدان
وهكذا قحطان ... والأكرمون عدنان
فالغافل الواهم هو هذا القائل فإنَّه لم يطلع على ما ذكره إمام الصنعة؛ فافهم.
وقال ابن فرحون: و «جميعًا» يرادف «كلًّا» في العموم، ولا يفيد الاجتماع في الزمان بخلاف «معًا»؛ يعني: أنَّها تفيد الاجتماع في الفعل، فإنَّ هنا الفرق على التعاقب من الإدخال في الإناء والإخراج منه؛ فليحفظ.
وفي الحديث: تعاهد بشرة البدن، وما يمكن غسله بلا حرج، ثم إفاضة الماء عليه ليكون أبعد عن الإسراف، وليصل الماء إلى نفس الجسد خصوصًا في الشتاء، فإنَّ البدن لا يجري عليه الماء إلا بعد تعاهده، والحديث تقدم مع فوائده، والله تعالى أعلم.
==================
(1/470)
(16) [باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده]
هذا (باب) حكم (مَن توضأ في) الاغتسال من (الجنابة) فلفظ (في) بمعنى: (من)، كما في نسخة، (ثم غسل سائر) أي: باقي (جسده ولم يُعد)؛ بضمِّ التحتية، من الإعادة (غسل مواضع الوضوء) زاد في رواية أبي ذر: (منه)؛ أي: من الجسد، وفي رواية الباقين ليست بموجودة، ووجودها أظهر (مرة أخرى)؛ لأنَّ الوضوء مشتمل على المضمضة، والاستنشاق، وغسل الأعضاء، وبالغسل قد ارتفع الحدث عنها وإن كان سنة؛ لأنَّ السنة تنوب عن الفرض؛ فليحفظ.
==========
%ص 285%
==================
(1/471)
[حديث ميمونة: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءًا لجنابة فأكفأ بيمينه]
274# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا يوسف بن عيسى): هو ابن يعقوب المروزي المتوفى سنة تسع وأربعين ومئتين (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (الفَضْل)؛ بفتح الفاء، وسكون الضاد المعجمة (بن موسى): هو أبو عبد الله السيناني نسبة إلى سِيْنان _بكسر السين المهملة، وسكون التحتية، وبنونين بينهما ألف_: قرية من قرى مرو خراسان، المتوفى سنة إحدى وتسعين ومئة (قال: أخبرنا الأعمش): هو سليمان بن مهران، (عن سالم): هو ابن أبي الجعد رافع الكوفي، (عن كُريْب مولى ابن عباس)؛ بضمِّ الكاف، وسكون التحتية، (عن ابن عباس): هو عبد الله رضي الله عنهما، (عن) خالته (ميمونة): أم المؤمنين بنت الحارث رضي الله عنها (قالت: وَضع)؛ بفتح الواو على البناء للمعلوم (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع فاعله (وَضوءَالجنابة)؛ بالإضافة للأكثرين، والنصب على المفعولية، وبلام واحدة، وفي رواية: (وَضوءًا للجنابة)؛ بلامين، بفتح الواو، والتنوين، والنصب على المفعولية، وفي رواية أخرى: (وضوءًالجنابة)؛ بلام واحدة، والنصب، والتنوين، وفي رواية أخرى: (وُضِعَ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بضمِّ الواو على البناء للمجهول؛ أي: لأجله، و (وضوءٌ) بالرفع والتنوين نائب عن الفاعل.
قال الكرماني: (الوَضوء؛ بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به لا الذي يغتسل به، فكيف قال: وَضوء الجنابة؟
وأجاب: بأنَّه أراد مطلق الماء الذي يتطهر به مجازًا مرسلًا من إطلاق المقيد على المطلق؛ كضده، وهو تقييد المطلق؛ كإطلاق الرسن على أنف الإنسان) انتهى.
وقال البرماوي: أضافه إلى (الجنابة)؛ لأنَّه صار اسمًا له ولو استعمل في غير الوضوء.
وقال ابن فرحون: (وَضوء الجنابة) يقع على الماء والإناء، فإن كان الموضوع الماء؛ فهو على تقدير وضع الماء في تورٍ أو نحوه، وإن كان الإناء؛ فهو موضوع حقيقة، وأضيف إلى (الجنابة) إضافة تخصيص؛ لأنَّه معدٌّ لغسلها) انتهى.
قلت: ولما كان الـ (وَضوء)؛ بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به، وغُسل الجنابة مشتمل على الوضوء والاغتسال؛ فأطلق عليه (وَضوء الجنابة) من إطلاق البعض وإرادة الكل، وأضافه إليها؛ لأنَّه يفعل لأجلها؛ فتأمل.
(فأكفأ)؛ بالهمزة أوله وآخره رواية الأكثرين، ولأبي ذر: (فكفأ)؛ بالهمزة آخره؛ ومعناه: قلب الإناء (بيمينه على يساره) كذا هو للأكثرين، ولكريمة (على شماله) بدل (على يساره)، (مرتين أو ثلاثًا) الظاهر: أنَّ الشك من ميمونة، ويحتمل غيرها، (ثم غسل فرجه) المراد به: القبل والدبر، (ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط) أي: بأن جعل الأرض أو الحائط آلة للضرب، وفي رواية الكشميهني: (ضرب بيده الأرض)، قال الكرماني: (والمعنى فيهما واحد، فيحتمل أنَّ الأولى من باب القلب؛ كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، ويحتمل أنَّه ضمن الفعل بمعنى: فعفَّر يده بالأرض) (مرتين أو ثلاثًا) الشك من ميمونة على الأظهر، وإنَّما ضرب يده الأرض؛ لأنَّه ربما بقي على يده شيء من المني وغيره، وهو للزاجته ورائحته لا يخرج إلا بالضرب على الأرض أو الحائط، (ثم مضمض) وفي رواية: (تمضمض)؛ بزيادة فوقية، (واستنشق) فإنَّهما من سنن الوضوء، وينوبان عن فرض الاغتسال، (وغسل وجهه) أي: ولحيته، (وذراعيه)؛ أي: ساعديه مع مرفقيه، والذِّراع _بكسر الذال المعجمة_ يذكر ويؤنث، وسمي ذراعًا؛ لأنَّهم في الصدر الأول كانوا يذرعون به في بيوعهم وشرائهم، (ثم أفاض) من الإفاضة؛ وهي الإسالة؛ أي: أسال (على رأسه الماء) وعلى شعره، (ثم غسل جسده)؛ أي: ما بقي من جسده، (ثم تَنَحَّى)؛ بالفوقية، والنون، والحاء المهملة المفتوحات؛ أي: تباعد عن مكانه إلى مكان آخر، (فغسل رجليه) تحرُّزًا عن الماء المستعمل؛ لأنَّهما في مجتمع الماء، وهو مستعمل، (قالت)؛ أي: ميمونة، ووقع في رواية الأَصيلي: (عائشة)، قال في «عمدة القاري»: (وهو غلط ظاهر)، وتبعه جميع الشراح إلا أن العجلوني زعم أنَّه لا مانع من كون عائشة كانت حاضرة الاغتسال، فأتته بخرقة، فردها.
قلت: بل المانع ظاهر، فإنَّ هذا الاغتسال كان في بيت ميمونة؛ لأنَّ ذاك الوقت كان نوبتها، واحتمال حضور عائشة عندها بعيد؛ لأنَّ أحد الزوجات لا تأتي إلى عند الأخرى يوم نوبتها على أنَّه عليه السلام كان كثير الحياء، فلا يمكن أن يغتسل عند ميمونة بحضور عائشة خوفًا من الغيرة؛ فليحفظ.
(فأتيته بخِرقة)؛ بكسر الخاء المعجمة؛ أي: ليتنشف بها، (فلم يُرِدْها)؛ بضمِّ التحتية، وكسر الراء، وسكون الدال المهملة، من الإرادة، وما وقع لأبي السكن من تشديد الدال من الرد، فوهَّمه فيه صاحب «المطالع» وغيره، كما قدمناه، ويدل له الرواية الآتية: (فلم يأخذها)، (فجعل) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (ينفض بيده)، وفي رواية للأَصيلي: بحذف الباء الموحدة، وفي رواية أبي ذر: (فجعل لينفض الماء بيده)؛ ففيه: دليل على أنَّ نفض اليد بعد الوضوء والغسل لا بأس به، قال في «منهل الطلاب»: واختلفوا فيه، ففي «معراج الدراية»: أنَّه لا بأس به، ومثله في «التاترخانية»، وفيها: أنَّه مكروه، والمعتمد إن كان من التضجر؛ فمكروه، وإن كان لأجل سرعة نزول الماء عنه؛ فلا بأس به؛ لأنَّه لم يثبت في النهي عنه شيء أصلًا، ومشى في «الدر المختار»: على أنَّه مكروه؛ أي: لأنَّ فيه إظهار التضجر من العبادة، وفيه: دليل على كراهية التمسح بالخرقة، وقد سبق أنَّه عليه السلام كانت له خرقة للوضوء، فلعله رأى هنا في الخرقة وسخًا أو غبارًا أو غير ذلك؛ لأنَّ الصحيح أنه لا بأس بالتمسح بالمنديل للمتوضئ والمغتسل إلا أنه لا يبالغ ويستقصي، فيبقى أثر الماء على أعضائه؛ لأنَّه أثر العبادة؛ فافهم.
%ص 285%
وفي الحديث: دليل على أنَّ المغتسل إذا توضأ أولًا ثم اغتسل؛ لم يجب عليه إعادة المضمضة والاستنشاق؛ لأنَّ فعلهما في الوضوء كافٍ عن فعلهما في الغسل، فالسنة نابت مناب الفرض، وهو ظاهر، وقال ابن بطال: أجمعوا على أنَّ الوضوء ليس بواجب في الغسل من الجنابة، ولمَّا ناب غسل مواضع الوضوء وهو سنة في الجنابة عن غسلها وهو فريضة في الجنابة؛ صح بذلك ما روي عن مالك: (أنَّ غسل الجمعة يجزئ عن غسل الجنابة)، وفي الحديث حجة؛ لقول مالك في رجل توضأ للظهر وصلى، ثم جدد الوضوء للعصر، فلما صلى العصر؛ تذكر أنَّ الوضوء الأول انتقض؛ قال: (إنَّ صلاته تجزئه؛ لأنَّ الوضوء للسنة تجزئ به صلاة الفرض)، وكان الحديث السابق وهو ما فيه: (ثم غسل سائر جسده) أولى بهذه الترجمة، وهو مبين لرواية من روى: (ثم أفاض على جسده) أنَّ المراد بذلك ما بقي من الجسد دون أعضاء الوضوء. انتهى.
واعترضه الكرماني فقال: (ليس في الحديث ما يدل على أنَّ السنة نابت عن الفرض؛ إذ ليس فيه أن غسل الوجه والذراعين كان للوضوء أو للسنة، بل كان لغسل الجنابة، فلا يصح قول مالك في نيابة غسل الجمعة عن غسل الجنابة، ولا يكون له حجة في إجزاء الصَّلاة بالوضوء التجديدي، بل ليس فيه أنه لم يعد غسل مواضع الوضوء؛ إذ لفظ (جسده) في (ثم غسل جسده) شامل لتمام البدن؛ أعضاء الوضوء وغيرها، وكذا حكم الحديث السابق إذ المراد بـ (سائر جسده)؛ أي: باقي جسده غير الرأس لا غير أعضاء الوضوء) انتهى.
قلت: وهذا مردود، فإن قوله: (ليس في الحديث ... ) إلخ ممنوع، بل فيه دليل على أنَّ السنة نابت عن الفرض؛ لأنَّ غسل الوجه والذراعين ومسح الرأس إنَّما هذا هو الوضوء المسنون، فغسل هؤلاء الأعضاء سنة، وهي نابت عن غسلها المفروض في الجنابة، ألا ترى لو انغمس الجنب بعد أن تمضمض واستنشق في الماء ومكث فيه مقدار الوضوء والغسل؛ فقد ارتفع عنه الحدثان، وأكمل السنة، وكذا لو انغمس في الماء الجاري ولم يمكث؛ فإنَّه قد ارتفع الحدثان عنه، وأكمل السنة، فإنَّه في هذه الصورة لم يتوضأ، فلو كان الوضوء في الجنابة غير سنة؛ لم يصح هذا الغسل مع أنَّه لم يسع أحد أن يقول بعدم صحته، فثبت أنَّ هذا الوضوء المسنون ناب عن الفرض، كما لا يخفى، وصح قول من يقول: إنَّ غسل الجمعة ناب عن غسل الجنابة، ويحصل به السنة.
وقوله: (ولا يكون له حجة ... ) إلخ؛ ممنوع أيضًا، فإنَّ وضوءه المجدد للعصر قد وقع قصدًا لصلاة العصر، وقد ارتفع الحدث عنه: أن لو كان محدثًا قبل تذكره فبعد تذكره؛ لا يبطل ما فعله؛ لأنَّ الوضوء الأول قد أدى به صلاة الظهر، وعلى زعمه أنَّه متوضئ فتوضأ لأجل صلاة العصر؛ فلا يسع أحد أن يقول بعدم صحة صلاته هذه؛ لأنَّ الوضوء نفسه فرض، والفعل وهو التجديد سنة، فهي نابت عن الفرض، كما لا يخفى.
وقوله: (بل ليس فيه ... ) إلخ ممنوع أيضًا؛ فإنَّ صريح قوله: (ثم غسل سائر جسده) أنَّه لم يعد غسل مواضع الوضوء؛ لأنَّ (سائر) بمعنى: باقي، والجسد اسم لجميع البدن؛ الرأس وما نزل عنه، فلما غسل أعضاء الوضوء؛ اكتفى بها، ثم غسل باقي جسده، وترك اليدين، والوجه، والرأس فلم يغسلهما، فإنه لو غسلها؛ يصير إسرافًا، وقد نهى عنه عليه السلام، ولأنَّه قد ارتفع الحدث عنها؛ فصار غسلها ثابتًا عبثًا محضًا.
وقوله: (وكذا الحكم ... ) إلخ ممنوع أيضًا، فإن الحديث السابق يدل صريحًا على ما قلناه؛ لأنَّ (سائر) بمعنى: باقي، كما اعترف به، وهو قد غسل الوجه والذراعين، ومسح الرأس، فلا ريب أنَّه لم يعد غسلها.
وقوله: (غير الرأس ... ) إلخ ممنوع، فإن صريح الحديث يعطي أنَّه لم يعد غسل جميع الأعضاء، فتخصيصه الرأس ترجيح بلا مرجح، ومحاولة بادرة؛ لأنَّه لا دليل يدل عليه؛ فافهم.
وأمَّا تأخيره غسل الرجلين؛ فلأنَّها في مستنقع الماء المجتمع من الغسالة، فلو غسلهما أولًا تتميمًا للوضوء؛ يلزمه أن يغسلهما ثانيًا؛ لاجتماع الماء عليهما، ولا فائدة في الغسل الأول؛ لأنَّه إسراف محض، أو إنَّما أخر غسلهما؛ تحرُّزًا عن الماء المستعمل، أو حتى يكون البدء والختم بأعضاء الوضوء، وبما قررناه ظهر وجه مطابقة الحديث للترجمة؛ فتأمل مع ما يأتي.
واعترض ابن حجر على كلام ابن بطال السابق فزعم أنَّ الاستنباط المذكور مبني عنده على أنَّ الوضوء الواقع في غسل الجنابة سنة، وأجزأ مع ذلك عن غسل الأعضاء بعده، وهي دعوى مردودة؛ لأنَّ ذلك يختلف باختلاف النية، فمن نوى غسل الجنابة وقدم أعضاء الوضوء لفضيلته؛ قد تم غسله، وإلا؛ فلا، فلم يصح البناء المذكور.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإنَّ قوله: (إنَّ الاستنباط المذكور ... ) إلخ مراده: رد ذلك، ولا يسعه ذلك، فإنَّ الإجماع قائم على أنَّ الوضوء في غسل الجنابة سنة، وأنَّها تجزئ مع ذلك عن غسل الأعضاء بعده.
فقوله: (وهي دعوى ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه إذا كان مراده أنَّ الوضوء ليس سنة؛ مردود للإجماع على ذلك، وقد صرح هو نفسه بذلك في باب (المضمضة والاستنشاق)، فكلامه متناقض، فإنَّ الفرض لا يتكرر، ولما غسل أعضاء الوضوء وإن كان الوضوء سنة؛ لكنه لما لم يُعِد غسلها واقتصر على غسل الباقي من الجسد؛ اتصف غسل هذه الأعضاء بالفرضية.
وقوله: (لأنَّ ذلك ... ) إلخ ممنوع، فإنَّ محل النية في الوضوء عند غسل الوجه، وفي الاغتسال عند الإفاضة، فمن أراد الاغتسال ينوي أولًا وضوء الجنابة، ثم ينوي بعده الاغتسال من الجنابة، ولا يلزمه أن ينوي من أول الأمر غسل الجنابة، فلو نواها وانغمس في الماء؛ هل يسع أحد أن يقول بعدم صحة اغتساله مع أنَّه لم يتوضأ، ولا يقول ذلك جاهل.
فقوله: (فلم يصح البناء المذكور) ممنوع، بل هو صحيح؛ لأنَّه مبني على الإجماع وهو حجة من حجج الشرع؛ فافهم والله أعلم.
وقال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: (اختلف الشراح في وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة، فقال ابن بطال: حديث عائشة الذي في الباب قبله أليق في الترجمة؛ لأنَّ فيه: «ثم غسل سائر جسده»، وأمَّا حديث الباب؛ ففيه: «ثم غسل جسده» فدخل في عمومه مواضع الوضوء، فلا يطابق قوله: «ولم يُعِد غسل مواضع الوضوء»).
وأجاب ابن المُنيِّر: (بأنَّ قرينة الحال والعرف من سياق الكلام تخص أعضاء الوضوء، وذكر الجسد بعد ذكر الأعضاء المعينة يفهم عرفًا بقية الجسد لا جملته؛ لأنَّ الأصل عدم التكرار).
قال في «عمدة القاري»: (قلت: حاصل كلامه استخراج الترجمة بعيد لغة، ومحتمل عرفًا؛ إذ لم يذكر إعادة غسلها) انتهى؛ أي: غسل أعضاء الوضوء، فقد حصلت المطابقة بأنَّه لم يعد غسل مواضع الوضوء.
ثم قال: وأجاب ابن التين: (بأنَّ مراد البخاري أن يبيَّن أنَّ المراد بقوله في هذه الرواية: «ثم غسل جسده»؛ أي: ما بقي من جسده بدليل الرواية الأخرى).
وقال الكرماني: (إنَّ لفظ «جسده» شامل؛ لتمام البدن أعضاء الوضوء وغيره، وكذا حكم الحديث السابق إذ المراد بـ «سائر جسده»؛ أي: باقي جسده وهو غير الرأس لا غير أعضاء الوضوء).
واعترضهم ابن حجر فقال: (في كلام ابن المُنيِّر كلفة، وفي كلام ابن التين نظر؛ لأنَّ هذه القصة غير تلك القصة، وفي كلام الكرماني من لازم هذا التقدير أنَّ الحديث غير مطابق للترجمة)، ثم قال: (والذي يظهر لي أنَّ البخاري حمل قوله: «ثم غسل جسده» على المجاز؛ أي: ما بقي، ودليل ذلك قوله بعد «فغسل رجليه»؛ إذ لو كان غسل جسده محمولًا على عمومه؛ لم يحتج لغسل رجليه ثانيًا؛ لأنَّ غسلهما كان دخل
%ص 286%
في العموم، وهذا أشبه بتصرفات البخاري؛ إذ من شأنه الاعتناء بالأخفى أكثر من الأجلى).
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ما ثم في الذي ذكره هؤلاء المذكورون أكثر كلفة من كلام هذا القائل؛ لأنَّه تصرف في كلامهم من غير تحقيق، وأبعد من هذا دعواه: أنَّ البخاري حمل لفظ «الجسد» على المجاز، أفلا يعلم هو أنَّ المجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة أو لنكتة أخرى؟ وأي ضرورة ههنا إلى المجاز؟ ومن قال: إنَّ البخاري قصد هذا وأبعد من ذلك أنَّه علل ما ادعاه بغسل النبيِّ عليه السلام رجليه ثانيًا، وما ذاك إلا أنَّ رجليه في مستنقع الماء، وحاصل الكلام: كلام ابن المنير، وهو أقرب في وجه مطابقة الحديث للترجمة) انتهى.
وزعم العجلوني أنَّ رد ابن حجر لكلام ابن التين من جهة المغايرة، وأنهما قصتان، فكيف تحمل إحداهما على الأخرى؟
ورده لكلام الكرماني من جهة أنَّه لا يدفع الإشكال من عدم المطابقة بين الترجمة والحديث، وإنَّما الذي ادعى فيه التكلف هو كلام ابن المنير، ولا شك في تكلفه لابتنائه على شيئين.
وأمَّا جواب ابن حجر؛ فليس فيه إلا تجوز بحذف المضاف أو إطلاق الكل وإرادة الجزء، واستدل عليه بلفظ: (فغسل رجليه) الواقع في نفس الحديث، وحمل البخاري للحديث على هذا التأويل لازم له؛ ليطابق ترجمته، وهذه ضرورة المجاز، فيندفع جميع ما قاله، والعجب من قوله: (لأنَّه تصرف ... ) إلخ، فما موقعه؟
وأمَّا قوله: (وأبعد من ذلك ما ادعاه ... ) إلخ؛ فهو وإن كان أقوى اعتراضاته لكن دعواه الحصر في أن الغسل لرجليه لم يكن إلا لأنَّهما في مستنقع الماء ممنوع؛ لجواز أن يكون لتأخيره غسلها حيث لم يغسلهما أولًا تكملة للوضوء؛ فتأمل وأنصف) انتهى.
قلت: أمر بالتأمل والإنصاف ولم يتأمل ولم ينصف، فإن قوله: (في كلام ابن التين من جهة المغايرة ... ) إلخ ممنوع، فإنه لا مغايرة فيه في المعنى، وإن كان اللفظ يحتمل المغايرة، فإن قوله هناك: (ثم غسل سائر جسده) وهنا (ثم غسل جسده)؛ أي: ما بقي من جسده؛ لأنَّ الرواية الأولى قد دلت على ذلك؛ لأنَّ (سائر) بمعنى: باقي، كما لا يخفى.
وقوله: (وإنهما ... ) إلخ ممنوع، فإن ظاهرهما يحتمل أنَّهما قصتان من حيث إن الرواية الأولى عن عائشة وهنا عن ميمونة، لكنه في الحقيقة قصة واحدة؛ حيث إن كل واحدة منهما في الغسل من الجنابة.
وقوله: (فكيف ... ) إلخ ممنوع أيضًا، فإن كثيرًا من الأحاديث يحمل بعضها على بعض في الأحكام يفسر بعضها بعضًا، كما لا يخفى.
وقوله: (في كلام الكرماني ... ) إلخ، قد علمت ما قدمنا، وأنَّه ليس بشيء.
وقوله: (وأمَّا الذي ادعى ... ) إلخ ممنوع؛ فإن كلام ابن المنير هو الصواب.
وقوله: (لا شك في تكلفه) ممنوع، فأي تكلف فيه؟ بل هو ظاهر.
وقوله: (لابتنائه على شيئين) ممنوع أيضًا؛ لأنَّه مأخوذ من سياق الكلام، فإنه لما ذكر أعضاء الوضوء وذكر بعده الجسد؛ علم ضرورة أنه لم يعد غسل الأعضاء، واستدل بذلك بالقرينة الحالية والعرفية، فأين التكلف الذي زعمه هذا القائل؟ وما هي إلا دعوى أهل التعصب من عدم التأمل وعدم الإنصاف، وقد ارتضى هذا الجواب القسطلاني، واقتصر عليه؛ لكونه في غاية التحقيق والظهور.
وقوله: (وأمَّا جواب ابن حجر ... ) إلخ هذا هو الذي فيه التكلف ولا شك في تكلفه؛ لأنَّه مبني على المجاز الذي لا يجوز المصير إليه إلا عند تعذر الحقيقة، وهذا المجاز بحذف المضاف، أو إطلاق الكل وإرادة الجزء وهو أشد التكلفات؛ لاحتياجه إلى التقدير، وإذا وجد التقدير وعدمه، فعدم التقدير أولى وأحسن عند أهل التحقيق، وإطلاق الكل وإرادة الجزء كذلك فيه شدة التكلف؛ لأنَّه لا داعي إلى هذا الإطلاق، ولا احتياج إليه.
وقوله: (واستدل ... ) إلخ هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأنَّ تأخير غسل الرجلين إنَّما كان لأنَّهما في مستنقع الماء، وحتى يكون البدء والختم بأعضاء الوضوء، ويدل للأول قوله: (ثم تنحى)؛ أي: تباعد، والتباعد لا يكون عن المكان إلا لأنَّ الماء مجتمع فيه؛ لأنَّه لو لم يكن ماء مجتمع؛ لغسلهما في مكانه.
وقوله: (وحمل البخاري ... ) إلخ ممنوع، فإن البخاري لا شك أنَّه لم يرد هذا التأويل؛ لأنَّه من عادته أنَّه لم يحمل الأحاديث إلا على الحقيقة، ولم يسبق له أنَّه حملها على المجاز.
وقوله: (وهذه ضرورة المجاز) ممنوع، فإن مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة مما قاله ابن المنير، كما ارتضاه إمام الشارحين والقسطلاني وغيرهما، وليس ما زعمه بمطابق للترجمة، فأين الضرورة؟ وما هذا إلا مكابرة بالمحسوس وعنف من النفوس.
وقوله: (فيندفع ... ) إلخ ممنوع، بل جميع ما قاله هو الصواب، ولم يندفع كلامه أصلًا.
وقوله: (والعجب ... ) إلخ قلت: موقعه أنَّ ابن حجر أخذ كلامه من مجموع ما ذكره الشراح وخبط فيه وخلط، فلا شك أنه يتعجب منه.
وقوله: (وأمَّا قوله ... ) إلخ، فإن جميع ما قاله قوي؛ كالجبل القاسي على رأس العاصي.
وقوله: (لجواز ... ) إلخ ممنوع، فأي داع لتأخيره ولا حاجة للتأخير، فعدم ذلك دليل على أن تأخير غسلهما؛ لأنَّهما في مستنقع الماء حتى يجتنب الماء المستعمل، ويحترز عنه، فالحصر غير ممنوع، بل هو صحيح، فلو غسلهما أولًا؛ يلزمه إعادة غسلهما؛ لأنَّهما تلوثان بالغسالة المستعملة، فلو غسلهما ثانيًا؛ يكون إسرافًا، وهو منهيٌّ عنه، فيكون عبثًا.
وقول ابن حجر: (وهذا أشبه بتصرفات البخاري ... ) إلخ ممنوع، بل هو بعيد جدًّا، فإن تصرفاته مبنية على الحقيقة لا على المجاز، ولا شك أن هذا ليس بمراد له؛ لاحتياجه إلى التكلفات الواهية والتقديرات اللاهية، والله تعالى أعلم.
==================
(1/472)
(17) [باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب خرج كما هو ولا يتيمم]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان حكم من: (إذا ذُكِر)؛ بضمِّ الذال المعجمة، وكسر الكاف، من الباب الذي مصدره الذُّكر _بضمِّ الذال_ لا من الباب الذي مصدره الذِّكر _بالكسر_ وهذه دقة لا يفهمها إلا من له ذوق بتراكيب الكلام، فلذلك فسر بعضهم قوله: (ذكر) بقوله: (تذكر) فلو ذاق هذا القائل ما ذكرناه؛ لما احتاج إلى تفسير فعل بـ (تفعَّل)، قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
قلت: ومراده بالبعض ابن حجر، فإنه قد فسر قول المؤلف (ذكر) بمعنى تذكَّر، وهو غير صحيح لما في «المصباح»: (ذكرته بلساني، وبقلبي ذكرى)؛ بالتأنيث، والاسم ذُِكر بالضم والكسر، نص عليه جماعة، وأنكر الفراء وغيره الكسر في القلب، وقال: (اجعلني على ذُكر منك؛ بالضم لا غير، ولهذا اقتصر عليه جماعة) انتهى.
فقد خلط ابن حجر بين الاسم والمصدر ولم يفرق بينهما، فالمصدر بالضم لا غير، والاسم كذلك، وهذا طريقة جمهور أهل اللغة، وفرق بعضهم؛ فجعل الاسم بالضم والكسر، والمصدر بالضم لا غير، والمراد هنا: المصدر فهو بالضم لا غير بإجماع أهل اللغة.
وزعم العجلوني أنَّ ما ذكره صاحب «عمدة القاري» طريقة لبعض اللغويين، واستند لعبارة «المصباح» المذكورة، وقال: ظهر لك أن الذُّكر بالضم والكسر: الاسم لا المصدر، وعلى تسليم أنَّه المصدر، وأنَّه بالضم لا غير، فما وجه إيراده على ابن حجر؟ فإنه لم يدَّعِ أنه من المكسور ولا من المضموم، فما هذه الدقة التي فهمها بذوقه، ولم يفهمها غيره؟) انتهى.
قلت: وهذا غير صحيح، فإن الظاهر من عبارة «المصباح»
%ص 287%
أنَّ الذُّكر بالضم لا غير: الاسم والمصدر عند جميع أهل اللغة، وجعل بعضهم المصدر بالضم لا غير، والاسم بالضم والكسر.
فقوله: (إنَّ الذكر ... ) إلخ، هذا الفرق لبعضهم، والجمهور على أنهما سواء بالضم على أنَّ المصدر، وكذا اسم المصدر في المعنى سواء حقيقة.
وقوله: (وعلى تسليم ... ) إلخ، هذا اعتراف منه على أنه مصدر وأنه بالضم لا غير.
وقوله: (فما وجه إيراده ... ) إلخ لا يخفى عليك أن وجه إيراده تفسيره ذُكر بمعنى: تذكر، والفرق بينهما ظاهر، فإنه فسر المضموم بالمكسور، وكأنه اشتبه عليه أنه من باب الذُّكر بالضم، أو من باب الذِّكر بالكسر، فاعتمد الثاني، وفسر به، وهو غير صحيح.
وقوله: (فإنه لم يدَّعِ ... ) إلخ ممنوع، فإن تفسيره ذلك بـ (تذكر) دليل واضح على أنه قد ادعى أنه من المكسور لا من المضموم، فإنَّ ذلك قرينة على ما زعمه، وهو دائمًا يدعي في الكلام المجاز، ويستدل بقرائن الأحوال، وهنا لما لم يفهم القرينة من الكلام على ما ادعاه؛ فصح أنَّ ما فهمه صاحب «عمدة القاري» لم يفهمه غيره، بل خفي عليه، فقال ابن حجر ما قال، وتبعه العجلوني على هذا المقال؛ فافهم.
(في المسجد)؛ أي: حال كونه فيه، فالجار والمجرور حال، ويجوز أن يتعلق بـ (ذُكر)، والأول أظهر؛ فافهم، (أنَّه)؛ بفتح الهمزة وهي اسمها، وخبرها في محل نصب مفعول الذكر (جنب)؛ أي: ذكر الرجل أنَّ عليه جنابة، فالضمير في (أنه) عائد على الرجل المفهوم من (ذكر)؛ لأنَّ الذكر لا يكون إلا من ذي القلب؛ فافهم، وهو نائب فاعل.
قوله: (ذُكر) بالضم؛ فافهم.
وقوله: (يخرج)؛ بلفظ المضارع جواب (إذا)، وفي رواية: (خرج) بالماضي؛ يعني: أن حكمه أنه يخرج من المسجد على حالته، ولا يحتاج إلى التيمم، ولهذا قال: (كما هو)؛ أي: على هيئته وحالته جنبًا فورًا، وقوله: (ولا يتيمم)؛ أي: في المسجد توضيح وبيان لقوله: (كما هو)، كما في «عمدة القاري».
قلت: وأشار بهذا الرد لما نقل عن الثوري وإسحاق: أنَّه يجب عليه في هذه الصورة التيمم، وعن بعض المالكية: أنه إذا نام في المسجد فاحتلم؛ قالوا: يتيمم قبل أن يخرج منه.
قلت: ولا فائدة في هذا التيمم؛ لأنَّ الواجب الاغتسال بالماء أو التيمم عند عدمه، وفي المساجد الماء كثير، ومع وجود الماء لا يصح التيمم، فإن كان الجنب مسافرًا، وقد مر على المسجد وفيه ماء؛ يتيمم ويدخل المسجد فيستسقي، ثم يخرج الماء من المسجد ويغتسل؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري»: وفي هذا وجوه من الإعراب:
الأول: أن تكون (ما [1]) موصولة، وهو مبتدأ وخبره محذوف؛ والتقدير: كالذي هو عليه من الجنابة.
الثاني: أن يكون (هو) خبرًا محذوف المبتدأ؛ والتقدير: أي كالذي هو هو، كما قيل في قوله تعالى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]؛ أي: كالذي هو لهم.
الثالث: أن تكون (ما) زائدة ملغاة، والكاف جارة، و (هو) ضمير مرفوع أنيب عن المجرور، كما في قولك: ما أنا كانت؛ والمعنى: يخرج في المستقبل مماثلًا لنفسه فيما مضى.
الرابع: أن تكون (ما) كافة، و (هو) مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: عليه أو كائن.
الخامس: أن تكون (ما) كافة، و (هو) فاعل، والأصل يخرج كما كان، ثم حذفت كانت، فانفصل الضمير، وعلى هذا الوجه يجوز أن تكون (ما) مصدرية، انتهى.
وزعم الكرماني أنَّ (ما) موصولة أو موصوفة، و (هو) مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: كالأمر الذي هو عليه، أو كحالة هو عليها، ومثل هذه (الكاف) تسمى: كاف المقارنة؛ أي: خرج مقارنًا لأمر، أو لحالة هو عليها.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال في الأول: (قلت: على كل تقدير هذه الجملة محلها نصب على الحال من الضمير الذي في «يخرج»)، وقال على الثاني: (قلت: تسميته هذه الكاف كاف المقارنة تصرف منه واصطلاح، بل الكاف هنا للتشبيه على أصله، ونظير ذلك قولك لشخص: كن كما أنت عليه؛ والمعنى: على ما أنت عليه) انتهى.
وقد تبعه ابن حجر حيث قال: (فالتشبيه هنا ليس ممتنعًا؛ لأنَّه تعلق بحالتيه؛ أي: خرج في حالة شبيهة بحالته التي كان عليها قبل خروجه) انتهى.
قلت: وقوله: (فالتشبيه ... ) إلخ موافقة لصاحب «عمدة القاري» في اعتراضه على الكرماني، لكن قوله: (ليس ممتنعًا) فيه نظر، وكان حقه أن يقول: (فالتشبيه هنا واجب ... ) إلخ؛ لأنَّ المعنى عليه، كما لا يخفى.
وقال في «المغني»: تسمى مثل هذه الكاف: كاف المبادرة، وذلك إذا اتصلت بـ (ما)؛ نحو سلم كما تدخل. وصلِّ كما يدخل الوقت، ونقله عن ابن الخباز وغيره، وقال: (إنه غريب) انتهى.
قلت: وهذا اصطلاح منه، وقد تبرأ منه ابن هشام، وقال: (إنه غريب)؛ يعني: بل الكاف للتشبيه على الأصل، والمعنى سلم على الحالة الشبيهة [2] بحالة الدخول وصل على الحال الشبيهة بحالة دخول الوقت، فالتحقيق أن الكاف لا تخرج عن التشبيه، وتسميتها بالمبادرة أو غيرها اصطلاح، وتصرف، وتفنن في الألفاظ، وهو لا عبرة به لقوله: (وهو غريب)؛ أي: عند النحويين ضعيف لا يعتمد عليه؛ فافهم، وقد خبط العجلوني هنا فاجتنبه؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (ماء)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الشبية)، ولعله تحريف.
==================
[1] في الأصل: (ماء)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ماء)، وليس بصحيح.
(1/473)
[حديث: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قيامًا]
275# وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمَّد): هو الجعفي المسندي (قال: حدثنا عُثمان بن عُمر)؛ بضمِّ العين المهملة فيهما: هو ابن فارس أبو محمَّد البصري المتوفى سنة ثمان ومئتين، (قال: حدثنا يونس): هو ابن يزيد، (عن الزُّهري): هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب، (عن أبي سَلَمَة)؛ بفتح السين المهملة واللام: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن أبي هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (قال) أي: أبو هريرة: (أُقيمت)؛ بضمِّ الهمزة، فعل ماض مبني للمجهول؛ معناه: إذا نادى المؤذن بالإقامة، فأقيم المسبب مقام السبب، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أنَّ المراد من الإقامة ذكر الألفاظ المخصوصة المشهورة المشعرة بالشروع في الصَّلاة وهي أخت الأذان.
قلت: ولا يخفى صحة الأول، وفساد الثاني؛ لأنَّ الإقامة اسم لهذه الألفاظ المعلومة، وأنَّ المؤذن نادى بصوته بها على أنَّ قوله: (ذكر ... ) إلخ ممنوع، فإنه ليس المراد ذكرها، بل النداء بها بصوت عال.
وقوله: (المشعرة) ممنوع، بل هي مشعرة بالقيام إلى الصَّلاة، كما لا يخفى (الصَّلاةُ) بالرفع نائب فاعل، وهي صلاة الفجر، (وعُدِّلتِ)؛ بضمِّ العين المهملة، وتشديد الدال المهملة؛ أي: سُوِّيت، وتعديل الشيء تقويمه، يقال: عدَّله فاعتدل؛ أي: قومه فاستقام، ومنه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]، وفي رواية: (فعُدِّلت)؛ بالفاء (الصفوفُ)؛ بالرفع نائب فاعل؛ أي: قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كما بينه المؤلف في (الصَّلاة) من رواية صالح بن كيسان: (أنه كان قبل أن يكبر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم) (قيامًا) جمع قائم؛ كتِجار؛ بكسر الفوقية جمع: تاجر، ويجوز أن يكون مصدرًا جازمًا على حقيقته، وقال الكرماني: (هو تمييز أو مجهول على اسم الفاعل؛ فهو حال)، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: (إذا كان لفظ «قيامًا» مصدرًا [1]؛ يكون منصوبًا على التمييز؛ لأنَّ قوله: «وعدلت الصفوف» فيه إيهام، فيفسره قوله: «قيامًا»؛ أي: من حيث القيام، وإذا كان جمعًا لـ «قائم»؛ يكون انتصابه على الحالية، وذو الحال محذوف، تقديره: وعدل القوم الصفوف حال كونهم قائمين) انتهى.
وما زعمه العجلوني معترضًا على القسطلاني ليس بشيء، كما لا يخفى.
(فخرج إلينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: بعد أن أقيمت الصَّلاة وعدلت الصفوف، (فلما قام في مُصلَّاه)؛ بضمِّ الميم: وهو موضع صلاته؛ (ذُكر)؛ بضمِّ الذال المعجمة، قال في «عمدة القاري»: (من باب الذُّكر؛ بضمِّ الذال، وهو الذكر القلبي، فلا يحتاج إلى تفسير ذكر؛ بمعنى: تذكَّر، كما فسره به بعضهم) انتهى.
قلت: والمراد بهذا البعض ابن حجر، وتبعه العجلوني، فإنه قد خفي عليهما، فجعلاه [2] من باب (التفعُّل)، ولا يخفى فساده؛ لما قدمناه؛ فافهم؛ والمعنى: أنه عليه السلام ذكر في قلبه قبل أن يشرع في الصَّلاة (أنَّه جنب)، وإنَّما
%ص 288%
علم أبو هريرة أنَّه جنب مع أن الذكر لا يطلع عليه أحد؛ لإعلامه عليه السلام له بذلك؛ لما في رواية ابن ماجه: (قام إلى الصَّلاة) وفي آخره: «قال: إنِّي خرجت إليكم جنبًا، وإنِّي نسيت حتى قمت إلى الصَّلاة»، ومثله في رواية الدارقطني، إذا علمت هذا؛ تعلم فساد ما زعمه العجلوني حيث قال: «وفهم أبو هريرة لذلك بالقرائن أو إعلامه له بَعد» انتهى، فإن كلامه يفيد الظن والاحتمال لا القطع؛ فليحفظ.
(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: بلفظه حقيقة أو إشارته (لنا) معاشر الصحابة، وفي رواية الإسماعيلي: «فأشار بيده» (مكانكم)؛ بالنصب على الإغراء؛ أي: الزموا مكانكم، وجوز البرماوي أن يكون اسم فعل، والأول أظهر.
قال في «عمدة القاري»: إذا ثبت أنه تكلم بقوله: «مكانكم»؛ فالإشارة لماذا؟
وأجيب: بأنه يحتمل أنه جمع بين الكلام والإشارة، أو يكون الراوي روى أحدهما بالمعنى، انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أنه لو قال: إن ثبت؛ لكان مناسبًا، فإنه يحتمل أن يكون قول: «مكانكم» بالإشارة لا باللفظ، وجوابه بقوله: يحتمل ... إلخ ليس فيه بيان حكمة الإشارة، ويمكن الجمع بينهما.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإن قوله: لو قال ... إلخ؛ ممنوع بل تعبيره بـ (إذا ثبت) هو المناسب؛ لأنَّ (إذا) تدل على تحقُّق مدخولها غالبًا، ومنه قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]، و (إن) تدل على أنَّ مدخولها مشكوك فيه غالبًا، ومنه قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا} [المائدة: 6]، وههنا القول محقق؛ لأنَّه ثابت في الصحيح محقق الوجود والوقوع بخلاف (إن)، فإنها ليست كذلك، ألا ترى أنَّ الصَّلاة محققة الوجود، وأنَّ الجنابة قد لا توجد أصلًا؛ فليحفظ، فإنه قد خفي هذا على هذا القائل، كما لا يخفى.
وقوله: فإنه يحتمل ... إلخ ممنوع، وهذا الاحتمال باطل؛ لأنَّ قوله: (فقال: مكانكم) يدل على أنَّه باللفظ قطعًا لا بالإشارة، وهو ظاهر، كما لا يخفى.
وقوله: وجوابه ... إلخ ممنوع، فإن قوله: (إنَّه جمع بين الكلام والإشارة) يفيد أنه عليه السلام لما قام في مكانه وذكر أنه جنب؛ التفت وقال لهم: (مكانكم)؛ باللفظ، ثم لما مشى عن مكانه؛ أشار لباقي القوم الذين لم يسمعوا اللفظ، فأشار إليهم، فهذا الجمع بين الكلام والإشارة هو بيان حكمة الإشارة، ولم يجنح إلى هذا [3] العجلوني، فقال: ويمكن الجمع بينهما، فرجع إلى ما قاله إمام الشارحين، والمعترض حقه أن يأتي بجواب سالم عن ذلك؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنَّ فيه إطلاق القول على الفعل، بل القول على حاله، ورواية الإسماعيلي لا تستلزم ذلك؛ لاحتمال الجمع بين الكلام والإشارة، انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: إذا كان القول على بابه؛ فيكون واقعًا في الصَّلاة، كما ثبت في الصحيح، انتهى.
قلت: قد علمت ما قدمناه؛ فافهم.
(ثم رجع)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى حجرته الشريفة، (فاغتسل)؛ أي: من الجنابة، (ثم خرج إلينا) معشر الصحابة رضي الله عنهم، والظاهر أن التراخي هنا وفي قوله: (ثم رجع) مرادٌ على بابه، واستظهر العجلوني أنه مراد هنا بخلافه في (ثم رجع).
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّه لا بد من وجود مهلة بين قوله: «مكانكم» ورجوعه ولو وقفة خفيفة؛ لأجل إعلامهم بأنه يعود إلى الصَّلاة حتى لا يذهب منهم أحد، فالتراخي في كلٍّ منهما مراد؛ فافهم.
(ورأسه يقطر)؛ أي: من ماء الغُسل، ونسبة القطر إلى الرأس مجاز من قبيل ذكر المحل وإردة الحال، والجملة اسمية وقعت حالًا على أصلها بالواو كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني أنَّ نسبة القطر إلى الرأس من المجاورة؛ لأنَّ الذي يقطر الماء) انتهى.
قلت: وهذا ليس بمجاورة؛ لأنَّها قرب الشيء من الشيء، وهنا استعمال الماء في الرأس وهو ليس من المجاورة، بل من إطلاق المحل وإرادة الحال، فهو مجاز؛ فافهم، والله أعلم.
(فكبر)؛ أي: لصلاة الفجر، قال صاحب «عمدة القاري»: (فإن قلت: هل اقتصر على الإقامة الأولى أو إنشاء إقامة ثانية؟ قلت: لم يصح فيه نقل، ولو فعله؛ لنقل) انتهى.
قلت: أفاد كلامه أنه اقتصر على الإقامة الأولى وهو الظاهر، ويدل له أن (الفاء) للتعقيب، ولأن تكرار الإقامة غير مشروع وهو حجة لمذهب الإمام الأعظم والجمهور في جواز الفصل بينهما، سواء كان لمصلحة الصَّلاة أم لا، طال أم لا، ومثله الفعل بشرط كونه من مصالحها.
قال في «الفتاوى القنية»: (ولو صلى السنة بعد الإقامة أو حضر الإمام بعدها بساعة؛ لا يعيدها)، ومثله في «الفتاوى البزازية» كما في «منح الغفار» لما رواه المؤلف عن أنس في (الصَّلاة) قال: (أقيمت الصَّلاة، فعرض للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم رجل فحبسه بعد ما أقيمت الصَّلاة)، زاد هشام في روايته: (حتى نعس بعض القوم)، فهذا يدل على أنَّ الفصل بينهما ولو طويلًا؛ جائز، خلافًا لمن قيده بالقصير، فإنه لا دليل يدل عليه، وحديث الباب يرد عليه؛ لأنَّ الاشتغال بالغُسل من الفصل الطويل، كما لا يخفى.
قال الإمام الشُّمنِّي: (وفي هذا رد على من قال: إذا قال المؤذن: «قد قامت الصَّلاة»؛ وجب على الإمام تكبير الإحرام)؛ يعني: أنَّه لا يجوز الفصل بينهما، وتأولوا الحديث بأن معناه: كبر بعد رعاية وظائف الصَّلاة؛ كالإقامة، أو يؤول أقيمت أولًا بغير الإقامة الاصطلاحية.
قلت: وهذا كله خروج عن الظاهر، ومكابرة، فأي دليل دل على أنه أتى بها ثانيًا؟ وأي دليل على أن الأولى كانت بغير الاصطلاحية؟ بل الدليل الظاهر على أنه لم يأت بها ثانيًا، ولو أتى بها؛ لنقل عنه، فعدم النقل عنه دليل على عدم الإتيان بها؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان، والتأويل الثاني أبعد من الأول؛ لأنَّ الإقامة لغة واصطلاحًا وعرفًا اسم لهذه الألفاظ المشهورة، فكيف تذكر ويراد غيرها؟! وما هو إلا مكابرة؛ لأنَّها لم تأت بمعنى غير هذا، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم.
وفي قوله: (فلما قام في مصلاه ... ) إلخ دليل على أنه لم يدخل في الصَّلاة، وأصرح منه ما في رواية المؤلف (قبل أن يكبر).
قال في «عمدة القاري»: (فإن قلت: في رواية ابن ماجه: (قام إلى الصَّلاة وكبَّر، ثم أشار إليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل، وكان رأسه يقطر ماء فصلى بهم، فلما انصرف؛ قال: «إني خرجت إليكم جنبًا وإني نسيت حتى قمت إلى الصَّلاة»).
وفي رواية للدارقطني من حديث أنس: (دخل في الصَّلاة فكبَّر وكبَّرنا معه، ثم أشار إليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل وكان رأسه يقطر ماءً فصلى بهم، فلما انصرف؛ قال: «إني خرجت إليكم جنبًا وإني نسيت حتى قمت إلى الصَّلاة»)، وفي رواية للدارقطني من حديث أنس: (دخل في الصَّلاة فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إلى القوم كما أنتم).
وفي رواية لأحمد من حديث عليٍّ: (كان قائمًا فصلى بهم إذا انصرف).
وفي رواية لأبي ذر من حديث أبي بكرة: (دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده: أن مكانكم).
وفي أخرى: (ثم جاء رأسه يقطر فصلى بهم).
وفي أخرى له مرسلة: (فكبَّر، ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا).
وفي مرسل ابن سيرين، وعطاء، والربيع، عن أنس: (كبر، ثم أومأ إلى القوم: أن اجلسوا).
قلت: هذا كلام لا يقاوم الذي في «الصحيح»، وأيضًا في حديث أبي هريرة هذا: (ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر)، فلو كان كبر أولًا؛ لما كان يكبر ثانيًا على أنه اختلف في الجمع بين هذه الروايات، فقيل: أريد بقوله: (كبر)؛ أراد أن يكبر عملًا برواية «الصحيح»: (قبل أن يكبر).
وفي رواية أخرى للبخاري: (فانتظرنا تكبيره)، وقيل: إنهما قضيتان أبداه القرطبي احتمالًا، واستظهره النووي، وأبداه ابن حبان في «صحيحه»، فقال: (بعد أن أخرج الروايتين من حديث أبي هريرة: هذان فعلان في
%ص 289%
موضعين متباينين، خرج عليه السلام مرة فكبر، ثم ذكر أنه جنب، فانصرف فاغتسل، ثم جاء فاستأنف بقيام الصَّلاة، وجاء مرة أخرى، فلما وقف ليكبر؛ ذكر أنه جنب فانصرف فاغتسل، وجاء مرة أخرى، فلما وقف ليكبر؛ ذكر أنه جنب قبل أن يكبر، فذهب فاغتسل، ثم رجع فأقام بهم الصَّلاة من غير أن يكون بين الخبرين تضاد ولا تهاتر، فإنَّ قول أبي بكرة: (فصلى بهم)؛ أراد بذلك أنَّه بدأ بتكبير مُحْدَثٍ لا أنَّه رجع فبنى على صلاته، إذ محال أن يذهب عليه السلام ليغتسل ويبقي الناس كلهم قيامًا على حالهم من غير إمام إلى أن يرجع) انتهى.
قال في «عمدة القاري»: (وروي عند بعض أصحابنا: أن انتظارهم له هذا الزمن الطويل بعد أن كبروا من قبيل العمل اليسير، فيجوز مثله، فإن قلت: كيف قلت: كبروا؟ قلت: لأنَّ العادة جارية بأن تكبير المأمومين يقع عقب تكبير إمامهم، ولا يؤخر ذلك إلا القليل من أهل الوسوسة، فإن قلت: إذا ثبت أنه عليه السلام لم يكبر، فكيف كبروا؟ وأيضًا فكيف أشار إليهم ولم يتكلموا، ولم انتظروه قيامًا؟ قلت: أمَّا تكبيرهم؛ ففي رواية: (تكبيره عليه السلام)، وأمَّا قولك: ولم يتكلم؛ فيرده قوله: «مكانكم») انتهى.
قلت: وقوله: (من أهل الوسوسة)؛ فإنا قد شاهدنا كثيرًا من المتعصبين من الشافعية يجيء أحدهم إلى خلف إمامه فيكبر الإمام ويجتهد المأموم بالنية، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسلم، ويتعوذ من الشيطان، ثم يكبر، وهكذا إلى أن يفرغ الإمام من صلاته، فيجيء إلى إمام آخر، ويفعل مثل الأول، ثم يفرغ الإمام من صلاته، وهو لم يشرع معه ثم يذهب ويصلي إمامًا، وما هذا إلا من شدة اتصال الشيطان به، وقالوا: الوسوسة إما من خلل في العقل أو في الدين، وعلى كلٍّ؛ فهي بدعة منكرة، وهذا الفعل مذموم شرعًا، ففي زعمه أنه من الصالحين، والحال أنه من جند إبليس رئيس الشياطين، والله تعالى أعلم.
(فصلينا) معشر الصحابة (معه)؛ أي: مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة الفجر، كما في حديث أبي بكرة المصرح به [4]، ففي الحديث طلب تعديل الصفوف وهو مستحب بالإجماع، وشذ ابن حزم، فزعم أنه فرض على المأمومين، الأول فالأول والتراص والمحاذاة بالمناكب والأرجل.
قال في «عمدة القاري»: فإن قلت: في رواية: «أقيمت الصَّلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج فكيف هذا»، وقد جاء: «إذا أقيمت الصَّلاة؛ فلا تقوموا حتى تروني»، قلت: لعله كان مرة أو مرتين؛ لبيان الجواز، أو لعذر، أو لعل قوله: «فلا تقوموا حتى تروني» بعد ذلك، والحكمة في هذا النهي؛ لئلا يطول عليهم القيام، ولأنَّه قد يعرض له عارض فيتأخر بسببه.
وفي الحديث: وهو قول الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم، وهو ظاهر فإن في رواية ابن ماجه من حديث أبي هريرة، وفي رواية الدارقطني من حديث أنس، وفي رواية أبي بكرة: (دخل في صلاة فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إليهم، فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل وكان رأسه يقطر ماء فصلى بهم، فلما انصرف)، فقوله: (فصلى بهم)؛ معناه: أتم صلاته بالتكبير الأول، وهو ظاهر الحديث؛ لأنَّه لو كان كبر ثانيًا؛ لصرح به، فعدم تصريحه به دليل على عدم وجوده؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولا مانع من بقاء الناس قيامًا على حالهم من غير إمام؛ لأنَّ هذا الانتظار عفوٌ؛ لأنَّه من قبيل العمل اليسير، ويدل لهذا قوله في الروايات: (ثم أشار إليهم فمكثوا)؛ معناه: وقفوا قيامًا على حالهم الأول، أو مكثوا قعودًا، ويدل له ما في بعض الروايات السابقة: (فأومأ إليهم أن اجلسوا)، والحكمة لهذه الإشارة عدم وقوع مُفسِد منهم للصلاة من تحوُّلٍ عن القبلة أو تنحنح أو غيرهما، فرجع عليه السلام وبنى على صلاته وهو ظاهر، وبما قررناه ظهر فساد ما قدمناه عن ابن حبان؛ فافهم والله أعلم.
وفي الحديث: ما استدل به المؤلف على الجنب إذا دخل في المسجد ناسيًا فذكر أنه جنب؛ يخرج منه، ولا يتيمم، فلذلك ذكر في الترجمة قوله: (يخرج كما هو ولا يتيمم).
وقال ابن بطال: (من التابعين من يقول: إنَّ الجنب إذا نسي فدخل المسجد، فإنه يتيمم ويخرج، قال: والحديث يردُّ عليهم).
قال في «عمدة القاري»: (قلت: من الذين ذهبوا إلى التيمم الإمام الأعظم، فإنه قال: (الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء، فإنه يتيمم، ويدخل المسجد فيستسقي، ثم يُخرج الماء من المسجد)، وبه قال إسحاق، والنووي، وفي «نوادر ابن أبي زيد»: (من نام في المسجد، ثم احتلم؛ ينبغي أن يتيمم لخروجه)، وقال ابن بطال: (والحديث يدل على خلافه؛ لأنَّه لما لم يلزمه التيمم للخروج كذلك من اضطر إلى المرور فيه جنبًا؛ لا يحتاج إلى التيمم).
قلت: دلالة الحديث ظاهرة مما تقدم قريبًا.
وقوله: (لأنَّه لما لم ... ) إلخ هذا قياس مع الفارق؛ لأنَّه إنَّما لم يلزمه التيمم للخروج؛ لأنَّ الواجب عليه الخروج فورًا عند ذكره أنه جنب، فلو ألزمناه بالتيمم؛ يلزمه المكث ضرورة، وهو ممنوع منه، والنسيان قد رفع عنه الإثم فلا يلزمه التيمم، وأمَّا من كان خارج المسجد وهو جنب؛ فإنه لا ضرورة له لدخوله إلا أن يكون جنبًا مسافرًا، وهو متمكن من التيمم؛ حيث إنه خارج المسجد وبعيد عن الماء فلما علم بوجود الماء في المسجد؛ يلزمه التيمم لدخوله؛ لأنَّه لا ضرورة تَدْعُو [5] إلى دخوله إلا الماء لفقده في الأسفار، وهذا ظاهر من الآية، فالقياس غير صحيح، كما لا يخفى.
واختلف في المرور للجنب والحائض في المسجد، فمنعه الإمام الأعظم، والجمهور، ومالك؛ لما أخرجه أبو داود، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجهوا هذه البيوت، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب»، ورواه المؤلف في «تاريخه الكبير»، وأخرج الترمذي عن أبي سَعِيْد الخدري: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا عليُّ؛ لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك»، وقال: حديث حسن.
وأخرج القاضي إسماعيل في «أحكام القرآن»: (أنه عليه السلام لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي؛ لأنَّ بيته كان في المسجد، وهو مرسل قوي، كما قاله الحفاظ)، ولقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى .. }؛ الآية [النساء: 43]، فقد نقل الرازي عن ابن عمر، وابن عباس: أنَّ المراد بـ {عَابِرِي سَبِيلٍ}: المسافريعدم الماء يتيمم ويصلي، والتيمم لا يرفع الجنابة، فأبيح لهم الصَّلاة تخفيفًا، فالمراد بالآية نفس الصَّلاة، وحملها على مكانها مجاز على أنا نحمله على عمومه، فنقول: لا تقربوا الصَّلاة ولا مكانها على هذه الحالة إلا أن تكونوا مسافرين، فتيمموا واقربوا ذلك فصلوا، كذا قاله صاحب «عمدة القاري».
وقد قال الزجاج في «معاني [6] القرآن»: (إنَّ المراد بـ {عَابِرِي سَبِيلٍ}: المسافر)، وقال جماعة من العلماء: إنَّ (إلا) في الآية بمعنى: (ولا)؛ والمعنى: ولا جنبًا ولا عابري سبيل، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} [النساء: 92]، فإن معناه: ولا خطأ، كما لا يخفى، وعلم مما تقدم أن دخوله عليه السلام ودخول عليٍّ المسجد جنبًا ومكثه فيه من خواصهما، وأمَّا جوازه لأهل البيت، وكلبس الحرير لهم؛ فهو اختلاق من الشيعة وغيرهم من أهل الضلال والزيغ؛ فافهم، وقد بسطه صاحب «البحر»، والله أعلم.
وجوَّزه الشافعي من غير لبث سواء كانت له حاجة أم لا، وحمل الآية على المجاز؛ وتقديره: لا تقربوا مواضع الصَّلاة جنبًا إلا عابري سبيل، فالعبور قرينة لذلك، وقد سمي المسجد باسم الصَّلاة في قوله تعالى: {لهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]، وجوَّز أحمد جلوس الجنب في المسجد ومروره فيه إذا توضأ، واعترض الكرماني على من منعه، فزعم إذا وجدت القرينة؛ يجب القول بالمجاز، وهنا العبور قرينة مانعة عن إرادة الحقيقة، ثم الحمل على العموم ممتنع؛ إذ يلزم منه إرادة معنى الحقيقة والمجاز بإطلاق واحد، ولا يجوز ذلك عندهم) انتهى.
قلت: وهو ممنوع، ولقد أكثروا من حمل الأحكام على المجاز، وتركوا الحقيقة، فإن قوله:
%ص 290%
(إذا وجدت ... ) إلخ؛ انظر ما معناه؟ وهل هذا الوجوب شرعي أو اصطلاحي؟ فإن كان الأول؛ فغير مسلم؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في المنع مطلقًا، وإن كان الثاني؛ فغير مسلَّم أيضًا؛ لأنَّه ليس من الأدلة الشرعية، وكيف يصار إلى المجاز مع وجود الحقيقة، على أن العبور المذكور هو مرور المسافر، كما فسره ابني عمر وعباس رضي الله عنهما.
وقوله: (ثم الحمل ... ) إلخ هذا ممنوع ولا يلزم ما ذكره؛ لأنَّ المراد بعموم المجاز أن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز وهذا منه، فليس فيه أنه يلزم إرادة معنى الحقيقة والمجاز بإطلاق واحد؛ لأنا لم نرد كل واحد منهما، بل نريد المجموع وإدراج فرد الحقيقة تحت أفراد المجاز، فلا يقال: إنه مجاز، ولا إنه حقيقة، بل هو من باب عموم المجاز، كما هو مقرر في الأصول، وقد أشار إليه في «عمدة القاري» فلا عجب عليه؛ فافهم.
وفي الحديث: طهارة الماء المستعمل؛ لأنَّه خرج ورأسه يقطر، وفي رواية أخرى: (ينطف)، وهي معناها. وفيه: جواز النسيان على الأنبياء عليهم السلام في العبادات، وفي الحديث: حجة لما قاله الإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد، ومالك: إن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام وهو قول عامة الفقهاء.
وقال ابن بطال: (إنَّه قول الإمام الأعظم)، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: (هو غير صحيح؛ لأنَّ مذهب الإمام الأعظم أن المأموم يكبر مع الإمام مقارنًا، والخلاف قيل في: الوجوب، وقيل: في الأفضلية) انتهى.
قلت: والصحيح أنَّ الخلاف في الأفضلية؛ لما في «إمداد الفتاح» وغيره، ولا خلاف في الجواز على الصحيح، بل في الأولوية، انتهى.
وأشار شيخ الإسلام إلى أن المقارنة في التكبير أفضل اتفاقًا، وقال بعضهم: المختار للفتوى في التحريمة أفضلية التعقيب وتمامه في الحواشي، وأجاز الشافعي تكبير المأموم قبل إمامه؛ أي: فيما إذ أحرم منفردًا، ثم نوى الاقتداء في أثناء الصَّلاة؛ لأنَّه روى حديث أبي هريرة على ما رواه مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عطاء بن أبي يسار: (أنه عليه السلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم بيده: أن امكثوا، فلما قدم؛ كبر)، ورُدَّ بأنَّ الشافعي لا يقول بالمرسل، ومالك الذي رواه لم يعمل به؛ لأنَّه قد صح عنده أنه لم يكبر، وذكر ابن حبيب عن مالك: أنه لما رأى هذا الحديث مخالفًا لأصل الصَّلاة؛ قال: إنه خاص بالنبيِّ عليه السلام، ولعله أمرهم بنقض إحرامهم الأول، وابتداء الإحرام بعد إحرامه الثاني، وهكذا فسره مطرف، وابن الماجشون، وغيرهما، وهو قول مالك.
وقوله: (وقد سمى المسجد باسم الصَّلاة ... ) إلخ ممنوع، فإن صدر الآية: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]، فالصوامع: صوامع الرهبان، والبِيَع: بِيَعُ النصارى، والصلوات: كنائس اليهود، وسميت بها؛ لأنَّ أصلها صلوتٌ [7] بالعبرانية، فعرِّبت، فذكرها تعالى بصيغة العبرانية؛ إلزامًا لهم، والمساجد: مساجد المسلمين.
وقوله: (يذكر ... ) إلخ صفة لـ {مَسَاجِدُ} خصت بها تفضيلًا على غيرها، فالمراد بالصلوات: الكنائس بدليل عطف المساجد عليها، والعطف يقتضي المغايرة، ولأنَّ ذلك لغة العبرانية، فذكرت على لغتهم، فالاستدلال غير صحيح، كما لا يخفى؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري»: (قال الشافعي: للجنب العبور في المسجد من غير لبث، كانت له حاجة أم لا)، وروي مثله عن الحسن وابن المسيب وأحمد، وعن الشافعي: له المكث فيه مطلقًا، واعتبروه بالمشرك، وتعلقوا بما روي عنه عليه السلام: «المؤمن لا ينجس»، وروى سَعِيْد بن منصور في «سننه» عن عطاء: (رأيت رجالًا من الصحابة يجلسون في المسجد وعليهم الجنابة إذا توضؤوا للصلاة)، وحديث وفد ثقيف وإنزالهم في المسجد وأهل الصفة وغيرهم كانوا يبيتون في المسجد، وكان أحمد ابن حنبل يقول: (يجلس الجنب فيه ويمر فيه إذا توضأ) انتهى.
قلت: والأحاديث السابقة صريحة في المنع مطلقًا، سواء كان للعبور أو غيره، وسواء كان متوضئًا أو لا، فهي صريحة في العموم، واعتبارهم له بالمشرك غير صحيح؛ لأنَّه عندهم نجس حقيقي، فكيف يقَيْسونه [8] عليه وما هو إلا قياس مع الفارق؟
وقوله: (تعلقوا ... ) إلخ هذا لا يساعد مدَّعاهم؛ لأنَّ معناه: لا ينجس حقيقة بدليل أنه لو حمله إنسان وصلى معه؛ تصح صلاته، بل هو نجس معنًى؛ بحيث لا يجوز له دخول المسجد، ولا الصَّلاة، ولا قراءة القرآن.
وقوله: (وروى سَعِيْد ... ) إلخ هذا لا يصلح دليلًا لهم؛ لأنَّه موقوف على عطاء، وهو ليس بحجة عندهم على أنه يحتاج لإثبات كونهم عليهم جنابة؛ لاحتمال أنهم غير جنبين، و (حديث وفد ثقيف ... ) إلخ لا يدل لمدَّعاهم؛ لاحتمال أنهم لم تصبهم جنابة أصلًا وهو ممكن، ويحتمل أن هذا كله قبل ورود النهي، فهو منسوخ بالأحاديث الصريحة في النهي مطلقًا، كما قدمنا من أنه عليه السلام لم يأذن لأحد جنب وحائض أن يدخل المسجد مطلقًا، على أنَّه يكره النوم للمقيم الطاهر في المسجد، فغير الطاهر بالأولى أنه يمنع من دخوله، كما لا يخفى؛ فافهم، والله أعلم.
واختلف العلماء متى يقوم الناس إلى الصَّلاة؟ ومتى يكبر الإمام؟ فذهب الإمام الأعظم والكوفيون: إلى أنَّ السنة أنهم يقومون في الصف إذا قال المؤذن: حي على الصَّلاة، فإذا قال: قد قامت الصَّلاة؛ كبر الإمام وهو قول سويد بن عقلة، وحمَّاد، وقَيْس بن أبي سَلَمَة، وقال الإمام زفر: (إذا قال المؤذن: قد قامت الصَّلاة؛ قاموا، وإذا قالها ثانيًا؛ افتتحوا)، وكان أنس بن مالك يفعل ذلك، وقال مالك: (يشرع الإمام في الصَّلاة بعد فراغ المؤذن من الإقامة، وبداية استواء الصف)، وعندنا: يشرع الإمام عند التلفظ بقوله: قد قامت الصَّلاة، وذهب الشافعي: أنه لا يقوم أحد حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وبه قال أحمد، وتمامه في «عمدة القاري»، والله أعلم.
(تابعه) أي: تابع عثمان بن عمر المتقدم (عبد الأعلى)؛ هو ابن عبد الأعلى السامي_بالسين المهملة، والميم_البصري، (عن مَعمَر)؛ بفتح الميم؛ هو ابن راشد، (عن الزُّهري)؛ هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب، وهذه متابعة ناقصة، وهو تعليق من المؤلف، وهو موصول عند أحمد، عن عبد الأعلى، ووقع عند مسلم أن عثمان أيضًا تابعه عبد الله بن وهب متابعة تامة؛ فافهم.
(ورواه) أي: روى هذا الحديث عبد الرحمن (الأوزاعي، عن) محمَّد بن مسلم ابن شهاب (الزُّهري) وروايته موصولة عند المؤلف في أوائل أبواب (الإمامة) كما سيأتي، فهو تعليق أيضًا، وزعم ابن حجر فقال: (ظن بعضهم أن السبب في التفرقة بين قوله: (تابعه) وبين قوله: (ورواه) كون المتابعة وقعت بلفظه، والرواية بمعناه، وليس كما ظن، بل هو من التفنن في العبارة) انتهى.
واعترضه صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: أراد بقوله: (ظن بعضهم): الكرماني، فإنه قال في «شرحه»: فإن قلت: لم قال أولًا: (تابعه)، وثانيًا: (رواه)؟ قلت: لم يقل: وتابعه الأزواعي، إمَّا لأنَّه لم ينقل لفظ الحديث بعينه،
%ص 291%
بل رواه بمعناه؛ إذ المفهوم من المتابعة الإتيان بمثله على وجهه بلا تفاوت، والرواية أعم من ذلك، وإمَّا لأنَّه يكون موهمًا بأنه تابع عثمان أيضًا، وليس كذلك؛ إذ لا واسطة بين الأوزاعي والزُّهري، وإمَّا للتفنن في الكلام أو لغير ذلك) انتهى، فهذا كما رأيت أجاب الكرماني عنه بثلاثة أجوبة وكلها جياد، والجواب الذي استحسنه هذا القائل من الكرماني أيضًا، ولكن قصده الغمز فيه حيث يأخذ منه، ثم ينسبه إلى الظن مع علمه بأن الذي اختاره بمعزل عن هذا الفن، انتهى كلام «عمدة القاري».
وزاد في الطنبور نغمة العجلوني على ابن حجر، فزعم أنه ليس في كلام ابن حجر ما يشير إلى أنه أراد الكرماني، فيحتمل أنه أشار إلى غيره، ولئن سلَّمنا أنه أراده؛ فالاعتراض عليه من حيث إنه أبداه احتمالًا وهو يفيد الظن، وإلا لم يحتج إلى الاعتذار عنه) انتهى.
قلت: وهذا بعيد؛ لأنَّ قوله: (ليس في كلام ابن حجر ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ عبارة ابن حجر عين كلام الكرماني، وكثيرًا ما يطلق ابن حجر لفظ (بعضهم)، ويريد به: الكرماني، وهذا واضح، كما لا يخفى، والمثبت مقدم على النافي.
وقوله: (لئن سلمنا) هذا من باب التنزل.
وقوله: (فالاعتراض ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه وإن كان ذكره احتمالًا وهو يفيد الظن، إلا أنه لم ينسبه إليه وقصد الغمز عليه في الأول، وهو يحتاج إلى الاعتذار عنه، وعلى كلٍّ؛ فالكرماني ذكر [9] الأجوبة الثلاثة، فكان على ابن حجر أن يذكرها، ويستحسن منها لا أنَّه يذكر أحدها، ويستحسن الثاني ويغمز في الأول؛ لأنَّ هذا دأب النقالين لا العلماء الشارحين؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (مصدر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (فجعلا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (هذا إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (بها)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (تدعى).
[6] في الأصل: (معان).
[7] في الأصل: (صلوتًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (يقيسوه)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (ذكره)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (مصدر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (فجعلا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (هذا إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (بها)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (تدعى).
[6] في الأصل: (معان).
[7] في الأصل: (صلوتًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (يقيسوه)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (مصدر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (فجعلا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (هذا إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (بها)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (تدعى).
[6] في الأصل: (معان).
[7] في الأصل: (صلوتًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (يقيسوه)، وليس بصحيح.
(1/474)
(18) [باب نفض اليدين من الغُسل عن الجنابة]
هذا (باب) حكم (نفض اليدين من) ماء (الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة (من الجنابة) كذا في رواية أبي ذر وكريمة، وعند الباقين: (من غسل الجنابة)، وكلمة (من) الأولى متعلقة بالنفض، والثانية بالغُسل، كما في «عمدة القاري»، وللكشميهني، وابن عساكر، والأَصيلي: (عن غسل الجنابة)؛ وتقدير حكم أولى وأحق من تقدير جواز؛ لأنَّ المؤلف من عادته إطلاق التراجم ويحيل الحكم على الحديث، والحكم يشمل الجواز وعدمه، ووجه عدم الجواز: أنه طرح لأثر العبادة، فهو أقوى من الجواز، على أن استنباط الأحكام إنَّما تؤخذ من الحديث لا من الترجمة؛ فافهم، وقد خفي هذا على العجلوني فقال ما قال.
==========
%ص 292%
==================
(1/475)
[حديث ميمونة: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلًا]
276# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبدان)؛ هو لقب عبد الله العتكي (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (أبو حَمزَة)؛ بفتح الحاء المهملة، والزاي؛ هو محمَّد بن ميمون السكري المروزي، ولم يكن يبيع السكر، وإنما سمي به؛ لحلاوة كلامه، وقيل: لأنَّه كان يحمل السكر في كمه لا أنه يبيعه، وقال ابن مصعب: (كان مجاب الدعوة)، قيل: إنه كان له جار إذا أراد أن يبيع داره، فقيل له: بكم؟ قال: بألفين ثمن الدار، وألفين جوار أبي حمزة السكري، فبلغ ذلك أبا حمزة، فوجه إليه أربعة آلاف، وقال: خذ هذه ولا تبع دارك، مات سنة ثمان وستين ومئة (قال: سمعت الأعمش)؛ هو سليمان بن مهران، (عن سَالم)؛ بفتح السين المهملة؛ هو ابن أبي الجعد، قيل: إنَّه ثبت في رواية ابن عساكر، (عن كُريب)؛ بضمِّ الكاف مصغرًا، مولى ابن عباس، (عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما (قال: قالت) خالتي (مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها: (وضعت للنبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي الروايات السابقة: (وضع لرسول الله)، وفي أخرى: (وضع للنبيِّ عليه السلام) (غُسلًا)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: ماء لأجل أن يغتسل به من الجنابة في إناء، (فسترته بثوب)؛ أي: الإناء خوفًا من أن يقع فيه ما يفسده، فالضمير راجع للماء الموضوع في الإناء، كما لا يخفى؛ لقربه، وتقدم في باب (من أفرغ بيمينه على شماله في الغسل) بقية الكلام عليه؛ فافهم.
(وصب على يديه)؛ بالتثنية من الإناء، و (الواو) هنا كـ (الفاء) في الرواية السابقة عطف على محذوف؛ تقديره: فكشف عليه السلام رأس الإناء، فأخذ الماء وصبه عليهما، (فغسلهما) وفي الرواية السابقة زيادة: (مرتين أو ثلاثًا) بالشك من ميمونة، وفي أخرى: (مرة أو مرتين) كذلك؛ أي: إلى الرسغين، (ثم صب)؛ أي: الماء من الإناء (بيمينه على شماله فغسل فرجه)؛ أي: القبل والدبر وما حولهما، وفي الرواية السابقة: (مذاكيره)، (فضرب) بالفاء (بيده)؛ بالإفراد؛ أي: التي استنجى بها (الأرض) زاد في الرواية السابقة: (أو الحائط) على الشك، (فمسحها)؛ أي: يده (بها)؛ أي: بالأرض، وذلك لما يعلق بها من أثر المني وغيره، (ثم غسلها)؛ أي: اليد بالماء، وسقط لفظ (بها) في غالب النسخ، (فمضمض)؛ بالفاء، وفي رواية: (ثم تمضمض)، وفي أخرى: (وتمضمض) (واستنشق)؛ لأنَّهما من تمام غسل البدن، (وغسل وجهه)؛ أي: ولحيته ظاهرها وأصولها، (و) غسل (ذراعيه)؛ أي: مع مرفقيه، (ثم صب على رأسه)؛ أي: الماء فغسله مع أصول شعره وظاهره، (وأفاض) من الإفاضة؛ وهي الإسالة؛ أي: أسال الماء على جسده كله بادئًا بمنكبه الأيمن، ثم على الأيسر ثلاثًا ثلاثًا، كما قدمنا، (ثم تنحى)؛ أي: تباعد عن مكانه الذي اغتسل فيه إلى مكان آخر، (وغسل قدميه)؛ تحرُّزًا عن الماء المستعمل، وليكون البدء والختم في الغسل بأعضاء الوضوء؛ لشرفها، (فناولتُه)؛ بتاء المتكلم: هو من قول ميمونة لا عائشة، كما توهمه الأَصيلي؛ لأنَّ الشراح اتفقوا على تخطئته، وقدمنا الكلام عليه هناك؛ فافهم.
(ثوبًا)؛ أي: لينشف به جسده الشريف من أثر ماء الاغتسال، (فلم يأخذه)؛ أي: الثوب؛ لما رأى فيه من الوسخ أو غيره مما تعافه النفس، وفي الرواية السابقة: (لم يردها)، ففيه: دليل على أن قوله: (لم يُرِدْها) من الإرادة لا من الرد، كما توهمه بعضهم، (فانطلق)؛ أي: ذهب يمشي عليه السلام (وهو ينفض يديه)؛ بالتثنية؛ أي: من ماء الاغتسال، والجملة من المبتدأ والخبر وقعت حالًا.
قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: (مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، فإن قلت: ما فائدة هذه الترجمة من حيث الفقه؟ قلت: للإشارة بها إلى ألَّا يتخيل أن مثل هذا الفعل إطراح لأثر العبادة، ونفض له، فبين أن هذا جائز، ونبه أيضًا على رد قول من زعم أن تركه للثوب قبلُ إيثارُ إبقاء آثار العبادة عليه، وليس كذلك، وإنما كان تركه؛ خوفًا من الدخول في أحوال المترفهين المتكبرين) انتهى؛ يعني: ولو كان لما ذكره؛ لما نفض يديه، فموضع الترجمة ينافي هذا التعليل؛ فافهم.
وقال المهلب: (ويمكن أن يكون عليه السلام ترك المنديل؛ إبقاء بركة بلل الماء والتواضع بذلك لله عز وجل، أو لشيء رآه في المنديل من حرير، أو وسخ، أو لاستعجال كان به).
وقال ابن بطال: (واختلفوا في المسح بالمنديل بعد الطهارة في الكراهة وعدمها، وكره ابن عباس أن يمسح به من الوضوء، ولم يكرهه من الجنابة) انتهى.
وقدمنا أنه غير مكروه مطلقًا، وينبغي أن يبقى أثر الماء على أعضائه؛ بحيث لا يبالغ في التمسح، ويمكن أن يقال: إنَّما ترك عليه السلام التمسح بالمنديل؛ لأجل البرد؛ لأنَّ الحر حر الحجاز، ولخصوصية الماء البارد في أنه يشد الأعضاء، ويقوِّي على الجماع وغيره؛ فافهم.
وقال صاحب «عمدة القاري»: واعلم: أنَّ البخاري قد ذكر هذا الحديث قبل هذا في ستة مواضع، وهذا هو السابع، وسيذكره مرة أخرى، فالجملة ثمانية كلها في كتاب (الغُسل) وساقها، وقال: وهذا كله حديث واحد، ولكنه رواه عن شيوخ متعددة بألفاظ مختلفة، وترجم لكل طريق ترجمة، وتمامه فيه، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 292%
==================
(1/476)
(19) [باب من بدأ بشق رأسه الأيمن في الغسل]
هذا (باب) بيان (من بَدَأَ)؛ بالموحدة، والدال المهملة، والهمزة آخره المفتوحات من الباب الذي مصدره البدء، لا من الباب الذي مصدره الابتداء، كما فسره العجلوني؛ لأنَّه لا حاجة إلى تفسير (فعل) بـ (افتعل)، كما لا يخفى على من له ذوق في معاني التصريف (بشِقِّ)؛ بكسر الشين المعجمة، وتشديد القاف، بمعنى الجانب (رأسه الأيمن) صفة لـ (شق) (في الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: من الجنابة؛ لفضيلة التيامن خصوصًا في العبادة، ويطلق الشق بمعنى: النصف؛ ومنه حديث: «تصدقوا ولو بشق تمرة»؛ أي: نصفها.
==========
%ص 292%
==================
(1/477)
[حديث: كنا إذا أصابت إحدانا جنابة أخذت بيديها ثلاثًا فوق رأسها]
277# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا خَلَّاد)؛ بفتح الخاء المعجمة، وتشديد اللام، آخره دال مهملة (بن يحيى)؛ هو ابن صفوان الكوفي أبو محمَّد السلمي، سكن مكة، مات سنة
%ص 292%
سبع عشرة ومئتين (قال: حدثنا إبراهيم بن نافع)؛ هو المخزومي المكي، (عن الحسن بن مسلم)؛ هو ابن يَنَّاق_ بفتح المثناة التحتية، وتشديد النون، وبالقاف_ المكي، ثقة، صالح الحديث، (عن صفية بنت شيبة)؛ هو ابن عثمان الحَجَبي القرشي_ بفتح الحاء المهملة، والجيم_؛ لحجبة الكعبة، واختلف في أنها صحابية، والجمهور على صحبتها، رُوِيَ لها خمسة أحاديث اتفق الشيخان على روايتهما عن عائشة، بقيت إلى زمن ولاية الوليد، وهي من صغار الصحابة، وأبوها شيبة: صحابي مشهور، وللإسماعيلي: أنه سمع صفية، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كنا إذا أصاب) وفي رواية كريمة: (أصابت)؛ بالتأنيث، وهو الأكثر، والأولى على حد ما نقل سيبويه من قولهم قال فلانة؛ فهو من السماعي، يحفظ ولا يقاس عليه؛ فافهم (إحدانا)؛ أي: جميع أزواج النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه مفرد مضاف، فيفيد العموم مع أن بعض العلماء قالوا: العموم لفظ الأحد والإحدى مطلقًا نفيًا وإثباتًا، معرفة ونكرة، فلا يرد أن لفظ (إحدانا) لا يدل على العموم، ولا على عمل الجماعة، كذا قاله الكرماني.
وقال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: (وحكم هذا الحديث الرفع؛ لأنَّ الظاهر اطلاع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك) انتهى.
قلت: فظهر أنه فعل الجماعة وهو اختيار من المؤلف إلى القول المصحح من أن قول الصحابي: (كنا نفعل كذا)؛ حكم الرفع، وهو حجة عند أكثر الأصوليين سواء صرح بإضافة ذلك إلى زمنه عليه السلام أم لا، وبه جزم الحاكم وكثيرون؛ لأنَّ ذلك إما بحكم السماع أو الإطلاع منه عليه السلام، ولا مجال للرأي في ذلك؛ فافهم.
(جنابة)؛ المراد: ما يوجب الغُسل؛ ليشمل الحيض والنفاس (أخذت) أي: الماء (بيديها)؛ بالتثنية، وفي رواية كريمة بالإفراد، فصبته (ثلاثًا) صفة مصدر محذوف (فوق رأسها) وفي رواية الإسماعيلي: (أخذت بيديها الماء، ثم صبت على رأسها)، وليس بواجب على المرأة أن تنقض ضفائرها في الغسل، والمراد بها: الشعر المفتول بإدخال بعضه في بعض، والعقص: جمعه على الرأس، كما في «المُغْرِب»، وإنما لم يجب؛ للحرج، والأصل فيه ما رواه مسلم وغيره عن أم سَلَمَة، قالت: قلت: يا رسول الله؛ إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: «لا، إنَّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين»، وهذا إذا بلغ الماء أصول الشعر، فلو لم يبتل الأصول منه بأن كان متلبدًا أو غزيرًا أو مضفورًا ضفرًا شديدًا، أو عليه طيب ملزوق، أو حناء متلطخة بحيث لا ينفذ إلى أصول الشعر الماء؛ يجب نقضها مطلقًا، سواء كان مضفورًا، أو منقوضًا، أو معقوصًا، فيه مشقة أو لا هو الصحيح، أمَّا عقد الشعر المعقودة بنفسها؛ فالظاهر أنه لا يجب غسلها؛ لأنَّ الاحتراز عنها غير ممكن، وإذا نتف شعرة لم تغسل؛ فالظاهر وجوب غسل محلها؛ لانتقال الحكم إليه، ولو ضرها غسل رأسها بغلبة الظن، أو بإخبار طبيب مسلم مستور؛ تركته ولا تمسحه، وقيل: إنها تمسحه إن لم يضرها، فإن ضرها المسح أيضًا؛ تركته {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ولا تمنع نفسها عن زوجها؛ خوفًا من وجوب الغسل عليها إذا وطئها؛ لأنَّه حقه، ولها مندوحة عن غسل رأسها، وأما شعرها المنقوض؛ ففي افتراض غسله ثلاثة أقوال:
الأول: الاكتفاء بالوصول منقوضًا كان أو معقوصًا وهو ظاهر المذهب، كما في «الذخيرة»، ويدل عليه ظاهر الأحاديث الواردة في هذا الباب.
الثاني: الاكتفاء بالوصول إلى الأصول إذا كان مضفورًا، ووجوب الإيصال إلى أثنائه إن كان منقوضًا وهو ظاهر عبارة الإمام القدوري، ومشى عليه جماعة منهم: صاحب «المحيط»، و «البدائع»، و «الكافي».
الثالث: وجوب بلِّ الذوائب مع العصر، كما في «البحر»، وروى الحسن عن الإمام الأعظم أنها تَبلُّ ذوائبها ثلاثًا مع كل بلة عصرة؛ ليبلغ الماء شعب قرونها، وفي صلاة الإمام البقالي الصحيح أنه يجب غسل الذوائب وإن جاوزت القدمين، وقد مال المحقق ابن أمير حاج في «الحلية» إلى ترجيح القول الثاني، وهو ظاهر المتون، وقال المحقق ابن الهمام في «فتح القدير»: (ومقتضى حديث أم سَلَمَة المتقدم عدم وجوب الإيصال إلى الأصول) انتهى.
لكن قال في «المبسوط»: وإنما شُرِطَ تبليغ الماء أصول الشعر؛ لحديث حذيفة بن اليمان، فإنه كان يجلس إلى جنب امرأته إذا اغتسلت فيقول: يا هذه؛ أبلغي الماء أصول شعرك، وشؤون رأسك، وهي مجمع عظام الرأس، كما في «البحر الرائق»، واستفيد من الإطلاق أنه لا يجب غسل ظاهر المسترسل إذا بلغ الماء أصول الشعر، وبه صرح في «المنية»، وعزاه في «الحلية» إلى «الجامع الحسامي»، و «الخلاصة»، وممن نص أيضًا على أن غسل ظاهر المسترسل من ذوائبها موضوع عنها: الإمام فخر الدين البزدوي، وصدر الدين الشهيد، وعبر عنه بالصحيح في «المحيط» البرهاني، ومشى عليه في «الذخيرة»، و «الكافي»، انتهى؛ فليحفظ.
(ثم تأخذ بيدها)؛ بالتثنية؛ أي: الماء، وقال الكرماني: (وفي بعض النسخ: «يديها» بدون الجار، فلا بد أن يقال إما بنصبه بنزع الخافض، وإما بتقدير مضاف؛ أي: أخذت ملء يديها).
قال صاحب «عمدة القاري»: (هذا توجيه حسن إن صحت هذه الرواية) انتهى.
قلت: والظاهر أنها تصحيف وتحريف من الكتاب، فإنه لم يعزها أحد من الشارحين إلى أحد من الرواة؛ فافهم.
وقوله: (على شقها) في الموضعين؛ كـ (فوق) المتقدم متعلق بمقدر؛ نحو: فتصبه، أو فتفرغه، ويجوز أن يضمن (أخذت) معنى (فصبت)؛ فلا تقدير.
قلت: وهو الأولى؛ لأنَّه إذا وجد التقدير وعدمه؛ فعدم التقدير أولى؛ لأنَّه الأصل؛ فليحفظ.
وقوله: (الأيمن) صفة؛ كـ (الأيسر) الآتي، وقولها: (ثم تأخذ بيدها ... ) إلخ تفصيل وبيان للإجمال الواقع في قولها: (أخذت بيديها)، ولهذا جاءت بـ (ثم) الدالة على الترتيب والتراخي في الزمان؛ لأنَّ أخذها بيديها فوق رأسها ثلاثًا يحتاج للمهلة بين المرات من حيث دلك الشعر، وإيصال الماء إلى أصوله، وتعميم البشرة. وزعم العجلوني أن (ثم) لمجرد الترتيب في الذكر لا في الزمان، فلا يرد أن الثاني يدل على تراخيه عما قبله، وذلك لا يصح.
قلت: وهو فاسد؛ فإن الترتيب والتراخي في كل شيء بحسبه كما علم في محله، فإن التعميم والدلك حتى يصل الماء إلى البشرة يحتاج إلى المهلة والتراخي في الزمان، كما علمت، ويلزم على ما قاله هذا القائل أنه لم يبق في الحديث بيان غسل باقي الجسد، وهو لا يتم الغسل إلا به، كما لا يخفى.
فإن قلت: لعله حذفه المؤلف اختصارًا؛ لأنَّ غرضه بيان البداءة بغسل الشق الأيمن للرأس؟
قلت: مثل هذا لا يمكن حذفه اختصارًا أصلًا؛ لأنَّه لا يقال لذلك شرعًا وعرفًا: إنه غسل إلا بعد غسل جميع الجسد، على أنه وإن كان غرضه بيان البداءة بغسل الشق الأيمن للرأس إلا أنه ملاحظ لغسل باقي الجسد ضمنًا؛ لأنَّه لا بد منه، ولا يخفى أن الحذف لا يكون في شيء واحد مشتمل على أفعال مخصوصة فيذكر بعضها، ويترك البعض؛ لأنَّ هذا مخل في عدم الضبط؛ لأنَّه يلزم عليه وقوع الخبط في الحكم، والأحكام تصان عن ذلك، كما لا يخفى، فهذا القائل قال ولا يدري ما يقول؛ فافهم، والله أعلم.
(وبيدها الأخرى) عطف على (بيدها)، وفي رواية الإسماعيلي: (ثم أخذت بيدها)، وهي أدل على الترتيب والتراخي في الزمان من رواية المؤلف، وإن لفظ: (الأخرى) يدل على أن لها أُولى، وهي متأخرة عنها، فـ (الواو) وإن كانت لا تدل على الترتيب؛ فلا يلزم منه تقديم الأيمن إلا أن الترتيب علم من الرواية الثانية التي بـ (ثم) مع الروايات في صفة الغسل السابقة الدالة عليه، كما لا يخفى؛ فافهم.
(على شقها الأيسر)؛ أي: من الرأس فيها لا من الشخص نفسه، وبه تحصل
%ص 293%
المطابقة بين الحديث والترجمة، ويلزم من الصب على شق الرأس الأيمن غسلُ الشق الأيمن من الشخص نفسه؛ لأنَّ بمجرد الصب على شق الرأس ينزل الماء على الجسد، وفي الأيسر كذلك، فغسل باقي الجسد مستلزم لذلك، كما لا يخفى.
وقال في «عمدة القاري»: (فإن قلت: كيف ظهور هذه المطابقة، وفي الترجمة تقديم الشق الأيمن من الرأس، وفي الحديث تقديم الأيمن من الشخص؟
قلت: المراد من أيمن الشخص: أيمنه من رأسه إلى قدمه، فيدل حينئذٍ على الترجمة)؛ انتهى فافهم.
وزعم ابن حجر أنَّ الذي يظهر أنه حَمْلَ الثلاثِ في الرأس على التوزيع، كما سبق في باب (من بدأ بالحِلَاب)، وفيه التصريح بأنه بدأ بشق رأسه الأيمن.
قلت: هذا الظاهر غير صحيح؛ لأنَّ قولها: (ثم تأخذ بيدها ... ) إلخ تفصيل وبيان لقولها: (أخذت بيديها) المجمل، ففي أخذها الماء بيديها فوق رأسها تصبه على الأيمن باليمنى، وعلى الأيسر باليسرى، وهو في الإناء الصغير، فليس فيه توزيع هنا، وكذا في باب (من بدأ بالحِلَاب)؛ لأنَّ لفظه هناك: (فأخذ بكفيه)؛ بالتثنية على الرواية الصحيحة، فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر، فقال بهما على وسط رأسه، فهذا كما رأيت ليس فيه توزيع أصلًا وإن كان صرح بالبداءة بشق رأسه الأيمن؛ لأنَّ قوله: (فقال بهما على وسط رأسه) ينافي ذلك، وإنما كان يفعل بأن يأخذ الماء بكفيه فيفرغه على وسط رأسه، يبدأ فيه بشق الأيمن من الرأس، ثم بالأيسر، وهكذا، أو المراد: يأخذ الماء بيديه؛ ثم بيدٍ باليمنى لليمين من جهة أسفل، وبالأيسر كذلك حتى يجتمعان وسط رأسه، وعلى كل؛ فليس فيهما توزيع كما لا يخفى؛ فافهم، على أنَّ العادة جارية أن الصب يكون باليدين جميعًا لا بيد واحدة، كما هو ظاهر حديث الباب، وباب (من بدأ بالحلاب)؛ فالمراد باليد: الجنس الصادق على اليدين معًا، لا يقال: إذا كان المراد الجنس؛ فليس ثَمَّ أولى ولا أخرى؛ إذ لا مغايرة بين لفظتي (بيدها)؛ لأنَّا نقول ليست المغايرة بحسب الذات، بل بحسب الصفة، فهما متغايران باعتبار وصف أخذ الماء أولًا، وثانيًا من الإناء وجمعها، وبهذا تعلم فساد ما زعمه العجلوني من أنَّ ظاهر قوله: (ثم تأخذ بيدها) أنَّ الصب بكل يد على شق في حالة واحدة؛ فافهم، والله أعلم.
وقال صاحب «عمدة القاري»: (وهذا الحديث أخرجه أبو داود عن صفية المذكورة، ولفظه: «قالت: كانت إحدانا إذا أصابتها جنابة؛ أخذت ثلاث حفنات هكذا_ تعني: بكفيها جميعًا_ فتصب على رأسها، وأخذت بيد واحدة فتصبها على هذا الشق، والأخرى على الشق الأيسر، فمجموع هذا الغسل من ثلاث حفنات وغرفتان، الحفنات الثلاث على الرأس، والواحدة من الغرفتين على الشق الأيمن والأخرى على الشق الأيسر») انتهى.
قلت: يعني: أن الحفنات الثلاث على الرأس، وما نزل عنه؛ فيعم سائر الجسد، وأن الواحدة من الغرفتين على الشق الأيمن فيعممه، وعلى الأيسر كذلك لأجل التعميم؛ لاحتمال موضع لم يصبه الماء، كما لا يخفى.
وزعم العجلوني فاعترضه بأنه إن أراد بقوله: (فمجموع هذا الغسل) جميع الغسل للبدن؛ فهو بعيد؛ إذ كيف تكفي غرفتان لما عدا الرأس؟ وإن أراد غسل الرأس فقط؛ فهو قريب، لكن ما فائدة غسله بالغرفتين بعد الثلاث حفن؟
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّه فاسد؛ لأنَّ مراده بقوله: (فمجموع هذا الغسل) جميع الغسل للجسد؛ الرأس والبدن، وهو ظاهر غير بعيد، كما زعمه؛ لأنَّ الجسد اسم للرأس والبدن، وأمَّا البدن؛ فهو اسم لما عدا الرأس والأطراف، فهذا القائل لم يفرق بين الجسد والبدن.
وقوله: (إذ كيف ... ) إلخ ممنوع، فإن الحفنات الثلاث صبت على الرأس، ويلزم منها سيلانها على جميع البدن من جهة قدام وخلف، والغرفتان للأيمن والأيسر؛ لأجل التعميم، وهو ظاهر.
وقوله: (وإن أراد غسل الرأس فقط ... ) إلخ هذا ليس بمراد له، وإنما مراده ما قدمناه.
وقوله: (لكن ما فائدة ... ) إلخ، إن قلنا: إن هذا مراده يكون فائدة غسله بالغرفتين تعميم الجسد بالماء؛ لاحتمال أن موضعًا لم يصبه الماء، فبالغرفتان يتعمم الجسد جميعه بالماء، فيكون غسله تامًّا صحيحًا، كما لا يخفى، ولقد أكثر هذا القائل من التعصب على صاحب «عمدة القاري»، ولله در من قال:
يا ناطح الجبل العالي ليكْلِمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
تنبيه: ثمن ماء اغتسال المرأة من جنابة أو حيض انقطع لعشرة أيام أو أقل، وثمن ماء وَضوئها على زوجها ولو كانت غنية كما في «فتح القدير»، وفصَّل في «الجوهرة» بين انقطاع الحيض لعشرة؛ فعليها لاحتياجها إلى أداء الصَّلاة، ولأقل منها؛ فعليه لاحتياجه إلى وطئها.
قال في «منهل الطلاب»: (وقد يقال: إن ما تحتاج إليه مما لا بد لها منه واجب عليه سواء كان هو محتاجًا إليه أو لا؛ فالأوجه الإطلاق، كما في «البحر».
وقال في «المحيط»: (ثمن ماء الغُسل والوضوء هل يجب على الزوج؟ قيل: يجب عليه مطلقًا غنية كانت أو فقيرة، وقيل: لا يجب مطلقًا، وقيل: إن كانت فقيرة، قيل له: ائذن لها تنقل الماء، أو تنقل الماء إليها) انتهى.
والمعتمد القول الأول كما علمت، وأمَّا ثمن ماء الاغتسال من النفاس؛ فعلى الزوج أيضًا انقطع لأربعين يومًا أو أقل ولو كانت غنية؛ لأنَّه لا بد لها منه، فصار كماء الشرب، فأجرة الحمام على الزوج، كذا في «جامع الفصولين» ولو كان الاغتسال لا عن جنابة وحيض ونفاس، بل لإزالة الشعث والتفث؛ فقال شيخ الإسلام المحقق الرملي الحنفي: إنه لا يلزم الزوج ثمنه، انتهى.
أما لو أمرها بإزالته؛ فقال شيخ شيخنا في «حواشيه»: (إنه يلزمه) انتهى، والله تعالى أعلم.
==================
(1/478)
(20) [باب من اغتسل عُريانًا وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل]
(بسم الله الرحمن الرحيم) كذا هي ثابتة في رواية أبي ذر وحده قبل (باب)، ساقطة في روايات غيره، هذا (باب) جواز (من اغتسل) من الجنابة أو الحيض والنفاس (عُريانًا)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الراء (وحده)؛ أي: منفردًا، فهو منصوب على الحال (في الخلوة) وللكشميهني: (في خلوة)؛ أي: عن الناس، وعليهما؛ فهو تأكيد لقوله: (وحده)؛ لأنَّهما لفظان متلازمان بحسب المعنى، (ومن تَستَّر)؛ بتشديد المثناة الفوقية الثانية المفتوحة، وبفتح الأولى أيضًا من باب (التفعل)، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (ومن يستتر)؛ بتحتية أوله، ومثناتين فوقيتين، من باب (الافتعال)، وقوله: (والتستر أفضل): جملة حالية بالواو في أكثر الروايات، فهو معطوف على قوله: (من اغتسل) من عطف المفردات، وفي رواية بالفاء، فهي في جواب (من) الثانية، فهو من عطف الجمل، ودل قوله: (أفضل) على جواز التجرد للغسل في الخلوة، ومثله الاستنجاء، وهو مذهب الجمهور، وهل يكره أم لا، فيه خلاف، فقيل: إنه مكروه، وقيل: إن أمن دخول أحد عليه؛ يعذر، وقيل: يجوز في المدة اليسيرة، ويتجرد للغسل، ويجرد زوجته للجماع في بيت مقداره خمسة أذرع أو عشرة أذرع، وقيل: لا يكره أن يغتسل متجردًا في الماء الجاري أو غيره في الخلوة، وهذا هو المعتمد من مذهب الإمام الأعظم، وبه قال مالك وغيره والجمهور، لما في «مراسيل الزُّهري» فيما رواه أبو داود في «مراسيله» عنه عن النبيِّ عليه السلام قال: «لا تغتسلوا في الصحراء إلا أن تجدوا متوارًى، فإن لم تجدوا متوارًى؛ فليخط أحدكم كالدائرة، ثم يسمي الله، ويغتسل فيه»، وروى أبو داود في «سننه» عن عطاء، عن يعلى أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى رجلًا يغتسل بالبراز، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم؛ فليستتر»، وأخرجه النسائي أيضًا، وهذا يدل على الجواز وعدم الكراهة؛ لأنَّ المقصود ستر العورة عن الناس،
%ص 294%
فالنهي عن كشفها إذا كان بين الناس؛ فإذا كان وحده في خلوة؛ فلا كراهة، فإنه لم يره إلا ربه، وهو لا يحجبه الأستار سبحانه وتعالى إلا أنه يطلب منه ذلك تأدبًا، فترك الأدب غير مكروه، بل خلاف الأولى.
ونص أحمد فيما حكاه ابن تيمية على كراهة دخول الماء بغير إزار.
وقال إسحاق: (هو بالإزار أفضل؛ لقول الحسن والحسين رضي الله عنهما، وقد قيل لهما وقد دخلا الماء وعليهما بردان فقالا: إن للماء سكَّانًا).
وذهب ابن أبي ليلى وهو قول للشافعي فيما إذا نزل في الماء عُرْيانًا بغير مئزر أنه لا يجوز؛ لحديث ضعيف لم يصح عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تدخلوا الماء إلا بمئزر، فإن للماء عامرًا».
وروى ابن وهب، عن ابن مهدي، عن خالد، عن بعض أهل الشام: (أن ابن عباس لم يكن يغتسل في بحر ولا نهر إلا وعليه إزار، وإذا سئل عن ذلك؛ قال: إن له عامرًا).
وروى برد، عن مكحول، عن عطية مرفوعًا: «من اغتسل بليل في فضاء؛ فليحاذر على عورته، ومن لم يفعل ذلك وأصابه لمم؛ فلا يلومن إلا نفسه».
قلت: وهذا كحديث: «الوضوء قبل الطعام بركة، وبعده ينفي اللمم»؛ أي: الجنون، وهو يدل على الندب، فكذا هذا، فالحاصل: أن التجرد في الخلوة للاغتسال جائز من غير كراهة، والأصح عند الشافعية أن كشف العورة في الخلوة جائز عند الحاجة ولغيرها حرام، وعليه حملوا خبر أبي داود: «إذا اغتسل أحدكم؛ فليستتر».
قلت: الحديث لا يدل على الحرمة كما زعموا؛ لأنَّ صدر الحديث أنه عليه السلام رأى رجلًا يغتسل وهو مكشوف العورة يراه الناس ولا ريب أن كشفها للناس حرام، أما إذا كان في مكان لا يراه أحد؛ فلا حرمة، فمن أين جاء حمل الحديث على الحرمة، وما هو إلا حمل باطل؛ لأنَّه لا دليل يدل عليه؟ فافهم، والله أعلم.
(وقال بَهْز)؛ بفتح الموحدة، وسكون الهاء، آخره زاي معجمة، وهو ثقة يحتج بحديثه، كما قاله الحاكم، وإنما لا يعد من الصحيح روايته عن أبيه عن جده؛ لأنَّها شاذة، ولا متابعة له فيها، وقال الخطيب: (هو حدَّث عن الزُّهري، ومحمَّد بن عبد الله الأنصاري، وبين وفاتهما إحدى وتسعون سنة)، (عن أبيه)؛ هو حَكِيم _بفتح الحاء المهملة، وكسر الكاف_ ووقع في رواية الأَصيلي: (وقال بهز بن حكيم)، بذكر أبيه صريحًا، وهو تابعي ثقة، القشيري، (عن جده)؛ هو معاوية بن حَيْدة؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية، وهو صحابي على ما قاله صاحب «الإكمال»، وكلام المؤلف يشعر بذلك، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه قال: (الله أحق أن يستحى منه) وفي رواية السرخسي: (أن يستتر منه) (من الناس)؛ فـ (الله) مبتدأ بدون لام ابتداء، وخبره (أحق)، و (أن يستحى) بتقدير (من) الأولى متعلقة بـ (يستحى)، و (من) الثانية متعلقة بـ (أحق)، وهذا تعليق من المؤلف، وهو قطعة من حديث طويل أخرجه أصحاب السنن الأربعة من طرق متعددة عن بهز، وصححه الحاكم، ورواه ابن أبي شيبة عنه، عن أبيه، عن جده قال: قلت: يا رسول الله؛ عوراتنا ما نأتي منه وما نذر؟ قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك»، قلت: يا رسول الله؛ أرأيت إن كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: «إن استطعت ألا تريها أحدًا؛ فلا تريها»، قلت: يا رسول الله؛ فإن كان أحدنا خاليًا؟ قال: «فالله أحق أن يستحى منه من الناس».
فقوله: (عوراتنا) جمع عورة؛ وهي كل ما يستحى منه إذا ظهر، وهي من الرجل: ما بين السرة والركبة، ومن المرأة الحرة: جميع الجسد منها إلا الوجه واليدين إلى الكوعين، وفي أخمصها خلاف، ومن الأمة مثل الرجل، وما يبدو منها في حال الخدمة؛ كالرأس، والرقبة، والساعد؛ فليس بعورة، وستر العورة في الصَّلاة وغير الصَّلاة واجب، وفيه عند الخلوة خلاف، وكل خلل وعيب في شيء؛ فهو عورة.
وقوله: (وما نذر)؛ أي: وما نترك، وأماتَ العربُ ماضي (يذر) و (يدع) إلا ما جاء في قراءة شاذة في قوله تعالى: (ما ودَعَك ربك)؛ بالتخفيف، وقوله: (أرأيت)؛ معناه: أخبرني.
وقوله: (من الناس) تقدم ما فيه، وهذا الحديث أخرجه الترمذي، كما قلنا، وقال: حديث حسن، وصححه البخاري، وأما عند البخاري؛ فبهز وأبوه ليسا من شرطه، وأمَّا الإسناد إلى بهز؛ فصحيح، ولهذا لما علق في (النكاح) شيئًا من حديث بهز، وأنه لم يجزم به، بل قال: ويذكر عن معاوية بن حَيْدة؛ فمن هذا: يعرف أن مجرد جزمه بالتعليق لا يدل على صحة الإسناد إلا إلى من علق عنه، وأمَّا ما فوقه؛ فلا يدل؛ فافهم، كذا قال صاحب «عمدة القاري»، ووجه مطابقته للترجمة هو إنَّما يطابق إذا حملناه على الندب والاستحباب لا على الإيجاب، وعليه عامة الفقهاء.
وزعم ابن حجر أن ظاهر حديث بهز أن التعرِّي في الخلوة غير جائز، لكن استدل المصنف على الجواز في الغُسل بقصة موسى وأيوب عليهما السلام.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: على قوله لا يكون حديث بهز مطابقًا للترجمة؛ فلا وجه لذكره هنا، لكن نقول: إنه مطابق، وإيراده ههنا موجه؛ لأنَّه عنده محمول على الندب، كما حمله عامة الفقهاء، فإذا كان مندوبًا؛ كان التستر أفضل فيطابق قوله: «والتستر أفضل» خلافًا لما قاله أبو عبد الملك، فيما حكاه ابن التين عنه يريد بقوله: «فالله أحق أن يستحى منه من الناس» ألا يغتسل أحد في الفلاة، وهذا فيه حرج بيِّن، ونقل عنه أنه قال: معناه: ألَّا يعصى، وهذا جيد) انتهى كلامه رضي الله عنه.
قلت: ودل قوله في الحديث: «إلا من زوجتك ... إلخ» على أنه يجوز له النظر إلى عورة زوجته أو أمته، كما يجوز لها أن تنظر إلى عورته، وفيه: دليل على أنه لا يجوز له النظر لغير الزوجة أو الأمة ومن ذلك نظر الرجل للرجل، والمرأة للمرأة، وبالعكس، فلو كان عليه جنابة وثمة رجال ولم يجد سترة؛ فإنه لا يَدعُه وإن رأوه، كما في «الأشباه والنظائر»، وبحث بعضهم واستظهر أنه يدعه ويتيمم ويصلي ولا إعادة عليه، وأما المرأة إذا وجب عليها غسل وثمة رجال ولم تجد سترة؛ فإنها تؤخره، واستظهر بعضهم أنها تتيمم وتصلي ولا إعادة عليها، ومثله ما لو كانت بين رجال ونساء، ولو كانت بين نساء فقط؛ لا تؤخره وإن رأوها؛ لأنَّ نظر الجنس إلى جنسه أخف من خلاف جنسه، واستظهر بعضهم أنها تتيمم وتصلي ولا إعادة عليها، والرجل بين رجال ونساء، أو نساء فقط أنه يؤخر، والظاهر أنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه، كما بسطه شيخ الإسلام ابن الشحنة في «شرحه على الوهبانية»، وأما الخنثى إذا وجب عليه الغسل وثمة رجال أو نساء؛ فإنه يؤخره، وكذا الاستنجاء، فإذا أراد الرجل أن يستنجي وثمة رجال، أو رجال ونساء، أو نساء فقط؛ فإنه يتركه؛ لأنَّ كشف العورة حرام، والاستنجاء سنة، فلا يفعل المحرَّم لأجل إقامة السنة؛ لأنَّ المحظور مقدم على المبيح، وتمامه في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم.
==================
(1/479)
[حديث: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض]
278# وبه قال: (حدثنا إسحاق ابن نصر)؛ بفتح النون، وسكون الصاد المهملة، السعدي البخاري، نسبه لجده هنا، وفيما تقدم صرح بأبيه إبراهيم وجده نصر، وما هو إلا لأجل التفنن في الكلام (قال: حدثنا عبد الرزاق)؛ هو ابن هَمَّام الصغاني، (عن مَعْمَر)؛ بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وفتح الميم الثانية؛ هو ابن راشد، (عن هَمَّام)؛ بفتح الهاء، وتشديد الميم الأولى (بن مُنَبِّه)؛ بضمِّ الميم، وفتح النون، وكسر الموحدة المشددة، (عن أبي هريرة)؛ هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه (قال: كانت بنو إسرائيل) جمع السلامة، وأصله: بنون، لكنه على خلاف القياس؛ لوقوع التغيير في مفرده، وأما التأنيث في الفعل؛ فعلى قول من يقول: حكم ظاهر الجمع مطلقًا حكم ظاهر غير الحقيقي؛ فلا إشكال، وأمَّا على قول من يقول: كل جمع مؤنث إلا جمع السلامة المذكر؛ فتأنيثه أيضًا
%ص 295%
عنده على خلاف القياس، أو باعتبار القبيلة، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: (وبنو إسرائيل) اسم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم، وسمي به؛ لأنَّه سافر إلى خاله لأمر تقدم ذكره، وكان خاله في حران، وكان يسري بالليل، ويكمن بالنهار، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلًا؛ وهم: روبيل، وهوذا، وشمعون، ولاوي، وداني، ونقالي، وذبولون، وذاد، وبشاخرة، وأشيرة، ويوسف، وبنيامين، وهم الذين سماهم الله تعالى الأسباط، وسموا بذلك؛ لأنَّ كل واحد منهم قبيلة، والسبط في كلام العرب: الشجرة الملتفة الكثيرة الأغصان، والأسباط من بني إسرائيل؛ كالشعوب من العجم والقبائل من العرب) انتهى.
(يغتسلون عُراةً)؛ بضمِّ العين المهملة، منصوب على الحال، جمع عارٍ؛ كقضاة جمع قاضٍ؛ أي: متجردين عن الثياب، وعن المئزر (ينظر بعضهم إلى بعض): جملة فعلية وقعت حالًا من (الواو) في (يغتسلون) بعد حال مترادفة أو متداخلة، وهذا يدل على أن كشف العورة كان جائزًا في شرعهم، ويدل عليه: أنهم كانوا يغتسلون عراة وموسى عليه [السلام] يراهم ولا ينكر عليهم ولو كان حرامًا؛ لأنكره عليهم، ويوضحه ما قاله الفقهاء من أن حرمة كشف العورة من خصائص هذه الأمة، واغتسال موسى منفردًا إنَّما كان من باب الحياء والأدب لا أنه واجب عليه، ويحتمل أنه كان عليه مئزر رقيق فظهر ما تحته لمَّا ابتل بالماء، فرأوا أنه أحسن الخلق، فزال عنهم ما كان في نفوسهم.
وزعم ابن بطال أنَّ بني إسرائيل كانت تفعل هذا؛ معاندة للشرع، ومخالفة لنبيهم عليه السلام.
قلت: وارتضاه القرطبي، وتبعهما القسطلاني والعجلوني، ولا يخفى أن هذا مخالف ومصادم للحديث؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان يراهم متجردين عن الثياب حال الاغتسال، ولا ينكر عليهم، والأمر المحرَّم في الشرع لا يمكن سكوت النبيِّ عليه السلام عنه؛ لأنَّه بعث؛ لبيان الأحكام والشريعة، فكيف لا ينكر عليهم وهو حرام، هذا ممنوع قطعًا، على أنه نص الفقهاء على أن كشف العورة حرام من خصائص هذه الأمة؛ يعني: فيكون غير حرام عند بني إسرائيل، كما هو صريح نص الحديث، غاية الأمر: أنهم إنَّما كانوا يخالفون موسى في عدم الغسل مفردًا ونسبوه إلى الأدر؛ لاختفائه عنهم في حال الاغتسال وتستره حياءً وأدبًا من ربه عز وجل، ولعدم موافقته لهم من حيث إنه رسول الله عليه السلام، فلا ينبغي له أن يتداخل معهم كل التداخل؛ لأنَّ كثرة المداخلة تذهب البهاء والرئاسة، فربما يقع منه شيء في حقه، فيدعو عليهم، ألا ترى أن الأمير إذا دخل الحمام يدخل وحده وأتباعه كلهم ينتظرونه [1]، فالرسول من باب أولى، كما لا يخفى؛ فافهم.
(وكان موسى) زاد الأَصيلي: (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وفي نسخة: (عليه السلام)، وهو من ذرية لاوي، فهو موسى بن عمران بن فاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم وسلامه (يغتسل) أي: من الجنابة (وحده)؛ أي: منفردًا، منصوب على الحال إما استحياء، أو أدبًا، أو تنزهًا؛ لأنَّ التجرد ليس بحرام في شرعه، كما قدمنا.
قال في «عمدة القاري»: (ومطابقة الحديث للترجمة في اغتسال موسى عليه السلام عريانًا وحده خاليًا عن الناس، ولكن هذا مبني على أن شرع من قبلنا من الأنبياء عليهم السلام هل يلزمنا أم لا؟ وفيه خلاف، والأصح أنه يلزمنا ما لم يقض الله علينا بالإنكار) انتهى.
قلت: وهو مذهب الأئمَّة الحنفية، وتبعهم الشافعية، وزعم ابن حجر (أن الذي يظهر أن وجه الدلالة من الحديث أن النبيَّ عليه السلام قصَّ قِصتي موسى وأيُّوب عليهما السلام ولم يتعقب شيئًا منهما، فدل على موافقتهما لشرعنا؛ إذ لو كان فيهما شيء غير موافق؛ لبيَّنه، فعلى هذا: يجمع بين الحديثين بحمل حديث بهز على الأفضل، وإليه أشار في الترجمة) انتهى؛ أي: وهذا على التحريم.
قلت: كلامه غير صحيح، وقد أخذ كلامه من ابن بطال وهو موافق لمسماه، وهذا الظاهر فاسد غير ظاهر؛ لأنَّه لا يلزم من ذكر القصتين وعدم تعقبهما أن يكون موافقًا لشرعنا؛ لأنَّه عليه السلام حين قصهما كان في معرض بيان ما وقع للرسل قبله من غير ملاحظة الحكم، قال تعالى: {كَذَلِكَ [2] نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ [3]} [طه: 99]، ولهذا سكت عليه عن البيان وقتئذٍ، وإنما ثبت حرمة كشف العورة في الصَّلاة أو للناس بدليل آخر، فإن كان مراد هذا القائل أنه ثبت بهذه القصة؛ فهو غير صحيح؛ لأنَّها لا تدل على الحرمة بل على الإباحة، كما هي في شرع موسى، ويدل لهذا أنه عليه السلام ذكر قصة موسى مع الخضر في قتل الغلام، وخرق السفينة، وبناء الجدار، وسكت عليها، والحال أنه غير موافق لشرعنا، فلو كان سكوته في القصص عن البيان يدل على الموافقة؛ لكان فعل الخضر شرع لنا وهو ممنوع، لا يسع أحدًا القول به، كما لا يخفى.
وقوله: (فهذا يجمع ... ) إلخ غير صحيح، فإن حديث بهز وهذا الحديث كل منهما ظاهر في الندب ومطابق للترجمة فهو الأفضل، وإنما حاول بكلامه ترويجًا لما ذهب إليه بعض الشافعية من الحرمة، ولا دليل يدل عليها، كما قدمناه، على أنه صرح هو أن المشهور عند متقدمي الشافعية الكراهة؛ يعني: أن الأحاديث الواردة في هذا الباب محمولة على الندب كما حمله عامة الفقهاء، لكن اعترضه العجلوني فزعم أنه يجب سترها مطلقًا في الصَّلاة وفي غيرها مع الخلوة أو لا، ولا نعلم قولًا بالكراهة فقط) انتهى.
لكن قال الكرماني: (كشف العورة في الخلوة إن كان لحاجة؛ جاز، وإن لغيرها؛ ففيه خلاف في كراهته وتحريمه، والأصح أنه حرام) انتهى.
فهذا يدل على أن عندهم في ذلك خلافًا، وقد خبطوا في مذهبهم، فلا يدرون الحكم كما رأيت، وقدمنا ما فيه أيضًا نقلًا عن إمام الشارحين؛ فليحفظ.
(فقالوا) أي: بنو إسرائيل: (والله) قسم (ما يمنع موسى أن يغتسل معنا) عريانًا، ننظر إليه وينظر إلينا (إلا أنه آدر) استثناء مفرغ، والمستثنى منه مقدر، وهو الأمر من الأمور كما في «عمدة القاري»، فـ (أن) وما بعدها فاعل (يمنع)، و (أن يغتسل) على تقدير من متعلق بـ (يمنع)، وهذا دليل ظاهر على أن شرعهم كان إباحة التعرِّي في الاغتسال وعدم حرمة النظر إلى العورة، وهو يرد على من زعم أن شرعهم كشرعنا؛ فافهم.
و (آدر)؛ بمد الهمزة، وفتح الدال المهملة، وتخفيف الراء، ممنوع من الصرف، قال صاحب «عمدة القاري»: (زعم ثعلب في الفصيح أنه كآدم).
وقال في «المنتخب»: (الأدرة مثل فعلة؛ فتقٌ يكون في إحدى الخصيتين)، وقال علي بن حمزة: (يقال: أُدْره وأَدْره، وأد؛ بالضم، والفتح، وإسكان الدال، وبالفتح، والتحريك)، وفي «المخصص» لابن سيده: (الأدرة: الخصية العظيمة، آدر الرجل إدراء، وقيل: الآدر الذي ينفتق صفاقه فيقع قصبه في صفته، ولا ينفتق إلا من جانبه الأيسر، وقد تأدر الرجل من داء يصيبه والشرج ضده، ولا يقال: امرأة آدر، إما لأنَّه غير مسموع، وإما أن يكون لاختلاف الخِلقة، والاسم الأدرة)، وفي «الجامع»: (الأدرة، والأدر مصدران واسم النفخة الأدرة)، وفي «الصحاح»: (الأدرة نفخة في الخصية، يقال: رجل أدر بيِّن الأدرة)، وفي «الجمهرة»: (هو العظيم الخصيتين) انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه، فالأدرة مختصة بالرجال.
%ص 296%
(فذهب)؛ أي: سيدنا موسى عليه السلام (مرة) أي: في يوم من الأيام (يغتسل)؛ أي: من الجنابة جملة محلها النصب؛ لأنَّها وقعت حالًا وهي حال منتظرة، ويجوز أن تكون خبر (ذهب) إن جعلت من أفعال المقاربة، والأول أظهر؛ فافهم، (فوضع ثوبه على حَجَر)؛ بفتحتين، فيه حذف؛ تقديره: فخلع ثوبه فوضعه عليه، وهو الذي يحمله معه في الأسفار فيضربه فيتفجر له منه الماء، كذا في «عمدة القاري»، ثم قال: (وأخرج هذا الحديث مسلم، ولفظه: (اغتسل موسى عليه السلام عند مُوَيْه) بضمِّ الميم، وفتح الواو، وإسكان التحتية، تصغير ماء، وأصله موه، والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها هكذا هو في بعض نسخ «مسلم»، وروى ذلك العدوي، والباجي.
وفي معظم نسخ «مسلم» (عند مَشْرُبَة)؛ بفتح الميم، وسكون الشين المعجمة، وضم الراء، وفتح الموحدة؛ وهي حفرة في أصل النخل يجمع فيه الماء؛ ليسقيها، وقال القاضي عياض: (وأظن الأول تصحيفًا) انتهى.
قلت: ولا منافاة بين رواية المؤلف ورواية مسلم؛ لإمكان الجمع بينهما بأنه وضع ثوبه على حجر عند المشربة التي فيها الماء؛ فليحفظ، فلما فرغ من غسله؛ أقبل إلى ثوبه ليأخذه كما في رواية الحافظ الطحاوي؛ (ففر) أي: فذهب (الحجر) يمشي على بطنه مسرعًا، فـ (الفاء) بمعنى (ثم)؛ فافهم (بثوبه)؛ أي: بثوب موسى عليه السلام، (فخرج)؛ أي: موسى عليه السلام، وفي رواية: (فجمح)؛ بجيم، فميم مخففة، فحاء مهملة؛ أي: أسرع وجرى أشد الجري، قال ابن سيده: (يقال: جمح الفرس بصاحبه جمحًا وجماحًا؛ ذهب يجري جريًا غالبًا، وكل شيء مضى على وجهه؛ فقد جمح)، وفي «التهذيب لأبي منصور»: (فرس جموح؛ إذا ركب رأسه، فلم يرده اللِّجام، وهذا ذمٌّ، وفرس جموح؛ أي: سريع، وهذا مدح)، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم (في إِثره)؛ بكسر الهمزة، وسكون المثلثة، وفي بعض الأصول بفتحهما؛ بمعنى: عقبه، وزعم العجلوني أنه بمعنى: بعده.
قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّ البعدية صادقة على وقوع المهلة في الزمان اليسير والكثير، بخلاف العقب، فإنه دال على عدم وقوع المهلة مطلقًا، وهو المراد هنا، كما لا يخفى.
وقال في «المنتخب»: بوجهه أَثر وأُثر وإِثر؛ يعني بتثليث الهمزة مع إسكان الثاء [4]، ورابعة بفتحها، حكاها كراع، وفي «الواعي»: (الأثر محرك؛ هو ما يؤثر الرجل بقدمه في الأرض)، وقال ابن سِيْده: (الأثر بالضم؛ أثر الجرح)؛ انتهى.
(يقول) جملة من الفعل والفاعل محلها نصب على الحال؛ أي: موسى عليه السلام: (ثوبي) مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: ردَّ ثوبي، أو أعطني ثوبي (يا حجر) وإنما خاطبه؛ لأنَّه أجراه مجرى من يعقل؛ لكونه فر بثوبه، فانتقل عنده من حكم الجماد إلى حكم الحيوان، فناداه فلما لم يعطه؛ ضربه، وقيل: يحتمل أن يكون موسى عليه السلام أراد أن يضربه إظهارًا للمعجزة بتأثير ضربه، ويحتمل أن يكون عن وحي؛ لإظهار الإعجاز ومشي الحجر إلى بني إسرائيل بالثوب أيضًا معجزة أخرى لموسى عليه السلام، كذا قرره صاحب «عمدة القاري».
(ثوبي يا حجر)؛ بالتكرار مرتين مع إثبات حرف النداء، ووقع في «مسلم» مكررًا أيضًا، وبإسقاط حرف النداء، ولكنه مراد، كما لا يخفى، ومثله في رواية لغير الأربعة هنا، وهو مفعول لمحذوف كما سبق، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بالعكس وعليهما؛ فهو لاستعظام كونه يأخذ ثوبه، فعامله معاملة من لا يعلم كونه ثوبه، لعله يرده إليه (حتى) للغاية أو للتعليل لـ (فرَّ) المتقدم، أو لنحو: استمر على فراره مقدرًا إلى أن (نظرت بنو إسرائيل إلى موسى) عليه السلام وهو مكشوف العورة، ففيه: رد على من زعم أنَّ ستر العورة كان واجبًا، وفيه: إباحة النظر إلى العورة عند الضرورة من مداواة أو براءة مما نسب إليه؛ كالبرص وغيره، لكن الأول أظهر؛ لأنَّ مجرد تستر موسى لا يدل على وجوب ستر العورة لما تقدر في الأصول أن الفعل المجرد لا يدل بمجرده على الوجوب، وليس في الحديث أن موسى أمرهم بالتستُّر، ولا أنكر عليهم التكشُّف، ولو كان واجبًا؛ لأمرهم بذلك، وأما إباحة النظر إلى العورة للبراءة مما نسب إليه؛ فإنما هو من حيث يترتب على الفعل حكم؛ كفسخ النكاح، وأما قصة موسى؛ فليس فيها أمر شرعي ملزم يترتب على ذلك، فلولا إباحة النظر إلى العورة؛ لما أمكنهم موسى من ذلك، ولا خرج مارًّا على مجالسهم، وهو كذلك، وأما اغتساله خاليًا؛ فكان يأخذ في حق نفسه بالأكمل والأفضل، ويدل على الإباحة: ما وقع لنبينا عليه السلام وقت بناء الكعبة من جعل إزاره على كتفه بإشارة العباس عليه بذلك؛ ليكون أرفق به في نقل الحجارة، ولولا إباحته؛ لما فعله، لكنه ألزم نفسه بالأكمل والأفضل؛ لعلوِّ مرتبته عليه السلام، كذا قرره القسطلاني بزيادة؛ فافهم واحفظ، (فقالوا)؛ بالفاء، وفي رواية: بالواو؛ أي: بنو إسرائيل حين رأوا موسى مكشوف العورة، ورأوا عورته: (والله) قسم (ما بموسى من بأس) كلمة (من) زائدة، وهو اسم (كان) على تقدير: ما كان بموسى [5] بأسٌ، وفي أكثر النسخ: (ما بموسى)؛ فعلى هذه: (من بأس) اسم (ما)، كذا في «عمدة القاري»، واعترضه العجلوني بأن (ما) على الصحيح لا تعمل مع تقدم الخبر، ولا داعي إلى تقدير (كان)، وجازت زيادتها؛ لتقدم وكون المجرور نكرة) انتهى.
قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّ قوله: (أن ما على الصحيح ... ) إلخ غير صحيح؛ لأنَّ هذا التصحيح لم يذكره غيره من النحويين، بل قالوا: (ما) النافية عند الحجازين كـ (ليس) إن تقدم الاسم على الخبر، ولم يُسبَق الاسم بـ (أن) الزائدة، ولا بمعمول الخبر إلا إذا كان ظرفًا أو مجرورًا ولم يسبق الخبر بـ (إلا)، وبنو تميم لا يعملونها، بل هي عندهم مهملة وهو القياس؛ لأنَّها حرف لا يختص بقبيل، بل تدخل على الأسماء والأفعال، فأصلها ألَّا تعمل قال شاعرهم:
ومهفهف الإعطاف قلت له: انتسب ... فأجاب: ما قتل المحب حرام
أي: هو تميمي لا حجازي، وظاهر كلام النحاة أن الصحيح أنها مهملة؛ لتعليلهم أنه القياس، وأنها صرف غير مختص.
وقوله: (ولا داعي إلى تقدير كان ... ) إلخ غير صحيح، بل الداعي إلى ذلك صحة المعنى؛ لدلالتها على عدم وجود البأس فيه؛ فافهم، والبأس: الشدة؛ أي: لم يوجد بموسى من شدة من العيب؛ فليحفظ.
(وأخذ) أي: موسى عليه السلام (ثوبه) من على الحجر حين وقف في مجلس بني إسرائيل، ولبسه عليه بعد أن رآه بنو إسرائيل مكشوف العورة وتيقنوا أنه ليس به بأس من العيوب، وهذا ظاهر من صريح سياق الحديث، وقال ابن المُنيِّر: (الصحيح أن موسى لم يتعمد تمكينهم من نظر العورة، وإنما ألجأه الله تعالى إلى ذلك بآية أظهرها؛ لبراءته مما ينقص به، وكان الحجر في ذلك كالبشر يفر بثوب الرجل فيلزمه اتباعه، فيجوز ذلك للضرورة)، وقيل: لم يكن مكشوف العورة، بل نزل الماء مؤتزرًا، فلما خرج يتبع الحجر والمئزر مبتل بالماء؛ علموا عند رؤيته أنه ليس بآدر؛ لأنَّ الأدرة تبين من تحت الثوب المبلول بالماء، نقله ابن الجوزي عن الحسن بن أبي بكر النيسابوري، قال ابن حجر: (وفيه نظر ولم يذكر وجهه).
قلت: ولعل وجهه في الأول أنه لم يتعمد تمكينهم من النظر إلى العورة؛ لما غلبه من الحياء والأدب، وكأنه تعالى لما لم يوجب عليهم ستر العورة ألجأه إلى إظهارها لحكمتين؛ أحدهما: أن سترها غير واجب، وثانيهما: إظهار براءته مما نسبوه.
وقوله: (وكأن الحجر ... ) إلخ غير ظاهر؛ لأنَّ الاتِّباع للحجر غير لازم؛ لإمكان التستر بغيره من حشيش، أو ماء كدر، أو طين، أو غير ذلك، فليس فيه جواز ذلك للضرورة؛ لأنَّه لا ضرورة إلى ذلك مع وجود ما يستتر به من الحشيش وغيره، فالحقُّ أن موسى عليه السلام لما علم ما نسبوه إليه، ورأى الحجر قد فر بثوبه؛ بادر إلى نفي ما نسبوه إليه؛ حيث تيسر له ذلك، وإلى أخذ الثوب من الحجر، ولعل وجه النظر في الثاني أن الثوب المبتلَّ الرقيق الذي لا يحجب العورة لا يعد ساترًا لها؛ لأنَّ الستر عدم الظهور، والعورة تحت مثل هذا الثوب تظهر لمن نظر إليها فكأنه مكشوف العورة بلا ساتر، فهذا الثوب وجوده وعدمه سواء، كما لا يخفى، وقال ابن الجوزي: (إن موسى كان في خلوة كما في الحديث، فلما تبع الحجر لم يكن عنده أحد؛ فاتفق
%ص 297%
أنه جاز على قوم فرأوه؛ لأنَّ جوانب الأنهار وإن خلت لا يؤمن وجود قوم قريب منها، فبقي الأمر أنه لا يراه أحد، فاتفق من رآه) انتهى.
قلت: وهو فاسد، فإن الحديث لا يدل على أنه كان يغتسل في خلوة؛ لأنَّ لفظ الحديث: (وكان موسى يغتسل وحده) لا يدل على أنه كان يغتسل في خلوة، بل شامل لغسله عند عين أو نهر وغير ذلك، غاية الأمر: أنه وحده ليس عنده أحد، ويؤيد ذلك ما في رواية مسلم: (أنه كان يغتسل عند مشربة)؛ وهي الحفرة في أصل النخلة يجمع فيها الماء ليسقيها، فموسى لما اغتسل عند الماء ولم يكن عنده أحد فرأى [6] ثوبه فرَّ به الحجر؛ تبعه لما قدمنا قريبًا، فمر على القوم من بني إسرائيل فرأوه؛ لأنَّ جوانب الأنهار والعيون لا تخلو من وجود أحد من السياحين، وأصحاب التنزه ولو من أصحاب النخل، فلا بد وأن يراه أحد من هؤلاء.
وقوله: (فبقي الأمر ... ) إلخ ممنوع، بل بقي الأمر على أنه قد رآه أحد قصدًا؛ لعدم خلوِّ أحد، كما لا يخفى؛ فليحفظ.
(فَطفِق)؛ بكسر الفاء، وفي رواية: بفتحها، قيل في بعض النسخ: (وطفق)؛ بالواو؛ أي: شرع يضرب (الحجر) فـ (الحجر) منصوب بفعل مقدر، وهو (يضرب)، وقوله: (ضربًا) مفعول مطلق له، وفي رواية الأكثرين: (فطفق)؛ بالجر بزيادة موحدة في أوله؛ ومعناه: جعل ملتزمًا بذلك يضربه ضربًا، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، وزعم العجلوني نقلًا عن «المصابيح» (أنه يقدر على هذه الرواية مس بالحجر لا بضرب؛ لئلا يلزم زيادة الباء في غير محلها) انتهى.
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّ الباء للمصاحبة، فيلزم على قوله أنه لم يوجد ضرب للحجر، بل مسٌّ وهو خلاف المراد؛ فالمعنى الأول هو المراد؛ يعني: جعل نفسه ملتزمًا بذلك بضرب الحجر ضربًا؛ فافهم.
و (طفق) من أفعال المقاربة وهي ثلاثة أنواع:
الأول: ما وضع للدلالة على قرب الخبر، وهي ثلاثة: كاد، وقرب، وأوشك.
الثاني: ما وضع للدلالة على رجائه، وهي ثلاثة: عسى، واخلولق، وحرى.
والثالث: ما وضع للدلالة على الشروع فيه، وهي كثيرة، ومنه: طفق.
وهذه كلها ملازمة لصيغة الماضي، إلا أربعة فاستعمل لها مضارع: وهو كاد، وأوشك، وطفق، وجعل، واستعمل مصدرًا لاثنين، وهما طفق وكاد، وحكى الأخفش: طفوقًا عمن قال: طفَق؛ بالفتح، وطفِقًا عمن قال: طفِق؛ بالكسر، وقد أوضحت المقام في شرحي على «شرح الأزهرية» للشيخ خالد الذي سميته بـ: «تاج الأُسطوانية شرح شرح الأزهرية»؛ فارجع إليه إن شئت، وقدمنا عن «عمدة القاري» أن موسى نادى [7] الحجر، فلما لم يعطه الثوب؛ ضربه، ويحتمل أن يكون موسى أراد أن يضربه إظهارًا للمعجزة بتأثير ضربه، ويحتمل أن يكون عن وحي؛ لإظهار الإعجاز، ومشي الحجر إلى بني إسرائيل بالثوب أيضًا معجزة أخرى لموسى عليه السلام، انتهى.
(قال) وفي رواية: (فقال) (أبو هريرة) رضي الله عنه هذا إما من قول أبي هريرة؛ فيكون تعليقًا من البخاري، وإما من تتمة قول همام؛ فيكون مسندًا، كذا قاله الكرماني، وزعم ابن حجر أنه من قول همَّام، وليس بمعلق.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: احتمال الأمرين ظاهر، وقطع البعض بأحد الأمرين غير مقطوع به) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض»: (بأن القطع المراد به الحكم بالترجيح، ومن راجع نسخة همام من طريق البخاري عرف الرجحان المذكور) انتهى.
قلت: وهو مردود عليه، فإن القطع المراد به الحكم على أمر لا يحتمل غيره، يقال: قطع القاضي الأمر على فلان؛ يعني: حكم عليه به، وهو لا يحتمل غيره بخلاف الترجيح، فإنه يحتمل غيره واحدًا وأكثر، وهذا القائل لم يفرق بين القطع والترجيح.
وقوله: (ومن راجع ... ) إلخ ممنوع، فإنه ليس فيها ما يفيد الترجيح المذكور، بل فيها احتمال الأمرين، فكيف قال ابن حجر ما قال؟
والذي يظهر لي أن هذا تعليق من المؤلف، ويحتمل أنه مسند، لكن الأول أقرب؛ لأنَّ الحديث قد تم، وهذا بيان عدد الضرب؛ فليحفظ، والله أعلم، وتمامه في «إيضاح المرام»؛ فليراجع.
(والله) قسم؛ (إنه)؛ أي: الشأن أو الحجر المذكور (لنَدَبَ)؛ بفتح النون، وفتح الدال المهملة، آخره موحدة، منون؛ أي: أثر، قال أبو المعالي: (الندب: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد، وجرح نديب؛ ذو ندب، وقد أندبته؛ أي: جعلت في جسمه ندبًا وأثرًا، والجمع أنداب وندوب)، وفي «المحكم»: (والجمع ندب، وقيل: الندب واحد، وندب ظهر ندبًا وندوبة وندوبًا، فهو ندب صارت فيه ندوب وأندب بظهره وفي ظهره عادت فيه ندوبًا)، وفي (الاشتقاق) عن الأصمعي: (هو الجرح إذا بقي منه أثر مشرف، يقال: ضربه حتى أندبه)، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: (بالحجر) صفة (لندب)، أو متعلق به، وهو الأظهر؛ فافهم، وقال في «المصابيح»: (إن حمل على ظاهره؛ ففيه آية لموسى، وإلا؛ فيكون استعارة) انتهى.
قلت: والمراد هنا الحمل على ظاهره؛ لأنَّ المقصود إظهار آية موسى عليه السلام، وإظهار معجزاته، وكونه استعارة بعيد جدًّا، وذلك لأنَّ الحجر قد أثر فيه الضرب حقيقة، فكيف يحمل على المجاز؟ وما هو إلا دعوى بلا دليل؛ لأنَّ مع وجود الحقيقة لا يجوز المصير إلى المجاز، كما لا يخفى.
(ستةٌ)؛ بالرفع على البدلية من (ندب)؛ أي: ستة آثار، ويحتمل أنه خبر لـ (هي) مقدرة، أو منصوب على الحال من الضمير المستكن في قوله: (بالحجر)، فإنه ظرف مستقر (لندب)؛ أي: أنه لندب استقر بالحجر حال كونه ستة آثار، أو على التمييز، (أو سبعةٌ) بالشك من الراوي (ضربًا) منصوب على التمييز (بالحجر) متعلق بـ (ضربًا)، والظاهر أن موسى عليه السلام ضرب الحجر المذكور إمَّا بعصاه المعلومة، وإمَّا بحجر أخذه في مروره من الأرض، أو من عند الماء لا بيده الشريفة؛ لأنَّ الأحجار وغيرها مما له ثقالة لا يضرب إلا بمثله، أو أثقل منه كما هو العادة، فكان الحجر ذا أثر؛ ثم رأيت العجلوني نقل عن الحافظ الطحاوي في روايته لهذا الحديث عن أبي هريرة: أن موسى خلا يومًا وحده فوضع ثوبه على حجر، ثم اغتسل، فلما فرغ من غسله؛ أقبل إلى ثوبه ليأخذه وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى بعصاه وطلب الحجر ... )؛ الحديث، فهذا يعين الأول، ويحتمل الثاني؛ فتأمل، والله أعلم.
ويجوز جعل ضمير (إنه) للشأن، ويقدر لهو ندب؛ فليحفظ.
قال صاحب «عمدة القاري»: (ففي الحديث: إباحة التعرِّي في الخلوة للغسل وغيره؛ بحيث يأمن أعين الناس، وفيه: دليل على جواز النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية عليه من مداواة أو براءة من العيوب، أو إثباتها؛ كالبرص وغيره مما يتحاكم الناس فيها مما لا بد فيه من رؤية البصر بها، وفيه: جواز الحلف على الإخبار؛ كحلف أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: دلالة على معجزة موسى عليه السلام وهو مشي الحجر بثوبه إلى ملأ من بني إسرائيل ونداؤه عليه السلام للحجر، وتأثير ضربه فيه حقيقة، وفيه: دليل على أن الله تعالى كمَّل أنبياءه خلقًا وخلقًا ونزَّههم عن المعايب والنقائص، وفيه: ما غلب على موسى عليه السلام من البشرية حتى ضرب الحجر) انتهى.
قيل: المراد بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]: ما نسبوه إليه من الأدرة المذكورة.
وقال الحافظ الطحاوي فيما رواه عن أبي هريرة في هذه الآية: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن موسى كان رجلًا حيِّيًا سِتِّيرًا لا يكاد أن يرى من جلده شيء يستحيى منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة»، هكذا قال لنا [8] بعض [9] رواة هذا الحديث، وأهل اللغة يقولون: أدرة؛ لأنَّها آدر [10]؛ بمعنى: آدم، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا، ومما روي عن علي بن أبي طالب في هذه الآية قال: صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقال بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته كان ألين لنا منك وأشد حبًّا، فآذوه بذلك،
%ص 298%
فأمر الله الملائكة فحملته وتكلمت بموته حتى عرفت بنو إسرائيل أنه قد مات، فدفنوه، فلم يعرف موضع قبره إلا الرخم، فإن الله جعله أبكم أصم، ولا تعارض في ذلك؛ لأنَّه يجوز أن يكونوا آذوه بكل ما ذكر، فبرأه الله تعالى منها، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ينتظروه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (وكذلك)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (سلف)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (الفاء)، وليس بصحيح.
[5] زيد في الأصل: (من).
[6] في الأصل: (فرا)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (ناد)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (قالنا)، وليس بصحيح.
[9] (بعض): تكرر في الأصل.
[10] في الأصل: (آدرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
279# وبالسَّند المتقدم في هذا الحديث قال المؤلف: (وعن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، فهو موصول، قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: هذا معطوف على الإسناد الأول، وقد صرح أبو مسعود وخلف في «أطرافهما» أن البخاري رواه هنا: عن إسحاق ابن نصر، وفي (أحاديث الأنبياء): عن عبد الله بن محمَّد الجعفي؛ كلاهما عن عبد الله، ورواه أبو نُعيم الأصبهاني: عن أبي أحمد بن شيرويه: (حدثنا إسحاق: أنبأنا عبد الرزاق)؛ فذكره، وأورد الإسماعيلي حديث عبد الرزاق، عن معمر، ثم لما فرغ منه؛ قال: وعن أبي هريرة قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بينا أيُّوب يغتسل ... »؛ الحديث.
وقال ابن حجر: (وجزم الكرماني بأنه تعليق بصيغة التمريض، فأخطأ، فإن الخبرين ثابتان في نسخة همام بالإسناد)، ورده صاحب «عمدة القاري».
قلت: (الكرماني لم يجزم بذلك، وإنما قال: تعليق بصيغة التمريض؛ بناء على الظاهر أنه لم يطلع على ما ذكرنا) انتهى.
وزعم ابن حجر في «الانتقاض» فقال: (انظر وتعجب) انتهى.
قلت: لا نظر ولا تعجب في كلام إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»؛ لأنَّه قال الحق ورد الباطل، وإنما النظر والتعجب في كلام ابن حجر، فإنه قد استعجل القول بالخطأ ولم يلتفت إلى قوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ .. }؛ الآية [الشعراء: 183] فإن كلام الكرماني مبني على الظاهر؛ حيث لم يطلع على ما ذكره صاحب «عمدة القاري»، ولو اطلع عليه؛ لم يقل: إنَّه تعليق قطعًا، ألا ترى أن ابن حجر لو لم يطلع على ما ذكره إمام الشارحين؛ لقال: إنه تعليق بلا ريب، فالأدب ممدوح لا مذموم، والإنسان غير معصوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه زاد في رواية: (قال): (بينا)؛ بالألف بدون الميم، قال صاحب «عمدة القاري»: (أصله «بين» بدون ألف، زيدت الألف فيه؛ لإشباع الفتحة، والعامل فيه قوله: «فخرَّ» الآتي، وما قيل: إن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها؛ لأنَّ فيه معنى الجزائية؛ لأنَّ «بين» متضمن للشرط؛ فجوابه: لا نسلم عدم عمله سيما في الظرف؛ لأنَّ فيه توسعًا، والعامل «فخرَّ» مقدر، والمذكور مفسر له، وما قيل: إنَّ المشهور دخول «إذ» أو «إذا» في جوابه، فجوابه كما أن «إذا» تقوم مقام الفاء في جزاء الشرط؛ نحو قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]، كذلك تقوم الفاء مقام «إذا» في جواب «بين»، فبينهما معارضة) انتهى، (أيُّوب) اسم أعجمي، وهو ابن أموص بن رزاخ بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليهم السلام، وهذا هو المشهور، وقيل هو: ابن أموص بن رواح بن روم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وأمه بنت لوط عليه السلام، كذا في «عمدة القاري»، وهو النبيُّ المبتلى الصابر على بلائه؛ حيث أذهب الله أمواله وأولاده وكانوا سبعة بنين وسبع بنات، وابتلاه الله في ظاهر جسده بما يجوز على الأنبياء عليهم مدة سبع سنين، وقيل: ثماني عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، والأصح الأول وهو مع ذلك شاكر لله تعالى أوَّاب إليه، فرد الله تعالى عليه جميع ما أذهبه، قيل: بأعيانهم، وقيل: بأمثالهم، وهو الأظهر؛ لأنَّ فضل الله أوسع من ذلك؛ لما روي أن امرأته ولدت بعد البلاء ستة وعشرين ابنًا، قال في «عمدة القاري»: (وكانت منازله الثنية في أرض الشام والجابية من كورة دمشق، وكان الجميع له، ومقامه في حوران بقرية تعرف بدير أيُّوب، وقبره بها مشهور، وهي قرية قرب نوى عليه مشهد، وهناك قدمٌ في حجر يقولون: إنها أثر قدمه، وهناك عين يتبرك بها لما قيل إنها المذكورة في القرآن العظيم، وكان أعبد أهل زمانه) انتهى، وأكثرهم مالًا وكان لا يشبع حتى يشبع الجائع، ولا يكتسى حتى يكسي العاري، وكانت شريعته التوحيد وإصلاح ذات البين، وإذا طلب من الله حاجة؛ خرَّ له تعالى ساجدًا ثم طلب، صلى الله عليه وعلى نبينا النبي الأعظم وسلم.
قال صاحب «عمدة القاري»: (وعاش ثلاثًا وتسعين سنة) انتهى.
وقيل: خمسًا وتسعين، وقيل: مئتين، وقال القسطلاني: (إنه عاش ثلاثًا وستين سنة) انتهى.
قال العجلوني: إن كان مستنده قول الكرماني وكان عمره ثلاثًا وستين، ومدة بلائه سبع سنين، فقد يقال: لا دليل فيه لاحتمال أنه إخبار عنه حين اغتسل عريانًا أو حين ابتدأ بلاؤه؛ فليتأمل.
قلت: وهذا غير ظاهر؛ لأنَّ قول القسطلاني وكذا الكرماني يدل على أنه عليه السلام عاش بعد الاغتسال عريانًا، وبعد الابتلاء ثلاثًا وستين سنة، فكأنه ابتدأ البلاء فيه حين كان عمره ثلاثًا وعشرين، ومدة البلاء سبع سنين على الأصح فشفي فاغتسل، وبعد ذلك عاش ثلاثًا وستين، فكأن عمره ثلاثًا وتسعين سنة، وهو الأظهر، كما لا يخفى؛ فافهم.
وقوله: (يغتسل)؛ أي: من الجنابة، جملة في محل الرفع؛ لأنَّها خبر المبتدأ وهو قوله: (أيُّوب)، والمبتدأ وخبره جملة في محل جر بإضافة (بين) إليه، كذا في «عمدة القاري».
قلت: لأنَّ الصحيح أنها تضاف إلى الجمل وإن اتصلت بها الألف؛ لأنَّها إنَّما تكفها عن الإضافة إلى المفرد؛ فافهم.
(عُرْيانًا)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الراء، منصوب على الحال، مصروف؛ لأنَّه (فُعلان) بالضم بخلاف (فَعلان) بالفتح، كما عرف في موضعه، قاله في «عمدة القاري»، وجملة (فخر عليه جرادٌ)؛ بالرفع فاعل (خر)) (من ذهب) جواب (بينا)، و (خر) مضارعه يخر بالكسر والضم؛ أي: سقط عليه من أعلى إلى أسفل، وقيل: هو السقوط مطلقًا، كما في «القاموس»، والجَراد: بفتح الميم، جمع جرادة تقع على الذكر والأنثى، وليس الجراد بذَكَرٍ للجرادة، وإنما هو اسم جنس؛ كالبقر والبقرة، والتمر والتمرة، والحمام والحمامة، فحق مذكره ألا يكون مؤنثه من لفظه؛ لئلا يلتبس الواحد المذكر بالجمع، كذا في «الصحاح»، وقال ابن سيده: (الجراد معروف هو سروة، ثم دبًّا، ثم غوغاء، ثم خيفانًا، ثم كتفان، ثم جراد)، وقال أبو إسحاق: (أول ما يكون الجراد دبًّا، ثم غوغاء؛ إذا ماج بعضه في بعض، ثم يكون كنفانًا، ثم يصير خيفانًا، ثم يكون جرادًا)، وقيل: الجراد المذكر، والجرادة الأنثى، ومن كلامهم رأيت جرادًا على جرادة؛ كقولهم: رأيت نعامًا على نعامة، وقال ابن دريد: (سمي الجراد جرادًا؛ لأنَّه يجرد الأرض فيأكل ما عليها)، كذا في «عمدة القاري».
قال القسطلاني: (وهل كان جرادًا حقيقة ذا روح إلا أن اسمه ذهب، أو كان على شكل الجراد، وليس فيه روح)، قال في «شرح التقريب»: (والأظهر الثاني) انتهى.
قلت: بل هو المتعين؛ لأنَّ السقوط، والذهب، والحثيلا يكون لذي الروح، بل لما لا روح له؛ لأنَّه من الجمادات حينئذٍ؛ فافهم، ولأن ذا الروح لا يحثى للبركة، وإنما كان ينزل آية العذاب، فالقول الثاني هو المتعين؛ فليحفظ.
وعند المؤلف في (أحاديث الأنبياء): (رِجل من جراد)، وهي بكسر الراء؛ الجراد الكثير، (فجعل أيُّوب) عليه السلام (يَحْتَثِي)؛ بفتح التحتية، وسكون الحاء المهملة، بعد فوقية مفتوحة، وكسر المثلثة؛ يعني: يأخذ بيديه ويرمي (في ثوبه) وفي بعض النسخ: (يحثي)؛ بدون الفوقية؛ يعني: أنه بسط ثوبه وصار يحثي بيديه ويرى فيه، قال في «عمدة القاري»: (يحتثي) من باب (الافتعال) من الحَثْي بفتح المهملة، وسكون المثلثة، قال ابن سيده: (الحثي: ما رفعت به يديك، يقال: حثى يحثي ويحثو، والياء أعلى)، وفي «الصحاح»: (حثا في وجهه التراب يحثو ويحثي حثوًَّا وحثيًّا وتحثاءً، وحثوت له؛ إذا أعطيته شيئًا يسيرًا، ويقال: الحثية باليدين جميعًا
%ص 299%
عند أهل اللغة، وزعم ابن قرقول أنه يكون باليد الواحدة أيضًا) انتهى.
وقال ابن الملقن: (ذكر أهل اللغة أن الحثي باليدين جميعًا) انتهى.
وزعم ابن حجر أن الحثية هي الأخذ باليد الواحدة، انتهى.
قلت: وهو مخالف لما ذكره أهل اللغة.
وقال العجلوني: (هو محمول على ما قاله ابن قرقول، ويحتمل أن اليد للجنس).
قلت: وهو ممنوع، فإن الحمل على ما قاله ابن قرقول غير صحيح؛ لأنَّه قول شاذ لا يعتمد عليه بعد تصريح أهل اللغة أنه باليدين جميعًا.
وقوله: (ويحتمل ... ) إلخ هذا الاحتمال غير صحيح أيضًا؛ لأنَّ (أل) في (اليد) للعهد للقرينة الدالة عليه، وهي قوله: (الأخذ باليد)، فإرادة الجنس في كلام هذا القائل ممنوعة، وتمامه في «إيضاح المرام فيما وقع في الفتح من الأوهام»؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أنه وقع في رواية القابسي عن أبي زيد: (يحنى)؛ بنون في آخره بدل الثاء، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: (قلت: أمعنت النظر في كتب اللغة فما وجدت له وجهًا في هذا) انتهى.
وقال السفاقسي: (لم أجده في اللغة).
قلت: والظاهر: أنها تحريف من ابن حجر في النقل، ولم يلتفت إلى معناها، بل دأبه النقل من غير تعريض للمعنى؛ فافهم.
(فناداه ربه) سبحانه وتعالى: (يا أيُّوب) يحتمل أن يكون كلَّمه كما كلَّم موسى عليه السلام، وهو أولى بظاهر اللفظ، ويحتمل أن يرسل إليه ملَكًا، فسمي نداء بذلك، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ فافهم؛ (ألم أكن أَغنيتُك)؛ بفتح الهمزة، وبتاء المتكلم (عما ترى)؛ أي: من جراد الذهب؛ لأنَّ الله تعالى قد بسط عليه الدنيا وكانت له الثنية من أرض الشام كلها سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والحمير ما لا يكون لأفضل منه في العدة والكثرة، وكان له خمس مئة فدان يتبعها خمس مئة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، ويحمل آلة كل فدان أتان، لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة، وأعطاه الله أهلًا وولدًا من رجال ونساء، وكان برًّا تقيًّا رحيمًا بالمساكين يطعمهم، ويكفل الأرامل والأيتام، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، وتمامه في «البغوي»، (قال) أي: أيُّوب عليه السلام: (بلى؛ وعزتك)؛ أي: بل أغنيتني، قال الكرماني: (ولو قال في مثل هذه المواضع بدل «بلى» «نعم»؛ لا يجوز، بل يكون كفرًا)، قال إمام الشارحين: لأن (بلى) مختصة بإيجاب النفي، و (نعم) مقررة لما سبقها، والمراد في قوله تعالى: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]؛ أي: أنت ربنا، قال المفسرون: لو قالوا: نعم؛ لكفروا، والفقهاء لم يفرقوا بينهما في الأقارير؛ لأنَّ مبناها على العرف، ولا فرق بينهما في العرف, انتهى كلام «عمدة القاري»، قال في «القاموس»: (بلى) جواب استفهام معقود بالجحد يوجب ما يقال لك، و (نَعَم)؛ بفتحتين، وقد تكسر العين كلمة كـ (بلى) إلا أنه في جواب الواجب) انتهى، (ولكن لا غِنًى)؛ بكسر الغين المعجمة، مقصور منون مرفوع؛ بمعنى: (ليس)، والقصر بدون تنوين مبني بناء على أن (لا) لنفي الجنس، وزعم ابن حجر أنه بالقصر بلا تنوين على أن (لا) بمعنى: (ليس).
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا القائل لم يرد الفرق بين (لا) التي بمعنى: (ليس) وبين (لا) التي لنفي الجنس، فإذا كانت بمعنى (ليس)؛ فهو منون مرفوع، وإن كانت بمعنى: (لا) لنفي الجنس؛ يكون مبنيًّا على ما ينصب به ولا تنوين، ويجوز الوجهان هنا ولا فرق بينهما في المعنى؛ لأنَّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم.
وقال صاحب «الكشاف»: في أول البقرة قرئ: (لا ريبٌ) [البقرة: 2]؛ بالرفع والفرق بينها وبين القراءة المشهورة أنَّ المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه) انتهى كلامه رضي الله عنه.
وقد حاول العجلوني عبارة ابن حجر ورممها على زعمه فقال: وعبارة ابن حجر هكذا (لا غنى)؛ بالقصر بلا تنوين، ورويناه بالتنوين أيضًا على أن (لا) بمعنى (ليس)؛ انتهى، فزعم العجلوني أن يكون قوله: على أن (لا) بمعنى (ليس) بناء على أنهما روايتان ومعناهما واحد، لكن العاملة عمل (إن) تفيد الاستغراق نصًّا بخلاف مخبرها؛ فإنها تفيده ظهورًا، انتهى.
قلت: وهذا لا ينفعه؛ لأنَّه غير صحيح؛ لأنَّ قوله: (بناء على أنهما روايتان ... ) إلخ متوجه عليه الاعتراض المذكور؛ لأنَّه كما لا يخفى إذا كانت الرواية بدون تنوين؛ فتكون (لا) لنفي الجنس، وإن كانت الرواية بالتنوين؛ فتكون (لا) بمعنى (ليس)، ولم يفرق بينهما ابن حجر، بل جعل (لا) على الروايتين بمعنى: (ليس)، وهو غير صحيح، كما لا يخفى.
وقوله: (ومعناهما واحد) غير صحيح من حيث الإعراب، وإن كان صحيحًا من حيث المعنى، والكلام الآن في الإعراب، ومفاد كلامه أن ابن حجر بنى كلامه على المعنى لا على الإعراب وهو غير صحيح، فإن هذا حل إعراب لا حل معنى، على أنه فيه خلط المعنى بالإعراب.
وقوله: (لكن ... ) إلخ هذا وجه إفادة الجنس تارة ينفي استغراقًا، وتارة ظهورًا، وهو حل معنى الجنس ولا كلام فيه، وعلى كلٍّ؛ فقد أكثر العجلوني من المحاولة والمكابرة بالمحسوس، وكأن ابن حجر معصوم لا يطرأ عليه نقص ولا خطأ، فيتصدر إلى بيان ما أخلط وأخبط، وقال ولا يدري ما يقول، وهذا من شدة التعصب والتعنت؛ فافهم، ولا تكن من المتعصبين المتعنتين المطرودين؛ فافهم.
(بي) بالموحدة، وفي بعض النسخ باللام (عن بركتك)؛ أي: عن خيرك الكثير، فإن البركة كثرة الخير، كذا قاله في «عمدة القاري»، ثم قال: فإن قلت: خبر «لا» ما هو؟ هل هو لفظ «بي» أو «عن بركتك»؟ قلت: يجوز كلاهما، والمعنى صحيح على التقديرين، قال ابن بطال: (في حديث موسى وأيُّوب دليل على إباحة التعري في الخلوة للغسل وغيره بحيث يأمن أعين الناس؛ لأنَّهما من الذين أمرنا الله أن نقتدي بهداهم، ألا ترى أن الله عاتب أيُّوب على جمع الجراد، ولم يعاتبه على اغتساله عريانًا، ولو كلف الله عباده الاستتار في الخلوة؛ لكان في ذلك حرج على العباد إلا أنه من الأدب) انتهى.
قلت: ففيه: المطابقة للترجمة من حيث اغتساله عريانًا، لكن ليس فيه ذكر أنه كان وحده، كما ذكر في حديث موسى، لكنه أليق به للأدب، وفيه: دليل على أن ستر العورة مباح لا واجب، ولو كان واجبًا؛ لما فعله موسى وأيُّوب، ويدل لذلك معاتبة الله لأيُّوب في جمع الجراد، وعدم معاتبته في الاغتسال عريانًا، فلو كان واجبًا؛ لعاتبه، كما لا يخفى، وهو عام يشمل الخلوة، والصحراء، والبساتين عند الأنهار والبحور، كما لا يخفى.
وفيه: دليل على جواز الحرص على المال الحلال، وفيه: فضل الغني؛ لأنَّه سماه بركة، ومحال أن يكون أيُّوب عليه السلام أخذ هذا المال حبًّا للدنيا، وإنما أخذه، كما أخبر هو عن نفسه؛ لأنَّه بركة من ربه تعالى؛ لأنَّه قريب العهد بتكوين الله عز وجل، أو أنه نعمة جديدة خارقة للعادة، فينبغي تلقيها بالقبول، ففي ذلك شكر لها وتعظيم لشأنها، وفي الإعراض عنها كفر بها، وفيه: جواز الحلف بصفة من صفات الله تعالى، وفيه: فضل الكفاف على الفقر؛ لأنَّ أيُّوب عليه السلام لم يكن ذلك مفاخرة ولا مكاثرة، وإنما أخذه؛ ليستعين به فيما لا بد له منه، ولم يكن الرب عز وجل يعطيه ما ينقص به حظه، والله أعلم.
وهل الغني الشاكر أفضل أم الفقير الصابر أفضل؟ فيه خلاف والجمهور: على أن الأول أفضل؛ لأنَّه مؤدٍّ حقَّين لله تعالى؛ حق المال إلى الفقراء بالتصدق، وحق النعمة وهو الشكر لله عز وجل، وسيأتي بيانه.
(ورواه) أي: روى هذا الحديث المذكور (إبراهيم)؛ هو ابن طَهْمان _بفتح الطاء المهملة، وسكون الهاء_، الخرساني أبو سَعِيْد، مات بمكة سنة ثلاث وستين ومئة، (عن موسى بن عُقْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون القاف، وفتح الموحدة، التابعي، (عن صَفْوان)؛ بفتح الصاد المهملة، وسكون الفاء (بن سُلَيم)؛ بضمِّ السين المهملة، وفتح اللام، التابعي المدني أبو عبد الله، يقال: إنه لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة، وكان لا يقبل جوائز السطان، وقال أحمد: (يستنزل بذكره القطر)، مات بالمدينة عام اثنين وثلاثين ومئة، (عن عطاء) بالمد (بن يَسَار)؛ بفتح التحتية، وتخفيف السين المهملة، ضد اليمين، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه زاد في رواية: (قال): (بينا)؛ بالألف بدون الميم (أيُّوب) عليه السلام اسم أعجمي مبتدأ (يغتسل)؛ أي: من الجنابة، جملة محلها الرفع خبر (عُرْيانًا)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الراء، منصوب على الحال؛ أي: متجردًا عن ثيابه، ومن المئزر كما هو ظاهر اللفظ، وظاهره أنه لم يكن في خلوة؛ لما أن ستر العورة ليس بواجب في عندهم يومئذٍ؛ لأنَّه لو كان واجبًا؛ لما فعله، ولكان عاتبه ربه على تركه ...
%ص 300%
إلى آخر الحديث السابق.
قال في «عمدة القاري»: وقوله: (بينا أيُّوب ... ) إلخ بدل من الضمير المنصوب في قوله: (ورواه إبراهيم)، وهذه الرواية موصولة أخرجها النسائي عن أحمد بن حفص، عن إبراهيم، وأخرجه الإسماعيلي أيضًا، ولما ذكره الحميدي قال عطاء تعليقًا عن أبي هريرة، ثم قال: (لم يزد؛ يعني: البخاري على هذا اللفظ من رواية عطاء، وقد أخرجه ولم يذكر اسم شيخه وأرسله، وقال الكرماني: (وإنما أخر الإسناد عن المتن لعل له طريقًا أخرى غير هذا الطريق تركها، وذكره تعليقًا لغرض من الأغراض التي للتعليق)، وقوله: (ورواه إبراهيم) إشعار بهذا الطريق الآخر، وهذا أيضًا تعليق؛ لأنَّ البخاري لم يدرك عصر إبراهيم، لكنه نوع آخر منها، فلا يكون فيه تأخير الإسناد، وكذا لو قلنا: (وعن أبي هريرة) من تتمة كلامهما؛ فلا يكون تأخيرًا أيضًا؛ لأنَّه يكون مذكورًا للتقوية والتأكيد، ثم إن المحدثين كثيرًا منهم يذكر الحديث أولًا، ثم يأتي بالإسناد، لكن
==================
[1] في الأصل: (ينتظروه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (وكذلك)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (سلف)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (الفاء)، وليس بصحيح.
[5] زيد في الأصل: (من).
[6] في الأصل: (فرا)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (ناد)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (قالنا)، وليس بصحيح.
[9] (بعض): تكرر في الأصل.
[1] في الأصل: (ينتظروه)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (وكذلك)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (سلف)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (الفاء)، وليس بصحيح.
[5] زيد في الأصل: (من).
[6] في الأصل: (فرا)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (ناد)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (قالنا)، وليس بصحيح.
[9] (بعض): تكرر في الأصل.
(1/480)
(21) [باب التستر في الغسل عند الناس]
هذا (باب) حكم (التَّستُّر) بفتح الفوقية الأولى، وضم الثانية مع التشديد (في الغُسل) بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: من الجنابة وغيرها (عن) وفي رواية: (عند)، وفي أخرى: (من) (الناس) قال العجلوني: (وهذا الباب يقابل الباب السابق) انتهى.
قلت: الباب السابق ذكر فيه بيان الغسل عريانًا وحده مطلقًا، كما أشار إليه حديث موسى، وحديث أيُّوب، وهذا الباب ذكر فيه بيان الغسل بالسترة في حضرة الناس، وحكم التستر في الغسل من الناس؛ لأنَّ ما ذكره في الباب الأول حكم شريعة موسى وغيره من عدم وجوب ستر العورة عن الناس، ويذكر هنا أن سترها واجب، إذا علمت هذا؛ ظهر لك وجه المناسبة بين البابين، وظهر لك فساد ما قاله العجلوني؛ فافهم.
==========
%ص 301%
==================
(1/481)
[حديث: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل]
280# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن مَسَلَمَة)؛ بفتح الميم واللام، بينهما سين مهملة ساكنة، زاد ابن عساكر: (ابن قعنب)، (عن مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، (عن أبي النَّضْر)؛ بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، واسمه سالم بن أبي أمية (مولى عمر)؛ بدون الواو (بن عبيد الله)؛ بالتصغير، التابعي: (أن أبا مُرَّة)؛ بضمِّ الميم، وتشديد الراء (مولى أم هانئ)؛ بالنون وبهمزة في آخره، منونًا، زاد في رواية: (بنت أبي طالب)، وكنيت باسم ابنها، واسمها: فاختة، وقيل: عاتكة بالمهملة والفوقية، وقيل: فاطمة، وقيل: هند، وقيل: جمانة، وقيل: رملة، والأول هو المشهور، وهي أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خطبها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: والله إني لأحبك في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟ ولكني امرأة مصبية، فسكت رسول الله عليه السلام، أسلمت عام الفتح، وتقدم في باب (من قعد حيث ينتهي به المجلس) أن أبا مرة مولى عَقيل بن أبي طالب، وأجاب في «عمدة القاري»: (بأنه هو مولى أم هانئ، ولكن لشدة ملازمته وكثرة مصاحبته لعَقيل؛ نسب إليه، وقيل: كان مولى لهما) انتهى.
وزعم العجلوني بأن مولى أحد الفريقين قد يصير مولًى للآخر.
قلت: وهذا غير صحيح؛ لأنَّه إذا كان مولًى لأحدهما، كيف يكون مولًى للآخر؟ وما هذا إلا تناقض وخروج عن الدائرة؛ فافهم.
(أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب)؛ هو ابن عبد المطلب بن هاشم الهاشمية ابنة عم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (تقول)؛ بالفوقية، جملة محلها النصب على الحال: (ذهبت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عام الفتح)؛ أي: فتح مكة، وكان في رمضان سنة ثمان، (فوجدته) عليه السلام؛ بتاء المتكلم (يغتسل) جملة محلها النصب على أنها مفعول ثان لـ (وجدت)، واغتساله عليه السلام إنَّما كان عن جنابة كما هو الظاهر، وزعم العجلوني أنه لدخول مكة) انتهى.
قلت: هو يحتاج إلى دليل، وقرائن الأحوال تدل على أنه للجنابة؛ فافهم.
(وفاطمة)؛ أي: ابنته عليه السلام ورضي عنها (تَسْتُره)؛ بفتح الفوقية الأولى، وسكون المهملة، وضم الفوقية الثانية؛ أي: عن الناس، (فقال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يغتسل: (من هذه؟) قال في «عمدة القاري»: (يدل على أن الستر كان كثيفًا وعرف أيضًا أنها امرأة؛ لكون ذلك الموضع لا يدخل عليه فيه الرجال) انتهى، وهذا يقتضي أنه كان بعد نزول آية الحجاب.
(قلت) وفي رواية: (فقلت)؛ بتاء المتكلم: (أنا أم هانئ) ولما اتبعت أنا بأم هانئ؛ زال الالتباس، فلا يقال: كيف قالت: (أنا)، وقد جاء النهي عنه؛ لأنا نقول: إنه محمول على ما إذا لم يذكر بعده ما يزيل الالتباس.
قال في «عمدة القاري»: وفي الحديث: دليل على وجوب الاستتار في الغسل عن أعين الناس، فكما لا يجوز لأحد أن يبدي عورته لأحد من غير ضرورة، فكذلك لا يجوز له أن ينظر إلى فرج أحد، وهذا قول الإمام الأعظم، ومالك، والثوري، والشافعي، واختلفوا إذا نزع مئزره، ودخل الحوض، وبدت عورته عند دخوله، فقال الإمام الأعظم، والثوري: (لا تسقط شهادته بذلك ويعذر به؛ لأنَّه لا يمكن التحرُّز عنه)، وقال مالك والشافعي: (تسقط شهادته).
وأجمع العلماء على أن للرجل أن يرى عورة أهله وترى عورته، وفيه ما قال النووي: فيه: دليل على جواز اغتسال الإنسان بحضرة امرأة من محارمه إذا كان يحول بينه وبينها ساتر من ثوب أو غيره) انتهى.
قلت: وفيه: المطابقة للترجمة، كما لا يخفى، والمراد بسقوط الإزار المذكور أنه إذا سقط من غير تعمُّد واستتر فورًا؛ لا إثم عليه، ولا ترد به شهادته، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والشافعي، والثوري، وقد نقل ابن بطال عن الشافعي: (أنه إذا بدت عورته عند دخول الحوض؛ ترد شهادته)، فاعترضه العجلوني بأن مذهب الشافعي: (أنه إذا سقط من غير تعمد واستتر فورًا؛ لا إثم عليه، ولا ترد شهادته)، والعجب من عدم اعتراضه كالكرماني عليه؛ فاعرفه.
قلت: لا عجب في عدم الاعتراض، فإنه ليس جميع المؤلفين مثلك في التعصب والتعنت، وما قاله ابن بطال وإن كان مطلقًا إلا أن المراد به التقييد المذكور؛ لأنَّه لو استتر فورًا وكان سقط إزاره من غير تعمد؛ لا يسع أحدًا أن يقول بتأثُّمه ورد شهادته، فالكرماني لا ريب أنه أعلم وأحرى للأحكام من هذا القائل؛ فاعرفه فافهم، والله أعلم.
==========
%ص 301%
==================
(1/482)
[حديث: سترت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل من الجنابة]
281# وبه قال: (حدثنا عبدان)؛ هو لقب عبد الله العتكي (قال: أخبرنا عبد الله)؛ هو ابن المبارك (قال: حدثنا)، وفي رواية: (أخبرنا) (سفيان)؛ هو الثوري، وقال الكرماني: (هو ابن عيينة)، وقدمنا في أول أبواب (الغسل) ما يرجح الأول، لا يقال: الالتباس في أحدهما يقدح في الحديث؛ لأنا نقول: لا قدح؛ لأنَّ كلًّا منهما على شرط المؤلف؛ فافهم، (عن الأعمش) هو سليمان بن مهران، (عن سالم بن أبي الجَعْد) بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، (عن كُريب) بضمِّ الكاف؛ مصغرًا، مولى ابن عباس، (عن ابن عباس)؛ هو عبد الله رضي الله عنهما، (عن) خالته (مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، أم المؤمنين بنت الحارث رضي الله عنها (قالت: سترت النبيَّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: بثوب (وهو يغتسل من الجنابة) جملة اسمية محلها النصب على الحال، وزعم العجلوني أن هذا الحديث مر في باب (من أفرغ بيمينه على شماله) بلفظ: (وسترته)، فالضمير فيه عائد إلى النبيِّ عليه السلام بدليل ما هنا من التصريح بقولها: (سترت النبيَّ عليه السلام)، وبه يظهر ما قلناه هناك من المناقشة مع الشراح؛ حيث جعلوه عائدًا على الإناء الذي دل عليه (غسلًا) المتقدم، والعجب منهم حيث غفلوا عما هنا أو أهملوه) انتهى.
قلت: حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء، فإن الشراح لم يغفلوا ولم يهملوه؛ لأنَّ لفظ الحديث هناك: (قالت ميمونة: وضعت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غسلًا وسترته)، زاد في باب (نفض اليدين بثوب)، والقاعدة: أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فيتعين أن يكون الضمير عائدًا على الإناء الذي فيه الماء؛ لأنَّ قولها: (غُسلًا)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ الماء الذي يغتسل به؛ يعني:
%ص 301%
أنها وضعت الماء في الإناء وسترته خوفًا من وقوع شيء فيه يفسده؛ لأمره عليه السلام بتغطية الأواني.
فقوله: (فالضمير ... ) إلخ ليس بشيء، بل يتعين هناك أن يكون الضمير عائدًا على الإناء؛ لأنَّه أقرب مذكور، وللعلة المذكورة.
وقوله: (بدليل ... ) إلخ ممنوع؛ فإن ما هنا لا يدل على ما ذكر هناك؛ لأنَّ القصة مختلفة وإن كان الراوي واحدًا؛ لأنَّ الاغتسال متعدد ضرورة، فهذا لا يدل على ما قاله أصلًا.
وقوله: (وبه ظهر ... ) إلخ ممنوع، بل ظهر شذوذ ما قاله؛ فالمناقشة التي ذكرها مردودة عليه؛ لأنَّها عن غير دليل، وقد أوضحت المقام هناك؛ فارجع إليه إن شئت.
وقوله: (والعجب ... ) إلخ لا عجب منهم، ولا غفلة، ولا إهمال، فإن الشراح منهم حفاظ، ومنهم متقنون، فوقوع الغفلة منهم بعيد جدًّا، بقي الإهمال؛ فإنما أهملوه حيث إنه لم يدل عليه ما هناك؛ لاختلاف القصة، كما لا يخفى، والعجب من هذا القائل كيف تثبت في ذهنه ذلك وهو بعيد جدًّا؛ لعدم الدليل عليه، وما استدل به؛ فهو غير صحيح، فزاد في الطنبورة نغمة، وفي الشطرنج جملًا، والله تعالى أعلم.
(فغسل يديه)؛ أي: إلى الرسغين، (ثم صب) أي: الماء (بيمينه على شماله فغسل فرجه) أي: القبل والدبر وما حولهما، (و) غسل (ما أصابه) أي: من البول والمني وغيرهما، (ثم مسح بيده) بالإفراد (على الحائط أو الأرض)؛ بالشك من ميمونة، كما مر، وفي رواية: (بيده الحائط) من غير شك، (ثم توضأ وضوءه للصلاة)؛ أي: الوضوء المفروض بأن أتى بسننه وآدابه (غير رجليه) فإنه أخَّر غسلهما؛ لأنَّهما في مستنقع الماء المستعمل، (ثم أفاض) من الإفاضة؛ وهي الإسالة؛ أي: أسال (على جسده الماء)؛ أي: على رأسه، وما نزل عنه، فعمم جميع جسده، وتكفي المضمضة والاستنشاق في الوضوء عن الغسل؛ لأنَّ السنة تنوب عن الفرض كما تقدم، (ثم تنحَّى)؛ أي: تباعد عن مكانه الذي اغتسل فيه إلى مكان آخر نظيف، (فغسل قدميه)؛ أي: رجليه تحرُّزًا عن الماء المستعمل، وليكون البدء والختم بأعضاء الوضوء، ومطابقة الحديث للترجمة في قولها: (سترت النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم).
قال في «عمدة القاري»: (وقد قلنا: إن البخاري ذكر حديث ميمونة هذا في ثمانية مواضع، وهذا هو الثامن، وقد تقدم هذا في أول الغسل، غير أن بينه وبين سفيان الثوري اثنين؛ أحدهما: هو شيخه عبدان، والآخر: ابن المبارك، وقد ذكرنا فيه من أنواع ما يتعلق به مستقصًى؛ فافهم).
(تابعه) أي: تابع سفيان الثوري (أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة، وتخفيف الواو؛ هو الوضاح اليشكري في الرواية عن الأعمش، وقد ذكر البخاري هذه المتابعة في باب (من أفرغ بيمينه)، (وابن فضيل) أي: وتابعه أيضًا محمَّد بن فضيل في الرواية عن الأعمش، وروايته موصولة في «صحيح أبي عَوانة» البصري؛ كلاهما (في الستر) وفي بعض النسخ: (في التستر)؛ أراد: تابعا سفيان في لفظ: (سترت النبيَّ عليه السلام) لا في بقية الحديث، ووقع ذكر الستر أيضًا في هذا الحديث من رواية أبي حمزة عند المؤلف، ومن رواية زائدة عند الإسماعيلي، وقدمنا ما يتعلق بهذا الحديث مستوفًى، والله أعلم.
==================
(1/483)
(22) [باب إذا احتلمت المرأة]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين؛ يذكر فيه ما يكون من الحكم (إذا احتلمت المرأة)؛ أي: الاحتلام من الحلم، وهو عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء يقال: حَلَم؛ بالفتح، إذا رأى وتحلم إذا ادعى الرؤيا كاذبًا، وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في كل منهما حكم الاغتسال من الجنابة.
فإن قلت: حلم الرجل إذا احتلم مثل حلم المرأة، فما وجه تقييد هذا الباب بالمرأة وتخصيصه بها؟
قلت: الجواب عنه بوجهين:
أحدهما: أن صورة السؤال كانت في المرأة، فقيَّد الباب بها؛ لموافقة صورة السؤال.
والثاني: فيه الإشارة إلى الرد على من منع منه في حق المرأة دون الرجل، فنبه على أن حكم المرأة كحكم الرجل في هذا الباب، ألا ترى كيف قال صلَّى الله عليه وسلَّم في جواب أم سُليم: المرأة ترى ذلك أعليها الغسل؟ [قال] «نعم؛ إنَّما النساء شقائق الرجال»، رواه أبو داود؛ والمعنى: أن النساء نظائر الرجال وأمثالهم في الأخلاق والطباع، كأنهن شققن منهم، وحواء عليها السلام خلقت من آدم عليه السلام، والشقائق جمع شقيقة؛ ومنه: شقيق الرجل، وهو أخوه لأبيه وأمه، ويجمع على أشقَّاء أيضًا بتشديد القاف، ونسب منع هذا الحكم في المرأة إلى إبراهيم النخعي على ما روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عنه ذلك بإسناد جيد، فكأن النووي لم يقف على هذا، فاستبعد صحته عنه، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»؛ فافهم.
==========
%ص 302%
==================
(1/484)
[حديث: نعم إذا رأت الماء]
282# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، (عن هِشام) بكسر الهاء (بن عُروة)؛ بضمِّ العين المهملة، (عن أبيه): هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن زينب بنت أبي سَلَمَة)؛ بفتح السين المهملة، وفتح اللام، والميم، واسمه عبد الله بن عبد الأسد المخزومي أحد السابقين أخو النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من الرضاعة، وذكر المؤلف هذا الحديث في باب (الحياء في العلم)، وفيه زينب بنت أم سَلَمَة فنُسِبت زينب هناك إلى أمها وهنا إلى أبيها، فزينب هي أخت سَلَمَة، فكنى كل واحد من أم زينب وأبيها بسَلَمَة، فلذلك تنسب زينب تارة إلى أبيها ببنت أبي سَلَمَة، وتارة إلى أمها ببنت أم سَلَمَة والمعنى واحد، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، (عن أم سَلَمَة) وهي هند بنت أبي أمية، واسمه: حذيفة، وقيل: سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أم المؤمنين زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكانت قبله عند أبي سَلَمَة المذكور (أنها قالت) أي: أم سَلَمَة: (جاءت أم سُلَيم)؛ بضمِّ السين المهملة، وفتح اللام؛ مصغرًا، واختلف في اسمها، فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: رميسة، وقيل: مليكة، وقيل: الغميصاء، والأول هو المشهور، وقيل: الرميصاء، وأنكره أبو داود، وقال: الرميصاء أختها، وعند ابن سعد: (أنيفة)، وأنكره ابن حبان، وأم سليم هي بنت ملحان الخزرجية النجارية والدة أنس بن مالك، كانت فاضلة دينة، أسلمت مع السابقين من الأنصار، وكان عليه السلام يزورها فتتحفه بشيء تصنعه له ولأصحابه في كل جمعة رضي الله عنها، (امرأة أبي طلحة) بدل من (أم سُليم)، أو عطف بيان، أو خبر لمبتدأ محذوف، واسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري النقيب كبير القدر، بدري مشهور رضي الله تعالى عنه (إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) لأجل لأنَّ تسأله.
قال في «عمدة القاري»: (وهذا الحديث أخرجه الستة، واتفق الشيخان على إخراجه من طرق عن هشام بن عروة، عن أم سَلَمَة، ورواه أبو داود عن الزُّهري، قال: قال عروة عن عائشة: (أن أم سُليم ... )؛ الحديث، وأخرجه مسلم من طريق الزُّهري عن عائشة، وكذلك رواه أبو عقيل، والزبيدي، ويونس، وابن أخي الزُّهري، وابن أبي الوزير، عن مالك، عن الزُّهري، ووافق الزُّهري مسافع الحجبي، قال: عن عروة، عن عائشة، وأما هشام بن عروة؛ فقال عن عروة، عن زينب بنت أبي سَلَمَة، عن أم سَلَمَة: أن أم سُليم).
قال القاضي عياض عن أهل الحديث: (إنَّ الصحيح أن القصة وقعت لأم سَلَمَة لا لعائشة)، ونقل ابن عبد البر عن الذهلي [1] أنه صحح الروايتين.
قال صاحب «عمدة القاري»: (قلت: قول عياض يرجح رواية هشام بن عروة، وقول أبي داود عن مسافع يرجح رواية الزُّهري).
وقال النووي: (يحتمل أن تكون عائشة وأم سَلَمَة جميعًا أنكرتا على أم سُليم) انتهى.
قلت: وأخرج مسلم عن أنس قال: (جاءت أم سُليم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت له وعائشة عنده ... )؛ فذكر نحوه، وروى أحمد عن أم سُليم وكانت مجاورة لأم سَلَمَة، فقالت أم سُليم: (يا رسول الله؛ ... )؛ الحديث، وفيه: أن أم سَلَمَة هي التي راجعتها، وهذا يقوي رواية هشام،
%ص 302%
ويمكن الجمع بما قاله النووي، وعلله ابن حجر: (بأنه لا يمتنع حضور عائشة وأم سُليم عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مجلس واحد) انتهى.
قلت: وهو غير ظاهر، بل يمتنع ذلك؛ لأنَّ عائشة قد سألته عليه السلام حين كان في بيتها في نوبتها، وأم سُليم كذلك؛ لأنَّ القصة مختلفة، كما لا يخفى.
وقال النووي في «شرح المهذب»: (والجمع بين الروايات أن يقال: بأن أنسًا، وعائشة، وأم سَلَمَة حضروا القصة) انتهى.
قلت: أي: حضر كل واحد قصة سؤال نفسه دون غيره.
وزعم ابن حجر أن الذي يظهر أن أنسًا لم يحضر القصة، وإنما تلقى ذلك من أمه أم سُليم، وفي «صحيح مسلم» ما يشير إليه.
قلت: هذا غير ظاهر، بل أنس سأل ذلك من النبيِّ عليه السلام؛ لأنَّه كان كثير [2] الملازمة له، فكيف يتصور أنه يسأل أمه ويترك سؤال النبيِّ عليه السلام؟
وقوله: (وفي «صحيح مسلم» ... ) إلخ، والذي في «صحيح مسلم» يدل على أن أنسًا سأل ذلك منه عليه السلام، وليس فيه أنه لم يحضر القصة وأنه تلقى من أمه.
وروى أحمد عن ابن عمر قال: جاءت أم سُليم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو لا يدل على أنه تلقَّى ذلك منها، بل هو إخبار عنها بالسؤال المذكور، ولا ريب أن القصة متعددة، ويدل لذلك ما رواه النسائي، وأحمد، وابن ماجه: أن خولة بنت حكيم قد سألت هذا السؤال، وعند الطبراني: أن السائلة سهلة بنت سهل، وعند ابن أبي شيبة: أن السائلة سبرة بنت صفوان، فهذا يدل على اختلاف القصة وتعددها، وزعم العجلوني أنه لا مانع من الجمع) انتهى.
قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّ السؤال وإن كان واحدًا إلا أن السائل متعدد مختلف، وبعيد أن يكونوا جميعًا قد حضروا مجلسه عليه السلام؛ لأنَّ في السائلين أنسًا [3] وابن عمر، وهما لا يمكن حضورهما بين النساء في حضرته عليه السلام، ولا في غيرها، فثبت أن القصة متعددة، كما لا يخفى؛ فافهم.
(فقالت) أي: أم سُليم: (يا رسول الله؛ إن الله تعالى) وقوله: (لا يستحي) جملة محلها الرفع خبر (إنَّ) وهو باليائيين على الأفصح (من الحق) ضد الباطل؛ أي: لا يمتنع من ذكره، أو لا يأمر بالحياء فيه؛ لأنَّه محال على الله عز وجل؛ لأنَّه تغير وإنكسار يعتري الإنسان عند خوف ما يعاب أو يذم، فكذا أنا لا أمتنع من سؤالي عما أنا محتاجة إليه مما يستحي النساء عادة من السؤال عنه؛ لأنَّ نزول المني منهن يدل على شدة شهوتهن للرجال، فيكون قولها هذا تمهيدًا لعذرها في ذكر ما يستحي منه، والمراد به معناه اللغوي؛ لأنَّ الحياء الشرعي كله خير، وإذا كان الحياء محالًا على الله عز وجل؛ يكون جاريًا على سبيل الاستعارة التبعية التمثيلية [4]، كما في حديث سلمان، قال عليه السلام: «إن الله حيي [5] كريم يستحي إن رفع [6] العبد يديه أن يردهما صفرًا حتى يضع فيهما خيرًا»، وقال ابن دقيق العيد: (قيل: لا يحتاج إلى التأويل في النفي، بل في الإثبات، لكن لما كان المفهوم يقتضي أنه يستحي من غير الحق رجع إلى الإثبات، فاحتيج إلى تأويله؛ فتأمل)، (هل) للاستفهام يجب (على المرأة) وكذا على الرجل؛ لأنَّ حكمه عليه السلام على الواحد كحكمه على الجماعة إلا إذا دل دليل على التخصيص؛ فليحفظ، (من غسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وفي رواية بفتحها، وكلمة (من) زائدة في المبتدأ أو الفاعل؛ لوجود شرطها، وقد سقطت عند المؤلف في (الأدب)، وثبتت في باب: (الحياء في العلم)، (إذا هي احتلمت)؛ أي: الاحتلام، (افتعال) من الحُلُم؛ بضمِّتين [7]، وقد تسكن اللام؛ وهو ما يراه النائم في منامه، يقال منه: حلَم؛ بالفتح، واحتلم.
زعم ابن حجر أن المراد به هنا: أمر خاص منه؛ وهو الجماع، انتهى.
قلت: وهو قاصر؛ لأنَّه لا يشمل رؤية الماء، والتحقيق أن المراد منه الأعم، وقد رأيت العجلوني اعترض على ابن حجر في كلامه هذا، فقال: الظاهر أن المراد أعم منه، وإن كان في بعض روايات الحديث التقييد بذلك، فعند أحمد عن أم سَلَمَة أنها قالت: (يا رسول الله؛ إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟).
قلت: لكن أكثر الروايات الإطلاق حتى عند أحمد، فقد نقل عنه صاحب «عمدة القاري» أن أم سَلَمَة قالت: (يا رسول الله؛ إذا رأت إحداكنَّ الماء كما يرى الرجل أتغتسل؟).
(فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «نعم»)؛ أي: وجب عليها الغسل؛ (إذا رأت الماء)؛ أي: المني بعد استيقاظها من النوم، فـ (رأى) بصرية، فتتعدى لواحد، وتحتمل أن تكون قلبية، فتتعدى لمفعولين والمفعول الثاني محذوف؛ أي: إذا رأت الماء موجودًا مثلًا، فلو رأت نزول ماء منامًا ولم تره بعد الاستيقاظ؛ لا غسل عليها.
وقال في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر: (إنَّ الصواب حمل الرواية على ظاهرها من أنها بصرية).
وقال الإمام كمال الدين ابن الهمام: (والمراد بالرؤية العلم سواء اتصلت به رؤية البصر أم لا، فإن من تيقنت الإنزال بعد الاستيقاظ، ثم جف ولم تر شيئًا بعينها؛ لا يسع أحدًا القول بعدم الغسل مع أنها لم تر شيئًا ببصرها) انتهى.
وعبارة «عمدة القاري»: (وفيه: رد على من زعم أن ماء المرأة لا ينزل، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها، وحمل قوله: (إذا رأت الماء)؛ أي إن أعلمت به؛ لأنَّ وجود العلم هنا متعذر؛ لأنَّ الرجل لو رأى أنه جامع وعلم أنه أنزل في النوم، ثم استيقظ فلم ير بللًا؛ لم يجب عليه الغسل، فكذلك المرأة، وإن أراد علمها بعد ذلك أن استيقظت؛ فلا يصح؛ لأنَّه لا يستمر في اليقظة ما كان في النوم إلا إن كان عن مشاهدة، فحمل الرؤية على ظاهرها هو الصواب) انتهى.
وقال القسطلاني: (الظاهر: أنها هنا بصرية)، ونقل عن أبي حيان: (أن حذف أحد مفعولي (رأى) وأخواتها عزيز، وقد قيل في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم} [آل عمران: 180]؛ أي: البخل خيرًا لهم، وأما حذفهما جميعًا؛ فجائز اختصارًا؛ ومنه قوله تعالى: {أَعِندَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم: 35]) انتهى.
وقال ابن المُنْذِر: (أجمع كل من يحفظ عنه العلم أن الرجل إذا رأى في منامه أنه احتلم أو جامع ولم يجد بللًا؛ أن لا غسل عليه).
واختلفوا فيمن رأى بللًا ولم يتذكر احتلامًا، فقالت طائفة: يغتسل، روينا ذلك عن ابن عباس، والشعبي، وسَعِيْد بن جبير، والنخعي، وقال أحمد: (أحب إليَّ أن يغتسل به إلا رجل به أبردة)، وقال أبو إسحاق: (يغتسل؛ إذا كانت بلة نطفة)، وروينا عن الحسن أنه قال: (إذا كان انتشر إلى أهله من أول الليل فوجد من ذلك بلة؛ فلا غسل عليه، وإن لم يكن كذلك؛ اغتسل).
وفيه قول ثالث وهو: أنه لا يغتسل حتى يوقن بالماء الدافق هكذا، قال مُجَاهِد: وهو قول قتادة.
وقال مالك، والشافعي، وأبو يوسف: (يغتسل إذا علم بالماء الدافق)، وقال الخطابي: (ظاهره يوجب الاغتسال إذا رأى البلة، وإن لم يتيقن أنه الماء الدافق)، وروي هذا القول عن جماعة من التابعين، وقال أكثر أهل العلم: (لا يجب عليه الاغتسال؛ حتى يعلم أنه بللُ الماء الدافق) انتهى.
قلت: واتفق أصحاب الإمام الأعظم على أنه لا يجب الغسل إذا انفصل المني عن مقره بشهوة إلا إذا خرج على رأس الذكر، وإنما الخلاف في أنه هل يشترط مقارنة الشهوة الخروج؟
فعند الإمام الأعظم والإمام محمَّد: لا يشترط ذلك، وعند الإمام أبي يوسف: يشترط، فلو انفصل المني عن مقره بشهوة وخرج من غير دفق بأن أمسك ذكره حتى سكنت شهوته؛ وجب الغسل عندهما لا عنده، وفي «القهستاني»، و «التاترخانية»: وبقوله نأخذ في الضيف وغيره؛ لأنَّه أيسر على المسلمين، وبه أخذ أبو الليث، وخلف بن أيُّوب، وعليه الفتوى كما في «جامع الفتاوى»، لكن اختار الجمهور التفصيل وهو أن الفتوى على قوله في الضيف إذا احتلم مثلًا ويستحي من أهل البيت، أو خاف أن يقع في قلبهم ريبة _أي: تهمة_بأن طاف حول أهل بيتهم، وعلى قولهما في غيره كما في «السراج»، و «شروح الملتقي»، و «البحر»، و «النهر»، و «المستصفى»، وقد ذكروا: أن قوله قياس، وقولهما استحسان، وأنه الأحوط والعمل والفتوى على الاستحسان، فينبغي الإفتاء بقوله في مواضع الضرورة فقط؛ فليحفظ.
قال الإمام ابن نُجَيم في «بحره»: (وحاصل مسألة اثنا عشر وجهًا؛ لأنَّه إما أن يتيقن أنه مني، أو مذي، أو ودي، أو يشك في الأول مع الثاني، أو في الأول مع الثالث، أو في الثاني مع الثالث؛ فهذه ستة، وفي كل منها: إما أن يتذكر الاحتلامأو لا، فتم [8] الاثنا عشر؛ فيجب الغسل اتفاقًا فيما إذا تيقن أنه متى تذكر احتلامًا أو لا، وكذا فيما إذا تيقن أنه مذي، وتذكر الاحتلام أو شك أنه مني، أو مذي، أو شك أنه مني، أو ودي، أو شك أنه مذي، أو ودي وتذكر الاحتلام في الكل، ولا يجب الغسل اتفاقًا فيما إذا تيقن أنه ودي مطلقًا تذكر الاحتلام أو لا، أو شك أنه مذي، أو ودي ولم يتذكر، أو تيقن أنه مذي ولم يتذكر، ويجب الغسل عند الإمام الأعظم، والإمام محمَّد لا عند الإمام أبي يوسف فيما إذا شك أنه مني، أو مذي، أو شك أنه مذي،
%ص 303%
أو ودي ولم يتذكر احتلامًا فيهما، والمراد بالتيقُّن هنا: غلبة الظن؛ لأنَّ حقيقة اليقين متعذرة مع النوم) انتهى كلامه.
وقوله: (أقَيْس وقولهما استحسان وعليه الفتوى) احتياطًا، وقال في «الفتاوى»: (الخلاصة: ولسنا نوجب الغسل بالمذي، ولكن المني قد يرق بطول المدة فتصير صورته كصورة المذي) انتهى أي: لا حقيقته.
وقال في «شرح المنية»: وإن استيقظ فوجد في إحليله بللًا ولم يتذكر حلمًا إن كان ذكره منتشرًا قبل النوم؛ فلا غسل عليه وإن كان ساكنًا؛ فعليه الغسل، هذا إذا نام قائمًا أو قاعدًا، أما إذا نام مضطجعًا أو تيقن أنه مني؛ فعليه الغسل وهو مذكور في «المحيط» و «الذخيرة».
وقال شمس الأئمَّة الحلواني: (هذه المسألة يكثر وقوعها والناس عنها غافلون)، ومشى على هذا العلامة الشرنبلالي في «الإمداد» وغيره، وذكر مثله في «الجواهر»، ودرج عليه شراح «الملتقى»؛ فافهم.
قال في «الحلية»: (الفرق بين النوم قائمًا أو قاعدًا، وبين النوم مضطجعًا غير ظاهر، والوجه الإطلاق؛ إذ لا يظهر بينهما افتراق).
قال في «منهل الطلاب»: (والظاهر: أن الفرق بينهما من حيث إن النوم مضطجعًا سبب للاسترخاء والاستغراق وهو سبب للاحتلام بخلاف النوم قائمًا أو قاعدًا؛ لعدمهما فيه عادة؛ فتأمل، والمرأة مثل الرجل في ظاهر المذهب؛ فليحفظ) انتهى.
وقال في «البحر»: لو احتلمت المرأة ولم يخرج الماء إلى ظاهر فرجها، فعن الإمام محمَّد: يجب الغسل، وفي «ظاهر الرواية» عن الإمام الأعظم: لا يجب؛ لأنَّ خروج منيها إلى فرجها الخارج شرط لوجوب الغسل عليها، وعليه الفتوى، كذا في «المعراج»، وحرر ابن الهمام في «فتح القدير» وقال: إنه الحق الاتفاق على تعليق وجوب الغسل بوجود المني في احتلامها، والقائل بوجوبه في هذه الخلافية إنَّما يوجبه على وجوده وإن لم تره، فالمراد بعدم الخروج في قولهم: ولم يخرج منها لم تره خرج؛ فعلى هذا: لا وجه لوجوب الغسل بوجود المني في احتلامها في الخلافية.
ورده في «شرح المنية» بأن هذا لا يفيد وجوب الغسل في المسألة الخلافية، فإن ظاهر الرواية لا يجب عليها الغسل، وبه أخذ شمس الأئمَّة الحلواني، وقال في «الخلاصة»: (وهو الصحيح ... ) إلى آخر كلامه؛ فافهم.
وقال ابن عبد البر: (في الحديث: دليل على أن النساء ليس كلهن يحتلمن، وإنما أنكرت عائشة ذلك إما لصغر سنها وكونها مع زوجها؛ لأنَّها لم تحض عنده ولم تفقده فقدًا طويلًا إلا بموته عليه السلام، فلذلك لم تعرف في حياته الاحتلام؛ لأنَّه لا تعرفه النساء ولا أكثر الرجال إلا عند عدم الرجال بعد المعرفة به، فإذا فقدت النساء أزواجهن؛ احتلمن، والوجه الأول عندي أصح وأولى؛ لأنَّ أم سَلَمَة فقدت زوجها وكانت كبيرة عالمة بذلك، وأنكرت منه ما أنكرت عائشة، فدل على أن من النساء من لا ينزل الماء منها في غير الجماع الذي يكون في اليقظة) انتهى.
قال صاحب «عمدة القاري»: (ولقائل أن يقول: إن أم سَلَمَة أيضًا تزوجت أبا سَلَمَة شابة، ولما توفي عنها زوجها؛ تزوجها سيد المرسلين عليه السلام لا سيما مع شغلها بالعبادة وشبهها التي هي وجاء لغيرها، أو تكون قالته إنكارًا على أم سَلَمَة؛ لكونها واجهت به سيدنا رسول الله عليه السلام، ويوضحه: فقالت أم سَلَمَة: وغطت وجهها، ثم قال: وفي رواية أبي داود: (أن أم سليم قالت: يا رسول الله؛ إن الله لا يستحي من الحق، أرأيت امرأة إذا رأت في النوم ما يرى الرجل أتغتسل أو لا؟ قالت عائشة: فأقبلت عليها فقلت: أف لك وهل ترى ذلك المرأة؟ فأقبل علي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «تربت يمينك يا عائشة، ومن أين يكون الشبه؟»)، وعند المؤلف في باب: (الحياء في العلم) بعد قوله: «إذا رأت الماء» فغطت أم سَلَمَة _تعني: وجهها_ وقالت: (يا رسول الله؛ أوَ تحتلم المرأة؟) قال: «نعم؛ تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها؟»، وفي لفظ له بعد قوله: (إذا رأت الماء) فضحكت أم سَلَمَة فقالت: (أوَ تحتلم المرأة؟) فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «فبم شبه الولد؟»، وفي لفظ: قالت أم سَلَمَة: (فقلت فضحكت النساء)، وعند مسلم من حديث أنس: أن أم سُليم حدثت أنها سألت النبيَّ صلى الله عليه [وسلم]، وعائشة عنده: (يا رسول الله؛ المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام، ومن نفسها ما يرى الرجل من نفسه)، فقالت عائشة: (يا أم سُليم)؛ فضحكت النساء (تربت يمينك)، فقال لعائشة: «بل أنت تربت يمينك نعم؛ فلتغتسل يا أم سليم».
وفي لفظ: فقالت أم سُليم: (واستحييت من ذلك وهل يكون هذا؟) قال: «نعم؛ ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، أيهما علا أوسبق يكون منه الشبه».
وفي لفظ: فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا كان منها ما يكون من الرجل؛ فلتغتسل».
وفي لفظ: قالت عائشة: (فقلت لها: أف لك، أترى المرأة ذلك؟)
وفي لفظ: (تربت يداك)، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «دعيها، تربت يمينك»، قالت: (وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك إذا علا ماؤها ماء الرجل؛ أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها؛ أشبه أعمامه).
وفي لفظ أبي داود: (أتغتسل أم لا؟) فقال: «فلتغتسل إذا وجدت الماء».
وفي لفظ: (المرأة عليها غسل؟) قال: «نعم؛ إنَّما النساء شقائق الرجال».
وفي لفظ النسائي: (فضحكت أم سَلَمَة).
وعند ابن أبي شيبة: (فقال: هل تجد شهوة؟) قالت: (لعله) قال: «هل تجد بللًا» قال: ولعله قال: «فلتغتسل»، فلقيتها النسوة فقلن: فضحتينا عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقالت: (والله ما كنت لأنتهي حتى أعلم في حل أنا أم في حرام).
وعند الطبراني في «الأوسط»: (قلت: يا رسول الله؛ أنت تقربني إلى الله أحببت أن أسألك عنه، قال: «أصبت يا أم سُليم»؛ فقلت الحديث).
وعند البزار: (فقالت أم سَلَمَة: وهل للنساء من ماء؟ قال: «نعم؛ إنَّما هن شقائق الرجال»).
وعند ابن عمر: (إذا رأت ذلك فأنزلت؛ فعليها الغسل، فقالت: أم سُليم: أيكون هذا؟).
فإن قلت: قد جاء عن [أم] سَلَمَة: (فضحكت)، وجاء: (فغطت وجهها) فما التوفيق بينهما؟
قلت: معنى (فضحكت): تبسمت تعجبًا، و (غطت وجهها) حياء، ومعنى (تربت يمينك) في الأصل: لا أصابت خيرًا غير أن في لسان العرب ذلك وأمثالها، ويراد به المدح، وفي «أدب الخواص» لأبي القاسم: (معنى «تربت يمينك»؛ أي: افتقرت من العلم بما سألت عنه أم سُليم)، وفي «المحكم»: ترب الرجل صار في يده التراب، قال تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]؛ أي: لا يملك إلا التراب، وترب تربًا؛ لصق بالتراب من الفقر، وترب تربًا وتربة؛ خسر وافتقر، وحكى قطرب: (ترب وأترب)، كذا ذكره في «عمدة القاري»، وفيه قوله: (وآلت) بعد قوله: (تربت يمينك)؛ معناه: صاحت؛ لما أصابها من شدة هذا الكلام، وروي: (أُلَّت)؛ بضمِّ الهمزة مع التشديد؛ أي: طعنت بالآلة؛ وهي الحربة العريضة النصل، انتهى.
قال ابن بطال: (وفيه: دليل على أن كل النساء يحتلمن)، وقد عكس غيره، فقال: فيه: دليل على أن بعض النساء لا يحتلمن.
واعترضه صاحب «عمدة القاري» فقال: (وفيه: دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال، ونفى ابن بطال الخلاف فيه، وقد ذكرنا في أول الباب خلاف النخعي) انتهى.
وقد تبعه ابن حجر فقال: (والظاهر: أن مراد ابن بطال الجواز لا الوقوع؛ يعني: فيهن قابلية ذلك، وفيه: دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال، ونفى ابن بطال الخلاف فيه، لكن تقدم الخلاف فيه عن النخعي) انتهى.
واعترضه العجلوني فقال: (ما تقدم عن النخعي في نفي وقوعه وما قاله ابن بطال في نفي الخلاف فإنما هو على المرأة في لزوم الغسل إذا أنزلت إلا أن يقال: إذا انتفى وقوع الموجب؛ لزم انتفاء الوجوب؛ فتأمل) انتهى.
وفي الحديث: جواز استفتاء المرأة بنفسها؛ لأنَّه غير مخل في الديانة، وكأن أم سُليم لم تسمع حديث: «إنما الماء من الماء»، أو سمعته وقام عندها أنه منسوخ بدلائل أخر، أو ما يوهم خروج المرأة عنه وهو ندرة بروز الماء منها.
وروى عبد في هذه القصة: «إذا رأت إحداكن كما يراه الرجل».
وروى أحمد من حديث خولة بنت حكيم في نحو هذه القصة «ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل»، فإن هذا صريح على أنه يدل على كونه في حال الاحتلام.
ففيه: رد على من زعم أن
%ص 304%
ماء المرأة لا يبرز، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها كما قدمناه؛ لأنَّ الشهوة حقيقة أو حكمًا، وذلك إذا احتلم ورأى بللًا ولم يدرك اللذة فإنه يمكن أنه أدركها، ثم ذهل عنها بوجود النوم فجعلت اللذة حاصلة حكمًا وهو ظاهر، فيمكن أن أم سَلَمَة قام عندها أن الاحتلام لم يوجد فيه شهوة وحديث: (الماء من الماء) مطلق غير مقيد بالشهوة فتركته؛ لأنَّه منسوخ بأحاديث؛ منها: ما قدمناه من حديث أم سَلَمَة عند ابن أبي شيبة، فقال عليه السلام: «هل تجد شهوة ... »؛ الحديث، ولقوله تعالى: {مِن مَّاءٍ دَافِقٍ*يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6 - 7] والدفق لا يكون إلا عن شهوة على أنه حديث (الماء من الماء) مطلق، فهو محمول على المقيد بالشهوة، ولأن (اللام) فيه للعهد الذهني؛ أي: الماء المعهود، والذي به عهدهم هو الخارج عن شهوة؛ لأنَّه كثيرًا يأتي على أكثر الناس جميع عمره، ولا يرى هذا الماء مجردًا عن الشهوة، بل هي مصاحبة له ضرورة، ويدل لهذا: تفسير عائشة رضي الله عنها الحديث، كما قد رواه ابن المُنْذِر أن المني: هو الماء الأعظم الذي منه الشهوة وفيه الغسل؛ فليحفظ، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الذهبي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (كثيرًا)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أنس)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (التمثيلة)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (حي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (أرفع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (بضمين).
[8] في الأصل: (فتمت)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (الذهبي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (كثيرًا)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أنس)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (التمثيلة)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (حي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (أرفع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (بضمين).
[1] في الأصل: (الذهبي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (كثيرًا)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أنس)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (التمثيلة)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (حي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (أرفع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (بضمين).
(1/485)

=======

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي

 مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيت...