للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)
(17) [باب الصلاة في الثوب الأحمر]
هذا (باب): بيان حكم (الصلاة في الثوب الأحمر)؛ يعني: يجوز ويكره، وزعم ابن حجر أنه يشير إلى الجواز، والخلاف مع الحنفية، ومن أدلتهم ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال: (مر بالنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رجل وعليه ثوبان أحمران، فسلم عليه فلم يرد عليه)، وهو حديث ضعيف الإسناد) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: لا خلاف للحنفية في جواز ذلك، ولو عرف هذا القائل مذهب الحنفية؛ لما قال ذلك، ولم يكتف بهذا حتى قال: وتأولوا حديث الباب بأنها كانت حلة من برود فيها خطوط حمر، ولا يحتاج إلى هذا التأويل؛ لأنَّهم لم يقولوا بحرمة لبس الأحمر حتى تأولوا هذا، وإنما قالوا: مكروه لحديث آخر، وهو نهيه صلَّى الله عليه وسلَّم عن لبس المعصفر، والعمل بما ورد من الحديثين أولى من العمل بأحدهما، فاحتجوا بالأول على الجواز، وبالثاني على الكراهة.
وما زعمه هذا القائل من (أن من أدلتهم ما أخرجه أبو داود ... ) إلى آخره: ممنوع، وعرق العصبية حين تحرك حمله على أن سكت عن قول الترمذي عقيب إخراجه هذا الحديث، قال: (هذا حديث حسن صحيح) انتهى.
فانظر إلى تعصب ابن حجر وتعنته كيف يطيل لسانه، وهذا عرق فيه قد صار من أعضائه.
==========
%ص 489%
==================
(1/636)
[حديث: رأيت رسول الله في قبة حمراء من أدم]
376# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد بن عرعرة)؛ بالعينين والراءين المهملات، غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث: هو ابن البِرنْد؛ بكسر الموحدة والراء وبفتحها، وبسكون النون، البصري (قال: حدثني) بالإفراد (عُمَر) بضم العين المهملة وفتح الميم (بن أبي زائدة)؛ بالزاي: هو أخو زكريا الهمداني الكوفي، (عن عون) بالنون في آخره (بن أبي جُحَيْفَة)؛ بضم الجيم، وفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية، وفتح الفاء، (عن أبيه): هو أبو جحيفة المذكور، واسمه وهب بن عبد الله السُّوائي؛ بضم السين المهملة، وتخفيف الواو، بعدها ألف، ثم ألف [1]، الكوفي رضي الله عنه (قال: رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: بالإبطح بمكة، وقد صرح بذلك في رواية مسلم: (قال: أتيت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة وهو بالإبطح)، وهو الموضع المعروف، ويقال له: البطحاء، ويقال: إنه إلى منًى أقرب، وهو المحصب، وهو خيف [2] بني كنانة، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنه ذو طُوًى، قال إمام الشَّارحين: (وليس كذلك، كما نبه عليه ابن قرقول) انتهى.
قلت: وكان ابن حجر لم يقف على ما ذكره ابن قرقول؛ لعدم اطلاعه في كتب اللغة، فيقول رجمًا بالغيب، وهو خطأ ظاهر؛ فافهم.
(في قُبَّة) بضم القاف، وتشديد الموحدة المفتوحة (حمراء من أدم) وعند النسائي: (وهو في قبة حمراء في نحو من أربعين رجلًا)، قال الجوهري: (القبة: من البناء، والجمع قبب وقباب) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: المراد من القبة هنا: هي التي تعمل من الجلد، وقد فسر ذلك بكلمة (من) البيانية، والأَدم؛ بفتح الهمزة، والدال المهملة، جمع الأديم، وفي «المحكم»: الأديم: الجلد ما كان، وقيل: الأحمر، وقيل: هو المدبوغ، وقيل: هو بعد الأفيق، وذلك إذا تم واحمرَّ، والأفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه، وقيل: هو ما دبغ بغير القرظ، قاله ابن الأثير، و (الأدم): اسم الجمع عند سيبويه، والأدايم جمع أديم؛ كيتيم وأيتام وإن كان هذا في الصفة أكثر، وقد يجوز أن يكون جمع أدم.
وفي «المخصص»: إذا شق [3] الجلد وبسط حتى يبالغ فيه ما قبل من الدباغ؛ فهو حينئذ أديم وأدم [4] وآدمة، وفي «النوادر» للحياني: الأدم والأدم جمع الأديم؛ وهو الجلد، وفي «الجامع»: الأديم: باطن الجلد، انتهى.
(ورأيت بلالًا): هو مؤذن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بكسر الموحدة أوله (أَخذ)؛ بفتح الهمزة، والخاء المعجمة؛ أي: قد أخذ، ويجوز فتح الهمزة الممدودة، وكسر الخاء المعجمة، والظاهر أن الرواية الأول (وَضوء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بفتح الواو: وهو الماء الذي يتوضأ به، وفي المعنى الأول: رآه قد أخذه، وفي الثاني: رآه وهو آخذ، وذلك بعد ما توضأ النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (ورأيت الناس) أي: الصحابة (يبتدرون) أي: يتسارعون ويتسابقون إلى (ذلك)؛ باللام، وفي رواية غير الأصيلي وابن عساكر: (ذاك)؛ بغير لام (الوَضوء)؛ بفتح الواو، لأجل التبرك بآثاره الشريفة، (فمن أصاب) أي: أخذ (منه) أي: من الماء (شيئًا؛ تمسح به)؛ أي: بأن مسح وجهه ولحيته وصدره، (ومن لم يصب) أي: من لم يأخذ (منه شيئًا)؛ أي: لكثرة الناس والازدحام، أو لعدم وجود شيء منه؛ (أخذ من بلل يد صاحبه)؛ أي: رفيقه؛ حوزًا على الفضيلة العظيمة، وفي رواية: (من بَلال)؛ بفتح الموحدة وكسرها، والفتح أفصح، وفي رواية مسلم: (وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي؛ فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك)، وفي رواية: (فأخرج فضل وضوء رسول الله صلى الله علي وسلم، فابتدره الناس، فنلت منه شيئًا) انتهى.
قلت: وهذه الرواية تدل على أنه أخذ شيئًا يسيرًا منه، ورواية الباب تدل على أنه لم يأخذ منه شيئًا، لكن لما كان في يده؛ كان هو أحرص على أخذه من غيره؛ فافهم.
(ثم رأيت بلالًا) بكسر الموحدة؛ أي: المؤذن (أخذ عَنَزَة)؛ بفتح العين المهملة، والنون، والزاي؛ وهي مثل نصف الرمح أو أكبر شيئًا، وفيها سنان؛ مثل سنان الرمح، والعكازة قريب منها، كذا في «عمدة القاري»، وفي رواية ذكرها القسطلاني: (عنزة له) انتهى.
قلت: يحتمل عود الضمير في (له) إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويحتمل عوده إلى بلال، ويدل للأول قوله: (فركزها)؛ أي: أدخلها في الأرض بأمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأجل الصلاة.
(وخرج النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: من قبته الحمراء (في حلة حمراء): الجار والمجرور محله نصب على الحال، والحلة: ثوبان؛ إزار ورداء، وقيل: هي ثوبان من جنس واحد، سميا بذلك؛ لأنَّ كل واحد منهما يحل على الآخر، وقيل: أصل تسميتها بذلك إذا كان الثوبان جديدين كأحل طيتهما؛ فقيل لهما: حلة لهذا، ثم استمر عليها الاسم.
وقال ابن الأثير: الحلة: واحدة الحلل؛ وهي برود اليمن، ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد، وقال غيره: والجمع: حلل وحلال، وحلله الحلة: ألبسه عليها.
وفي رواية أبي داود: (وعليه حلة حمراء برود يمانية قطري)، فقوله: (برود) جمع برد، مرفوع؛ لأنَّه صفة الـ (حلة)، وقوله: (يمانية) صفة لـ (برود)؛ أي: منسوبة إلى اليمن، وقوله: (قِطْري)؛ بكسر القاف وسكون الطاء المهملة، والأصل: قَطَري؛ بفتح القاف والطاء؛ لأنَّه نسبة إلى قطر؛ بلد بين عمان وسيف البحر، ففي النسبة خففوها، وكسروا القاف، وسكنوا الطاء، ويقال: القطري: ضرب من البرود، وفيها حمرة، وقيل: ثياب حمر لها أعلام، فيها بعض الخشونة، وقيل: حلل جياد، وتحمل من قبل البحرين، وإنما لم يقل: قطرية مع أن التطابق بين الصفة والموصوف شرط؛ لأنَّه بكثرة
%ص 489%
الاستعمال صار كالاسم لذلك النوع من الحلل.
ووصف الحلة بثلاث صفات؛ الأولى: صفة الذات، وهي قوله: (حمراء)، والثانية: صفة الجنس، وهي قوله: (برود)، فبيَّن به أن جنس هذه الحلة الحمراء من البرود اليمانية، والثالثة: صفة النوع، وهي قوله: (قطري)؛ لأنَّ البرود اليمانية أنواع؛ نوع منها قطري بيَّنه بقوله: (قطري) انتهى.
وزعم ابن حجر أنه إنَّما لبس النبيُّ عليه السَّلام الحلة الحمراء في السفر؛ ليتأهب للعدو، ويجوز أن يلبس في الغزو بما لا يلبس في غيره.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (فيه نظر؛ لأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن في هذا السفر للغزو؛ لأنَّه كان عقيب حجة الوداع، ولم يبق له غزو إذ ذاك، وكأنَّ هذا القائل نقل عن بعض الأئمة الحنفية أنه ذهب إلى عدم جواز لبس الثوب الأحمر، ثم لما أوردوا عليه ما روي في هذا الحديث؛ أجاب بما ذكرنا).
قلت: لا النقل عنه صحيح، ولا هو مذهب الأئمة الحنفية، فلا يحتاج إلى الجواب المذكور؛ فافهم.
(مُشمِّرًا) ثوبه؛ بضم الميم الأولى، وكسر الثانية، وهو بالنصب على الحال من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، يقال: شمَّر إزاره تشميرًا: رفعه، وشمَّر عن ساقه، وشمَّر في أمره: خف؛ والمعنى: رفعها إلى أنصاف ساقيه، كما جاء في رواية مسلم: (كأني أنظر إلى بياض ساقيه)، كذا في «عمدة القاري».
(صلى إلى العنزة) أي: مقابل العصا (بالناس) صلاته هذه (ركعتين): وهي صلاة الظهر، وفي رواية مسلم: (فتقدم فصلى الظهر ركعتين، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة) (ورأيت الناس) أي: الأولاد ونحوهم (والدواب) أي: الخيل والحمير والإبل (يمرون بين يدي العنزة) وفي رواية أبي ذر: (من بين يدي العنزة)، وفي رواية: (يمر من ورائها الهراة)، وفي لفظ: (يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع)، ففيه استعمال المجاز، فإن العنزة لا يد لها، وفيه: جواز لبس الثوب الأحمر، وجواز الصلاة فيه، والباب معقود عليه، وفيه: جواز ضرب الخيام والقباب في الأسفار ونحوها، وفيه التبرك بآثار الصالحين، وفيه: استحباب نصب علامة بين يدي المصلي في الصحراء، وفيه: جواز قصر الصلاة في السفر وهو الأفضل عند إمامنا الأعظم، وأصحابه، والجمهور، ويدل عليه أيضًا ما في رواية مسلم، وهو حجة على من زعم أن الإتمام أفضل، وفيه: جواز المرور وراء سترة المصلي، وفيه: جواز لباس الثياب الملونة للسيد الكبير، والزهد في الدنيا، والحمرة أشهر الملونات، وأجمل الزينة في الدنيا.
وزعم ابن بطال وفيه: طهارة الماء المستعمل، وهو حجة على الحنفية في قولهم: بنجاسته.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (ليس كذلك، فإن المذهب أن الماء المستعمل طاهر حتى يجوز شربه والعجن به غير أنه ليس بطهور، فلا يجوز الوضوء ولا الاغتسال به، وكونه نجسًا رواية ضعيفة عن الإمام الأعظم، وليس العمل عليها على أن حكم النجاسة في هذه الرواية باعتبار إزالة الآثام النجسة عن البدن المذنب؛ فينجس حكمًا، بخلاف فضل وضوء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنه طاهر من بدن طاهر، وهو طهور أيضًا، أطهر من كل طاهر وأطيب) انتهى.
قلت: وإنما قال الإمام الأعظم في هذه الرواية بنجاسة المستعمل؛ لما قد شاهد من الناس أنه ينزل الماء من وجوه بعضهم أسود، وتارة ينزل من أيديهم أحمر، وتارة ينزل أصفر، فاستدل به على ارتكابهم شرب الخمر، وأكل الربا، وعدم بر الوالدين، وغير ذلك، وإن هذه الذنوب تذهب مع الماء المتوضأ به، والذنوب نجسة، فالماء المخلوط بها نجس، وهذا من بعض ولاية الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ فإنه رئيس المجتهدين وسيدهم التابعي الجليل، ويكفيه شرفًا وولاية أن الحكام والسلاطين على مذهبه إلى يوم القيامة، وأن الأولياء العظام من أتباعه، لا سيما مالك بن أنس، والليث بن سعد، ومحمد بن الحسن؛ كلهم من أتباعه، ولا سيما محمد بن إدريس من أتباع محمد بن الحسن.
وهذا الفضل لم يجتمع في غيره من الأئمة، فحقيق بأن يلقب بالإمام الأعظم، فإذا أطلق؛ لا يراد به غيره، وأن يلقب بإمام الأئمة؛ لأنَّه إمامهم وشيخهم، فهم عياله، كما قال محمد بن إدريس، وكل ما جاء بعده؛ فهو متصرف في مذهبه؛ لأنَّ الروايات عنه كثيرة، فما قال قولًا إلا قال به مجتهد، فله الرئاسة العظمى في العلم والاجتهاد رضي الله تعالى عنه، وحشرنا من بعض خدمهِ تحت لواء سيد المرسلين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
==========
[1] زيد في الأصل: (ثم ألف)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حنيف)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (رشق)، ولعله تحريف.
[4] في الأصل: (أدام)، وهو تحريف.
==================
[1] زيد في الأصل: (ثم ألف)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حنيف)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (رشق)، ولعله تحريف.
[1] زيد في الأصل: (ثم ألف)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حنيف)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (رشق)، ولعله تحريف.
(1/637)
(18) [باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب]
هذا (باب) حكم (الصلاة في): بمعنى (على)؛ كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ [1] فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] (المنبر)؛ بكسر الميم، من نبرت الشيء؛ إذا رفعته، والقياس فيه فتح الميم؛ لأنَّ الكسر علامة الآلة، ولكنه سماعي (والسُّطوح)؛ بضم السين المهملة، جمع سطح البيت، (والخشب)؛ بفتحتين وبالضمتين أيضًا؛ يعني: يجوز، ولما كان فيه خلاف لبعض التابعين وللمالكية في المكان المرتفع لمن كان إمامًا؛ لم يصرح المؤلف بالجواز وعدمه، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والترجمة شاملة لمن كان في المكان المرتفع، وهو إمام والناس خلفه في المكان المتسفل، ولمن كان في المكان المرتفع وهو مقتدٍ والناس خلفه في المكان المتسفل، وشاملة أيضًا لمن كان في المكان المرتفع وخلفه بعض والبعض أسفل منهم، ولمن كان مقتديًا وحده والإمام والناس وحدهم، وكل ذلك جائز، لكن مع الكراهة؛ لأنَّ فيه التشبه بأهل الكتاب؛ حيث اختص الإمام وكذا المقتدي بمكان وحده، كما سيأتي بيانه.
(قال أبو عبد الله): هو المؤلف نفسه: (ولم ير) أي: يعتقد (الحسن): هو البصري التابعي (بأسًا) أي: حرجًا ومنعًا (أن يُصلَّى)؛ أي: الشخص؛ بضم التحتية، وفتح اللام المشددة (على الجَمْد)؛ بفتح الجيم، وسكون الميم، آخره دال مهملة، قال السفاقسي: (الجمد؛ بفتح الجيم وضمها: مكان صلب مرتفع).
وزعم ابن قرقول أن في رواية الأصيلي وأبي ذر: بفتح الميم، وقال ابن التين: بضمها، لكن قال القاضي عياض: الصواب سكونها؛ وهو الماء الجامد من شدة البرد، وفي «المحكم»: (الجمد: الثلج)، وفي «المثنى» لابن عديس: (الجَمد؛ بالفتح)، وقال أبو عبد الله موسى بن جعفر: (الجمَد؛ محرك الميم: الثلج الذي يسقط من السماء)، وقال غيره: الجَمد والجُمد؛ بالفتح والضم، والجُمُد بضمتين: ما ارتفع من الأرض، وفي «ديوان الأدب» للفارابي: (الجمد: ما جمد من الماء، وهو نقيض الذَّوب [2]، وهو مصدر في الأصل)، وفي «الصحاح»: (الجمد؛ بالتحريك، جمع جامد؛ مثل: خادم وخدم، والجمْد والجمُد؛ مثل: عسْر وعسُر؛ مكان صلب مرتفع، والجمع أجماد وجماد؛ مثل: رمح وأرماح
%ص 490%
ورماح)، كذا في «عمدة القاري».
(والقناطر)؛ بفتح القاف، جمع قنطرة، وفي رواية الحمُّوي والمستملي: (والقناطير)، قال ابن سيده: (وهو ما ارتفع من البنيان)، وقال القزاز: (القنطرة معروفة عند العرب)، قال الجوهري: (وهي الجسر)، قال إمام الشَّارحين: (القنطرة: ما يبنى بالحجارة، والجسر يعمل من الخشب أو التراب) انتهى.
قلت: وقد يطلق على كل منهما جسر، لكن الفرق هو الأظهر.
(وإن) هذه تسمى وصلية؛ لأنَّها توصل حكم ما قبلها بما بعدها؛ فليحفظ (جرى تحتها بول) أو غيره من النجاسات، والضمير في قوله: (تحتها) يرجع إلى (القناطر) فقط، كذا زعمه الكرماني، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: يجوز أن يرجع الضمير إلى (الجمد) أيضًا؛ لأنَّ الجمد في الأصل ماء، فبشدة البرد يجمد، وربما يكون ماء النهر يجمد فيصير كالحجر حتى تمشي عليه الناس، فلو صلى شخص عليه وكان تحته بول أو نحوه؛ لا يضر صلاته.
فإن قلت: على هذا كيف يرجع الضمير في (تحتها) إلى الجمد وهو غير مؤنث؟
قلت: قد سبق أن الجوهري في «الصحاح» قال: إن الجمد جمع جامد، فإذا كان جمعًا؛ يجوز إعادة الضمير المؤنث إليه، وكذلك الضمير في قوله: (أو فوقها أو أمامها)؛ بفتح الهمزة، يجوز أن يرجع إلى (القناطر) بحسب الظاهر، وإلى (الجمد) بالاعتبار المذكور، والمراد من (أمامها): قدامها، انتهى.
وزعم ابن حجر الجمد: الماء إذا جمد، وهو مناسب لأثر ابن عمر الآتي: (أنه صلى على الثلج). ورده إمام الشَّارحين فقال: (إن لم يقيد الثلج بكونه متجمدًا متلبدًا؛ لا تجوز الصلاة عليه، فلا يكون مناسبًا له، وقال في «المجتبى»: سجد على الثلج، أو الحشيش الكثير، أو القطن المحلوج؛ يجوز إن اعتمد حتى استقرت عليه جبهته، ووجد حجم الأرض، وإلا؛ فلا يجوز، وفي «فتاوى أبي حفص»: لا بأس أن يصلي على الجمد، والبر، والشعير، والتبن، والذرة، ولا يجوز على الأرز؛ لأنَّه لا يستمسك، ولا يجوز على الثلج المتجافي والحشيش وما أشبهه حتى يلبده فيجد حجمه) انتهى.
(إذا كان بينهما)؛ أي: بين القناطر والبول، أو بين المصلي والبول، وهذا القيد مختص بلفظ (أمامها) دون أخواتها، كذا قاله الكرماني، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (المصلي غير مذكور، إلا أن يقال قوله: أن يصلي يدل على المصلى) انتهى.
(سترة): والمراد بها: أن يكون المانع بينه وبين النجاسة إذا كانت قدامه ولم يعين حد ذلك، والظاهر أن المراد منه ألَّا يلاقي النجاسة سواء كانت قريبة منه أو بعيدة، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم ابن حبيب من أصحاب مالك إن تعمد الصلاة إلى نجاسة وهي أمامه؛ أعاد الصلاة، إلا أن تكون بعيدة جدًّا، وفي «المدونة»: (من صلى وأمامه جدار أو مرحاض؛ أجزأه) انتهى.
ونص علمائنا الأعلام أن الصلاة في قرب النجاسة تجوز وتكره؛ لاحتمال أن يعود عليه منها شيء، كما تكره الصلاة في الحمام، والكنيف، والمقبرة، والمغتسل، والمزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، ونحوها، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(وصلى أبو هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (على ظهر المسجد) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: (على سقف المسجد)، والمراد به: السطوح، ففيه المطابقة للترجمة (بصلاة الإمام) يعني: مقتديًا بالإمام، فيكون الإمام أسفل من المقتدي، وهو جائز، إلا أنه مكروه، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة عن وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة قال: (صليت مع أبي هريرة فوق المسجد بصلاة الإمام وهو أسفل)، وصالح تكلم فيه غير واحد، ولكن رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي هريرة، فتقوَّى بذلك، فلأجل هذا ذكره البخاري بصيغة الجزم، وروى ابن أبي شيبة عن أبي عامر، عن سعيد بن مسلم قال: (رأيت سالم بن عبد الله يصلي فوق ظهر المسجد صلاة المغرب ومعه رجل آخر_يعني: ويأتم بالإمام في رمضان_ فقال: لا أعلم به بأسًا إلا أن يكون بين يدي الإمام).
قلت: وهذا يدل على أن الإمام والمقتدين معه وهو في ظهر المسجد يقتدي بالإمامولا كراهة فيه، وإنما المكروه قيام الإمام على مكان مرتفع والمقتدون أسفل منه، أو قيامه على مكان متسفل والمقتدون خلفه مرتفعون عنه، فهذا مكروه في الصورتين إلا إذا كان مع الإمام واحد يقتدي به، فتنتفي الكراهة، وقد وَرَدَ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (أنه عليه السَّلام نهى أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه؛ يعني: أسفل منه)، كذا في «إمداد الفتاح»، فيكره أن يكون موضع الإمام أو المأموم أعلى من موضع الآخر إلا إذا أراد التعليم لأفعال الصلاة، أو أراد المأموم التبليغ للقوم؛ فلا كراهة عندنا، وبه قال محمد بن إدريس، وإذا كره أن يعلو الإمام؛ فالمأموم أولى، وهو مذهبنا والشافعيِّ، وزعم ابن حزم أنه لا يجوز ذلك عند الإمام الأعظم ومالك، ورده إمام الشَّارحين، فقال: (ليس مذهب الإمام الأعظم هذا، وإنما مذهبه أنه يجوز، ولكنه يكره) انتهى.
قلت: ولا عجب من ابن حزم، فإنه ينقل الأقوال التي لا أصل لها في المذهب، ويعتمد عليها في كتبه، وهو لا يدل إلا على عدم اطلاعه في المذاهب، وقال إمامنا شيخ الإسلام: إنَّما يكره إذا لم يكن عذر، أما إذا كان عذر؛ فلا كراهة، كما في الجمعة إذا كان القوم على الرفِّ وبعضهم على الأرض، والرفُّ؛ بتشديد الفاء شبه الطاق، وقال الحافظ الطحاوي: أنه لا يكره، وعليه أكثر مشايخنا الأعلام رحمهم الملك العلام.
(وصلى ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (على الثلج)؛ بالمثلثة والجيم؛ يعني: وكان الثلج متلبدًا؛ لأنَّه إذا كان متجافيًا؛ لا تجوز الصلاة عليه، وليس لهذا الأثر مطابقة للترجمة إلا إذا شرطنا التلبد؛ لأنَّه حينئذٍ يكون مُتحجرًا، فيشبه السطح أو الخشب، قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
قلت: ووجهه ظاهر، فإن الثلج إذا لم يكن متلبدًا؛ يتسفل شيئًا فشيئًا، فلا تستقرُّ عليه الجبهة عند السجود، فاشتراط التلبد لا بد منه، فهذا الأثر فيه اختصار، ومع التلبد يكون متحجرًا، فيشبه السطح؛ لأنَّه عالٍ [3] على الأرض، فبهذا تحصل المطابقة.
==========
[1] في الأصل: (لأصلبنكم).
[2] في الأصل: (يقبض الروب)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (عالي)، والمثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (لأصلبنكم).
[2] في الأصل: (يقبض الروب)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (لأصلبنكم).
[2] في الأصل: (يقبض الروب)، وهو تحريف.
(1/638)
[حديث: ما بقي بالناس أعلم مني هو من أثل الغابة]
377 # وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله): هو ابن المديني (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عُيَيْنة؛ بضم المهملة، وفتح التحتية الأولى، وسكون الثانية (قال: حدثنا أبو حازم) بالحاء المهملة، وبالزاي: هو مسلمة بن دينار (قال) أي: أبو حازم: (سألوا) أي: التابعون؛ لأنَّه حين السؤال لم يكن بالمدينة صحابة غير سهل المذكور؛ لقوله الآتي: (ما بقي بالناس أعلم مني)؛ بسكون العين المهملة: هو الساعدي، آخر من مات من الصحابة بالمدينة: (من أي شيء) أي: من أي عود (المِنْبر؟)؛ بكسر الميم، وسكون النون؛ أي: النبوي، فـ (اللام) فيه للعهد عن منبر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية أبي داود: (أن رجالًا أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد أمتروا في المنبر، ممِّ عوده؟)؛ أي: وقد شكوا، واختلفوا في منبر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من أي شيء كان عوده؟ كذا قاله إمام الشَّارحين، فليحفظ.
(فقال) أي: سهل للسائلين:
%ص 491%
(ما بقي بالناس) وفي رواية الكشميهني: (في الناس)، وفي رواية: (من الناس) (أعلم مني) أي: بذلك المنبر من أي شيء، وهذا لا ينافي وجود أحد من الصحابة في غير المدينة؛ كالكوفة والبصرة؛ لأنَّ مراده الناس التي بالمدينة، وقد يكون الذي في غيرها غير عالم بذلك؛ لكونه صغيرًا؛ فتأمل.
(هو): مبتدأ؛ أي: المنبر (من أَثْل الغابة) خبره، وفي رواية أبي داود: (من طرفاء الغابة)، و (الأَثْل)؛ بفتح الهمزة، وسكون المثلثة: شجر شبه الطَّرْفاء إلا أنه أعظم منه، قاله ابن سيده، وقال أبو زياد: الأثل: شجر طوال ليس له ورق يثبت، مستقيم الخشب، وخشبه جيد يحمل إلى القرى فيبنى عليه بيوت المدر، وورقه هدب دقاق، وليس له شوك، يصنع منه القصاع، والأواني الصغار والكبار، والمكاتب، والأبواب، وهو النضار، وقال أبو عمرو: هو أجود الخشب للآنية، وأجود النضار الورس؛ لصفرته، ومنبره عليه السَّلام نضار، وفي «الواعي»: الأثل: حمصة؛ مثل الأشنان، ولها حب؛ مثل حب التنوم، ولا ورق له، وإنما هي أشنانه، يغسل بها القصارون غير أنها ألين من الأشنان.
وقال القزاز: هو ضرب من الشجر يشبه الطرفاء، وليس به شوك وهو أجود منه عودًا، ومنه يصنع قداح الميسر والتَّنُّوْم _بفتح المثناة الفوقية، وضم النون المشددة، وبعد الواو الساكنة ميم_؛ وهو نوع من نبات الأرض، فيه وفي ثمره سواد قليل.
و (الغابة)؛ بالغين المعجمة والموحدة: أرض على تسعة أميال من المدينة، كانت إبل النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مقيمة بها للمرعى، وبها وقعت قصة العرنيين الذين أغاروا على سرحه عليه السَّلام، وقال ياقوت: (بينها وبين المدينة أربعة أميال)، وقال البكري: (هما غابتان عليا وسفلى)، وقال الإمام الزمخشري: (الغابة: بريد من المدينة من طريق الشام)، وقال الواقدي: (ومنها صنع المنبر)، وفي «الجامع»: (كل شجر ملتف؛ فهو غابة)، وفي «المحكم»: (الغابة: الأجمة التي طالت، ولها أطراف مرتفعة باسقة)، وقال الإمام: هي أجمة القصب، وقد جعلت جماعة الشجر غابًا، مأخوذ من الغيابة، والجمع: غابات وغاب.
و (الطَّرْفاء)؛ بفتح الطاء المهملة، وسكون الراء المهملة، ممدودة؛ شجر من شجر البادية، واحدها طَرفة؛ بفتح الطاء؛ مثل: قصبة وقصبًا، وقال سيبويه: (الطرفاء واحد وجمع)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والطرفاء: شجر له ساق وورق صغير ناعم؛ مثل الصنوبر، قد رأيته في أرض المرج؛ الغوطة عند البحرة، والله أعلم.
(عمله) أي: المنبر؛ يعني: صنعه ونجره (فلانٌ)؛ بالتنوين؛ لأنَّه منصرف؛ لأنَّه كناية عن علم المذكر، بخلاف فلانة؛ فإنها كناية عن علم المؤنث، والمانع من صرفه وجود العلتين؛ وهما العلمية والتأنيث، كذا في «عمدة القاري».
قال إمام الشَّارحين: (واختلفوا في اسم فلان الذي نجر منبره عليه السَّلام؛ ففي كتاب «الصحابة» لابن الأمين الطليطلي: أن اسم هذا النجار قبيصة المخزومي، ويقال: ميمون، وقيل: صلاح غلام العباس بن عبد المطلب، وقال ابن بشكوال: وقيل: هو ميناء، وقيل: إبراهيم، وقيل: باقوم؛ بالميم في آخره، وقال ابن الأثير: (عمله باقوم، وكان روميًّا غلامًا لسعيد بن العاص، مات في حياة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم).
وروى ابن سعد في «شرف المصطفى» من طريق ابن لهيعة عن سهل قال: (كان في المدينة نجار واحد يقال له: ميمون)؛ وذكر قصة المنبر، وقال ابن التين: (عمله غلام لسعد بن عبادة، وقيل: لامرأة من الأنصار)، وروى أبو داود عن نافع، عن ابن عمر: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما بدن؛ قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرًا يا رسول الله تجمع أو تحمل عظامك؟ قال: «بلى»، فاتخذ له منبرًا مرقاتين).
وفي «طبقات ابن سعد» من حديث أبي هريرة قالوا: (كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يخطب يوم الجمعة إلى جذع قائمًا، فقال: «إن القيام شق علي»، فقال تميم الداري: ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت بالشام؟ فشاور النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلامًا يقال له: كلاب [مِنْ] أعمل الناس، فقال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «مره أن يعمله»، فعمله درجتين ومقعدًا، ثم جاء به فوضعه في موضعه) انتهى.
قلت: وروى عبد الرزاق: أن اسم هذا النجار: باقول؛ باللام، والظاهر: أن الأقرب من هذه الأقوال أن اسم هذا النجار كلاب غلام للعباس بن عبد المطلب، كما يدل عليه حديث أبي هريرة، وكذا حديث ابن عمر، والظاهر: أنه هو اختيار إمام الشَّارحين، ويحتمل أن الأقرب أنه باقوم _بالميم_ الرومي غلام سعيد بن العاص، كما قاله ابن الأثير، وكذا الغافقي، وزعم ابن حجر أن الأقرب أنه ميمون، كما قاله الصغاني.
قلت: وهو ممنوع، فإنه لا دليل على أنه هو، وما روى ابن سعد من طريق ابن لهيعة لا يعتمد عليه؛ لشهرة ابن لهيعة بالضعف؛ لأنَّه كذوب، فلا يعول عليه، والأقرب أنه كلاب، كما دل عليه حديث أبي هريرة وابن عمر المروي؛ الأولى: عند ابن سعد، والثاني: عند أبي داود من طريق صحيح؛ فليحفظ.
(مولى فلانةَ): ممنوع من الصرف؛ للعلمية والتأنيث؛ لأنَّه كناية عن علم المؤنث؛ وهي عائشة الأنصارية، كما قاله إمام الشَّارحين، وسيأتي بيانه، فيحتمل أنها زوجة العباس بن عبد المطلب، ويحتمل أنها زوجة سعيد بن العاص، فأطلق على النجار أنه مولًى لها، إما على الحقيقة، وإما على المجاز؛ فتأمل.
قال إمام الشَّارحين: وفي «الدلائل» [1] لأبي موسى المديني نقلًا عن جعفر المستغفري أنه قال في أسماء الرجال في الصحابة: علاثة؛ بالعين المهملة، وبالثاء المثلثة، ثم ساق هذا الحديث من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم، وقال فيه: أرسل إلى علاثة امرأة قد سماها سهل، قال أبو موسى: (صحف فيه جعفر أو شيخه، وإنما هي فلانة)، وقال الذهبي: (علاثة في حديث سهل: «أن مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا»، وإنما هي فلانة) انتهى.
وقال الكرماني وتبعه البرماوي: قيل في فلانة: اسمها عائشة الأنصارية، وزعم ابن حجر أنَّه أظنُّه صحَّف المصحَّف.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: هذا الطبراني روى في «معجمه الأوسط» من حديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي إلى سارية المسجد، ويخطب إليها، ويعتمد عليها، فأمرت عائشة فصنعت له منبره هذا، وبه يستدل على أن فلانة هي عائشة المذكورة، ولا سيما قال قائله: (الأنصارية)، ولا يستبعد
%ص 492%
هذا وإن كان إسناد الحديث ضعيفًا؛ فحينئذٍ أن المصحِّف من قال: علاثة، لا من قال: عائشة الأنصارية؛ فليحفظ.
ثم قال: وجاء في رواية في «الصحيح»: (أرسل؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى فلانة _سماها سهل_: «مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهنَّ إذا كلمت الناس»، فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت بها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمر بها فوضعت ههنا).
وعن جابر: أن امرأة قالت: (يا رسول الله؛ ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا ... )؛ الحديث، وفي «الإكليل» للحاكم عن يزيد بن رومان: (كان المنبر ثلاث درجات، فزاد فيه معاوية لعله قال: جعله ستَّ درجات، وحوَّله عن مكانه، فكسفت الشمس يومئذٍ، قال الحاكم: وقد أحرق المنبر الذي عمله معاوية، ورد منبر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المكان الذي وضعه فيه، وفي «الطبقات»: (كان بينه وبين الحائط ممرَّ الشاة)، وفي «الإكليل» أيضًا من حديث المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس رضي الله عنه: (لما كثر الناس؛ قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ابنوا لي منبرًا»، فبنوا له عتبتين، وقد ذكرنا عن أبي داود في حديث ابن عمر: (مرقاتين)؛ وهي تثنية مرقاة؛ وهي الدرجة.
فإن قلت: في الصحيح ثلاث دَرَجٍ، فما التوفيق بينهما؟
قلت: الذي قال: (مرقاتين): كأنه لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها، والذي روى ثلاثًا؛ اعتبرها، انتهى كلامه.
قلت: وهو توفيق حسن بين الروايتين، والله أعلم.
(لرسول الله) أي: لأجله (صلَّى الله عليه وسلَّم): ويحتمل أن القصة متعددة، وأن كل واحد من المذكورين قد عمل منبرًا وأنه عليه السَّلام قد اختار لنفسه منهم واحدًا، ويحتمل أن الجميع اشتركوا في عمله، ويحتمل أن كل واحد عمل منبرًا على التعاقب، ويحتمل غير ذلك، والله أعلم.
(فقام) بالفاء، وفي رواية: (وقام)؛ بالواو، وفي رواية: (فرقى) (عليه) أي: على المنبر (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ لأنَّه أعجبه (حين عُمِل)؛ بضم العين المهملة مبني للمجهول؛ أي: بعد أن فرغ من عمله وجيء به بين يديه (ووُضع)؛ بضم أوله مبني للمجهول أيضًا، في المكان الذي أراده عليه السَّلام، فبعد الوضع قام عليه (فاستقبل) عليه السَّلام (القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: توجه إليها، (كبر) بدون الواو؛ لأنَّه جواب عن سؤال، كأنه قيل: ما عمل بعد الاستقبال؟ قال: كبر، وفي بعض الأصول: (فكبر) بالفاء، وفي بعض النسخ: (وكبر) بالواو، كذا في «عمدة القاري».
(وقام الناس) أي: الصحابة (خلفه)؛ أي: خلف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: وراءه صفوفًا، فكبروا مقتدين به، (فقرأ) عليه السَّلام ما تيسر له من القرآن، (وركع وركع الناس خلفه)؛ أي: متابعين له، (ثم رفع رأسه) أي: من الركوع، (ثم رجع القهقرى)؛ أي: رجع إلى ورائه.
فإذا قلت: رجعت القهقرى؛ فكأنك قلت: رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم؛ لأنَّ القهقرى ضرب من الرجوع، فيكون انتصابه على أنه مفعول مطلق، لكنه من غير لفظ؛ كما تقول: قعدت جلوسًا، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وإنما فعل عليه السَّلام ذلك حتى يكون مستمرًّا على الاستقبال، ولئلَّا يولي ظهره القبلة؛ لأنَّه لو استدبر القبلة؛ لفسدت صلاته، فالاستدامة على استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إن لم يكن خائفًا، كما هو مقرر في الفروع.
(فسجد على الأرض) وسجد الناس خلفه، (ثم عاد إلى المنبر) قائمًا، (ثم قرأ) ما تيسر له من القرآن، (ثم ركع) وركع الناس خلفه، وإنما لم يذكر ذلك؛ للعلم به مما قدمه، وهو معلوم أيضًا من المقام، (ثم رفع رأسه) من الركوع، (ثم رجع القهقرى) أي: رجع إلى ورائه (حتى سجد بالأرض): والفرق بين قوله السابق: (على الأرض) وبين ما هنا من حيث إن في الأول لوحظ معنى الاستعلاء، وهنا لوحظ معنى الإلصاق، أفاده إمام الشَّارحين.
(فهذا شأنه) عليه السَّلام؛ أي: في هذه الصلاة، أو معناه من حيث صلاته إمامًا واقتداء الناس به، أو نحو ذلك، قال إمام الشَّارحين: (ففي الحديث الدلالة على ما ترجم له؛ وهو جواز الصلاة على المنبر، وقد علل عليه السَّلام صلاته عليه، وارتفاعه على المأمومين بالاتباع له والتعليم، فإذا ارتفع الإمام على المأموم؛ جاز، ولكنه مكروه إلا لحاجة كمثل هذا؛ فمستحب، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والليث بن سعد، وبه قال محمد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل، وعن مالك بن أنس: المنع، وبه قال الأوزاعي، وعندنا: جوازه إذا كان الإمام مرتفعًا مقدار قامة، وعن مالك: يجوز في الارتفاع اليسير، وهذا الحديث حجة عليه؛ فافهم.
وزعم ابن حزم أن مذهبنا المنع، وهو باطل لا أصل له في المذهب، وما هو إلا من تعصُّبه وعدم اطلاعه.
وفي الحديث: أن المشي اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقال صاحب «المحيط»: المشي في الصلاة خطوة؛ لا يبطلها، وخطوتين أو أكثر؛ يبطلها، وعلى هذا؛ كان ينبغي أن تفسد هذه الصلاة على هذه الكيفية، ولكنا نقول: إذا كان لمصلحة؛ ينبغي ألَّا تفسد صلاته، ولا تكره أيضًا، كما في مسألة: من انفرد خلف الصف وحده؛ فإن له أن يجذب واحدًا من الصف الأول إليه ويصطفان، فإن المجذوب لا تفسد صلاته ولو مشى خطوة أو خطوتين، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الخطابي فيه أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة، وكان المنبر ثلاث مراق [2]، ولعله إنَّما قام على الثانية منها، فليس في نزوله وصعوده إلا خطوتان، انتهى.
قلت: وهذه الكيفية التي فعلها عليه السَّلام في صلاته لا تفسدها؛ لأنَّ العمل الكثير المفسد للصلاة إنَّما يكون مفسدًا إذا كان في ركن واحد، أما إذا كان متفرقًا في أركانه؛ فلا يفسد، ولا يجمع، بل يعتبر كل فعل بمفرده، فقول صاحب «المحيط» السابق هذا الحديث يشهد له؛ لأنَّه عليه السَّلام صعد في الركعة الثانية، ونزل في الركعة الأولى، ونزوله خطوة واحدة وهو ركن واحد، وصعوده خطوة واحدة وهو ركن واحد، وعلى كل حال؛ فلا فساد؛ فليحفظ.
وما زعمه الخطابي يرده رواية أبي داود عن ابن عمر قال: (مرقاتين)، وفي «الإكليل» من حديث المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس قال: (فبنوا له عتبتين)، وعلى هذا؛ فيكون قيامه
%ص 493%
عليه السَّلام على الأولى منهما، فليس في نزوله وصعوده إلا خطوة واحدة؛ فافهم.
وفي الحديث: استحباب اتخاذ المنبر، وكون الخطبة على شيء مرتفع؛ كمنبر ونحوه، وفيه: استحباب التدريس على شيء مرتفع؛ كالكرسي ونحوه؛ كما يفعله الأتراك في وعظهم، وفيه: تعليم الإمام المأمومين أفعال الصلاة، وأنه لا يقدح ذلك في صلاته، وليس هو من باب التشريك في العبادة، بل هو كرافع صوته بالتكبير؛ ليسمعهم، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وفيه: أن العالم إذا انفرد بعلم شيء؛ يقول ذلك ليؤديه إلى حفظه، وفيه جواز الصلاة على الخشب ونحوه، بل هو الأفضل عندنا؛ لأنَّه تستحب [3] الصلاة على الأرض أو على ما تنبته الأرض، وكرهه الحسن وابن سيرين، كما رواه ابن أبي شيبة عنهما، والحديث حجة عليهما، كما لا يخفى؛ فافهم.
(قال) وللأصيلي: (وقال) (أبو عبد الله) هو البخاري نفسه: (قال علي بن عبد الله) وفي رواية أبي ذر: (قال علي ابن المديني): هو الحجة شيخ المؤلف: (سألني أحمد ابن حنبل): هو الإمام المشهور، قال ابن راهويه: هو حجة بين الله وبين عباده في أرضه، مات ببغداد سنة إحدى وأربعين ومئتين، وزعم الشافعية أن أحمد ابن حنبل متصرِّف في مذهب الشافعي؛ لأنَّه ألف مذهبين؛ قديم وجديد، فأخذ أحمد بأحدهما وجعله مذهبًا له.
قلت: وهذا كلام باطل، بل الإمام أحمد علمه مشهور، وهو حافظ السنة، وفقهه وورعه ظاهر مقبول، فانظر هذه الجرأة على مثل هذا الإمام وما هي إلا من قلة الأدب، ولا عجب؛ فإن دأبهم القدح في الأئمة الأعلام، ولا ريب أن البحر لا يفسده ولوغ الكلاب؛ كما أن النقي لا يغيره مقل الذباب، وما مثلهم إلا كمثل الذباب الذي تحت ذنب جواد في سيره وكرِّه؛ فلا يعتريه نقص عن حاله، والله تعالى أعلم.
(عن هذا الحديث)؛ أي: المذكور في هذا الباب (قال) وفي رواية: (فقال) (فإنما) وفي رواية ابن عساكر والأصيلي: (وإنما) (أردت أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كان أعلى)؛ أي: أرفع (من الناس): الذين خلفه في الصلاة؛ (فلا) ولابن عساكر: (ولا) (بأس)؛ أي: لا حرج ولا كراهة (أن يكون الإمام أعلى من الناس) حال الصلاة (بهذا الحديث)؛ أي: بدلالة هذا الحديث، وجوز العلوُّ بقدر درجات المنبر، وزعم بعض الشافعية لو كان الإمام على رأس منارة المسجد والمأموم في قعر بئره؛ صح الاقتداء.
قلت: وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ لأنَّ الشرط تقدُّم الإمام على المأموم، سواء كان أعلى من الناس أو أسفل منهم، بشرط أن يكونوا في المسجد لا في الصحراء، كما هو مقرر في الفروع.
(قال) أي: علي بن عبد الله المديني: (فقلت)؛ أي: لأحمد ابن حنبل، وفي رواية: (قال: قلت)؛ بدون الفاء: (إن سفيان) وفي رواية الأصيلي وأبي الوقت: (فإن سفيان) (بن عُيَيْنة)؛ بضم العين المهملة، وفتح المثناة التحتية الأولى، وسكون الثانية (كان يُسأل)؛ بضم أوله على صيغة المجهول (عن هذا)؛ أي: الحديث المذكور (كثيرًا، فلم) أي: أفلم (تسمعه منه؟ قال: لا) فهو متضمن للاستفهام بدليل الجواب بكلمة (لا)، ثم إن المنفي هو جميع الحديث؛ لأنَّه صريح في ذلك، ولا يلزم من ذلك عدم سماع البعض، والدليل على ذلك: أن أحمد قد أخرج في «مسنده» عن ابن عيينة بهذا الإسناد من هذا الحديث قول سهل: (كان المنبر من أثل الغابة) فقط، كذا في «عمدة القاري».
قلت: فهذا صريح في أن أحمد لم يسمع هذا الحديث من ابن عيينة، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الدئل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مراقي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يستحب).
==================
[1] في الأصل: (الدئل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مراقي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الدئل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مراقي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/639)
[حديث: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا]
378# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد بن عبد الرحيم): هو الحافظ البغدادي المعروف بصاعقة (قال: حدثنا يزيد بن هارون): هو الواسطي (قال: أخبرنا حميد) بضم الحاء المهملة (الطويل): هو البصري، (عن أنس بن مالك) هو الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سقط عن فرس)؛ بدون الضمير، وفي رواية: (عن فرسه)؛ بالضمير، فعلى الأولى؛ يحتمل أن الفرس عارية، وعلى الثانية؛ أن الفرس ملك النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية أبي داود: (فصرع عنه)؛ ومعناه: سقط أيضًا، وكان ذلك في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة، (فجُحِشَت ساقه)؛ بضم الجيم، وكسر الحاء المهملة، وفتح الشين المعجمة، من الجحش، وهو جحش الجلد؛ وهو الخدش، يقال: جحشه يجحشه جحشًا: خدشه، وقيل: أن يصيبه شيء يجحش؛ كالخدش أو أكثر من ذلك، وقيل: الجحش فوق الخدش، وقد يكون ما أصابه عليه السَّلام من ذلك السقوط مع الخدش رضٌّ في الأعضاء وتوجع، فلذلك منعه القيام للصلاة، كذا قاله إمام الشَّارحين، (أو كتفه)؛ يعني: أو جحشت كتفه بالشك من الراوي، وفي رواية: بـ (الواو) الواصلة، وفي رواية الزهري عن أنس عند المؤلف: (فجحش شقه الأيمن)، وعند أحمد عن حميد عن أنس بسند صحيح: (انفكت قدمه)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وعند الإسماعيلي من رواية بشر بن المفضل عن حميد: (انفكت قدمه)، كما عند أحمد، والفرق بين هذه الروايات ظاهر، وليس لأحدها شمول للأخرى، وزعم القسطلاني أن رواية المؤلف (فجحش شقه الأيمن) أشمل.
قلت: وهو غير ظاهر، فإن معناه: الجنب؛ وهو الخاصرة، فلا يشمل الكتف ولا الساق، كما لا يخفى.
(وآلى من نسائه شهرًا)؛ أي: حلف ألَّا يدخل عليهنَّ شهرًا، والإيلاء على وزن (إفعال)؛ هو الحلف، يقال: آلى يُولي، وتألَّى بالياء، والألية: اليمين، والجمع ألايا؛ كعطية وعطايا، وإنما عُدِّي آلى بكلمة (من) وهو لا يعدى إلا بكلمة (على)؛ لأنَّه ضمن فيه معنى البعد، ويجوز أن تكون (من) للتعليل مع أن الأصل فيه أن تكون للابتداء؛ أي: آلى من نسائه؛ أي: بسبب نسائه ومن أجلهنَّ، كذا قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: (وليس المراد منه الإيلاء المتعارف بين الفقهاء؛ وهو الحلف على ترك قربان امرأته أربعة أشهر وأكثر منها عند الإمام الأعظم، وعند مالك، والشافعي، وأحمد: لا بد من أكثر، والمولي: من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه، فإن وطئها في المدة؛ كفَّر؛ لأنَّه حنث في يمينه، وسقط الإيلاء، وإلا؛ بانت بتطليقة واحدة، وكان الإيلاء طلاقًا في الجاهلية، فغير الشرع حكمه، ويأتي بيان حكمه في بابه إن شاء الله تعالى) انتهى كلامه
(فجلس) عليه السَّلام (في مَشْرَبة)؛ بفتح الميم، وسكون الشين المعجمة، وفتح الراء وضمها؛ وهي الغرفة، ويقال: هي
%ص 494%
أعلى البيت شبه الغرفة، وقيل: الخزانة، وهي بمنزلة السطح لما تحتها، كذا في «عمدة القاري»، (له) أي: ملكه عليه السَّلام (درجتها) أي: سلمها الذي يتوصل إليها (من جُذُوع النخل)؛ بضم الجيم والذال المعجمة، جمع جِذْع _بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة_ وجمعه: جذوع وأجذاع، قاله ابن دريد، وقال الأزهري: (ولا يتبين للنخل جذع حتى يتبين ساقها)، وفي «المحكم»: (الجذع: ساق النخلة)، كذا قاله الشَّارح، وفي رواية: (من جُذوعٍ) فقط بضم الجيم والتنوين؛ بغير إضافة؛ والمعنى: أن هذه الغرفة مصنوعة من جذوع النخل.
(فأتاه أصحابه يعودونه)؛ بالدال المهملة، من العيادة للمريض، (فصلى) عليه السَّلام (بهم) أي: بأصحابه (جالسًا)؛ بالنصب على الحال، صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، كذا قاله البيهقي في «المعرفة» (وهم قيام): جملة اسمية حالية، والقيام: جمع قائم، أو مصدر بمعنى اسم الفاعل، ففيه جواز الصلاة على السطح وعلى الخشب؛ لأنَّ المشربة بمنزلة السطح لما تحتها، والصلاة فيها كالصلاة على السطح، وبذلك قال الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وكره الحسن وابن سيرين الصلاة على الألواح والأخشاب، وكذلك روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما، وكذلك روي عن مسروق: أنه كان يحمل لبنة في السفينة يسجد عليها، كذا رواه عنهم ابن أبي شيبة بسند صحيح، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال ابن بطال: ومطابقة الحديث للترجمة في صلاته عليه السَّلام بأصحابه على ألواح المشربة وخشبها، والخشب مذكور في الترجمة، واعترضه الكرماني فقال: ليس في الحديث ما يدل على أنه صلى على الخشب؛ إذ المعلوم منه أن درجها من الجذوع لا نفسها، ويحتمل أنه ذكره لغرض بيان الصلاة على السطح؛ إذ يطلق السطح على أرض الغرفة.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: الظاهر: أن الغرفة كانت من خشب، فذكر كون درجها من النخل لا يستلزم أن تكون البقية من البناء، فالاحتمال الذي ذكره ليس بأقوى من الاحتمال الذي ذكرناه) انتهى.
قلت: ولا يخفى أن معنى جذوع النخل: ساقها، والساق: خشب يوضع على الجدران، يعمل منه الأسقف، والدرجة مصنوعة من تلك الجذوع، فهي مبنية من الجذوع؛ لأنَّ سقفها وجدرانها وسطحها كلها من الجذوع، فيطلق عليه أنه صلى على الخشب، وما زعمه الكرماني من أنه ليس في الحديث ... إلخ؛ ممنوع، فإن الحديث دال على ذلك، كما لا يخفى.
وقوله: (إذ المعلوم ... ) إلى آخره: ممنوع أيضًا، فإن نفس الغرفة مبنية من الجذوع؛ سقفها، وسطحها، وجدرانها، وبابها، كما لا يخفى.
وقوله: (ويحتمل ... ) إلى آخره: هذا قاصر؛ لأنَّه لا يشمل الصلاة على الخشب؛ فافهم.
(فلما سلَّم)؛ بتشديد اللام؛ أي: فرغ من صلاته واستقبال القبلة؛ استقبل الناس، ثم (قال) لهم مبينًا حكم الإمام: (إنما جُعِل) بضم الجيم مبني للمجهول (الإمام)؛ أي: إمامًا، وأتى بكلمة (إنما) للحصر؛ لأجل الاهتمام والمبالغة، والمفعول الثاني لقوله: (جعل) محذوف؛ تقديره: إنَّما جعل الإمام إمامًا؛ (ليؤتم) أي: لأجل أن يقتدى (به) وتتبع أفعاله، والمفعول الأول وهو قوله: (الإمامُ) قائم مقام الفاعل، ففيه دليل على وجوب المتابعة للإمام في جميع الأفعال حتى في الموقف والنية، فقال الإمام الأعظم ومالك: يضر اختلاف النية، وجعلا اختلافها داخلًا تحت الحصر في الحديث، وقال مالك: لا يضر الاختلاف بالهيئة بالتقدم في الموقف، وجعل الحديث عامًّا في ما عدا ذلك، وقال محمد بن إدريس: لا يضر اختلاف النية، وجعل الحديث مخصوصًا بالأفعال الظاهرة.
قلت: والحديث حجة على الشافعي؛ لأنَّ صلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بأصحابه إنَّما كانت واحدة، وهي فرض الظهر، فاختلاف النية يضر الصلاة، وهو الظاهر من الحديث، وكذلك اختلاف الموقف، كما علم من الفروع.
(فإذا كبر) أي: الإمام للتحريمة؛ (فكبروا)؛ أي: ليكبر من خلفه للتحريمة، وهم المقتدون به، ففيه حجة قوية، ومحجة مستقيمة لما ذهب إليه الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: أن المقتدي يكبر مقارنًا لتكبير الإمام، لا يتقدم الإمام ولا يتأخر عنه؛ لأنَّ (الفاء) معناها الحال، وهذا هو الأفضل، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: الأفضل أن يكون تكبير المقتدي بعد فراغ تكبير الإمام؛ لأنَّ (الفاء) معناها التعقيب، فإن كبر مع الإمام؛ أجزأه عند الإمام محمد رواية واحدة ويكون مسيئًا، وكذلك في أصح الروايتين عن الإمام أبي يوسف، وفي رواية عنه: لا يصير شارعًا، ثم ينبغي أن يكون اقترانهما في التكبير على قوله كاقتران حركة الخاتم والإصبع، والبعدية على قولهما أن يوصل ألف (الله) براء (أكبر)، وقال شيخ الإسلام: قول الإمام الأعظم أدق وأجود، وقولهما أرفق وأحوط، وبقولهما قال محمد بن إدريس، وزعم الماوردي إن شرع في تكبيرة الإحرام قبل فراغ الإمام منها؛ لم تنعقد صلاته، ويركع بعد شروع الإمام في الركوع، فإن قارنه أو سابقه؛ فقد أساء، ولا تبطل صلاته، فإن سلم قبل إمامه؛ بطلت صلاته، إلا أن ينوي الإمام المفارقة، ففيه خلاف.
(وإذا ركع) أي: الإمام؛ (فاركعوا) أي: ليركع من خلفه من المقتدين، (وإذا سجد) أي: الإمام؛ (فاسجدوا)؛ أي: ليسجد من خلفه من المقتدين، و (الفاء) في (فاركعوا) و (فاسجدوا) للتعقيب، وهو يدل على أن المقتدي لا يجوز له أن يسبق الإمام بالركوع والسجود، حتى إذا سبقه فيهما أو أحدهما ولم يلحقه الإمام فيه؛ فسدت صلاته، فلا بد من اشتراكهما في أداء الركن، فلو انفرد المقتدي بركن لم يشاركه فيه إمامه؛ فسدت صلاته.
(وإن صلى) وللأصيلي: (وإذا صلى) أي: الإمام (قائمًا؛ فصلوا قيامًا)؛ مفهومه: إن صلى قاعدًا؛ يصلي المأموم أيضًا قاعدًا، وهو غير جائز، ولا يعمل به؛ لأنَّه منسوخ لما ثبت أنه عليه السَّلام صلى في آخر عمره قاعدًا، وصلى القوم خلفه قائمين.
فإن قلت: جاء في بعض الروايات: (فإن صلى قاعدًا؛ فصلوا قعودًا).
قلت: معناه: فصلوا قعودًا إذا كنتم عاجزين عن القيام مثل الإمام، فهو من باب التخصيص، أو هو منسوخ كما ذكرنا، كذا قاله
%ص 495%
إمام الشَّارحين.
قلت: والصحيح أنه منسوخ، خلافًا لأحمد في مباحث ستأتي.
(ونزل) عليه السَّلام من المشربة (لتسع وعشرين) يومًا، (فقالوا) أي: الصحابة: (يا رسول الله؛ إنك آليت)؛ بفتح الهمزة وبالمد؛ أي: حلفت ألَّا تدخل على نسائك (شهرًا)؛ يعني: والشهر ثلاثون، فكيف نزلت لتسع وعشرين؟ (فقال) عليه السَّلام لهم: (إن الشهر): اللام فيه للعهد عن ذلك الشهر المعين (تسع وعشرون) وفي رواية: (تسعة وعشرون)، ولا يلزم أن يكون كل الشهور تسعًا وعشرين، ففيه أن الشهر لا يأتي كاملًا دائمًا، وإن من حلف على فعل شيء أو تركه في شهر كذا فجاء الشهر تسعًا وعشرين يومًا؛ يخرج عن يمينه، فلو نذر صوم شهر بعينه فجاء الشهر تسعة وعشرين يومًا؛ لم يلزمه أكثر من ذلك، وإذا قال: لله عليه صوم شهر من غير تعيين؛ كان عليه إكمال عدد ثلاثين يومًا.
وفي الحديث أيضًا مشروعية اليمين؛ لأنَّه عليه السَّلام آلى ألَّا يدخل على نسائه شهرًا، وفيه: استحباب العبادة عند حصول الخدشة ونحوها، وفيه: جواز الصلاة جالسًا عند عدم القدرة على القيام، وهذا في حق الفرائض، أما النوافل؛ فتجوز من قعود مع القدرة على القيام، ولكن له نصف أجر القائم، واستدل أحمد ابن حنبل، وإسحاق، والأوزاعي، وابن حزم بهذا الحديث: على أن الإمام إذا صلى قاعدًا؛ يصلي من خلفه قعودًا، وقال مالك بن أنس: لا تجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائمًا ولا قاعدًا، وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، والثوري، وأبو ثور، ومحمد بن إدريس، والجمهور من السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائمًا، وهذا في الفرض والواجب، أما النفل؛ فتجوز صلاة القادر على القيام قاعدًا خلف القائم والقاعد؛ لأنَّ النفل يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، كما صرح به «صاحب البحر».
قال إمام الشَّارحين: والجواب عن حديث الباب من وجوه؛ الأول: أنه منسوخ، وناسخه صلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالناس في مرض موته قاعدًا وهم خلفه قيام، وأبو بكر رضي الله عنه قائم يعلمهم بأفعال صلاته؛ بناء على أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان الإمام وأن أبا بكر كان مأمومًا في تلك الصلاة.
فإن قلت: كيف وجه هذا النسخ، وقد وقع في ذلك خلاف، وذلك أنَّ هذا الحديث الناسخ، وهو حديث عائشة فيه: أنه كان عليه السَّلام إمامًا وأبو بكر مأمومًا، وقد ورد فيه العكس، كما أخرجه الترمذي والنسائي عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: (صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدًا)، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وأخرج النسائي أيضًا عن حميد، عن أنس قال: (آخر صلاة صلاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع القوم؛ صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر رضي الله عنه).
قلت: مثل هذا لا يعارض ما وقع في «الصحيح» مع أن العلماء جمعوا بينهما، فقال البيهقي في «المعرفة»: ولا تعارض بين الحديثين، فإن الصلاة التي كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إمامًا [فيها] هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، والتي كان عليه السَّلام فيها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الاثنين، وهي آخر صلاة صلاها عليه السَّلام حتى خرج من الدنيا.
قال: وهذا لا يخالف ما ثبت عن الزهري عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين، وكشفه عليه السَّلام الستر ثم إرخائه، فإن ذلك إنَّما كان في الركعة الأولى، ثم إنه عليه السَّلام وجد في نفسه خفة، فخرج فأدرك معه الركعة الثانية.
وقال القاضي عياض: نسخ إمامة القاعد ثبتت بقوله عليه السَّلام: «لا يَؤُمنَّ أحد بعدي جالسًا»، وبفعل الخلفاء بعده، وأنه لم يؤم أحد منهم قاعدًا وإن كان النسخ لا يمكن بعده عليه السَّلام؛ لمثابرتهم على ذلك، يشهد بصحة ذلك نهيه عليه السَّلام عن إمامة القاعد بعده.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا الحديث أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في «سننهما» [1] عن جابر الجعفي عن الشعبي، وقال الدارقطني: لم يروه عن الشعبي غير جابر الجعفي، وهو متروك الحديث مرسل، لا تقوم به حجة، وقال عبد الحق في «أحكامه»: ورواه عن الجعفي مجالد، وهو أيضًا ضعيف) انتهى.
قلت: وقد يقال: المرسل حجة عند الأئمة الحنفية والجمهور، فيحتج به على ثبوت النسخ، ومراد القاضي عياض إثبات النسخ، وجوابه متضمن لشيئين: إثبات الخصوصية والنسخ، وكلاهما ثابت بهذا الحديث المرسل، وهو حجة؛ فتأمل.
ثم قال إمام الشَّارحين: (الوجه الثاني: أن الحديث كان مخصوصًا بالنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفيه نظر؛ فإن الأصل عدم الخصوصية حتى يدل عليه دليل، كما عرف في الأصول) انتهى.
قلت: وفي النظر نظر، فإنه عليه السَّلام لما فعل ذلك، ثم نهى عنه؛ دل على أنه إما نسخ، أو خصوصية، بل الخصوصية أقرب، كما ثبت بهذا الحديث المرسل المذكور آنفًا، فهو دليل الخصوصية؛ فتأمل.
ثم قال إمام الشَّارحين: (الوجه الثالث: يحمل قوله عليه السَّلام: «وإذا صلى جالسًا؛ فصلوا جلوسًا» على أنه إذا كان الإمام في حالة الجلوس؛ فاجلسوا، ولا تخالفوه بالقيام، وكذلك إذا صلى قائمًا؛ فصلوا قيامًا؛ يعني: إذا كان الإمام في حالة القيام؛ فقوموا، ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله: «فإذا ركع؛ فاركعوا، وإذا سجد؛ فاسجدوا») انتهى.
قلت: يعني: فحينئذ يكون المراد بذلك المتابعة للإمام في أفعاله من حيث الأركان لا من حيث الاقتداء على هيئته في القعود، والمؤتم مثله، ويحتمل أن يكون المراد به الاقتداء في أثناء الصلاة؛ يعني: متى أدركتم الإمام في القيام؛ فوافقوه، وإن في الجلوس؛ فكذلك، وهكذا؛ فتأمل.
ثم قال إمام الشَّارحين: (ولقائل أن يقول: لا يقوى الاحتجاج على أحمد ابن حنبل بحديث عائشة المذكور: أنه عليه السَّلام صلى جالسًا والناس خلفه قيام، بل ولا يصلح حجة؛ لأنَّه لا تجوز صلاة القائم خلف من شرع في صلاته قائمًا، ثم قعد لعذر، ويجعلون هذا منه عفوًا، سيما وقد ورد في بعض طرق الحديث: أنه عليه السَّلام أخذ في القراءة من حيث انتهى إليه أبو بكر، رواه الدار قطني في «سننه»، وأحمد في «مسنده») انتهى.
قلت: وقد يقال: الاحتجاج به قوي، ويجعل هذا كمن سبقه الحدث في الصلاة واستخلف
%ص 496%
واحدًامن المقتدين به؛ ليتم بهم صلاتهم، يدل عليه شروعه في الصلاة قائمًا، ثم عرض له العذر المفضي للقعود، فصار أبو بكر مستخلفًا، فإنه عليه السَّلام لما عرض له العذر؛ استخلف أبا بكر، فهو صحيح تجوز الصلاة حينئذ؛ فتأمل.
ثم قال إمام الشَّارحين: ورواية الدارقطني وأحمد مرسلة؛ لأنَّها ليست من رواية ابن عباس عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنما أوردها ابن عباس، عن أبيه العباس، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكذلك رواه البزار في «مسنده» بسند فيه قيس بن الربيع، وهو ضعيف، قال: وكان ابن عباس كثيرًا ما يرسل، كذا قاله ابن القطان في كتابه «الوهم والإيهام»، ورده إمام إمام الشَّارحين فقال: (ورواه ابن ماجه من غير طريق قيس، فقال: حدثنا علي بن محمد: حدثنا وكيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس: لما مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ فذكره ... إلى أن قال: (قال ابن عباس: وأخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في القراءة من حيث بلغ أبو بكر) انتهى.
قلت: وقد يقال: إن فيه الرواية تخالفًا، فمفاد الأولى: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم استخلف أبا بكر، وهذه أبو بكر استخلف النبيَّ الأعظم عليه وسلم، والرواية الصحيحة الأولى وإن كانت مرسلة، وفي بعض طرقها ضعيف، لكن لما كثرت طرقها؛ تقوت؛ فتأمل.
وزعم الخطابي أن أبا داود ذكر هذا الحديث من رواية جابر، وأبي هريرة، وعائشة، ولم يذكر صلاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم آخر ما صلاها بالناس وهو قاعد والناس خلفه قيام، وهذا آخر الأمرين من فعله عليه السَّلام، ومن عادة أبي داود فيما أنشأه من أبواب كتابه أن يذكر الحديث في بابه، ويذكر الذي يخالفه في باب آخر على إثره، ولم أجده في شيء من النسخ، فلست أدري كيف أغفل ذكر هذه القصة، وهي من أمهات السنن، وإليه ذهب أكثر الفقهاء؟
ورده إمام الشَّارحين فقال: (إما [2] تركها سهوًا وغفلة، أو كان رأيه في هذا الحكم مثل ما ذهب إليه أحمد؛ فلذلك لم يذكر ما ينقضه) انتهى.
قلت: والظاهر الثاني ولا عبرة بذلك، فإن القصة ثابتة في «الصحيحين»، وهما أقوى وأصح الكتب، وما في غيرهما لا يقاوم في ما فيهما، والحاصل: أن الحجة قوية على أحمد ومن تبعه، وأن ما ذهب إليه منسوخ أو مخصوص، وسيأتي لذلك مزيد كلام إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (سنتيهما).
[2] في الأصل: (لما)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (سنتيهما).
[1] في الأصل: (سنتيهما).
(1/640)
(19) [باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد]
هذا (باب)؛ بالتنوين (إذا أصاب ثوب المصلي امرأته) وهو (في) حالة (السجود) وفي بعض النسخ: (إذا سجد)؛ يعني: هل تفسد صلاته أم لا؟
==========
%ص 497%
==================
(1/641)
[حديث: كان رسول الله يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض]
379# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد): هو ابن مسرهد البصري، (عن خالد): هو ابن عبد الله الواسطي الطحان أبو الهيثم (قال: حدثنا سليمان الشيباني): هو أبو إسحاق الكوفي التابعي، (عن عبد الله بن شداد): هو ابن الهاد المدني، وسقط لفظ (ابن شداد) للأصيلي، (عن ميمونة): هي بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها (قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي) جملة في محل النصب على أنها خبر (كان)؛ يعني: في بيتها صلاة النافلة (وأنا حذاؤه)؛ بكسر الحاء المهملة، وبالذال المعجمة المفتوحة، والجملة اسمية وقعت حالًا؛ أي: والحال أنا بإزائه ومحاذيه، والحذاء والحذوة والحذة كلها بمعنًى، كذا في «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أن (حذاءه)؛ بالنصب على الظرفية، ويروى: (حذاؤه)؛ بالرفع، قال إمام الشَّارحين: (الصحيح: أن «حذاؤه»؛ بالرفع على الخبرية) انتهى.
قلت: ورواية الرفع هي رواية الأكثرين، والنصب قيل: إنها رواية «اليونينية»، وللأكثر حكم الكل.
(وأنا حائض) جملة اسمية وقعت حالًا، إما من الأحوال المترادفة [1]، أو من الأحوال المتداخلة، الأولى بالواو والضمير، والثانية بالواو فقط، كذا في «عمدة القاري».
وإنما ترك التابع مع أنها مؤنث؛ لأنَّه لا فرق بين الحائض والحائضة، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا؛ فهي حائض وحائضة، وأنشد الفراء:
كحائضة يزني بها غير حائض ...
وفي اللغة لم يفرق بينهما، غير أن الأصل فيه التأنيث، ولكن لخصوصية النساء به وعدم الالتباس؛ ترك التاء، كذا في «عمدة القاري»؛ فاعرفه.
(وربَّما)؛ بتشديد الموحدة، وهي تحتمل التقليل حقيقة، والتكثير مجازًا، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: عند سيبويه وجماعة: أن (رب): حرف تكثير، وعند ابن درستويه وجماعة: أنها للتكثير دائمًا، كما في «المغني»، بل نقل الحلبي عن جماعة: أنها لا تفيد التقليل إلا بقرينة، انتهى.
وإذا زيدت كلمة (ما) بعدها؛ فالغالب أن تكفها عن العمل، وأن تهيئها للدخول على الجملة الفعلية، وأن يكون الفعل ماضيًا لفظًا ومعنًى، ومنه قول الشاعر:
ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات
وتمامه في شرحنا على «الأزهرية».
(أصابني ثوبه) عليه السَّلام (إذا سجد) في صلاته، (قالت) أي: ميمونة: (وكان) عليه السَّلام (يصلي على الخُمْرة)؛ بضم الخاء المعجمة، وسكون الميم؛ سجادة صغيرة تعمل من سعف النخيل، وترمل بالخيوط، قيل: سميت خُمرة؛ لأنَّها تستر وجه المصلي عن الأرض، ومنه سمي: الخمار الذي يستر الرأس، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن بطال الخُمْرة: مصلًّى صغير ينسج من السعف، فإن كان كبيرًا قدر طول الرجل أو أكثر؛ فإنه يقال له: حصير، ولا يقال له: خمرة، وجمعها: خمر، وفي حديث ابن عباس: (جاءت فأرة فأخذت نجر الفتيل، فجاءت بها، فألقتها بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع درهم)، وهذا ظاهر في إطلاق الخمرة على الكبيرة من نوعها، انتهى.
قلت: الخمرة: السجادة الصغيرة التي تكون على قدر قامة الرجل، ويدل لذلك حديث ابن عباس: وأما الخمرة الكبيرة؛ هي التي تكون أكثر من قدر قامة الرجل، وهي تسمى: سجادة أيضًا وحصيرًا، ولا تسمى خمرة، ففي كلام ابن بطال خلط، كما لا يخفى.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث أحكام؛ الأول: فيه جواز مخالطة الحائض، الثاني: فيه طهارة بدن الحائض وثوبها، الثالث: فيه إذا أصاب ثوب المصلي المرأة؛ لا يضر ذلك صلاته ولو كانت المرأة حائضًا، والباب معقود لذلك.
وظاهر الحديث يدل على صحة الصلاة، وكانت عادة المؤلف أن يأتي بمثل هذه الترجمة في التراجم إذا كان في الحكم اختلاف، وهذا الحكم ليس فيه اختلاف.
فإن قلت: روي عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يأتي بتراب فيضعه [2] على الخمرة فيسجد عليه.
قلت: كان هذا منه على تقدير صحته للمبالغة في التواضع والخشوع، لا على أنه كان لا يرى الصلاة على الخمرة، وكيف هذا وقد صلى عليه السَّلام عليها وهو أكثر تواضعًا وأشد خضوعًا؟) انتهى.
قلت: وقد يقال: مراد عمر بن عبد العزيز بذلك الفضيلة؛ لأنَّ المستحب السجود على الأرض أو على ما تنبته الأرض، فجعل التراب على الخمرة؛ ليكون سجوده على الأرض، وأما صلاته عليه السَّلام عليها؛ فهو لبيان الجواز؛ لأنَّه الشَّارع صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: روى ابن أبي شيبة عن عروة: أنه كان يكره الصلاة على شيء دون الأرض).
قلت: لا حجة فيه لأحد في خلاف ما فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويمكن أن يقال: مراده من الكراهة التنزيه، وكذا يقال في كل ما
%ص 497%
روي عنه بمثله) انتهى.
الرابع: فيه استحباب حمل السجادة للصلاة حتى في المساجد، لا سيما في زماننا؛ لما يشاهد من التهاون في أمر الطهارة في سجاجيد المساجد وحصرها، بل لو قيل بفرضية حملها غير بعيد.
الخامس: فيه جواز الصلاة على الخمرة من غير كراهة، وعن ابن المسيب: الصلاة على الخمرة سنة، وقد فعل ذلك جابر، وأبو ذر، وزيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنه، وزعم الكرماني أن فيه أن الصلاة لا تبطل بمحاذاة المرأة، وتبعه ابن حجر، ورده إمام الشَّارحين، فقال: قصدهما بذلك الغمز في مذهب الحنفية في أن محاذاة المرأة المصلي مفسدة لصلاة الرجل، ولكن هيهات لما قالا؛ لأنَّ المحاذاة المفسدة عندهم أن يكون الرجل والمرأة مشتركين في الصلاة أداء وتحريمة وغير ذلك، وهم أيضًا يقولون: إن محاذاة المرأة المذكورة في هذا الحديث غير مفسدة، فحينئذٍ إطلاقهما الحكم فيه غير صحيح، وهو من ضربان عرق العصبية) انتهى.
قلت: ولا شك في ذلك، فإن عرق العصبية لا يفتر عنهما خصوصًا ابن حجر، وكلاهما غير مصيب، فأين لهما من الاعتراض على مذهب الحنفية الذي هو الحق الصواب وما عداه خطأ؟! لا سيما أنَّهما ليس لهما معرفة في مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين حتى قالا هذا القول، فإن محاذاة المرأة إنَّما يكون مفسدًا بشروط؛ منها: أن تكون الصلاة واحدة أداء وتحريمة، وغير ذلك، كما هو مقرر في كتب الفروع، والمرأة التي في هذا الحديث ليست كذلك، بل هي ليست بطاهرة، فهذا كلام من لم يشم شيئًا من العلم، والولد الصغير لا يستنبط هذا الاستنباط، ولكن مرادهم القدح، والعناد، والتعصب، والتعنت، وغير ذلك من الأمور المخالفة للشرع، ألم يعلموا أن الإمام الأعظم حين استنبط الأحكام كان إمامهم محمد بن إدريس منيًا في ظهر أبيه، ثم بعد أن نشأ وقرأ على الإمام محمد بن الحسن قال: الناسعيالللإمام الأعظم؟ وقال: من أراد التفقه؛ فعليه بكتب محمد بن الحسن، فهذا أدب إمامهما، وكان عليهما التأدب أيضًا؛ فإن إمامهما قد تأدب مع إمامنا، وصح أنه صلى الفجر عنده ولم يقنت، وهذا يدل على أنه مقلد لا مطلق، وسيأتي بقية الكلام إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (الترادفة)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (فيوضعه)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (الترادفة)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (الترادفة)، وهو تحريف.
(1/642)
(20) [باب الصلاة على الحصير]
هذا (باب) بيان حكم (الصلاة على الحَصِير)؛ بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، وفي «المحكم»: أنها سفيفة تصنع من بردي وأَسل، سميت بذلك؛ لأنَّها تفرش على وجه الأرض، وكذلك يسمى وجه الأرض حصيرًا، والسَّفيْفة؛ بفتح السين المهملة، وبالفاءين، بينهما تحتية ساكنة: شيء يعمل من الخوص؛ كالزنبيل، والأَسل؛ بفتح الهمزة، والسين المهملة، آخره لام: نبات له أغصان كثيرة دقاق لا ورق لها، وفي «الجمهرة»: (الحصير عربي، سمي حصيرًا؛ لانضمام بعضها إلى بعض)، وقال الجوهري: (الحصير: الباريَّة)، كذا في «عمدة القاري».
ووجه مناسبة هذا الباب بالباب الذي قبله من حيث إن كلًّا منهما ذكر في حكم الصلاة، ففي الأول: السجود على الخمرة؛ وهي السجادة التي توضع على الأرض، وهنا السجود على الحصير التي توضع أيضًا على الأرض، وقدمنا تمام الكلام في باب (عقد الإزار على القفا)؛ فافهم.
(وصلى جابر) ولأبي ذر وأبي الوقت: (وصلى جابر بن عبد الله): هو الأنصاري رضي الله عنه (وأبو سعيد): هو سعد بن مالك (الخدري) رضي الله عنه (في السفينة): وهي الفلك؛ لأنَّها تسفن وجه الماء؛ يعني: تقشره، فعيلة بمعنى فاعلة، والجمع سفائن وسفن وسفين (قيامًا): جمع قائم، وأراد به التثنية؛ أي: قائمين، وهو نصب على الحال، وفي بعض النسخ: (قائمًا)؛ بالإفراد بتأويل كل منهما قائمًا، وهذا التعليق وصله أبو بكر ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد الله بن أبي عتبة مولى أنس، قال: (سافرت مع أبي الدرداء، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله _وأناس قد سماهم، قال_: فكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائمًا، ونصلي خلفه قيامًا، ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، يقال: أرسى السفينة؛ بالسين المهملة، وأرفى؛ بالفاء: إذا وقف بها على الشط، والبخاري اقتصر هنا على ذكر الاثنين وهما جابر وأبو سعيد رضي الله عنهما، كذا قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: ووجه مناسبة إدخال هذا الأثر في هذا الباب هو أنَّ هذا الباب في (الصلاة على الحصير)، وفي الباب الذي قبله: (وكان يصلي على الخمرة)، وكل واحد من الحصير والخمرة يعمل من سعف النخل، ويسمى: سجادة، والسفينة أيضًا مثل السجادة على وجه الماء، فكما أن المصلي يسجد على الخمرة والحصير دون الأرض، فكذلك الذي يصلي في السفينة يسجد على غير الأرض) انتهى.
وزعم ابن المنير في وجه المناسبة بينهما هو أنَّهما اشتركا في الصلاة على غير الأرض؛ لئلا يتخيل أن مباشرة المصلي الأرض شرط من قوله عليه السَّلام لمعاذ: «عفر وجهك في التراب» انتهى.
ورده إمام الشَّارحين: بأنه لا يخلو عن حزازة، والوجه القوي ما ذكرناه، انتهى.
قلت: ولا مناسبة لحديث معاذ هنا؛ لأنَّه ورد في (التيمم).
وقوله: (لئلا يتخيل ... ) إلخ: ممنوع، فإن الصلاة جائزة على الأرض حقيقةً وحكمًا، فالمصلي في السفينة مصلٍّ على الأرض حكمًا، فلا حاجة إلى هذا الكلام؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (ويستنبط من هذا الأثر: هو أن الصلاة في السفينة إنَّما تجوز إذا كان المصلي قائمًا، وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: تجوز الصلاة فيها قائمًا وقاعدًا، بعذر وبغير عذر، وبه قال الحسن بن مالك، وأبو قلابة، وطاووس، روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة، وروى أيضًا عن مجاهد: أن جنادة بن أبي أمية قال: كنا نغزو معه، لكنا نصلي في السفينة قعودًا، ولأن الغالب فيها دوران الرأس؛ فصار كالمتحقق، والأولى أن يخرج منها إن استطاع الخروج منها، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تجوز الصلاة في السفينة قاعدًا إلا من عذر؛ لأنَّ القيام ركن، فلا يترك إلا من عذر، والخلاف في غير المربوطة، فلو كانت مربوطة في لجة البحر؛ لم تجز الصلاة قاعدًا إجماعًا، وقيل: تجوز عنده في حالتي الإجراء والإرساء، ويلزمه التوجه للقبلة عند الاستفتاح، وكلما دارت السفينة؛ لأنَّها في حقه كالبيت حتى لا يتطوع فيها مومئًا مع القدرة على الركوع والسجود، بخلاف راكب الدابة) انتهى.
قلت: فإن راكب الدابة يصلي مومئًا على الدابة إلى أي جهة توجهت به دابته، وهذا إذا كان خارج المصر عند الإمام الأعظم والإمام محمد بن الحسن، وقال الإمام أبو يوسف: يجوز أيضًا إذا كان في المصر، وهذا الأثر المذكور عن جابر وأبي سعيد يدل لما قاله الإمام الأعظم؛ لأنَّ معناه: أن الصلاة تجوز في السفينة قائمًا وقاعدًا من غير عذر؛ لأنَّهما صليا [1] فيها وهي راسية؛ لقوله: (ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، فإذا كانت كذلك؛ فلا تجوز الصلاة قاعدًا، فلهذا صلى إمامهم قائمًا، وهذا ظاهر؛ فافهم.
%ص 498%
(وقال الحسن): هو البصري، مما وصله ابن أبي شيبة كما سيأتي (تصلي): خطابًا لمن سأله عن الصلاة في السفينة: هل يصلي قائمًا أو قاعدًا؟ فأجابه بقوله له: تصلي (قائمًا)؛ أي: حال كونك قائمًا تركع وتسجد (ما لم تشق)؛ بالفوقية والتحتية (على أصحابك)؛ أي: بالقيام، وكلمة (ما) مصدرية ظرفية، معناها المدة؛ والمعنى: تصلي قائمًا مدة دوام عدم شق أصحابك (تدور معها)؛ أي: مع السفينة حيثما دارت، فأفاد بهذا أنه يلزمه التوجه للقبلة عند الاستفتاح، وكلما دارت السفينة، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، خلافًا لمن زعم عدم لزوم الدوران، (وإلا) أي: وإن لم يشق على أصحابك القيام؛ (فقاعدًا)؛ أي: فصل حال كونك قاعدًا؛ لأنَّ الحرج مدفوع، وأجاز إمامنا رئيس المجتهدين الصلاة في السفينة قاعدًا مع القدرة على القيام، سواء كان بعذر أم لا، وظاهر كلام الحسن البصري هذا: أنَّ القيام ليس شرطًا؛ لأنَّه جعله لأجل الموافقة للأصحاب، وهو دليل الاستحباب؛ كالصوم في السفر إذا كان يشق على الأصحاب؛ فالمستحب الفطر، وإلا؛ فالمستحب الصوم، فكلام الحسن موافق لما ذهب إليه الإمام الأعظم، ولئن قيل غير ذلك؛ فهم رجال ونحن رجال، فإن الأثر عن التابعي لا يعارض مذهب تابعي آخر، بل الصواب ما عليه إمامنا، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: (يصلي)؛ بالمثناة التحتية، وكذلك: (يشق على أصحابه)؛ بضمير الغائب، و (يدور)؛ بالتحتية كذلك، وفي غير رواية أبي ذر: (تصلي)، و (تشق)، و (تدور)؛ بالمثناة الفوقية في الثلاثة، وهي أوفق في المعنى، قيل: وفي متن «الفرع»: (وقال الحسن: قائمًا ... ) إلى آخره، فأسقط لفظة: (يصلي).
قلت: والظاهر: أنها سقطت سهوًا أو غفلة من الناسخ؛ لأنَّه لا بد منها لصحة المعنى؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: حدثنا حفص عن [2] عاصم، عن الشعبي، والحسن، وابن سيرين: أنَّهم قالوا: حل في السفينة قائمًا، وقال الحسن: لا تشق على أصحابك، وفي رواية الربيع بن صالح: أن الحسن ومحمدًا قالا: يصلون فيها قيامًا جماعة، ويدورون مع القبلة حيث دارت، والبخاري اقتصر على الذكر عن الحسن) انتهى.
قلت: ولعل اقتصاره عليه كونه ذكر التفصيل، وهو إذا شق على أصحابه؛ يصلي قاعدًا، وإلا؛ فقائمًا، والظاهر: أن المؤلف اختار قوله فاقتصر عليه، والظاهر: أن القيام ليس بشرط على قول الحسن وكذلك على قول ابن سيرين لأن الشق على الأصحاب لعدم موافقتهم مستحبٌّ لا واجبٌ، كما يستفاد من كلامهما، وهو ظاهر اللفظ، فصار الحاصل: أن القيام فيها غير شرط، بل مستحب؛ لأجل موافقة أصحابه، وهذا كالصوم في السفر كما ذكرنا، والله تعالى أعلم؛ فافهم ذلك.
==================
[1] في الأصل: (صلا)، والمثبت هو الصواب.
(1/643)
[حديث: قوموا فلأصل لكم]
380# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي، وفي رواية: (عبد الله) فقط (قال: حدثنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي، وزعم القسطلاني هو إمام الأئمة.
قلت: لفظة: (إمام الأئمة) لا تطلق إلا على إمامنا الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنَّه إمامهم ورئيسهم، إلا أن يقال: المراد إمام أئمة مذهبه، وكذلك لفظة: (الإمام الأعظم) لا تطلق إلا على أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لكونه أقدم الأئمة وإمامهم ورئيسهم؛ حيث إن الأئمة الثلاثة من أتباعه، فإن مالك من تلامذته في الفقه، والشافعي من تلاميذ محمد بن الحسن ووكيع، وهما من تلاميذ الإمام الأعظم، وأحمد من تلاميذ الشافعي؛ فافهم.
(عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني والحمُّوي: (عن إسحاق ابن أبي طلحة)؛ بنسبته إلى جده، واسم أبي طلحة: زيد بن سهل الأنصاري، المتوفى سنة اثنتين [1] وثلاثين ومئة، وكان مالك لا يقدم على إسحاق أحدًا في الحديث، (عن أنس بن مالك): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (أن جدته)؛ أي: جدة إسحاق لأبيه، وبه جزم القاضي عياض، وابن عبد البر، وعبد الحق، وصححه النووي، واسمها: (مُلَيْكة)؛ بضم الميم، وفتح اللام، وسكون التحتية: هي بنت مالك بن عدي، وهي جدة أنس بن مالك؛ لأنَّ أمه أم سليم، وأمها مُلَيْكة المذكورة، ويؤيده ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يزور أم سليم ... )؛ الحديث، وأم سليم: هي أم أنس، وأمها مُلَيْكة المذكورة، واختلف في اسم أم سليم، فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: رمية، وقيل: الرميصاء، وقيل: الغميصاء، وقيل: أنيفة؛ بالنون، والفاء مصغرة، وتزوج أم سليم مالك بن النضر، فولدت له أنس بن مالك، ثم خلف عليها أبو طلحة، فولدت له عبد الله وأبا عمير، وعبد الله هو والد إسحاق راوي هذا الحديث عن عمه _أخي أبيه لأمه_ أنس بن مالك، وقال جماعة: الضمير في (أن جدته) يعود على أنس نفسه، وبه جزم ابن سعد، وابن منده، وابن الحصار، وهو مقتضى ما في «النهاية»، ويؤيده ما ذكره أبو الشيخ الأصبهاني في «فوائد العراقيين» من حديث إسحاق ابن أبي طلحة، عن أنس قال: (أرسلتني جدتي إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، واسمها مليكة ... )؛ الحديث، ولا تنافي بين كون مليكة جدة أنس، وبين كونها جدة إسحاق، كذا قرره إمام الشَّارحين رحمه الله تعالى.
(دعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لطعام) أي: لأجل طعام (صنعته)؛ أي: ركبته، والجملة فعلية في محل الجر؛ لأنَّها صفة (لطعام)؛ أي: مليكة جدة أنس، أو إسحاق، أو ابنتها أم سليم والدة أنس بن مالك (له)؛ أي: لأجله عليه السَّلام، (فأكل منه): وعند ابن أبي شيبة عن أنس قال: (صنع بعض عمومتي للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم طعامًا، فقالت: إني أحب أن تأكل منه في بيتي، وتصلي فيه، قال: فأتاه، وفي البيت فحل من تلك الفحول، فأمر بجانب منه، فكنس ورش، فصلى وصلينا معه).
وعند النسائي: (أن أم سليم سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأتيها فيصلي في بيتها فتتخذه مصلًّى، فأتاها، فعمدت إلى حصير فنضحته، فصلى عليه، وصلوا معه).
وفي «الغرائب» للدارقطني عن أنس قال: (صنعت مليكة طعامًا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي: «قم فتوضأ، ومر العجوز فلتتوضأ، ومر هذا اليتيم فليتوضأ، فلأصلي لكم»، قال: فعمدت إلى حصير عندنا).
%ص 499%
وفي «سنن البيهقي» من حديث أبي قلابة عن أنس: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتي أم سليم يقيل عندها، وكان يصلي على نطع، وكان كثير العرق، فتتبع العرق من النطع تجعله في القوارير مع الطيب وكان يصلي على الخمرة) كذا في «عمدة القاري».
قلت: وإفادة هذه الروايات: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان مجيئه لأجل الصلاة، وكان غرض مليكة الصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها، خلافًا لمن زعم أن مجيئه كان لأجل الطعام، فإن هذه الروايات تردُّ عليه كما هو ظاهر، وسيأتي بقية الكلام عليه.
(ثُمَّ قَالَ) عليه السَّلام لهم: (قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ) بكسر اللام، وضم الهمزة، وفتح المثناة التحتية، ووجهه أن اللام فيه لام (كي)، والفعل بعدها منصوب بـ (أن) المقدرة؛ تقديره: فلأن أصلي لكم، والياء زائدة، والفاء جواب الأمر، ومدخول الفاء محذوف؛ تقديره: قوموا فقيامكم لأصلي لكم، فاللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن تكون الفاء زائدة على رأي الأخفش، واللام متعلقة بـ (قوموا)، وفي رواية: (فلأصليْ) بكسر اللام على أنها لام (كي) وسكون الياء، ووجهه: أن تسكين الياء المفتوحة للتخفيف، وفي مثل هذا لغة مشهورة، ويجوز أن تكون اللام لام الأمر، وتثبت الياء في الجزم؛ إجراء للمعتل مجرى الصحيح.
وفي رواية الأربعة (فلَأصليْ) بفتح اللام وسكون الياء، ووجهه: أن تكون اللام لام الابتداء؛ للتأكيد، أو تكون اللام لام الأمر، وفتحت على لغة بني سليم، وثبتت الياء في الجزم؛ إجراء للمعتل مجرى الصحيح؛ كقراءة قنبل {مَن يَتَّقي وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90]، أو تكون اللام جواب قسم محذوف، والفاء جواب شرط محذوف؛ تقديره: إن قمتم؛ فوالله لأصلي لكم.
واعترض هذا الوجه ابن السِّيد فزعم (وغلط من توهم أنه قسم؛ لأنَّه لا وجه للقسم، ولو أريد ذلك؛ لقال: لأصلين؛ بالنون) انتهى.
قلت: بل الزاعم أنه لا وجه للقسم هو الغالط الواهم؛ فإن وجه القسم ظاهر وهو مراد، ولا يلزم أن يقول: لأصلين؛ بالنون؛ لأنَّ هذا في القسم الصريح، أما المقدر؛ فلا، وهنا جواب القسم محذوف كما علمت.
وفي رواية الأصيلي: (فلأصلِّ) بحذف الياء وكسر اللام، ووجهه: أن تكون اللام لام الأمر، والفعل مجزوم بحذفها.
وفي رواية حكاها ابن قرقول: (فلنصلِّ) بكسر اللام وبنون الجمع، ووجهه: أن تكون اللام لام الأمر، والفعل مجزوم بها، وعلامة الجزم سقوط الياء وكسر اللام لغة معروفة.
وفي رواية الكشميهني: (فأصليْ) بحذف اللام وسكون الياء على صيغة الإخبار عن نفسه، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره: فأنا أصلي، والجملة جواب الأمر، وهذه رواية الكشميهني، كما ذكرنا.
وزعم ابن حجر أنه لم يقف عليها في نسخة صحيحة.
قلت: وهو ممنوع، فإنه لايلزم من عدم وقوفه عليها ألا تكون ثابتة؛ فإنه ليس هو ممن يحيط بجميع الروايات على أنه ما ذكرناه مثبت، وكلامه ناف، والمثبت مقدم على النافي عند المحققين؛ فافهم.
فهذه ستُّ روايات مع ذكر أوجه إعرابها، وقد سردها إمامنا الشَّارح رضي الله عنه.
(لَكُمْ)؛ أي لأجلكم، فاللام للعلة من حيث إن صلاته كانت لأجل اقتدائهم به عليه السَّلام، فلا يقال: إن الظاهر أن يقول: بكم؛ بالموحدة؛ لأنَّهم قد يصلون معه في المسجد، فأراد عليه السَّلام الصلاة عندهم واقتداءهم به، فهو متضمن لشيئين.
على أنه قد تكون اللام بمعنى الباء؛ لأنَّ حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، ويدل لهذا: ما في «سنن البيهقي» من حديث أبي قلابة عن أنس: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتي أم سليم يقيل عندها ... )؛ الحديث، وعند ابن أبي شيبة عن أنس فقال: (إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه) إلى أن قال: (فصلى وصلينا معه) كما تقدم، ولهذا قال السهيلي: إن الأمر في قوله: (قوموا) بمعنى الخبر، كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، أو هو أمر لهم بالائتمام، لكن أضافه لنفسه؛ لارتباط تعليمهم بفعله، انتهى.
وزعم ابن حجر أن مجيئه عليه السَّلام كان لأجل الطعام لا ليصلي بهم؛ ليتخذوا مكان صلاته مصلى لهم كما في قصة عتبان بن مالك الآتية، وهذا هو السر في كونه بدأ في قصة عتبان بالصلاة قبل الطعام، وهنا بالطعام قبل الصلاة، فبدأ في كل منهما بأصل ما دعي له، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: قلت: لا مانع في الجمع بين الدعاء للطعام وبين الدعاء للصلاة، ولهذا صلَّى عليه السَّلام في هذا الحديث، والظاهر أن قصد مليكة من دعوتها كان للصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها.
وقوله: (وهذا هو السر ... ) إلى آخره: فيه نظر؛ لأنَّه يحتمل أن الطعام كان قد حضر وتهيأ في دعوة مليكة، والطعام إذا حضر؛ لا يؤخر، فيقدم على الصلاة، وبدأ بالصلاة في قصة عتبان؛ لعدم حضور الطعام، انتهى.
قلت: ويدل لما قاله إمامنا الشَّارح ما عند النسائي: (أن أم سليم سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأتيها فيصلي في بيتها، فتتخذه مصلًّى ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أن مجيئه عليه السَّلام كان لأجل الصلاة بهم، وليتخذوا مكان صلاته مصلًّى لهم، لا لأجل الطعام كما زعمه ابن حجر، وكأنه لم يطلع [2] على هذه الرواية، ويدل أيضًا لما قاله إمام الشَّارحين ما عند ابن أبي شيبة عن أنس قال: (صنع بعض عمومتي للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم طعامًا فقالت: إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أن الطعام كان قد صُنع وتهيَّأ وحضر في دعوتها، فبدأ عليه السلام بالصلاة ثم بالأكل؛ لأنَّه إذا حضر الطعام؛ لا تُقدم الصلاة عليه، ويدل لهذا أيضًا مافي «الغرائب» للدارقطني عن أنس قال: (صنعت مليكة طعامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أن الطعام قد صنع وتهيَّأ وحضر، وأن قصدها من دعوتها كان للصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها، ولما أنَّه قد حضر الطعام؛ فبدأ عليه السلام به قبل الصلاة، وفي ذلك روايات أُخَر تدل لما قاله إمام الشارحين، وتردُّ على ما زعمه ابن حجر، فلله در إمامنا الشَّارح ما أعظم فكره وأدق نظره! وحقيق بأن يلقب بإمام الشَّارحين؛ فافهم واحفظ.
(قَالَ أَنَسٌ) هو ابن مالك رضي الله عنه: (فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا)؛ بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، وهي الباريَّة المتخذة من سعف النخل وشبهه [3] قدر طول الرجل بمرتين أو أكثر أو أقل، وعند مسلم: (فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيكنس، ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنقوم خلفه، وكان بساطهم من جريد النخل) انتهى.
(قَدِ اسْوَدَّ) وفي رواية: (قطعة حصير عندنا خَلق) بفتح الخاء المعجمة (مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ)؛ بضم اللام وكسر الباء الموحدة؛ أي: من كثرة الاستعمال، و (لبس) ههنا ليس من: (لبست
%ص 500%
الثوب)، وإنما من قولهم: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا، فحينئذ يكون معناه: قد اسود من كثرة ما تمتع به في طول الزمان، قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: ومن هذا يظهر لك بطلان قول بعضهم: وقد استدل به على منع افتراش الحرير؛ لعموم النهي عن لبس الحرير، وقصد هذا القائل الغمز فيما قاله الحنفية من جواز افتراش الحرير وتوسده، ولكن الذي يدرك المعاني الدقيقة ومدارك الألفاظ العربية يعرف ذلك، ويقرُّ أن الحنفية لا يذهبون إلى شيء سدًى، انتهى.
قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) ابن حجر، وما زعمه باطل، ومن دأبه التعصب والعناد، وفهم المعاني على خلاف معانيها العربية فإن مراد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالنهي عن لبس الحرير: لبسه المعتاد على الجسد، وأما افتراش الحرير وتوسده؛ فليس فيه لبس؛ فهو خارج عن النهي، بل هو جائز، وقد فعله كثير من الصحابة والخلفاء رضي الله عنه، وصاحب الدار أدرى بالذي فيه.
وأما (لبس) في الحديث؛ فمعناه: التمتع، من قولهم: لبست المرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا، بدليل قوله في الحديث: (قد اسود) يعني: من كثرة الاستعمال، فإنه لو لم يستعمل؛ لم يسود، فهذا يدل على بطلان قوله: إنَّ معناه الافتراش؛ فافهم، فكيف يزعم ابن حجر هذا الزعم وما هو إلا من تحرك عرق العصبية والعناد؟ فافهم ذلك، ولا تكن من المتعصبين.
(فَتَنضَحه) من النضح، وهو الرش؛ أي: ترشه (بِمَاءٍ) وفي رواية مسلم: (فيكنس، ثم ينضح) وذلك لأجل تليين الحصير أو لإزالة الأوساخ منه فتنظفه، وهذا يدل على أنها فعلت ذلك من نفسها، وفي رواية مسلم أنه عليه السَّلام أمرها بذلك؛ لأنَّه قال: (فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح ... )؛ الحديث، والظاهر: أنها فعلته بأمره عليه السَّلام، ويدل له رواية ابن أبي شيبة: (فأمر بجانب منه، فكنس ورشَّ)، وفي «الغرائب» للدارقطني: ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي _أي: لأنس_: «قم فتوضأ، ومُرِ العجوز فلتتوضأ، ومُرْ هذا اليتيم فليتوضأ ... »؛ الحديث، (فَقَامَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: على الحصير لأجل الصلاة، ففيه جواز الصلاة على الحصير وسائر ما تنبته الأرض، وهو إجماع إلا من شذَّ بحديث أنه لم يصل عليه، وهو لا يصح، كذا ذكره صاحب «التوضيح».
قال إمام الشَّارحين: وأراد بقوله: (لا يصح)؛ أي: الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن المقدام عن أبيه عن شريح بن هانئ: أنه سأل عائشة رضي الله عنها: أكان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير، وقالوا: هذا الحديث غير صحيح؛ لضعف يزيد بن المقدام، ولهذا بوب البخاري باب (الصلاة على الحصير)، فإنَّ هذا الحديث لم يثبت عنده، وأورده؛ لمعارضة ما أقوى منه، والذي شذَّ فيه هو عمر بن عبد العزيز، فإنه كان يسجد على التر اب، ولكن يحمل فعله هذا على التواضع، انتهى.
قلت: وقد صح أنه عليه السَّلام قد صلى على الحصير، وهو أشد تواضعًا وأكثر خضوعًا، والظاهر: أن فعله لبيان الأفضل؛ لأنَّ الأفضل السجود على الأرض أو على ما تنبته الأرض، فإن الحصير وإن كان مما تنبته الأرض لكن التراب أرض حقيقة، وإذا وجد؛ فهو أفضل مما تنبته، والله أعلم.
(فَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (وصففت واليتيم) بإسقاط لفظة (أنا)، وبدل الفاء: واو، وقال إمام الشَّارحين: ومثل هذا فيه خلاف بين الكوفيين والبصريين؛ فعند البصريين لا يعطف على الضمير المرفوع إلا بعد تأكيده بضمير منفصل؛ ليحسن العطف على المرفوع المتصل بارزًا كان أو مستترًا؛ كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وعند الكوفيين يجوز ذلك بدون التأكيد.
و (اليتيمَُ): يجوز فيه الرفع والنصب؛ أما الرفع؛ فلأنه معطوف على الضمير المرفوع، وأما النصب؛ فلأنه يكون الواو فيه واو المصاحبة؛ والتقدير: فصففت أنا مع اليتيم، انتهى.
قلت: فرواية الأكثرين جارية على مذهب البصريين، ورواية المستملي والحمُّوي جارية على مذهب الكوفيين في جواز عدم التأكيد، و (اليتيمُ)؛ بالرفع رواية أبي ذر، وبالنصب رواية «الفرع» مصححًا عليه.
وزعم الكرماني أن رواية الرفع وجهها: أن يكون مبتدأ، و (وراءه) خبره، والجملة حال، ورده إمام الشَّارحين وتبعه الشراح بأنه غير موجَّه، بل الرفع على العطف على الضمير المرفوع كما ذكرنا؛ فافهم.
وقوله (وَرَاءَهُ)؛ أي: خلف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، قال إمام الشَّارحين: واليتيم هو ضميرة بن أبي ضميرة مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كذا قاله الذهبي في «تجريد الصحابة»، ثم قال: ولأبيه صحبة، وقال في «الكنى»: (أبو ضميرة مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كان من حِمْير، اسمه سعد)، وكذا قال البخاري: إن اسمه سعد الحميري من آل ذي يزن، وقال أبو حاتم: سعد الحميري وهو جد حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة، انتهى.
ويقال: اسم أبي ضميرة روح بن سدر، وقيل: روح بن شيرزاد، وضُمَيْرَة؛ بضم الضاد المعجمة، وفتح الميم، وسكون التحتية، وفتح الراء، آخره هاء، انتهى كلام إمام الشَّارحين رحمه الله.
(وَالْعَجُوزُ) هي مليكة المذكورة أولًا (من ورائنا)؛ أي: خلفهم، والجملة اسمية وقعت حالًا، وفي حالة الرفع يكون معطوفًا؛ فافهم، قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: وفي الحديث: جواز قيام الطفل مع الرجال في صف واحد، وفيه أيضًا: تأخير النساء عن الرجال، انتهى.
قلت: فإن تأخُّرهنَّ عن الرجال واجب؛ لئلا تفسد صلاة الرجال المحاذين لهنَّ.
فهذا الحديث دليل لما قاله الأئمة الحنفية من أن محاذاة المرأة للرجل في صلاة واحدة يفسد صلاة الرجل وغيره المحاذين لها، وهو حجة على من زعم أنه غير مفسد.
وكذا فيه حجة على من زعم أن محاذاة الطفل للرجل في الصلاة مفسد لصلاة الرجل؛ فإنَّ هذا الحديث صريح في أنها غير مفسدة [4]؛ لقيام اليتيم مع أنس خلف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فليحفظ.
(فَصَلَّى لَنَا) أي: لأجلنا (رَسُول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم رَكْعَتَيْنِ) وهي نافلة النهار، لكن الأفضل في النهار أربع، كما في أحاديث غيرها، لكنه عليه السَّلام
%ص 501%
اقتصر هنا على الركعتين؛ لأنَّ مراده بالصلاة التعليم بالمشاهدة، وبهما يكفي للتعليم، ويحتمل أنه صلى ركعتين، ثم ركعتين، فاقتصر الراوي على الركعتين الأوليين، (ثُمّ َانْصَرَفَ)؛ أي: فرغ من صلاته واستقبال القبلة وذهب إلى بيته، فيستنبط منه أن الخروج من الصلاة بلفظ السلام ليس بواجب؛ لأنَّه قال: (ثم انصرف)، ولم يقل: ثم سلم، لا يقال: المراد منه الانصراف من البيت الذي هو فيه؛ لأنَّا نقول: ظاهره بل صريحه أن المراد منه الانصراف من الصلاة بالمشي واستدبار القبلة.
وفيه: أن المنفرد خلف الصف تصح صلاته؛ بدليل وقوف العجوز في الأخير وحدها، وهو مذهب إمامنا رئيس المجتهدين وأصحابه، وبه قال مالك والشافعي، وقال أحمد وأصحاب الحديث: لا يصح؛ لقوله عليه السَّلام: «لا صلاة للمنفرد خلف الصف»، وأجيب: بأنه أريد به نفي الكمال لا الصحة، يدل عليه قوله عليه السَّلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، فإنه أريد به نفي الكمال إجماعًا، وهذا مثله؛ فليحفظ.
وفي الحديث: دليل على أن الاثنين يكونان صفًّا وراء الإمام، وهو مذهب الإمام الأعظم وكافة العلماء إلا ما روي عن ابن مسعود أنه قال: يكون الإمام بينهما.
وزعم صاحب «التوضيح» أنه مذهب الإمام الأعظم والكوفيين.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: مذهبه ليس كذلك، بل مذهبه أنه إذا أمَّ اثنين؛ يتقدم عليهما، وبه قال محمد بن الحسن، واحتجَّا بهذا الحديث المذكور في الباب، نعم؛ روي عن الإمام أبي يوسف أنه يتوسطهما، قال صاحب «الهداية»: (ونقل ذلك عن ابن مسعود).
قلت: هذا موقوف عليه، وقد رواه مسلم من ثلاث طرق، ولم يرفعه في الأوليين، ورفعه إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في الثالثة، وقال: هكذا فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال أبو عمر [5]: (هذا الحديث لا يصح رفعه، وأما فعله هو؛ فإنما كان لضيق المسجد)، رواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي في «معاني الآثار» بسنده عن ابن سيرين أنه قال: (لا أرى ابن مسعود فعل ذلك إلا لضيق المسجد أو لعذر آخر، لا على أنه من السنة) انتهى.
وفيه دليل على أن الأصل في الحصير ونحوه الطهارة، ولكن النضح فيه إنَّما كان لأجل تليين الحصير أو لإزالة الوسخ عنه كما ذكرنا، وقال القاضي عياض: الأظهر أنه كان للشك في نجاسته، ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا مبني على مذهبه من أن النجاسة المشكوك فيها تتطهر بنضحها من غير غسل، وعندنا الطهارة لا تحصل إلا بالغسل، انتهى.
قلت: وما قاله القاضي عياض غير ظاهر فضلًا عن أن يكون أظهر؛ لأنَّ الحصير إنَّما كان طاهرًا، يدل عليه ما في «مسلم»: (فربما تحضر الصلاة، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيكنس ... )؛ الحديث، فإنه عليه السَّلام لا يجلس إلا على طاهر، فلو كان نجسًا؛ لم يجلس عليه.
وفي «سنن البيهقي» من حديث أبي قلابة عن أنس (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتي أم سليم يقيل عندها، وكان يصلي على نطع، وكان كثير العرق، وكانت تتبع العرق من النطع وتجعله في القوارير مع الطيب ... )؛ الحديث، فهذا يدل أيضًا على أن الحصير كان طاهرًا؛ لأنَّه كان يعرق عليه وتأخذ العرق منه، فلو كان الحصير نجسًا؛ لم تفعل هكذا، ولم يجلس عليه السَّلام عليه، ولا كان يعرق عليه.
فقوله (والأظهر ... ) إلى آخره ممنوع، وإنما قاله؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، والصواب: أن النضح إنَّما كان لأجل تليين الحصير أو لأجل إزالة الوسخ عنه لتنظيفه؛ يدل عليه أنه قال في الحديث المذكور: (قد اسود) وإنما يسود الحصير من كثرة الاستعمال.
ويدل عليه أيضًا رواية الدارقطني عن أنس قال: (فعمدت إلى حصير عندنا خلق قد اسود)، وفي رواية: (قطعة حصير عندنا خلق) فوصفه بالخلق الذي هو الرث الغير النظيف دليل على أنه قد اسود من كثرة الاستعمال، فالنضح إنَّما كان لأجل إزالة الوسخ لا لأجل الطهارة، فإن الشيء المتنجس لا يطهره إلا الغسل هذا هو الصواب؛ فافهم.
وقال النووي: احتج أصحاب مالك بقوله: (من طول ما لبس) على أن من حلف لا يلبس ثوبًا ففرشه؛ فعندهم يحنث، وأجاب أصحابنا: بأن ليس كل شيء بحسبه، فحملنا اللبس في الحديث على الافتراش في القرينة، ولأنه المفهوم منه، بخلاف من حلف لا يلبس ثوبًا، فإن أهل العرف لا يفهمون من لبسه الافتراش، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: ليس معنى اللبس في الحديث الافتراش، وإنما معناه: التمتع، كما قال أصحاب اللغة: يقال: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا طويلًا، وليس هو من اللبس الذي من لبست الثياب، انتهى.
قلت: وما زعمه النووي متناقض، وحمل اللبس في الحديث على الافتراش باطل، ودعواه القرينة دعوى باطلة، ودعواه أنه المفهوم غير صحيح؛ فإن الحديث ليس فيه قرينة على صحة هذه الدعوى، وليس هو بمفهوم منه أيضًا؛ لأنَّه قال في الحديث: (قد اسود من طول ما لبس) وهو يدل على أنه قد استعمل كثيرًا، واستعماله إنَّما كان لأجل الصلاة، والصلاة مكررة ليلًا ونهارًا، لا سيما يعرض عليه الغبار والتراب، فطول اللبس كناية عن كثرة الاستعمال، فإن عادة حصير الصلاة يفرش وقت الصلاة ويقام عند الفراغ منها، ويوضع في مكان آخر، وأصل هذه المادة المخالطة والمداخلة، فـ (لبس) في الحديث ليس من قولهم: لبست الثوب، وإنما هو من قولهم: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا طويلًا، فيكون المعنى قد اسودَّ من كثرة مما تمتع به في طول الزمان، يدل عليه ما ذكرناه من رواية الدارقطني: (خلق قد اسود)، فوصفه بالخلق دليل على أنه قد استعمل كثيرًا حتى صار خلقًا مسودًّا، وهذا ظاهر بأدنى تأمل، ولكن النووي وغيره إنَّما ذهب إلى هذا المعنى؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه من حرمة افتراش الحرير، فارتكب هذا المعنى الغير الصواب، ولو أنصف؛ لقال كما قلنا، ولكن هيهات من صحة كلامه، لأنَّه خلاف ما قاله أهل اللغة على أن قوله: (بخلاف من حلف ... ) إلى آخره، فإنه ناقض كلامه وقال: (أهل العرف لا يفهمون ... ) إلى آخره، فإذا كان كذلك؛ فكيف يفهمون من الحديث أن اللبس بمعنى
%ص 502%
الافتراش؟!
وعلى ما قاله؛ إن من فهم هذا المعنى لا يكون ممن يدرك دقائق المعاني ومدارك الألفاظ العربية، وهو كذلك فإن من يدرك ذلك لا يقول هذا الكلام المتناقض، ولا يحمل هذا الحمل الباطل، وفوق كل ذي علم عليم.
وفي الحديث: دليل على صحة صلاة الصبي.
وفيه: دليل على صحة صلاة الرجل الذي صلى محاذيًا للصبي خلافًا لمن زعم فساد صلاته.
وفيه: أن إمامة المرأة للرجال غير صحيحة؛ لأنَّه إذا كان مقامها متأخرًا عن مرتبة الصبي فبالأولى ألَّا تتقدمهم إمامة النساء مطلقًا، وحكى بعض العلماء إجازة إمامة الصبي والمرأة في التراويح إذا لم يوجد قارئ غيرهما.
واستدل الإمام أبو يوسف ومحمد بن الحسن وتبعه الشافعي على أن الأفضل في نوافل النهار أن تكون ركعتين، وقال الإمام الأعظم: الأفضل في النهار الأربع، وأجاب عن هذا الحديث: أنه إنَّما فعله؛ لبيان الجواز ولأجل التعليم.
وزعم ابن حجر أن فيه الاقتصار على نافلة النهار على ركعتين خلافًا لمن اشترط أربعًا.
ورده إمام الشَّارحين فقال: إن كان مراده الإمام الأعظم؛ فليس كذلك؛ لأنَّه لم يشترط ذلك، بل قال: الأربع أفضل، سواء كان في الليل أو النهار، انتهى.
قلت: فانظر إلى ما زعمه ابن حجر؛ فإنه لم يفرق بين الاشتراط وبين الأفضل، على أنَّ هذا الحديث من صلاته عليه السَّلام ركعتين إنَّما كان لأجل التعليم؛ فإنه عليه السَّلام أراد تعليم أفعال الصلاة مشاهدة مع تبركهم بذلك، ومعلوم أن بالصلاة ركعتين يحصل التعليم وهو المقصود، فليس فيه دليل على أن الأفضل في النهار ركعتان [6]؛ لأنَّه قد ورد على سبب، يدل لهذا قوله في الحديث: (فصلى لنا)؛ أي: لأجلنا، وإنما عادته عليه السَّلام في صلاة الليل والنهار الأربع، كما دل على ذلك أحاديث كثيرة، وكأن ابن حجر لم يطلع [7] على ذلك؛ فافهم.
وفي الحديث: استحباب تنظيف مكان المصلى من الأوساخ، وكذلك التنظيف من الكناسات والزبالات.
وفيه: أن الأفضل أن تكون النوافل في البيت؛ لأنَّ المساجد تبنى لأداء الفرائض.
وفيه: الصلاة في دار الداعي وتبركه بها.
وفيه: استحباب التعليم لأفعال الصلاة مشاهدة.
وزعم ابن حجر أن المرأة قلما تشاهد أفعاله عليه السَّلام في المسجد؛ فأراد عليه السَّلام أن تشاهدها وتتعلمها وتعلمها غيرها.
قلت: وفيه نظر؛ فإن النساء كن يخرجن إلى المساجد ويصلين معه عليه السَّلام كما هو ثابت في الصحيح، ولا ريب أن من صلى مع آخر يشاهد أفعاله ويتعلمها؛ فإنه بسبب اقتدائهن به ضرورة يتعلمن أفعاله ويشاهدن خصاله، ولكن عليه السَّلام في هذا الحديث إنَّما أراد التعليم؛ لعلمه أن هذه العجوز لا تخرج إلى المسجد، فلم تشاهد أفعاله؛ لضعف بنيتها، وعدم قدرتها على الخروج، فكأنه عليه السَّلام لم يرها في المسجد، فأراد تعليمها في بيتها، والظاهر: أنه عليه السَّلام أراد أيضًا تعليمها الوضوء، يدل عليه رواية الدارقطني عن أنس قال: صنعت مليكة طعامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي: «قم فتوضأ، ومُرِ العجوز فلتتوضأ، ومُرْ هذا اليتيم فليتوضأ، فلأصلي لكم ... »؛ الحديث، فهذا يدل على أنه عليه السَّلام أراد تعليمها مع اليتيم أفعال الوضوء والصلاة، فإن الوضوء لم تشاهده، وكذلك الصلاة؛ لكونها عجوزة لا قدرة لها على الخروج لضعفها وكبر سنها؛ فافهم.
وفي الحديث: إجابة الدعوة وإن لم تكن وليمة عرس، والأكل من طعامها.
وفيه: جواز صلاة النافلة بالجماعة وهو جائز عندنا من غير كراهة؛ لأنَّه على سبيل التداعي، أما إذا لم يكن على سبيل التداعي؛ فكره أئمتنا الأعلام وجماعة التنفل بالجماعة في غير رمضان.
فإن قلت: جاء في رواية أبي المسيح: (فحضرت الصلاة)، وفي رواية مسلم: (فربما تحضر الصلاة وهو في بيتها).
قلت: لا يلزم من حضوروقت الصلاة أن صلاته عليه السَّلام في بيت مليكة كانت للفرض، ألا ترى أن في الرواية الأخرى لمسلم: («قوموا فلأصلي لكم» في غير وقت صلاة، فصلى بنا) على أنه لم ينقل عنه عليه السَّلام أنه ترك صلاة الجماعة في المسجد، ولهذا قال بعض أئمتنا الأعلام: إن صلاة الجماعة واجبة؛ لمواظبته عليه السَّلام عليها، وقال أحمد: إنها فرض، والصحيح عندنا أنها سنة مؤكدة، وظاهر حديث الباب وغيره: أن صلاته عليه السَّلام في بيت مليكة كانت نافلة، ومعنى قوله في الرواية: (فحضرت الصلاة)؛ أي: هيِّئ مكانها من بسط الحصير وكنسه ورشه، وفراغ وضوء أنس واليتيم والعجوز، فهذا معنى حضورها، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (وشهبه)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (مفسد)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (ركعتين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/644)
(21) [باب الصلاة على الخمرة]
هذا (باب) حكم (الصلاة على الخُمْرة)؛ بضم الخاء المعجمة وسكون الميم: سجادة صغيرة من سعف النخل تزمل بخيوط.
فإن قلت: قد ذكر المؤلف ذلك في حديث ميمونة في الباب الذي قبل باب (الصلاة على الحصير)، فما فائدة إعادته هنا؟
قلت: لأنَّه رواه هناك عن مسدد مطولًا، وههنا رواه عن أبي الوليد مختصرًا، فأعاده موافقة له، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني أنه ذكر هناك حكم الصلاة على الخمرة استطرادًا وتبعًا لحكم ما إذا أصاب ثوب المصلى امرأته إذا سجد، وههنا ذكر حكم الصلاة على الخمرة استقلالًا بانفراده وحده على حدة؛ فافهم.
==========
%ص 503%
==================
(1/645)
[حديث: كان النبي يصلي على الخمرة]
381# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدَّثنا أبو الوَلِيد) هو هشام بن عبد الملك الطيالسي (قال: حدَّثنا شُعْبة) هو ابن الحجاج (قال: حدَّثنا سُلَيْمان الشَّيبَانِي) هو أبو إسحاق سليمان بن فيروز التابعي، (عَنْ عَبْد اللّه بْنِ شَدَّادِ) هو ابن الهاد المدني، (عَن مَيْمُونَةُ) هي بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها (قَالَتْ: كَانَ النَبِيُّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) وجملة قولها (يُصَلِّي) محلها النصب خبر (كان) (عَلَى الخُمْرَةٍ)؛ بضم الخاء المعجمة وسكون الميم: سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل، وتزمل بالخيوط، وسميت خمرة؛ لأنَّها تستر وجه المصلي عن الأرض، ومنه سمي الخمار الذي يستر الرأس، والخمرة تطلق على التي كانت قدر طول الرجل أو أكثر أو أقل منه، وجمعها: خُمُر بضمتين.
وإفادة لفظة (كان) أنه عليه السَّلام كان يصلي على الخمرة دائمًا
%ص 503%
مستمرًّا، فيشمل ذلك الفرائض والواجبات والنوافل.
ففيه: جواز الصلاة على الخمرة من غير كراهة، وعن ابن المسيب: الصلاة على الخمرة سنة، وقد فعل ذلك جابر، وأبو ذر، وزيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنهم.
فإن قلت: روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يأتي بتراب فيضعه [1] على الخمرة، فيسجد عليه.
قلت: كان هذا منه على تقدير صحتهللمبالغة في التواضع والخشوع، لا على أنه كان لا يرى الصلاة على الخمرة، وكيف هذا وقد صح أنه عليه السَّلام صلى على الخمرة بدون حائل، وهو أكثر تواضعًا وأشد خضوعًا؟!
فإن قلت: روى ابن أبي شيبة عن عروة: أنه كان يكره الصلاة على شيء دون الأرض.
قلت: لا حجة فيه لأحد في خلاف ما فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويمكن أن يقال: إن مراده من الكراهة التنزيه، وكذا يقال في كل من روى عنه بمثله، انتهى.
قلت: الجواب الأول هو الصواب، أما الثاني؛ ففيه أن الحديث يدل على جواز الصلاة على الخمرة من غير كراهة، فإن كان مراده كراهة [2] التنزيه؛ فليس في الحديث ما يدل عليها؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: هذا طريق آخر لحديث ميمونة، والطريق الأول ذكره في باب (إذا أصاب المصلي امرأته إذا سجد)، لكن هناك عن مسدد عن خالد عن سليمان، وهنا عن أبي الوليد عن شعبة عن سليمان، وفائدة تكراره: اختلاف بعض رجاله في الإسناد، كما ترى، وبيان مقصود شيخه عند نقله الحديث، واختلاف استخراج الأحكام منه، ولكل من مشايخه مقصود غير مقصود الآخر، انتهى، والله أعلم
==========
[1] في الأصل: (فيوضعه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الكراهة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (فيوضعه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (فيوضعه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/646)
(22) [باب الصلاة على الفراش]
هذا (باب) حكم (الصلاة على الفِراش)؛ بكسر الفاء: هو ما يفرش، قال إمام الشَّارحين: والفراش هنا: اسم لما يفرش من أي نوع كان من أنواع ما يبسط، ويجمع على فُرُش بالضم، ويجيء مصدرًا من فرشت الشيء أفرشُه فراشًا إذا بسطته، وهو من باب (نصر ينصُر)، والمناسبة بين البابين ظاهرة، انتهى.
قلت: والصلاة على الفراش جائزة، سواء كان الفراش ينام عليه مع امرأته أم لا، لكن بشرط أن يكون طاهرًا، وأن يكون يجد حجم الأرض عند السجود، فإذا لم يجد حجمها؛ لم تجز الصلاة عليه، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، (وَصَلَّى أَنَسٌ) هو ابن مالك الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (عَلَى فِرَاشِهِ) بالضمير، وإضافته إليه يدل على أن الفراش الذي يصلي عليه هو الذي كان ينام عليه.
قال إمام الشَّارحين: وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور؛ كلاهما عن ابن المبارك عن حميد قال: كان أنس يصلي على فراشه، انتهى.
قلت: فأضافه إليه أيضًا، وهو يدل على أنه الذي ينام عليه، وهو أبلغ في جواز الصلاة؛ لأنَّ النائم لا يخلو عن شيء من النجاسة، لكنه أمر موهوم، والأحكام لا تبنى على الوهم، والأصل في الأشياء الطهارة لا يقال: إن الفراش الذي ينام عليه ثخين لا يجد الساجد عليه حجم الأرض، لأنا نقول: كان عادة الصحابة عدم الترفُّه، وعادتهم ترك زينة الدنيا، فكان فراشهم رقيقًا، يجد الساجد عليه حجم الأرض، بخلاف ما عليه الناس في زماننا من طلب الترفه، وزينة الدنيا، وثخانة الفرش؛ بحيث لا يجد الساجد عليها حجم الأرض، فإن ذلك غير جائز في صحة الصلاة؛ لأنَّه كلما بالغ بالسجود؛ يتسفَّل، وهكذا فإذا كان كذلك؛ لا يصح السجود عليه؛ فافهم.
(وَقَالَ أَنَسٌ) هو ابن مالك الأنصاري، مما وصله المؤلف فيما بعد في الباب الذي يليه (كُنَّا)؛ أي: معشر الصحابة رضي الله عنهم (نُصَلِّي) أي: الصلوات الخمس (مَعَ النَّبِيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: في مسجده النبوي، (فَيَسْجُدُ أَحَدُنَا) أي: كل واحد منا أو بعضنا (عَلَى ثَوْبِهِ)؛ أي: الذي كان هو لابسه نحو الفاضل من كمه أو ذيله المتحرك بحركته ضرورة، ويحتمل أن يكون ثوبه الذي يقلعه عن جسمه، لكن هذا الاحتمال بعيد، بل الصواب الأول؛ يدل عليه حديثه المسند الآتي، فإنه يصرح بأن المراد منه بعض ثوبه؛ حيث قال فيه: (فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود)، ويدل عليه أيضًا إضافة الثوب للضمير العائد على الساجد، فهو يدل على أن الثوب المسجود عليه هو الملبوس على المصلي.
ففيه: جواز الصلاة والسجود على فاضل ثوبه المتحرك بحركته؛ كطرف ذيله أو كمه أو عمامته، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور، ومنعه الشافعي، ولهذا زعم القسطلاني حيث فسر قوله على ثوبه؛ أي: الذي لا يتحرك بحركته؛ لأنَّ المتحرك بحركته كالجزء منه.
قلت: وهذا تفسير مخالف لصريح هذا الأثر وكذلك للحديث المسند الآتي، وإنما فسره بهذا؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، ووجه المخالفة أنَّ هذا الأثر مختصر من الحديث المسند الآتي، والحديث دل صريحًا على أن السجود إنَّما كان على طرف ثوب المصلي الذي هو لابسه، وكذلك هذا الأثر؛ حيث إنه أضافه، والإضافة تفيد التخصيص، فالمعنى: على ثوبه المختص به في الصلاة، وهو الذي لابسه؛ كفاضل كمه أو ذيله، ولا ريب أن الثوب الذي على المصلي يتحرك بحركته قيامًا وقعودًا، فدل ذلك على جواز الصلاة في هذه الحالة، وصار الأثر والحديث حجة على الشافعي؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: ووجه مناسبة هذا الأثر للترجمة ظاهرة؛ وهو أنه إذا سجد على ثوبه يكون ساجدًا على الفراش؛ لأنَّه اسم لما يبسط كما ذكرنا، انتهى.
قلت: وكأن المؤلف أراد بقوله: (باب الصلاة على الفراش): كل ما يبسط على الأرض، سواء كان متصلًا بالمصلي أو لا، فذكر الأثر الأول واستدل به على أن الصلاة على الفراش المنفصل جائزة، وذكر هذا الأثر الثاني واستدل به على جواز الصلاة على ما يفرش مما هو متصل بالمصلي، وهذا اختيار المؤلف كما يفهم من ترتيبه؛ فافهم.
وفي رواية الأصيلي: سقطت لفظة (أنس)، وهو يوهم أنه بقية الذي قبله، وليس كذلك، وسقط هذا التعليق كله في «الفرع» والله أعلم.
==================
(1/647)
[حديث: كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته]
382# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هو ابن عبد الله بن أبي أويس المدني ابن أخت مالك بن أنس، وتُكلِّم في إسماعيل وأبيه، لكن أثنى عليه ابن معين وأحمد ابن حنبل، كما قدمناه (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد خالي (مَالِكٌ) هو ابن أنس الأصبحي، (عَنْ أَبِي النَّضْرِ) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة هو سالم المدني (مَوْلَى عُمَرَ) بضم العين المهملة (بنِ عُبَيْدِ اللهِ) بضم العين المهملة وفتح الموحدة؛ مصغرًا هو التيمي المدني؛ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بفتحات، هو عبد الله (بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هو ابن عوف رضي الله عنه، (عَنْ عَائِشَةَ) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (زَوْجِ النَّبِيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) و رضي الله عنهما بالجر صفة لعائشة (أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ) أي: في حجرتي (بَيْنَ يَدَيْ) بالتثنية (رَسُول ِاللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو في حجرتها يصلي التهجد
%ص 504%
ليلًا (وَرِجْلَايَ) بصيغة التثنية (فِي قِبْلَتِهِ) جملة اسمية وقعت حالًا؛ أي: في مكان سجوده، (فَإِذَا سَجَدَ) عليه السَّلام؛ أي: أراد أن يسجد؛ (غَمَزَنِي) من الغمز باليد، قال الجوهري: غمزت الشيء باليد وغمزته بعيني، قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30] والمراد ههنا: الغمز باليد.
وروى أبو داود من حديث أبي سلمة عن عائشة أنها قالت: (كنت أكون نائمة ورجلاي بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يصلي من الليل، فإذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجلي، فقبضتها فسجد) كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذه الرواية أصرح في المقصود من رواية الباب؛ لأنَّه بيَّن فيها صريحًا أن صلاته عليه السَّلام كانت ليلًا وأنها نفل، وبينت أيضًا أن قوله: (فإذا سجد) على حذف مضاف؛ أي: إذا أراد أن يسجد كما صرحت [1] به هذه الرواية، وبينت أيضًا أن المراد بالغمز: الضرب باليد، وهو موافق لما قاله أصحاب اللغة، وهي أصرح في المعنى وإن كانت رواية الباب المراد بها الغمز باليد؛ فليحفظ.
وزعم القسطلاني عند قوله: (غمزني بيده)؛ أي: مع حائل، انتهى.
قلت: وهذا تفسير منه؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وهو باطل، فإن قوله: (غمزني) يدل على أنه بدون حائل؛ لأنَّه الأصل؛ لأنَّه لو كان؛ لصرحت به، على أنه الرجل واليد عند أهل العرف والتحقيق كانتا بغير حائل، بل بالمس؛ البشرة على البشرة، ويدل لذلك رواية أبي داود؛ فإنها مصرحة بذلك حيث قالت: (ضرب رجلي) ولا يخفى أن الضرب لا يكون بحائل، بل بدون حائل، كما هو التحقيق، فبهذا ظهر أن الصواب ما عليه الإمام الأعظم وأصحابه من أن مس المرأة غير ناقض للوضوء؛ فليحفظ، وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
(فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ)؛ بفتح اللام وتشديد الياء؛ بصيغة التثنية، وهذه رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (رجلِيْ) بكسر اللام وسكون الياء؛ بصيفة الإفراد، كذا في «عمدة القاري». قلت: ورواية أبي داود بالإفراد أيضًا، والمعنى: أنها قبضتها عن مكان سجوده عليه السَّلام؛ بمعنى: أخرتها عنه (فَإِذَا قَامَ) عليه السَّلام؛ أي: من السجود؛ (بَسَطْتُهُمَا) بضمير التثنية رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (بسطتها)؛ بضمير الإفراد؛ كرواية أبي داود؛ يعني: ردتهما إلى مكانهما (وَالْبُيُوتُ) مبتدأ جمع بيت؛ وهو اسم للمكان الذي يبات فيه ليلًا (يَوْمَئِذٍ) معناه: وقتئذ؛ أي: وقتئذ كان الرسول عليه السَّلام حيًّا.
وقوله: (لَيْسَ فِيهَا) أي: البيوت (مَصَابِيحُ) خبر المبتدأ، والجملة حال، والمصابيح جمع مصباح، قال إمام الشَّارحين: وإنما فسرنا قوله: (يومئذ) هكذا؛ لأنَّ المصابيح من وظائف الليل؛ فلا يمكن إجراء اليوم على حقيقة معناه، وقد يذكر اليوم ويراد به الوقت؛ كما في قوله تعالى {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وهذا اعتذار من عائشة عن نومها على هذه الهيئة، والمعنى: لو كانت المصابيح موجودة؛ لقبضت رجلي عند إرادته السجود ولما أحوجته إلى غمزي بيده، وهذا يدل على أنها كانت راقدة غير مستغرقة، وإلا؛ لما كانت تدرك شيئًا، سواء كانت مصابيح أم لم تكن، انتهى.
ثم قال: وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة في قولها: (كنت أنام)؛ لأنَّ نومها كان على الفراش، وقد صرحت في حديثها الآخر بقولها: (على الفراش) الذي ينامان عليه.
ثم قال رضي الله عنه: وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته، وكرهه بعضهم لغير الشَّارع؛ لخوف الفتنة بها واشتغال القلب بالنظر إليها، وأما النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فمنزَّه عن هذا كله مع أنه كان في الليل ولا مصابيح فيه.
الثاني: فيه استحباب إيقاظ النائم للصلاة.
الثالث: فيه أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء سلفًا وخلفًا، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه، وبه قال مالك والشافعي، ومعلوم أن اعتراضها بين يديه أشد من مرورها.
وذهب بعضهم إلى أنه يقطعها مرور المرأة والحمار والكلب، وقال أحمد ابن حنبل: يقطعها الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء، وقد روي ذلك في الحديث.
والجواب عن حديث قطع الصلاة بهؤلاء من وجهين:
الأول: أن المراد من القطع النقص؛ لشغل القلب بهذه الأشياء الثلاثة، وليس المراد به إبطالها؛ لأنَّ المرأة تغير الفكر فيها، والحمار ينهق، والكلب يهوش، فلما كانت هذه الأشياء آيلة إلى القطع؛ أطلق عليها القطع.
والثاني: أن الحديث منسوخ بحديث: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم»، وقد صلى الشَّارع وبينه وبين القبلة عائشة رضي الله عنها، وكانت الأتان ترتع بين يديه، ولم ينكره أحد، فدل ذلك على النسخ.
وذهب ابن عباس وعطاء إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة إنَّما هي الحائض، ورُدَّ بأنه قد جاء في روايات هذا الحديث، قال شعبة: وأحسبها قالت: (وأنا حائض).
فإن قلت: ورد في الحديث: «يقطع الصلاة اليهودي، والنصراني، والمجوسي، والخنزير».
قلت: هذا حديث ضعيف لا يحتج به، انتهى.
قلت: وقد يقال: إن الصلاة في محل يمر فيه الكلب، والخنزير، والمرأة، واليهودي، والحمار، والنصراني، والمجوسي؛ مكروهة كراهة تنزيه؛ لقول أئمتنا الأعلام: وتكره الصلاة عند كل شيء يشغل البال ويخل بالخشوع؛ فليحفظ.
الرابع: فيه أن العمل اليسير في الصلاة غير قادح، واختلف فيه؛ فذهب الإمام الأعظم إلى أن العمل الكثير واليسير في الصلاة مفوض إلى رأي المصلي إن كان له رأي؛ فإن رآه كثيرًا؛ فكثير، وإن رآه يسيرًا؛ فيسير، وفي رواية عنه وصححها الأئمة المتأخرون: أن الكثير مقدر بثلاث حركات متواليات، وما دونها؛ فيسير، وفي رواية عنه: أن الكثير ما يستكثره الناظر، واليسير ما يستقله، وبالرواية الثانية قال الشافعي وغيره، وحديث الباب يدل لها؛ فافهم.
الخامس: فيه جواز الصلاة إلى النائم، لأنَّه عليه السَّلام كان يصلي في حجرة عائشة وهي نائمة عنده، وكرهه بعضهم؛ لحديث ابن عباس أنه عليه السَّلام قال: «لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث».
وأجاب إمام الشَّارحين فقال: قلت: قال أبو داود روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، وطرقه كلها واهية، وهذا مثلها، وهو أيضًا
%ص 505%
ضعيف، وصرح به الخطابي وغيره، انتهى.
قلت: فهو لا يقاوم ما روي في الصحيح، على أنه يحتمل أن ما في الصحيح ناسخ لهذا الضعيف.
وروى أبو داود عن ابن عمر: أنه كان لا يصلي خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة.
وروى أيضًا في «مراسيله»: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصلي الإنسان إلى نائم أو متحدث).
وفي «الأوسط» للطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (نهيت أن أصلي خلف النائم أو المتحدثين).
وروى أبو نعيم عن عبد الله قال: (لا يصلي وبين يديه قوم يمترون).
وعن سعيد بن جبير: (إذا كانوا يذكرون الله؛ فلا بأس)، وفي رواية: (كره سعيد أن يصلي وبين يديه متحدث).
وضرب عمر بن الخطاب رجلين؛ أحدهما مستقبل الآخر وهو يصلي.
قلت: وما رواه عن ابن عمر؛ فسنده منقطع، وما رواه في «مراسيله»؛ فسنده ضعيف، وما رواه الطبراني؛ فسنده ضعيف واه [2]، وما رواه أبو نعيم؛ فسنده منقطع أيضًا، وقيل: إنه مرسل، وعلى كل؛ فهذه الأحاديث لا يحتج بها؛ لضعفها، وهي لا تقاوم ما روي في الصحيح وما روي عن سعيد بن جبير وغيره، فإن صح؛ فهم رجال ونحن رجال، كما قاله الإمام الأعظم، وما روي عن عمر بن الخطاب؛ فإن صح؛ فهو محمول على أنه رأى منه ما يوجب ذلك؛ لأنَّ الاستقبال منه للآخر لا يوجب الضرب؛ لأنَّه غاية ما فيه أنه مخل بالخشوع، فالصواب: أن كل ما يشغل البال ويخل بالخشوع؛ فهو مكروه كراهة تنزيه؛ فافهم.
السادس: فيه دليل على أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء؛ لأنَّه عليه السَّلام لمس عائشة وهو في صلاته.
وزعم ابن حجر أنه استدل بقولها: (غمزني) على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وتعقب باحتمال الحائل أو بالخصوصية.
قال إمام الشَّارحين: هذا القائل أخذ هذا من الكرماني؛ فإنه قال: (فإن قلت: هل هو دليل على أن لمس النساء لا ينقض الوضوء؟ قلت: لا، لاحتمال أن يكون بينهما حائل من ثوب ونحوه، بل هو الظاهر من حال النائم).
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا الكلام غير موجه، فإن الأصل في الرجل واليد أن يكونا بغير حائل عرفًا، وقوله: (من ثوب ... ) إلى آخره فيه بُعْد، وقوله: (أو بالخصوصية) غير صحيح؛ لأنَّه عليه السَّلام في هذا المقام في مقام التشريع لا الخصوصية؛ إذ من المعلوم أن الله عصمه في جميع أفعاله وأقواله، وأيضًا مجرد دعوى الخصوصية بلا دليل باطل، فإذا كان الأمر كذلك قام لنا الدليل من الحديث أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء، والعناد بعد ذلك مكابرة، انتهى.
قلت: وما زعمه الكرماني وتبعه ابن حجر مبني على تعصبهما؛ لأنَّه إنَّما قالا ذلك؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامهما، وقوله: (لاحتمال أن يكون بينهما حائل) ممنوع؛ لأنَّه لم يدل الدليل على وجود الحائل، فإنه عليه السَّلام لم يكن من عادته وضع شيء على يديه لا في الصلاة ولا في غيرها، وإن عائشة رضي الله عنها لم يكن على رجليها شيء من الثياب يدل عليه أنه حين غمزها قبضت رجليها عقيبه، ولهذا قالت: (فقبضت رجلي) فصرحت بالفاء التعقيبية؛ يعني: بلا مهلة، وهذا يدل على أنه غمزها؛ يعني: لمس بشرتها، فإنه لو كان حائل؛ لم تستيقظ في الحال، فاستيقاظها في الحال بلا مهلة دليل على ما قلنا.
وقوله: (بل هو الظاهر ... ) إلى آخره ممنوع أيضًا، فأي ظاهر هنا؟ وما هذا إلا أوهى من بيت العنكبوت، بل الظاهر من حالها: عدم الثوب؛ لأنَّ الحر حر الحجاز، وهي والنبيُّعليه السلام في حجرتها، فالقرينة دالة على أنه لم يكن عليها ثوب وإن كان حال النائم الذي في البلاد الباردة التغطية، أما من كان في البلاد الحارة كالحجاز؛ فإنه يشاهد فيها سلفًا وخلفًا قديمًا وحديثًا أن النائم لا يستتر بثوب أصلًا، بل ولا يلبس الشخص حال اليقظة والنوم إلا ثوبًا واحدًا كما هو العادة، فمن أين أتى الكرماني بهذا الكلام الذي لا يقوله من شم شيئًا من رائحة العلم، والعجب من ابن حجر كيف حذا حذوه؟! ولا عجب منه؛ فإنه مشهور بالتعصب والمكابرة والمحاولة التي لا يقبلها طبع سليم، وعلى كل حال؛ فلا عبرة بكلامهما.
وقوله: (أو بالخصوصية) ممنوع؛ فإن الخصوصية لا بد لها من دليل، ولم يوجد دليل على إثباتها، فدعواها باطلة غير مقبولة، وهذا تسليم منه بأنه لم يكن حائل، فلهذا قال (أو بالخصوصية)، وهيهات إثبات دليلها، بل هذا عام فيه عليه السَّلام وبجميع أمته ممن على الصواب، ولهذا قال إمامنا الشَّارح: فإذا كان الأمر كذلك؛ قام لنا الدليل من الحديث أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء، والعناد بعد ذلك مكابرة.
قلت: ولنا أدلة أخرى من الكتاب والسنة على ذلك ستأتي في مواضعها، فظهر أن مذهبنا هو الصواب؛ فليحفظ.
السابع: فيه جواز الصلاة على الفراش، والباب معقود لذلك، واختلفوا في الصلاة على الفراش وشبهه، ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه والشافعي: أنها تجوز على البساط والطنفسة والفراش إذا كان يجد حجم الأرض عند السجود، وروى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء، ولفظه: (ما أبالي لو صليت على ستِّ طنافس بعضها فوق بعض) قال: (وصلى ابن عباس على مسح وعلى طنفسة قد أطبقت البيت صلاة المغرب)، وكذلك فعله أبو وائل، وعمر بن الخطاب، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقال الحسن: لا بأس بالصلاة على الطنفسة، وصلى قيس بن عباد على لبد دابته، وكذلك مرة الهمداني، وصلى عمر بن عبد العزيز على المسح، وكذلك جابر بن عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.
قلت: ففعل هؤلاء الصحابة وغيرهم من غير إنكار أحد دليلٌ على جواز الصلاة من غير كراهة.
وزعم أصحاب مالك أن الصلاة على الطنفسة وشبهها مكروهة، وقال مالك: البساط الصوف والشعر وشبهه إذا وضع المصلي جبهته ويديه على الأرض؛ فلا أرىبالقيام عليها بأسًا، فكأنه يريد أنه مكروه.
وذكر ابن أبي شيبة عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم عن الأسود وأصحابه أنَّهم كانوا يكرهون أن يصلوا على الطنافس والفراء والمسوح، وقال ابن ابي شيبة: حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن (أنه كان يصلي على طنفسة وقدماه
%ص 506%
وركبتاه عليها، ويداه وجبهته على الأرض).
وعن ابن سيرين وابن المسيب وقتادة: أن الصلاة على الطنفسة محدث، وكره الصلاة على غير الأرض عروة بن الزبير، وجابر بن زيد، وابن مسعود، ونهى أبو بكر عن الصلاة على البرادع.
قلت: وكل هذا خلاف ما روي عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من قوله وفعله، وقد سبق في الصحيح من حديث ميمونة قالت: وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي على الخمرة.
وقال أبو نعيم: حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلى على بساط)، وحدثنا زمعة عن عمرو بن دينار، عن كريب، عن أبي معبد، عن ابن عباس قال: (قد صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على بساط) انتهى.
قلت: فهذا دليل على جواز الصلاة على غير الأرض بدون كراهة، وهو شامل لما كان جميع أعضائه على الطنفسة ونحوها، فظهر أن الأفضل الصلاة على الأرض، أو على ما تنبته الأرض؛ كما فعله الشَّارع، وليس بعد النص إلا الرجوع إليه؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (صرح)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (واهي)، والمثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (صرح)، والمثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (صرح)، والمثبت هو الصواب.
(1/648)
[حديث: أن رسول الله كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله]
383# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ)؛ بضم الموحدة مصغرًا: هو أبو زكريا القرشي المخزومي المصري (قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ)؛ بالمثلثة هو ابن سعد بن عبد الرحمن الفهمي المصري من تابع التابعين، ولهذا كان من أتباع الإمام الأعظم؛ لأنَّه رئيس التابعين رضي الله عنهما، (عَنْ عُقَيْلٍ)؛ بضم العين المهملة وفتح القاف مصغرًا: هو ابن خالد بن عَقيل؛ بفتح العين المهملة، الأيلي القرشي الأموي، (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني تابعي صغير، ونسبه لجده الأعلى؛ لشهرته به (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ)؛ بضم العين المهملة هو ابن الزبير_ بضم الزاي_ ابن العوام: (أَنَّ عَائِشَةَ) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (أَخْبَرَتْهُ) أي: أخبرت عروة فقالت له: (أَنَّ رَسُولَ الله ِصلَّى الله عليه وسلَّم كَانَ يُصَلِّي) أي: في حجرتها، زاد مسلم: (يصلي صلاته كلها من الليل)، وفي لفظ: (وسط السرير)، وفي لفظ: (وأنا حذاؤه وأنا حائض)، وربما قالت: أصابني ثوبه إذا سجد، وفي لفظ:
(على مرط، وعليه بعضه) (وَهْيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ)؛ أي: والحال أن عائشة بين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وبين موضع سجوده (عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ) وفي لفظ: (وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة تكون لي الحاجة، فأكره أن أقوم فأستقبله فأنسل انسلالًا من قبل رجليه)، وعند أبي داود عنها: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي صلاة من الليل وهي معترضة بينه وبين القبلة، راقدة على الفراش الذي ترقد عليه، حتى إذا أراد أن يوتر؛ أيقظها، فأوترت)، وفي لفظ لمسلم: (حتى إذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجلي، فقبضتها)، وفي لفظ: (فإذا أراد أن يوتر؛ قال: تنحي).
وقولها: (اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ) كلام إضافي منصوب بنزع الخافض؛ أي: كاعتراض الجنازة، وهي في الحقيقة صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: وهي معترضة بينه وبين القبلة اعتراضًا كاعتراض الجنازة، والمراد: أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلي.
والجنازة: رويت بالفتح والكسر، واختار ثعلب في «فصيحه»: كسر الجيم، وحكاه في «نوادره» عن أبي زيد، وكذا عن الدينوري بالكسر لا غير، وحكى المطرزي عن الأصمعي: أن الجنازة بالكسر والفتح، وهما لغتان بمعنًى واحد، وكذا قاله كراع، وفرق ابن الأعرابي بينهما فقال: الجنازة بكسر الجيم: النعش، وبفتحها: الميت، وفي «الصحاح»: العامة تقول: الجَنازة بالفتح، والمعنى: الميت على السرير، وقال أبو علي المرزوقي: الجِنازة بالكسر: اسم المتوفى في الأصل، وقال الخليل: الجِنازة بالكسر: سرير الميت، وقال أبو جعفر: لا يقال للميت: جنازة حتى يكون على نعش، ولا يقال للنعش: جنازة حتى يكون عليها ميت، وقال في «المحكم»: جنز الشيء يجنزه جنزًا: ستره، وقال ابن دريد: إن اشتقاق الجنازة من ذلك، وحكاه عن قوم، وقال: ولا أدري ما صحته، وقيل: إنه نبطي، انتهى «عمدة القاري»
قلت: ومطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة؛ حيث إنه عليه السَّلام كان يصلي على فراش أهله، والمراد به: زوجاته الطاهرات رضي الله عنهنَّ، وهو شامل للفراش الذي ينامان عليه وعلى ما يبسط لا للنوم، لكن الظاهر الأول؛ لقوله: (وهي بينه وبين القبلة)، ففيه: دليل على جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته.
وفيه: دليل على أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه.
وفيه: دليل جواز الصلاة على الفراش، وكذا كل شيء يبسط إذا كان تستقر عليه الجبهة عند السجود، وفراش النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأهله وأصحابه كان مما [1] تستقر عليه الجبهة؛ لأنَّه كان رقيقًا، وكان حشوه من الليف كما ثبت في «الصحيح» بخلاف فرش زماننا؛ فإنها ثخينة، وحشوها من القطن، فهي لا تجوز الصلاة عليها؛ لعدم استقرار الجبهة عليها، والناس عنه غافلون؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (ممن)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 507%
==================
(1/649)
[حديث: أن النبي كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة]
384# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهُ بنُ يُوسُفَ) هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل، وفي (يوسُف) تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قَالَ: حَدَّثَنا اللَّيثُ) هو ابن سعد المصري الفهمي، (عَن يَزِيدُ) هو ابن أبي حبيب المدني التابعي، (عَن عِراكٍ)؛ بكسر العين وتخفيف الراء المهملتين: هو ابن مالك المدني التابعي، (عَن عُروَةَ)؛ بضم العين المهملة: هو ابن الزُّبير_ بضم الزاي_ ابن العوَّام _بتشديد الواو_ المدني التابعي، ففي إسناده ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: (أَنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كَانَ) أي: على الدوام والاستمرار (يُصَلِّي) أي: صلاته من الليل كما في الروايات السابقة (وَعَائِشَةُ) أي: زوجته، وهي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ)؛ أي: والحال أن عائشة معترضة بين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وبين موضع سجوده، والمراد: أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلي (عَلَى الْفِرَاشِ)؛ بكسر الفاء
%ص 507%
أي: فراش أهله، والجار والمجرور متعلق بقوله: (يصلي) (الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ) وفي رواية أبي داود: (راقدة على الفراش الذي ترقد عليه حتى إذا أراد أن يوتر؛ أيقظها)، قال إمام الشَّارحين: وهذا الحديث مرسل، لكنه محمول على أن عروة سمع ذلك من عائشة، يدل على ذلك الرواية التي قبل هذه، وكذا ذكر [1] هذا مرسلًا الإسماعيلي، وأبو نعيم، والحميدي، وأصحاب الأطراف، وفائدة ذكر المؤلف إياه: الإشعار بأن الحديث روي مسندًا ومرسلًا، انتهى.
وزعم ابن حجر أن فائدة ذكره التنبيه على تقييد الفراش بكونه الذي ينامان عليه، بخلاف الرواية السابقة؛ فإن فيها (على فراش أهله)، وهو أعم من أن يكون هو الذي ناما عليه أو على غيره، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: ليس فيه زيادة فائدة؛ لأنَّ مقصود البخاري بيان جواز الصلاة على الفراش مطلقًا، وليس المراد: تقييده بكونه الذي ينامان عليه أو غيره، وإنما النكتة في إيراده: الإشعار بأنَّ هذا الحديث روي مسندًا ومرسلًا، انتهى.
قلت: وكلام إمام الشَّارحين واضح وهو الصواب، فإن مراد المؤلف: بيان حكم الصلاة على الفراش، سواء كان ينام عليه أو لا، ويدل عليه الترجمة التي ذكرها أول الباب؛ فإنه قد أطلقها ولم يقيدها بكون الفراش هو الذي ينام عليه أو لا، وكونه أطلقها يدل على أن مراده الإطلاق، ويدل عليه أيضًا: أنه ذكر في هذا الباب تعليق أنس، وهو يدل على جواز الصلاة على الفراش الذي ينام عليه، ثم أعقبه بذكر التعليق الثاني عن أنس، وهو يدل على جواز الصلاة على الفراش الذي لا ينام عليه، ثم أعقبهما بحديث إسماعيل بن عبد الله، وهو يدل للتعليق الأول، وبحديث يحيى ابن بكير وهو يدل للتعليق الثاني، وكلا الحديثين مسندان، ثم ذكر حديث عبد الله بن يوسف؛ لأجل بيان كونه روي مرسلًا، فهنا دليل واضح إلى مراد المؤلف؛ جواز الصلاة على الفراش مطلقًا، فما زعمه ابن حجر غير موجَّه وغير صواب؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على جواز الصلاة على الفراش الذي ينام عليه إذا كان يجد حجم الأرض عند السجود.
وفيه: دليل على جواز الصلاة إلى النائم، سواء كان رجلًا أو امرأة أو غيرهما، وما رواه أبو داود عن عائشة: (كان عليه السَّلام لا يصلي في لحفنا)؛ فقال الحفاظ: إنَّه لم يثبت؛ فافهم، ولئن ثبت؛ فهو لا يقاوم ما في «الصحيح»، أو يحمل على أنه رأى فيها منيًا أو غيره من النجاسات، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ذكره)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/650)
(23) [باب السجود على الثوب في شدة الحر]
هذا (باب) جواز (السُّجُودِ) أي: سجود المصلي (عَلَى الثَّوْبِ)؛ أي: على طرف ثوبه مثل: كمه أو ذيله ونحوهما (فِي شِدَّةِ الْحَرِّ)؛ أي: لأجل شدة الحر، ولفظ: (الحر) ليس بقيد؛ لأنَّ حكم البرد كذلك، وإنما صرح به مقتصرًا عليه؛ موافقة للفظ الحديث، وإنما جاز السجود على طرف ثوبه؛ لحديث الباب، ولأن شدة الحر من فيح جهنم كما ثبت في الصحيح، فكما أن الإنسان يتقي نار جهنم وعذابها بالطاعات؛ كذلك شدة الحر الذي هو من فيحها يتقيه بالثوب يسجد عليه؛ كما في قوله تعالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]؛ وهو البرد، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
(وَقَالَ الْحَسَنُ) هو البصري التابعي المشهور: (كَانَ الْقَوْمُ) أي: أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يَسْجُدُونَ)؛ أي: في صلاتهم كلها (عَلَى الْعِمَامَةِ)؛ بكسر العين المهملة؛ هي الشاش ونحوه، يوضع على الرأس ويكوَّر [1] عليه عشرة أكوار أو عشرون كورًا، والكَور؛ بفتح الكاف: الدَوْر: بفتح الدال المهملة وسكون الواو (وَالْقَلَنْسُوَةِ)؛ بفتح القاف واللام، وسكون النون، وضم السين المهملة، وفتح الواو: الغشاء المبيَّض يلبس على الرأس، كذا قاله القزاز، وعن ابن خالويه: العرب تسمي القلنسوة برنسًا، وفي «التلخيص»: البرنس: القلنسوة الواسعة التي تغطى بها العمائم، تستر من الشمس والمطر، وفي «المحكم»: هي من ملابس الروس، وقال ابن هشام: هي التي تقول لها العامة الشاشية، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهي الآن في زماننا من ملابس المتصوفة، يزعمون أن لباسها عين الطريقة والحقيقة؛ وإنما هي رياء وسمعة، ألا ترى أنَّ أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يلبسونها من أجل شدة الحر والشمس؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري»: وذكر ثعلب لغة أخرى وهي (القُلَيْسِيَة)؛ بضم القاف، وفتح اللام، وسكون التحتية، وكسر السين المهملة، وفتح التحتية الثانية، آخرها هاء، وفي «المحكم»: وعندي أنَّ (قليسية) ليست بلغة، وإنما هي مصغرة، وقال ابن سيده: وهي (قلنساة)، وجمعها: قلانس، وقلاسي، وقلنس، وقلونس، ثم يجمع على قلنس؛ وفيه قلب؛ حيث جعل الواو قبل النون، وعن يونس: أهل الحجاز يقولون: قلنسية، وتميم تقول: قلنسوة، وفي «شرح المرزوقي»: قلنست الشيء إذا غطيته، انتهى.
(وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ) هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (ويديه في كمه):
وجه الأول: أنَّ (يداه) كلام إضافي مبتدأ، وقوله: (في كمه) خبره، والجملة: حال، والتقدير: ويدا كل واحد في كمه؛ فلأجل ذلك قال: (ويداه)، وذلك؛ لأنَّ المقام يقتضي أن يقال: وأيديهم في أكمامهم.
ووجه الثاني: أنَّ (يديه) منصوب بفعل مقدر؛ تقديره: ويجعل كل واحد يديه في كمه، كذا قرره إمام الشَّارحين.
ثم قال: وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن أبي أسامة، عن هشام، عن الحسن: أنه قال: (إنَّ أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على قلنسوته وعمامته)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في «مصنفه» عن هشام بن حسان عن الحسن نحوه، وأخرج ابن أبي شيبة عن هشيم عن يونس عن الحسن: (أنه كان يسجد في طيلسانه)، وأخرج عن محمد بن أبي عدي عن حميد: رأيت الحسن يلبس أنبجانيا في الشتاء، ويصلي فيه، ولا يخرج يديه، وكان عبد الرحمن بن زيد يسجد على كور عمامته، وكذلك الحسن، وسعيد بن المسيب، وبكر
%ص 508%
بن عبد الله، ومكحول، والزهري، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الرحمن بن يزيد، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذا دليل على جواز السجود على كور العمامة والقلنسوة؛ لأنَّ فعل أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من غير نكير حجة قوية في ذلك؛ لأنَّه في حكم المرفوع؛ لأنَّه لا يقال من قبيل الرأي، بل من السماع أو الفعل من غير إنكار، ويدل لذلك ما رواه محمد بن أسلم الطوسي عن خلاد بن يحيى، عن [2] عبد الله بن المحرر، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم سجد على كور عمامته)، قيل: وفي سنده ضعف، لكنه قد يقوى بتعدد الطرق، ولمَّا كان السجود على كور العمامة يفوِّت الأفضل وهو السجود على الأرض أو على ما تنبته الأرض؛ قال أئمتنا الأعلام: ويكره تنزيهًا السجود على كور عمامته من غير ضرورة حرٍّ أو برد أو خشونة الأرض، ولهذا كان عبادة بن الصامت، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر وأبو عبيدة، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين، وميمون بن مهران، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وجعدة بن هبيرة يكرهون السجود على العمامة؛ يعني: من غير ضرورة حر أو برد أو نحوهما؛ لثبوت فعله عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه من السجود على العمامة تعليمًا للجواز، فلم تكن الكراهة تحريمية، ونبه المحقق ابن أميرحاج على أن صحة السجود على كور العمامة محله إذا كان على الجبهة أو بعضها، أما إذا كان على الرأس فقط، وسجد عليه ولم تصب جبهته الأرض؛ فإن صلاته غير صحيحة؛ لعدم السجود على محله، والناس عنه غافلون، انتهى.
قلت: وما علمته مما قدمناه حجة على الشافعي؛ حيث منع السجود على العمامة؛ قال: لأنَّه لمَّا لم يقم المسح عليها مقام الرأس؛ وجب أن يكون السجود كذلك، ولأن القصد من السجود التذلل، وتمامه بكشف الجبهة، كذا زعمه القسطلاني.
قلت: وهذا غير صحيح؛ فإنه قد ثبت في الكتب الستة: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قد سجد على عمامته، وكذلك فعله أصحابه، والخلفاء الراشدون، وكذلك التابعون، فكان ذلك كالإجماع منهم على جوازه؛ لأنَّه لم ينكر ذلك أحد منهم؛ فدل على جوازه.
وقوله: (لأنه لما لم يقم ... ) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّه قياس مع الفارق ومع مقابلة النص، وهو باطل، ولأنَّ الجبهة ليست من الرأس، وقد علم أن أصحاب اللغة فسَّروا الوجه بما يواجه به الإنسان والجبهة منه، وسبحانه وتعالى أمرنا بغسل الوجه ومسح الرأس بالنص، فكل واحد منهما مأمور به شرعًا، فبالضرورة لم يقم المسح عليها مقام الرأس، وإذا كان كذلك؛ لم يجب أن يكون السجود كذلك؛ لأنَّ الجهة منفكَّة، وقد ثبت ذلك بدليل آخر كما علمت مما قررنا، وقوله: (ولأن القصد ... ) إلى آخره: هذا حجة على المانع؛ لأنَّه إذا كان القصد من السجود التذلل، وقد أتى به؛ لأنَّ السجود يتم بوضع الجبهة على الأرض، سواء كان بينهما حائل أم لا.
فقوله: (وتمامه بكشف الجبهة): ممنوع؛ لأنَّ كشفها ليس من تمامه، فإن أهل اللغة وغيرهم قالوا: السجود: وضع الجبهة على الأرض مطلقًا، بل يتحقق السجود ويتمكَّن الشخص منه بوضع كور عمامته على جبهته [3] أكثر، ولمَّا كان الشافعي لا دليل له في منعه السجود على العمامة لا من حديث ولا من قول صحابي؛ استند إلى هذا الكلام الغير الموافق للصواب، وقد علمت أنَّ هذا غير صحيح، وكلام أهل اللغة صريح بخلاف ما قاله، فثبت بذلك مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور سلفًا وخلفًا من جواز السجود على العمامة، والله أعلم.
قال إمام الشَّارحين: ومطابقة هذا الأثر للترجمة غير ظاهرة إلا بالتعسُّف؛ لأنَّ الترجمة في السجود على الثوب، وهو لا يطلق على العمامة ولا على القلنسوة، ولكن لمَّا كان هذا الباب والأبواب الثلاثة التي قبله في السجود على غير وجه الأرض، بل كان على شيء هو على الأرض، وهو أعم من أن يكون حصيرًا أو خمرة أو فراشًا أو عمامة أو قلنسوة أو نحو ذلك؛ فبهذه الحيثية تدخل العمامة والقلنسوة في هذا الباب، انتهى.
قلت: ونفس الشاش الذي اتخذ منه عمامة أو قلنسوة يقال له: ثوب، لغة وعرفًا، ومع انضمامه لما يوضع على الرأس من الطاقية والطربوش يقال له: عمامة أو قلنسوة، فيحتمل أن المؤلف نظر إلى الأصل من غير انضمام، فهو ثوب؛ فصح السجود على الثوب، ودخل تحت الترجمة، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ويوكور)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (جبهة)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (ويوكور)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (ويوكور)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
(1/651)
[حديث: كنا نصلي مع النبي فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر]
385# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثنَا أَبُو الوَليدِ هِشامُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ) هو الطيالسي البصري (قَالَ: حَدَّثنا بِشْرُ) بكسر الموحدة وسكون المعجمة (بنُ المُفَضَّل)؛ بضم الميم، وفتح الفاء، وتشديد الضاد المعجمة المفتوحة؛ هو الرَّقاشي _بفتح الراء_ العثماني البصري الذي كان يصلي كل يوم أربع مئة ركعة (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (غَالِبٌ)؛ بالغين المعجمة وكسر اللام: ابن خَُطَّاف؛ بضم الخاء المعجمة وفتحها، وتشديد الطاء المهملة (القَطَّانُ)؛ بالقاف البصري، (عَن بَكر بن عَبْدِ اللهِ)؛ بفتح الموحدة في (بَكْر) وسكون الكاف: هو المزني البصري، (عَن أَنس بن مَالك) هو الأنصاري، خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه (قَالَ: كُنَّا) أي: معشر الصحابة رضي الله عنهم (نُصَلِّي)؛ بضم النون: ضمير جماعة الذكور (مَعَ النَبِيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: في مسجده النبوي، (فَيَضَعُ أَحَدُنَا) جملة معطوفة على قوله: (كنا نصلي)؛ يمعنى: يضع كل واحد من الصحابة (طَرَفَ الثَّوْبِ)؛ أي: ثوبه المتصل به المتحرك بحركته ضرورة، وهذا كلام إضافي منصوب؛ لأنَّه مفعول (يضع)، وتقييد القسطلاني الثوب بالمنفصل أو المتصل الذي لا يتحرك بحركته تفسيرٌ وتقييد من عنده، ذكره؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وهو باطل؛ فإنَّ الأصل في الثوب أن يكون متصلًا به ومتحركًا بحركته لغة وعرفًا عند أهل التحقيق، ودعوى القسطلاني باطلة، والمثبت مقدَّم على النافي، وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى.
قال إمام الشَّارحين: وفيه: حكاية قول الصحابي عما يفعله والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يشاهده ولا ينكره؛ فيكون تقريرًا منه عليه السَّلام.
فإن قلت: كان أنس خلف النبي عليه السَّلام؟
قلت: نعم؛ وما كان يخفى على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم شيء من أحوال من كان خلفه في الصلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام قد كان يرى من خلفه كما يرى من قدامه، كما ثبت في «الصحيح»؛ فيكون قول الصحابي: (كنَّا نفعل كذا) من قبل المرفوع، ولا سيَّما قد اتفق الشيخان على تخريج هذا الحديث في «صحيحيهما»، وكذلك أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، انتهى؛ فافهم.
%ص 509%
(مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ) متعلق بالجملة قبله، وفي رواية النسائي: (كنَّا إذا صلينا خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالظهائر؛ سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر)، وفي رواية مسلم وأبي داود: (بسط ثوبه فسجد عليه)، وفي رواية ابن أبي شيبة: (كنَّا نصلي مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في شدة الحر والبرد، فيسجد على ثوبه).
وهذا الحديث حجة قوية ومحجة مستقيمة لما ذهب إليه الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه من جواز السجود على الثوب من غير كراهة في شدة الحر والبرد، وهو قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه ابن أبي شيبة من حديث إبراهيم قال: (صلى عمر رضي الله عنه ذات يوم بالناس الجمعة في يوم شديد الحر، فطرح طرف ثوبه بالأرض، فجعل يسجد عليه، ثم قال: يا أيها الناس؛ إذا وجد أحدكم الحر؛ فليسجد على طرف ثوبه)، ورواه زيد بن وهب عن عمر بنحوه، وأمر به إبراهيم أيضًا وعطاء، وفعله مجاهد، وقال الحسن: لا بأس به، وحكاه ابن المنذر أيضًا عن الشعبي، وطاووس، والأوزاعي، والنخعي، والزهري، ومكحول، ومسروق، وشريح، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وقال صاحب «التهذيب» من الشافعية: وبه قال أكثر العلماء، والحديث حجة على الشافعي؛ حيث لم يجوِّز ذلك، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وأوَّل الحديثَ الشافعيُّ؛ فحمله على الثوب المنفصل أو المتصل الذي لا يتحرك بحركته.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: لفظ الحديث يرد هذا؛ لأنَّه قال: (طرف ثوبه)، وهو دالٌّ على المتصل به المتحرك بحركته، وكذلك قوله في رواية مسلم وأبي داود: (بسط ثوبه، فسجد عليه)؛ فإن اللفظ يدلُّ على المتصل به؛ لأنَّه قد عقَّب السجود بالبسط، وكذلك يدلُّ على المتصل به قلة الثياب عندهم، انتهى.
قلت: وهو ظاهر؛ لما سبق في «الصحيح» عنه عليه السَّلام أنه قال: «أَوَلِكلِّكم ثوبان؟!»؛ يعني: لا يجد أحد منهم إلا ثوب واحد، فإذا كان هذا حالهم بشهادة النبيِّ الأعظم صاحب الرسالة العظمى والنبوة الكبرى صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فلا شكَّ أنَّ المراد بالثوب هو المتصل به المتحرك بحركته ضرورةً.
وزعم البيهقي أنَّ رواية الإسماعيلي: (فيأخذ أحدنا الحصى في يده؛ فإذا برد؛ وضعه وسجد عليه)، يؤيد ما قاله الشافعي؛ لأنَّه لو جاز السجود على شيء متصل به؛ لما احتاجوا إلى تبريد الحصى مع طول الأمر فيه.
وردَّ بأنَّ هذا لا ينهض؛ لأنَّه إنَّما كان يبرَّد الحصى؛ حيث لم يكن في ثوبه فضلة يسجد عليها مع بقاء سترته له؛ لأنَّ من المعلوم أن الحرَّ حرُّ الحجاز، والرجل منهم لم يلبس إلا ثوبًا واحدًا [1]؛ لشيئين؛ أحدهما: من القلة، والثاني: من الحر؛ ففي شدة الحر يلبسون القمص، وهو ساتر للعورة فقط، وليس له فضلة، فإذا كان كذلك؛ فيبرِّد الحصى.
وتعلق الشافعي بحديث خباب قال: (شكونا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حر الرمضاء في جباهنا، فلم يشكنا)؛ أي: لم يزل شكوانا، وبما روي عنه عليه السَّلام أنَّه قال: «ترب جبينك يا رباح».
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: حديث خباب ليس فيه ذكر الجباه والأكف في المسانيد المشهورة [2]، ولو ثبت؛ فهو محمول على التأخير الكثير حتى تبرد الرمضاء، وذلك يكون في أرض الحجاز بعد العصر، ويقال: إنَّه منسوخ بقوله عليه السَّلام: «أبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم»، ويدل عليه ما رواه عبد الله بن عبد الرحمن قال: (جاءنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل، فرأيته واضعًا يديه في ثوبه إذا سجد)، رواه أحمد وابن ماجه.
فإن قلت: هذا محمول على المنفصل الذي لا يتحرك.
قلت: هذا بعيد؛ لقوله: (بسط ثوبه، فسجد عليه)؛ لأنَّ الفاء فيه للتعقيب.
وكل حديث احتج به الشافعي؛ فهو محتمل، وما احتج به غيره من الأئمة المذكورين؛ فهو محكم، فيحمل المحتمل على المحكم، انتهى.
قلت: ويحتمل حديث خباب أنَّ المراد به: مرض الصداع؛ فأمره عليه السَّلام بتتريب الجبين؛ لأجل إزالة الصداع، وذلك أنَّ الصداع يحصل من تسديد المسام، فبالتتريب يتفتح المسام، فيزول، فهو عليه السَّلام طبيب الأرواح والأشباح، فالدليل إذا طرقه الاحتمال؛ بطل الاستدلال به.
ويدل أيضًا على بطلان ما ذهب إليه الشافعي ما روي عن جماعة من الصحابة أنَّهم رووا سجوده عليه السَّلام على كور عمامته؛ منهم: أبو هريرة أخرج حديثه عبد الرزاق في «مصنفه»، ومنهم: عبد الله بن عباس أخرج حديثه أبو نعيم في «الحلية»، ومنهم: عبد الله بن أبي أوفى أخرج حديث ابن أبي حاتم في كتابه «العلل»، ومنهم: عبد الله بن عمر أخرج حديثه أبو القاسم تمَّام بن محمد الرازي في «فوائده»، فهؤلاء أربعة من أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يفتون بجواز السجود على الثوب من عمامته وذيله ونحوهما، وهو ضرب من الإجماع؛ لأنَّه لم يروَ عن أحد من الصحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل خلاف لهؤلاء الأربعة لا بإسناد متصل ولا منقطع، فكأنَّ الصحابة أجمعوا على أنَّ المصلي يجوز له أن يسجد على كور عمامته وفاضل ثوبه، وهو الصواب.
وزعم البيهقي أنَّ سجوده عليه السَّلام على كور عمامته لم يثبت.
وردَّ بأنَّه قد ثبت في «الصحيح»، وكذلك في الكتب الستة، وحديث ابن عمر، وابن عباس، وابن أبي أوفى جِيَادٌ، كما قاله النُّقَّاد الموثوق بهم، وما كان منهم ضعيفًا؛ فبتعدد طرقه يقوى أو يشيد بالقوي، والمثبت مقدم على النافي، ودعوى الجرح غير مقبولة؛ لأنَّها نفي والمقبول الصحة، إذا علمت هذا؛ قام لنا الدليل على جواز السجود على كور عمامته، وهو الحقُّ، والعناد بعد ذلك مكابرة.
وقال إمام الشَّارحين: وقد مرَّ الكلام فيه مستوفًى، وبما ذكرناه ههنا يحصل الجواب عمَّا قاله الكرماني في هذا الباب من فرقه بين المتحرك وغيره، والاستدلال بقوله عليه السَّلام: «ترب وجهك»، وحديث الباب أيضًا يردُّ ما ذكره.
وقوله: (والقياس على سائر الأعضاء) قياس بالفارق، وقياس في مقابلة النص، ونحن قد عملنا أولًا بحديث الباب، فإنَّه مُحكَمٌ لا يحتمل غيره، وبالقياس أيضًا؛ فهو أقوى.
وقوله: (وفيه أنَّه عليه السَّلام كان يباشر الأرض بوجهه في سجوده): يردُّه أنَّه إذا سجد على البساط أو نحوه؛ يجوز بالإجماع،
%ص 510%
فإن احتج بقوله عليه السَّلام: «مكِّن جبهتك وأنفك من الأرض»؛ فنحن نقول بموجبه؛ وهو وجدان حجم الأرض حتى إذا امتنع حجمها؛ لا يجوز، انتهى.
قلت: وعلى كلٍّ فكلُّ دليل لنا محْكم، وما استدل به محتمل، فالصواب ما قلنا.
وزعم ابن حجر أنَّ في حديث الباب تقديم الظهر في أول الوقت.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: ظاهر الأحاديث الواردة في الأمر بالإبراد تعارضه، ونقول: إنََّّ تقديم الظهر رخصة والإبراد سنة، وإذا قلنا: أحاديث الأمر بالإبراد ناسخة؛ لا يبقى تعارض؛ فافهم.
وممَّا يستنبط من الحديث أنَّ العمل اليسير في الصلاة عفوٌ؛ لأنَّ وضع طرف ثوبه في موضع سجوده عملٌ، انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ثوب واحد)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مشهورة)،وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (ثوب واحد)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ثوب واحد)، وليس بصحيح.
(1/652)
(24) [باب الصلاة في النعال]
هذا (باب) في بيان حكم (الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ)؛ بكسر النون، بعدها عين مهملة مفتوحة، جمع: نَعْل؛ بفتح النون وسكون المهملة، وهو الحذاء _بالمد_، مؤنثة، وتصغيرها نُعيلة، والمراد بالنعل: كلُّ ما يلبس اتقاء الوسخ عن الأرض؛ فيشمل البابوج، والكندرة، والزربول، ونحوها، وحكم الصلاة فيها الجواز عند الجمهور؛ لحديث الباب؛ لأنَّه إذا أصابها نجاسة؛ فبالمشي المستلزم للدلك بالتراب تطهر، فهي طاهرة تصح الصلاة عليها وبها، ويجوز لبسها في المسجد وغير ذلك مما سيأتي.
والمناسبة بين البابين كما قاله إمامنا الشَّارح: من حيث إن في الباب السابق تغطيةَ الوجه بثوبه الذي يسجد عليه، وفي هذا الباب تغطية بعض القدمين، انتهى.
==========
%ص 511%
==================
(1/653)
[حديث: أكان النبي يصلي في نعليه؟]
386# وبالسند إلى المؤلف قال: ([حدثنا] آدَمُ)؛ بفتح الهمزة الممدودة (بْنُ أَبِي إِيَاسٍ)؛ بكسر الهمزة وتخفيف التحتية: هو العسقلاني، وسقط عند الأصيلي: (ابن أبي إياس) (قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ): غير منصرف، هو ابن الحجَّاج بن الورد الواسطي، المتوفى بالبصرة (قَالَ: أَخْبَرَنَا)، وللأصيلي وابن عساكر: (حدثنا) (أَبُو مَسْلَمَةَ)؛ بفتح الميم، وسكون السين المهملة، وفتح اللام (سَعِيدُ)؛ بكسر العين المهملة (بْنُ يَزِيدَ)؛ من الزيادة (الأَزْدِيُّ)؛ بفتح الهمزة؛ نسبة إلى أزد بطن من العرب، هو الكوفي (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ): هو الأنصاري رضي الله عنه، خادم النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (أَكَانَ النَّبِيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستفسار (يُصَلِّي) صلواته كلها أو أكثرها، فرضها وواجبها ونفلها (فِي نَعْلَيْهِ؟)؛ بفتح النون، تثنية: نعل، وهو الحذاء، مؤنثة؛ يعني: على نعليه، أو بنعليه؛ لأنَّ الظرفية غير صحيحة (قَالَ)؛ أي: أنس بن مالك له: (نَعَمْ)؛ كان يصلي في نعليه، وهو يدلُّ على أنَّه عليه السَّلام كان يكثر الصلاة في نعليه؛ لأنَّ لفظة: (كان) تدلُّ على الدوام والاستمرار، ويلحق بالنعل البابوج، والكندرة، والزربول، ونحوها مما يلبس اتقاء الوسخ من الأرض.
وقال ابن بطال: معنى هذا الحديث عند العلماء: إذا لم يكن في النعلين نجاسة؛ فلا بأس بالصلاة فيهما، وإن كان فيهما نجاسة؛ فليمسحهما ويصلِّي فيهما، انتهى.
قلت: وظاهر هذا الحديث أنَّه عليه السَّلام لم ينظر إلى ذلك؛ لأنَّه لم يكن عليهما نجاسة، فالأمر ظاهر، وإن تعلق بهما نجاسة؛ فبالمشي والدلك بالأرض تذهب النجاسة، فيبقى النعل طاهرًا، فالصلاة فيه صحيحة.
واختلفوا في تطهير النعال من النجاسات؛ فذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك بن أنس: أنَّه يطهر الخف والنعل ونحوهما بالدلك بالأرض أو التراب من النجاسة التي لها جرم، ولو كانت مكتسبة من غيرها؛ كتراب أو رماد، ولو كانت المتجسدة من أصلها أو باكتسابها الجرم من غيرها رطبة على المختار للفتوى؛ لإطلاق حديث الباب، ويدلُّ عليه قوله عليه السَّلام: «إذا جاء أحدكم المسجد؛ فلينظر، فإن رأى في نعليه أذًى أو قذرًا؛ فليمسحهما وليصلِّ فيهما»، رواه أبو داود وابن حبان في «صحيحه»، وقوله عليه السَّلام: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخُفِّه؛ فطهورهما التراب»، رواه أبو داود والحاكم وصحَّحه.
وحديث الباب وهذه الأحاديث حجَّة على الشافعي؛ حيث قال: (لا يطهِّر النجاسة في الخف والنعل إلا الماء)؛ فإنه لا دليل لتخصيصه الماء بالطهورية، فإنه عليه السَّلام قد صلَّى في نعليه وخفيه بعدما أصابهما النجس ودلكهما بالأرض، ولأنه تعالى جعل المطهر الماء والتراب، وزعم ابن دقيق العيد أنَّ الصلاة في النعال من الرخص لا من المستحبات؛ لأنَّ ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: كيف لا يكون من المستحبات؟! بل ينبغي أن يكون من السنن؛ لأنَّ أبا داود روى في «سننه» عن يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خالفوا اليهود؛ فإنَّهم لا يصلُّون في نعالهم ولا في خفافهم»، ورواه الحاكم أيضًا؛ فيكون مستحبًّا من جهة مخالفة اليهود، وليس بسنَّة؛ لأنَّ الصلاة في النعال ليست بمقصودة بالذات، وقد روى أبو داود أيضًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حافيًا ومنتعلًا)، وهذا يدل على الجواز من غير كراهة، وحكى الغزالي في «الإحياء» عن بعضهم: أنَّ الصلاة فيه أفضل، ويستنبط منه جواز المشي في المسجد بالنعال، انتهى.
==========
%ص 511%
==================
(1/654)
(25) [باب الصلاة في الخفاف]
هذا (باب) بيان حكم (الصَّلَاةِ فِي الْخِفَافِ)؛ بكسر الخاء المعجمة؛ أي: بالخفاف؛ لأنَّ الظرفية غير صحيحة كما سبق، والخفاف: جمع خُف؛ بضم الخاء المعجمة، وهو ما اتخذ من الجلد الأصفر والأسود الساتر لرؤوس الأصابع إلى فوق الكعبين من الرجل، وإنَّما سمي خفًّا؛ لأنَّ الأمر فيه قد خفَّ؛ أي: سهل من الغسل إلى المسح، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==========
%ص 511%
==================
(1/655)
[حديث: رأيت النبي صنع مثل هذا.]
387# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا آدَمُ)؛ بفتح الهمزة الممدودة: هو ابن أبي إياس العسقلاني (قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ)؛ بضم الشين المعجمة: هو ابن الحجاج الواسطي البصري، (عَنِ الأَعْمَشِ): هو سليمان بن مهران الكوفي التابعي (قَال) أي: الأعمش: (سَمِعْتُ إبراهيم): هو ابن يزيد النخعي التابعي (يُحَدِّثُ)؛ بضم التحتية، (عَنْ هَمَّامِ)؛ بفتح الهاء، وتشديد الميم بعدها على وزن (فعَّال)؛ بالفتح والتشديد (بنِ الْحَارِثِ)؛ بالحاء والراء المهملتين وبالمثلثة: هو الكوفي التابعي، كان من العباد، المتوفى زمن الحجاج، ففي السند ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض (قَالَ) أي: همام: (رَأَيْتُ)؛ أي: أبصرت، فتقتضي مفعولين أحدهما: (جَرِيرَ) بفتح الجيم (بنَ عَبْدِ الله): هو البجلي الصحابي رضي الله عنه، والثاني: جملة قوله: (بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ)؛ أي: وضوءه للصلاة بدون استنجاء من البول، بل استبرأ منه، وهو يدلُّ على جواز الصلاة بدون الاستنجاء خلافًا لمن زعم عدم جوازها، فهذا الحديث حجة عليه؛ لأنَّ جريرًا لم يستنج من البول، والأصل بقاء ما كان على ما كان؛ فافهم.
(وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ)؛ بالتثنية من
%ص 511%
رؤوس الأصابع إلى الساق مرة واحدة، (ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى)؛ أي: وهو لابس لخفيه، ففيه: المطابقة للترجمة؛ لأنَّه قد صلى وهو لابس لهما؛ لأنَّه لو نزعهما بعد الغسل؛ لوجب عليه غسل رجليه، ولو غسل؛ لنقل في الحديث، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ولأنه لو نزعهما بعدما مسح عليهما؛ لوجب عليه غسل الرجلين فقط، فلو كان غسل؛ لكان صرَّح به في هذا الحديث، وعدم التصريح بذلك دليل على أنَّه صلى وهو لابس خفيه، ففيه استحباب الصلاة بالخفين.
(فَسُئِلَ)؛ بضم السين المهملة على صيغة المجهول؛ أي: سئل جرير عن المسح على الخفين والصلاة فيهما، والسائل له عن ذلك همام، كما بينه الطبراني في حديثه من طريق جعفر بن الحارث عن الأعمش، فعاب عليه ذلك رجل من القوم، كذا في «عمدة القاري»، (فَقَالَ) أي: جرير: (رَأَيْتُ) أي: أبصرت (رسول الله صلى الله عليه وسلَّم)؛ بالنصب مفعول أول لـ (رأيت)، والمفعول الثاني: جملة قوله: (صَنَعَ) أي: فعل وتوضأ وضوءًا (مِثْلَ هَذَا)؛ أي: أنَّه بال، ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى فيهما (قَالَ إبراهيم)؛ أي: المذكور، وهو ابن يزيد النخعي التابعي: (فَكَانَ) أي: حديث جرير هذا (يُعْجِبُهُمْ)؛ أي: القوم وهم الصحابة والتابعون؛ لأنَّه من جملة الذين أسلموا في آخر حياة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد أسلم في السنة التي توفي فيها النبيُّ الأعظم عليه السلام، وفي رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش: (كان يعجبهم هذا الحديث)، ومن طريق عيسى بن يونس: (فكان أصحاب عبد الله بن مسعود يعجبهم) انتهى.
(لأَنَّ جَرِيرًا): هو ابن عبد الله الصحابي المذكور (كَانَ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ) وفي رواية مسلم: (لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة).
وفي رواية أبي داود: (أنَّ جريرًا بال، ثم توضأ فمسح على الخفين، ثم قال: ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يمسح؟ قالوا: إنَّما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد).
ورواه الطبراني في «الأوسط» من حديث ربعي بن حراش عن جرير قال: (وضأت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فمسح على خفيه بعدما نزلت سورة المائدة)، ثم قال: لم يروه عن حماد بن أبي سليمان عن ربعي إلا ياسين الزيات، تفرد به عبد الرزاق وياسين متكلَّم فيه.
وفي رواية له من حديث محمد بن سيرين عن جرير: (أنَّه كان مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حجة الوداع، فذهب النبيُّ الأعظم صلى الله عيه وسلم يتبرَّز، فرجع فتوضأ ومسح على خفيه)، ثم قال: لم يروه عن محمد بن سيرين إلا خالد الحذاء، ولا [عن] خالد إلا حارث بن شريح، تفرد به سنان بن فروخ، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: وفي رواية الترمذي من طريق شهر بن حوشب قال: (رأيت جرير بن عبد الله ... )، فذكر نحو حديث الباب قال: (فقلت له: أَقَبْل المائدة أو بعدها؟ قال: ما أسلمت إلا بعد المائدة)، قال الترمذي: هذا حديث مفسر؛ لأنَّ بعض من أنكر المسح على الخفين تأوَّل أن مسح النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على الخفين كان قبل نزول آية الوضوء التي في (المائدة)، فيكون منسوخًا، فذكر جرير في حديثه أنَّه رآه يمسح بعد نزول (المائدة)، فكان أصحاب ابن مسعود يعجبهم حديث جرير؛ لأنَّ فيه ردًّا على أصحاب التأويل المذكور.
قال إمام الشَّارحين: قلت: قال الله تعالى في سورة (المائدة): {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... }؛ الآية [المائدة: 6]، فلو كان إسلام جرير متقدمًا على نزول (المائدة)؛ لاحتمل كون حديثه في مسح الخفين منسوخًا بآية (المائدة)، فلما كان إسلام جرير متأخرًا؛ علمنا أنَّ حديثه يعمل به، وهو مبيِّن أن المراد بآية (المائدة): غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة الآية، وفي «سنن» البيهقي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه قال: (ما سمعت في المسح على الخفين أحسن من حديث جرير رضي الله عنه)، وقد ورد مؤرخًا بحجة الوداع في حديث الطبراني كما ذكرناه.
ثم قال رضي الله عنه: واعلم أنَّه قد وردت في المسح على الخفين عدة أحاديث تبلغ التواتر على رأي كثير من العلماء.
وقال الميموني عن أحمد ابن حنبل: فيها سبعة وثلاثون صحابيًّا، وفي رواية الحسن بن محمد عنه أربعون صحابيًّا، كذا قاله البزار في «مسنده»، وقال ابن أبي حاتم: أحد وأربعون صحابيًّا، وفي «الأشراف» عن الحسن: حدثني به سبعون صحابيًّا، وقال ابن عبد البر: مسح على الخفين سائر أهل بدر والحديبية وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وعامة أهل العلم والأثر، ولا ينكره إلا مخذول مبتدع خارج عن جماعة المسلمين.
وقال في «البدائع»: المسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة إلا شيئًا روي عن ابن عباس: أنه لا يجوز، وهو قول الرافضة.
ثم قال: وروي عن الحسن البصري أنَّه قال: أدركت سبعين بدريًّا من الصحابة؛ كلُّهم يرون المسح على الخفين، ولهذا قال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين من شرائط السنة والجماعة أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وترى المسح على الخفين، وروي عنه أنَّه قال: ما قلت بالمسح حتى جاءني مثل ضوء النهار، فكان الجحود ردًّا على كبار الصحابة، ونسبته إياهم إلى الخطأ، فكان بدعة، ولهذا قال الإمام الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين، انتهى.
وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز البول بمشهد الرجل، وإن كانت السنة الاستتار عنه.
الثاني: فيه أنَّ الاستنجاء غير واجب، بل سنة؛ لأنَّه عليه السَّلام بال، ثم توضأ، ثم قام فصلى، ولم يستنج.
الثالث: فيه جواز المسح على الخفين، وقد سبق في باب (المسح).
الرابع: فيه جواز الإعجاب ببقاء حكم من الأحكام، وهو يدل على عدم النسخ.
وقال ابن بطال: وهذا الباب كالباب الذي قبله في أنَّ الخف لو كان فيه قذر؛ فحكمه حكم النعل، انتهى.
يعني: أنَّه يطهر الخف ونحوه بالدلك بالأرض أو بالتراب من النجاسة التي لها جرم ولو كانت مكتسبة من غيرها؛ لحديث الباب والذي قبله.
ويدلَّ عليه ما رواه أبو داود أنه عليه السَّلام قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه [1]؛ فطهورهما التراب»، ورواه ابن حبان والحاكم وصححه، وهو حجة على الشافعي؛ حيث لم يجوِّز ذلك، بل شرط في طهارتهما الماء، ولا دليل له في تخصيصه الماء بذلك، وقد قدَّمنا الكلام عليه مستوفًى.
==================
(1/656)
[حديث: وضأت النبي فمسح على خفيه وصلى]
388# وبالسند إليه قال: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ نَصْرٍ)؛ بالصاد المهملة نسبه لجده؛ لشهرته به، فهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر الكوفي (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ)؛ بضم الهمزة وفتح السين المهملة: هو حماد الكوفي، (عَنِ الأَعْمَشِ): هو سليمان بن مهران الكوفي، (عَنْ مُسْلِمٍ)؛ بضم الميم وسكون السين المهملة: هو ابن صبيح؛ ...
%ص 512%
بضم الصاد المهملة، وكنيته أبو الضحى الكوفي، مشهور باسمه وكنيته، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الكرماني أن (مسلم) هذا هو المشهور بالبطين، ويحتمل أنَّه أبو الضحى، لكن الظاهر الأول.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: كلُّ واحد منهما يروي عن مسروق، والأعمش يروي عن كل واحد منهما، وليس دعوى الظهور للأول بظاهر، بل الظهور للثاني؛ وهو أبو الضحى، ثم رأيت المزي في «الأطراف» في رواية مسلم نصَّ على أنَّه هو أبو الضحى، انتهى.
قلت: فاستظهار الكرماني غير صواب، وكأنَّه لم يطَّلع [1] على ما ذكره الحافظ المزي؛ فافهم.
وقد وهم القسطلاني تبعًا لما وهمه الكرماني، ولم يطَّلع [2] على ما ذكره إمام الشَّارحين؛ فقال بالاحتمال، وهو غير صواب، بل الصواب ما ذكره إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
(عَنْ مَسْرُوقٍ)؛ على وزن (مفعول): هو ابن الأجدع الكوفي، وسمي مسروقًا؛ لأنَّه سرقه سارق في صغره، (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ):مير الكوفة الصحابي الجليل رضي الله عنه (قَالَ: وَضَّأْتُ النَّبِيَّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: وضوءه للصلاة؛ بأن تمضمض واستنشق ثلاثًا ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وغسل يديه ثلاثًا، ومسح على ناصيته وكان لابسًا [3] للخفين، (فَمَسَحَ عَلَى الخفين)؛ أي: من رؤوس الأصابع إلى الساق، (وَصَلَّى)؛ أي: الفريضة أو النافلة فيهما.
ففيه: جواز المسح على الخفين، وفيه: جواز الاستعانة بغيره، وفيه: استحباب الصلاة بالخفين، وهو وجه المطابقة لما ترجم له المؤلف، ففيه: ردٌّ على من اعتاد في زماننا ممن يدعي العلم أنَّه إذا أراد الصلاة؛ خلع خفيه وصلى بدونهما، فإنَّ الصلاة فيهما من تمام الأدب؛ لأنَّه من كمال الزينة التي قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للأعرابي الذي لبس ثيابًا بذلة وصلى فيها: (الله أحق أن تتزين له).
وفي الإسناد ثلاثة من التابعين؛ وهم الأعمش ومسلم ومسروق يروي بعضهم عن بعض عن الصحابي، وقد سبق الكلام عليه عن قريب، وفي كتاب (الوضوء) أيضًا، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (لابس)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
(1/657)
(26) [باب إذا لم يتم السجود]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (إِذَا لَمْ يُتِمَّ) أي: المصلي (السُّجُودَ)؛ أي: في بيان حكم المصلي إذا لم يتم سجوده في صلاته؛ يعني: أنَّه لا يجوز؛ لترتب الوعيد الشديد في حقه.
قال إمام الشَّارحين: وهذا الباب والباب الذي يليه لم يقعا ههنا أصلًا عند المستملي؛ لأنَّ محلهما في أبواب (صفة الصلاة)، وإنَّما وقعا هنا عند الأصيلي، ولكن قبل باب (الصلاة في النعال)، انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ إعادة هاتين الترجمتين هنا وفي باب (السجود) الحمل فيه عندي على النُّسَّاخ؛ بدليل سلامة رواية المستملي من ذلك، وهو أحفظهم، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: تكرار هذا الباب وإعادته له وجه؛ لأنَّ عادته التكرار عند وجود الفائدة، وهي موجودة فيه؛ لأنَّه ترجم هنا بقوله: (باب إذا لم يتم السجود)، وهناك ترجم بقوله: (باب إذا لم يتم الركوع)، وشيخه هنا الصلت بن محمد ... إلى آخره، وشيخه هناك حفص بن عمر عن شعبة عن سليمان قال: سمعت زيد بن وهب قال: (رأى حذيفة رجلًا)، وفي بقية المتن أيضًا تغاير، وأمَّا الباب الثاني؛ فليس لذكره محل ههنا؛ لأنَّه كما هو المذكور هنا مذكور [1] هناك، كذلك ترجمةً ورواةً ومتنًا.
فإن قلت: على ما ذكره الأصيلي، ما وجه المناسبة بين هذا الباب وبين باب (السجود على الثوب في شدة الحر)؟
قلت: وجهها ظاهر لأنَّ كلًّا منهما في حكم السجود، انتهى؛ فافهم
==========
[1] في الأصل: (مذكورًا).
%ص 513%
==================
(1/658)
[حديث حذيفة: رأى رجلًا لا يتم ركوعه ولا سجوده]
389# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا) هكذا رواية الأربعة، وفي رواية: (أخبرنا) (الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ): هو ابن عبد الرحمن الخاركي البصري، ونسبته إلى خارك؛ بالخاء المعجمة والراء، وهو من سواحل البصرة (قال: حَدَّثَنَا) هكذا للأربعة أيضًا، وفي رواية: (أخبرنا) (مَهْدِيٌّ)؛ بفتح الميم بلفظ المفعول: هو ابن ميمون أبو يحيى الأزدي المتوفى سنة اثنتين وسبعين ومئة، (عَنْ وَاصِلٍ): هو ابن حيان الأحدب، (عَنْ أَبِي وَائِلٍ)؛ بالهمز: هو شقيق بن سلمة، (عَنْ حُذَيْفَةَ)؛ بضم الحاء المهملة: هو ابن اليمان رضي الله عنه: (أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا) قال إمام الشَّارحين: لم يعلم اسمه؛ يعني: أنه رآه يصلي وحده منفردًا في الصحراء أو في المسجد بعيدًا عن الناس (لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ) بضم المثناة التحتية أوله (وَلَا سُجُودَهُ)؛ أي: لا يطمئن فيهما، والجملة وقعت صفة لقوله: (رجلًا) (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ)؛ أي: فلما أدَّى الرجل صلاته الناقصة من إتمام الركوع والسجود، والقضاء يجيء بمعنى الأداء؛ كما في قوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]؛ يعني: أدِّيت.
قلت: وقد يجيء القضاء بمعنى الفراغ، يقال: قضيت صلاتي؛ أي: فرغت منها، والمعنى: فلما فرغ الرجل من صلاته؛ (فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ) هو ابن اليمان؛ أي: للرجل المذكور: (مَا صَلَّيْتَ)؛ أي: ما صليت صلاة كاملة، فالنفي عنه الصلاة نفي كمال؛ لأنَّ إتمام الركوع والسجود لا ينفي الركوع والسجود، فإن إتمام الركوع والسجود ليس من أجزاء الصلاة الركنية، بل من أجزائها المسنونة، فالكل من الركنية لا ينتفي بانتفاء الجزء من المسنون، ولا يلزم منه انتفاء إحدى الركوع والسجود المستلزم لانتفاء الصلاة، لأنَّ إتمام الركن ليس بركن، بل هو مسنون، وهو لا ينافي الصحة.
وما زعمه القسطلاني من أن الكل ينتفي بانتفاء الجزء، فانتفاء تمام الركوع يلزم منه انتفاء الركوع المستلزم لانتفاء الصلاة ممنوع، وإنَّما ذكره؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه وهو باطل؛ لأنَّه لا يلزم من انتفاء تمام الركوع انتفاء الركوع بالكلية؛ لأنَّ الركن هو الركوع وهو مطلق الانحناء، كما أجمع عليه أهل اللغة، وإتمام الركوع سنة مكمِّل للركن، فالمكمِّل إذا انتفى؛ لا يلزم منه انتفاء الكل، كما لا يخفى، ويدل على ذلك قوله: (قَالَ)؛ أي: أبو وائل: (وَأَحْسِبُهُ)؛ أي: أظنه؛ أي: حذيفة بن اليمان (قَالَ)؛ أي: للرجل المذكور: (لَوْ مُتَّ): روي فيه كسر الميم من مات يمات، وضمِّها من مات يموت، وفي رواية: (ولو مت) (مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ) النبيِّ الأعظم (مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: على غير طريقته الكاملة المتناولة للفرض والنفل، فالمراد به التغليظ، والشك من الراوي، ويدلُّ على أنه تغليظ قوله تعالى في آية الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ ... }؛ الآية [آل عمران: 97]، وقوله عليه السلام: «من استطاع منكم الحج ولم يحج؛ فإن شاء أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا»؛ فإن المراد من الآية والحديث التغليظ إجماعًا؛ لأنَّه لو لم يحجَّ حتى مات؛ فلا يحكم عليه بالموت على الكفر إجماعًا، فكذا هذا، على أنَّ هذا الحديث لا يدل على أنَّ الاطمئنان فرض، بل سنة أو واجب؛ لأنَّ المراد
%ص 513%
به التغليظ، كما ذكرنا، ويحتمل أنَّ حذيفة لم ير فعل صلاة الرجل حقيقة، بل رأى شبحًا من بعيد قائمًا وقاعدًا [1]، ثم رآه فأخبره بأنه قد صلى، فيحتمل أنَّه لم ير حقيقة فعله على أنَّ هذا لا يدل على الفرضية؛ لأنَّ حذيفة لم يأمره بالإعادة، ولا ذكر أنَّه يعيد، ولو كان صلَّى صلاة فاسدة؛ لأمره بالإعادة، ولم يذكر في الحديث أنَّه أعاد صلاته ولا أنَّه أمره بالإعادة، وهذا يدل على صحة صلاته.
وقال ابن البطال: قوله: ما صليت؛ يعني: صلاة كاملة، ونفى عنه العمل بقلَّة التجويد فيها، كما تقول للصانع إذا لم يجد: ما صنعت شيئًا؛ يريد الكمال، وهو يدل على أن الطمأنينة سنة.
قال إمام الشَّارحين: هذا التأويل لمن يدَّعي أن الطمأنينة في الركوع والسجود سنة، وهو مذهب الإمام الأعظم، ومحمد بن الحسن، ومالك بن أنس، والجمهور، وعند الإمام أبي يوسف ومحمد بن إدريس أنها فرض، انتهى.
قلت: والصواب: الأول، وما رواه الطبراني عن أنس مرفوعًا: «ومن لم يتمَّ لها خشوعها، ولا ركوعها، ولا سجودها؛ خرجت وهي سوداء مظلمة، تقول: ضيعك الله كما ضيعتني، حتى إذا كانت حيث شاء الله تعالى لفَّت كما يلفُّ الثوب الخلق، ثم ضرب بها وجهه»، وما رواه ابن خيثم: «ساجدًا كخرقة ملقاة وعليه عصافير لا يشعر بها»، فإنَّه يدل على التهديد، والتخويف، والتغليظ، لا على عدم الصحة، يدل عليه أنه قال: (من لم يتم لها خشوعها ... ) إلى آخره، فإن الخشوع في الصلاة ليس فرضًا إجماعًا، بل هو مستحب، وكذلك الركوع والسجود؛ فإنَّ الإتمام فيهما سنة أيضًا، وحيث قرب عدم تمام الخشوع مع عدم تمام الركوع والسجود دلَّ ذلك على أن إتمامهما سنة، كما لا يخفى، والله أعلم؛ فافهم، فقام لنا الدليل على أن الاطمئنان في الأركان سنة أو واجب وليس بفرض، والعناد بعد ذلك مكابرة؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (قائم وقاعد)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/659)
(27) [باب: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود]
هذا (باب) بالتنوين (يُبْدي)؛ بضمِّ التحتية من الإبداء؛ وهو الإظهار؛ أي: يظهر، والمعنى: باب بيان أن السنة للمصلِّي أن يبدي (ضَبْعيه) تثنية ضَبْع بفتح الضاد المعجمة وسكون الموحدة وفي «الموعب»: الضَّبع: مثال (صقر): العضد، مذكر، ويقال: الإبط، وقيل: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه، وفي «المخصص»: الضبع: هو إذا أدخلت يدك تحت إبطيه من خلفه، واحتملته، والعضد يذكر ويؤنث، وفي «المحكم»: الضبع يكون للإنسان وغيره، وفي «الجامع»: الضَّبعان: رأسا المنكبين، الواحد: ضبْع؛ ساكن الباء، والجمع أضباع، وقال السفاقسي: الضبع: ما تحت الإبط، ومعنى: (يبدي ضبعيه): لا يلصق عضديه بجنبيه كذا في «عمدة القاري».
(ويجافي) أي: يباعد عضديه عن (جنبيه) ويرفعهما عنهما (في السُّجود) (ويجافي): من الجفاء؛ وهو البعد عن الشيء، يقال: جفاه إذا أبعد عنه، وأجفاه إذا أبعده، ويجافي بمعنى يجفي؛ أي: يبعد جنبيه، وليست المفاعلة ههنا على بابها؛ كما في قوله تعالى {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133]؛ بمعنى: أسرعوا، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: فإن قلت: ما المناسبة بين البابين على تقدير ثبوت هذا الباب ههنا؟
قلت: من حيث إن المذكور في الباب السَّابق حكم الطمأنينة في السُّجود، وههنا إبداء الضبعين ومجافاة الجنبين في السجود، وكلها من أحكام السجود، انتهى.
==================
(1/660)
[حديث: أن النبي كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض أبطيه]
390# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا) كذا للأربعة، ولغيرها: (أخبرنا) (يَحْيَى ابنُ بُكَيْرٍ)؛ بضم الموحدة وفتح الكاف مصغَّر بكر: هو البصري (قَالَ حَدَّثَنَا) وفي رواية: (أخبرنا) (بَكْرُ) بفتح الموحَّدة وسكون الكاف (بنُ مُضَرَ)؛ بضم الميم وفتح الضاد المعجمة: هو البصري، قال إمام الشَّارحين وتبعه الدماميني، والبرماوي، وابن حجر، والقسطلاني: أنَّه روي غير منصرف؛ للعلميَّة والعدل؛ مثل: عمر، انتهى.
وزعم الكرماني أنَّه ممنوع من الصرف؛ للعلمية والعجمة، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: هذا بعيد؛ لأنَّه لفظ عربي خالص من مضر اللبن يمضر مضورًا: هو الذي يحذي اللسان قبل أن يروَّب، قال أبو البيداء: اسم مضر مشتقٌّ منه وهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان، انتهى.
(عَنْ جَعْفَرٍ) زاد الأصيلي: (بن ربيعة): هو ابن سرجيل المصري المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئة، (عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ)؛ بضمِّ الهاء والميم: هو عبد الرحمن الأعرج المشهور بالرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، (عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَالِكٍ): هو ابن القِشْب بكسر القاف، وسكون الشين المعجمة، وبالموحَّدة الأزدي (ابنِ بُحَيْنَةَ)؛ بضم الموحدة، وفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية، وفتح النون: هو اسم أم عبد الله؛ فهو منسوب إلى الوالدين، أسلم قديمًا، وصحب النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان ناسكًا فاضلًا يصوم الدهر، مات زمن معاوية رضي الله عنه.
والصواب فيه: أن ينون (مالك)، ويكتب (ابن) بالألف؛ لأنَّ ابن بحينة ليس صفة لمالك، بل صفة لعبد الله؛ لأنَّ عبد الله اسم أبيه مالك، واسم أمه بحينة، فبحينة امرأة مالك وأم عبد الله، فليس الابن واقعًا بين علمين منتسبين، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
(أَنَّ النَّبِيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كَانَ إِذَا صَلَّى)؛ أي: سجد، فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، كما سيأتي (فَرَّجَ)؛ بفتح الفاء وتشديد الراء وتخفيفها، يقال: فرَّج الله الغم؛ بالتشديد والتخفيف، وهو من باب (ضرب يضرِب)، وهو لفظ مشترك بين فرج العورة والثغر وموضع المخافة، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وظاهر كلامه: أنَّ الرواية بالتشديد والتخفيف، لكن نقل القسطلاني عن السفاقسي أنَّه قال: رويناه بتشديد الراء والمعروف في اللغة التخفيف، وقد يقال: إن إمام الشَّارحين رواه بالتشديد والتخفيف، كما هو ظاهر كلامه؛ فتأمل.
يعني: فتح عليه السَّلام (بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ يعني: وجنبيه، والحكمة فيه: أنه أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة من الأرض، وأبعد من هيئات الكسالى، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: وقوله: (بين يديه) على حقيقته؛ يعني: قدَّامه، وأراد ببعد قدَّامه من الأرض (حَتَّى يَبْدُوَ) بواو مفتوحة؛ أي: يظهر (بَيَاضُ إِبْطَيْهِ)؛ بالتثنية وكسر الهمزة.
قال إمام الشَّارحين: ويؤيِّد هذا ما في رواية مسلم: (كان إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه).
وفي رواية الليث: (كان إذا سجد فرَّج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه).
وعنده أيضًا من حديث ميمونة: (كان عليه السَّلام إذا سجد لو شاءت بهيمة أن تمرَّ بين يديه؛ لمرَّت).
وفي رواية: (خوَّى بيديه)؛ يعني: جنح حتى يُرى وضح إبطيه من ورائه.
وعند الترمذي محسَّنًا والحاكم مصحَّحًا: عن
%ص 514%
عبد الله بن أقرم قال: فكنت أنظر إلى عفرتي إبطيه صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سجد، وعند الحاكم مصحَّحًا عن ابن عباس قال: أتيت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من خلفه فرأيت بياض إبطيه، وهو مُجِخٌّ قد فرَّج يديه، وعند الدارقطني ملزمًا للبخاري تخريجه عن أحمد بن جزء أنَّه قال: إن كنا لنأوي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مما يجافي مرفقيه عن جنبيه إذا سجد، وعند أحمد وصحَّحه أبو زرعة الرازي وابن خزيمة عن جابر: كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سجد جافى حتى يُرَى بياض إبطيه، وعند ابن خزيمة عن عدي بن عميرة: كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سجد يرى بياض إبطيه، وفي «صحيح ابن خزيمة» أيضًا عن البراء: كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سجد يرى وضح إبطيه، وعند مسلم من حديث أبي حميد في عشرة من الصحابة: إذا سجد؛ جافى بين يديه، وعند أبي داود عن أبي مسعود ووصف صلاته عليه السَّلام، وفيه: ثم جافى بين مرفقيه حتى استقرَّ كل شيء منه، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
ثم قال: وقوله: (يجنح) من التجنيح؛ وهو أن يرفع ساعديه في السجود عن الأرض، فيصيران له مثل جناحي الطير، وكذلك التجنُّح، وقوله: (وَضَح إبطيه)؛ أي: بياضهما، وهو بفتح الواو والضاد المعجمة، وقوله: (بَهمة)؛ بفتح الموحدة، قال الجوهري: البهمة: من أولاد الضأن خاصَّة، ويطلق على الذكر والأنثى، والسخال: أولاد المِعزى، وقال أبو عبيد: البهمة: واحد البهيم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث، وجمع البهم: البِهام؛ بكسر الموحدة، وفي رواية الحاكم والطبراني: (بُهيمة)؛ بالتصغير، وقيل: هو الصواب، وفتح الباء خطأ، وقوله: (خوَّى)؛ بالخاء المعجمة وتشديد الواو المفتوحة؛ أي: جافى بطنه عن الأرض ورفعها، وجافى عضديه عن جنبيه حتى يخوى ما بين ذلك، وقوله: (مُجِخٌّ)؛ بضم الميم، وكسر الجيم، وبالخاء المعجمة المشدَّدة، مِن جَخَّ؛ بفتح الجيم والخاء المعجمة المشددة: إذا فتح عضديه عن جنبيه، ويروى: جَخِي بالياء وهو أشهر، وهو مثل: جَخَّ، وقيل: كان إذا صلَّى؛ يجنح؛ يعني: تحوَّل من مكان إلى مكان، وقوله: (لنأوي)؛ أي: نرقُّ له ونرثي، يقال: أويت الرجل أوًى؛ إذا أصابه شيء فرثيت له، و (العُفْرة)؛ بضمِّ العين المهملة وسكون الفاء: البياض، وزعم أبو نعيم في «دلائل النبوة» أن بياض إبطيه عليه السَّلام من علامات نبوته، انتهى.
ثم قال الشَّارح: ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (كان إذا صلَّى)؛ لأنَّ المراد من قوله: (صلى): سجد من قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء، وإذا فرج بين يديه؛ لا بُدَّ من إبداء ضبعيه، انتهى.
قلت: ويستنبط من هذا الحديث: التفريج بين اليدين وهو سنة للرجال، أمَّا المرأة والخنثى؛ فيضمان؛ لأنَّ المطلوب في حقهما الستر، وحكي عن بعضهم أن السنة في حق النساء التفريج أيضًا، وبعضهم خيرها بين الانفراج والانضمام.
وقال أئمتنا الأعلام: وجافى الرجل بطنه عن فخذيه، وعضديه عن إبطيه في غير زحمة، أمَّا فيها؛ فيضم؛ حذرًا عن إضرار الجار، فإنَّ الإضرار حرام، فلا يفعل السنة ويرتكب المحرم، انتهى.
قلت: وهذا يفعله بعض الجهلة من الشافعية؛ فإنَّهم يجافون ويزدحمون ويؤذون الجار وهو حرام كما هو مشاهد.
وقال أئمتنا الأعلام: والمرأة تنخفض فتضم عضديها لجنبيها، وتلزق بطنها بفخذيها؛ لأنها عورة مستورة وهذا أستر لها، وقالوا: وجافى الرجل بطنه عن فخذيه، وأبدى عضديه، وذلك سنة، انتهى.
وممن كان يفعل ذلك ويجافي: أنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، والحسن، وإبراهيم، وعلي بن أبي طالب، وقال عطاء: خفِّفوا [1] عن الأرض.
وممن كان يعتمد ورخص للمصلي أن يعتمد بمرفقيه: أبو ذر، وابن مسعود، وابن عمر، وابن سيرين، وقيس بن سعد، وقال أبو عبيد: حدثنا ابن عيينة، عن سمي، عن النعمان بن أبي عياش قال: شكونا إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الادِّعام والاعتماد في الصلاة، فرخص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو فخذيه.
وعند الترمذي عن أبي هريرة: اشتكى أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مشقة السجود عليهم، فقال: «استعينوا بالرُّكب».
وروى أبو داود ولفظه: اشتكى أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا، فقال: «استعينوا بالرُّكب».
وفي «الصحيح»: حدثنا يزيد بن هارون عن ابن عون قال: قلت لمحمد: الرجل يسجد إذا اعتمد بمرفقيه على ركبيته، قال: ما أعلم به بأسًا، وحدثنا عاصم عن ابن جريج عن نافع قال: كان ابن عمر يضم يديه إلى جنبيه إذا سجد، وحدثنا ابن نمير: حدثنا الأعمش عن حبيب قال: سأل رجل ابن عمر أضع مرفقي على فخدي إذا سجدت؟ قال: اسجد كيف يتيسر عليك، وحدثنا وكيع، عن أبيه، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن قيس بن السكن قال: كل ذلك قد كانوا يفعلون، وينضمون ويتجافون، وكان بعضهم ينضم، وبعضم يتجافى، انتهى.
قلت: يعني: كانوا يتجافون في غير زحمة، وينضمون في الزحمة، وقال الشافعي: يسن للرجل أن يجافي مرفقيه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه، وتضم المرأة بعضهما إلى بعض، وقال القرطبي: وحكم الفرائض والنوافل في هذا سواء، انتهى، والله أعلم.
(وَقَالَ اللَّيْثُ): هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي، من أتباع الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ نَحْوَهُ)؛ بالنصب؛ أي: نحو حديث بكر، فقوله: (وقال الليث) عطف على (بكر)؛ أي: حدثنا يحيى: قال الليث: حدثني جعفر؛ بلفظ التحديث وما روى بكر عنه بطريق العنعنة.
وهذا التعليق أخرجه مسلم في «صحيحه» فقال: حدثنا عمرو بن سويد، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث والليث بن سعد؛ كلاهما عن جعفر بن ربيعة به، وفي رواية عمرو بن الحارث: إذا سجد؛ يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه، وفي رواية الليث: كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري» رحمه الكريم الباري.
==================
(1/661)
(28) [باب فضل استقبال القبلة بأطراف رجليه]
هذا (باب) بيان (فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ)؛ بكسر القاف؛ أي: الكعبة، والسين والتاء للطلب؛ أي: باب فضل طلب التوجه للكعبة، ولما فرغ المؤلف من بيان أحكام ستر العورة بأنواعها؛ شرع في بيان استقبال القبلة على الترتيب؛ لأنَّ الذي يريد الشروع في الصلاة يحتاج أولًا إلى ستر العورة، ثم إلى استقبال القبلة، وما يتبعها من أحكام المساجد.
(يَسْتَقْبِلُ)
%ص 515%
أي: المصلي؛ أي: يتوجه (بِأَطْرَافِ) رؤوس أصابع (رِجْلَيْهِ) بالتثنية (القِبلَة)؛ أي: نحو الكعبة، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: (يستقبل القبلة بأطراف رجليه) (قَالَه أَبُو حُمَيْدٍ)؛ بضم الحاء المهملة: هو عبد الرحمن بن سعد الساعدي الأنصاري المدني، قيل: اسمه المنذر، غلبت عليه كنيته، مات في آخر زمن معاوية رضي الله عنه، (عَنِ النَّبِيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وسقط في رواية الأصيلي وابن عساكر هذا التعليق بتمامه هنا، وقال الشَّارح: وهذا التعليق قطعة من حديث طويل في (صفة الصلاة) رواه أبو حميد عنه عليه السَّلام، وأخرجه البخاري مسندًا فيما بعد في باب (سنة الجلوس في التشهد)، وجعل هذه القطعة ترجمة بباب آخر فيما بعد؛ حيث قال: (باب يستقبل القبلة بأطراف رجليه).
فإن قلت: ما مطابقة هذه القطعة للترجمة؟
قلت: إذا عرف [فرض] الاستقبال وعرف فضله؛ عرفت المطابقة، أمَّا فرضه؛ فهو توجه المصلي بكليته إلى القبلة، وأمَّا فضله؛ فاستقباله بجميع ما يمكن من أعضائه حتى بأطراف أصابع رجليه في التشهد.
وبوب عليه النسائي فقال: (باب الاستقبال بأطراف أصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد)، ثم روى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى) انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ المؤلف أراد بهذا بيان مشروعية الاستقبال بجميع ما يمكن من الأعضاء.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (ليس كذلك؛ لأنَّ الترجمة في فضل الاستقبال لا في مشروعيته، كما لا يخفى) انتهى.
قلت: ولقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر حيث قال هذا الكلام، ولم يدر ما مراد المؤلف، فقد قرأ وما درى، فإن مراد المؤلف في هذه الترجمة فضل الاستقبال، ومن عادته ذكر الأحاديث والتعاليق بعدها؛ لأجل أن يستدل بها على ما ترجم له، فأراد بهذا التعليق الاستدلال على فضل الاستقبال، أمَّا المشروعية؛ فساكت عنها؛ لأنَّه لو كان مراده المشروعية؛ لقال: باب مشروعية استقبال القبلة، ومتى علمت ما قلناه؛ ظهر لك بطلان ما زعمه ابن حجر؛ فافهم.
==================
(1/662)
[حديث: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم]
391# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثنا عَمْرُو)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الميم، آخره واو (بنُ عَبَّاسٍ)؛ بتشديد الموحدة آخره سين المهملة: هو أبو عثمان الأهوازي البصري، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئتين (قَالَ: حَدَّثَنا ابنُ مهدِي)؛ بفتح الميم وكسر الدال المهملة: هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان أبو سعيد البصري اللؤلؤي، كذا بالتنكير في رواية الأصيلي وابن عساكر، وفي رواية غيرهما: (ابن المهدي)؛ بالتعريف (قَالَ: حَدّثَنا مَنْصُور بنُ سَعْدٍ)؛ بسكون العين المهملة: هو البصري صاحب اللؤلؤ، (عَنْ مَيْمُونِ)؛ بفتح الميم الأولى وضم الثانية، بينهما تحتية ساكنة (بنُ سِياهٍ)؛ بكسر السين المهملة وتخفيف التحتية، وبعد الألف هاء، وهو بالفارسية معناه: الأسود، ويجوز فيه الصرف ومنعه، أمَّا منعه من الصرف؛ فللعلمية والعجمة، وأمَّا صرفه؛ فلعدم شرط المنع، وهو أن يكون علمًا في العجم، ولفظ (سياه) ليس بعلم في العجم؛ فلذلك يكون صرفه أولى، قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
ولقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر؛ حيث قال: إنه عربي، ورده إمام الشَّارحين، فقال: هذا غير صحيح؛ لعدم تصرف وجوه الاشتقاق فيه؛ فليحفظ
(عَن أَنَس بنُ مَالِكٍ): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه (قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مَنْ) أي: الشخص الذي (صَلَّى صَلَاتَنَا): منصوب بنزع الخافض، وهو في نفس الأمر صفة لمصدر محذوف؛ أي: من صلى صلاة كصلاتنا؛ أي: صلى كما نصلي، ولا يوجد ذلك إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، ومن اعترف بنبوة النبيِّ الأعظم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقد اعترف بجميع ما جاء به عن الله عزَّ وجلَّ، فلهذا جعل الصلاة علمًا لإسلامه، ولم يذكر الشهادتين؛ لأنَّهما داخلتان في الصلاة، كذا في «عمدة القاري».
(وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا) السين والتاء للطلب؛ أي: وطلب التوجه إلى الكعبة فتوجه إليها، وإنما ذكر استقبال القبلة والصلاة متضمنة له مشروطة به؛ لأنَّ القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل واحد يعرف قبلته وإن كان لا يعرف صلاته، ولأنَّ من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا؛ كالقيام والقراءة، وأمَّا استقبال قبلتنا؛ فمخصوص بنا، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: ولما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غير عبادة؛ أعقبه بذكر ما يميزه عبادة وعادة، فقال: (وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا): فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العادات؛ فكذلك هو من العبادات الثابتة في كل ملة.
وقال الطيبي: إذا أجري الكلام على اليهود؛ سهل تعاطي عطف الاستقبال على الصلاة بعد الدخول فيها، ويعضده اختصاص ذكر الذبيحة؛ لأنَّ اليهود خصوصًا يمتنعون عن أكل ذبيحتنا، وهم الذين حين تحولت القبلة؛ شنعوا بقولهم: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]؛ أي: صلوا صلاتنا، وتركوا المنازعة في أمر القبلة، والامتناع عن أكل الذبيحة؛ لأنَّه من باب عطف الخاص على العام، فلما ذكر الصلاة؛ عطف ما كان الكلام فيه، وما هو مهتم بشأنه عليها، كما أنه يجب عليهم أيضًا عند الدخول في الإسلام أن يقروا ببطلان ما يخالفون به المسلمين في الاعتقاد بعد إقرارهم بالشهادتين، انتهى.
قلت: ولا خصوصية لليهود؛ لأنَّ الذين طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة مشركو العرب، كما قاله الحسن، أو هم المنافقون، كما قاله السدي، فكل من اليهود ومشركي العرب والمنافقين سفهاء، فلهذا قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ... }؛ الآية، أمَّا اليهود؛ فإنما قالوا ذلك؛ لأنَّهم لا يرون النسخ في الشرائع والأحكام؛ لما زعموا أن نسخها بمعنى البداء، والرجوع عنها بداء، وذلك محال في حق الله عز وجل؛ لعلمه بعواقب الأمور أجمع، والبداء والرجوع في الشاهد مبني على الجهل بالعواقب، وقولهم هذا جهل؛ لعدم علمهم بتفسير النسخ، فإنَّ النسخ: عبارة عن انتهاء الحكم إلى وقت معين؛ لانتهاء المصلحة التي شرع الحكم لها، وبيان حكم جديد لمصلحة أخرى في وقت آخر مع بقاء الحكم الأول مشروعًا، ومصلحة وقت كونه مشروعًا، وليس فيه ما فهمته اليهود.
ونظير النسخ في الشاهد أمر الطبيب مريضًا غلبت عليه الصفراء والحرارة بشرب المبردات القاطعة للصفراء، ثم إنَّه متى علم بسكون الصفراء والحرارة واعتدال طبعه؛ نهاه عن ذلك، وأمره بالمعتدل من الشراب، فإن ذلك لم يكن منه بداءً عما أمره في الوقت الأول، وإبطالًا ونقضًا له، بل بيان أنَّ المصلحة في ذلك
%ص 516%
الوقت ذاك.
وأمَّا المشركون والمنافقون؛ فإنما قالوا ذلك من حيث إنهم أعداء الدين، والأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالًا؛ لم يتركوا مقالًا ألبتة.
(فَذَلِكَ) جواب الشرط، وهو مبتدأ (الْمُسْلِمُ) بالرفع خبره (الَّذِي لَهُ) بالرفع صفته (ذِمَّةُ الله)؛ بكسر الذال المعجمة، كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله: (له)، والجملة صلة الموصول، والذمة: الأمان والعهد؛ والمعنى: في أمان الله وضمانه (وَذِمَّةُ رَسُولِهِ)؛ بكسر الذال المعجمة، ولأبي ذر: (وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في أمانه وضمانه، ويجوز أن يراد بالذمة: الذمام؛ وهو الحرمة، ويقال: الذمة: الحرمة أيضًا، وقال القزاز: الذمام: كل حرمة تلزمك منها ذمة، تقول: لزمني لفلان ذمام وذمة، ومذمة هذا؛ بكسر الذال المعجمة، وكذا لزمتني له ذَمامة مفتوح الأول، وفي «المحكم» الذمام والمذمة: الحق، والجمع أذمة، والذمة: العهد والكفالة، والجمع ذمم، وقال ابن عرفة: الذمة: الضمان، وبه سُمِّي أهل الذمة؛ لدخولهم في ضمان المسلمين، قال الأزهري في قوله تعالى: {إِلًا وَلاذِمَّةً} [التوبة: 8]: أي: ولا أمانًا، كذا في «عمدة القاري».
(فَلَا تُخْفِرُوا)؛ بضم المثناة الفوقية وسكون الخاء المعجمة وكسر الفاء، من الإخفار، والهمزة فيه للسلب؛ أي: لسلب الفاعل عن المفعول أصل الفعل؛ نحو: أشكيته؛ أي: أزلت شكايته، وكذلك: أخفرته؛ أي: أزلت خفارته، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال ثعلب: خفرت الرجل؛ إذا أجرته، وأخفرته؛ إذا نقضت عهده، وقال كراع وابن القطان: أخفرته: بعثت معه خفيرًا، وقال القزاز: خفر فلان بفلان وأخفره؛ إذا غدر به، وقال ابن سيده: خفره خفرًا وخفورًا وأخفره: نقض عهده وغدره، وأخفر الذمة: لم يف بها، انتهى.
(الله) أي: لا تنقضوا عهده ولا تغدروه ولا تفوا (فِي ذِمَّتِهِ)؛ بكسر الذال المعجمة، والضمير فيه يرجع إلى الله تعالى أو إلى المسلم، والأول أظهر؛ لقربه؛ يعني: ولا رسوله، وإنما اكتفى في النهي بذمة الله وحده ولم يذكر الرسول كما ذكر أولًا؛ لأنَّه ذكر الأصل لحصول المقصود به ولاستلزامه عدم إخفار ذمة الرسول، وأمَّا ما ذكره أولًا؛ فللتأكيد وتحقيق عصمته مطلقًا، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الخطابي أن معنى قوله: (فلا تخفروا الله): لا تخونوا الله في تضييع حق من هذا سبيله، انتهى.
قلت: وهذا قاصر، فإن من كان هذا سبيله بأن صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ لا يجوز له التعرُّض في هذه الأشياء، أمَّا لو فعل شيئًا مخالفًا لأوامر الله تعالى ورسوله؛ فيجوز التعرض له بأن وجب عليه حد أو جلد أو حق وغير ذلك، فإنَّه حينئذٍ خرج عن كونه في ذمة الله تعالى؛ لأنَّ الذي في ذمته تعالى هو الممتثل لأوامره تعالى المجتنب نواهيه، فمن كان هذا سبيله؛ فهو في ذمة الله تعالى حقًّا.
أمَّا ما نشاهده من جماعة الشيعة في بلادنا الشامية من صلاتهم معنا، واستقبالهم قبلتنا، وأكلهم ذبيحتنا؛ فهو نفاق وتقية، فنتعرض لهم، وإذا وجب عليهم حد من قتل أو جلد أو نحوها؛ فعلنا بهم؛ لأنَّهم ليسوا في ذمة الله تعالى؛ فافهم.
ففي الحديث: دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم وورعهم حتى يبحث عن باطنهم؛ لأنَّ الله تعالى قد بين أحوال الناس وأن منهم من يظهر قولًا جميلًا وهو ينوي قبيحًا، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 204 - 205]، وفي «الترمذي» عن بعض كتب الله: (أَبِي تغترون؟! وعليَّ تجترئون؟! فبي حلفت؛ لأبيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران).
وقال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله عليه السَّلام: «واستقبل قبلتنا»، وبيان ذلك أنه عليه السَّلام أفرد بذكر استقبال القبلة بعد قوله: «من صلى صلاتنا» مع كونه داخلًا فيها؛ لأنَّه من شرائطها، وذلك؛ للتنبيه على تعظيم شأن القبلة وعظم فضل استقبالها، وهو غير مقتصر على حالة الصلاة، بل أعم من ذلك، كما لا يخفى) انتهى.
ثم قال رضي الله عنه: ويستنبط من هذا الحديث: أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون الباطن، فمن أظهر شعائر الدين؛ أجريت عليه أحكام أهل الدين ما لم يظهر منه خلاف ذلك، فإذا دخل رجل غريب في بلد من بلاد المسلمين بدين أو مذهب في الباطل غير أنه يرى عليه زي المسلمين؛ حمل على ظاهر أمره على أنه مسلم، حتى يظهر منه خلاف ذلك.
قلت: ويدل لهذا أنه عليه السَّلام قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن برجل بالنفاق قال: «هل شققت على قلبه، أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟»، فأحوال الناس تحمل على الظاهر دون الباطن؛ لأنَّ الباطن لا يطلع [1] عليه إلا الله تعالى، فالشرع يحكم عليه بالظاهر، أمَّا إذا تبين منه الخروج عن الشرع؛ فيحكم عليه بسبب خروجه، فالشاهد إذا شهد عند القاضي؛ سأل عنه في ظواهر أموره دون باطنها، ويكتفي به؛ فافهم.
ثم قال: وفي الحديث: ما يدل على تعظيم شأن القبلة، وهي من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومن ترك القبلة متعمدًا؛ فلا صلاة له، ومن لا صلاة له؛ فلا دين له.
قلت: يدل عليه قوله عليه السَّلام: «الصلاة عماد الدين، فمن تركها؛ فقد هدم الدين»، وقوله عليه السَّلام: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة ... »؛ الحديث، فقد جعل عليه السلام الإسلام مثل قبة على أعمدة، فمن ترك منها واحدًا؛ فقد هدم القبة، كما تقدم في أول كتاب (الإيمان).
ثم قال رحمه الله: وفي الحديث: أن استقبال القبلة شرط للصلاة مطلقًا إلا في حالة الخوف، فمن كان بمكة _شرفها الله_؛ فالفرض في حقه إصابة عينها، سواء كان بين المصلي وبين الكعبة حائل؛ كجدار، أو لم يكن، حتى لو اجتهد وصلى فبان خطأه؛ فقال الإمام الرازي: يعيد، ونقل ابن رستم عن الإمام محمد بن الحسن: لا يعيد إذا بان خطؤه، سواء كان بمكة أو بالمدينة، قال: وهو الأقيس؛ لأنَّه قد أتى بما في وسعه، وذكر الإمام أبو البقاء أن
%ص 517%
جبريل عليه السَّلام وضع محراب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مسامت الكعبة.
وقيل: كان ذلك بالمعاينة بأن كشف الحال وأزيلت الحوائل، فرأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الكعبة، فوضع قبلة مسجده عليها.
قلت: كما وقع له عليه السَّلام صبيحة الإسراء حين سأله قريش عن صفة مسجد بيت المقدس، فأزيلت الحوائل عنه، وكشف له الحال، فوصفه [2] لهم، وأمَّا من كان غائبًا عن الكعبة؛ ففرضه جهة الكعبة لا عينها، وهو قول الإمام الكرخي، وأبي بكر الرازي، وأكثر الأئمة الحنفية.
وقال أبو عبد الله الجرجاني: الفرض إصابة عينها في حق الحاضر والغائب، وهو قول الشافعي، وزعم النووي أنَّ الصحيح عنه فرض المجتهد مطلوبية عينها.
وفي تعلم أدلة القبلة ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه فرض كفاية، الثاني: أنه فرض عين، ولا يصح، الثالث: أنه فرض كفاية إلا أن يريد سفرًا.
وقال البيهقي في «المعرفة» والذي روي مرفوعًا: «الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام، والمسجد الحرام قبلة أهل مكة ممن يصلي في بيته أو في البطحاء، ومكة قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الآفاق»، فهو حديث ضعيف لا يحتج به.
وفي الحديث: أن من جملة الشواهد [3] لحال المسلم أكل ذبيحة المسلمين، وذلك أن طوائف من الكتابيين والوثنيين يتحرجون [4] من أكل ذبيحة المسلمين، والوثني: الذي يعبد الصنم، انتهى.
==================
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (فوصفهم)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (الشواهل)، ولعله تحريف.
(1/663)
[حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله]
392# وبه قال: (حَدَّثَنَا) ولأبوي ذر والوقت: (وحدثنا)؛ بالواو (نُعَيْمٌ)؛ بضم النون وسكون التحتية، بينهما عين مهملة مفتوحة: هو ابن حماد الخزاعي (قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ): هو عبد الله، فهو موصول.
وقال إمام الشَّارحين: حديث أنس هذا أخرجه البخاري في هذا الباب من ثلاثة أوجه:
الأول: مسند عن عمرو بن عباس، وقد سبق.
والثاني: فيه خلاف بين الرواة من أربعة أوجه؛ الأول: حدثه البخاري عن نعيم، ونعيم أخرجه معلقًا؛ حيث قال: (قال ابن المبارك)، وهذا هو المذكور في نسختنا، وهي رواية أبوي ذر والوقت، الثاني: قال محمد بن إسماعيل وقال ابن المبارك: قال ابن عساكر روى البخاري عنه: (قال نعيم)، فالبخاري علقه، وقد وصله الدارقطني من طريق نعيم عن ابن المبارك، الثالث: رواية الأصيلي وكريمة: «قال ابن المبارك»؛ بغير ذكر نعيم، فالبخاري أيضًا علقه عنه، الرابع: وقع مسندًا؛ حيث قال: (حدثنا نعيم: حدثنا ابن المبارك)، هكذا في بعض الأصول، وقد ذكره المؤلف في (الجهاد)، والترمذي في (الإيمان): عن سعيد بن يعقوب عن ابن المبارك، وأخرجه النسائي في (المحاربة): عن محمد بن حاتم، عن حبان، عن ابن المبارك، انتهى.
(عَنْ حُمَيْدٍ) بضم الحاء المهملة وسكون التحتية (الطَّوِيلِ): التابعي المشهور، (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: أُمِرْتُ)؛ بضم الهمزة وكسر الميم؛ أي: أمرني الله تعالى، وإنما طوى ذكر الفاعل؛ لشهرته وتعظيمه (أَنْ) أي: بأن (أُقَاتِلَ النَّاسَ)؛ فكلمة (أَنْ) مصدرية، وأراد بـ (الناس): المشركون؛ أي: بقتل المشركين، فهو من العام الذي أريد به الخاص؛ لأنَّ المراد بـ (الناس): المشركون من غير أهل الكتاب، ويدل لذلك رواية النسائي، ولفظه: «أمرت أن أقاتل المشركين»، أو يكون المراد: مقاتلة أهل الكتاب؛ فافهم.
(حَتَّى) أي: إلى أن (يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ): إنَّما اكتفى بهذا الشطر من غير انضمام (محمد رسول الله)؛ لأنَّه عبر به على طريق الكناية عن الإقرار برسالته بالصلاة والاستقبال والذبح؛ لأنَّ هذه الثلاثة من خواص دين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ القائلين: لا إله إلا الله كاليهود؛ فصلاتهم بدون الركوع، وقبلتهم غير الكعبة، وذبيحتهم ليست كذبيحتنا، وقد يجاب: بأنَّ هذا الشطر الأول من كلمة الشهادة شعار لمجموعها، كما يقال: قرأت {الم*ذَلِكَ الكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2]، والمراد: كل السورة، لا يقال: فعلى هذا؛ لا يحتاج إلى الأمور الثلاثة؛ لأنَّ مجرد هذه الكلمة التي هي شعار الإسلام محرمة للدماء والأموال؛ لأنَّا نقول: الغرض منه بيان تحقيق القول بالفعل، وتأكيد أمره، فكأنه قال: إذا قالوها وحققوا معناها بموافقة الفعل لها؛ فتكون محرمة، وأمَّا تخصيص هذه الثلاثة من بين سائر الأركان وواجبات الدين؛ فلكونها أظهرها وأعظمها وأسرعها علمًا به؛ إذ في اليوم الأول من الملاقاة مع الشخص يعلم صلاته وطعامه غالبًا، بخلاف نحو الصوم؛ فإنه لا يظهر الامتياز بيننا وبينهم به، ونحو الحج؛ فإنه قد يتأخر إلى شهور وسنين، وقد لا يجب عليه أصلًا، كذا قرره إمامنا الشَّارح.
(فَإِذَا قَالُوهَا)؛ أي: كلمة الشهادة وصدقوا بمعناها بموافقة الفعل لها (وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا)؛ أي: المخصوصة بنا؛ أي: بأن صلوا بالركوع والسجود والقعود في آخرها، واقتصار القسطلاني على الركوع فقط؛ خطأ ظاهر؛ لأنَّ اليهود يصلون بالركوع فقط، كما هو مشهور عنهم، فلو صلوا بالركوع؛ لم يصيروا مسلمين حتى يصلوا بالركوع والسجود والقعود في آخرها؛ لأنَّ الفارق بيننا وبينهم في الصلاة السجود والقعود الأخير، فإن فعلوا ذلك؛ فلهم أحكام الإسلام، وإلا؛ فلا؛ فافهم
(وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا)؛ أي: طلبوا التوجه إلى الكعبة التي هدانا الله إليها، وإنما ذكر الاستقبال مع أن الصلاة متضمنة له؛ لأنَّ القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل واحد يعرف قبلته وإن كان لا يعرف صلاته كما سبق.
(وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا)؛ أي: ذبحوا المذبوح مثل مذبوحنا، والذبيحة على وزن (فعيلة) بمعنى المذبوح.
فإن قلت: فعيل إذا كان بمعنى المفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ فلا يدخله التاء.
قلت: لما زال عنه معنى الوصفية وغلبت عليه الاسمية واستوى فيه المذكر والمؤنث؛ فتدخله التاء، وقد يقال: إن الاستواء فيه عند ذكر الموصوف معه، وأمَّا إذا انفرد عنه؛ فلا، قاله إمام الشَّارحين.
(فَقَدْ حَرُمَتْ)؛ بفتح الحاء وضم الراء المهملتين، كما في رواية «الفرع»، وجوز البرماوي وغيره: ضم الحاء وتشديد الراء، وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر حيث زعم أنه لم ير في شيء من الروايات تشديد الراء.
قلت: ولا يلزم من عدم رؤيته ذلك ألَّا يكون ثابتًا في بعض الروايات، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، لا سيما أن التشديد معناه أبلغ في الحرمة من التخفيف، وقد صرح جماعة من الشراح بجوازه، وهو يدل على أنه ثابت في بعض الروايات، والمثبت مقدم على النافي، فليحفظ، والله تعالى أعلم.
%ص 518%
(عَلَيْنَا)؛ أي: على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ومن كان أميرًا بعده إلى قيام الساعة (دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ) فلا يجوز التعرُّض لهم حينئذ بدم ولا أخذ مال (إِلَّا بِحَقِّهَا)؛ أي: إلا بحق الدماء والأموال، وذلك من قتل نفس أو حد من الحدود، أو ضمان مال بأن أتلف شيئًا، فيقتص منه في ذلك؛ لأنَّهم حينئذٍ غير معصومين؛ لأنَّ الله تعالى حكم على القاتل بالقتل، والزاني بالرجم أو الجلد، وتارك الصلاة بالحبس والضرب، والغاصب بالضمان، ومتلف الأموال بالمال، وغير ذلك، ومن ذلك زكاة الأموال، والعشر للغنم والبقر والمعز والإبل ونحوها.
وعند المؤلف في باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة) عن ابن عمر: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ... »؛ الحديث، فهو محمول على أهل الكتاب المقرين بالتوحيد الجاحدين لنبوة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عمومًا وخصوصًا.
وفي حديث أبي هريرة عند المؤلف في (الجهاد) الاقتصار على قول: «لا إله إلا الله ... »؛ الحديث، وهو محمول على أنه عليه السَّلام قاله في وقت قتاله للمشركين.
وأمَّا حديث الباب محمول على من دخل الإسلام ولم يعمل الصالحات؛ كترك الجمعة والجماعة؛ فيقاتل حتى يذعن لذلك.
(وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله)؛ أي: حسابهم بعد ذلك في أمر سرائرهم على الله تعالى، وأمَّا نحن؛ فإنما نحكم عليهم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، ويحتمل المعنى هذا القتال وهذه العصمة إنَّما هما باعتبار أحكام الدنيا المتعلقة بنا، وأمَّا أمور الآخرة من الجنة والنار والثواب والعقاب؛ فمفوض إلى الله تعالى، ولفظة: (على) مشعرة بالإيجاب، فظاهره غير مراد، فإمَّا أن يكون المراد: وحسابهم إلى الله، أو لله، أو أنه يجب أن يقع ذلك لا أنه تعالى يجب عليه شيء، خلافًا للمعتزلة القائلين بوجوب الحساب عقلًا، فهو من باب التشبيه له بالواجب على العباد في أنه لا بد من وقوع ذلك.
واقتصر على الصلاة؛ لأنها عماد الدين كما ثبت في الحديث، ولم يذكر الزكاة هنا؛ لأنها داخلة في قوله: «إلا بحقها»، فإن الحق في الأموال الزكاة ونحوها.
ففي الحديث: قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر.
وفيه: الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافًا لمن أوجب تعلم الأدلة.
وفيه: ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرع، والحق أنَّ المعتزلة فسقة لا كفار، كما دل عليه هذا الحديث وغيره.
وفي الحديث: قبول توبة الكافر سواء كان كفرًا ظاهرًا أو باطنًا.
وزعم ابن المنيِّر أن في الحديث: دليل على قتل تارك الصلاة، وذكره القسطلاني عنه وطول كلامه، وكلاهما غير ظاهر، والحديث لا يدل على ما قاله؛ لأنَّ قوله: «فإذا قالوها وصلوا صلاتنا؛ حرمت دماؤهم» شرط، ومفهومه: أنَّهم إذا قالوها وامتنعوا من الصلاة كسلًا أو نحوه مع اعتقادهم فرضيتها عليهم، كذلك تحرم دماؤهم، أمَّا إذا جَحَدُوا فرضيتها أو لم يفعلوها استخفافًا؛ فحينئذ لم تحرم دماؤهم، لأنَّه عليه السَّلام قد رتب استصحاب سقوط العصمة على ترك الإقرار بفرضيتها لا على تركها، يدل عليه أن الذبيحة لا يقتل تاركها إجماعًا، فكذا هذا، وقولهم: إن الإجماع أخرج الذبيحة فقط؛ مردود، فإنه تخصيص بلا مخصص وترجيح بلا مرجح، فإن النبيَّ الأعظم عليه السَّلام قد جعل هذه الثلاثة أعلى أركان الدين، ولم يفصل بينها بشيء، فعلم منه أنها سواء في الحكم، فثبت بذلك أن تارك الصلاة كسلًا لا يقتل؛ فليحفظ، وهو الصواب، وقد سبق هذا الحديث في باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة)، ومر الكلام عليه مستوفًى.
%ص 519%
==================
(1/664)
[حديث: من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل]
393 # (قال) أي: المؤلف: (وَقَالَ) بالواو (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ): هو المديني: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ)؛ بالمثلثة: هو البصري (قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ)؛ بضم الحاء المهملة: هو الطويل التابعي (قَالَ: سَأَلَ مَيْمُونُ)؛ بفتح الميم الأولى وضم الثانية بينهما تحتية ساكنة (بنُ سِيَاهٍ)؛ بكسر السين المهملة في آخره هاء (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا معلق وموقوف، أمَّا التعليق؛ فقوله: «قال: قال علي بن عبد الله»، ففاعل «قال» الأول: هو البخاري، وفاعل «قال» الثاني: ظاهر وهو شيخه علي ابن المديني، وأمَّا الوقف؛ فإن أنسًا لم يرفعه) انتهى.
(قَالَ)؛ أي: ميمون لأنس، ولأبوي ذر والوقت: (فقال)، وسقطت هذه الكلمة عند الأصيلي: (يَا بَا حَمْزَةَ) بالحاء المهملة والزاي، أصله: يا أبا حمزة، فحذفت الهمزة للتخفيف، وأبو حمزة كنية أنس بن مالك؛ (وَمَا يُحَرِّمُ)؛ بالتشديد من التحريم، وكلمة (ما): استفهامية، وهو بواو العطف على شيء محذوف، كأنه سأل عن شيء قبل هذا، ثم قال: (وما يحرم)، ولم تقع الواو في رواية الأصيلي وكريمة، قاله إمام الشَّارحين.
وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر؛ حيث زعم أن الواو استئنافية.
ورده إمام الشَّارحين (فقال: الاستئناف كلام مبتدأ، وحينئذ لا يبقى مقول لـ «قال»، فيحتاج إلى تقدير) انتهى.
قلت: والقاعدة: أنه إذا اجتمع التقدير وعدمه؛ فعدمه أولى عند المحققين، على أن الكلام متعلق بما قبله؛ فلا وجه لجعله استئنافًا؛ فافهم
(دَمَ الْعَبْدِ) أي: الرجل المسلم (وَمَالَهُ؟)؛ يعني: ما يدخل دم المسلم وماله في العصمة حتى لا يجوز التعرض له بسوء بغير حق، وإنما وصف المسلم بالعبودية؛ لأنها أشرف المقامات، ولهذا اختارها تعالى لنبيِّه الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]؛ فافهم.
(فَقَالَ) أي: أنس بن مالك لميمون: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وحده لا شريك له، في ألوهيته بذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بأن أقر بذلك وصدق، (وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا) أي: طلب التوجه لقبلتنا؛ وهي الكعبة، (وَصَلَّى صَلَاتَنَا) أي: بالركوع والسجود والقعود، (وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا)؛ أي: المذبوحة بأيدي المسلمين، فإن اليهود لا تأكل ذبيحة المسلمين؛ (فَهُوَ الْمُسْلِمُ) حقًّا فيحرم دمه وماله إلا بحق؛ يعني: من فعل هؤلاء الثلاثة؛ فهو معصوم الدم والمال إلا بحقها، (لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ) أي: من النفع، (وَعَلَيْهِ مَا عَلَى المُسْلِمِ)؛ أي: من المضرة،
%ص 520%
والتقديم يفيد الحصر؛ أي: له ذلك لا لغيره، كذا قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: (فإن قلت: الجواب ينبغي أن يكون مطابقًا للسؤال، والسؤال هنا عن سبب التحريم، فالجواب كيف يطابقه؟
قلت: المطابقة ظاهرة؛ لأنَّ قوله: «من شهد ... » إلى آخره: هو الجواب وزيادة؛ لأنَّه لما ذكر الشهادة وما عطف عليها؛ علم أن الذي يفعل هذا هو المسلم، والمسلم يحرم دمه وماله إلا بحقه) انتهى.
قلت: وأمَّا طائفة الدروز المشهورين بديارنا الشريفة الشامية المعتقدين الحلول والتناسخ؛ فأفتى الإمام المحقق شيخ الإسلام حامد أفندي العمادي بإباحة دمهم ومالهم، واسترقاق نسائهم وذراريهم، وبذلك أفتى جدي الإمام النحرير شيخ الإسلام زين الدين أفندي بن سلطان الحنفي، وتبعه جماعة من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وقد رأيت فتوى بذلك عليها خطوطهم التمسها الوزير الأعظم حين دخل الشام وعصوا عليه، فقاتلهم وانتصر عليهم، وإلى الآن أشرارهم قائمة، وفتنهم دائمة، اللهم؛ أهلكهم ولا تبق [1] لهم أثرًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
393# (وقال ابن أبي مريم) هو سعيد بن الحكم المصري: (أخبرنا يحيى) زاد الأربعة: (ابن أيوب الغافقي): هو المصري (قال: حدثنا حُميد)؛ بضم الحاء المهملة: هو الطويل التابعي، ولابن عساكر: (وقال محمد)؛ أي: المؤلف: (قال ابن أبي مريم: حدثني)؛ بالإفراد (حميد) (قال: حدثنا أنس): هو ابن مالك الأنصاري رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم).
قال إمام الشَّارحين: (هذا أيضًا معلق، وقد وصله أبو نعيم، وفي هذا فائدة: وهي تصريح حميد بسماعه إياه من أنس، لكن طعن فيه الإسماعيلي، وقال: الحديث حديث ميمون، وإنما سمعه حميد منه، ولا يحتج بيحيى بن أيوب في قوله: «عن حميد: حدثنا أنس»، ويدل على ذلك ما أخبرنا يحيى بن محمد بن البحتري: حدثنا عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي، عن حميد، عن ميمون قال: سألت أنسًا ... ؛ الحديث) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (رواية معاذ لا دليل فيها على أن حميدًا لم يسمعه من أنس؛ لأنَّه يجوز أن يكون سمعه من أنس، ثم استثبته فيه من ميمون، فكأنه تارة يحدث به عن أنس؛ لأجل العلوِّ، وتارة عن ميمون؛ للاستثبات، وقد جرى عادة حميد وغيره بهذا الطريق.
فإن قلت: جاء عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، وجاء عن ابن عمر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم»، وجاء عن أنس المذكور في هذا الباب، فما التوفيق بين هذه الروايات الثلاث؟
قلت: إنَّما اختلفت هذه الألفاظ وزادت ونقصت؛ لاختلاف الأحوال والأوقات التي وقعت هذه الأقوال فيها، وكانت أمور الشريعة تشرع شيئًا فشيئًا، فخرج كل قول فيها على شرط المفروض في حينه، فصار كل منها في زمانه شرطًا لحقن الدم وحرمة المال، ولا منافاة بين الروايات ولا اختلاف) انتهى.
قلت: وقد قدمنا أن حديث أبي هريرة محمول على أنه عليه السَّلام قاله وقت قتاله للمشركين، وحديث ابن عمر محمول على أهل الكتاب المقرين بالتوحيد، الجاحدين لنبوة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَّا حديث الباب؛ فمحمول على من دخل في الإسلام، ولم يعمل الصالحات؛ كترك الجمعة والجماعة؛ فيقاتل حتى يذعن لذلك؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ولا تبقي)، وليس بصحيح.
==================
(1/665)
(29) [باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق]
هذا (باب) حكم (قِبلة) بكسر القاف (أهل المدينة) أي: النبوية (وأهل الشام) أي: الكنانة (و) قبلة أهل (المشرق)؛ يعني: وأهل المغرب، وإنما لم يذكر المغرب بعده مع أنَّ العلة فيهما مشتركة؛ لأنَّه قد اكتفى بذكر المشرق عن المغرب؛ كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: والبرد، وإنما خص المشرق بالذكر دون المغرب؛ لأنَّ أكثر بلاد الإسلام في جهة المشرق، ولما ذكر المؤلف هذا؛ كأن سائلًا سأله، فقال: كيف قبلة هؤلاء في تلك المواضع؟ فقال: (ليس في المشرق ولا في المغرب قِبلة)؛ يعني: ليس في التشريق ولا في التغريب في المدينة والشام ومن يلحق بهم ممن على سمتهم قِبلة، فأطلق المشرق والمغرب على التشريق والتغريب، والجملة استئنافية من فقه المؤلف جواب عن سؤال، كما سبق.
قال إمام الشَّارحين: وهذا الموضع يحتاج إلى تحرير قوي، فإن أكثر من تصدى لشرحه لم يغن شيئًا، بل بعضهم ركب البعاد وخرط القتاد، فنقول وبالله التوفيق: إن قوله: (باب) إما أن يضاف إلى ما بعده، أو يقطع عنه، وإن لفظة (قِبلة) بعد قوله: (ولا في المغرب) إما أن تكون موجودة أو لا، ولكل واحد من ذلك وجه، ففي القطع وعدم وجود لفظة (قبلة) يكون لفظ [1] (باب) منونًا على تقدير: هذا باب، وهي رواية الأربعة، ويجوز أن يكون ساكنًا مثل تعداد الأسماء؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، ويكون قوله: (قبلة أهل المدينة) الذي هو كلام إضافي: مبتدأ، وقوله: (وأهل الشام)؛ بالجر عطفًا على المضاف إليه، وكذلك قوله: (والمشرق)؛ بالجر، وقوله: (ليس في المشرق): خبر المبتدأ، لكن لا بد فيه من تقديرين؛ أحدهما: أن يقدر لفظ (قبلة) الذي هو المبتدأ بلفظ (مستقبل أهل الشام)؛ لوجوب التطابق بين المبتدأ والخبر في التذكير والتأنيث، والثاني: أن يؤول لفظ (المشرق) بالتشريق، ولفظ (المغرب) بالتغريب، والعرب تطلق المشرق والمغرب لمعنى التشريق والتغريب، قاله ثعلب، وأما في الإضافة، وتقدير وجود لفظة: (قبلة) بعد قوله: (ولا في المغرب)؛ [فتقديره: هذا باب في بيان قبلة أهل المدينة وقبلة أهل الشام وقبلة أهل المشرق]، وهي رواية الأكثرين؛ فلهذا ترك العاطف، والجملة استئنافية، وهي في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، وهو أنه لما قال: (باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق)؛ انتصب سائل، فقال: كيف قبلة هذه المواضع؟ فقال: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة، انتهى.
قلت: وأراد بقوله: (بعضهم): ابن حجر، فإنه في هذا الموضع قد ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء، وقال: ولا يدري ما يقول من انتهاء الجهالة إليه، فعرِّج عن كلامه؛ تفز بالمقصود، والله أعلم.
وقال السفاقسي: (يريد: أن قبلة هؤلاء المسمين ليست في المشرق منهم ولا في المغرب؛ بدليل أنه عليه السَّلام أباح لهم قضاء الحاجة في جهة المشرق منهم والمغرب).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (ليس هذا معناه، وإنما معناه: القبلة ما بين المشرق والمغرب؛ لما روى الترمذي بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»)، ثم قال: (وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما بين المشرق والمغرب
%ص 521%
قبلة»؛ منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وقال عبد الله بن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك؛ فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة، وقوله عليه السَّلام: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ليس عامًّا في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المنورة وما وافق قبلتها) انتهى.
وقال البيهقي: (والمراد: أهل المدينة ومن كانت قبلته على سمت أهل المدينة).
وقال أحمد بن خالد الوهبي: (قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما بين المشرق والمغرب قبلة؛ قاله بالمدينة، فمن كانت قبلته قبل قبلة المدينة؛ فهو في سعتها بين المشرق والمغرب، ولسائر البلدان من السعة في القبلة قبل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك).
وقال ابن بطال: (وتفسير هذه الترجمة؛ يعني: وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب، فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام في الأمر بالانحراف عند الغائط؛ لأنَّهم إذا شرقوا أو غربوا؛ لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها)، قال: (وأمَّا ما قابل مشرق مكة من البلاد التي يكون الخط المار عليها من مشرقها إلى مغربها؛ فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث، ولا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا؛ لأنَّهم إذا شرقوا؛ استدبروا القبلة، وإذا غربوا؛ استقبلوا القبلة، وكذلك من كان موازيًا لمغرب مكة، إن غرب؛ استدبر القبلة، وإن شرق؛ استقبل القبلة، وإنما ينحرف إلى الجنوب أو الشمال، فهذا هو تغريبه وتشريقه)، قال: (وتقدير الترجمة: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق والمغرب ليس في التشريق ولا في التغريب؛ يعني: أنَّهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا مواجهين للقبلة ولا مستدبرين لها) انتهى.
قلت: وما ذكره إمام الشَّارحين من تقدير (قبلة) بلفظ (مستقبل) لا بد منه؛ لأنَّ التطابق في التذكير والتأنيث بين المبتدأ والخبر واجب، والمشرق بالتشريق، والمغرب بالتغريب؛ يعني: هذا بابٌ _بالتنوين_ مستقبل أهل المدينة وأهل الشام ليس في التشريق ولا في التغريب، وقد سقطت التاء من (ليس)، فلا تطابق بينه وبين (قبلة)، فلهذا أول بـ (مستقبل)؛ ليتطابقا تذكيرًا.
وقال القاضي عياض: (والمشرقُ)؛ بضم القاف: رواية الأكثرين عطفًا على (باب)؛ يعني: وباب حكم المشرق، ثم حذف من الثاني (باب) و (حكم)، وأقيم (المشرق) مقام الأول، وتبعه الزركشي قائلًا: (وهو الصواب)، واعترضه الدماميني، فزعم أن إثبات (قبلة لأهل المشرق) في الجملة لا إشكال فيه؛ لأنَّهم لا بد لهم أن يصلوا إلى الكعبة، فلهم قبلة يستقبلونها قطعًا، وإنما الإشكال لو جعل المشرق نفسه قبلة مع استدبار الكعبة، وليس في جر (المشرق) ما يقتضي أن يكون المشرق نفسه قبلة، وكيف يتوهم هذا، والمؤلف قد ألصق بهذا الكلام قوله: (ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة؟) انتهى.
قلت: وفيه نظر، فإن تقدير: باب حكم المشرق؛ له وجه وجيه؛ لأنَّ من كان مقابل مشرق مكة من البلاد التي يكون الخط المار عليها من مشرقها إلى مغربها؛ لا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا؛ لأنَّهم إذا شرقوا؛ استدبروا القبلة، وإن غربوا؛ استقبلوها ... إلى آخر ما قاله ابن بطال المتقدم.
وعلى هذا؛ يكون كلام المؤلف في هذه الترجمة مبنيًّا [2] على أحكام؛ أحدها: حكم قبلة أهل المدينة والشام، والثاني: حكم قبلة أهل المشرق والمغرب، والثالث: بيان أن ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة، فإنَّ عادة المؤلف أخذ أحكام من الأحاديث ووضعها ترجمة، فالحكم الثالث ليس على إطلاقه كما فهمه الدماميني؛ فافهم.
(لقول النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) فيما وصله النسائي، وكذا المؤلف في الباب وغيره عن أبي أيوب الأنصاري: أنه عليه السَّلام قال: (لا تستقبلوا القِبلة) بكسر القاف؛ أي: لا تطلبوا التوجه بوجوهكم إلى الكعبة (بغائط): الباء للسببية؛ أي: بسبب وجود الغائط؛ وهو اسم لما اطمأن من الأرض، والمراد به: قضاء الحاجة، (أو بول) زاد في رواية مسلم: «ولا تستدبروها ببول أو غائط»، والظاهر منه اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة وتعظيمها عن المواجهة بالنجاسة، وقيل: مثار النهي كشف العورة، وعليه فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة؛ كالوطء مثلًا، وقد نقله ابن شاش من المالكية قولًا في مذهبهم مستدلًّا برواية في «الموطأ»: «لا تستقبلوا القبلة بفروجكم»، ولا دليل فيه؛ لأنَّها محمولة على حالة قضاء الحاجة جمعًا بين الراويتين على أنه المراد من الحديث: هو تعظيم القبلة عن المواجهة بالنجاسة، فإذا وطئ أو استنجى مواجهًا للقبلة؛ لا يكره؛ لأنَّه في الأول لم يكن عليه نجاسة حقيقية، وفي الثاني
%ص 522%
قد أزال النجاسة، وكل منهما طاعة مطلوبة مرغوبة، فليس في استقبال القبلة في ذلك خلل في تعظيم القبلة؛ فليحفظ.
(ولكن شرقوا أو غربوا)؛ يعني: خذوا في ناحية المشرق أو ناحية المغرب، وفيه: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو لأهل المدينة والشام، ومن كانت قبلتهم على سمتهم، أمَّا من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنه ينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال، ثم إنَّ هذا الحديث يدل على عموم النهي في الصحراء والبنيان، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه، وبه قال أحمد في رواية، وهو قول إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، ومجاهد، وغيرهم؛ لأنَّ المقصود من النهي عدم تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحراء والبنيان، فإن الحائل كما أنه موجود في البنيان كذلك هو موجود في الصحراء؛ كالجبال والأودية، فإنه ليس لأحد أن يدعي نظره للقبلة إذا وقف في الصحراء؛ فليحفظ.
واحتج البخاري بعموم هذا الحديث، وسوَّى بين الصحارى والأبنية، وجعله دليلًا للترجمة التي وضعها أول الباب، واعترض عليه بأن في حديث أبي داود والمؤلف [ما] يدل على عكس ما أراده، وذلك لأنَّ أبا أيوب قال في حديثه: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، لكنا ننحرف عنها، ونستغفر الله)، ورده إمام الشَّارحين فقال: لا يرد على البخاري هذا أصلًا؛ لأنَّ المنع كان لأجل تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحراء والبنيان، ولهذا قال أبو أيوب: (لكنا ننحرف، ونستغفر الله عز وجل) انتهى.
وذهب عروة بن الزبير، وربيعة الرأي، وداود إلى جواز الاستقبال والاستدبار مطلقًا؛ لحديث جابر بن عبد الله عند أبي داود، والترمذي، وأبناء ماجه وخزيمة وحبان: (نهانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول، ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها)، ولا دليل في هذا الحديث لهم؛ لأنَّه يحتمل أنه رأى في الصحراء في مهب ريح بأن كانت الريح تهب على يمين القبلة أو شمالها، فإنَّهما لا يحرمان للضرورة، ويدل عليه حديث ابن عمر: (فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على لبنتين مستقبلًا بيت المقدس لحاجته)، وهذا يرد على من قال بالجواز مطلقًا.
وزعم المالكية والشافعية أنه لا يحرم الاستقبال في البنيان، ويحرم في الصحراء؛ لحديث ابن عمر المذكور، وردَّ: بأنه لا دليل فيه على ذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام جلس على لبنتين لأجل أن يرتفع بهما عن الأرض؛ بدليل كونه على ظهر بيت، وما كان كذلك يحتاج إلى شيء يرتفع عليه لقضاء الحاجة، على أنه يشترط عند الشافعية أن يكون الساتر نحو ذراع، واللبنتان لا يبلغان ذراعًا، فاستدلالهم غير صحيح، والصواب حديث الباب الدال على عموم عدم الجواز مطلقًا، وقد سبق هذا الحديث في (الوضوء)، ومر الكلام عليه مستوفًى؛ فليحفظ، وهو حجة على الشافعي، وزعم القسطلاني أنه يحمل حديث الباب على الصحراء.
قلت: وهذا الحمل غير صحيح، فإن الحديث صريح في عدم الجواز مطلقًا، فكيف يحمل على هذا، وما هذا إلا تناقض؛ فافهم، وقد سبق الكلام عليه مستوفًى في كتاب (الوضوء).
==========
[1] في الأصل: (لفظة)، والمثبت هو الصواب، كذا في الموضع اللاحق.
[2] في الأصل: (مبني)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (لفظة)، والمثبت هو الصواب، كذا في الموضع اللاحق.
[1] في الأصل: (لفظة)، والمثبت هو الصواب، كذا في الموضع اللاحق.
(1/666)
[حديث: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها]
394# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو المديني (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عيينة المكي (قال: حدثنا الزهري): هو محمد بن مسلم ابن شهاب، (عن عطاء بن يزيد): من الزيادة، زاد في رواية أبوي ذر والوقت: (الليثي)؛ بالمثلثة: هو الجندعي المدني التابعي، (عن أبي أيوب): هو خالد بن زيد بن كليب (الأنصاري) رضي الله عنه، كان من كبار الصحابة، شهد بدرًا، ونزل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حين قدم المدينة عليه رضي الله عنه، وتوفي غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل: سنة خمس وخمسين، ودفن بالقسطنطينية، وبنى عليه قبة السلطان محمد الفاتح العثماني، ومسجدًا [1] يزار ويتبرك به، وهو جدي وسيدي وسندي، وعقد واسطتي بيني وبين جدي النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو بيني وبين رب العزة جل جلاله، وتقدست أسماؤه وصفاته بالغفران والعفو والدخول في الجنان: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إذا أتيتم) أي: جئتم (الغائط): هو اسم للأرض المطمئنة، والمراد به: قضاء الحاجة؛ (فلا تستقبلوا القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: لا تطلبوا التوجه للكعبة عند قضاء الحاجة، (ولا تستدبروها)؛ تعظيمًا لها، واحترامًا لشأنها؛ لأنَّه تعالى خصها بالتوجه لها حال العبادة، وبالنظر إليها عبادة أيضًا، فلا يتوجه إليها حال نزول الأنجاس والأقذار، وظاهره اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة أو بكشف العورة، قدمنا أن في ذلك خلافًا مبنيًّا [2] على جواز الوطء والاستنجاء مستقبل القبلة مع كشف العورة، فمن علل بالأول؛ أباح، ومن علل بالثاني؛ منع، والصواب: الإباحة؛ فافهم.
(ولكن شرقوا أو غربوا)؛ أي: خذوا في ناحية المشرق أو ناحية المغرب، وفيه: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو مخصوص بأهل المدينة؛ لأنَّهم المخاطبون، ويلحق بهم من كانت قبلتهم على سمتهم ممن إذا استقبل المشرق والمغرب؛ لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها، أمَّا من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنه ينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال؛ فافهم.
(قال أبو أيوب) هو جدي الأنصاري: (فقدِمنا) بكسر الدال المهملة (الشام): هي تذكر وتؤنث، على وزن (فعال)، سميت شامًا؛ لشامات لها؛ يعني: اختلاف أرضها في الألوان، يقال: فلان في قومه شامة؛ إذا كان له مزية عليهم بالكرم، أو بالحلم، أو بالشجاعة، وكذلك الشام، فإن لها مزية زائدة على غيرها؛ لقوله تعالى: (الشام كنانتي من أراد لها بسوء؛ ضريته بسهم منها)، وقوله عليه السَّلام لعبد الله بن حوالة: «عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه، وإن الله تكفل لي بالشام وأهله»، قال الراوي أبو إدريس: ومن تكفل الله به؛ فلا ضيعة عليه، وقال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1]، قال المفسرون: {التِّينِ}: مسجد دمشق، وقال تعالى: {أَن بُورِكَ
%ص 523%
مَن فِي النَّارِ ... }؛ الآية [النحل: 8]، قال صاحب «الكشاف»: (هي أرض الشام، جعلها الله بالبركات موسومة، وبالفضائل موصوفة، وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]، وحقت أن تكون كذلك؛ لأنَّها مبعث الأنبياء عليهم السلام، ومهبط الوحي إليهم وكفايتهم أحياء وأمواتًا، وما من نبي إلا منها، أو هاجر إليها)، وقال علي الصديق الأصغر: (طوبى لمن له فيها مسكنًا)، وتمامه في «محاسن الشام».
وقال إمام الشَّارحين: (الشام: هو الإقليم المشهور، يذكر ويؤنث، ويقال مهموزًا ومسهلًا، وسميت بسام بن نوح عليه السَّلام؛ لأنَّه أول من نزلها، فجعلت السين شينًا معجمة؛ تفسيرًا للفظ الأعجمي، وقيل: سميت بذلك؛ لكثرة قراها، وتداني بعضها من بعض، فشبهت بالشامات) انتهى.
(فوجدنا مَراحِيض)؛ بفتح الميم، وكسر الحاء المهملة، والضاد المعجمة، جمع مِرحاض؛ بكسر الميم: وهو البيت (بُنيت)؛ بضم الموحدة أوله، واتخذت لأجل قضاء الحاجة للإنسان؛ أي: التغوط (قِبَل) بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: مقابل (القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: الكعبة، وكان أهل المدينة يتغوطون في البساتين رجالًا ونساءً، فلما بنيت في الشام المراحيض ورآها أبو أيوب رضي الله عنه حين هاجر إليها وبعد مسيره للمدينة؛ أخبر الصحابة بذلك، فاستحسنوها وبنوا مثلها، فهي بدعة حسنة، يدل عليه ما ذكره المؤلف في باب (خروج النساء إلى البراز)، عن عائشة قالت: (إن أزواج النبيِّ الأعظم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصيع _وهو صعيد أفيح_ فكان عمر يقول للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله عليه السَّلام يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبيِّ الأعظم عليه السَّلام ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: قد عرفناك يا سودة؛ حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب)، وإنما كن يخرجن لحاجتهن للضرورة من عدم وجود الأخلية في البيوت، فلما اتخذت الكنف فيها؛ منعهن النبيُّ الأعظم عليه السَّلام من الخروج إلا لضرورة شرعية.
وفي حديث ابن عمر في باب (التبرز في البيوت): (أنه عليه السَّلام كان يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام)، وفي رواية: (مستقبلًا بيت المقدس)، وكل هذه الأحاديث إنَّما وقعت باختلاف الأزمان والأحوال، وإنما المراد على عموم حديث أبي أيوب رضي الله عنه، فإنها لا تصلح أن تكون مخصصة له؛ لأنَّ أبا أيوب لم يلتفت إليها، ولم يحتج بها، بل اقتصر على حديثه؛ لكونه أرجح وأثبت؛ فليحفظ.
(فننحرف)؛ أي: عن جهة القبلة، من الانحراف، وفي رواية: (فنتحرَّف)، من التحرف؛ بتشديد الراء، (ونستغفر الله تعالى)؛ أي: من الاستقبال أو لمن بناها، فإن الاستغفار للمذنبين سنة، وإنما استغفرَ الله تعالى لنفسه لا للناس؛ حيث إنه حين أراد قضاء الحاجة ورأى هذه المراحيض قِبل القبلة وهي منهيٌّ عنها؛ لأنَّ أبا أيوب كان لم ير [3] حديث ابن عمر مخصصًا، وحمل ما رواه هو على العموم، فهذا الاستغفار كان لنفسه لا للناس.
فإن قلت: الغالط والساهي لم يفعل إثمًا، فلا حاجة فيه إلى الاستغفار.
قلت: أهل الورع والمناصب العالية في التقوى يفعلون مثل هذا؛ بناء على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التحفظ ابتداء، انتهى.
قلت: ويحتمل أن أبا أيوب قضى بعض حاجته قِبَل القِبلة ناسيًا، فلما تذكر؛ انحرف عنها، ثم استغفر الله تعالى، ولهذا قال أئمتنا الأعلام: وإذا جلس مستقبلًا ناسيًا فتذكر؛ يستحب له أن ينحرف بقدر ما يمكن؛ لما أخرجه الطبراني مرفوعًا: «من جلس يبول قبالة القبلة، فانحرف عنها إجلالًا لها؛ لم يقم من مجلسه حتى يغفر له»، ويكره إمساك الصبي نحو القبلة ببول، انتهى؛ فافهم.
وزعم القسطلاني أن أبا أيوب لم يبلغه حديث ابن عمر.
قلت: وهو غير صحيح، فإن مثل هذا الصحابي الجليل لا يقال فيه هكذا، وإنما أبو أيوب لم يره مخصصًا، بل جعله من اختلاف الوقائع والأزمان والأحوال، ولا منافاة، وقد يقال: إن ما رواه أبو أيوب ناسخ لما رواه ابن عمر وغيره؛ لأنَّه عام ليس بمخصوص ومتأخر عنه، ويدل عليه عموم قوله عليه السَّلام: «فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ... »؛ الحديث، فإنه عام وأرجح من حديث ابن عمر وأثبت، وعليه العمل في كثير من الأمصار، وهو الصواب.
(وعن الزهري) عطف على قوله: (حدثنا سفيان، عن الزهري)؛ يعني: بالإسناد المذكور أيضًا، (عن عطاء): هو ابن يزيد الليثي (قال: سمعت أبا أيوب) أي: الأنصاري رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم مثلَه)؛ بالنصب؛ أي: مثل الحديث السابق، وفائدة ذكره مكررًا: أن في الطريق الأول عنعن الزهري عن عطاء عن أبي أيوب، وفي هذا الطريق صرح عطاء بالسماع عن أبي أيوب، والسماع أقوى من العنعنة، وقال الكرماني: السماع أقوى من العنعنة، وهي أقوى من (أنَّ)، لكن فيه ضعف من جهة التعليق عن الزهري.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا هو الظاهر، ولكن الحديث بهذا الطريق مسند في «مسند إسحاق ابن راهويه»: عن سفيان ... إلى آخره) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (مسجد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (خلاف مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يرى)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (مسجد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (خلاف مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (مسجد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (خلاف مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/667)
(30) [باب قول الله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}]
هذا (باب قول الله تعالى) وفي رواية: (قوله تعالى)، وإنما بوب بهذه الآية الكريمة؛ لأنَّ فيها بيان القبلة، وهذا وجه المناسبة في ذكر هذا الباب بين هذه الأبواب المذكورة هنا المتعلقة بالقبلة وأحكامها: ({وَاتَّخِذُوا}) [البقرة: 125]؛ بكسر الخاء المعجمة، بلفظ الأمر على القراءة المشهورة، وهو على إرادة القول؛ يعني: وقلنا لهم اتخِذوا، وهذا الأمر هو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب، وقرأ نافع وابن عامر: {وَاتَّخَذُوا}؛ بفتح الخاء، بلفظ الماضي عطفًا على قوله تعالى: {وَإِذْ [1] جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا واتخَذوا}، كذا في «عمدة القاري» ({مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ}): هو خليل الرحمن، وأبو الأنبياء عليه وعليهم السلام.
واختلف المفسرون في المراد بالـ (مقام) ما هو؟ فروى ابن أبي حاتم عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما:
%ص 524%
أنه قال: {مقَامِ إِبْرَاهِيمَ}: الحرم كله، وروي مثله عن مجاهد وعطاء، وقال السدي: (المقام: هو الحجر الذي وضعت [2] زوجة إسماعيل قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه)، وحكاه الرازي في «تفسيره» عن الحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، وضعفه القرطبي، ورجح غيره، وهو ليس بشيء؛ لأنَّه قول الجمهور، وحكى ابن بطال عن ابن عباس أنه قال: (الحج كله مقام إبراهيم).
وروى عبد الرزاق عن معمر، عن ابن أبي نجيح عنه قال: (هو عرفة، وجمع، ومنى).
وقال عطاء: (مقام إبراهيم: عرفة، والمزدلفة، والجمار).
وروى ابن أبي حاتم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: سمع جابرًا يحدث عن حجة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (لما طاف النبيُّ الأعظم؛ قال له عمر بن الخطاب: هذا مقام أبينا إبراهيم عليه السَّلام؟ قال: «نعم»، قال: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّخِذُوا ... }؛ الآية).
وروى عثمان ابن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال: (قال عمر: قلت: يا رسول الله؛ هذا مقام خليل ربنا؟ قال: «نعم»، قال: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فنزلت).
وروى ابن مزدويه عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب: (أنه مر بمقام إبراهيم، فقال: يا رسول الله؛ أليس نقوم مقام خليل الله؟ قال: «بلى»، قال: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فلم نلبث إلا يسيرًا حتى نزلت)، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: ({مُصَلًّى}) [البقرة: 125]؛ أي: مدعى يدعى عنده، مأخوذ من صليت؛ بمعنى: دعوت، قاله مجاهد، وقال الحسن: قبلة، وقال السدي وقتادة: أمروا أن يصلوا عنده، وقال الإمام الزمخشري في «تفسيره»: (موضع صلاة يصلون فيه)، وتبعه البرماوي وغيره.
قال إمام الشَّارحين: (ولا شك أن من صلى إلى الكعبة من غير الجهات الثلاث التي لا تقابل مقام إبراهيم؛ فقد أدى فرضه، فالفرض إذًا البيت لا المقام، وقد صلى الشَّارع خارجها، وقال: «هذه القبلة»، ولم يستقبل المقام حين صلى داخلها، ثم استقبل المقام، فإن المقام إنَّما يكون قبلة إذا جعله المصلي بينه وبين القبلة) انتهى.
قلت: وهذا يرجح القول الأول، ويضعف غيره، ويدل عليه أنه جار على المعنى اللغوي؛ فتأمل.
==========
[1] {إذ} سقط من الأصل.
[2] في الأصل: (وضعته)، وليس بصحيح.
==================
[1] {إذ} سقط من الأصل.
[1] {إذ} سقط من الأصل.
(1/668)
[حديث: قدم النبي فطاف بالبيت سبعًا وصلى خلف المقام]
395# 396# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا الحُمَيْدي)؛ بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وسكون التحتية: هو عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي أبو بكر المكي، ونسبته إلى بطن من قريش، يقال له: حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عيينة المكي (قال: حدثنا عَمْرو) بفتح العين المهملة، وسكون الميم (بن دينار) هو المكي (قال: سألنا ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما (عن رجل)؛ يعني: عمن فعل هذا، وليس المراد رجل معين، بل جعله مثلًا لأجل تعلم الحكم فيه (طاف بالبيت) أي: الكعبة (للعمرة)؛ باللام كذا هو رواية الأكثرين؛ أي: لأجل العمرة، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (طاف بالبيت العمرةَ)؛ بحذف اللام، وبالنصب، ولا بد من تقدير اللام؛ لأنَّ المعنى لا يصح بدونه؛ فافهم، أفاده إمام الشَّارحين.
قلت: ورواية النصب على حذف مضاف؛ أي: طواف العمرة، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
(ولم يطف) أي: لم يسع (بين الصفا والمروة): فأطلق الطواف على السعي؛ إما لأنَّ السعي نوع من الطواف، وإما للمشاكلة، ولوقوعه في مصاحبة طواف بالبيت، قاله إمام الشَّارحين، ويجوز في (الصفا والمروة) الصرف وعدمه، فإن أريد المكان؛ انصرف، وإن أريد به العلمية والتأنيث؛ منع؛ لأنَّ (الصفا): اسم امرأة، و (المروة) كذلك، قيل: إنه جلس عليهما امرأة مسماة بهذا الاسم، وقيل: إنَّهما امرأتان مسختا ووضعتا في ذلك المكان؛ لأنَّهما علمان على جبلين بمكة؛ فافهم.
(أيأتي امرأته): الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستفسار؛ أي: أيجوز له الجماع؛ يعني: أحصل له التحلل من الإحرام قبل السعي بين الصفا والمروة أم لا؟ (فقال)؛ أي: عبد الله بن عمر في الجواب عن ذلك: (قدِم) بكسر الدال المهملة (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: مكة إلى الحرم، (فطاف بالبيت)؛ أي: حول الكعبة (سبعًا) أي: سبعة أشواط، (وصلَّى خلف المقام) أي: وراء مقام إبراهيم عليه السَّلام (ركعتين)؛ بالتثنية، وهذا موضع مطابقة الحديث للترجمة، كما لا يخفى، قيل: كان إبراهيم يبني الكعبة، وإسماعيل يناوله الحجارة، فلما ارتفع البناء وضعف عن رفع الحجارة إليه؛ قام على حجر، فهو مقام إبراهيم، قاله ابن عباس رضي الله عنه، (وطاف بين الصفا والمروة)؛ بالصرف وعدمه؛ يعني: سعى، فأطلق الطواف وأراد السعي سبع أشواط، فأجاب ابن عمر بالإشارة إلى وجوب اتباع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، لا سيما في أمر المناسك؛ لقوله عليه السَّلام: «خذوا عني مناسككم»، والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لم يتحلل قبل السعي، فيجب التأسِّي به، وهو معنى قوله: (وقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة): والأُسوة؛ بضم الهمزة وكسرها؛ أي: قدوة.
قال عمرو بن دينار: (وسألنا جابر بن عبد الله)؛ أي: الأنصاري عن هذا الحكم، قال إمام الشَّارحين: (ولا يدخل هذا الحديث في مسند جابر؛ لأنَّه لم يرفعه، وإنما هو من مسند ابن عمر؛ فافهم) انتهى.
(فقال) أي: جابر في الجواب عن ذلك: (لا يقربنَّها) جملة فعلية مضارعة مؤكدة بالنون الثقيلة، وهذا جواب جابر بن عبد الله بصريح النهي عنه (حتى يطوف)؛ أي: إلى أن يطوف؛ يعني: يسعى (بين الصفا والمروة) وإنما خص إتيان المرأة بالذكر وإن كان الحكم سواء في جميع المحرمات؛ لأنَّ إتيان المرأة من أعظم المحرمات.
وفي الحديث: أن السعي في العمرة واجب، وهو مذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عياض عن ابن عباس: أنه أجاز التحلل بعد الطواف وإن لم يسع، وهو ضعيف ومخالف للسنة.
وفيه: أن الطواف لا بد فيه من سبعة أشواط.
وفيه: الصلاة ركعتين خلف المقام، فقيل: إنها سنة، وقيل: واجبة، وقيل: تابعة للطواف، فإن كان الطواف سنة؛ فالصلاة سنة، وإن كان واجبًا؛ فالصلاة واجبة، كذا قرره إمام الشَّارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الكريم الباري، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله.
%ص 525%
==================
(1/669)
[حديث: أصلى النبي في الكعبة]
397# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُسدد)؛ بضم الميم: هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا يحيى): هو ابن سعيد القطان البصري، (عن سَيْف)؛ بفتح السين المهملة، وسكون التحتية، آخره فاء، زاد ابن عساكر في روايته: (يعني: ابن أبي سليمان)، كما في «الفرع»، ويقال: ابن سليمان المخزومي المكي، ثبت صدوق، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة (قال: سمعت مجاهدًا): هو الإمام المفسر المشهور (قال): جملة فعلية محلها النصب، إما على الحال، وإما على أنها مفعول ثان [1] لـ (سمعت) على قولين مشهورين: (أُتِي) بضم الهمزة على صيغة المجهول (ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما، (فقيل له): قال إمام الشَّارحين: (لم يعلم اسم هذا القائل): (هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخل الكعبة)؛ أي: لأجل الصلاة فيها، (فقال ابن عمر: فأقبلت)؛ أي: حين قال لي هذا القائل: رسول الله دخل الكعبة؛ بادرت لأرى ما يفعل فيها؟ فأقبلت (والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قد خرج)؛ أي: من الكعبة، وكأنه وقع مهلة طويلة بين الكلامين، فلم يدرك ابن عمر النبيَّ الأعظم داخل الكعبة، (وأَجدُ)؛ بفتح الهمزة على صيغة المتكلم وحده، من المضارع، وكان المناسب أن يقول: ووجدت، بعد قوله: (فأقبلت)، لكنه عدل عن الماضي إلى المضارع حكاية عن الحال الماضية، واستحقارًا لتلك الصورة، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني: حتى كأن المخاطب يشاهد هذه الصورة.
(بلالًا): هو المؤذن الصحابي الجليل، وهو منصوب؛ لأنَّه مفعول (أجد)، وقوله: (قائمًا) منصوب؛ لأنَّه حال من (بلال) (بين البابين)؛ أي: مصراعي الباب؛ لأنَّ الكعبة لم يكن لها حينئذٍ إلا باب واحد، وأطلق ذلك باعتبار ما كان من البابين لها زمن إبراهيم الخليل عليه السَّلام، أو أنه كان في زمان رواية الراوي لها بابان؛ لأنَّ ابن الزبير رضي الله عنه جعل لها بابين، قاله الكرماني، وارتضاه الشَّارح.
وزعم ابن حجر (بين البابين)؛ أي: المصراعين، وحمله الكرماني على حقيقة التثنية، وقال: أراد بالباب الثاني: الباب الذي لم تفتحه قريش حين بنت الكعبة، وهذا يلزم منه أن يكون ابن عمر وجد بلالًا في وسط الكعبة، وفيه بعد.
قلت: فلقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر حتى زعم هذا الكلام، ولهذا ردَّه إمام الشَّارحين، فقال: الكرماني فسر قوله: (بين البابين) بثلاثة أوجه، فأخذ هذا القائل الوجه الأول من تفسيره، ولم يعزه إليه، ثم نسبه لنفسه، ونسب إليه ما لم تشهد به عبارته؛ لأنَّ عبارة الكرماني ما ذكرناه.
وقوله: (وهذا يلزم منه ... ) إلى آخره: ممنوع، فإن هذه الملازمة ممنوعة؛ لأنَّ عبارة الكرماني لا تقتضي ذلك.
وقوله: (وفيه بُعد): ممنوع، وليس فيه بُعد، بل البُعد في الذي اختاره من التفسير، وهو ظاهر لا يخفى، وفي رواية الحموي: (وأجد بلالًا قائمًا بين الناس)؛ بالنون والسين بدل (البابين) انتهى كلامه.
قلت: وكلام ابن حجر ليس بشيء؛ لأنَّ الملازمة المذكورة ممنوعة كما يعلم من عبارته، وليس فيه بُعد؛ لأنَّه ما المانع من أن يكون وجد بلالًا داخل الكعبة واقفًا بين مصراعي الباب؟ ولا مانع منه، بل هو ظاهر كلام ابن عمر؛ فافهم.
(فسألت بلالًا)؛ أي: المؤذن (فقلت) أي: لبلال: (أصلَّى)؛ بهمزة الاستفهام، ولأبي ذر والأصيلي: (صلى)؛ بإسقاطها (النبيُّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم في الكعبة؟)؛ يعني: داخل البيت؛ لأنَّ كلمة (في) للظرفية، (قال) أي: بلال: (نعم؛ ركعتين)؛ أي: نعم؛ صلى ركعتين (بين الساريتين)؛ بالسين المهملة، تنثية سارية؛ وهي الأُسطوانة، وجامع هذه الأوراق منسوب إلى بلدة أسطوان؛ لأنَّ أصله منها، وسمي جدي بالأسطواني؛ لأنَّه كان كالسارية في العلم، وإنما هو أنصاري من ذرية أبي أيوب الأنصاري، وحسيني من ذرية الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، كما بينت ذلك في كتاب سميته: «إنجاء الغريق المخزون»؛ فارجع إليه، فإنه نفيس جدًّا، والله أعلم.
(اللتين على يساره) الضمير فيه يرجع إلى الداخل بقرينة قوله: (إذا دخلت) ولأبي ذر عن الكشميهني: (يسارك)؛ بالكاف، وهذا هو المناسب، أو كان يقول: إذا دخل، ووجه الأول أن يكون من الالتفات، أو يكون الضمير فيه عائدًا إلى البيت، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(ثم خرج)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من البيت (فصلى) أيضًا (في وجه الكعبة)؛ أي: مواجه باب الكعبة؛ وهو مقام إبراهيم عليه السَّلام، أو يكون المعنى: في جهة الكعبة، فيكون أعم من جهة الباب (ركعتين) مقول قوله: (صلى)، ومطابقته للترجمة في قوله: (فصلى في وجه الكعبة)؛ أي: مواجه باب الكعبة؛ وهو مقام إبراهيم عليه السَّلام، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (وفي الحديث: جواز الدخول في البيت)، وفي «المغني»: ويستحب لمن حج أن يدخل البيت، ويصلي فيه ركعتين، كما فعل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يدخل البيت بنعليه، ولا خفيه، ولا يدخل الحجر أيضًا؛ لأنَّ الحجر من البيت.
وفيه: استحباب الصلاة بركعتين في البيت؛ فإن بلالًا أخبر في هذا الحديث: أنه عليه السَّلام صلى فيه ركعتين، وزعم النووي أن أهل الحديث أجمعوا على الأخذ به، وأنه بلال؛ لأنَّه مثبت ومعه زيادة علم؛ فوجب ترجيحه، وأمَّا نفي من نفى كأسامة؛ فسببه أنَّهم لما دخلوا البيت، وأغلقوا الباب، واشتغلوا بالدعاء؛ فرأى أسامة النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو، فاشتغل هو أيضًا بالدعاء في ناحية من نواحي البيت، والرسول عليه السَّلام في ناحية أخرى، وبلال قريب منه،
%ص 526%
ثم صلى عليه السَّلام، فرآه بلال؛ لقربه، ولم يره أسامة؛ لبعده مع خفة الصلاة، وإغلاق الباب، واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملًا بظنه، وقال بعض العلماء: يحتمل أنه عليه السَّلام دخل البيت مرتين، فمرة صلى فيه، ومرة دعا ولم يصل، فلم تتضاد الأخبار، وأيده إمام الشَّارحين بما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم البيت فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين، ثم قال: «هذه القبلة»، ثم دخل مرة أخرى، فقام فيه يدعو، ثم خرج ولم يصل) انتهى.
قلت: فهذه الرواية تدل على تعدد دخول البيت، كما لا يخفى.
قال الشَّارح: فإن قلت: روى الطبراني من حديث ابن عباس قال: ما أحب أن أصلي في الكعبة، من صلى فيها؛ فقد ترك شيئًا خلفه، ولكن حدثني أخي: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين دخلها؛ تأخر بين العمودين ساجدًا، ثم قعد فدعا ولم يصل؟
قلت: هذان نفي وإثبات في روايتين، فرواية الإثبات مقدمة على النفي، كما ذكرنا، وكيف وقد صرح بلال في هذا الحديث المذكور بقوله: (نعم ركعتين).
فإن قلت: قال الإسماعيلي: المشهور عن ابن عمر من طريق نافع وغيره عنه أنه قال: (ونسيت أن أسأله كم صلى؟)، فدل على أنه أخبره بالكيفية، وهي تعين الموقف في الكعبة، ولم يخبره بالكمية، ونسي هو أن يسأله عنها.
قلت: أجيب: بأن المراد من قوله: (صلى): الصلاة المعهودة، وأقلها ركعتان؛ لأنَّه لم ينقل عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه تنفل في النهار بأقل من ركعتين، فكانت الركعتان متحققًا وقوعهما، وأصرح من هذا ما رواه عمر بن شبة [2] في كتاب «مكة» من طريق عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر في هذا الحديث: (فاستقبلني بلال، فقلت: ما صنع رسول الله عليه السَّلام ههنا؟ فأشار بيده أن صلى ركعتين بالسبابة والوسطى)، فعلى هذا؛ يحمل قوله: (نسيت أن أسأله كم صلى؟) على أنه لم يسأله باللفظ، ولم يجبه، وإنما استبعد [3] منه صلاته الركعتين بالإشارة لا بالنطق، وقد قيل: يجمع بين الحديثين بأن ابن عمر نسي أن يسأل بلالًا، ثم لقيه مرة أخرى فسأله.
وزعم ابن حجر أن فيه نظرًا [4] من وجهين؛ أحدهما: أن القصة لم تتعدد؛ لأنَّه أتى في السؤال بالفاء المعقبة في الروايتين معًا، فقال في هذه: (فأقبلت)، ثم قال: (فسألت بلالًا)، وقال في الأخرى: (فبدرت فسألت بلالًا)، فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدًا في وقت واحد، وثانيهما: أن راوي قول ابن عمر: (ونسيت): هو نافع مولاه، ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمر على حكاية النسيان، ولا يتعرض لحكاية الذكر أصلًا.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: في نظره نظر من وجوه:
الأول: أن قوله: (إن القصة لم تتعدد): دعوى بلا برهان، فما المانع من تعددها؟
والثاني: أنه علل على ذلك بالفاء؛ لكونها للتعقيب، ولقائل أن يقول له: فلم لا يجوز أن تكون الفاء ههنا بمعنى «ثم»؛ كما في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً}، وفي {فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ}، وفي {فَكَسَوْنَا} [المؤمنون: 14] بمعنى (ثم)؛ لتراخي معطوفاتها، وتارة تكون بمعنى (الواو)؛ كما في قوله:
~ ... بين الدخول فحومل
ولئن سلمنا أنها للتعقيب؛ فهو في كل شيء بحسبه، ألا ترى أنه يقال: تزوج فلان فولد له؛ إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل وإن كانت مدة متطاولة، ودخلت البصرة فبغداد؛ إذا لم يقم في البصرة، ولا بين البلدين.
والثالث: أن قوله: (ويبعد مع طول ملازمته ... ) إلى آخره: غير بعيد، فإن الإنسان مأخوذ من النسيان، انتهى.
قلت: ولقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر حتى زعم هذا الكلام، وهو ليس بشيء، فإن قوله: (إن القصة لم تتعدد): دعوى نفي، وهي غير مقبولة، ودعوى التعدد إثبات، وهو مقدم على النفي عند المحققين، ويدل للإثبات _أي: إثبات تعدد القصة_ ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس الذي قدمناه قريبًا، فإنه صريح في تعدد القصة، وكذلك ما رواه الطبراني، وكأنَّ ابن حجر لم يفهم معناه، فقال ما قال، وما زعمه من قوله: (فدل على أن السؤال كان واحدًا في وقت واحد): ممنوع؛ لأنَّ الفاء ليست للتعقيب عند المحققين، بل هي ههنا بمعنى (ثم) التي للتراخي؛ لأنَّ قوله: (فأقبلت والنبيُّ عليه السَّلام قد خرج) يدل على أنه وقع مهلة ومدة طويلة بين الكلامين، فلم يدرك ابن عمر النبيَّ عليه السَّلام داخل الكعبة، وما ذاك إلا من وجود التراخي؛ فليحفظ.
فدل ذلك على أن السؤال كان متعددًا، والوقت متعدد؛ فافهم.
وقوله: (وثانيهما ... ) إلى آخره: ممنوع أيضًا، وغير بعيد؛ لأنَّ الإنسان محل للنسيان، وما سمي الإنسان به إلا لأنَّه عهد إليه فنسي، وهو ليس بمعصوم من النسيان؛ لأنَّ العصمة لا تكون إلا للأنبياء عليهم السلام عند المحققين، خلافًا لفرقة ضالة زعمت أنها تكون لغير الأنبياء، وهو باطل، فلله در إمامنا الشَّارح؛ حيث لم يرض بهذا الكلام؛ لأنَّه يمجه كل من له أدنى ذوق في العلم، والله أعلم.
وقال القاضي عياض: إن قوله: (ركعتين): غلط من يحيى بن سعيد القطان؛ لأنَّ ابن عمر قال: (قد نسيت أن أسأله كم صلى؟)، وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (لم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتى يغلط، فقد تابعه أبو نعيم عند البخاري والنسائي، وأبو عاصم عند ابن خزيمة، وعمر بن علي عند الإسماعيلي، وعبد الله بن نمير عند أحمد عنه؛ كلهم عن سيف، ولم ينفرد به سيف أيضًا، فقد تابعه عليه حصيف عن مجاهد عند أحمد، ولم ينفرد به مجاهد عن ابن عمر، فقد تابعه عليه ابن أبي مليكة عند أحمد والنسائي، وعمرو بن دينار عند أحمد أيضًا باختصار من حديث عثمان بن طلحة عند أحمد
%ص 527%
والطبراني بإسناد قوي، ومن حديث أبي هريرة عند البزار، ومن حديث عبد الرحمن بن صفوان قال: (فلما خرج؛ سألت من كان معه، فقالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى) أخرجه الطبراني بإسناد صحيح، ومن حديث شيبة بن عثمان قال: (لقد صلى ركعتين عند العمودين) أخرجه الطبراني بإسناد جيد، فإذا كان الأمر كذلك؛ فكيف يُقْدِم عياض على تغليط حافظ جهبذ من غير تأمل في بابه، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ولا حجة في هذا الحديث لمن يقول: الأولى في نفل النهار ركعتان؛ لأنَّ هذه الصلاة قد وردت على سبب وهو دخول البيت المعظم؛ لأنَّ عادة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الصلاة في نفل النهار والليل المطلق أربعًا أربعًا [5]، يدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما حين بات عند خالته يرقب صلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفيه: (كان يصلي أربعًا، لا تسأل عن حسنهن وطولهن)، ولهذا قال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: الأفصل في نفل النهار والليل الأربع؛ لهذا الحديث، وهو حجة على الشافعي في قوله: الأفضل في النوافل مثنى مثنى في الليل والنهار، وهو قول مالك، وأحمد، والإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ فافهم.
وزعم ابن جرير الطبري أنَّ الصلاة في الكعبة فرضًا كانت أو نفلًا غير صحيحة، وهذا الحديث حجة قوية، ومحجة مستقيمة عليه؛ حيث صلى في الكعبة النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وصلاته كانت ذات ركوع وسجود، كما دل عليه صريح هذا الحديث، ولهذا قال الإمام الأعظم وأصحابه: يجوز صلاة الفرض والنفل في الكعبة، وبه قال الشافعي، وزعم أصحاب مالك من صلى على ظهر البيت؛ أعاد أبدًا، وقال مالك: لا يُصلَّى فيه الفريضة ولا ركعتا الطواف الواجب، فإن صلى؛ أعاد في الوقت، ويجوز أن يصلي فيه النافلة، والحديث بإطلاقه حجة عليه؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (شبيه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (استعبد)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (أربع أريع)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (شبيه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (استعبد)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (شبيه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (استعبد)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
(1/670)
[حديث: لما دخل النبي البيت دعا في نواحيه كلها]
398# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق ابن نصر): نسبه لجده هنا، وفي غير هذا المحل نسبه لأبيه؛ تفنُّنًا للعلم به، فهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر أبو إبراهيم السغدي المدني، هكذا وقع منسوبًا في الروايات كلها، وبه جزم الإسماعيلي، وأبو نعيم، وأبو مسعود، وغيرهم، وذكر أبو العباس في «الأطراف»: أن المؤلف أخرجه عن إسحاق غير منسوب، وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في «مستخرجيهما» من طريق إسحاق ابن راهويه، عن عبد الرزاق شيخ إسحاق ابن نصر فيه، بإسناده هذا، فجعله من رواية ابن عباس عن أسامة بن زيد، وكذلك رواه مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج، وهو الأرجح.
قلت: وهذا يدل على أنَّ هذا الحديث من مراسيل ابن عباس، وأيضًا لم يثبت أن ابن عباس دخل الكعبة مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(قال: حدثنا عبد الرزاق): هو ابن همَّام _بالتشديد_ الصنعاني (قال: أخبرنا): وللأصيلي وأبي الوقت: (حدثنا) (ابن جريج): نسبه لجده؛ لشهرته به، واسمه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الكوفي، (عن عطاء)؛ بالمد: هو ابن أبي رَباح المكي (قال: سمعت ابن عباس): هو عبد الله حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن، وأخرجه مسلم، وفيه قصة، ورواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أسامة، ولم يذكر ابن عباس (قال): جملة فعلية محلها نصب على الحال، أو على أنها مفعول ثان لـ (سمعت) على قولين مشهورين: (لما دخل النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم البيت) أي: الكعبة المشرفة؛ (دعا) الله تعالى (في نواحيه كلها): جمع ناحية؛ وهي الجهة، (ولم يصل) أي: في البيت (حتى) أي: إلى أن (خرج منه) ورواية بلال المثبت صلاته في البيت أرجح من نفي ابن عباس هذا، لا سيما أن ابن عباس لم يدخل، وعلى هذا؛ فيكون مرسلًا؛ لأنَّه أسنده عن غيره ممن دخل مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الكعبة، فهو مرسل صحابي، (فلما خرج) عليه السَّلام من البيت؛ (ركع) يعني: صلى (ركعتين): فأطلق الجزء وأراد به الكل (في قُبُل الكعبة)؛ بضم القاف والباء الموحدة، وقد تسكن الموحدة؛ أي: مقابلها، وما استقبلك منها؛ وهو وجهها (وقال) عليه السَّلام: (هذه)؛ أي: الكعبة هي (القِبْلة)؛ بكسر القاف، وسكون الموحدة؛ معناه: أن أمر القِبلة قد استقر على استقبال هذا البيت، فلا ينسخ بعد اليوم، فصلوا إليه أبدًا، قاله الخطابي، ويحتمل أن معناه: أنه علمهم سنة موقف الإمام، فإنه يقف في وجهها دون أركانها وجوانبها الثلاثة وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزئة، ويحتمل أنه دل بهذا القول على أن حكم من شاهد البيت وعاينه خلاف حكم الغائب عنه فيما يلزمه من مواجهته عيانًا دون الاقتصار على الاجتهاد، وذلك فائدة ما قال: «هذه القِبلة» وإن كانوا قد عرفوها قديمًا، وأحاطوا بها علمًا، قاله إمام الشَّارحين، ويحتمل أن معناه: هذه الكعبة هي المسجد الحرام أمرتم باستقباله لا كل الحرم، ولا مكة، ولا المسجد الذي هو حول الكعبة، بل هي الكعبة نفسها فقط، قاله النووي.
قلت: وكلامه مضطرب الأول والآخر، وكان حقه أن يقول: معناه: هذه القِبلة هي الكعبة نفسها لا غيرها؛ كالحرم ومكة والمسجد الذي حول الكعبة، بل الكعبة نفسها الذي استقر الأمر على استقبالها؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: روى البزار من حديث عبد الله بن حبشي [1] الخثعمي قال: رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي إلى باب الكعبة، وهو يقول: «أيها الناس؛ إنَّ الباب قبلة البيت».
قلت: هذا محمول على الندب؛ لقيام الإجماع على جواز استقبال البيت من جميع جهاته كما أشرنا إليه، ووجه التوفيق بين هذه الرواية والتي قبلها قد سبق مستوفًى، والله أعلم) انتهى.
قلت: وقد تقدم ذلك أول الباب،
%ص 528%
ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (في قبل الكعبة)؛ والمراد: مقابل الكعبة؛ وهو مقام إبراهيم عليه السَّلام، والله تعالى أعلم.
==================
(1/671)
(31) [باب التوجه نحو القبلة حيث كان]
هذا (باب) بيان حكم (التوجه نحو)؛ أي: إلى جهة (القِبْلة)؛ أي: الكعبة (حيث كان)؛ أي: حيث كان المصلي؛ أي: حيث وجد في سفر أو حضر، و (كان): تامة؛ فلذلك اقتصر على اسمها، والمراد به: في صلاة الفرض؛ لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، والمناسبة بين البابين ظاهرة، (وقال أبو هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه: (قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: استقبِلِ القِبْلة)؛ بكسر اللام، وكسر القاف، وسكون الموحدة؛ أي: توجه إليها حيث كنت، (وكبِّر)؛ بكسر الموحدة فيها على الأمر، (وكبِّر)؛ بالواو، وفي رواية الأربعة: (فكبِّر)؛ بالفاء، وللأصيلي: (قام النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم استقبَل، فكبَّر)؛ بالماضي [1]، وفتح الموحدة فيهما، وهذا التعليق طرف من حديث المسيء صلاته رواه المؤلف في (الاستئذان)، ولفظه هناك: (ثم استقبل القبلة، فكبر)، وتمامه هناك؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (بالميم)، والمثب موافق لما في هامش «اليونينية» من رواية الأصيلي.
%ص 529%
==================
(1/672)
[حديث: كان رسول الله صلى نحو بيت المقدس ستة عشر]
399# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن رجَاء)؛ بالمد مع تخفيف الجيم: هو البصري الغُداني؛ بضم الغين المعجمة (قال: حدثنا) وللأربعة: (حدثني)؛ بالإفراد (إسرائيل): هو ابن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، (عن) جده (أبي إسحاق): هو عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي الهمداني التابعي، لا يقال: إنه مدلس؛ لأنَّا نقول: إن المؤلف ساقه في (التفسير) من طريق الثوري بلفظ: (عن أبي إسحاق: سمعت البراء) (عن البَراء)؛ بفتح الموحدة، والراء المخففة (بن عازب): هو أبو عمرو أو أبو عامر الأنصاري الأوسي، المتوفى بالكوفة سنة اثنتين وسبعين، الصحابي الجليل رضي الله عنه، وسقط: (ابن عازب) للأصيلي، (قال: كان رسول الله): وللأصيلي: (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): إفادة (كان) الدوام والاستمرار (صلَّى نحو) أي: جهة (بيت المَقْدس)؛ بفتح الميم، وسكون القاف، مصدر ميمي؛ كالمرجع، وذلك بالمدينة المنورة (ستة عشر شهرًا): من الهجرة على الأصح، كذا زعمه النووي، (أو سبعة عشر شهرًا): هو الصحيح، وهو قول أبي إسحاق، وابن المسيب، ومالك بن أنس، والشك من البراء، وكذا وقع الشك عند المؤلف في رواية زهير وأبي نعيم، ورواه أبو عوانة في «صحيحه» من رواية أبي نعيم، فقال: (ستة عشر شهرًا) من غير شك، وكذا في رواية مسلم من رواية الأحوص، والنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة، ووقع في رواية أحمد والطبراني عن ابن عباس: (سبعة عشر شهرًا)، كذا قاله الشَّارح، ثم قال: والجمع بينهما أن من جزم بـ (ستة عشر)؛ أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بـ (سبعة عشر شهرًا)؛ عدهما معًا، ومن شك؛ تردد فيهما، وذلك أن قدومه عليه السَّلام المدينة كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف رجب في السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقال ابن حبان: (سبعة عشر شهرًا، وثلاثة أيام)، وهو مبني على أنَّ القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول، وقال ابن حبيب: (كان التحويل في نصف شعبان)، وهو الذي نقله النووي وأقره، ورجح في «شرح مسلم» رواية: (ستة عشر شهرًا)؛ لكونها مجزومًا بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان، إلا إن ألغي شهرا القدوم والتحويل؛ فافهم.
وجاءت فيه روايات أخرى، ففي «سنن أبي داود» و «ابن ماجه»: (ثمانية عشر شهرًا)، وزعم الطبري (ثلاثة عشر شهرًا)، وفي رواية: (سنتين)، وأغرب منهما: (تسعة أشهر، وعشرة أشهر)، وهما شاذتان، انتهى.
وزعم الطبري أن صلاته عليه السَّلام كذلك كانت بأمر الله تعالى له، انتهى.
قلت: ويحتمل أنها كانت عن اجتهاد منه عليه السَّلام، وفي حديث الطبري من طريق ابن جريج قال: (أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة)، وفي حديث ابن عباس عند أحمد من وجه آخر: (أنه عليه السَّلام كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه).
قلت: ويجمع بينهما بحمل صلاته في المدينة على الاستمرار باستقبال بيت المقدس، كذا قيل، وفيه نظر، وقد صرح في حديث الطبري بطريق الجمع بين حديث الباب وحديث ابن عباس؛ فافهم.
(وكان رسول الله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحب أن يُوجَه)؛ بضم أوله، وفتح الجيم، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يؤمر بالتوجه (إلى الكعبة) وفي حديث ابن عباس عند الطبري: (وكان يدعو وينظر إلى السماء).
قلت: روي: أنه عليه السَّلام قال لجبريل: «وددت لو أن الله يصرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها»، فقال: إنَّما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربك، فادع ربك وسله، ثم ارتفع جبريل، وجعل عليه السَّلام يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي يسأل ربه، (فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ})؛ أي: تردد وجهك في جهة السماء؛ تطلُّعًا للوحي، وقيل: معناه: تحول وجهك إلى السماء، فيكون قوله: {فِي السَّمَاءِ} متعلقًا بقوله: {تَقَلُّبَ}؛ بتقدير: في النظر إلى السماء، وكان الظاهر أن يقول: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، إلا أن تقلب الوجه لمَّا كان أبلغ في انتظار الوحي؛ كان ما عليه النظم أبلغ، وكلمة (قد): للتكثير؛ ومعناها: كثرة الرؤية؛ لأجل طلب مقصوده، قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 144]: اصرفه شطر المسجد الحرام؛ أي: نحوه، والمراد به: الكعبة، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة؛ لأنَّه عليه السَّلام كان في المدينة، والبعيد عنها يكفيه مراعاة الجهة، (فتوجه) عليه السَّلام بعد نزول الآية (نحو الكعبة)؛ أي: جهتها، وإنما كان يحب أن يوجه إليها؛ لأنَّها قبلة أبيه إبراهيم، وأسبق القبلتين بالنسبة إلى أهل الإسلام، ولأنها أدعى للعرب إلى الإيمان؛ لأنَّها كانت مفخرةً لهم، وأمنًا، ومزارًا، ومطافًا، ولأجل مخالفة اليهود؛ لأنَّهم كانوا يقولون: إنه يخالفنا في ديننا، ثم يتبع قبلتنا، ولولا نحن؛ لم يدر أين يستقبل؟ فعند ذلك كره عليه السَّلام أن يوجه إلى قبلتهم، فحقق الله تعالى رجاءه صلَّى الله عليه وسلَّم.
(وقال السفهاء من الناس) ونزول آية: {قَدْ نَرَى} متقدمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 142]، ذكره القرطبي (وهم اليهود): هذا تفسير من البراء بن عازب، ومثله روي عن ابن عباس رضي الله عنهم، وقال الحسن: (هم مشركو العرب)، وقال السدي: (هم المنافقون)، ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ لأنَّ كل واحد منهم من هؤلاء الفرق سفهاء طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فالظاهر إبقاء اللفظ على عمومه، وقد وصف الله تعالى هؤلاء الفرق بالسفاهة في قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ
%ص 529%
عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]؛ أي: أذلها بالجهل والإعراض عن النظر، فإنه لا شك أن كل فرقة منهم راغبون عن ملة إبراهيم، فيكونون سفهاء، فكأنه قال: هؤلاء الراغبون عن ملة إبراهيم قالوا عند إيجاب التوجه إلى الكعبة: ({مَا وَلاَّهُمْ})؛ أي: ما حولهم وصرفهم ({عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا})؛ أي: التي كانوا على التوجه إليها، وهي بيت المقدس، وكلمة (ما) في {مَا وَلاَّهُمْ}: استفهامية مرفوعة المحل على الابتداء، و {وَلاَّهُمْ}: خبره، والجملة في موضع النصب بالقول، يقال: تولى عن ذلك؛ أي: انصرف، وولاه غيره؛ أي: صرفه، والقِبْلة: فعلة، وقد اشتهر أن الفِعلة: للمرة، والفَعلة: للحال؛ كالجِلسة والقَعدة، نقله في عرف الشرع إلى الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة، وسميت قِبْلة؛ لأنَّ المصلي يقابلها وهي تقابله؛ فافهم.
وإنما قال اليهود ذلك؛ بناءً على أنَّهم لا يرون نسخ الشرائع والأحكام، لما زعموا أن نسخها بمعنى البداء، والرجوع عنها بداء، وذلك محال في حق الله تعالى؛ لعلمه بعواقب الأمور، والبداء والرجوع في الشاهد مبني على الجهل بالعواقب؛ كمن بنى بناء، ثم نقضه بما يبدوويظهر له أنه مخطئ وغالط في الفَرض الذي بنى بناءه عليه، واليهود إنَّما قالوا ذلك _وذهبوا إلى امتناع أن ينسخ الله حكمًا مما شرعه أولًا_؛ لجهلهم بتفسير النسخ وحده، ولو عرفوه؛ لما نفوه، فإن النسخ عبارة عن انتهاء الحكم إلى وقت معين؛ لانتهاء المصلحة التي شرع الحكم لها، وبيان حكم جديد لمصلحة أخرى في وقت آخر مع بقاء الحكم الأول مشروعًا، ومصلحة وقت كونه مشروعًا وليس فيه ما فهمته اليهود، وأمَّا المشركون والمنافقون؛ فإنما قالوا ذلك من حيث إنهم أعداء الدين، والأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالًا؛ لم يتركوا مقالًا، فمنهم من يقول: ما بالهم كانوا على قبلة، ثم تركوها مع أن الجهات لمَّا كانت متساوية في جميع الصفات؛ كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى مجرد عبث، فلا يكون ذلك من فعل الحكيم؟ وقال المنافقون: اشتاق الرجل إلى بلد أبيه ومولده؛ فلذلك توجه إليه، وقال آخرون: تحير في دينه؛ حيث لم يثبت على دين، وقال ابن عباس: لمَّا حولت القبلة؛ جاءت جماعة من اليهود، وقالوا: يا محمد؛ ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها؟ فكن على بيت المقدس؛ نتبعك ونصدقك، وأرادوا بذلك فتنة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فسماهم الله تعالى: سفهاء؛ لأنَّهم كانوا نوافل إبراهيم والكعبة بناؤه، وقبلة إسماعيل، ومع ذلك رغبوا عنها قبل، كان موسى عليه السَّلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، فهي قبلة الأنبياء كلهم عليهم السلام.
({قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ})؛ يعني: أن الأمكنة كلها والنواحي بأسرها لله تعالى ملكًا وتصريفًا، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة حتى يمتنع إقامة غيره مقامه، وشيء من الجهات إنَّما يصير قبلة لمجرد أن الله تعالى أمر بالتوجه إليه، فله أن يأمر كل وقت بالتوجه إلى جهة من تلك الجهات على حسب الألوهية ونفوذ قدرته ومشيئته {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، ولعل الوجه في التعبير عن جميع النواحي والأطراف بالمشرق والمغرب أن الشمس بحسب اختلاف حركاتها، وتبدل مطالعها ومغاربها متناولة لأكثر النواحي والجهات، فأقيم الأكثر مقام الكل، كذا قيل، فاتبع اليهود هوى أنفسهم، واستقبلوا المغرب، واتخذوها قبلة، وزعموا أن موسى عليه السَّلام كان في المغرب حينما أكرمه الله تعالى بوحيه وكلامه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص: 44]، واتبع النصارى هوى أنفسهم أيضًا، واستقبلوا المشرق، واتخذوا جهته قبلة، وزعموا أن مريم حين خرجت من بلدها؛ مالت إلى الشرق، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16]، والمؤمنون استقبلوا الكعبة؛ طاعة لله تعالى وامتثالًا لأمره، لا ترجيحًا لبعض الجهات المتساوية على بعض بمجرد رأيهم واجتهادهم مع أنها قبلة خليل الله تعالى ورسوله، ومولد حبيبه عليه السَّلام.
({يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}) [البقرة: 142]: وهو توجه العباد إلى الجهة التي أمر الله بالتوجه إليها، ووجه استقامته كونه مشتملًا على الحكمة والمصلحة موافقًا لما هداهم الله إليه بأن أمرهم بذلك، وأوجبه عليهم؛ فافهم.
(فصلى)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة العصر؛ لقول البراء بن عازب في باب (الصلاة من الإيمان): (وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر ... )؛ الحديث، وصلى (مع النبيِّ) الأعظم) (صلَّى الله عليه وسلَّم رجل) اسمه عباد بن نَهِيك _بفتح النون، وكسر الهاء_ قاله أبو عمرو، أو عباد بن بشر بن قيظي، قاله ابن بشكوال، وفي رواية باب (الصلاة من الإيمان): (وصلى معه قوم) (ثم خرج) أي: الرجل (بعدما صلى) وكلمة (ما) إما مصدرية أو موصولة؛ أي: بعد صلاته أو بعد الذي صلى؛ أي: انصرف من صلاته، واستقبال القبلة، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (فصلى مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رجال)؛ بالجمع.
قال الكرماني: (فصلى): هذه الرواية يرجع الضمير في قوله: (ثم خرج) إلى ما دل عليه (رجال)، وهو مفرد، أو معناه: ثم خرج خارج.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (بل معناه على هذه الرواية: ثم خرج خارج منهم، فيكون الفاعل محذوفًا) انتهى.
(فمر) أي: ذلك الرجل في طريقه (على قوم من الأنصار): من بني حارثة، وهم أهل مسجد يعرف الآن بمسجد القبلتين (في صلاة العصر) وكأنه عليه السَّلام صلى العصر في أول وقتها، وهؤلاء القوم صلوا العصر في آخر وقتها المستحب، فلا منافاة؛ فافهم.
(نحو) أي: جهة (بيت المَقْدس): مصدر ميمي؛ كالمَرْجع، وفي رواية الكشميهني: (في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس)، وفي الرواية السابقة:
%ص 530%
(وهم راكعون)؛ يعني: حقيقة، أو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، (فقال) أي: الرجل: (هو يشهد): أراد به نفسه، ولكن عبر عنها بلفظ الغيبة على سبيل التجريد، باب جرد من نفسه شخصًا، أو على طريقة الالتفات، أو نقل الراوي كلامه بالمعنى، ويؤيده الرواية في باب (الإيمان) بلفظ: (أشهد) (أنَّه صلى) أي: العصر (مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: بالمدينة، (وأنَّه) عليه السَّلام (توجه) في صلاته (نحو) جهة (الكعبة) وللأربعة: (وأنَّه نحو الكعبة)، (فتحرف القوم): الذين صلُّوا العصر نحو بيت المقدس (حتى) أي: إلى أن (توجهوا) [1]؛ أي: في استدارتهم (نحو) أي: جهة (الكعبة) وهم في صلاتهم، فأتموها لجهة الكعبة.
ففيه: المطابقة للترجمة حيث توجه نحو الكعبة التي استقرت قبلة أبدًا في أي حالة كان المصلي صلاة الفرض.
وفيه: جواز التحري والاجتهاد في أمر القبلة، فلو تحرى لجهة وشرع في الصلاة، ثم تبدل اجتهاده وهو في الصلاة لجهة أخرى؛ استدار وأتم صلاته، ولو صلى الظهر مثلًا كل ركعة إلى جهة بالتحري؛ جازت صلاته، كما لا يخفى.
وفيه: بيان شرف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وكرامته على ربه؛ حيث أعطاه ما أحب واختار.
وفي الحديث: أنه عليه السَّلام صلى العصر، ويدل عليه الرواية في الباب السابق، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر؛ أي: متوجهًا للكعبة، وعند ابن سعد في «الطبقات»: (أنه عليه السَّلام صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه، ودار معه المسلمون)، وعند ابن سعد: (أنه عليه السَّلام زار أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعامًا، وحانت الظهر، فصلى عليه السَّلام لأصحابه ركعتين، ثم أمر، فاستدار إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمي: مسجد القبلتين).
قلت: والظاهر من هذا أنه عليه السَّلام وقع له ذلك مرات متعددة، ويحتمل أنه عليه السَّلام صلى الظهر في آخر وقتها، أو قدم صلاة العصر على وقتها المستحب، فالراوي رآه يصلي صلاة الظهر قرب العصر، فظن أنها العصر، فعبر بما رآه، أو رآه يصلي في أول وقت العصر مقدمها على وقتها المستحب، فظن أنها العصر، فعبر عنها، ويحتمل أنه عليه السَّلام صلى في بيت أم بشر ناسيًا، فأمر بالاستقبال، وقول ابن سعد عن الواقدي: (صلاة الظهر أثبت عندنا)؛ ليس بشيء بعد تصريح الإمام البخاري في باب (الصلاة) عن البراء: (أنه عليه السَّلام صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر)؛ أي: متوجهًا إلى الكعبة، ولا شك أن ذلك أثبت؛ لأنَّ صاحب الدار أدرى؛ فليحفظ.
وجاء في رواية ابن عمر في «البخاري»، و «مسلم»، و «النسائي»: (أنه عليه السَّلام صلى الصبح)، قال إمام الشَّارحين: (والتوفيق بينها وبين رواية الباب أن هذا الخبر وصل إلى قوم كانوا يصلون في نفس المدينة صلاة العصر، ثم وصل إلى أهل قباء في صبح اليوم الثاني؛ لأنَّهم كانوا خارجين عن المدينة؛ لأنَّ قباء من جملة سوادها، وفي حكم رساتيقها) انتهى.
وفيه: جواز نسخ الأحكام عند الجمهور إلا طائفة لا يقولون به، ولا يعبأ بهم؛ لموافقتهم لليهود، واختلف في صلاته عليه السَّلام إلى بيت المقدس وهو بالمدينة كمكة؛ فقال جماعة: لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، ثم لما قدم المدينة؛ استقبل بيت المقدس، ثم نسخ، وزعم البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]؛ أي: الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، فإنه كان يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر؛ أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفًا لليهود، وقال قوم: كان لبيت المقدس، وفي حديث عند ابن ماجه: (صلينا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرًا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين)، وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس، وكذلك في المدينة، فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، وعلى الثاني المنسوخ؛ والمعنى: أنَّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على نسخ السنة بالقرآن عند الإمام الأعظم والجمهور، وهو حجة على الشافعي؛ حيث منعه.
وفيه: دليل على قبول خبر الواحد.
وفيه: وجوب الصلاة إلى القبلة، وتقرر الإجماع على أنها الكعبة.
وفيه: جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين أو جهات، كما قدمنا.
وفيه: أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه، وفي هذا الباب أبحاث تقدمت [2] في باب (الصلاة من الإيمان)، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (توجوا)، وليس بصحيح.
(1/673)
[حديث: كان رسول الله يصلي على راحلته حيث توجهت]
400# وبالسند إليه قال: (حدثنا مسلم) زاد الأصيلي: (ابن إبراهيم): هو أبو عمرو البصري الأزدي الفراهيدي القصاب (قال: حدثنا هشام) زاد الأصيلي: (ابن أبي عبد الله): هو سندر الربعي الدستوائي البصري (قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير)؛ بالمثلثة: هو صالح بن المتوكل الطائي مولاهم العطار، (عن محمد بن عبد الرحمن): هو ابن ثوبان المدني العامري، قال إمام الشَّارحين: (وليس له في «الصحيح» عن جابر غير هذا الحديث، وفي طبقته محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، ولم يخرج له البخاري عن جابر شيئًا) انتهى.
(عن جابر) زاد الأصيلي: (ابن عبد الله): هو الأنصاري رضي الله تعالى عنه (قال: كان النبيُّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) وإفادة (كان) الدوام والاستمرار (يصلي): صلاة النافلة، والجملة فعلية محلها نصب خبر (كان) (على راحلته): الراحلة: الناقة التي تصلح لأن تركب، وكذلك الرحول، ويقال الراحلة: المركب من الإبل ذكرًا كان أو أنثى، كذا في «عمدة القاري» (حيث توجهت به)؛ أي: الراحلة؛ يعني: توجه صاحب الراحلة؛ لأنَّها تابعة لقصد توجهه بنفسها من غير أن يسوقها أو يديرها، فإن ساقها أو حولها؛ بطلت صلاته، وظاهر الحديث بل صريحه أنه عليه السَّلام كان يتركها حيثما سارت؛ لتوجهها أول الصلاة إلى المكان المقصود له، فلا يحتاج إلى تحويلها إن دارت، وسيأتي بيانه؛ فافهم.
وفي حديث ابن عمر عند مسلم، وأبي داود، والنسائي قال: (رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر)، وفي حديث جابر عند الترمذي وأبي داود قال: (بعثني النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في حاجة، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، السجود أخفض من الركوع)، قال الترمذي: (حسن صحيح)، كذا في «عمدة القاري».
(فإذا أراد) عليه السَّلام أن يصلي (الفريضة)؛ أي: صلاة الفرض العملي والعلمي؛ (نزل)؛ أي: عن راحلته إلى الأرض (فاستقبل القِبلة)؛ أي: توجه إلى الكعبة، وصلى الفرض والوتر، وهذا يدل على عدم ترك استقبال القِبلة في الفريضة، وهو إجماع، ولكن رخص في شدة الخوف.
%ص 531%
قال في «خلاصة الفتاوى»: (أمَّا صلاة الفرض على الدابة بالعذر؛ فجائزة، ومن الأعذار المطر، إذا كان في السفر، فأمطرت السماء، فلم يجد مكانًا يابسًا ينزل للصلاة؛ فإنه يقف على الدابة مستقبل القبلة، ويصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة، فإن لم يمكنه؛ يصلي مستدبر القبلة، وهذا إذا كان الطين بحال يغيب وجهه فيه، فإن لم يكن بهذه المثابة لكن الأرض ندية؛ صلى هنالك)، ثم قال: (وهذا إذا كانت الدابة تسير بنفسها، أمَّا إذا سيرها صاحبها؛ فلا يجوز صلاته مطلقًا فرضًا أو نفلًا، ومن الأعذار كون الدابة جموحًا لو نزل؛ لا يمكنه الركوب، ومنها اللص والمرض، وكونه شيخًا كبيرًا لا يجد من يركبه، ومنها الخوف من سَبُع) انتهى.
وصرح صاحب «المحيط»: (بأنَّ الصلاة على الدابة في هذه الأعذار جائزة، ولا يلزمه الإعادة بعد زوال العذر، وهذا كله إذا كان خارج المصر) انتهى.
قلت: أمَّا عدم لزوم الإعادة؛ للقاعدة الأصولية: (أن الساقط لا يعود)، فمتى صحت صلاته بوجه؛ لا يجب عليه إعادتها، وأمَّا كونه خارج المصر؛ لأنَّه لو كان في المصر؛ لا تصح صلاته هذه؛ لأنَّ المصر ليس فيه شيء من هذه الأعذار؛ كما لا يخفى، ومثل صلاة الفرض صلاة الوتر الواجب، والمنذور، والعيدين، وما شرع فيه نفلًا فأفسده، وصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة التي تلاها على الأرض، كما صرح به في «إمداد الفتاح»، وفيه: (والصلاة في المحمل، وهو على الدابة كالصلاة على الدابة، سواء كانت سائرة أو واقفة، ولو أوقفها وجعل تحت المحمل خشبة ونحوها حتى بقي قرار المحمل على الأرض؛ كان المحمل بمنزلة الأرض، فتصح الفريضة فيه قائمًا) انتهى.
وأمَّا التنفل على الدابة؛ فلا يجوز إلا إذا كان خارج المصر، وهو المكان الذي يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة، وقيل: قدر فرسخين، وقيل: قدر ميل، والأول هو الأصح، وهذا قول الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن الزبير، وأبي ذر، وأنس، وابن عمر، وبه قال طاووس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك، والليث، فلا يشترط أن يكون السفر طويلًا، بل لكل من كان خارج المصر؛ فله الصلاة على الدابة، واشترط مالك مسافة القصر، وهو إحدى قولي الشافعي.
وقال ابن بطال: (واستحب ابن حنبل وأبو ثور: أن يفتتحها متوجهًا إلى القبلة، ثم لا يبالي حيث توجهت، وزعمت الشافعية أن المنفرد في الركوب على الدابة إذا كانت سهلة يلزمه أن يدير رأسها عند الإحرام إلى القبلة على الأصح، وقيل: لا يلزمه كما لا يلزمه في القطار والدابة الضعيفة) انتهى.
قلت: وظاهر حديث الباب بل صريحه يرد هذا؛ لأنَّه عليه السَّلام كان يصلي على راحلته حيث توجهت، ولأن في التزامه النزول والتوجه انقطاعًا عن النافلة أو القافلة، فيكون حرجًا، فالحديث حجة على من اشترط التوجه واستحبه؛ فليحفظ.
وأمَّا التنفل في المصر على الدابة؛ فمنعه الإمام الأعظم، والإمام محمد بن الحسن، والإصطخري من الشافعية، وجوزه الإمام قاضي القضاة أبو يوسف، وهو رواية عن الإمام محمد بن الحسن.
دليل المنع: أنَّ هذه الأحاديث الدالة على جواز التنفل على الدابة وردت في السفر؛ ففي رواية جابر بن عبد الله: كانت في غزوة أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع، وفي رواية: (أرسلني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره)، وفي رواية ابن عمر: (بطريق مكة)، وفي رواية: (متوجه إلى المدينة)، وفي رواية: (متوجه إلى خيبر).
والحاصل: أنها كانت مرات كلها في السفر.
ودليل الجواز: ما رواه أبو يوسف قال: حدثني فلان _وسماه_ عن سالم عن ابن عمر: (أنه عليه السَّلام ركب الحمار في المدينة يعود سعد بن عبادة، وكان يصلي وهو راكب).
وقال ابن بطال: (وروى أنس بن مالك: أنه عليه السَّلام صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماءً) انتهى.
قلت: وأجاب المانع عن الأول: بأنَّه شاذ، وهو فيما يعم به البلوى لا يكون حجة، وعن الثاني: بأن المراد من أزقة المدينة: الأزقة الخارجة عن المدينة؛ يعني: في أزقة البساتين في المدينة، والله تعالى أعلم.
==================
(1/674)
[حديث: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به]
401# وبالسند إليه قال: (حدثنا عثمان): هو ابن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة بن عثمان بن خواستى العبسي الكوفي (قال: حدثنا جرير): هو ابن عبد الحميد بن قرط العبسي الكوفي، (عن منصور): هو ابن المعتمر بن عبد الله الكوفي، (عن إبراهيم): هو ابن يزيد النخعي الكوفي، (عن علقمة): هو ابن قيس النخعي الكوفي (قال: قال عبد الله): هو ابن مسعود، أحد العبادلة الأربعة، وكان قصيرًا نحيفًا، وكان الريح يأخذه حين يمشي، فتنظر إليه الصحابة بحضرة الرسول عليه السَّلام، فحين يراهم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ يقول: «لساق عبد الله في الميزان أثقل من أُحُد» رضي الله عنه، وفي رواية أبي ذر: (عن عبد الله قال:) (صلى النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): هذه الصلاة، قيل: العصر، وقيل: الظهر؛ يدل للأول: ما رواه الطبراني، من حديث طلحة بن مصرف، عن إبراهيم به: أنها العصر، فنقص في الرابعة، ولم يجلس حتى صلى الخامسة، ويدل للثاني: ما رواه من حديث شعبة عن حماد عن إبراهيم: أنها الظهر، وأنَّه صلاها خمسًا؛ كذا في «عمدة القاري».
(قال إبراهيم) هو النخعي المذكور: (لا أدري زاد)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في صلاته، ولابن عساكر: (أزاد)؛ بهمزة الاستفهام (أو نقص) فيها؟ وهذا مدرج، وفي رواية أبي داود: (فلا أدري)؛ أي: فلا أعلم هل زاد النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في صلاته أو نقص فيها؟، والمقصود: أنَّ إبراهيم شك في سبب سجود السهو المذكور، وهل كان لأجل الزيادة أو النقصان؟ وهو مشتق من النقص المتعدي لا من النقصان اللازم، والصحيح كما قال الحميدي: أنه (زاد)، قاله إمام الشَّارحين.
(فلمَّا سلَّم)؛ بتشديد اللام؛ أي: من صلاته ساهيًا؛ (قيل) لم يعلم اسم القائل (له: يا رسول الله؛ أَحَدَث)؛ الهمزة فيه للاستفهام؛ ومعناه: السؤال عن حدوث شيء من الوحي يوجب تغيير حكم الصلاة بالزيادة على ما كانت معهودة أو بالنقصان عنه، قاله الشَّارح.
قلت: وحاء (أَحَدَث)
%ص 532%
مهملة مفتوحة، وكذلك الدال مهملة مفتوحة؛ أي: أوقع (في الصلاة شيء)؛ أي: من الوحي مما يوجب التغيير بزيادة أو نقصان؟ وأمَّا (حدُث) _بضم الدال_؛ فلا يستعمل في شيء من الكلام إلا في قولهم: أخذني ما قدُم وما حدُث؛ للازدواج.
(قال) عليه السَّلام للسائل: (وما ذاك؟): سؤال من لم يشعر بما وقع منه، ولا يتبين عنده، ولا غلبة ظن، وهو خلاف ما عندهم؛ حيث (قالوا) أي: الصحابة: (صليت كذا وكذا)؛ بالتكرار؛ كناية عما وقع إمَّا زائدًا على المعهود أو ناقصًا عنه، وهذا يدل على أنَّ سلامه من الصلاة كان سهوًا، وهو غير مفسد للصلاة؛ ولهذا قال: (فثنَى)؛ بتخفيف النون، مشتق من الثني؛ يعني: عطف عليه السَّلام (رجليه)؛ بالتثنية رواية الكشميهني والأصيلي، وفي رواية غيرهما: (رجله)؛ بالإفراد، والمقصود منه: فجلس كما هو هيئة القعود للتشهُّد، وليس المراد: أنه تحول عن جهة القبلة، بل ظاهره بل صريحه أنَّه بسط رجليه من غير تحويل عنها، وسمع كلامهم، ويحتمل أنه التفت بعنقه إليهم، ويحتمل أنه لم يلتفت، فالسلام للقطع لا يفسد الصلاة إذا كان ساهيًا، فيعود لسجود [1] السهو، فيسجده ما لم يتحول عن القبلة أو يتكلم؛ لأنَّهما مبطلان للتحريمة، وقيل: لا يقطع بالتحويل ما لم يتكلم أو يخرج من المسجد، كذا في «الدرر» عن «النهاية»؛ فافهم.
(واستقبل القبلة)؛ أي: برجليه؛ لأنَّه قد بسطهما، وليس المراد: أنه كان متحولًا عن القبلة، بل المراد: أنه استقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة؛ لأنَّه كان باسطًا لهما؛ فافهم.
(وسجد سجدتين)؛ بالتثنية؛ أي: للسهو، ففيه دليل على أنَّ سجود السهو سجدتان، وهو قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وعامة الفقهاء، وحكي عن الأوزاعي وابن أبي ليلى: أنه يلزمه لكل سهو سجدتان؛ لحديث في ذلك، وقال الحفاظ: إنه ضعيف لا يحتج به؛ فافهم.
(ثم سلَّم)؛ بتشديد اللام؛ أي: من صلاته، وهذا دليل قوي للإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم حيث ذهبوا إلى أن سجدتي السهو بعد السلام؛ لأنَّه عليه السَّلام سلَّم، ثم سجد، ثم سلَّم، وهو قول الصديق الأصغر علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، وهو قول سفيان الثوري، والحسن البصري، وابن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.
وهذا الحديث حجة على الشافعي، وأحمد، ومالك؛ حيث ذهبوا إلى أن السجود للسهو قبل السلام، وفي «المغني» [2] الحنبلي: السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الموضعين [3] اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام؛ وهما إذا سلَّم من نقص في صلاته، أو تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه، وما عداهما يسجد له قبل السلام، وقال مالك وأبو ثور: إن كان السهو لنقص؛ فقبل السلام، وإن كان لزيادة؛ فبعد السلام.
قلت: وكل هذا ليس فيه دليل من الحديث، وإنما هو قياس، ولا يعمل بالقياس عند وجود النص، فحديث الباب حجة لنا وعلى من خالفنا؛ فافهم، فمذهبنا هو الصواب، فلو سجد المنفرد للسهو قبل السلام؛ جاز، ولكنه مكروه، هذه رواية الأصول، وفي رواية غيرها: لا يجوز؛ لأنَّه قد أداه قبل وقته، وقيل: إن الخلاف في الأولوية، فلو اقتدى حنفي بمخالف في السنن، فسجد الإمام للسهو قبل السلام؛ قيل: يتابعه، وقيل: لا يتابعه، وعليه الإعادة بعد السلام، كذا في «التجنيس».
قلت: والظاهر الثاني؛ تحقيقًا للمخالفة؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على أن سجود السهو يتداخل ولا يتعدد بتعدد أسبابه، وهو مذهب الجمهور من الفقهاء؛ لأنَّه عليه السَّلام تكلم بعد أن سها واكتفى فيه بسجدتين، وقال بعض العلماء: يتعدد السجود بتعدد السهو، وظاهر الحديث يرده، وهو دليل الجمهور؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على أن سجود السهو في آخر الصلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يفعله إلا آخرها، وحكمته: أنه أخر؛ لاحتمال سهو آخر، فيكون جابرًا للكل، وفرع عليه الفقهاء: أنه لو سجد، ثم تبين أنه لم يكن في آخر الصلاة؛ لزمه إعادتها في آخرها، وفيه صورتان:
إحداهما [4]: أن يسجد للسهو في الجمعة، ثم يخرج الوقت وهو في السجود الآخر، فيلزمه إتمامه ظهرًا، ويعيد السجود.
والثانية: أن يكون مسافرًا، فيسجد للسهو، ويصل به إلى الوطن، أو ينوي الإقامة، فيتم، ثم يعيد السجود، كذا في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني أنَّ قوله: (وسجد سجدتين) دليل على أنه لم ينقص شيئًا من الركعات، ولا من السجدات، وإلا لتداركها، فكيف صح أن يقول إبراهيم: (لا أدري؟) بل يعين أنه زاد، فإن النقصان لا يجبر بالسجدتين، بل لا بد من الإتيان بالمتروك؟
والجواب: أنَّ كل نقص لا يستلزم الإتيان به، بل كثيرًا منه ينجبر بمجرد السجدتين، ولفظ: (نقص) لا يوجب النقص في الركعة ونحوها، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: قد ذكرنا فيما مضى عن الحميدي أنه قال: (بل زاد)، وكانت زيادته أنه صلى الظهر خمسًا، كما ذكره الطبراني، فحينئذٍ كان سجوده لتأخير السلام، ولزيادته من جنس الصلاة.
وقوله: (فإن النقصان ... ) إلخ: غير مسلم؛ لأنَّ النقصان إذا كان في الواجبات، أو في تأخيرها عن محلها، أو في تأخير ركن من الأركان؛ ينجبر بالسجدتين.
وقوله: (بل لا بد ... ) إلخ: إنَّما يجب إذا كان المتروك ركنًا، وأمَّا إذا كان من الواجبات، أو من السنن التي في قوة الواجب؛ فلا يلزمه الإتيان بمثله، وإنما ينجبر بالسجدتين) انتهى.
(فلما أقبل علينا بوجهه)؛ يعني: فلما فرغ من صلاته، واستقبال القبلة؛ انحرف، وتوجه إلى أصحابه بوجهه الشريف عليه السَّلام (قال: إنَّه) أي: الشأن (لو حدث في الصلاة شيء)؛ أي: من الوحي مما يوجب التغيير بزيادة أو نقصان؛ (لنبأتكم) أي: لأخبرتكم (به)؛ أي: بالشيء الحادث أو بالحدوث الذي دل عليه قوله: (لو حدث)؛ كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 9]، ونبأتكم من باب (نبَّأ) _بتشديد الباء الموحدة_: وهو ما ينصب ثلاثة مفاعيل، وكذلك (أنبأ) من باب (أفعل)، والثلاثي
%ص 533%
نبأ، والمصدر: النبأ؛ ومعناه: الخبر، تقول: نبأ وأنبأ ونبأ؛ أي: أخبر، ومنه أخذ: النبيء؛ لأنَّه أنبأ عن الله تعالى؛ أي: أخبر، واللام فيه لام الجواب، وتفيد التأكيد أيضًا.
فإن قلت: أين المفاعيل الثلاثة هنا؟
قلت: الأول: ضمير المخاطبين، والثاني: الجار والمجرور؛ أعني: لفظة (به)، والثالث: محذوف، أفاده إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أنَّ اللام بعد (لو) لام جواب قسم مقدر.
قلت: وهو ليس بشيء؛ لتصريح النحاة بأنها لام الجواب، وتفيد التأكيد؛ فافهم.
قال الشَّارح: (وفيه دلالة على أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة؛ لقوله عليه السَّلام: «لو حدث في الصلاة شيء؛ لنبأتكم به»)؛ فافهم.
(ولكن إنَّما أنا بشر مثلكم): لا نزاع أنَّ كلمة (إنما) للحصر، لكن تارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة حصرًا مخصوصًا، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق، ومعنى الحصر في الحديث: أنه بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن المخاطبين لا بالنسبة إلى كل شيء، فإنَّ للرسول عليه السَّلام أوصافًا أخر، قاله إمام الشَّارحين.
(أنسى كما تنسون)؛ والنسيان في اللغة: خلاف الذِّكر والحفظ، وفي الاصطلاح: النسيان: غفلة القلب عن الشيء، ويجيء النسيان بمعنى: الترك؛ كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وقوله: {وَلاَ [5] تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، انتهى.
وأَنسى _بهمزة مفتوحة، وسين مهملة مخففة_ قال الزركشي: (ومن قيده بضم أوله وتشديد ثالثه؛ لم يناسب التشبيه) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن ضم الأول هو المناسب؛ لحديث: «لا تقل: نسيت، وإنما قل: أُنسيت»؛ بضم الهمزة؛ لأنَّ النسيان منسوب إلى الشيطان، قال تعالى: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]، وهنا غير مذكور، فتعين ضم الهمزة، وكونه لا يناسب التشبيه بعيد؛ لأنَّ (تنسون) مأخوذ من لفظ (أنسيت الأمر)؛ والمعنى: أنسى كما ينسى أحدكم، لكن بين اللفظين تغاير من حيث إنه أتى به بصيغة المتكلم وحده مع جمع المخاطبين؛ فافهم.
(فإذا نسيت) في الصلاة؛ (فذكروني)؛ أي: في الصلاة بالتسبيح ونحوه، ففيه جواز النسيان في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام، واتفقوا على أنَّهم لا يقرون عليه، بل يعلمهم الله تعالى به، وقال الأكثرون: (شرطه تنبيهه عليه السَّلام على الفور متصلًا بالحادثة)، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته.
والفرق بين النسيان والسهو: أن النسيان: غفلة القلب عن الشيء، والسهو: غفلة الشيء عن القلب، وعن هذا قال قوم: كان عليه السَّلام يسهو ولا ينسى، فلذلك نفى عن نفسه النسيان في حديث ذي اليدين بقوله: «لم أنسَ»؛ لأنَّ فيه غفلة، ولم يفعل.
وقال القشيري: (الفرق بينهما بعيد، كما في استعمال اللغة، وكأنه يلوح من اللفظ على أن النسيان: عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو: عدم الذكر لا لأجل الإعراض).
وقال القرطبي: (لا نسلم الفرق، ولئن سلمنا؛ فقد أضاف عليه السَّلام النسيان إلى نفسه في غير ما موضع بقوله: «أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني»).
وقال القاضي عياض: (إنما أنكر عليه السَّلام «نسيت» المضاف إليه، وهو قد نهى عن هذا بقوله: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا، ولكنه نسي»، وقد قال أيضًا: «لا أنسى» على النفي، «ولكن لأُنسَّى»، وقد شك بعض الرواة في روايته، فقال: «أنسى أو أُنسَّى»، وأنَّ «أو» للشك أو للتقسيم، وأنَّ هذا يكون منه مرة من قبل شغله، ومرة يغلب ويجبر عليه، فلما سأله السائل بذلك في حديث ذي اليدين؛ أنكره، وقال: «كل ذلك لم يكن»، وفي الرواية الأخرى: «لم أنس ولم تقصر»، أمَّا القصر؛ فبيِّنٌ، وكذلك «لم أنس» حقيقة من قبل نفسي، ولكن الله أنساني)، وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (وفي الحديث: جواز وقوع السهو من الأنبياء عليهم السلام في الأفعال).
وقال ابن دقيق العيد: (وهو قول عامة العلماء، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز السهو على الأنبياء عليهم السلام، وهذا الحديث يرد عليهم)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هم منعوا السهو عليه في الأفعال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك: بأن السهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه؛ لم تحصل منه مفسدة، بل يحصل فيه فائدة، وهو بيان أحكام الناسي، وتقرير الأحكام، وإليه مال أبو إسحاق الإسفرائيني).
وقال القاضي عياض: (واختلفوا في جواز السهو عليه صلَّى الله عليه وسلَّم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ، وبيان أحكام الشرع من أفعاله، وعاداته، وأذكار قلبه؛ فجوزه الجمهور، وأمَّا السهو في الأقوال البلاغية؛ فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على تعمده امتناع تعمده، وأمَّا السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة، وما يتعلق بها، ولا يضاف إلى وحي؛ فجوزه قوم؛ إذ لا مفسدة فيه).
قال القاضي: (والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من منع ذلك على الأنبياء في كل خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدًا ولا سهوًا [6]، لا في صحة ولا في مرض، ولا في رضًى ولا في غضب، وأمَّا جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا؛ فغير ممتنع) انتهى، والله أعلم.
(وإذا شك أحدكم في صلاته)؛ الشك في اللغة: خلاف اليقين، وفي الاصطلاح: الشك ما يستوي فيه طرفا العلم والجهل، وهو الوقوف بين الشيئين بحيث لا يميل إلى أحدهما، فإذا قوي أحدهما وترجح على الآخر ولم يأخذ بما رجح ولم يطرح الآخر؛ فهو الظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر؛ فهو أكبر الظن وغالب الرأي، فيكون الظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان، انتهى.
(فليتحرى [7] الصواب): التحرِّي: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول، وفي رواية مسلم: (فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب)، وفي رواية: (فليتحرَّى الذي يرى أنه صواب)، ويعلم من هذا أن التحرِّي: طلب أحد الأمرين وأولاهما بالصواب، قاله في «عمدة القاري».
(فليتم) بانيًا (عليه)؛ أي: على ما هو الصواب، ولولا تضمين الإتمام معنى البناء؛ لما جاز استعماله بكلمة الاستعلاء، وقصد الصواب في البناء على غالب الظن عند الإمام
%ص 534%
الأعظم، وأصحابه، والجمهور؛ لأنَّه بمنزلة اليقين، وهو صريح الحديث، وزعم الشافعية أنه الأخذ باليقين.
قلت: وهو مردود؛ لأنَّه لم يعلم اليقين حتى يأخذ به، ولهذا قال عليه السَّلام: «فليتحرَّى الصواب»، وهو الأخذ بغالب الظن، ولو كان مراده اليقين؛ لقال: فليأخذ باليقين، ولما قال: «فليتحرَّى الصواب»، والتحري: الاجتهاد في طلب أحد الأمرين؛ علم منه أن المراد بالتحري غلبة الظن؛ فليحفظ.
(ثم يسلم)؛ أي: للخروج من الصلاة، وهو واجب، (ثم يسجد) أي: للسهو وجوبًا (سجدتين)؛ بالتثنية؛ أي: جبرًا لما حصل في صلاته من الخلل، وفي رواية غير أبي ذر: (ثم ليسلم)؛ بلام الأمر، وفي رواية الأصيلي: (وليسجد)؛ بلام الأمر، وهذا يدل على أن التحري والسجود واجبان للأمر في ذلك، والأمر المطلق يدل على الوجوب، وزعم القسطلاني أن الأمر محمول على الندب، وعليه الإجماع، انتهى.
قلت: وهو فاسد؛ فإن الأمر فيه للوجوب عند إمامنا الأعظم وأصحابه، وبه قال مالك وأحمد، فالحمل على الندب باطل؛ لأنَّ الأمر المطلق يدل على الوجوب، ودعوى الإجماع باطلة؛ لأنَّه لا دليل يدل عليها، فإن كان مراده إجماع المجتهدين؛ فباطل؛ لأنَّ رأس المجتهدين الإمام الأعظم ومالك بن أنس وأحمد ابن حنبل قالوا بالوجوب، وإن كان مراده إجماع أهل مذهبه؛ فغير صحيح؛ لأنَّ اجتماع أهل المذهب على أمر يقال له: اتفاق، وهو غير لازم لغيرهم، وعلى كلٍّ؛ فهذا كلام من لم يذق شيئًا من العلم؛ فافهم.
وزاد في الطنبور نغمة الكرماني، فزعم أنه إنَّما عبر بلفظ الخبر في (يسلِّم) و (يسجد)، وبلفظ الأمر في (فليتحرَّى) و (ليتم)؛ لأنَّ السلام والسجود كانا ثابتين يومئذٍ، بخلاف التحري والإتمام؛ فإنَّهما ثبتا بهذا الأمر، وللإشعار بأنَّهما ليسا بواجبين؛ كالتحري والإتمام، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: الفصاحة في التفنُّن في أساليب الكلام، والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أفصح الناس لا يجارى في فصاحته، فلهذا عدل عن لفظ الأمر إلى الخبر، وغير أسلوب الكلام.
وقوله: (أو للإشعار ... ) إلى آخره: غير مسلم، بل هما واجبان؛ لمقتضى الأمر المطلق، وهو قوله عليه السَّلام: «من شك في صلاته؛ فليسجد سجدتين»، والصحيح من المذهب هو الوجوب، ذكره صاحب «المحيط»، و «المبسوط»، و «الذخيرة»، و «البدائع»، وبه قال مالك وأحمد، وعلى رواية: «فليتحرَّى الصواب، فليتم، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين»؛ لا يرد هذا السؤال، ولا يحتاج إلى الجواب، انتهى.
قلت: ورواية: (ثم ليسلم)؛ بلام الأمر رواية الأكثرين، وعند أبي ذر: (يسلم)؛ بدونها، وكذلك: (ثم ليسجد)؛ بلام الأمر عند الأكثرين، وعند الأصيلي بدونها.
وقوله: (فليتحرَّى)؛ بلام الأمر عند جميع الرواة، وكذلك: (فليتم)؛ بلام الأمر عند جميعهم أيضًا؛ فانظر كيف لحظ لروايةٍ الله أعلم بثبوتها، واعترض وسأل ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وما هذا إلا دأب المتعصبين؛ فافهم.
زعم الكرماني فإن قلت: السجدة مسلم أنها ليست بواجبة، لكن السلام واجب، قلت: وجوبه بوصف كونه قبل السجدتين؛ ممنوع، وأما نفس وجوبه؛ فمعلوم من موضع آخر، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: وقوله: (السجدة مسلم ... ) إلى آخره: غير مسلم؛ لما ذكرنا؛ أي: من قوله عليه السَّلام: «ثم ليسجد سجدتين»، فإن الأمر المطلق فيه يدل على الوجوب عند المحققين.
وقوله: (قلت ... ) إلى آخره: غير ممنوع؛ لأنَّ محل السلام الذي هو للصلاة في آخرها متصلًا بها، فوجب بهذا الوصف، ولا يمتنع أن يكون الشيء [8] واجبًا من جهتين؛ فافهم.
وزعم الكرماني فإن قلت: آخر الحديث يدل على أن سجود السهو بعد السلام وأوله على عكسه، قلت: ومذهب الشافعي: أنه يسن قبل السلام، وتأول آخر الحديث بأنه قول، والأول فعل، والفعل مقدم على القول؛ لأنَّه أدل على المقصود، أو أنه عليه السَّلام أمر بأن يسجد بعد السلام؛ بيانًا للجواز، وفعل نفسه قبل السلام؛ لأنَّه أفضل، انتهى.
ورده إما م الشَّارحين فقال: (لا نسلم أن الفعل مقدم على القول؛ لأنَّ مطلق القول يدل على الوجوب على أنَّا نقول: يحتمل أن يكون سلم قبل أن يسجد سجدتين، ثم سلم سلام سجود السهو، فالراوي اختصره، ولأن في السجود بعد السلام تضاعف الأجر، وهو الأجر الحاصل من سلام الصلاة ومن سلام سجود السهو، ولأنه شرع جبرًا للنقص أو للزيادة التي في غير محلها، وهي أيضًا نقص كالإصبع الزائدة، والجبر لا يكون إلا بعد تمام المجبور، وما بقي عليه سلام الصلاة، فهو في الصلاة) انتهى.
قلت: ويدل عليه قولهم: إذا اقتدى بالإمام وهو في سجود السهو؛ صح اقتداؤه؛ لأنَّه عاد إلى حرمة الصلاة، وما زعمه الكرماني متناقض؛ لأنَّ قوله: (فإن قلت ... ) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّ أول الحديث وآخره يدل على أن سجود السهو بعد السلام؛ لأنَّ أول الحديث: (صلى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما سلم؛ قيل: يا رسول الله ... ) إلى آخره، فاكتفى بهذا السلام، ولهذا سجد سجدتي السهو، ثم سلم.
وقوله: (وتأول آخر الحديث ... ) إلى آخره: هذا التأويل باطل؛ لأنَّ القول مقدم على الفعل عند المحققين؛ لأنَّ الفعل لا يدل على الوجوب، ويحتمل الندب، والإباحة، والسنية، والخصوصية بخلاف القول؛ فإنه لا يحتمل إلا الوجوب، كما لا يخفى، ولهذا قال العلماء: النظر للقول لا للفعل؛ فافهم.
وما زعمه من أنه أمر عليه السَّلام بأن يسجد بعد السلام؛ بيانًا للجواز؛ ممنوع، فإن هذا ليس سبيله بيان الجواز، فإن عادته عليه السَّلام على الدوام والاستمرار السجود للسهو بعد السلام قولًا وفعلًا، ففعله هذا ليس لبيان الجواز، بل على سبيل الوجوب؛ للعادة فيه، يدل علىه قوله عليه السَّلام: «ولكن إنَّما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون»، فثبت بهذا أن السهو متكرر منه عليه السَّلام، وأنه يسجد بعد السلام؛ فافهم.
وقوله: (وفعل نفسه ... ) إلى آخره: هذا رجوع؛ لدلالة الحديث على وجوب سجود السهو بعد السلام، كما لا يخفى.
وقوله: (لأنه أفضل): تناقض، بل هو واجب، كما لا يخفى، وفي الحديث: دليل على أن الإمام أو المأموم إذا شك في صلاته؛ يرجع إلى قول غيره من المأمومين؛ لأنَّه عليه السَّلام قد
%ص 535%
رجع إلى قول أصحابه وبنى عليه، وهو حجة على الشافعية حيث زعموا أنه لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيره إمامًا كان أو مأمومًا، ولا يعمل إلا على يقين نفسه.
وأجاب الكرماني: (بأنه عليه السَّلام سألهم؛ ليتذكر، فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير، وأنَّ قول السائل أحدث شكًّا عنده عليه السَّلام، فسجد بسبب حصول الشك له، فلا يكون رجوعًا إلا إلى حال نفسه).
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا كلام فيه تناقض؛ لأنَّ قوله: (سألهم ... ) إلى قوله: (فبنى عليه) رجوع إلى قول الغير بلا نزاع، وقوله: (لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير): يناقض ذلك، وقوله: (فسجد بسبب حصول الشك): غير مسلم؛ لأنَّ سجوده إنَّما كان للزيادة لا للشك الحاصل من كلامهم؛ لأنَّه لو شك؛ لكان تردُّدًا [9]؛ إذ مقتضى الشك التردد، فحين سمع قولهم: «صليت كذا وكذا»؛ ثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين) انتهى.
يعني: فيكون رجوعًا إلى قول الغير.
قلت: وظاهر الحديث يدل على أن هذا رجوع إلى قول الغير؛ لأنَّه قال السائل: (يا رسول الله؛ أحَدَث في الصلاة شيء؟)؛ أي: من الوحي، فقال عليه السَّلام له: «وما ذاك؟»، وهو سؤال من لم يشعر بما وقع منه، فقالوا: (صليت كذا وكذا)؛ كناية عما وقع، فاعتمد على قولهم، وثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، فكان سجوده عليه السَّلام عملًا بقولهم، ورجوعًا إلى ما قالوه له، ولو كان كما زعمه الكرماني من أنه سألهم ليتذكر، فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه؛ لكان قوله: «وما ذاك؟» لا فائدة فيه، وكذلك قوله: (قالوا: صليت كذا وكذا)، فإنه لو كان عالمًا بالسهو؛ لكان حين قال السائل له: (أحدث في الصلاة شيء؟)؛ تذكر، ولم يسألهم، فسؤاله [10] لهم دليل على أنه عليه السَّلام قد رجع إلى قولهم، وبنى عليه، ويدل عليه الفاء التعقيبية في قوله: (فثنى)، فإنها أفادت أنه حين سمع قولهم: (صليت كذا وكذا)؛ عقب ذلك بالثني لرجليه، ولم يتذكر، ولو كان في ذكره شيء؛ لما احتاج إلى سؤالهم وجوابهم، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم.
وما زعمه من قول السائل: (أحَدَث ... ) إلى آخره: ممنوع، فإن سجود السهو شرع في الزيادة أو النقصان لا للشك، فسجوده عليه السَّلام كان لأجل الزيادة، يدل عليه قول السائل: (أحَدَث)؛ أي: شيء من الوحي يوجب الزيادة في الصلاة، وصرح الحميدي: (أنه عليه السَّلام قد زاد في صلاته)، فثبت أن السجود كان للزيادة؛ فافهم.
وأجاب النووي عن الحديث: (بأنه عليه السَّلام سألهم؛ ليتذكر؛ فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه لا أنه رجع إلى قولهم، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره؛ لرجع ذو اليدين حتى قال عليه السَّلام: «لم تقصر ولم أنس»).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا ليس بجواب مخلص؛ لأنَّه لا يخلو عن الرجوع، سواء كان رجوعه للتذكير أو لغيره، وعدم رجوع ذي اليدين كان لأجل كلام الرسول لا لأجل يقين نفسه)؛ فافهم.
قلت: وكأن الكرماني أخذ كلامه من كلام النووي، ونسبه لنفسه، وكلامهما باطل ومحاولة وعدول عن الظاهر؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم، والحق أن حديث الباب حجة عليهم؛ لأنَّه مصرح بأنه عليه السَّلام قد رجع إلى قولهم، وبنى عليه، كما قدمناه لك؛ فافهم.
وزعم الكرماني فإن قلت: الصواب غير معلوم، وإلا؛ لما كان ثمة شك، فكيف يتحرى الصواب؟ قلت: المراد منه المتحقق المتيقن؛ أي: فليأخذ باليقين.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا الذي قاله بناء على ما ذهب إليه إمامه، فإنه فسر «الصواب»: الأخذ باليقين، وأما عند الإمام الأعظم؛ فالمراد منه: البناء على غالب الظن واليقين [11] في أين ههنا؟) انتهى.
قلت: وما زعمه الكرماني باطل؛ لأنَّ المراد من قوله عليه السَّلام: «فليتحرَّى الصواب»: غلبة الظن؛ لأنَّ التحري: طلب إحدى الأمرين وأولاهما بالصواب، وغلبة الظن: هو صواب الأمرين، ويدل عليه رواية مسلم: (فليتحرَّ [12] الذي يرى أنه صواب)، وفي أخرى: (فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب)، فعلم من ذلك أن الصواب معلوم، وهو غلبة الظن، وأما المتيقن؛ فليس يفهم من الحديث؛ لأنَّه لو كان مراده بـ (الصواب): المتيقن؛ لقال: فليأخذ باليقين، ولما عدل عنه إلى قوله: (فليتحرَّى)؛ علم أن المراد بـ (الصواب): غلبة الظن؛ فإنه بمنزلة اليقين، فإن اليقين لم يعلم ههنا، والعناد بعد ذلك مكابرة، فقام لنا الدليل على أن المراد بقوله: (فليتحرَّى الصواب): البناء على غالب الظن؛ فليحفظ.
وفي الحديث: حجة قوية، ومحجة مستقيمة للإمام الأعظم رأس المجتهدين، وأصحابه، والكوفيين: على أن من شك في صلاته في عدد ركعاتها؛ تحرى؛ لقوله عليه السَّلام: «فليتحرى الصواب»، وبنى على غالب ظنه، ولا يلزمه الاقتصار على الأقل، وهو حجة على الشافعي في قوله: من شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا مثلًا؛ لزمه البناء على اليقين، وهو الأقل.
فإن قلت: أمر الشَّارع بالتحري، وهو القصد بالصواب، وهو لا يكون إلا بالأخذ بالأقل الذي هو اليقين على ما بينه في حديث أبي سعيد الخدري: أنَّه عليه السَّلام قال: «إذا صلى أحدكم، فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا؛ فليبن على اليقين، ويدع الشك ... »؛ الحديث، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
قلت: هذا محمول على ما إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، ففي هذا نقول: يبني على الأقل؛ لأنَّ حديثه هذا قد ورد في الشك؛ وهو ما استوى طرفاه ولم يترجح له أحد الطرفين، ففي هذا يبني على الأقل بالإجماع، انتهى قاله في «عمدة القاري».
قلت: ويدل لما قاله ما رواه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني عنه عليه السَّلام أنه قال: «إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدةً صلى أو ثنتين؛ فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثًا؛ فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا؛ فليبن على ثلاث ... »؛ الحديث، فأفاد أن المصلي إذا لم يقع تحريه على شيء؛ يبني على الأقل، أمَّا إذا تحرى ووقع تحريه على شيء؛ وجب الأخذ به؛ لقوله عليه السَّلام: «فليتحرى الصواب، فليتم»، فالحديث
%ص 536%
وارد في الشك؛ وهو تساوي الأمرين، كما بينه الحديث الثاني.
واعترض النووي، فزعم أنَّ تفسير الشك هكذا اصطلاح طارئ للأصوليين، وأمَّا في اللغة؛ فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى: شكًّا، سواء المستوي والراجح والمرجوح، والحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية، فلا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح.
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا غير جيد؛ لأنَّ المراد الحقيقة العرفية؛ وهي أن الشك في اللغة: ما استوى طرفاه، ولم يترجح أحد الطرفين على الآخر، ولئن سلمنا أن يكون المراد معناه اللغوي؛ فليس معنى الشك في اللغة ما ذكره؛ لأنَّ صاحب «الصحاح» وغيره فسر الشك في باب (الكاف)، فقال: (الشك خلاف اليقين)، ثم فسر اليقين في باب (النون)، فقال: (اليقين العلم)، فيكون الشك ضد العلم، وضد العلم الجهل، ولا يسمى المتردد بين وجود الشيء وعدمه جاهلًا، بل يسمى: شاكًّا، فعلم أنَّ قوله: (وأما في اللغة ... ) إلى آخره: هو الحقيقة العرفية لا اللغوية، انتهى.
قلت: وقد ذكر النووي في «شرح المهذب» الشك، فقال: (اعلم أنَّ الشك: تردد الذهن بين أمرين على حد سواء عند الأصوليين، وقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء؛ فهو الشك، وإلا؛ فالراجح الظن، والمرجوح وهم) انتهى.
فهذا يرد عليه؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري»: (فإن قلت: المصير إلى التحري؛ لضرورة، ولا ضرورة هنا؛ لأنَّه يمكنه إدراك اليقين بدونه بأن يبني على الأقل، فلا حاجة إلى التحري، قلت: التحري يحتاج إليه هنا؛ لأنَّه قد يتعذر عليه الوصول إلى الذي اشتبه عليه بدليل من الدلائل، والتحري عند عدم الأدلة مشروع، كما في أمر القِبلة) انتهى.
قلت: على أنَّه لم يعلم اليقين ليبني عليه، فمتى شك؛ بقي على احتمال الطرفين، وترجيح أحدهما غلبة ظن، وأما اليقين؛ فهو وهم، كما لا يخفى.
فإن قلت: يستقبل الصلاة؟
قلت: لا حاجة لذلك؛ لأنَّه عساه أن يقع له مرة ثانيًا أو ثالثًا إلى ما لا نهاية له.
فإن قلت: يبنيه على الأقل؟
قلت: لا وجه لذلك أيضًا؛ لأنَّ ذلك لا يوصله إلى ما عليه، فلا يبني على الأقل إلا عند عدم وقوع تحريه على شيء، كما ذكرنا.
قلت: والبناء على الأقل عند الشك _الذي هو استواء الطرفين_ لا فائدة فيه؛ لأنَّه لم يترجح عنده أحدهما حتى يبني عليه، فهذا اليقين هو الوهم نفسه، فغلبة الظن الأخذ بها صواب؛ فافهم.
وزعم الشافعية أنَّ في الحديث [حجة] على أنَّ كلام الناسي لا يبطل الصلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام في حكم الناسي أو الساهي؛ لأنَّه كان يظن أنَّه ليس فيها، وقال أبو عمر [13] (ذهب الشافعي: إلى أنَّ الكلام والسلام ساهيًا في الصلاة؛ لا يبطلها، وهو قول مالك وأصحابه)، وقال مالك: تعمُّد الكلام في الصلاة إذا كان لشأنها وإصلاحها؛ لا يفسدها، وهو قول ربيعة، وقال أحمد: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها؛ لم تفسد، فإن تكلم لغير ذلك؛ فسدت، وقال الشافعي: من تعمد الكلام، وهو يعلم أنَّه لم يتم صلاته، وأنَّه فيها؛ أفسدها، فإن تكلم ناسيًا، أو تكلم وهو يظن أنَّه ليس في الصلاة؛ لا تبطل، وأجمعوا على أنَّ الكلام عامدًا إذا كان المصلي يعلم أنَّه في الصلاة ولم يكن ذلك لإصلاحها؛ أنَّها تفسد، وروي عن الأوزاعي: أنَّه من تكلم لإحياء نفس ونحوه؛ لم تفسد صلاته، وقال الشافعي: إذا تكلم لإحياء صبي [من] الوقوع في هلكة أو نحوها؛ تبطل صلاته، وذهب أحمد: أنَّها لا تبطل، وهو قول أصحاب الشافعي.
قلت: ولا دليل لهؤلاء على ما قالوه، بل إنَّه لا يجوز الكلام في الصلاة إلا بالتكبير، والتسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن، ولا يجوز أن يتكلم في الصلاة لأجل شيء حدث من الإمام في الصلاة، والكلام يبطل الصلاة مطلقًا، سواء كان عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا، وسواء كان إمامًا أو مقتديًا أو منفردًا، سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فالكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان، وهذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، وهو قول حماد بن أبي سليمان، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وسفيان الثوري، وعبد الله بن وهب، وابن نافع من أصحاب مالك، وهو قول عطاء، والحسن البصري، وغيرهم، واستدلوا بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، قال السدي: (يعني: ساكتين؛ لأنَّ الآية نزلت في منع الكلام من الصلاة، وكان ذلك مباحًا في صدر الإسلام)، وهذا هو الصحيح؛ لما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نُسلِّم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه؛ فلم يرد علينا السلام، فقلنا: يا رسول الله؛ كنا نسلم عليك في الصلاة، فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي؛ سلمنا، فلم ترد علينا، فقال عليه السَّلام: «إن في الصلاة لشغلًا»، وروى زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «إن الله أحدث من أمره ألا تتكلموا في الصلاة»، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي، أخرجه مسلم مطولًا، وفيه قال عليه السَّلام: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن»، وأخرجه أبو داود والنسائي أيضًا، فهذا نص صريح على تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان عامدًا أو جاهلًا؛ لحاجة الصلاة أو غيرها، وسواء كان ناسيًا أو ساهيًا أو غير ذلك؛ لأنَّ اللفظ مطلق، فيعم الجميع، وأفاد أن الحديث منسوخ؛ لأنَّ الكلام كان مباحًا في صدر الإسلام، ثم نسخ، وحرم في الصلاة، فلا دليل لهم في إباحته، كما لا يخفى، فإن احتاج المصلي إلى تنبيه إمام ونحوه؛ سبح إن كان رجلًا، وصفقت إن كانت امرأة،
%ص 537%
وذلك؛ لقوله عليه السَّلام: «من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله، فإنما التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال»، رواه سهل بن سعد، أخرجه الحافظ الطحاوي عنه، وأخرجه البخاري مطولًا، ولفظه: «أيها الناس؛ ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟! إنَّما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله! فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إلا التفت»، وأخرجه مسلم وأبو داود أيضًا، وقوله: «من نابه»؛ أي: من نزل به شيء من الأمور المهمة، والمراد من التصفيق: ضرب ظاهر إحدى يديه على باطن الأخرى، وقيل: بإصبعين من أحدهما على صفحة الأخرى؛ للإنذار والتنبيه، وقال الحافظ الطحاوي: (دل هذا الحديث على أن كلام ذي اليدين لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما كلمه به في حديث عمران وأبي هريرة كان قبل تحريم الكلام في الصلاة) انتهى.
قلت: فحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث عبد الله بن مسعود وزيد بن أرقم، فإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام؛ فإنه أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل حديث من أدركه الفجر جنبًا، فلا صوم له، وكان كثير الإرسال؛ فافهم.
فإن قلت: قد جرى الكلام في الصلاة، وقد ورد في الحديث: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل سبحان الله!»، فلمَ لم يسبحوا؟
قلت: لأنَّه عليه السَّلام في ذلك الوقت لم يأمرهم بالتسبيح؛ لأنَّ حديث التسبيح متأخر عن إباحة الكلام في الصلاة، ويحتمل أنَّهم توهموا أن الصلاة قصرت أو زادت، وقد جاء في الحديث قال: «وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة؟»، فلم يكن بد من الكلام لأجل ذلك، ثم حرم الكلام في الصلاة بعد ذلك، واستقر الحال على تحريمه، وصار التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وما وراء ذلك تعصب وعناد؛ فافهم.
فإن قلت: حديث الباب لا يدل على تحريم الكلام في الصلاة؛ لأنَّه قال: «وما ذاك؟».
قلت: لأنَّ الحديث كان في صدر الإسلام، وكان الكلام فيها مباحًا، وقد ثبت تحريم الكلام في حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم بعد ذلك، فالحديث منسوخ، كما قدمناه.
وزعم الكرماني (فإن قلت: كيف رجع إلى الصلاة بانيًا عليها، وقد تكلم بقوله: «وما ذاك؟»؟
قلت: لأنَّه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو أنه خطاب للنبيِّ عليه السَّلام وجواب، وذلك لا يبطل الصلاة، أو كان قليلًا وهو عليه السَّلام في حكم الساهي أو الناسي؛ لأنَّه كان يظن أنه ليس في الصلاة).
ورده إمام الشَّارحين فقال: مذهب إمامه: أن الكلام في الصلاة إذا كان ناسيًا أو ساهيًا لا يبطلها، فلا فائدة حينئذ في قوله: (إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة)، والجواب الثاني: لا يتمشى بعد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، والجواب الثالث: غير موجه؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «وما ذاك؟» غير قليل، على ما لا يخفى، انتهى.
قلت: وقد أباح إمامهم الكلام القليل دون الكثير، وقوله عليه السَّلام: «وما ذاك؟» كثير؛ لأنَّ الكثير عندهم ما زاد على ثلاثة أحرف، وما دونها أو هي؛ فقليل، فلا دليل لهم من الحديث؛ فافهم. ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (فثنى رجليه، واستقبل القبلة)؛ لأنَّه استقبلها بعد أن سلم سلام الخروج من الصلاة، وفيه دليل على جواز النسخ، وجواز توقع الصحابة في ذلك يدل عليه استفهامهم حيث قيل له عليه السَّلام: (أحدث في الصلاة شيء؟) والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (للسجود)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (المفتي)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (موضعين).
[4] في الأصل: (أحدهما)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فلا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[6] في الأصل: (لا عمد ولا سهو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] كذا في الأصل وفي «اليونينية» بإثبات الياء.
[8] في الأصل: (شيء)، والمثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (تردد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (فسأله)، وهو تحريف.
[11] في الأصل: (المتيقن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (فليتحرَّى)، و المثبت موافق لما في «صحيح مسلم».
[13] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (للسجود)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (المفتي)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (موضعين).
[4] في الأصل: (أحدهما)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فلا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[6] في الأصل: (لا عمد ولا سهو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] كذا في الأصل وفي «اليونينية» بإثبات الياء.
[8] في الأصل: (شيء)، والمثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (تردد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (فسأله)، وهو تحريف.
[11] في الأصل: (المتيقن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (فليتحرَّى)، و المثبت موافق لما في «صحيح مسلم».
[1] في الأصل: (للسجود)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (المفتي)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (موضعين).
[4] في الأصل: (أحدهما)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فلا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[6] في الأصل: (لا عمد ولا سهو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] كذا في الأصل وفي «اليونينية» بإثبات الياء.
[8] في الأصل: (شيء)، والمثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (تردد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (فسأله)، وهو تحريف.
[11] في الأصل: (المتيقن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (فليتحرَّى)، و المثبت موافق لما في «صحيح مسلم».
(1/675)
(32) [باب ما جاء في القبلة]
هذا (باب: ما جاء في) أمر (القبلة)، وهو خلاف ما تقدم قبل هذا الباب، فإن ذاك في حكم التوجه إلى القبلة، وهذا في حكم من سها فصلى إلى غير القبلة، وأشار إلى حكم هذا بقوله: (ومن لم ير)، هذه رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر والأصيلي، وفي رواية المستملي: (ومن لا ير)، (الإعادة) وهو عطف على قوله: (في القبلة)؛ أي: وباب: ما جاء فيمن لم ير إعادة الصلاة (على من سها) عن التوجه إلى القبلة، (فصلى إلى غير القبلة) بأن شرق أو غرب أو نحوهما، وزعم الكرماني: أن الفاء في (فصلى) تفسير لقوله: (سها)، فهي تفسيرية.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (وفيه بعد، والأولى أن تكون الفاء للسببية؛ كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، ولو قال: كـ «الواو» لكان أحسن، كما لا يخفى) انتهى.
ومقصود الإمام البخاري في هذا الباب: بيان أن الرجل إذا اجتهد في القبلة، فصلَّى إلى غيرها؛ هل يعيد أم لا؟
فذهب الإمام الأعظم وأصحابه: إلى أنَّه لا يعيد صلاته؛ لأنَّه قد أتى بما في وسعه، فصلاته صحيحة، وبه قال الثوري، والنخعي، والشعبي، وعطاء، وابن المسيب، وحماد، وهو مذهب المؤلف، وهو رواية عن مالك، وهو قول الحسن والزهري.
يدل لهذا ما رواه الترمذي وابن ماجه، من حديث عامر بن ربيعة أنَّه قال: كنَّا مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في سفر، فغيَّمت السماء، وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وأعلمنا، فلمَّا [1] طلعت الشمس؛ إذا نحن قد صلينا لغير القبلة، فذكرنا ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فأنزل الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115]، وروى البيهقي في «المعرفة»، من حديث جابر قال: إنَّهم صلوا في ليلة مظلمة؛ كلُّ رجل منهم على حياله، فذكروا ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «مضت صلاتكم»، ونزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}.
وقول الترمذي: (ليس إسناده بذاك)، وقول البيهقي: (حديث جابر ضعيف): ممنوع؛ لأنَّه رُوي حديث جابر من ثلاث طرق؛ أحدها: أخرجه الحاكم في «المستدرك»، عن محمد بن سالم، عن عطاء بن أبي رباح عنه، ثم قال: (هذا حديث صحيح)؛ فافهم، وروي عن مالك فيمن صلى إلى غير القبلة، والحالة هذه: أنه يعيد في الوقت استحسانًا، وقال المغيرة: (يعيد أبدًا)، وعن حميد بن عبد الرحمن، وطاووس، والزهري: (يعيد في الوقت)، وزعم الشافعية: (إن فرغ
%ص 538%
من صلاته، ثم بان له أنَّه صلى إلى الغرب؛ استأنف الصلاة، وإن لم يبن له ذلك إلا باجتهاده؛ فلا إعادة عليه).
قلت: والأحاديث المذكورة حجة عليهم.
وزعم الواحدي (أنَّ ابن عمر ذهب إلى أنَّ الآية نازلة في التطوع بالنافلة).
قلت: وصريح الحديث السابق يرده، وقال ابن عباس: لما توفي النجاشي؛ جاء جبريل إلى النبيِّ الأعظم عليهما السلام، فقال: إنَّ النجاشي توفي؛ فصلِّ عليه، فقال الصحابة في أنفسهم: كيف نصلي على رجل مات ولم يصلِّ لقبلتنا؟ وكان النجاشي يصلي إلى بيت المقدس إلى أن مات، فنزلت الآية، وقال قتادة: (هذه الآية منسوخة بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، وهي رواية ابن عباس)، كذا قاله في «عمدة القاري».
قلت: والأحاديث التي سبقت صريحة في أنَّ الآية نزلت في أمر القبلة، ويدل عليه أنَّ أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ استداروا في الصلاة إليها؛ فليحفظ.
(وقد سلم النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم في ركعتي الظهر) وللأصيلي: (في ركعتين من الظهر) (وأقبل على الناس بوجهه)؛ أي: من غير تحويل صدره عن القبلة، بل التفت بعنقه، فإقباله عليهم بالوجه فقط، (ثم أتم ما بقي)؛ أي: من صلاته؛ أي: الركعتين الأخيرتين.
ومطابقة هذا التعليق للترجمة من حيث عدم وجوب الإعادة على من صلى ساهيًا إلى غير القبلة، وهو ظاهر؛ لأنَّه عليه السَّلام في حال إقباله على الناس داخل في حكم الصلاة، وأنَّه في ذلك الزمان ساهٍ مصلٍّ إلى غير القبلة، وهذا التعليق قطعة من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن بطال وابن التين إلى أنَّ هذا التعليق طرف من حديث ابن مسعود الذي سلف.
ورده الشَّارح فقال: (وهذا وهم منهما؛ لأنَّ حديث ابن مسعود ليس في شيء من طرقه أنَّه سلم من ركعتين)؛ فافهم.
قلت: فلله در هذا الشَّارح! وحقيق بأن يسمى إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
==================
(1/676)
[حديث عمر: وافقت ربي في ثلاث]
402# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَمْرو)؛ بفتح العين المهملة وسكون الميم (بن عون)؛ بالنون، هو أبو عثمان الواسطي البزاز _بالزاي المكررة_ نزيل البصرة، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئتين (قال: حدثنا هُشَيْم)؛ بضم الهاء، وفتح المعجمة، وسكون التحتية، هو ابن بَشير _بفتح الموحدة_ الواسطي، (عن حُميد)؛ بضم الحاء المهملة، هو الطويل البصري، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك)؛ هو الأنصاري، خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (قال: قال عمر) هو ابن الخطاب، القرشي، العدوي، ثاني خلفاء سيد المرسلين رضي الله عنه: (وافقت ربي) من الموافقة، من باب المفاعلة الذي يدل على مشاركة اثنين في فعل ينسب إلى أحدهما متعلقًا بالآخر [1]، والمعنى في الأصل: وافقني ربي، فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، ولكنَّه راعى الأدب، فأسند الموافقة إلى نفسه لا إلى الرب، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر وغيره.
واعترضه صاحب «اللامع» فقال: (لا يحتاج إلى ذلك، فإن من وافقك؛ فقد وافقته) انتهى.
قلت: بل يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ الله تعالى أفعاله وأحكامه تأتي على وفق إرادته، فقد يريد العبد شيئًا ولا يريد الرب ذلك الشيء؛ يعني: أنه تعالى أراد هذه الأحكام، وإرادته مرضية محبوبة لإرادتي؛ حيث تقع على وفق الحكمة، وإنما يحتاج إليه أيضًا حتى لا ينسب إلى سوء الأدب مع الرب عزَّ وجلَّ، وإن كان باب المفاعلة يدل على المشاركة؛ فإنَّها قاعدة اصطلاحية نحوية كما أنَّ الخبر يحتمل الصدق والكذب ولو كان في كلامه تعالى، وذلك من حيث الاصطلاح، وإلا؛ فكلامه تعالى منزَّه عن الكذب، بل هو صدق؛ فافهم.
(في ثلاث)؛ أي: ثلاثة أمور، وإنَّما لم يؤنث الثلاث مع أنَّ الأمر مذكر؛ لأنَّ المميز إذا لم يكن مذكورًا؛ جاز في لفظ العدد التذكير والتأنيث.
فإن قلت: حصلت الموافقة له في أشياء غير هذه الثلاثة؛ منها: في أسارى بدر؛ حيث كان رأيه ألا يفدون، فنزل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ [2] لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67]، ومنها: في منع الصلاة على المنافقين، فنزل: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]، ومنها: في تحريم الخمر، ومنها: ما رواه أبو داود الطيالسي، من حديث حماد بن سلمة، عن أنس قال عمر: وافقت ربي في أربع، وذكر ما في البخاري قال: ونزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 12 - 14]، فقلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت كذلك، ومنها: في شأن عائشة لما قال أهل الإفك ما قالوا، فقال: يا رسول الله؛ من زوجكها؟ فقال: «الله تعالى»، قال: أفننظر أن ربك دلس عليك فيها؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم، فأنزل الله ذلك، وذكر ابن العربي: (أن الموافقة في أحد عشر موضعًا).
قلت: يشهد لذلك ما رواه الترمذي مصححًا، من حديث ابن عمر قال: ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه، وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر، وهذا يدل على كثرة موافقته، فإذا كان كذلك؛ فكيف نص على الثلاث في العدد؟
قلت: التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد عنه، ويحتمل أنَّه ذكر ذلك قبل أن يوافق في أربع وما زاد، وهذا الاحتمال فيه نظر؛ لأنَّ عمر أخبر بهذا بعد موت النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا يتجه ما ذكر، ويحتمل أنَّ الراوي اعتنى بذكر الثلاث دون ما سواها؛ لغرض له، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: ويحتمل أنَّ الراوي حضر هذه الموافقة في هذه الثلاث، فعبر عما سمعه وقتئذٍ، ثمَّ وقت آخر حضر موافقة أخرى، فعبر عنها، والله تعالى أعلم.
ولموافقات عمر
%ص 539%
تأليف خاص وصل فيه إلى أكثر من مئة، والله تعالى أعلم.
(قلت:) وللأربعة: (فقلت) (يا رسول الله؛ لو اتخذنا من مقام إبراهيم) هو خليل الرحمن عليه السَّلام؛ (مصلى)؛ أي: قبلة، قاله الحسن، وذلك بأن جعل المصلى بينه وبين القبلة.
قال إمام الشَّارحين: وجواب (لو) محذوف، ويجوز أن تكون (لو)؛ للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، واختلفوا فيه، فقال ابني الصائغ وهشام: هي قسم برأسها لا تحتاج إلى جواب؛ كجواب الشرط، ولكن قد يؤتى لها بجواب منصوب؛ كجواب (ليت)، وقال ابن مالك: هي (لو) المصدرية أغنت عن فعل التمني، انتهى.
وزعم ابن حجر: أنها (لو) الشرطية أشربت معنى: التمني.
قلت: هذا قول ملفق من قولين جعله واحدًا، ونسبه لنفسه، وهو غير ظاهر؛ فافهم.
(فنزلت: {وَاتَّخِذُوا})؛ فيه قراءتان، أحدهما: وهي المشهورة بلفظ الأمر؛ يعني: وقلنا لهم: اتخذوا، والثانية: بلفظ الماضي؛ عطفًا على: {جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخَذُوا}، ({مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}) [البقرة: 125]: تصلون فيه ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات، كما روي عن مقاتل وقتادة والسدي: أنَّ قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا ... }؛ الآية: أمر بالصلاة عند المقام.
وأراد عمر بقوله: لو اتخذنا؛ يعني: أفلا نؤثره؛ لفضله بالصلاة فيه؛ تبركًا وتيمُّنًا بموطئ قدم إبراهيم عليه السَّلام؟ فالخطاب بالاتخاذ إنَّما هو لأمة نبينا النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لا لأمة إبراهيم عليه السَّلام.
والأمر بتعيين المقام للصلاة للاستحباب؛ لانعقاد الإجماع على أنَّ أماكن المسجد الحرام لا تفاوت بينها في حق ركعتي الطواف ولا في غيرهما من الصلوات، فعلم بذلك أن أهل الإجماع حملوا الأمر بتعيُّن المقام للصلاة على الاستحباب، وهو لا ينافي كون ركعتي الطواف واجبة، كما هو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ فافهم.
والمَقام؛ بفتح الميم، ويجوز أن يكون مصدرًا ميميًّا من قام يقوم، وأن يكون اسمًا لموضع القيام، وهو الموضع الذي يضع عليه الإنسان قدميه حيث يقوم.
والمُقام؛ بضم الميم، موضع الإقامة، ونفس الإقامة أيضًا، والتعريف المستفاد من إضافة المقام إلى إبراهيم للعهد، والمعهود موضعه الذي وضع قدميه حين دعا الناس إلى الحج، أو حين رفع بناء البيت، وذلك الموضع هو الحجر الذي فيه أثر قدميه؛ لأنَّه عليه السَّلام قام عليه حقيقة في ذينك الوقتين، ويطلق لفظ: المقام أيضًا على الموضع الذي كان الحجر فيه حين قام عليه ودعا أو رفع البناء؛ لأنَّ ذلك الموضع وإن كان موضعًا للحجر حقيقة وبالذات؛ فهو موضع لإبراهيم؛ توسعًا وبالواسطة، والمقام المذكور في قول النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما»، وفي قول أنس بن مالك: رأيت المقام فيه أصابعه وأخمص قدميه والعقب غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، فالمراد به: نفس الحجر الذي قام عليه؛ فافهم.
وروى البغوي: (أن إبراهيم عليه السَّلام استأذن سارة أن يزور إسماعيل عليه السَّلام، فأذنت له، وشرطت عليه ألا ينزل، فقدم مكة حتى جاء إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: ذهب يتصيد، ويجيء الآن إن شاء الله، فانزل؛ يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركة، ولو جاءت يومئذٍ بخبز أو برٍّ أو شعير أو تمر؛ لكان أكثر أراضي الله برًّا وشعيرًا وتمرًا، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام، فوضعته عن شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولته إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك؛ فأقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، فلمَّا جاء إسماعيل؛ وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم؛ شيخ أحسن الناس وجهًا وأطيبهم ريحًا، فقال: كذا وكذا، فقلت له: كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه، فقال: ذلك إبراهيم عليه السَّلام، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ثم لبث ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نباله تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه؛ قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل؛ إن الله أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال: أعينك، قال: إنَّ الله أمرني أن أبني هنا بيتًا، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء؛ جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة) انتهى، والله أعلم.
وتوجيه القراءتين في {وَاتَّخِذُوا}: أن يقال: {وَاتَّخَذُوا} بلفظ الماضي، فمقام إبراهيم: البيت الذي بناه، وهو الكعبة، والمصلى: القبلة؛ لأنَّ الناس سواء حمل على العموم أو خص بالذاكرين لا يصح أن يخبر عنهم بأنَّهم اتخذوا الحجر المعهود أو موضعه صلاة أو دعاء؛ بمعنى: أنَّهم يصلون فيه أو يدعون؛ لأنَّ اتخاذه كذلك إنَّما هو من أحكام شريعتنا ليس شريعة قديمة مثل كون البيت مثابة، فلا جرم أنَّ معنى (المصلى): الموضع الذي يصلى إليه، فإنَّ موضع الصلاة أعم من الموضع الذي يصلى فيه، ومن الموضع الذي يصلى إليه، واستلزم ذلك أن يقال: مقام إبراهيم: هو الكعبة؛ لأنَّ المتوجه إليه في الصلاة إنَّما هو الكعبة بعينها، وسميت بمقام إبراهيم؛ لاهتمامه بها؛ من حيث إنه بناها بنفسه بمعاونة ابنه إسماعيل.
وأمَّا إذا قرئ بلفظ الأمر؛ فيصح أن يجعل (المصلى)؛ بمعنى: ما يصلى فيه، وأن يجعل (المقام)؛ بمعنى: موضع القدمين؛ إذ لا مانع من أن يؤمر جميع الناس بأن يصلوا فيه، وإن لم يصحَّ أن يخبر عنهم بأنَّهم صلوا فيه، ويكون لفظ: (مقام إبراهيم) على قراءة الماضي موضوعًا موضع ضمير البيت؛ للإشارة إلى أنَّ
%ص 540%
علة اتخاذهم إياه قبلة إضافتُه إلى إبراهيم عليه السَّلام؛ من حيث إنَّه بناه بأمر الله تعالى، وروى ابن عباس أنَّه عليه السَّلام قال: «إنَّ لله في كل يوم وليلة مئة وعشرين رحمة تنزل على هذا البيت؛ ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين» انتهى «حواشي شيخ زاده».
(وآية الحجاب)؛ كلام إضافي يجوز فيه: الرفع والنصب والجر، أمَّا الرفع؛ فيحتمل وجهين؛ أحدهما: بالابتداء محذوف الخبر، تقديره: وآية الحجاب كذلك، والآخر: أن يكون معطوفًا على مقدر، تقديره: هو اتخاذ المصلى وآية الحجاب، وأمَّا النصب؛ فعلى الاختصاص، وأمَّا الجر؛ فعلى أنه معطوف على مجرور مقدر، وهو بدل من (ثلاث)، تقديره: في ثلاث: اتخاذ المصلى وآية الحجاب، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(قلت: يا رسول الله) أي: قال عمر لرسول الله: (لو أمرت نساءك أن يحتجبن)؛ أي: يتسترن عن غير أزواجهن من الأجانب؛ (فإنَّه يكلِّمهنَّ) الفاء؛ للسببية (البَر)؛ بفتح الموحدة، صفة مشبهة، من بررت أبر، من باب علم يعلم، فأنا برٌّ وبارٌّ، ويجمع (البرُّ) على (أبرار)، و (البارُّ) على (البررة)؛ وهو ما قابل الفاجر، (والفاجر)؛ من الفجور، يقال: فجر فجورًا: فسق، وفجر: كذب، وأصله الميل، فالفاجر: المائل عن الحق.
(فنزلت آية الحجاب) هي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} [الأحزاب: 59]، قال قتادة: (توفي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن تسع؛ خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية [3]، وواحدة من بني هارون: صفية، وأمَّا أولاده؛ فالقاسم، وعبد الله، والطاهر، والطيب، وفاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم؛ كلهم من خديجة، وإبراهيم من مارية القبطية، وجميع أولاده عليه السَّلام ماتوا في حياته غير فاطمة، وكانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهنَّ، فأحب عمر أن يأمر الله ورسوله بإرخاء الجلابيب عليهنَّ إذا أردنالخروج إلى حوائجهنَّ، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف، فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبًا شابًّا، وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تبرز للحاجة، فتعرض لها بعض الفساق يظن أنها أمة، فتصيح به، فيذهب، فشكوا ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فنزلت الآية المذكورة)، والجلابيب: جمع جُلباب؛ بضم الجيم، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابني عباس ومسعود: أنَّه الرداء، وقيل: إنَّه القناع، والصحيح: أنَّه الثوب الذي يستر جميع البدن، وفي «الصحيحين» عن أم عطية قلت: يا رسول الله؛ إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: «لتلبسها صاحبتها من جلبابها»، وفيهما عنه عليه السَّلام أنه قال: «رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة»، وثبت عنه أنَّه قال: «نساء كاسيات، عاريات، مائلات، مميلات، رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها»، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمَة قد تقنعت ضربها بالدرة؛ محافظة على زيِّ الحرائر، فانظر هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد، وأبيحت الخمور، والولد متلف، والبيت مدلف، والرأي مخلف، والعبد مسرف، والقلب خراب، والخطأ صواب، والزنى فاش، والرياء ماش، والإمام داش، والقاضي راش، والصوفي عكر، والصافي كدر، والملك لاه، والوزير ساه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فيجب على كل راع أن يمنع النساء من الخروج والركوب على السروج؛ فافهم، والله أعلم.
(واجتمع نساء النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: الذين دخل بهن، والذين عقد عليهن ولم يدخل بهن، والذين خطبهن ولم يتم نكاحه معهن، ومجموعهن نيف وثلاثون، كما بسطه القرطبي في «تفسيره».
(في الغيرة عليه)؛ بفتح الغين المعجمة، وهي الحمية والأنفة، يقال: رجل غيور وامرأة غيور؛ بلا هاء؛ لأنَّ فعولًا يشترك فيه الذكر والأنثى، يقال: غرت على أهلي أغار غيرة، فأنا غائر وغيور؛ للمبالغة، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(فقلت) أي: قال عمر (لهن: عسى ربه إن طلقكن)؛ يعني: لتنتهن عن ذلك، وإلا؛ فعسى ربه إن طلقكن (أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنَّ).
فإن قلت: المبدلات خير [4] منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين.
قلت: إذا طلقهن عليه السَّلام؛ لعصيانهن له، وإيذائهن إياه؛ لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة له عليه السَّلام، والنزول على رضاه وهواه خيرًا منهن، ولهذا قال تعالى: {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5]، وإنَّما أخليتْ هذه الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؛ لأنَّهما صفتان متنافيتان لا يجمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بدٌّ من الواو، قاله الإمام جار الله في «كشافه».
وقال الإمام حافظ الدين النسفي: (الآية واردة في الإخبار عن المقدرة لا عن الكون في الوقت؛ لأنَّه عزَّ وجلَّ قال: {إِن طَلَّقَكُنَّ}، وقد علم أنَّه لا يطلقهن، وهذا كقوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ... }؛ الآية [محمد: 38]، فهذا إخبار عن القدرة، وتخويف لهن لا أن في الوجود من هو خير من أمَّة محمد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم) انتهى.
(فنزلت هذه الآية)؛ أي: المذكورة، قال إمام الشَّارحين: ومطابقة هذا الحديث للترجمة في الجزء الأول، وهو قوله: (لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى)، والمراد بـ (المقام): الكعبة على قول، وهي قبلة، والباب في ما جاء في القبلة، وعلى قول من فسر المقام بالحرم؛ فالحرم كله قبلة في حق الآفاقيين، والباب في أمور القبلة، وأمَّا على قول من فسر المقام بالحجر الذي وقف عليه إبراهيم؛ فتكون المطابقة للترجمة بتعلقه
%ص 541%
بالمتعلق بالقبلة لا بنفس القبلة، انتهى.
ثم قال رضي الله عنه: (ويستنبط من الحديث أحكام، وهي على ثلاثة أنواع، كما صرح بها الحديث:
الأول: سؤال عمر رضي الله عنه من رسول الله عليه السَّلام أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلًّى.
وزعم الخطابي أنَّ عمر سأل أن يجعل ذلك الحجر الذي فيه أثر مقامه مصلًّى بين يدي القبلة يقوم الإمام عنده، فنزلت الآية.
وزعم ابن الجوزي فإن قلت: ما السر في أنَّ عمر لم يقنع بما في شرعنا حتى طلب الاستنان بملة إبراهيم، وقد نهاه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن مثل هذا حين أتى بأشياء من التوراة؟
والجواب: أنَّ عمر لما سمع قوله تعالى في إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، ثم سمع: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]؛ علم أن الائتمام به مشروع في شرعنا دون غيره، ثم رأى أن البيت مضاف إليه، وأنَّ أثر قدمه في المقام كرقم اسم الباني في البناء؛ ليُذكر به بعد موته، فرأى الصلاة عند المقام كقراءة الطائف بالبيت اسم من بناه) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (ولم تزل آثار قدمي إبراهيم عليه السَّلام ظاهرة فيه معروفًا عند العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في «قصيدته اللامية» المعروفة:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا، كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس، عن الزهري: أن أنس بن مالك حدثهم قال: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السَّلام أخمص قدميه غير أنَّه أذهبه مسح الناس بأيديهم، وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ: حدثنا يزيد بن زريع: حدثنا سعيد عن قتادة: {وَاتَّخِذُوا ... }؛ الآية [البقرة: 125]، قال: إنَّما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأُمَّة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيها، فما زالت هذه الأمَّة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى) انتهى.
(النوع الثاني: الحجاب، فكان عليه السَّلام جاريًا فيه على عادة العرب، ولم يكن يخفى عليه عليه السَّلام أنَّ حجبهن خير من غيره، لكنَّه كان ينظر الوحي؛ بدليل أنَّه لم يوافق عمر حين أشار بذلك)، قاله القرطبي.
قلت: وحديث الباب يردُّ عليه؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه لما سأل رسول الله عليه السَّلام أن يحجب نساءه؛ لم يحصل بينهما عدم موافقة ولا إشارة بالعدم، بل عقب سؤال عمر نزل الحجاب؛ بدليل عليه قوله: (فنزلت آية الحجاب)، فأتى بالفاء التعقيبية؛ إشارة إلى عدم وقوع المهلة بينهما، بل عقب السؤال نزل الحجاب، ويدل عليه أيضًا ما رواه أبو داود الطيالسي: عن أنس قال: قال عمر: (وافقت ربي في أربعة ... )؛ الحديث، وفيه: قلت: يا رسول الله؛ لو ضربت على نسائك الحجاب؛ فإنَّه يدخل عليهن البرُّ والفاجر، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]»، وهذا يدل على أنَّه لم يقع بينهما إشارة بعدم الموافقة، بل كان عليه السَّلام يحب في نفسه نزول الحجاب، ولم يأمر به ولم ينه عنه حتى نزلت الآية؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وكان الحجاب في السنة الخامسة، قاله قتادة، وقيل: في السنة الثالثة، وهو قول أبي [5] عبيدة يعمر بن المثنى، وعند ابن سعد: أنَّه في ذي القعدة سنة أربع، وكان السبب في ذلك أنه لما تزوج زينب بنت جحش؛ أولم عليها، فأكل جماعة، وهي مولية بوجهها إلى الحائط ولم يخرجوا، فخرج رسول الله عليه السَّلام ولم يخرجوا، وعاد ولم يخرجوا، فنزلت آية الحجاب) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فيكون نزول الحجاب سنة خمس؛ لما رواه الدارقطني: أنَّه عليه السَّلام تزوج زينب بالمدينة في سنة خمس من الهجرة، وتوفيت سنة عشرين، وهي بنت ثلاث وخمسين، ذكره القرطبي، وقال القاضي عياض: (أمَّا الحجاب الذي خص به زوجات النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا لغيرها، ولا إظهار شخصهن، كما فعلت حفصة يوم مات أبوها، ستر شخصها حين خرجت، وبنيت عليها قبة لما توفيت، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}) انتهى.
قلت: وهذه الآية عامة شاملة لجميع النساء، فالله سبحانه أمر الجميع [6] بالتستر، وأنَّ ذلك لا يكون إلا بما لا يصف [7] جلدها إلا إذا كانت مع زوجها؛ فيجب الستر والتقنع في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله عليه السَّلام منعوا النساء المساجد بعد وفاته عليه السَّلام مع قوله: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لو عاش رسول الله عليه السَّلام إلى وقتنا هذا؛ لمنعهنَّ من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل.
قلت: فيجب في زماننا المنع مطلقًا، سواء كان خروجهن للمساجد أو لغيرها؛ لفساد الزمان؛ فافهم.
النوع الثالث: اجتماع نساء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في الغيرة عليه، وهو ما ذكره البخاري في تفسير سورة البقرة، حدثنا مسدد، عن يحيى، عن حميد، عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله؛ يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعض نسائه، فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه؛ فقالت: يا عمر؛ أمَا في رسول الله عليه السَّلام ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ ... }؛ الآية [التحريم: 5]، وأخرج في سورة التحريم: حدثنا عمرو بن عون: حدثنا هشيم عن حميد، عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكنَّ أن
%ص 542%
يبدله أزواجًا خيرًا منكن، فنزلت الآية.
قال إمام الشَّارحين: (وأصل هذه القضية: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا صلى الغداة؛ دخل على نسائه امرأة امرأة، وكانت قد أهديت لحفصة بنت عمر رضي الله عنهما عكة من عسل، فكانت إذا دخل عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مسَلِّمًا؛ حبسته، وسقته منها، وأنَّ عائشة رضي الله عنها أنكرت احتباسه عندها، فقالت لجويرة عندها حبشية يقال لها: خضرة: إذا دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على حفصة؛ فادخلي عليها، فانظري ماذا يصنع، فأخبرتها الخبر وشأن العسل، فغارت، فأرسلت إلى صواحبها، وقالت: إذا دخل عليكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقلن: إنا نجد منك ريح مغافر، وهو صمغ العرفط [8] كريه الرائحة، وكان عليه السَّلام يكره ويشق عليه أن يوجد منه ريح منتنة؛ لأنَّه يأتيه الملَك، فدخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على سودة، فقالت: فما أردت أن أقول ذلك لرسول الله عليه السَّلام، ثم إني فرقت من عائشة، فقلت: يا رسول الله؛ ما هذه الريح التي أجدها منك، أكلت المغافر؟ قال: «لا، ولكن حفصة سقتني عسلًا»، ثم دخل على عائشة، فأخذت بأنفها، فقال لها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما شأنك؟»، قالت: أجد ريح المغافر، أكلتها يا رسول الله؟ فقال: «لا، بل سقتني حفصة عسلًا»، قالت: جرست إذًا نحله العرفط، فقال لها: «والله لا أطعمه أبدًا»، فحرمه على نفسه، قالوا: وكان عليه السَّلام قسم الأيام بين نسائه، فلما كان يوم حفصة؛ قالت: يا رسول الله؛ إن لي إلى أبي حاجة نفقة لي عنده، فائذن لي أن أزوره، وآتي بها، فأذن لها، فلما خرجت؛ أرسل رسول الله [صلى الله] عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية أم إبراهيم، وكان قد أهداها له المقوقس، فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها، فأتت حفصة، فوجدت الباب مغلقًا، فجلست عند الباب، فخرج رسول الله ووجهه يقطر عرقًا، وحفصة تبكي، فقال: «ما يبكيك؟»، فقالت: إنَّما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ثم وقعت عليها في يومي، وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقًّا؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، فقالعليه السلام: «أليس هي جارية قد أحلها الله لي؟ اسكتي، فهي علي حرام، ألتمس بذلك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهن، وهو عندك أمانة»، فلما خرج عليه السَّلام؛ قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشرك أنَّ رسول الله عليه السَّلام قد حرم عليه أمته مارية، فقد أراحنا الله منها، وأخبرت عائشة بما رأت، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه عليه السَّلام، فلم تزل بنبي الله عليه السَّلام حتى حلف ألا يقربها، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1]؛ يعني: العسل ومارية، ثم إنَّ عمر رضي الله عنه لما بلغه ذلك؛ دخل على نساء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فوعظهن، وزجرهن، ومن جملة ما قال: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، فأنزل الله هذه الآية، فهذا من جملة ما وافق عمر ربه، ووافقه ربه عز وجل) انتهى، والله تعالى أعلم.
وبالسند إليه قال: (حدثنا ابن أبي مريم) هو سعيد بن محمد بن الحكم؛ كذا في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذر، عن المستملي، قال (أبو عبد الله _أي: المؤلف_: وحدثنا ابن أبي مريم)، وفي رواية ابن عساكر: (قال محمد _أي: المؤلف أيضًا_: وقال ابن أبي مريم)، وفي رواية الأصيلي، عن الحمُّوي والكشميهني: (وقال ابن أبي مريم)، (أخبرنا يحيى بن أيوب) هو الغافقي (قال: حدثني)؛ بالإفراد (حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة، هو الطويل التابعي (قال: سمعت أنسًا)؛ هو ابن مالك الأنصاري (بهذا)؛ أي: بالحديث المذكور سندًا ومتنًا، فهو من رواية أنس، عن عمر، لا من رواية أنس، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فافهم، نبه عليه إمام الشَّارحين، ثم قال: وهذا ذكره البخاري معلقًا هنا، وفي «التفسير» أيضًا، ونص عليه أيضًا خلف وصاحبا «المستخرج»، وهو الظاهر، ووقع في رواية كريمة: (حدثنا ابن أبي مريم)، وهو غير ظاهر؛ لأنَّ البخاري لم يحتج بيحيى بن أيوب، وإنَّما ذكره في الاستشهاد والمتابعة، وقول ابن طاهر: (خرَّج له الشيخان)، فيه نظر؛ لأنَّه نقض كلام نفسه بنفسه؛ لذكره له ترجمة في «أفراد مسلم»، وفائدة ذكر البخاري له تصريح حميد فيه بسماعه إياه من أنس، فحصل الأمن من تدليسه، انتهى.
وزعم الكرماني أنَّ استشهاد المؤلف بهذا الطريق؛ للتقوية؛ دفعًا لما في الإسناد السابق من ضعف عنعنة هشيم، فإنَّه قيل: إنَّه مدلس.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (فيه نظر؛ لأنَّ معنعنات «الصحيحين» كلها مقبولة محمولة على السماع، وكلامه يدل على هذا، فذكره كما ذكرنا هو الواقع في محله)؛ فافهم.
وزعم الكرماني أيضًا: (وإنما لم يعكس المؤلف بأن يجعل هذا الإسناد أصلًا؛ لما في يحيى من سوء الحفظ، ولأنَّ في ابن أبي مريم ما نقله بلفظ النقل والتحديث، بل ذكره على سبيل المذاكرة، ولهذا قال البخاري: قال ابن أبي مريم).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: فيه نظر؛ لأنَّه صرح في رواية كريمة: (حدثنا ابن أبي مريم)، فهو يعكر على ما قاله، والظاهر: أنَّ الكرماني لو اطلع على هذه الرواية؛ لما قال ما ذكره، انتهى.
قلت: والتصريح بالتحديث ثبت أيضًا في رواية أبي ذر عن المستملي: (قال أبو عبد الله: وحدثنا ابن أبي مريم)، والمستملي أحفظ الرواة، فيكون المؤلف نقله على لفظ النقل والتحديث لا على سبيل المذاكرة، كما زعمه الكرماني، فحقيق بأنَّ الكرماني لم يطلع على هذه الروايات، ولو اطلع؛ لما قال ما قال، فإنَّه قد ركب متن عميا، وخبط خبط عشوى؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (بالآخرة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (تكون)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (وجويرة)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (خيرًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أبو)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (حميع)، والمثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (لا يوصف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (العزقط)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (بالآخرة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (تكون)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (وجويرة)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (خيرًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أبو)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (حميع)، والمثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (لا يوصف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (بالآخرة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (تكون)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (وجويرة)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (خيرًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أبو)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (حميع)، والمثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (لا يوصف)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/677)
[حديث: بينا الناس في بقباء]
403# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ هو التنيسي المنْزِل، الدمشقي الأصل، وفي (يوسُف) تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قال: أخبرنا مالك)، كذا للأصيلي وابن عساكر، ولغيرهما: (مالك بن أنس)؛ هو الأصبحي المدني، (عن عبد الله بن دينار) هو المكي التابعي، (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما (قال: بينا) أصله: بين، فأشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، يقال: بينا وبينما، وهما
%ص 543%
ظرفا زمان؛ بمعنى: المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما ألا يكون فيه (إذ) و (إذا)، وقد جاء كثيرًا، تقول: بينا زيد جالس؛ دخل عليه عمرو، وإذ دخل عليه عمرو، وإذا دخل دخل عليه، وبينا هنا: أضيف إلى المبتدأ والخبر، وجوابه قوله: (إذ جاءهم آتٍ) انتهى، قرره إمام الشَّارحين.
(الناس بقُباء)؛ بضمِّ القاف وتخفيف الموحدة بعدها، قال الشَّارح: (وفيه ست لغات: المد، والقصر، والتذكير، والتأنيث، والصرف، والمنع، وأفصحها: المد) انتهى.
قلت: وأفصحها: المد، والتذكير، والتنوين، هذه اللغة المشهورة، والقصر، والتأنيث، وترك الصرف حكاها صاحب «المطالع» عن الخليل، ثم قال إمام الشَّارحين: وهو موضع معروف ظاهر المدينة، والمعنى هنا: بينا الناس في مسجد قباء، وهم (في صلاة الصبح)، واللام في الناس؛ للعهد الذهني؛ لأنَّ المراد: أهل قباء ومن حضر معهم في الصلاة بمسجدهم، وفي حديث البراء بن عازب المتقدم في صلاة العصر، ولا منافاة بين الخبرين؛ لأنَّ الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة، وهم بنو حارثة، ووقت الصبح في اليوم الثاني إلى من هو خارجها، وهم بنو عمرو بن عوف بقباء، قاله إمام الشَّارحين، وقوله: (إذ جاءهم) جواب (بينا)، كما ذكرنا؛ أي: أهل قباء (آتٍ)؛ بالمد، فاعل من: أتى يأتي، فأُعل إعلال قاضٍ، وهذا الآتي هو عبَّاد _بالتشديد_ ابن بشر؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة، قاله في «عمدة القاري»، وتبعه الشراح.
قلت: واقتصر ههنا على هذا الآتي، وفي حديث البراء اختلف فيه هل هو عباد بن بشر أو عباد بن نهيك؟ والأول: قول ابن بشكوال، والثاني: قول أبي عمرو، فالظاهر من جزم إمام الشَّارحين تعيين الأول ههنا، لكن يحتمل أن يكون الثاني؛ فافهم.
(فقال)؛ أي: الآتي: (إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد أنزل عليه الليلة قرآن)؛ بالتنكير؛ لأنَّ المراد البعض، وفي رواية الأصيلي: (القرآن)؛ بالألف واللام التي هي للعهد، وأراد بالقرآن قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ... }؛ الآيات [البقرة: 144]، وأطلق (الليلة) على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازًا، وفيه أيضًا مجاز حيث ذكر الكل، وهو (قرآن)، وأراد الجزء وهو الآيات، كذا قرره إمامنا الشَّارح رضي الله عنه.
(وقد أُمر)؛ بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول؛ أي: أمر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: أمره الحكم العدل سبحانه، وإنَّما حذف للعلم به، وتعظيمه (أن) أي: بأن (يستقبل) أي: باستقبال (الكعبة) فكلمة: (أن) مصدرية مؤولة بمصدر، والمعنى: باستقبالها، كما علمت، (فاستقبَلوها)؛ بفتح الموحدة عند أكثر الرواة على صيغة الجمع من الماضي، والضمير فيه يرجع إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون الضمير راجعًا لأهل قباء؛ يعني: حين سمعوا من الآتي ما بلغهم؛ استقبَلوا الكعبة، وفي رواية الأصيلي: (فاستقبِلوها)؛ بكسر الموحدة على صيغة الأمر للجمع، والأمر فيه لأهل قباء من الرجل الآتي، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قلت: والأظهر أن يكون الضمير راجعًا للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه؛ لأنَّ هذا من تمام كلام الآتي؛ يعني: أنَّه أخبرهم بأنَّ الرسول أمر باستقبال الكعبة، فاستقبلها هو وأصحابه، وأنتم كذلك يجب عليكم استقبالها، فإنَّ هذا صار كالتأكيد للأمر المذكور؛ فافهم.
وقوله: (وكانت وجوههم إلى الشام)؛ من كلام الرجل المخبِر بتغيير القبلة، قاله إمام الشَّارحين، وزعم الكرماني أنه من كلام ابن عمر، انتهى.
قلت: والأظهر أنَّه من كلام الرجل المخبر؛ لأنَّه لما بلغهم ما رأى من تغير القبلة؛ رآهم مستقبلين الشام، فأخبر عنهم بذلك.
قال إمام الشَّارحين: وعلى هذا _أي: أنه من كلام الرجل_؛ تكون الواو للحال، وتكون الجملة حالية على رواية الأكثرين، وهو أن يكون بصيغة الجمع من الماضي، وعلى رواية الأصيلي تكون الواو للعطف، وجاء عطف الجملة الخبرية على الإنشائية، والضمير في (وجوههم) يحتمل الوجهين المذكورين، انتهى؛ يعنى: أنه يحتمل رجوعه للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، ويحتمل رجوعه لأهل قباء.
قلت: والظاهر الأول؛ لأنَّ هذا حكاية عمَّا فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وهو تأكيد للأمر المذكور؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنَّ الأظهر عود الضمير لأهل قباء، ويرجح رواية الكسر أنَّه عند المصنف في «التفسير»: (وقد أمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها)، فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأنَّ الذي بعده أمر لا أنه بقية الخبر الذي قبله.
ورده إمام الشَّارحين فقال: («ألا» في مثل هذا الموضع تكون للتنبيه؛ لتدلَّ على تحقق ما بعدها، ولا يسمى حرف استفتاح إلا في مكان يمهل معناها، وفي ترجيحه الكسر بهذا نظر؛ لأنَّه يعكر عليه).
قوله: (فاستداروا) إذا جعل (وكانت وجوههم)، من كلام ابن عمر، انتهى.
قلت: وما زعمه ابن حجر غير ظاهر، فضلًا عن أن يكون أظهر، بل هو باطل، والصواب: أنَّ الضمير يرجع للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وأصحابه في الوجهين؛ لأنَّ هذا من كلام الرجل المخبر، ساقه؛ لأجل التحقيق والتأكيد على الذي بلَّغهم به، وما زعمه من ترجيح الكسر هذا ممنوع، وترجيح بلا مرجح، فإنَّ الذي عند المؤلف في «التفسير» لا يدل على ترجيحه؛ لأنَّ المراد بقوله: (ألا فاستقبلوها) تحقيق الوقوع، ويدل على بطلان ما زعمه قوله: (فاستداروا)، فإنَّه يدل على أنَّ الرواية بالفتح، وهي الأرجح؛ لموافقة المعنى، أمَّا على ما زعمه؛ فلا يظهر؛ لأنَّ فيه مخالفة المعنى، وصريح اللفظ يرده، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في
%ص 544%
العلم.
(إلى الكعبة) بأن تحول الإمام عن مكانه، ثم تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحول النساء أيضًا حتى صرن خلف الرجال، فأتمَّ الإمام بهم الصلاة، ففي الحديث: دليل على جواز الاجتهاد في أمر القبلة، وأنَّ المصلي إذا صلى إلى جهة بالتحري، ثمَّ تبدل اجتهاده إلى جهة أخرى، فتحول إليها ثم وثم؛ فصلاته جائزة، ولو صلى الصلاة الرباعية إلى أربع جهات بالتحري؛ جائز.
فإن قلت: تحولهم مع الإمام فيه عمل كثير، وهو يفسد الصلاة، فكيف أتمَّ الإمام الصلاة بهم؟
قلت: اختلف في العمل الكثير، فروي عن الإمام الأعظم رضي الله عنه: أنَّه مفوض لرأي المصلي إن استكثره؛ فكثير، وإن استقله؛ فقليل، وروي عنه: أنَّ الحركات الثلاث كثير، وبها أخذ الأئمة المتأخرون، فيقال: إنَّ تحولهم لم يكن بثلاث خطوات، بل كان بخطوة أو خطوتين، ويحتمل أنَّ الخطوات لم تكن متوالية، بل وقعت متفرقة، وهو غير مفسد في الصلاة لتخلل المهلة بينها، ويحتمل أنَّ ذلك كان قبل تحريم المشي في الصلاة، والله أعلم.
وفي الحديث: جواز تعليم من ليس في الصلاة من هو فيها، وأنَّه لا يضر صلاته، وفيه: دليل على أنَّ الخشوع في الصلاة مستحب، وفيه: دليل على جواز استماع المصلي كلام من ليس في الصلاة، وأنَّه لا يضر عليه صلاته، والحديث حجة على المتصوفة حيث زعموا أنَّ الخشوع في الصلاة واجب، وهو باطل؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لأمروا بإعادة الصلاة، فلما دلَّ الحديث على أنَّهم أتموا صلاتهم، ولم يعيدوها؛ تبين أنَّها جائزة وإن حصل فيها عدم الخشوع، وصريح الحديث يدل على عدم وجوب الخشوع في الصلاة، وهو الصواب؛ فافهم، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، وأفعل التفضيل على بابه بإجماع المفسرين، فمن صلى بدون خشوع؛ فهو مفلح من أهل الفلاح، ومن صلى به؛ فهو أفلح، فدل على أنَّه مستحب لا واجب، كما لا يخفى؛ فافهم.
وفي الحديث: أنَّ من لم تبلغه الدعوة، ولم يمكنه استعلام ذلك؛ فالفرض غير لازم له، فحكم النسخ لا يثبت في حقه ما لم يبلغه.
وفي الحديث: جواز قبول خبر الواحد، فلو صلى بالتحري إلى جهة، فجاء رجل وأخبره أنَّ القبلة في جهة أخرى؛ أخذ بقوله، واستدار، وأتمَّ، وهكذا، وكذا لو أخبره أنَّ هذه الذبيحة ذبيحة مسلم؛ فهي طاهرة، أو ذبيحة مجوسي؛ فهي نجسة، ولو أخبره رجلان أحدهما: بأنَّها ذبيحة مسلم، والآخر: أنها ذبيحة مجوسي؛ فلا يأخذ بقولهما؛ لتهاتر الخبرين، وتبقى الذبيحة على الأصل، وهو الحرمة؛ لأنَّه لا تحل إلا بالذكاة الشرعية، ولو أخبره رجلان عن ماء وتهاترا في الطهارة والنجاسة؛ لا يأخذ بقولهما، ويبقى الماء على الأصل، وهو الطهارة الأصلية؛ فافهم.
وفي الحديث: أنَّ الذي يؤمر به النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يلزم أمته.
قلت: وذلك لعدم قيام الدليل على أنَّه خاصٌّ به، ولأمره عليه السَّلام أصحابه باتباعه، فهو دليل اللزوم على العموم.
وفي الحديث: أنَّ أفعاله وأقواله يجب الإتيان بها عند قيام الدليل على الوجوب، ويسن ويستحب بحسب المقام والقرائن، ولكنَّ القول يقدم على الفعل عند المحققين، ويستمر الحكم حتى يقوم الدليل على الخصوصية، كما لا يخفى.
قال إمام الشَّارحين: ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة من حيث الدلالة عليها من الجزء الأول، وهو قوله: (وقد أمر أن يستقبل الكعبة)، ومن الجزء الثاني أيضًا، وذلك لأنَّهم صلوا في أول تلك الصلاة إلى القبلة المنسوخة التي هي غير القبلة الواجب استقبالها جاهلين بوجوبه، والجاهل كالناسي؛ حيث لم يؤمروا بإعادة صلاتهم، انتهى.
وفي الحديث: أنَّه أنزل عليه قرآن، ولم يبينه، وقد بينه إمام الشَّارحين، وهو قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ... }؛ الآيات [البقرة: 144]، واختلفوا في المراد من المسجد الحرام، فحكى البغوي عن ابن عبَّاس أنَّه قال: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك، وقال جماعة: (القبلة: هي الكعبة، والدليل عليه ما خرِّج في «الصحيحين» عن عطاء، عن ابن عبَّاس قال: أخبرني أسامة بن زيد قال: لما دخل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم البيت؛ دعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج منه، فلما خرج؛ ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: «هذه القبلة»)، ورووا أخبارًا كثيرة؛ كلها تدل على أنَّ القبلة هي الكعبة، وقال آخرون: (المراد بالمسجد الحرام: الحرم كله؛ لأنَّ الكلام يجب أن يحمل على ظاهر لفظه إلا إذا منع منه مانع)، وقال جماعة آخرون: المراد من المسجد
%ص 545%
الحرام: الحرم كله، والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [الإسراء: 1] وهو صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما أسري به من خارج المسجد، فدل هذا على أنَّ الحرم كله يسمى بالمسجد الحرام، كذا قاله الإمام الرازي.
قلت: وهذا الدليل منقوض؛ لأنَّه عليه السَّلام أسري به ليلًا من بيته، وكان عليه السَّلام قد صلى في المسجد قبل ذلك، فأطلق الإسراء من المسجد؛ لكونه يُصلى فيه ويتعبد به، على أنَّ حجره عليه السَّلام أبوابها في حائط المسجد، وإسراؤه كان من حجرة عائشة باتفاق المحدثين، فليس فيه دليل على أنَّ الحرم كله يسمى مسجدًا حرامًا؛ فافهم.
ثم ذكر أنَّ فرض من يريد الصلاة عند الشافعي أن يستقبل عين الكعبة، والجهة غير كافية، ونقل عن صاحب «التهذيب»: أنَّ الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام، والقوم يقفون مستديرين بالبيت، فلو امتد الصف في المسجد بحيث ازداد طوله على عرض البيت؛ فإنَّه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة، ومذهب الإمام الأعظم أنَّه يصح؛ لأنَّ إصابة الجهة عنده كافية في صحة الصلاة، واستدل الشافعي: بأنَّ كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك، وقد أوجب الله على كافة المكلفين استقبال القبلة، والمكلف لا يخرج عن عهدة ما كُلف به بالشك.
واحتج الإمام الأعظم رضي الله عنه بأمور من الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول:
أمَّا الكتاب؛ فقوله تعالى: {قَدْ نَرَى ... }؛ الآيات، فظاهرها، بل صريحها يدل على أنَّ إصابة الجهة كافية؛ حيث قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة: 144]؛ يعني: جهته وجانبه، ولأنَّه تعالى أوجب على المكلف أن يولِّي [1] وجهه إلى جانبه، ومن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه، فقد أتى بما أُمر به، سواء كان مستقبلًا للكعبة أو لا، فوجب أن يخرج عن العهدة بإصابة جهة الكعبة، وليس هذا أمر مشكوك؛ لأنَّ الله تعالى أوجب تولي الوجه؛ يعني: البدن كله إلى جهة الكعبة، فهو أمر متيقن، فوجب العمل به.
وأما السُّنة؛ ففي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه عليه السَّلام قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»، فلو كان الفرض إصابة عين الكعبة؛ لما كان ما بينهما قبلة، وذكر الفقهاء: أنَّ استقبال القبلة واستدبارها لغائط أو بول مكروهان، سواء كان في البنيان أو الصحراء؛ لما في «الصحيحين» أنَّه عليه السَّلام قال: «إذا أتيتم الغائط؛ فلا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا»، فإن هذا الحديث أيضًا يدل على أنَّ من لم يشرق أو يغرب في الخلاء؛ فهو مستقبل للقبلة أو مستدبرها، وهو يستلزم أن يكون ما بينهما قبلة، كما لا يخفى.
وأمَّا الإجماع؛ فإنَّ الناس من عهد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا قط مهندسًا عند تعيين جهة القبلة فيها مع أنَّ إصابة عين الكعبة لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة، وحيث اجتمعت الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على صحة ما وقع فيها من الصلوات؛ علمنا أنَّ محاذاة عين الكعبة ليست بشرط، وأيضًا لو كان استقبال عين الكعبة واجبًا؛ لكان تعلم الدلائل الهندسية واجبًا على كل أحد؛ لأنَّ استقبال العين لا سبيل إليه إلا بتلك الدلائل، ولما كان تعلمها غير واجب؛ علمنا أنَّ استقبال العين غير واجب.
وأما المعقول؛ فإن الدائرة وإن كانت عظيمة يكون جميع القطع المفروضة محاذية لمركز الدائرة، والصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة محيطة بالكعبة، والكعبة كأنَّها نقطة لتلك الدائرة إلا أنَّ الدائرة إذا صغرت؛ ظهر التقوس والانحناء في كل واحدة من القطع المفروضة فيها، بل يرى كل قطعة منها شبيهة بالخط المستقيم، فلا جرم صحت الجماعة بصف مستطيل ممتد إلى جانبي المشرق والمغرب يزيد طوله على أضعاف مقدار البيت؛ لكون كل واحد مما فيه متوجهًا إلى عين الكعبة، فأمَّا النقطة المفروضة فيها؛ فإنَّما تكون محاذية لمركزها إذا كان الخط الخارج من كل واحدة منها واقعًا على المركز محاذيًا لها، ومجرد كونها من أجزاء الدائرة لا يستلزم ذلك، وهو ظاهر في أنَّ استقبال العين ليس بواجب، وإنما الواجب هو استقبال السمت والجهة، ومعنى استقبال السمت: أنا لو فرضنا خطًّا مستقيمًا من نقطة من النقط المفروضة في دائرة الأفق مارًّا على الكعبة واصلًا إلى النقطة المقابلة على الاستقامة؛ لكان الخط الخارج من جبين المصلي إلى ذلك الخط المار بالكعبة على استقامة من غير أن تكون إحدى الزاويتين الحادتين في الملتقى حادة والأخرى منفرجة، بل يحصل هناك قائمان، أو نقول: هو أن تقع الكعبة فيما بين خطين يلتقيان في الدماغ ليخرجا إلى العينين؛ كما في المثلث.
وذكر صاحب «الذخيرة» و «الكافي» و «النهاية»: (أنَّ من كان بمكة؛ ففرضه إصابة عينها إجماعًا حتى لو صلى مكيٌّ في بيته؛ ينبغي أن يصلي بحيث لو أزيلت الجدران؛ يقع الاستقبال على عين الكعبة، بخلاف الآفاقي فإنَّ فرضه إصابة جهتها لا عينها في الصحيح)، وهذا قول الشيخ أبي الحسن الكرخي، والشيخ أبي بكر الرازي؛ لأنَّه ليس في وسع المصلي سوى هذا، والتكليف بحسب الوسع، واحترز بـ (الصحيح) عن قول أبي عبد الله الجرجاني، فإنَّه قال: (من كان غائبًا عن الكعبة؛ ففرضه إصابة عينها؛ لأنَّه لا فضل في النص)، وهو قول الشافعي.
وثمرة الخلاف تظهر في اشتراط نية عين الكعبة، فعلى قول الجرجاني والشافعي؛ يشترط، وعلى
%ص 546%
قول الكرخي والرازي؛ لا يشترط، وهذا لأنَّ إصابة عينها لما كانت فرضًا عند الجرجاني والشافعي، ولا يمكن إصابة عينها حال غيبته عنها إلا من حيث النية؛ عينها، وعند الكرخي والرازي، لما كان الشرط في حق من غاب عنها إصابة جهتها، وإصابة الجهة لا تتوقف على نية العين؛ قالا: (لا حاجة إلى اشتراط نية العين)، وذكر الزندوستي: (أنَّ الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام، والحرم قبلة العالم)، وقيل: إنَّ مكة وسط الدنيا، فقبلة أهل المشرق إلى المغرب عندنا، وقبلة أهل المغرب إلى المشرق، وقبلة أهل المدينة إلى عين من توجه إلى المغرب، وقبلة أهل الحجاز إلى بيان من توجه إلى المغرب؛ كذا في «النهاية» و «الذخيرة».
والحاصل: أنَّ الأئمة الحنفية وكذا الشافعية متفقون على أنَّ القبلة في حق من عاين البيت: هي عين البيت، وفي حق من غاب عن البيت وبعُد: هي سمت البيت وجهته، وخالف الشافعية والجرجاني، فزعموا أنَّ من غاب عنها هي عين الكعبة، وقولهم لا شاهد له؛ فليحفظ، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يول)، وليس بصحيح.
==================
(1/678)
[حديث: صلى النبي الظهر خمسًا فقالوا: أزيد في الصلاة]
404# وبالسند إليه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان البصري، (عن شعبة) هو ابن الحجاج، الواسطي، ثم البصري، (عن الحكم)؛ بفتحتين، هو ابن عُتَيْبة؛ بضمِّ العين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون التحتية بعدها موحدة، (عن إبراهيم) هو ابن يزيد النخعي، (عن علقمة) هو ابن قيس النخعي، (عن عبد الله) هو ابن مسعود الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: صلى النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) بمسجده النبوي (الظهر) وعند الطبراني أنها: (العصر)، فنقص في الرابعة، ولم يجلس حتى صلى الخامسة، وهو يوافق قوله: (خمسًا)؛ أي: خمس ركعات؛ يعني: أنه قعد على رأس الرابعة، ثم قام إلى الخامسة ساهيًا، وقيدها بسجدة، (فقالوا) أي: الصحابة: (أزيد في الصلاة؟)؛ الهمزة فيه للاستفهام، ومعناه: السؤال عن حدوث شيء من الوحي يوجب الزيادة في الصلاة على ما كانت معهودة، (قال) عليه السَّلام: (وما ذاك؟) سؤال من لم يشعر بما وقع منه، ولا يتبين عنده، ولا غلبه [1] ظن، وهو خلاف ما عندهم؛ حيث (قالوا: صليت خمسًا)؛ أي: خمس ركعات زيادة على المعهود، فلما سمع عليه السَّلام ما قالوه؛ أخذ بقولهم، فبادر، (فثنى)؛ بخفيف النون، مشتق من: الثني؛ أي: عطف، والمعنى: أنَّه جلس على هيئة قعود التشهد (رجليه)؛ بالتثنية، وعند ابن عساكر: (رجله)؛ بالإفراد، (وسجد سجدتين)؛ أي: للسهو، ففي الحديث: جواز وقوع السهو من الأنبياء عليهم السلام، وفيه: جواز النسيان في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام، ولا حجة فيه لمن زعم أنَّ كلام الناسي وغيره لا يبطل الصلاة؛ لأنَّ هذا الحديث منسوخ؛ لأنَّ الكلام كان مباحًا في صدر الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]؛ أي: ساكتين، وبقوله عليه السَّلام: «إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنَّما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، فهذا نص صريح على تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان عامدًا أو ناسيًا، جاهلًا أو مخطئًا، إمامًا أو منفردًا أو مقتديًا، لمصلحة أو غيرها، فإن احتاج إلى تنبيه الإمام أو غيره؛ سبح إن كان رجلًا، وصفقت إن كانت امرأة؛ لقوله عليه السَّلام: «أيها الناس؛ مالكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم بالتصفيق، إنَّما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله، فإنَّه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت»، أخرجه الشيخان، والطحاوي، والنسائي، وأبو داود.
وفيه: دليل على أنَّ سجود السهو سجدتان.
وفيه: دليل على أنَّ سجود السهو بعد السلام؛ لأنَّه عليه السَّلام قد صلى خمسًا، وسلم من الصلاة، ولما قالوا له: (أزيد؟) رجع إلى قولهم، وعاد إلى حرمة الصلاة، وسجد للسهو، ثم سلم، وهذا اختصار من الراوي قد دلَّ عليه الرواية السابقة، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا، وهو حجة على من زعم أنَّ سجود السهو قبل السلام.
وفيه: دليل على أنَّ الإمام إذا سها في صلاته في عدد ركعاتها؛ يرجع إلى قول المأمومين خلفه؛ لأنَّه عليه السَّلام قد رجع إلى قول أصحابه، وبنى عليه، وأتم صلاته؛ بدليل قوله: (فثنى رجليه)، فأتى بالفاء التعقيبية؛ يعني: لمَّا قالوا له؛ عقَّبه بثني رجليه، وعلى كلٍّ؛ لا يخلو عن الرجوع، سواء كان رجوعه للتذكر أو لغيره، كما قدمناه، وهو حجة على من زعم أنَّه لا يجوز رجوع الإمام إلى قول غيره؛ فافهم.
وفيه: دليل على أنَّ سجود السهو في آخر الصلاة.
قال إمام الشَّارحين: ومطابقة الحديث للترجمة التي هي قوله: (ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى) ظاهرة؛ لأنَّه عليه السَّلام سها فصلى، ولم يعد تلك الصلاة، ووجه احتجاج البخاري بهذا الحديث هو أنَّ إقباله على الناس بوجهه بعد انصرافه بعد السلام كان في غير صلاته؛ لأنَّه كان في وقت استدبار القبلة في حكم المصلي؛ لأنَّه لو خرج من الصلاة؛ لم يجز له أن يبني على ما مضى منها، فظهر بهذا أنَّ من أخطأ القبلة لا يعيد) انتهى؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (غلبة).
%ص 547%
==================
(1/679)
(33) [باب حك البزاق باليد من المسجد]
ولما فرغ المؤلف من بيان أحكام القبلة؛ شرع في بيان أحكام المساجد فقال: (باب)؛ أي: هذا باب في بيان (حكِّ البزاق باليد) سواء كان بآلة أو لا (من المسجد) الألف واللام فيه؛ للجنس، فيعم كل مسجد، والبزاق؛ بالزاي لغة مشهورة، وكذلك بالصاد المهملة، ويقال: بالسين المهملة، لكنها لغة ضعيفة؛ وهو ما يتفل من الفم مطلقًا، سواء كان من فم الإنسان أو غيره، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==========
%ص 547%
==================
(1/680)
[حديث: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه]
405# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قُتَيْبَة)؛ بضمِّ القاف، وفتح الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة، هو ابن سعيد الثقفي البلخي (قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر) هو الأنصاري المدني، (عن حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة، هو ابن أبي حميد تير، الخزاعي، البصري، المشهور بالطويل، (عن أنس)، زاد الأصيلي: (ابن مالك) هو الأنصاري خادم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتعدد هذا الحديث عن أنس، وأبي هريرة، وعائشة عند مسلم، والمؤلف، والنسائي، وأبي داود تنفي تهمة تدليس حُميد؛ فافهم.
(أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم رأى)؛ أي: أبصر، فهي
%ص 547%
بصرية تقتضي مفعولين؛ أحدهما: قوله: (نُخَامَة)؛ بضمِّ النون، وفتح الخاء المعجمة والميم، بينهما ألف، وهي النخاعة، يقال: تنخم الرجل: إذا تنخع، وفي «المطالع»: (النخامة: ما يخرج من الصدر، والبصاق: ما يخرج من الفم، والمخاط: ما يسيل من الأنف)؛ كذا في «عمدة القاري»، فما زعمه القسطلاني من أنَّها: (ما يخرج من الرأس) خطأ ظاهر؛ لأنَّ الذي يخرج من الرأس هو المخاط لا النخامة؛ فافهم، (في القبلة): هو على حذف تقديره: في حائط المسجد الذي في جهة القبلة، والمفعول الثاني: محذوف تقديره: ملقاة في القبلة؛ فافهم.
(فشق ذلك عليه)؛ يعني: كره عليه السَّلام هذا الفعل (حتى رُؤِيَ)؛ بضمِّ الراء، وكسر الهمزة، وفتح التحتية، وللأصيلي وأبي ذر: (حتى رِيْء)؛ بكسر الراء وسكون التحتية آخره همزة؛ أي: شوهد أثر المشقة (في وجهه) المنير، وفي رواية المؤلف في «الأدب» من حديث ابن عمر: (فتغيظ على أهل المسجد)، وعند النسائي عن أنس قال: رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار، فحكتها، وجعلت مكانها خلوفًا، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما أحسن هذا!»، وفي كتاب أبي نعيم: «من ابتلع ريقه؛ إعظامًا للمسجد، ولم يمح اسمًا من أسماء الله ببزاق؛ كان من خيار عباد الله»، وذكر ابن خالويه عن أنس: أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما رأى نخامة في المحراب؛ قال: «من إمام هذا المسجد؟»، قالوا: فلان، قال: «قد عزلته»، فقالت امرأته: لم عزل النبيُّ زوجي عن الإمامة؟ فقال: رأى نخامة في المسجد، فعمدت إلى خلوف طيب، فخلَّقت به المحراب، فاجتاز عليه السَّلام بالمسجد، فقال: «من فعل هذا؟» قال: امرأة الإمام، قال: «قد وهبت ذنبه لامرأته، ورددته إلى الإمامة»، فكان هذا أول خلوق كان في الإسلام؛ كذا في «عمدة القاري»، (فقام) عليه السَّلام، (فحكه) أي: أثر النخامة (بيده) الشريفة.
فإن قلت: في الحديث الحك باليد من غير ذكر آلة، وكذلك الترجمة.
قلت: وقوله في الحديث: «بيده» وفي الترجمة باليد أعم من أن يكون فيها آلة أو لا، على أنَّ أبا داود روى عن جابر قال: (أتانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجدنا، وفي يده عرجون ابن طاب، فنظر، فرأى في قبلة المسجد نخامة، فأقبل عليها، فحتها بالعرجون ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أنَّه باشر بيده بعرجون فيها، والعُرجون_بضمِّ العين المهملة_: وهو العود الأصفر الذي فيه الشماريخ إذا يبس واعوج، وهو من الانعراج، وهو الانعطاف، وجمعه: عراجين، والواو والنون فيه زائدتان، وقوله: (ابن طاب): هو رجل من أهل المدينة ينسب إليه نوع من تمر المدينة، ومن عادتهم أنَّهم ينسبون ألوان التمر كل لون إلى أحد، ومع هذا يحتمل تعدد القصة، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: والظاهر أنَّ القصة متعددة، والأصل في اليد أن تكون بغير آلة، وقد يقال: يحتمل اتحاد القصة، ويكون الحديث المطلق هنا هو المقيد عند أبي داود، فهو من باب حمل المطلق على المقيد؛ فتأمل.
(فقال) عليه السَّلام، ولابن عساكر: (وقال): (إن أحدكم إذا قام في صلاته) الفرق بين قام في الصلاة، وقام إلى الصلاة: أن الأول: يكون بعد الشروع، والثاني: عند الشروع، قاله في «عمدة القاري»، (فإنَّه يناجي ربه) عزَّ وجلَّ، والمناجاة والنجوى؛ هو السر بين الاثنين، يقال: ناجيته؛ أي: ساررته، وكذلك: نجوته نجوًا، ومناجاة الرب مجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة الحقيقية؛ إذ لا كلام محسوسًا بينهما إلا من طرف العبد، فيكون المراد لازم المناجاة، وهو إرادة الخير، ويجوز أن يكون من باب التشبيه؛ أي: كأنه يناجي ربه، والتحقيق فيه: أنَّه شبه العبد وتوجهه إلى ربه تعالى في الصلاة وما فيها من القراءة، والأذكار، وكشف الأسرار، واستنزال رحمته، ورأفته، مع الخضوع والخشوع بمن يناجي مولاه ومالكه، فمن شرائط حسن الأدب: أن يقف محاذيه، ويطرق رأسه، ولا يمد بصره إليه، ويراعي جهة إمامه حتى لا يصدر من تلك الهيئات شيء وإن كان الله منزهًا عن الجهات؛ لأنَّ الآداب الظاهرة والباطنة مرتبط بعضها ببعض، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: فيكون المعنى على الأول: أنَّ العبد في صلاته يطلب الرحمة، والبركة، والعفو، والغفران، ودخول الجنان من خالقه بفضله تعالى.
(أو أن)؛ بفتح الهمزة وكسرها؛ كما في «اليونينية»، ولأبي ذر عن الحمُّوي والمستملي: (وأن)؛ بواو العطف، ورواية الأكثرين بالشك (ربه)؛ أي: اطلاع أو رحمة ربه على ما (بينه وبين القبلة) فإنَّ هذا الكلام لا يصح على ظاهره؛ لأنَّ الله تعالى منزه عن الحلول في المكان، فالمعنى على التشبيه؛ أي: فإنَّه بينه وبين القبلة، قاله الشَّارح، وقال الخطابي: (معناه: أنَّ توجهه إلى القبلة مفضٍ بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير: كأنَّه مقصوده بينه وبين قبلته، فأمر أن تصان تلك الجهة عن البزاق ونحوه من أثقال البدن)، وقال ابن بطال: (وظاهر هذا محال؛ لأنَّ الرب منزَّه عن المكان، فيجب على المصلي إكرام قبلته بما يكرم به من يناجيه من المخلوقين عند استقبالهم بوجهه، ومن أعظم الجفاء وسوء الأدب أن تتنخم في توجهك إلى رب الأرباب، وقد أعلمنا الله بإقباله على من توجه إليه) انتهى.
(فلا يبزقنَّ)؛ بنون التوكيد الثقيلة، وللأصيلي: (فلا يبزق)؛ بإسقاطها (أحدكم)؛ أي: المخاطبون، وهم الصحابة رضي الله عنهم، وليس المراد التخصيص، بل المراد عموم جميع الأمة، كما لا يخفى (قِبَل) بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (قبلته): التي عظمها الله تعالى، فلا تقابل بشيء يقتضي الاحتقار والاستخفاف بها؛ كالبزاق وغيره، فإنَّ الله تعالى جعله مرجعًا للزائرين من حيث إنَّهم لا يقضون منه وطرًا بزيارته مرة أو مرتين، بل كلما أتوه وانصرفوا عنه؛ اشتاقوا إلى الرجعة إليه؛ لما اعتقدوا في زيارته من الفوائد المتعلقة بمحو الخطيئات ورفع الدرجات ما لم يعتقدوا مثله في سائر الأعمال، ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ... } إلى أن قال
%ص 548%
تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ... }؛ الآيات [البقرة: 125]، ولأنَّ الجلوس في المسجد الحرام ناظرًا إلى الكعبة من جملة العبادات المرضية؛ بدليل ما روي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ لله في كل يوم وليلة مئة وعشرين رحمة، تنزل على هذا البيت ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين»، وجعله تعالى أمنًا من القحط، ومن الجدب، والخسف، والمسخ، والزلازل، والغارات، والجنون، والجذام، والبرص، ونحوها من البلايا التي تخل بالبلد، وجعل سبحانه من التجأ إليه آمنًا من القتل، ومن الأسباب الموجبة للقتل، فمن جنى خارج الحرم، كما لا يقتل في الحرم؛ لا يخرج منه ليقتل خارج الحرم عند الجمهور، (ولكن) يبزق (عن يساره)؛ أي: لا عن يمينه؛ تشريفًا لليمين، ولا أمامه؛ تشريفًا للقبلة، وجاء في رواية البخاري: (فإنَّ عن يمينه ملكًا)، وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: «لا يبزق عن يمينه؛ فعن يمينه كاتب الحسنات، ولكن يبزق عن شماله أو خلف ظهره»، وقوله: (فإنَّ عن يمينه ملَكًا) دليل على أنَّه لا يكون حالتئذٍ عن يساره ملَك؛ فإنَّه في طاعة، لا يقال: يخدشه قوله عليه السَّلام: «إنَّ الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا عند الخلاء والجماع»؛ لأنَّا نقول: هذا حديث ضعيف لا يحتج به، قاله إمام الشَّارحين.
(أو تحت قدميه)؛ بالتثنية، ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: (قدمه)؛ بالإفراد؛ يعني: اليسرى؛ كما في حديث أبي هريرة في الباب الذي بعده، وزاد أيضًا من طريق همام عن أبي هريرة: (فيدفنها)، كما سيأتي، وزعم النووي أنَّ هذا في غير المسجد، أمَّا فيه؛ فلا يبزق إلا في ثوبه، انتهى.
قلت: يرده سياق الحديث؛ لأنَّه يدل على أنَّه في المسجد، ويدل عليه حديث أبي هريرة: أنَّه يدفنها، فدل هذا على أنَّه في المسجد، وأنَّ كفارتها دفنها، وسيأتي؛ فافهم.
(ثم أخذ) عليه السَّلام (طرف رِدائه)؛ بكسر الراء؛ هو ما يتزر به للنصف الأعلى، (فبصق فيه) بالصاد المهملة، (ثم رد بعضه على بعض): ففيه البيان بالفعل؛ ليكون أوقع في نفس السامع؛ فافهم.
(فقال) عليه السَّلام: (أو يفعل هكذا): عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك؛ أي: ولكن يبزق عن يساره أو يفعل هكذا، وليست كلمة (أو) ههنا للشك، بل للتنويع؛ ومعناه: أنَّه مخير بين هذا وهذا، قاله إمام الشَّارحين، واعترضه القسطلاني، فزعم أنَّه سيأتي أنَّ المؤلف حمل هذا الأخير على ما إذا بدره البزاق، وحينئذٍ فـ (أو) للتنويع، انتهى.
قلت: مراده أنَّ إمام الشَّارحين جعل (أو) للتنويع؛ أي: التخيير بين الثلاثة، وهو ظاهر حديث الباب، وأنَّ المؤلف جعل التخيير في الأوليين، وحمل الثالث على ما إذا بدره البزاق.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإنَّ المؤلف قد جعل هذا ترجمة في باب سيأتي، وذكر حديثه، والحديث ليس فيه مطابقة لما ترجم له؛ لأنَّه ليس فيه ذكر أنَّه بدره البزاق، فالحمل من عنده، وهو مخالف لصريح أحاديث الأبواب الآتية، فلا يعتد به، نعم؛ لو كان مذكورًا في الحديث؛ فهو مقبول، والبحث في النقول غير مقبول على أنَّ ظاهر الأحاديث بل صريحها أنَّ التخيير في الثلاثة مطلقًا، سواء بدره البزاق أو لا، كما لا يخفى؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: تعظيم المساجد عن أثقال البدن، وعن القاذورات بالطريق الأولى، وفيه: احترام جهة القبلة، وفيه: إزالة البزاق وغيره من الأقذار من المسجد، وفيه: إذا بزق؛ يبزق عن يساره، ولا يبزق أمامه؛ تشريفًا للقبلة، ولا عن يمينه؛ تشريفًا لليمين، واعلم أنَّ البصاق في المسجد خطيئة مطلقًا، سواء احتاج إليه أم لا، فإن احتاج؛ يبزق في ثوبه [1]، فإن بزق في المسجد؛ يكون خطيئة، وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفنها) انتهى.
قلت: والظاهر أنَّ الذي أُعدَّ في المسجد من زمن واقفه؛ كالحياض المعدة للوضوء في المساجد، فإنَّه لو بزق في مجاريها؛ لا بأس به، أمَّا ما حدث بعد الواقف كالبحرة التي وسط برَّاني الجامع الشريف الأموي، والحنفيات المتخذة في جُوَّانيه؛ فالظاهر أنَّه لا يجوز البساق فيها؛ لأنَّ مكانها كان مسجدًا، فإنَّ الأولى أحدثها عثمان باشا، والثانية من وصية داود باشا، فكان البازق يبزق في المسجد، فلا يجوز، وهذا غفلة عظيمة من علمائنا الشاميين؛ فافهم.
وقول القاضي عياض: (البزاق في المسجد ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه، أمَّا من أراد دفنه؛ فليس بخطيئة)، رده إمام الشَّارحين بأنَّه غير صحيح، والحق ما ذكرناه، انتهى.
قلت: يعني: أنَّه خطيئة مطلقًا؛ لأنَّه عليه السَّلام لما رآه في حائط المسجد؛ حكه وأزاله، وهو دليل على أنَّها خطيئة، كما سيأتي.
واختلفوا في المراد بدفنه؛ فذهب الإمام الأعظم والجمهور: إلى أنَّ دفنه بتراب المسجد ورمله وحصبائه إن كانت هذه الأشياء فيه؛ وإلا؛ فيخرجها من المسجد.
قلت: وإلقاؤها في فعله ونحوه دفن لها، كما لا يخفى.
وزعم أصحاب الشافعي أنَّ عليه إخراجها مطلقًا، وقيل: إن لم تكن المساجد تربة وكانت ذات حصر؛ فلا يجوز إلقاؤها، وفي الحديث: دليل على أنَّ البزاق طاهر، وكذا النخامة، وليس فيه خلاف إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي أنَّه يقول: (البزاق نجس)، وقال القرطبي: (الحديث دال على تحريم البصاق في القبلة، وأنَّ الدفن لا يكفيه).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هو كما قال، وأنَّ في دفنه كفارته).
قلت: يعني: أنَّ النهي في الحديث يقتضي التحريم، وأنَّ الدفن يكفي؛ لأنَّه عليه السَّلام صرح بأنَّ الدفن يكفي، ولا فرق فيه بين أن يكون في ثوبه أو في التراب ونحوه؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وقيل: النهي للتنزيه، والأصح أنَّه للتحريم).
قلت: ويدل عليه إطلاق النهي في الحديث، فإنَّه يقتضي التحريم، ويدل عليه ما في «صحيح ابن خزيمة» و «صحيح ابن حبان» من حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «من تفل تجاه القبلة؛ جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه»، وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعًا: «يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه»، وروى أبو داود من حديث أبي سهلة السائب بن خلاد قال: من أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم
%ص 549%
أنَّ رجلًا أمَّ قومًا، فبصق في القبلة ورسول الله ينظر، فقال عليه السَّلام حين فرغ: «لا يصلي لكم»، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله، فذكر ذلك لرسول الله، فقال: «نعم»، وأحسبه قال: «إنَّك آذيت الله ورسوله»؛ والمعنى: أنَّه فعل فعلًا لا يرضي الله ورسوله، وروى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله قال: أتانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب، كما ذكرناه فيما سبق، وفي رواية مسلم: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل [2] ربه، فيتنخع أمامه، أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ ... »؛ الحديث، فهذا يدل على أنَّ المراد بالنهي التحريم؛ لأنَّه قد اقترن بالوعيد، ولا سيما أنَّه مؤذٍ لله ولرسوله، وهو يدل على التحريم، كما لا يخفى.
==================
[1] زيد في الأصل: (في ثوبه).
(1/681)
[حديث: إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه]
406# وبالسند إليه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل [1] (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن نافع): مولى ابن عمر المدني، (عن عبد الله بن عمر): هو ابن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى)؛ أي: أبصر، فتقتضي مفعولين أحدهما: قوله: (بصاقًا)؛ بالصاد المهملة؛ وهو ما يسيل من الفم (في جدار القِبْلة)؛ بكسر القاف، وسكون الموحدة، وفي رواية أبي ذر عن المستملي: (في جدار المسجد).
قلت: وهي أعم من كونه في جدار القبلة، أو في الشمال، أو غيرهما، لكن بقية الحديث يدل على أنَّ المراد بجدار المسجد إنَّما هو القبلي، وقد يقال المراد الأعم، فإنَّ جميع جدران المسجد الأربع منهيٌّ عن البصاق فيها، كما لا يخفى، وإنمَّا خصص القبلي؛ لشرفه من حيث الاستقبال.
(فحكه)؛ أي البصاق إمَّا بيده، كما في الحديث السابق، وإمَّا بالعرجون، كما في حديث أبي داود، (ثم أقبل على الناس)؛ أي: بوجهه المنير، وهذا شامل لأمرين؛ أحدهما: أنه فرغ من صلاته، فرأى البصاق فحكه، ثم أقبل على الناس، والثاني: أنه كان يخطب لهم، فرأى البصاق فنزل، فحكه، ثم أقبل على الناس، ويدل للثاني ما في رواية المؤلف في أواخر (الصلاة) من طريق أيوب عن نافع في قبلة المسجد: (ثم نزل فحكها بيده)، فهذه تدل على أنه كان في حالة الخطبة، وقد صرح الإسماعيلي بذلك في روايته من طريق شيخ المؤلف وزاد فيه قال: (وأحسبه دعا بزعفران، فلطخه به)، وزاد عبد الرزاق في روايته عن معمر، عن أيوب: (فلذلك صنع الزعفران في المساجد).
قلت: وإنما خص الزعفران؛ لأنَّ فيه رائحة طيبة، وشكله وصفته مستحسنة مناسبة للمساجد، والظاهر أنه كان طريًّا حيث لطخه بالزعفران؛ لأنَّ اليابس لا يعلق عليه شيء من ذلك؛ فافهم.
(فقال) لهم: (إذا كان أحدكم يصلي) سواء كان في المسجد، أو في البيت، أو في غيرهما؛ (فلا يبصق) بالصاد المهملة، والجزم على النهي (قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (وجهه): والمراد: مقابل وجهه، وهو قدامه؛ لأنَّ ذلك يخل بالخشوع، ويشغل الفكر، ويسخط الرب، ولهذا قال: (فإن الله قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (وجهه)؛ أي: وجه المصلي، وهذا على سبيل التشبيه؛ أي: فإن الله في مقابل وجهه؛ أي: القصد منه تعالى، وقيل المراد: عظمته ورحمته، وقيل: ثوابه ونحو ذلك، فلا يقابل هذه الجهة بالبزاق الذي هو للاستخفاف لمن يبزق إليه وتحقيره، (إذا صلى) سواء كانت فريضة، أو واجبة، أو نافلة، وهذا يدل على أن البصاق في القبلة منهي عنه، سواء كان في المسجد أو غيره، كما ذكرنا؛ لأنَّ اللفظ والتعليل عامٌّ.
ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث أنَّ المتبادر إلى الفهم من إسناد الحك إليه أنه كان بيده، وأن المعهود من جدار القبلة: جدار قبلة مسجد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كما قاله إمام الشَّارحين قال: (وبهذا التقرير يسقط سؤال من يقول: إن هذا الحديث لا يدل إلا على بعض الترجمة، ولا يعلم أن الحك كان بيده، ولا من المسجد؛ فافهم) انتهى.
قلت: لأنَّ الأصل في الحك أن يكون باليد؛ لأنَّه المتبادر، وأن الأصل بالصلاة أن تكون بمسجده عليه السَّلام؛ لأنَّه لم يكن وقتئذٍ مسجد غيره، فالحديث مطابق للترجمة كلها لا بعضها، كما لا يخفى.
==========
[1] في الأصل: (التنيسي الأصل، الدمشقي المنزل)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
%ص 550%
==================
(1/682)
[حديث: أن رسول الله رأى في جدار القبلة مخاطًا فحكه]
407# وبالسند إليه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسيالمنزل، الدمشقي الأصل [1] (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن هِشام بن عُروة)؛ بكسر الهاء في الأول، وضم العين المهملة في الثاني، (عن أبيه): هو عُروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة أم المؤمنين): هي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: (إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) أي: أبصر (في جدار القبلة)؛ أي: جدار قبلة مسجد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (مُخَاطًا)؛ بضمِّ الميم، وفتح الخاء المعجمة؛ وهو ما يسيل من الأنف، (أو بصاقًا)؛ بالصاد المهملة؛ هو ما يسيل من الفم، (أو نُخَامة)؛ بضمِّ النون، وفتح الخاء المعجمة؛ هي ما تخرج من الصدر، كما نص عليه في «المطالع»، وقول القسطلاني: (النخامة _بالميم_: من الرأس، والنخاعة _بالعين_: من الصدر): خطأ؛ لأنَّ هذه التفرقة لم تذكر في كتب اللغة، وإنما الذي نص عليه اللغويون: (أنَّ النخامة _بالميم_، ويقال فيها: النخاعة _بالعين_: هو ما يخرج من الصدر)، كما قدمناه؛ فافهم.
قال إمام
%ص 550%
الشَّارحين: هكذا وقع في «الموطأ» بالشك كما هنا، وفي رواية الإسماعيلي من طريق معن عن مالك: (أو نخاعًا) بدل: (مخاطًا) انتهى.
قلت: والشك يحتمل من عائشة، ويحتمل من هشام، والظاهر الأول؛ فافهم.
(فحكه)؛ أي: الذي رآه في الجدار بيده الشريفة؛ لأنَّه الأصل، فهو مطابق للترجمة، كما لا يخفى، وفي الحديث: دليل على أنَّ البصاق والمخاط والنخامة طاهر، وأنَّ من دفنه بثوب وصلى فيه؛ فصلاته جائزة، وفيه: وجوب إزالة الأوساخ والزبالات من المسجد، فإن كل ما يؤذي العين يؤذي المسجد، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (التنيسي الأصل، الدمشقي المنزل)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
==================
(1/683)
(34) [باب حك المخاط بالحصى من المسجد]
هذا (باب) بيان حكم (حك) أي: إزالة (المُخاط)؛ بضمِّ الميم؛ أي: ما يسيل من الأنف (بالحصى): وللأصيلي: (بالحصباء)، والمراد الأعم؛ يعني: سواء كان بالحصى، أو العود، أو نحوهما (من المسجد)؛ الألف واللام فيه للجنس، والمراد: جميع المساجد التي يصلى فيها.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: ذكر في الباب السابق حك البصاق باليد، وذكر هنا حك المخاط بالحصى، فهل فيه زيادة فائدة؟
قلت: نعم؛ ذلك، فإن المخاط غالبًا يكون له جرم لزج، فيحتاج في قلعه إلى معالجة، وهي بالحصى ونحوه، والبصاق ليس فيه ذلك، فيمكن نزعه بلا آلة، إلا أن يقال: إن خالطه بلغم؛ فحينئذٍ يلحق بالمخاط) انتهى.
قلت: والمناسبة بينهما ظاهرة؛ لأنَّ كلًّا منهما في إزالة ما على جدار المسجد.
(وقال ابن عبَّاس): هو عبد الله، حَبر هذه الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنهما: (إن وطئت على قذر)؛ بالذال المعجمة؛ أي: طاهر؛ كالمخاط ونحوه (رطب) أي: في المسجد؛ (فاغسله)؛ لأنَّه يعلق بالرجل، فلا يزول بغير الماء؛ للزوجته، (وإن كان) أي: القذر المذكور (يابسًا؛ فلا)؛ أي: فلا تغسله، بل يكفي حكه؛ لأنَّه لا يعلق منه بالرجل شيء، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة بسند صحيح، وقال في آخره: (وإن كان يابسًا؛ لم يضره)، وزعم القسطلاني أن القذر أعم من كونه طاهرًا أو نجسًا، وهو ممنوع؛ لأنَّ المراد بالقذر: الطاهر فقط، يدل عليه أن الواطئ عليه في المسجد، وأنه يريد الصلاة، والقذر النجس لا يكون في المسجد، وعلى ما زعمه لا يكون في التعليق مطابقة للترجمة، وهو خلاف مراد المؤلف، كما لا يخفى.
وقال إمام الشَّارحين: ووجه مناسبة هذا التعليق للترجمة: أنَّ في حديث الباب حك النخامة بالحصى، وفي الترجمة: حك المخاط بالحصى، وهذا يدل على أنه كان يابسًا؛ لأنَّ الحك لا يفيد في رطبه؛ لأنَّه ينتشر به، ويزداد التلوث، فظهر الفرق بين رطبه ويابسه وإن لم يصرح به في ظاهر الحديث، ففي الرطب يزال بما يمكن إزالته به، وفي اليابس بالحصاة ونحوها، فكذلك في أثر ابن عبَّاس الفرق حيث قال: (إن كان رطبًا؛ فاغسله، وإن كان يابسًا؛ فلا)؛ أي: فلا يضرك وطؤه، فتكون المناسبة بينهما من هذه الحيثية، وهذا القدر كاف؛ لأنَّه إقناعي لا برهاني، انتهى.
وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر، فزعم أن مطابقة الأثر المذكور للترجمة الإشارة إلى أن العلة في النهي احترام القبلة لا مجرد التأذي بالبزاق ونحوه، فلهذا لم يفرق بينه وبين رطب ويابس، بخلاف ما علة النهي فيه مجرد الاستقذار؛ فلا يضر وطء اليابس منه.
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا تعسُّف، وبعد عظيم؛ لأنَّ قوله: (النهي فيه احترام القبلة ... ) إلخ: غير موجه؛ لأنَّ علة النهي فيه احترام القبلة، وحصول التأذي منه، كما ذكرنا في حديث أبي سهلة: «إنَّك آذيت الله ورسوله»، وحصول الأذى فيه هو ما ذكره في الحديث: «فإنَّ الله قبل وجهه إذا صلى»، وبزاقه إلى تلك الجهة أذًى كبير، وهو من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم؛ ومعناه: لا يرضى الله به ولا يرضى به رسوله أيضًا، وتأذيه عليه السَّلام من ذلك هو أنه نهاه عنه ولم ينته، وفيه ما فيه من الأذى، فعلم من ذلك أن العلة العظمى هي حصول الأذى مع ترك احترام القبلة، والحكم يثبت بعلل شتى.
وقوله: (بخلاف ما علة النهي فيه مجرد ... ) إلخ: غير صحيح؛ لأنَّ علة النهي فيه كونه نجسًا، ولم يسقط عنه صفة النجاسة غير أن وطء يابسه لا يضره؛ لعدم التصاقه بالجسم، وعدم التلوث لا لمجرد كونه يابسًا حتى لو صلى على مكان عليه نجس يابس؛ لا تجوز صلاته، ولو كان على بدنه أو ثوبه نجاسة؛ لا تجوز أيضًا، فعلم أن النجاسة المانعة تضره مطلقًا غير أنه عفي عن يابسها في الوطء، انتهى.
==========
%ص 551%
==================
(1/684)
[حديث: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه]
408# 409# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل): هو المنقري البصري، المعروف بالتبوذكي (قال: حدثنا) وفي رواية كريمة: (أخبرنا) (إبراهيم بن سَعْد)؛ بسكون العين المهملة: هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (ابن شهاب): هو محمد بن مسلم الزهري المدني، (عن حُميد) بضمِّ الحاء المهملة (بن عبد الرحمن): هو ابن عوف القرشي المدني الزهري: (أنَّ أبا هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي (وأبا سعيد) هو سعد بن مالك الخدري رضي الله عنهما (حدثاه)؛ أي: أنَّهما حدثا حميدًا: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) أي: أبصر (نُخامة)؛ بضمِّ النون، وهي النخاعة؛ وهي ما يخرج من الصدر (في جدار المسجد)؛ أي: في جدار قبلة المسجد النبوي، فالألف واللام فيه للعهد، (فتناول حَصاة)؛ بفتح الحاء المهملة؛ هي صغار الحجر (فحكها)؛ بالكاف؛ أي: النخامة، ولأبوي ذر والوقت، وابن عساكر، والأصيلي: (فحتها)؛ بالمثناة الفوقية بدل الكاف، ومعناهما واحد (فقال) عليه السَّلام: (إذا تنخم أحدكم)؛ أي: رمى بالنخامة وهو في مصلاه كما دل عليه الأحاديث السابقة؛ (فلا يتنخمنَّ) بنون التوكيد الثقيلة (قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (وجهه)؛ أي: وجه المصلي، (ولا عن يمينه)؛ لشرف اليمين، وجاء في رواية المؤلف: (فإنَّ عن يمينه ملَكًا)، وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: (لا يبزق عن يمينه،
%ص 551%
فعن يمينه كاتب الحسنات)، وقوله: (فإنَّ عن يمينه ملَكًا) دليل على أنه لا يكون حالتئذٍ عن يساره ملك، فإنَّه في طاعة، لا يقال: يرد هذا قوله عليه السَّلام: «إن الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا عند الخلاء والجماع»؛ لأنَّا نقول: هذا حديث ضعيف لا يحتج به، وتمامه فيما قدمناه، (وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى)؛ لأنَّه ليس في اليسرى شرف، وكذلك تحت القدم، وكلمة (أو) فيه ليست للشك، بل للتنويع؛ يعني: أنه مخير بين هذا وهذا.
فإن قلت: الباب معقود على حك المخاط، والحديث يدل على حك النخامة.
قلت: ذكر المخاط في الترجمة، والنخامة في الحديث؛ إشعارًا بأن بينهما اتحادًا في الثخانة واللزوجة، وأن حكمهما واحد من هذه الحيثية وإن كان بينهما فرق [1] من حيث إنَّ المخاط يكون من الأنف، والنخامة من الصدر، كما ذكرناه عن «المطالع»، كذا قرره إمام الشَّارحين قال: (وهذا أوجه مما زعمه الكرماني حيث قال: «لما كانا فضلتين طاهرتين؛ لم يفرق بينهما؛ إشعارًا بأن حكمهما واحد»)، انتهى.
قلت: وليس مراد المؤلف كونهما فضلتين طاهرتين، بل مراده أن كلًّا منهما لزج ثخين، لا يزول عن الجدار إلا بالحك، فكل منهما يزول بالحك، ولهذا ترجم بـ (باب حك المخاط ... ) إلخ، فالحق أن ما زعمه الكرماني ليس له وجه وإن تبعه القسطلاني تعصبًا؛ لأنَّه ليس بمراد للمؤلف، والصواب ما ذكره إمام الشَّارحين رضي الله تعالى عنه؛ فليحفظ، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (فرقًا)، وليس بصحيح.
==================
(1/685)
(35) [باب: لا يبصق عن يمينه في الصلاة]
هذا (باب) بالتنوين؛ يذكر فيه: أن المصلي (لا يبصق)؛ بالصاد المهملة لغة؛ كالسين والزاي (عن يمينه في الصلاة)؛ يعني: لا يجوز له ذلك، فإن فعل؛ تفسد صلاته؛ لأنَّ إلقاء البصاق يكون بحروف مفهمة، فإن ظهرت؛ فسدت، وإلا؛ فلا فساد، بل يكره، كما سنذكره.
==========
%ص 552%
==================
(1/686)
[حديث: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه ولا عن يمينه]
410# 411# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى ابن بُكير)؛ بضمِّ الموحدة، تصغير بكر، (قال: حدثنا الليث): هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي، من أتباع الإمام الأعظم، كما قاله أهل التاريخ، والمثبت مقدم على النافي؛ فافهم، (عن عُقَيل)؛ بضمِّ العين المهملة، وفتح القاف: هو ابن خالد، (عن ابن شهاب): هو محمد بن مسلم الزهري المدني، (عن حُميد) بضمِّ الحاء المهملة (بن عبد الرحمن) هو ابن عوف القرشي المدني: (أنَّ أبا هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، (وأبا سعيد) هو سعد بن مالك الخدري رضي الله عنهما (أخبراه) وفي حديث الباب الذي قبله: (حدثاه) (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) يعني: أبصر (نُخامة)؛ بضمِّ النون، وهي النخاعة، تقال بالميم كالعين؛ ما يخرج من الصدر (في حائط المسجد) وفي الحديث السابق: (في جدار المسجد)؛ يعني: النبوي، فالألف واللام للعهد، (فتناول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: بيده الكريمة (حَصَاة)؛ بفتح المهملتين؛ هي صغار الحجر (فحتها)؛ بمثناة فوقية، وفي الحديث السابق: (فحكها)؛ بالكاف؛ يعني: أزال أثرها عن الجدار، (ثم قال) عليه السَّلام: (إذا تنخم أحدكم) أي: رمى بالنخامة؛ (فلا يتنخم): وفي رواية «الفرع»: (إذا تنخمنَّ؛ فلا يتنخمنَّ)؛ بنون التأكيد فيهما معًا؛ كالحديث السابق (قِبَل) بكسر القاف، وفتح الموحدة (وجهه)؛ أي: جهته (ولا عن يمينه)؛ لأنَّ القبلة واليمين مشرف، فلا يقابل بخسيس ممتهن، (وليبصق عن يساره)؛ لعدم شرفه، (أو تحت قدمه اليسرى)؛ لامتهانها، فقد فسر القدم باليسرى، وهناك أطلقها، والمطلق محمول على المقيد.
قال إمام الشَّارحين قدِّس سره: (ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: «فلا يتنخم قبل وجهه، ولا عن يمينه»؛ أي: ولا يتنخم عن يمينه).
فإن قلت: الترجمة: (لا يبصق عن يمينه)، ولفظ الحديث: «لا يتنخم».
قلت: جعل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حكم النخامة والبصاق واحدًا، ألا ترى أنه في حديث أنس الآتي قال: «فلا يبزقن في قبلته، ولكن عن يساره»، بعد أن رأى نخامة في القبلة، فدل ذلك على تساويهما في الحكم، ثم هذا الحديث غير مقيد بحالة الصلاة إلا في حديث أنس المتقدم، وفي حديث ابن عمر المتقدم أيضًا الذي روي الأول: عن قتيبة، والثاني: عن عبد الله بن يوسف، وفي حديث أنس الآتي الذي رواه عن آدم، ومن ذلك جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها، وسواء كان في المسجد أو غيره، ونقل عن مالك أنه قال: (لا بأس به خارج الصلاة)، وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود: أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة، وعن معاذ بن جبل أنه قال: (ما بصقت عن يميني منذ أسلمت)، وعن عمر بن عبد العزيز: أنه نهى ابنه عنه مطلقًا، وهذه كلها تشهد للمنع مطلقًا، وقال القاضي عياض: (النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة إنَّما هو مع إمكان غيره، فإن تعذر؛ فله ذلك)، وقال الخطابي: (إن كان عن يساره واحد؛ فلا يبزق في واحد من الجهتين، ولكن تحت قدمه أو ثوبه)، وقد روى أبو داود عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا قام الرجل إلى الصلاة أو إذا صلى أحدكم؛ فلا يبزق أمامه، ولا عن يمينه، ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغًا، أو تحت قدمه اليسرى»، وقد ذكرنا لفظ (القول) أنه يستعمل عند العرب في معانٍ كثيرة، انتهى.
قلت: وأشار إمام الشَّارحين إلى أن هذا الحديث ليس فيه مطابقة للترجمة؛ لأنَّه ليس فيه التقييد بحالة الصلاة، وهو كذلك، وأشار إلى أنه مطابق للترجمة مع ضميمة حديث أنس السابق واللاحق، وكذلك في حديث ابن عمر، فإن فيهم التقييد بحالة الصلاة، والحديث المطلق هنا هو المقيد هناك، وقد يقال الحديث هنا مطابق؛ لأنَّ قوله: «فلا يتنخم قِبَل وجهه» قرينة دالة على أنه كان في الصلاة، وعليه؛ فهو غير جائز في حالة الصلاة؛ لأنَّه يفسدها إذا ظهر حروف كـ (تف) ونحوه؛ فافهم.
==========
%ص 552%
==================
(1/687)
[حديث: لا يتفلن أحدكم بين يديه ولا عن يمينه]
412# وبالسند إليه قال: (حدثنا حفص بن عُمر)؛ بضمِّ العين المهملة: هو ابن الحارث الحوضي (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (قتادة): هو ابن دعامة التابعي المفسر المشهور (قال: سمعت أنسًا) وللأصيلي: (أنس بن مالك): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه (قال: قال النبيُّ)
%ص 552%
الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم): والجملة فعلية محلها نصب، إمَّا على الحال، وإمَّا على أنها مفعول ثان لـ (سمعت) على قولين مشهورين: (لا يتفِلن)؛ بكسر الفاء في «الفرع»، ويجوز الضم؛ أي: لا يبزقن (أحدكم بين يديه)؛ يعني: قدامه، والمراد: جهة وجهه، (ولا عن يمينه)؛ لشرف اليمين، (ولكن عن يساره أو تحت رجله)؛ بالإفراد؛ أي: اليسرى، وكلمة (أو) فيه ليست للشك، بل للتنويع؛ يعني: أنه مخير بين هذا وهذا.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للترجمة ظاهرة؛ لأنَّ معنى: «لا يتفلن»: لا يبزقن، والتفل شبيه بالبزق، وهو أقل منه، أوله البزق، ثم التفل، ثم النفث، ثم النفخ) انتهى.
قلت: وليس في هذا الحديث أيضًا تقييد بحالة الصلاة إلا في رواية آدم الآتية، وحديث أنس السابق في باب (حك البصاق باليد من المسجد)، وكأنه جنح المؤلف إلى أن المطلق محمول على المقيد، كما ذكرناه آنفًا؛ فافهم.
وقدمنا المنع منه في الجهة اليمنى مطلقًا داخل الصلاة وخارجها، وسواء كان في المسجد أو في غيره، وروي عن مالك وغيره: أنه لا بأس به خارج الصلاة؛ لما في حديث أبي هريرة حيث قال: «فإن عن يمينه ملكًا»، فخصه بحالة الصلاة أخذًا من علة النهي المذكور؛ لأنَّه لا يكون عن يساره ملكًا، وحديث: «إن الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا عند الخلاء والجماع» فضعيف لا يحتج به، كما قدمناه، والله تعالى أعلم؛ فافهم.
==================
(1/688)
(36) [بابٌ: لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (ليبزق)؛ بالزاي، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: (ليبصق)؛ بالصاد المهملة، ومعناهما واحد (عن يساره أو تحت قدمه اليسرى) وكلمة (أو) فيه للتنويع، وذكر المؤلف في هذا الباب حديثين؛ أحدهما: عن أنس بن مالك، وقد تكرر، وفيه القيد بحالة الصلاة، والآخر: عن أبي سعيد الخدري، وليس فيه القيد بالصلاة على ما سيجيء، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==========
%ص 553%
==================
(1/689)
[حديث: إن المومن إذا كان في الصلاة فإنَّما يناجي ربه]
413# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا آدم)؛ بالمد: هو ابن أبي إياس، وهو غير منصرف؛ للعلمية والعجمة، وقيل: ليس فيه علمية، بل العجمة ووزن الفعل (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (قال: حدثنا قتادة): هو ابن دعامة التابعي المفسر (قال: سمعت أنس بن مالك): هو الأنصاري، خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه (قال) جملة فعلية محلها نصب مفعول ثان أو حال: (قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) حين رأى نخامة في جدار قبلة المسجد النبوي: (إنَّ المؤمن) يعني: صفته، وحقه، وسريرته (إذا كان في الصلاة) وإفادة (كان) الدوام والاستمرار؛ يعني: في كل صلاة، سواء كانت فرضًا، أو واجبةً، أو نفلًا، أو صلاة جنازة، أو عيد، أو نحوها [1]؛ (فإنما يناجي ربَّه) عزَّ وجلَّ، والمناجاة والنجوى: هو السر بين الاثنين، يقال: ناجيته؛ أي: ساررته، ومناجاة الربِّ مجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي؛ إذ لا كلام محسوسًا بينهما إلا من طرف العبد، فيكون المراد لازم المناجاة، وهو إرادة الخير والبركة، ويجوز أن يكون من باب التشبيه؛ كأنه شبَّه العبد وتوجهه إلى ربِّه في الصلاة وما فيها من القراءة والأذكار وطلب الرحمة والغفران بمن يناجي مولاه ومالكه، فمن شرائط حسن الأدب: أن يقف محاذيه، ويُطرِق رأسه، ويراعي جهة أمامه حتى لا يصدر من تلك الهيئات شيء وإن كان الله تعالى منزهًا عن الجهات؛ لأنَّ الآداب الظاهرة والباطنة مرتبط بعضها ببعض، انتهى.
(فلا يبزقنَّ) بالزاي ونون التأكيد الثقيلة (بين يديه)؛ يعني: قُدامه، والمراد: جهة وجهه، (ولا عن يمينه)؛ لشرف اليمين؛ لأنَّها خصت بالشيء النفيس؛ كدخول المسجد، والخروج من الخلاء، وغير ذلك مما فيه تشريف، (ولكن عن يساره)؛ لعدم شرفها؛ لأنَّها خصت بالشيء الحقير؛ كالخروج من المسجد، والدخول في الخلاء، وغير ذلك مما فيه حقارة؛ والمعنى: ولكن ليبزق عن يساره، (أو تحت قدمه)؛ أي: اليسرى، كما في الحديث السابق، وكلمة (أو) فيه للتنويع، فهو مخير بين هذا وهذا، وفيه المطابقة للترجمة، لكن لم يصرح في الحديث تقييد القَدم باليسرى، لكنه عُلم من الحديث السابق، فهو مطابق، وحُمِل المطلق على المقيد، وقد تقدم في باب (حكِّ البزاق): أنَّه يدفنه، وأن كفارتها دفنها، وفي الحديث: شرف اليمين على اليسار، وفيه: أن الصلاة أعظم العبادات؛ لكونها مناجاة الربِّ عزَّ وجلَّ، وفيه: أن البزاق إنَّما يباح عن اليسار أو تحت القدم مع دفنها، كما في الحديث السابق، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (نحوهما)، والمثبت هو الصواب.
%ص 553%
==================
(1/690)
[حديث: أن النبي أبصر نخامة في قبلة المسجد فحكَّها بحصاة]
414# وبالسند إليه قال: (حدثنا علي) زاد الأصيلي: (ابن عبد الله): هو المديني، ولابن عساكر: (أخبرنا علي) (قال: حدثنا) ولابن عساكر: (أخبرنا) (سفيان) هو ابن عيينة (قال: حدثنا الزهري): هو محمد بن مسلم بن شهاب المدني، (عن حُميد) بضمِّ الحاء المهملة
(بن عبد الرحمن): هو ابن عوف القرشي الزهري المدني، (عن أبي سعيد): هو سعد بن مالك الخدري رضي الله عنه، وفي رواية ابن عساكر كما في «الفرع»: (عن أبي هريرة) بدل (أبي سعيد).
قال إمام الشَّارحين: (وهو وهم، ووافقه في هذا ما ذكره البخاري في آخر الحديث: «وعن الزهري ... » إلخ، فظن أنه عن أبي هريرة وأبي سعيد معًا وفرَّقهما) انتهى؛ فافهم.
(أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): أراد أن يصلي في مسجد، فدخل، ثم (أبصر): ناقصة، فتقتضي مفعولين؛ أحدهما: قوله: (نُخامة)؛ بضمِّ النون؛ ما يخرج من الصدر، والثاني: ملقاة (في) جدار (قبلة المسجد)؛ أي: النبوي، (فحكَّها) بالكاف؛ أي: أزال أثرها من الجدار (بحَصَاة)؛ بفتح المهملتين؛ صغار الحجر، وفي رواية المستملي: (بحصا).
قلت: والظاهر أن الهاء المثناة سقطت من الناسخ سهوًا؛ لأنَّ الرسم واحد؛ فافهم.
(ثم نهى أن يبزق الرجل) ومثله المرأة والصغير (بين يديه)؛ أي: قدامه؛ يعني: جهة وجهه، والنهي يقتضي التحريم، كما قدمناه، وهو الأصح، وهو قول الإمام الأعظم والجمهور، وقيل: إنه للتنزِّيه، وهو شاذ، وبه قال الشافعي، (أو عن يمينه) وكلمة (أو) [1]؛ للتنويع؛ يعني: لا يفعل هذا ولا هذا، (ولكن) يبصق (عن يساره)؛ لحقارة اليسار، (أو تحت قدمه اليسرى) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية أبي الوقت: (وتحت)؛ بواو العطف، ووقع في رواية مسلم عن أبي هريرة: (ولكن عن يساره تحت
%ص 553%
قدمه)؛ بحذف كلمة (أو)، وكذا وقع للبخاري من حديث أنس في أواخر (الصلاة)، ورواية كلمة (أو) أعم وأشمل، قاله الشَّارح.
وزعم الكرماني فإن قلت: لفظ (عن يساره) شامل لقدمه اليسرى، فما فائدة تخصيصها بالذِّكر؟ قلت: ليس شاملًا لها؛ إذ جهة اليمين والشمال غير [2] جهة التحت والفوق، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين: (بأن فيه تناقضًا [3]) انتهى.
قلت: ووجهه أن اليسار _أي: يسار الواقف_ يتناول الجهة كلها فوق وتحت، والقدم اليسرى مختصٌ بموضع القدم من تحت، فليس هو شامل لها، وبينهما فرقٌ بيِّنٌ [4]، وإنما خصَّها؛ لاحتمال الدفن، ويؤيده قوله: (وكفَّارتها دفنها).
وزعم الكرماني فإن قلت: هذه الترجمة مقيدة بالقدم اليسرى، ولفظ الحديث ليس فيه تقييد القدم باليسرى، قلت: يُقيَّدُ به عملًا بالقاعدة المقررة من تقييد المطلق.
وردَّه إمام الشَّارحين: (بأن لفظ الحديث: «أو تحت قدمه اليسرى»، وكأن في نسخته قد سقطت منه لفظة «اليسرى»، فبنى هذا السؤال والجواب على هذا) انتهى.
قلت: لفظة (اليسرى) ثابتة في جميع الروايات، وليس لأحدٍ روايةٌ بإسقاطها، فنسخة الكرماني خطأ، وبنى عليها كلامه من غير تدبرٍ ولا تفحص، فإنا قد عَهِدنا الشراح يجمعون نسخًا متعددة؛ لأجل المراجعة في ضبط الألفاظ على الوجه الصحيح، ولم نعهد أن أحدًا يتصدر لشرح مثل هذا الكتاب، وليس عنده إلا نسخة واحدة، فليس هذا دَأَب المحصلين؛ فافهم.
(وعن الزهري) هو محمد بن مسلم: (سمع حُميدًا): هو ابن عبد الرحمن السابق، (عن أبي سعيد) أي: الخدري (نحوَه)؛ بالنَّصب؛ يعني: مثل الحديث السابق، وأشار المؤلف بهذا إلى أن الزهري روى هذا الحديث من وجهين؛ أحدهما: بالعنعنة، والآخر: صرح فيه بسماعه من حميد، وزعم الكرماني أن هذا تعليق، واعترضه ابن حجر بأنَّه وهم، بل هو موصول، ورده إمام الشَّارحين، فقال: (ظاهر الأمر أنه تعليق، ودعوى أنه موصول يحتاج إلى دليل، ولم يبين وجه ذلك) انتهى.
قلت: يعني: أن البيِّنة للمدَّعي، فالمدَّعي بشيء إذا لم يبين حجته؛ لم يقبل منه؛ لأنَّه خبر محتمل لوجهين؛ أرجحهما الثاني؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (عين)؛ ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (تناقض)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (فرقا بينا)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (عين)؛ ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (تناقض)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (عين)؛ ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (تناقض)، وليس بصحيح.
(1/691)
(37) [باب كفَّارة البزاق في المسجد]
هذا (باب) بيان (كفارة) خطيئة (البُزَاق) بضمِّ الموحدة، وفتح الزاي (في المسجد) بدفنه، والألف واللام فيه للجنس؛ أي: في كل مسجد، ولو كان مصلَّى عيد وجنازة.
قال إمام الشَّارحين: (والكفَّارة على وزن «فَعَّالة»؛ للمبالغة؛ كقتَّالة وضرَّابة، وهي من الصفات الغالبة في باب الاسمية، وهي عبارة عن الفعلة والخَصْلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة؛ أي: تسترها وتمحوها، وأصل المادة من الكفر، وهو الستر، ومنه سمي الزَّراع كافرًا؛ لأنَّه يستر الحَب في الأرض، وسُمِّي المخالف لدين الإسلام كافرًا؛ لأنَّه يستر الدين الحق، والتكفير: هو فعل ما يجب بالحديث، والاسم منه: الكفَّارة) انتهى.
==========
%ص 554%
==================
(1/692)
[حديث: البزاق في المسجد خطيئة]
415# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا آدم)؛ بالمدِّ: هو ابن أبي إياس (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (قال: حدثنا قتادة): هو ابن دعامة التابعي المفسر (قال: سمعت أنس بن مالك) هو الأنصاري: أنَّه (قال: قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) والجملة فعلية محلها نصب على الحال، أو مفعول ثان لـ (سمعت) (البُزَاق)؛ بضمِّ الموحَّدة، وفتح الزاي؛ ما يخرج من الفم (في المسجد) الألف واللام فيه للجنس، فيشمل كل مسجد، ومثله مصلَّى الجنازة والعيدين.
قال إمام الشَّارحين: (وهو ظرف للفعل، فلا يُشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه؛ تناوله النهي) انتهى.
قلت: لأنَّه حينئذٍ يصدق عليه أنه بصق في المسجد، وفي رواية مسلم: (التفل في المسجد)؛ بالمثناة الفوقية، وفي رواية أبي داود: (وكفَّارته أن تواريه)؛ أي: تغيِّبه؛ يعني: تدفنه (خطيئة)؛ أي: إثم، وأصلها بالهمزة، ولكن يجوز تشديد التحتية، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: فأفاد أن الرواية بالهمز، ويجوز التشديد؛ فافهم.
(وكفَّارتها) أي: الخطيئة (دفنها)؛ أي: في تراب المسجد، ورمله، وحصائه إن كانت هذه الأشياء فيه، وإلا؛ فيخرجه، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «من دخل هذا المسجد، فبزق فيه أو تنخَّم؛ فليحفر فليدفنه، فإن لم يفعل؛ فليبزق في ثوبه، ثم ليخرج به»، وقوله: «فإن لم يفعل»؛ أي: فإن لم يحفر أو لم يمكن الحفر؛ فليبزق في ثوبه، وروى الطبراني في «الأوسط» عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «البزاق في المسجد خطيئة، وكفَّارته دفنه»، وإسناده ضعيف، وزعم النووي أن هذا في غير المسجد، وأما المصلِّي في المسجد؛ فلا يبزق إلا في ثوبه.
قلت: وما زعمه مخالف لصريح الأحاديث، ولهذا قال القاضي عياض: (البزاق إنَّما يكون خطيئة إن لم يدفنه، فمن أراد دفنه؛ فليس بخطيئة).
قال إمام الشَّارحين: (ويرد على ما زعمه النووي أحاديث كثيرة، وكلها تدل على أن ذلك كان في المسجد، فقد روى أحمد في «مسنده» من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا بإسناد حسن: «من تنخَّم في المسجد؛ فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه، فيؤذيه»، وروى أحمد أيضًا والطبراني بإسنادٍ حسن من حديث أبي أمامة مرفوعًا: «من تنخَّع في المسجد، فلم يدفنه؛ فسيِّئة، وإن دفنه؛ فحسنة»، وفي حديث أبي ذرٍّ عند مسلم: «وجدت في مساوئ أعمال أمتي النُّخامة تكون في المسجد لا تدفن»، قال القرطبي: «فلم يثبت لها حكم السيِّئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل فيه وبتركها غير مدفونة»، وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة: أنه تنخَّم في المسجد ليلة، فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار، ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد لله الذي لم تكتب عَلَيَّ خطيئة) انتهى.
قلت:
%ص 554%
وكأن النووي لم يطلع على هذه الأحاديث حتى قال هذا الكلام المخالف لصريح الأحاديث الواردة في ذلك، وزعم القسطلاني أن حاصل النزاع بين النووي والقاضي عياض: أن ههنا عمومين تعارضا، وهما قوله: «البزاق في المسجد خطيئة»، وقوله: «وليبصق عن يساره أو تحت قدمه»، فالنووي يجعل الأول عامًّا، ويَخصُّ الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي عياض يجعل الثاني عامًّا، ويَخصُّ الأول بمن لم يرد دفنها، وتوسط بعضهم، فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر؛ كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر) انتهى.
قلت: وما زعمه ممنوع، فإنَّه ليس ههنا عمومان متعارضان ولا متفقان، فإن قوله: «البزاق في المسجد خطيئة» ليس عامًّا، بل هو خاص بمن كان يبزق في المسجد، فإنَّه صريح الحديث؛ بدليل قوله: «وكفَّارتها دفنها»، ولهذا ترجم المؤلف بـ (باب كفَّارة البزاق في المسجد)، وإنَّ قوله عليه السَّلام: «وليبصق عن يساره أو تحت قدمه» عامٌّ في جميع الأحوال، سواء كان في الصلاة أو خارجها، وسواء كان في المسجد أو غيره، ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق عن ابن مسعود: أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة، ومثله عن معاذ بن جبل، ونهى عنه مطلقًا عمر بن عبد العزيز، ويؤيده الأحاديث السابقة عند أحمد والطبراني وغيرهما؛ فليحفظ.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وفيه التصريح بسماع قتادة عن أبي هريرة، فانتفى تدليسه؛ فافهم.
==================
(1/693)
(38) [باب دفن النُّخامة في المسجد]
هذا (باب دفن النخامة في المسجد) ويجوز في لفظة (باب) التنوين وعدمه، وعلى الأول: يكون قوله: (دفن) مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: جائز، وعلى الثاني: يكون (باب) مضافًا لمحذوفٍ مضافٍ لتاليه؛ تقديره: باب جواز دفن ... إلخ، والدفن: هو التَّواري؛ أي: التغيب بحيث لم يظهر للناظر، و (النُّخامة)؛ بضمِّ النون: ما يخرج من الصدر، والألف واللام في (المسجد)؛ للجنس، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==========
%ص 555%
==================
(1/694)
[حديث: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه]
416# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق ابن نصر)؛ نسبه إلى جده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر البخاري (قال: حدثنا) ولأبوي ذر والوقت: (أخبرنا) (عبد الرزاق): هو ابن همام الصنعاني، صاحب «المصنف»، (عن مَعْمَر)؛ بفتح الميمين، بينهما عين ساكنة، وللأصيلي: (أخبرنا مَعمَر): هو ابن راشد البصري، (عن همَّام) على وزن (فعَّال)؛ بالتشديد: هو ابن مُنَبْه _بضمِّ الميم، وفتح النون، وتشديد [1] الموحدة_ ابن كامل الصنعاني، أخو وهب: أنَّه (سمع أبا هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنَّه (قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة)؛ أي: إذا أراد أحدكم القيام إليها على حد قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]، والمراد: أنه تهيأ إليها بأن استقبل القبلة، وأتى بالسنن، وبهذا التقدير اضمحل ما زعمه القسطلاني من أنه فسر القيام: بالشروع فيها؛ لأنَّه لا يوافق قوله: (فلا يبصق)؛ بالصاد المهملة، والجزم على النهي؛ لأنَّ البصاق يكون خروجه بحروف مفهمة، وهي تفسد الصلاة، وهو خلاف ما أراده عليه السَّلام، ويؤيده قوله عليه السَّلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هي التسبيح وقراءة القرآن»، أخرجه مسلم وغيره، ولا ريب أن الحروف المفهمة كلام، ويدل عليه الحصر في قوله: «إنما هي ... » إلى إلخ، فإنَّها تسبيح وقرآن؛ فافهم.
(أَمامه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: قدامه؛ والمراد: جهة القبلة، (فإنما) وللكشميهني: (فإنَّه)؛ أي: مريد الصلاة أو المصلي (يناجي الله) من جهة مساررته بالقرآن والأذكار، فكأنه يناجيه تعالى، والرب عز وجل يناجيه من جهة لازم ذلك؛ وهو إرادة الخير والبركة، فهو من باب المجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة؛ إذ لا كلام محسوسًا إلا من جهة العبد (ما دام في مصلاه)؛ أي: مدة دوامه في مصلاه، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: وأشار به إلى أن كلمة (ما) ظرفية مصدرية؛ معناها: المدة؛ يعني: مدة دوامه قاعدًا في مكان صلاته متوجهًا للكعبة، ويدل عليه قوله عليه السَّلام: «إنكم في صلاة ما انتظرتموها»؛ يعني: ما دمتم منتظرين الصلاة، فأنتم فيها حكمًا من حيث إقبال الرب عليه بالرحمة والعفو والغفران، وهذا يؤيد ما قلناه، ويرد على ما زعمه القسطلاني آنفًا.
قال الشَّارح: (فإن قلت: هذا تخصيص المنع بما إذا كان في الصلاة، ورواية: «أذى المسلم» يقتضي المنع مطلقًا ولو لم يكن في الصلاة.
قلت: هذه مراتب، فكونه في الصلاة أشد إثمًا مطلقًا، وكونه في جدار القبلة أشد إثمًا من كونه في غيرها من جدار المسجد) انتهى.
قلت: وقوله: (هذا تخصيص المنع ... ) إلخ: قد يقال: إنه تخصيص المنع مطلقًا، سواء كان في الصلاة أو خارجها؛ لأنَّ من توضأ أو أذن أو أقام للصلاة يناجي ربه عزَّ وجلَّ؛ فهو مصلٍّ حكمًا، وهو موافق لما في رواية: (أذى المسلم)، فيكون المنع المطلق.
وقوله: (فكونه في الصلاة أشد ... ) إلخ: لما يلزم عليه من إظهار الحروف وفساد الصلاة، وهو غير جائز؛ لقوله تعالى: {وَلاَ [2] تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
وقوله: (وكونه في جدار القبلة ... ) إلخ؛ لأنَّ القبلة لها شرف ومزية على غيرها من الجهات؛ لقوله عليه السَّلام: «فإن الله قِبَلَ وجهه»؛ أي: رحمته، كما قدمنا؛ فافهم.
(ولا) يبصق (عن يمينه؛ فإن عن يمينه مَلَكًا)؛ بفتح الميم واللام والكاف، وهذا يقتضي اختصاص منع البزاق عن يمينه؛ لأجل الملك، وفي يساره أيضًا ملك.
قلت: إنَّ لكل واحد قرينًا، وموقفه عن يساره، كما ورد في حديث أبي أمامة، رواه الطبراني، فإنَّه بين يدي الله وملكه عن يمينه، وقرينه عن يساره، فلعل المصلي إذا تفل عن يساره؛ يقع على قرينه، وهو الشيطان ولا يصيب الملك منه شيء، كذا قاله إمام الشَّارحين، وأجاب غيره: بأن لليمين شرفًا، قال إمامنا: (وفيه نظر).
قلت: ووجهه أن على اليمين ملكًا كما أن على اليسار ملكًا أيضًا، فأين الشرف الذي لليمين على اليسار؟ وقد يقال: إن لليمين شرفًا من حيث إنَّه عليه السَّلام كان يبدأ بها في مشيه ودخوله وخروجه وأحواله كلها، وقد يقال: هذا لا يقتضي الشرف؛ لاحتمال أنه يفعل ذلك؛ لأجل التسهيل عليه والعادة.
%ص 555%
وأجاب بعض: بأن الصلاة أُمُّ الحسنات البدنية، فلا دخل لكاتب السيئات فيها الكائن عن اليسار، قال إمامنا الشَّارح: (وفيه نظر؛ لأنَّه ولو لم يكتب؛ لا يغيب) انتهى.
قلت: ويدل عليه قوله عليه السَّلام: «إن الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا حال الجماع ودخول الخلاء»، على أنَّه لكاتب السيئات دخل في الصلاة، كما أنَّ لكاتب الحسنات دخلًا [3] فيها من حيث إنَّ المصلي يحصل له تفكر في أمور الدنيا غالبًا، خصوصًا في أهل زماننا، فإن تفكر في صلاته أنَّه يفعل الأمر القبيح أو المكروه أو المحرم؛ يخرج من فمه ريح منتنة، فيعلم الملَك أنَّه قد هم بمعصية، فيكتبها، وإن تفكر أنَّه يفعل الأمر الحسن؛ يخرج من فمه ريح طيبة، فيعلم الملَك أنَّه قد همَّ بطاعة، فيكتبها، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث، ويدل عليه الحديث السابق آنفًا، فإنَّه يقتضي عدم المفارقة أصلًا إلا في هذين الموضعين، وهذا يدل صريحًا أنَّ الملكين لا يفارقان العبد أصلًا إلا في الموضعين؛ فافهم.
(وليبصق عن يساره)؛ لأنَّ اليمين لها فضل على اليسار في الجملة، (أو تحت قدمه)؛ بالإفراد؛ أي: اليسرى، كما قيَّدَها في حديث أبي سعيد السابق، وهذا صريح في أنَّه كان في المسجد؛ بدليل قوله في أول الحديث: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة»، والقيام إليها لا يكون إلا في المسجد، ويدل عليه أيضًا ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن مرفوعًا: «من تنخع في المسجد، فلم يدفنه؛ فسيئة، وإن دفنه؛ فحسنة»، وروى مسلم عن أبي ذر مرفوعًا: «وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخامة تكون في المسجد لا تدفن»، قال القرطبي: (فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل به، وبتركها غير مدفونة) انتهى.
وبهذا تعلم سقوط ما زعمه النووي وتبعه القسطلاني أنَّ هذا في غير المسجد، أمَّا المصلي في المسجد؛ فلا يبزق إلا في ثوبه؛ لأنَّ هذا تخصيص بلا مخصص، وتقييد الإطلاق بشيء مخالف؛ لظاهر حديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة الدالة صريحًا على أن ذلك كان في المسجد؛ فافهم.
وقول القسطلاني معلِّلًا بأنَّه قد قال: (إنه خطيئة، فلم يأذن فيه)، يرده: أنه قد قال: (وكفارتها دفنها)؛ كما في حديث أنس في الباب قبله، وقد ترجم له المؤلف بـ (باب كفارة البزاق في المسجد)، ولا يلزم من كونها خطيئة عدم الإذن بفعلها في المسجد؛ لأنَّ قوله: (وكفارتها دفنها) دليل على الإذن فيها، وأنها إذا دفنت؛ تخرج عن كونها خطيئة، فقد حفظ شيئًا، وغاب عنه أشياء على أن قوله: (وليبصق عن يساره أو تحت قدمه) دليل صريح على الإذن بفعلها، ولو لم يأذن بها؛ لم يجعل لها كفارة، ويدل عليه قوله: (فيدفنها)؛ أي يغيبها بتراب المسجد، ورمله، وحصائه، وبذلك تخرج عن كونها خطيئة، وقوله: (فيدفنُها)؛ بالرفع، وهو الذي في «الفرع» على أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو يدفنها، ويجوز النصب؛ لأنَّه جواب الأمر، ويجوز الجزم عطفًا على الأمر، وتأنيث الضمير فيه على تأويل البصقة التي يدل عليها قوله: (وليبصق)، وقيل: إنَّما لم يغطها [4]؛ لأنَّ التغطية يستمر بها الضرر؛ إذ لا يؤمن أن يجلس غيره عليها، فتؤذيه، بخلاف الدفن؛ فإنَّه يفهم منه التعميق في باطن أرض المسجد، ويؤيده ما رواه الطبراني: «فليحفر وليدفنه»، وعند ابن أبي شيبة مرفوعًا: «إذا بزق في المسجد؛ فليحفر وليمعن»، وفي «صحيح ابن خزيمة»: «فليبعد»، لا يقال: إن الباب معقود على دفن النخامة، والحديث يدل على دفن البزاق؛ لأنَّا نقول: قد قلنا فيما مضى: أنه لا تفاوت بينهما في الحكم، ومطابقته للترجمة ظاهرة من قوله: (فيدفنها)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قلت: ومثل دفنها بل أبلغ إلقاؤها في نعله أو بابوجه، كما هو العادة في زماننا، فإن ذلك مثل بزقه في ثوبه؛ لأنَّ مآله الخروج بها من المسجد، ثم دفنها ينبغي أن يُقيَّد بكون البزاق لم يخالطه نجس؛ كَدَمٍ من بين أسنانه، فلو تنجس؛ ينبغي أن يخرجه من المسجد؛ لأنَّه نجاسة، وقد يقال: لما كان الدفن مستلزم للحفر والتعميق، وهو يستلزم عدم ظهوره، وعدم إيذاء أحد به؛ لا بأس به؛ لأنَّه يكون في باطن أرض المسجد، والسجود على أعلاه لا يضر الصلاة، نعم، لو كان المسجد لم يوجد فيه تراب، أو رمل، أو حشيش، ونحوها؛ فإن كان البزاق باقيًا على طهارته؛ فيدلكها بشيء حتى يذهب أثرها، وإن كان متنجسًا؛ ينبغي أن يتعين عليه إخراجه من المسجد؛ لأنَّ في إبقائه إيذاء للمسجد والمصلين بالنجاسة، وهو غير جائز، ومثل دفن البزاق الطاهر دلكه في الحشيش، أو الحصير، أو غيرهما، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (وسكون)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[2] في الأصل: (لا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (دخل)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (يغطيها)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (وسكون)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[2] في الأصل: (لا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (دخل)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (وسكون)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[2] في الأصل: (لا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (دخل)، وليس بصحيح.
(1/695)
(39) [باب: إذا بَدَرَهُ البزاق فليأخذ بطرف ثوبه]
هذا (باب)؛ بالتنوين: (إذا بدره)؛ بدال وراء مهملتين؛ أي: غلب على من كان في المسجد (البُزَاق)؛ بضمِّ الموحدة، وفتح الزاي، ولم يقدر على دفعه؛ (فليأخذ)؛ بدون ضمير، والأولى أن يلحقه ضميرٌ مذكرٌ [1]؛ ليعود على البزاق، أو ضميرٌ مؤنثٌ [2]؛ ليعود على البزقة المدلول عليها قوله: (إذا بدره البزاق) (بطرف ثوبه) قد يقال: فيه إتلاف المال، وهو غير جائز، وقد يجاب: بأن الثوب يغسل بخلاف المسجد، فإنَّه يدل على الاستخفاف، كما سيأتي.
وقال إمام الشَّارحين: (لا يقال: بدره، بل يقال: بدر إليه)، وقال الجوهري: (بَدَرْتُ إلى الشيء، أَبْدُرُ، بُدورًا: أسرعت، وكذلك: بادرت إليه، وتَبادَرَ القوم: أسرعوا) انتهى.
قلت: وهذا اعتراض على المؤلف في قوله: (إذا بدره)؛ لأنَّه مخالف للغة، وكذلك أنكره، واعترض عليه السروجي، وأجاب عن المؤلف ابن حجر، وتبعه البرماوي، والدماميني: (بأنَّه من باب المُغَالبة؛ أي: بادر البزاق، فبدره؛ أي: غلبه في السَبْق) انتهى.
قلت: وهذا الجواب ليس لابن حجر، كما يُتوهم، وإنما هو للزركشي، فنسبه ابن حجر لنفسه، وعلى كلٍّ؛ فهو مردود؛ لأنَّ إمام الشَّارحين قد رد على ابن حجر كعادته، فقال: (هذا كلام من لم يمس شيئًا من علم التصريف، فإن في باب المغالبة يقال: بادرني، فبدرته، ولا يقال: بادرت كذا، فبدرني، والفعل اللازم في باب المغالبة يجعل متعديًا بلا حرف صلة، يقال: كارمني فكرمته، وليس ههنا باب المغالبة حتى يقال: بدره) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (ضميرًا مذكرًا)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (ضميرًا مؤنثًا)، وليس بصحيح.
%ص 556%
==================
[1] في الأصل: (ضميرًا مذكرًا)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ضميرًا مذكرًا)، وليس بصحيح.
(1/696)
[حديث: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه]
417# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مالك بن إسماعيل) هو أبو غسان النهدي الكوفي (قال: حدثنا زُهير)؛ بضمِّ
%ص 556%
الزاي، مصغَّرًا: هو ابن معاوية الكوفي (قال: حدثنا حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة: هو الطويل التابعي، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك): هو الأنصاري رضي الله عنه: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) أي: أبصر (نُخَامة)؛ بضمِّ النون، وفتح الخاء المعجمة: ما يخرج من الصدر (في القبلة)؛ أي: في الحائط القبلي من المسجد النبوي، وقول القسطلاني: (في جهة حائطها)؛ ممنوع؛ لأنَّ النخامة المرئية ليست في جهة القبلة، بل في حائط القبلة؛ لأنَّ جهة القبلة يطلق على ما بين المشرق والمغرب، بخلاف حائط القبلة، فإنَّه مخصوص بحائط المسجد القبلي؛ فافهم.
(فحكها) بالكاف؛ أي: أزال أثرها (بيده) الكريمة، يحتمل أنه باشر ذلك بنفس يده، ويحتمل أنه باشر ذلك بعرجون كان بيده، كما في حديث أبي داود، ويحتمل تعدد القصة، كما سبق، وفي رواية: (فحكه)؛ أي: أثر النخامة، وقول القسطلاني: (أي: البصاق)؛ ممنوع؛ لأنَّه لم يوجد أنه رأى بصاقًا حتى يدل الضمير على البصاق، وإنما هو رأى نخامة، فضمير المؤنث يرجع إليها، وضمير المذكر يرجع إلى أثرها، كما لا يخفى.
(ورُؤِيَ)؛ بضمِّ الراء، وكسر الهمزة، وفتح التحتية، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني والأصيلي: (ورِيْءَ)؛ بكسر الراء، وسكون التحتية، وفتح الهمزة (منه) عليه السَّلام (كراهيةُ)؛ بالرفع نائب فاعل، (أو رُئِيَ) بضمِّ الراء، وكسر الهمزة، وفتح التحتية (كراهيته) عليه السَّلام (لذلك)؛ أي: لأجل رؤية النخامة في القبلة، وكلمة (أو) [1]؛ للشك، وهو من الراوي.
قلت: يحتمل من حميد، ويحتمل من أنس، والظاهر الأول، و (كراهيته) مرفوع بـ (رُؤي) المبني للمفعول.
(وشدتُه عليه)؛ أي: على ذلك الفعل، وهو بالرفع عطفًا على (كراهيته)، أو بالجر عطفًا على قوله: (لذلك)، وفي رواية أنس في باب (حك البزاق): (فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه)، وفي رواية النسائي: (فغضب حتى احمر وجهه)، وهذا بيان لقوله: (كراهيته) و (شدته)، والروايات تفسر بعضها بعضًا، (وقال) عليه السَّلام؛ أي: بعدما رئي منه الكراهية والشدة: (إنَّ أحدكم إذا قام في صلاته): يحتمل على الحقيقة، ويحتمل أنه أراد القيام إلى صلاته، والثاني أعم، والظاهر: أنه هو المراد؛ لأنَّ استقبال القبلة في غير الصلاة عبادة؛ كما أن النظر إلى الكعبة في غير صلاة عبادة أيضًا؛ فتأمل.
(فإنما يناجي ربه) تعالى؛ أي: من جهة مساررته بالقرآن الذي هو كلامه والأذكار وغير ذلك، فكأنه يناجيه، والله تعالى يناجيه من جهة لازم ذلك؛ وهو إرادة الخير والرحمة، فهو من باب المجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة؛ إذ لا كلام محسوسًا إلا من جهة العبد، وزعم النووي أنَّ [2] هذا إشارة لإخلاص القلب، وحضوره، وتفريغه لذكر الله تعالى، انتهى.
قلت: وهو ممنوع، فإن المناجاة: المساررة، وهي بكلامه تعالى وذكره، وأمَّا الإخلاص والحضور؛ فخارج عن ذلك، فتارة تكون المناجاة بإخلاص، وتارة بدونه، وكل ذلك جائز؛ لأنَّ المالك من كرمه العفو عن مملوكه، ولعل النووي أشار بهذا إلى قول المتصوفة: إنَّ الخشوع في الصلاة واجب، فإن كان مراده هذا؛ فغير مقبول منه؛ لأنَّ الإجماع منعقد على أنَّه ليس بواجب؛ فافهم.
(أو ربه) تعالى؛ بالرفع مبتدأ خبره قوله: (بينه وبين قبلته)؛ بالضمير، ولأبوي ذر والوقت: (وبين القبلة)؛ بحذفه، والجملة معطوفة على (يناجي ربه) عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية، وظاهر هذا غير مراد؛ لأنَّ الله تعالى منزه عن المكان والجهة، وإنما المراد: إقباله تعالى على عبده بالرحمة، والعفو، والغفران، والكرم، والإحسان، كما سبق في باب (حك البزاق) (فلا يبزقنَّ)؛ بنون التأكيد الثقيلة؛ أي: أحدكم (في قبلته)؛ أي: في جدار القبلة، (ولكن) يبزق (عن يساره)؛ لعدم شرف اليسار، (أو تحت قدمه)؛ بالإفراد؛ أي: اليسرى، كما في الحديث السابق؛ لأنَّ محل وطء القدم ليس له شرف، (ثم أخذ) عليه السَّلام (طرف رِدائه)؛ بكسر الراء: ما يغطي النصف الأعلى (فبزق فيه) بالزاي (ورد بعضه على بعض) يعني: غيبها فيه، (قال) عليه السَّلام، وللأصيلي وابن عساكر: (فقال) (أو يفعل هكذا) عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك؛ والمعنى: ولكن ليبزق عن يساره، أو يفعل هكذا، ففيه البيان بالفعل، وهو أوقع في النفس، وكلمة (أو) [3] ليست للشك، بل هي للتنويع؛ ومعناه: التخيير؛ أي: هو مخير بين هذا وهذا.
فإن قلت: ليس في الحديث مطابقة للترجمة؛ لأنَّه لم يذكر فيه بدر البزاق.
قال إمام الشَّارحين: (الترجمة مشتملة على شيئين؛ أولهما: مبادرة البزاق، والآخر: هو أخذ المصلي بزاقه بطرف ثوبه، وفي الحديث ما يطابق الثاني، وهو قوله: «ثم أخذ طرف ردائه، فبزق فيه»، وليس للجزء الأول ذكر في الحديث، ولهذا اعترض عليه في ذلك، ولكن يمكن أن يقال وإن كان فيه تعسف، كأنه أشار بذلك إلى ما في بعض طرق الحديث، وهو ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: «وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة؛ فليقل بثوبه هكذا، ثم طوى بعضه على بعض»، وروى أبو داود: «فإن عجلت به بادرة؛ فليقل بثوبه هكذا، وَضَعَهُ على فيه، ثم دلكه»، وقوله: «بادرة»؛ أي: حِدَّة، وبادرة الأمر: حِدَّتُه؛ والمعنى: إذا غلب عليه البصاق أو النخامة؛ فليقل بثوبه هكذا، وقوله: «وضعه على فيه» تفسير لقوله: «فليقل به»، ولأجل ذلك ترك العاطف؛ أي: وضع ثوبه على فيه حتى يتلاشى البزاق فيه) انتهى.
قلت: ووجه التعسف: أن ذكر الترجمة لشيء لم يذكره تحتها، ويشير إلى بعض طرقه مما لم يذكره، وما ذكره الشَّارح ترميم لعبارة المؤلف، وأنَّ ذكر الترجمة وعدم ذكر ما يدل عليها أو على بعضها معيبٌ في الصناعة، ولعل المؤلف جنح إلى أن قوله: (ثم أخذ طرف ردائه ... ) إلى آخره يطابق الجزء الأول من الترجمة أيضًا؛ لأنَّ مبادرة البزاق لا يكون إلا بسعال وتنحنح غالبًا، فإذا حصل له ذلك، وغلب عليه البزاق أو النخامة؛ لا يسعه أن يبزق عن يساره، أو تحت قدمه؛ لطول المدة، بل يعجل بأخذ طرف ثوبه، وأيضًا إذا حصل له سعال ونحوه؛ يضطر إلى وضع طرف ثوبه على فمه حتى لا يخرج من فيه صغار البزاق، فيصيب بعض من على يمينه أو شماله أو أمامه، وفي هذه الحالة يضطر إلى أن يبزق بطرف ثوبه؛ محافظة على عدم إيذاء الجار، وعلى هذا؛ يكون قوله: «ثم أخذ طرف ردائه ... ) إلى آخره مطابق لجزئي [4] الترجمة، والله أعلم.
وفي الحديث فوائد؛ منها: استحباب إزالة ما يستقذر أو يتنزه عنه من المسجد، ومنها: تفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها.
قلت: ومثل الإمام نائبه، وهو الناظر أو المتولي على أوقافه ومصارفه، وكذلك الكناس، والشعال، والحسكي، ونحوهم،
%ص 557%
فيجب عليهم تعاهد المسجد من وقوع القاذورات فيه، والكناسات، والزبالات، ونحوها.
ومنها: أن البصاق طاهر، وكذلك النخامة والمخاط، ولم يخالف في ذلك إلا إبراهيم النخعي، فإنَّه يقول: (كل ما تستقذره النفس نجس).
ومنها: أن التحسين والتقبيح إنَّما هو بالشرع ككون اليمين مفضلة على اليسار، واليد مفضلة على القدم.
ومنها: أن الرجل إذا رأى ما يُكره شرعًا أن يزيله بيده، ولهذا كان الأمر بالمعروف واجبًا، وهو على التفصيل؛ لقوله عليه السَّلام: «من رأى منكم منكرًا؛ فليغيره بيده، فإن لم يقدر؛ فبلسانه، فإن لم يقدر؛ فبقلبه، وهو أضعف الإيمان»، ويشترط أن يكون الأمر بالمعروف بالمعروف لا بالشدة إلا إذا رأى أحدًا كشف عورته؛ فينهاه بشدة، كما بُين في كتب الفروع، وقد انتهت الجهالة إلى قوم، فزعموا أن البصاق والنفخ والتنحنح في الصلاة جائز مطلقًا، غير مفسد؛ استدلالًا بهذا الحديث.
قلت: وهو استدلال فاسد، ودعوى بلا برهان، فإن قوله عليه السَّلام: «إذا قام في صلاته»؛ معناه: أن أحدكم إذا أراد القيام إلى صلاته؛ ينبغي له أن يتهيأ لها، ومن جملة ذلك: أنه إذا غلب عليه البلغم والبزاق، وأراد أن يبزق؛ يفعل، كما ذكره في الحديث، وليس المراد أنه يفعل ذلك في حال صلاته؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «إن صلاتنا هذه لا يَصْلُح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هي التسبيح وقراءة القرآن»، رواه مسلم وغيره، ولا ريب أن البصاق والنفخ والتنحنح ملحق بكلام الناس؛ لأنَّ الكلام لا يَحْسُن إلا بذلك، ويدل عليه الحصر في الحديث على أنها تسبيح وقراءة قرآن؛ يعني: لا غيرهما من أفعال الناس، ولو سلمنا أنه كان في حال الصلاة؛ فالغالب في البزاق أنه يخرج من الفم بدون حرف ولا صوت، لا سيما إذا أخذه بطرف ردائه؛ فإنَّه لا يسمع لذلك صوت أصلًا، ولهذا قال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: (إن البصاق والنفخ في الصلاة غير مفسد إذا كان بدون صوت ولا حروف، فإن كان يسمع؛ فهو مفسد؛ لأنَّه بمنزلة الكلام، وإن التنحنح في الصلاة إذا كان بعذر كأن وقف في حلقه البلغم، فمنعه عن القراءة ونحوها؛ فإنَّه غير مفسد، وإن كان بدون عذر، كما يفعله ذرية يأجوج ومأجوج؛ فمفسد للصلاة)، وفي رواية عنه: (إن حصل منه ثلاثة حروف؛ تفسد صلاته، وفي الحرفين قولان: الاحتياط المنع، وهو الأصح)، وزعم الشافعية وكذا الحنابلة أن النفخ والتنحنح إن ظهر من كل منهما حرفان أو حرف مفهم؛ كـ (قِ)؛ من الوقاية، أو مدة بعد حرف؛ بطلت صلاته، وإلا؛ فلا، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أنَّه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (للجزئي)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أنَّه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أنَّه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
(1/697)
(40) [باب عِظَة الإمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة]
هذا (باب) حكم (عِظَة الإمام) أي: وعظه (الناسَ)؛ بالنصب على المفعولية (في) أي: بسبب ترك (إتمام الصلاة)؛ أي: بأن يتموا صلاتهم ولا يتركوا منها شيئًا، (وذكر القبلة)؛ بالجر عطف على (عظة)؛ أي: وفي بيان القبلة، والعظة على وزن (علَة [1]) مصدر من وَعَظ يعظ وَعظًا، وعظة [2]، ومَوعظَة، وأصل (عظة): وعظ، فلما حذفت الواو؛ عوضت منها التاء في آخره، أمَّا الحذف؛ فلوجوده في فعله، وأما كسر العين؛ فمن الواو؛ فافهم، والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، وإذا قلت: وعظته فاتعظ؛ أي: قبل الموعظة، ووجه المناسبة في ذكر هذا الباب عقيب الأبواب المذكورة من حيث إنَّه كان فيها أمر ونهي وتشديد فيهما، وهي كلها وعظ ونصح، وهذا الباب أيضًا في الوعظ والنصح، انتهى.
==========
[1] في الأصل: (فعلة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (ووعظة)، وليس بصحيح.
%ص 558%
==================
[1] في الأصل: (فعلة)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فعلة)، وليس بصحيح.
(1/698)
[حديث: هل تَرون قِبلتي هاهنا؟! فوالله ما يخفى عليَّ خشوعكم ولا ركوعكم]
418# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي الكلاعي الدمشقيُّ الأصل (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن أبي الزِّناد)؛ بكسر الزاي، وتخفيف النون: هو عبد الله بن ذكوان القُرشي المدني، (عن الأعرج): هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي المدني: (أنَّ رسول الله)
ولأبي الوقت: (عن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنَّه (قال: هل تَرون)؛ بفتح المثناة الفوقية، استفهام على سبيل إنكار ما يلزم منه؛ المعنى: أنتم تحسبون (قِبلتي ههنا) وأنني لا أرى إلا ما في هذه الجهة؟! (فوالله): قَسَم منه عليه السَّلام، وجوابه قوله: (ما يخفى عليَّ)؛ بفتح التحتية، (خشوعُكم) بالرفع فاعل (يخفى)؛ المراد به: السجود؛ لأنَّه غاية الخشوع، وقد صرح في رواية مسلم: (بالسجود)، ويجوز أن يُراد به أعم من ذلك، فيتناول جميع أفعالهم في صلاتهم، وقوله: (ولا) يخفى عليَّ (ركوعُكم) بالرفع عطفًا على (خشوعكم)؛ يعني: إذا كنت في الصلاة مستدبرًا لكم.
فإن قلت: إذا كان الخشوع بمعنى الأعم يتناول الركوع أيضًا، فما فائدة ذكره؟
قلت: لكونه أكبر من عمد الصلاة؛ لأنَّ الرجل ما دام في القيام؛ لا يتحقق أنه في الصلاة؛ فإذا ركع؛ يتحقق أنه في الصلاة، ويكون فيه عطف العام على الخاص؛ والمعنى: أن رؤيتي لا تختص بجهة قبلتي هذه، فإني أرى من خلفي كما أرى من جهة قبلتي.
(أَني)؛ بفتح الهمزة (لأراكم) اللام فيه للتأكيد، وهو إما بيان لجواب القسم، أو بدل منه (من وراء ظهري): واختلف في ذلك؛ فقيل: كانت له عليه السَّلام عين خلف ظهره يرى بها من ورائه دائمًا، وقيل: كانت بين كتفيه عينان مثل سم الخياط؛ يعني: خرق [1] الإبرة يبصر بهما، لا يحجبهما ثوب ولا غيره، وقيل: بل كانت صورهم تتطبع في حائط قبلته كما تتطبع في المرآة مُثلَتُهُم فيها، فيشاهد بذلك أفعالهم، واختلف أيضًا في معنى هذه الرؤية؛ فقال قوم: المراد بها: العلم إمَّا بطريق أنه كان يوحى إليه بيان كيفية فعلهم، وإمَّا بطريق الإلهام، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّه لو كان ذلك بطريق العلم؛ ما كانت فائدة في التقييد بقوله: «من وراء ظهري»، وقال قوم: المراد بها: أنه يرى مَن عن يمينه، ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير في بعض الأحوال، وهذا أيضًا ليس بشيء، وقال الجمهور: إنها من خصائصه عليه السَّلام، وإن إبصاره إدراك حقيقي انخرقت له فيه العادة، ولهذا
%ص 558%
خرَّج البخاري هذا الحديث في (علامات النبوة)، وفيه دلالة لأهل السنة من الماتردية والأشاعرة حيث لا يشترطون في الرؤية مواجهة ولا مقابلة، وهذا هو الحق الصواب؛ لأنَّ الرؤية لا يشترط عقلًا عضو مخصوص، ولا مقابلة، ولا قرب، ولا بعد، ولهذا حكموا بجواز رؤية الباري تعالى في الدار الآخرة، خلافًا للمعتزلة في الرؤية مطلقًا، وللمُشَبِّهة والكَرَّامية في خلوها عن المواجهة والمكان، فإنَّهم إنَّما جوزوا رؤية الله تعالى؛ لاعتقادهم كونه تعالى في الجهة والمكان، وأهل السنة أثبتوا رؤية الله تعالى بالنقل والعقل، وبينوا بالبرهان على أن تلك الرؤية مبرأة عن الانطباع والمواجهة واتصال الشعاع بالمرئي، كما بين في موضعه، كذا قرره إمام الشَّارحين.
ثم قال: (ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إنَّ في هذا الحديث وعظًا لهم وتذكيرًا وتنبيهًا بأنَّه لا يخفى عليه ركوعهم وسجودهم، ولا يظنون أنه لا يراهم؛ لكونه مستدبرًا لهم، وليس كذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام يرى من خلفه مثل ما يرى من بين يديه، ويستفاد من الحديث: أنه ينبغي للإمام إذا رأى أحدًا [2] مُقصِّرًا في شيء من أمور دينه أو ناقصًا للكمال منه؛ أن ينهاه عن فعله، ويحضَّه على ما فيه جزيل الحظ، ألا ترى أنه عليه السَّلام كيف وبَّخ من نقص كمال الركوع والسجود، ووعظهم في ذلك بأنَّه يراهم من وراء ظهره كما يراهم من بين يديه، وفي «تفسير سنيد» عن أنس، ولفظه: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا بوجهه، فقال: «أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري»، وفي لفظ: «أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وإذا سجدتم»، وفي لفظ: «إني لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وإذا ما سجدتم»، وعند مسلم: صلى بنا ذات يوم، فلما قضى صلاته؛ أقبل علينا بوجهه، فقال: «أيها الناس؛ إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف؛ فإني أراكم أمامي ومن خلفي»، ثم قال: «والذي نفس محمد بيده؛ لو رأيتم ما رأيت؛ لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا»، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنة والنار») انتهى.
قلت: أشار عليه السَّلام بهذا إلى أن السبق في الأركان غير جائز، وقد ورد: أن الذي يرفع رأسه في الركوع قبل إمامه؛ أنه يُحوِّل رأسه رأس حمار يوم القيامة، فإن من سبق إمامه في ركن، ولم يشاركه إمامه فيه؛ فقد بطلت صلاته، وإن شاركه فيه؛ صحت وكان مسيئًا، ولا ريب أنه عليه السَّلام رأى في النار من يُعذَّب بهذا الفعل حتى أخبر عنه ونهى وزجر، وقال: «رأيت الجنة والنار»؛ إشارةً إلى هذا، فإنَّه في أمته رؤوف رحيم صلَّى الله عليه وسلَّم.
==========
[1] في الأصل: (خرءة).
[2] في الأصل: (أحد)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (خرءة).
[1] في الأصل: (خرءة).
(1/699)
[حديث: إني لأراكم من ورائي كما أراكم]
419# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى بن صالح): هو الوُحاظي _بضمِّ الواو، وتخفيف المهملة، ثم المعجمة_ الحمصي، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين، عن نيف وسبعين، (قال: حدثنا فُلَيْح)؛ بضمِّ الفاء، وفتح اللام، وسكون التحتية، آخره مهملة (بن سُليمان)؛ بضمِّ المهملة، (عن هِلال)؛ بكسر الهاء (بن علي) ويقال: (هلال بن أبي هلال بن علي)، ويقال: (ابن أسامة) الفِهري المديني، المتوفى آخر خلافة هشام بن عبد الملك، (عن أنس بن مالك): هو الأنصاري، خادم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (قال: صلى لنا)؛ أي: لأجلنا، وفي رواية كريمة: (صلى بنا)؛ بالموحدة؛ يعني: إمامًا (النبيُّ) الأعظم، ولأبي ذر: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة)؛ بالتنكير للإبهام، كذا قال الشَّارح، وتبعه الشراح.
قلت: والظاهر أنها صلاة الجمعة، يدل عليه قوله: (ثم رَقِيَ)؛ بفتح الراء، وكسر القاف، وفتح التحتية، ويجوز فتح القاف على لغة طيِّئ؛ ومعناه: صعد (المِنْبَر)؛ بكسر الميم، وسكون النون، وتخفيف الموحدة المفتوحة، ويجوز كسرها، فإنَّه لا يخطب إلا بعد صلاة الجمعة، فيتعين أنها هي، لا يقال: إن الخطبة تكون بعد صلاة الكسوف والاستسقاء؛ لأنَّا نقول: قوله: (صلاة) يدل على أنها كانت ذات ركوع وسجود من الفرائض؛ لأنَّها مطلقة، وهاتين [1] الصلاتين لا يذكر إحداهما [2] إلا بقيدها؛ فافهم.
(فقال في الصلاة): فيه حذف؛ تقديره: فقال في شأن الصلاة وفي أمرها، أو يكون متعلقها محذوفًا؛ تقديره: أراكم في الصلاة، كذا قرره في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أنه متعلق بقوله بعد: «لأراكم»، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا غلط؛ لأنَّ ما في حيز «أن» لا يتقدم عليها) انتهى.
(وفي الركوع)؛ أي: وفي شأنه، وإنما أفرده بالذكر، وإن كان داخلًا [3] في الصلاة؛ للاهتمام بشأنه؛ إمَّا لأنَّه أعظم أركانها؛ بدليل أنَّ المسبوق لو أدرك الركوع؛ فقد أدرك تلك الركعة بتمامها، وإمَّا لأنَّه عليه السَّلام علم أنَّهم قصَّروا في حال الركوع؛ فذكره؛ لزيادة التنبيه، انتهى.
إلى أن قال عليه السَّلام: (أَني) بفتح الهمزة (لأراكم) اللام فيه للتأكيد (من ورائي): وفي رواية: (من وراء)؛ بحذف التحتية منه، والاكتفاء بالكسرة عنها، وزعم الكرماني أن لفظ الحديث السابق يقتضي عموم الرؤية من الوراء لجميع الأحوال، وسياق اللفظ يقتضي خصوصها بحال الصلاة، قال إمام الشَّارحين: (حُكي عن مجاهد: أنَّه كان في جميع أحواله) انتهى.
قلت: وعليه فتكون الرؤية من الوراء عامة في جميع أحواله، كما هو مقتضى لفظ الحديث السابق، لا يقال: المطلق محمول على المقيد؛ لأنَّا نقول: ليس هذا منه؛ لأنَّ هذا خاص به عليه السَّلام، والخصوصية تدل على العموم،
%ص 559%
ويحتمل تعدد القصة؛ فافهم.
(كما أراكم)؛ أي: من أمامي، وصرح به في رواية أخرى، كما سيأتي، وفي رواية مسلم: (إني لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي)، وعن تقي بن خالد: أنه عليه السَّلام كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء، والكاف في (كما أراكم)؛ للتشبيه، فالمشبه به: الرؤية المقيدة بالقُدام، والمشبه: المقيدة بالوراء، قاله إمام الشَّارحين، وبقية الكلام سبق في الحديث السابق.
==========
[1] في الأصل: (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أحدهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (دخلًا)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أحدهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أحدهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/700)
(41) [باب هل يقال: مسجد بنى فلان؟]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (هل يقال: مسجد بني فلان؟)؛ يعني: هل يجوز أن يضاف مسجد من المساجد إلى قبيلة، أو إلى أحد مثل بانيه أو الملازم للصلاة فيه، فيقال: مسجد بني أمية، أو مسجد سنان باشا؟
نعم؛ يجوز، والدليل عليه حديث الباب المروي عن ابن عمر الآتي ذكره، وإنما ترجم المؤلف الباب بلفظة (هل) التي للاستفهام؛ إشارةً إلى أنَّ في هذا خلاف إبراهيم النخعي، فإنَّه كان يكره أن يقال: مسجد بني فلان؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، ذكره عنه ابن أبي شيبة، وحديث الباب يرد عليه، والجواب عن تمسكه بالآية: أن الإضافة فيها إلى الله تعالى حقيقة، وإضافتها إلى غيره إضافة تمييز وتعريف على سبيل المجاز لا للملك، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: وقد يقال: إن إبراهيم النخعي لا يمنع الجواز، بل كان يكره ذلك، وبين الكراهة وعدم الجواز فرق بيِّن [1]، فالأولى عدم الاعتداد بخلافه؛ لأنَّ الكراهة لا تفيد عدم الجواز، وعادة المؤلف إطلاق ترجمته، وعدم القطع بالحكم؛ فلهذا أتى بالاستفهام، وقد يقال: إن عادة المتقدمين التعبير بالكراهة، ومُرادهم عدم الجواز، وعليه فيكون مراده بالكراهة عدم الجواز؛ فافهم.
قال إمامنا الشَّارح: (ووجه ذكر هذا الباب ههنا، ووجه المناسبة بينه وبين الأبواب المتقدمة: أن المذكور في الأبواب السابقة أحكام تتعلق بالمساجد، والمذكور في هذا الباب أيضًا حكم من أحكامها، وهذا القدر كاف) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (فرقًا بينًا)، وليس بصحيح.
%ص 560%
==================
(1/701)
[حديث: أن رسول الله سَابَق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء]
420# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي الكلاعي الدمشقي الأصل (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن نافع): هو مولى ابن عمر، (عن عبد الله بن عمر): هو ابن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سابق) من المسابقة؛ وهي السبق الذي يشترك فيه الاثنان، وباب المفاعلة يقتضي ذلك (بين الخيل) على حُلَل أتته من اليمن، فأعطى السابق: ثلاث حلل، وأعطى المُصلِّي: حُلتين، والثالث: حلة، والرابع: دينارًا، والخامس: درهمًا، والسادس: فضة، وقال: «بارك الله فيك وفي كلكم [1]، وفي السابق، والفِسْكِل»، وهو بكسر الفاء والكاف، وسكون المهملة، آخره لام؛ الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل، قاله ابن التين (التي أُضمرت)؛ بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول، من الإضمار، يقال: ضمر الفرس _بالفتح_ وأضمرته أنا، والضُّمْر _بضمِّ الضاد المعجمة، وسكون الميم_: الهزال، وكذلك الضمور، وتضمير الفرس: أن يعلف حتى يسمن، ثم يرده إلى القوت، وذلك في أربعين يومًا.
وفي «النهاية»: (وتضمير الفرس: هو أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن، ثم لا تعلف إلا قوتًا؛ لتنحف، وقيل: تشد عليها سروجها، وتجلل بالأجلة حتى تعرق تحتها، فيذهب رهلها، ويشتد لحمها، ورَهَلَها _بفتح الراء والهاء واللام_ من رهِل لحمه؛ بالكسر: اضطرب واسترخى، قاله الجوهري، والمضمر: الذي يضمر خيله لغزو أو سباق، والمضمار: الموضع الذي يضمر فيه الخيل، ويكون وقتًا للأيام التي تضمر فيها)، قاله إمام الشَّارحين.
(من الحَفْياء)؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الفاء، وبالتحتية، والألف ممدودة، قال السفاقسي: (وربما قرئ بضمِّ الحاء مع القصر، وقدم بعضهم الياء على الفاء؛ وهو اسم موضع بقرب المدينة، والخيل التي أضمرت هي التي كانت المسابقة [2] بينها، وكان فرس النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بينها يسمى: السَّكْبَ_بتشديد السين المهملة، وسكون الكاف، وفتح الباء الموحدة_ وكان أغر محجلًا، طلق اليمين، له مسحة، وهو أول فرس مَلَكه، وأول فرس غزا عليه، واشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي: الضرس، فسماه عليه السَّلام السَّكْب، وسابق عليه فسبق، وفرح به، وهو أول فرس سابق عليه فسبق، وفرح المسلمون به)، قاله إمام الشَّارحين.
(وأَمَدها) بفتح الهمزة والميم؛ أي: غايتها (ثنية الوَداع)؛ بفتح الواو، عند المدينة، وبينها وبين الحفياء خمسة أميال أو ستة أو سبعة، وسميت بذلك؛ لأنَّ الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها، والثنية لغة: الطريقة إلى العقيقة، واللام فيه للعهد، كذا في «عمدة القاري».
(وسابق) عليه السَّلام أيضًا (بين الخيل التي لم تُضَمَّر)؛ بضمِّ المثناة الفوقية، وفتح الضاد المعجمة، وتشديد الميم المفتوحة، هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية: بضمِّ المثناة، وسكون الضاد، وتخفيف الميم؛ يعني: لم تجلل عليها؛ ليكثر عرقها، ويقوى لحمها، بل كانت كعادتها، وليس المراد منه: أنها مهزولة، بل هي متوسطة في السمن؛ فافهم.
(من الثنية)؛ بالمثلثة، والنون، والتحتية؛ هي الموضع المذكور آنفًا (إلى مسجد بني زُرَيْق)؛ بضمِّ الزاي المعجمة، وفتح الراء، وسكون التحتية، آخره قاف، وبنو زريق بن عامر بن حارثة بن غضب بن جشم بن الخزرج، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وإضافة المسجد إليهم إضافة تمييز وتعريف؛ حيث إنَّهم بنوه لا للملك، كما تقدم، وهذا موضع المطابقة للترجمة.
وقال صاحب «التوضيح»: (بنو زريق بطن من الخوارج)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (تفسيره بهذا ههنا غلط، والصحيح هو الذي ذكرناه) انتهى.
قلت: والظاهر أن قوله: (من الخوارج) تحريف من الناسخ، فزاد الألف، وأبدل الراء واوًا، فإنَّه قريب التصحيف؛ فافهم.
وقوله: (وأن) بفتح الهمزة (عبد الله بن عمر) هو ابن الخطاب (كان فيمن سابق بها)؛ أي: بالخيل أو بهذه المسابقة، كذا
%ص 560%
قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: والظاهر أن يقال بها؛ أي: بالخيل التي لم تضمر؛ لأنَّها أقرب مذكور؛ فافهم، يجوز أن يكون مقول ابن عمر بطريق الحكاية عن نفسه باسمه على لفظ الغيبة، كما تقول عن نفسك: العبد فعل كذا، ويجوز أن يكون مقول نافع، انتهى.
قلت: والظاهر الثاني، فإن المسابقة على الخيل التي لم تضمر يدل على قوة راكبها وشجاعته، ولهذا كان عليه السَّلام يسابق على الخيل التي لم تضمر وعلى التي أضمرت، وإن المسابقة على التي أضمرت يدل على قوة نفس الخيل وشدتها، فالمسابقة على التي لم تضمر أبلغ وأشد في القوة والشجاعة، فإن الدابة قوية بقوة راكبها؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: دليل على جواز المسابقة بين الخيول، وجواز تضميرها وتمرينها على الجري، وإعدائها لذلك؛ لينتفع بها عند الحاجة في القتال كرًّا وفرًّا، وهذا بالإجماع، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ... }؛ الآية [الأنفال: 60]، وكان الجاهلية يفعلونها، فأقرها الإسلام، ولا يختص جوازها بالخيل خلافًا لقوم، والحديث محمول على ما إذا كان بغير رهان، والفقهاء شرطوا فيها شروطًا، منها: جواز الرهان من جانب واحد، وأمَّا من الجانبين؛ فقمار إلا بمحلل، وقد علم في موضعه، وليس في الحديث دلالة على جواز ذلك، ولا على منعه، وفيه: تجويع البهائم على وجه الصلاح، وليس من باب التعذيب، وفيه: بيان الغاية مقدار أمدها، وفيه: جواز إضافة المسجد إلى بانيه أو إلى مصلٍّ فيه، كما ذكرناه، وكذلك يجوز إضافة أعمال البر إلى أربابها، ونسبتها إليهم، وليس في ذلك تزكية لهم) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (كلمكم).
[2] تكرر في الأصل: (المسابقة).
==================
[1] في الأصل: (كلمكم).
[1] في الأصل: (كلمكم).
(1/702)
(42) [باب القسمة وتعليق القنو في المسجد]
هذا (باب) حكم (القِسمة)؛ بكسر القاف؛ أي: للشيء (وتعليق القِنْو)؛ بكسر القاف، وسكون النون، بالجر؛ عطفًا على (القسمة) (في المسجد)؛ الألف واللام فيه للجنس، فيشمل كل مسجد، والجار والمجرور متعلق بـ (القسمة)، وزعم القسطلاني أنه يتعلق بكل من (القسمة) و (تعليق).
قلت: والأول هو الأظهر، وهو الذي اختاره إمام الشَّارحين؛ لأنَّه موافق للمعنى بخلاف ما زعمه؛ فافهم.
والقسمة في المسجد جائزة؛ لأنَّه عليه السَّلام قد فعلها، كما في حديث الباب، والمناسبة بين هذه الأبواب ظاهرة؛ لأنَّها في أحكام تتعلق بالمساجد؛ فافهم.
(قال أبو عبد الله) هو المؤلف نفسه: (القِنْو) بكسر القاف، وسكون النون: (العِذْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الذال المعجمة: هو كالعنقود للعنب، والعَذق _بفتح العين المهملة_: النخلة، وقال ابن سيده: (القنو والقنا: الكِباسة بشماريخه وبسره، والقنا _بالفتح_ لغة فيه، والجمع في كل ذلك: أقناء، وقنوان، وقنيان)، وفي «الجامع»: (في القنوان لغتان: كسر القاف وضمها، وكل العرب تقول: قِنو وقُنو في الواحد) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فتفسير المؤلف فيه نظر.
(والاثنان قِنوان): على وزن (فِعلان)؛ بكسر الفاء والنون، (والجماعة أيضًا)؛ مصدر: آض؛ بمعنى: رجع (قنوان)؛ بالرفع والتنوين، على وزن (فعلان) أيضًا، ويفرق بين التثنية والجمع بسقوط النون في التثنية عند الإضافة، وبثبوتها في الجمع، وبكسرها في التثنية، وإعرابها في الجمع؛ (مثل: صنو وصنوان)؛ يعني: في الحركات والسكنات، وفي التثنية والجمع، والصاد المهملة فيها مكسورة، والصنو: هو النخلتان أو ثلاث، يخرج من أصل واحد، وكل واحدة منهن: صنو، والاثنان: صنِوان؛ بكسر النون، والجمع: صنوان بإعرابها، والمؤلف لم يذكر جمعه؛ لظهوره من الأول، وهذا التفسير من قوله: (قال أبو عبد الله) إلى ههنا ثابت عند أبي ذر، وابن عساكر، وأبي الوقت، ساقط عند غيرهم؛ فافهم.
==========
%ص 561%
==================
(1/703)
[حديث: أُتي النبي بمال من البحرين فقال: انثروه في المسجد]
421# (وقال إبراهيم؛ يعني: ابن طَهْمان)؛ بفتح الطاء المهملة، وسكون الهاء؛ هو ابن شعبة أبو سعيد الخراساني، المتوفى بمكة سنة ثلاث وستين ومئة، وسقط اسم أبيه في رواية الأربعة، وإثباته هو الأصح، كما قاله إمام الشَّارحين؛ ليزول الاشتباه، قال الحافظ المزي: (هكذا هو في «البخاري» غير منسوب، وذكره أبو مسعود الدمشقي وخلف الواسطي في ترجمة: عبد العزيز بن صهيب عن أنس، وكذلك رواه عمر بن محمد بن بُجَير؛ بضمِّ الموحدة، وفتح الجيم، ونسبه عمر إلى جده البجري في «صحيحه» من رواية: إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، وقيل: إنه عبد العزيز بن رفيع، وقد روى أبو عوانة في «صحيحه» حديثًا من رواية: إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أنس: «تسحروا، فإنَّ في السحور بركة»، وروى أبو داود والنسائي حديثًا من رواية: إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبيد بن عمير، عن عائشة حديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث ... »؛ الحديث، فيحتمل أن يكون هذا، ويحتمل أن يكون هذا، والله أعلم أيهما هو) انتهى.
وقد اعترضه ابن حجر، فزعم أن قول المزي: (وقيل: إنه عبد العزيز بن رفيع) ليس بشيء.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (قوله: «ليس بشيء» يرجع إلى صاحب هذا القيل؛ لأنَّ المزي قال بالاحتمال، كما ذكرنا) انتهى.
قلت: بل مراد ابن حجر الغمز على المزي بذكره هذا القيل، وغمزه مردود عليه، فإن الرواة الأربعة قد أسقطوا ذكر أبيه، فاختلف فيه، وإن كان الأصح أنه ابن طهمان، فلا اعتراض على المزي في ذكره؛ لوجود الاشتباه، على أنه لم يجزم، بل قال بالاحتمال، وظاهر كلامه: اعتماد أنه ابن طهمان؛ لأنَّه قد قواه بالنقول، وذكره معتمدًا عليه، ثم ذكر القول الثاني بصيغة التمريض، وهو يدل على ضعفه، كما لا يخفى، وقال الإسماعيلي: (ذكره البخاري عن إبراهيم، وهو ابن طهمان فيما أحسب بغير إسناد؛ يعني: تعليقًا).
قال إمام الشَّارحين: ثم إنَّ هذا المعلق وصله أبو نعيم الحافظ: حدثنا محمد بن إبراهيم بن علي: حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد: حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد: حدثني أبي: حدثني إبراهيم بن إبراهيم، (عن عبد العزيز بن صُهَيب)؛ بضمِّ
%ص 561%
الصاد المهملة، وفتح الهاء: هو البصري الأعمى، (عن أنس): هو ابن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنَّه (قال: أُتي) بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول (النبيُّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وقوله: (بمال) متعلق بـ (أُتي)، وهو مُنَوَّن ومجهول، وقد تعين هذا المال فيما رواه ابن أبي شيبة من طريق حُميد مرسلًا: أنَّه كان مئة ألف، وأنَّه أرسل به العلاء بن الحضرمي (من) خراج (البحرين) قال: وهو أول خراج حُمِل إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد روى المؤلف في (المغازي) من حديث عمرو بن عوف: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صَالَحَ أهل البحرين، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه إليهم، فقَدِمَ أبو عبيدة بمال، فسمعت الأنصار بقُدُومه ... )؛ الحديث.
فإن قلت: ذكر الواقدي في (الرِّدة): (أنَّ رسول العلاء بن الحضرمي بالمال: هو العلاء بن جارية الثقفي).
قلت: يحتمل أنه كان رفيق أبي عبيدة، فاقتصر في رواية الواقدي عليه.
فإن قلت: في «صحيح البخاري» من حديث جابر: أنه عليه السَّلام قال له: «لو جاء بمال البحرين؛ أعطيتك»، وفيه: فلم يقدم مال البحرين حتى مات عليه السَّلام، فهذا يعارض حديث الباب.
قلت: لا معارضة في ذلك؛ لأنَّ المراد: أنه لم يقدم في السنة التي مات فيها النبيُّ الأعظم عليه السَّلام، فإنَّه كان في مال خراج أو جزية، فكان يقدم من سنة إلى سنة، وأما البحرين؛ فهو تثنية بحر في الأصل، وهي بلدة مشهورة بين البَصرة وعُمان، وهي هَجَر، وأهلها: عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن مَعَد بن عدنان، وقال القاضي عياض: (قيل: بينها وبين البصرة أربعة وثمانون فرسخًا)، وقال البكري: (لما صالح أهله رسول الله عليه السَّلام؛ أمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي)، وزعم أبو الفرج في «تاريخه» أنها وبية، وأن ساكنها معظمهم مطحولون، وأنشد:
من يسكن البحرين يَعظُم طحاله ... ويُغبَط بما في جوفه وهو ساغب
وزعم ابن سعد أنه عليه السَّلام لما انصرف من الجعرانة _يعني: بعد قسمة غنائم حنين_ أرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي، وهو بالبحرين يدعوه إلى الإسلام، فكتب إلى رسول الله عليه السَّلام بإسلامه وتصديقه، كذا في «عمدة القاري».
(فقال) عليه السَّلام: (انثروه)؛ بالنون ثم المثلثة؛ أي: صبوه (في المسجد) أي: النبوي المدني، فـ (أل) فيه للعهد (وكان) أي: المال المأتي من البحرين (أكثر مال أُتي) بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول (به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع نائب فاعل، يحتمل من البحرين، ويحتمل من غيرها، لكن تقدم أن المال كان مئة ألف، وهو ليس بكثير، لكن كونه أتي من البحرين كثير حيث إنَّه الواجب عليهم وقتئذٍ، وبالنسبة لما قبل ذلك، (فخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: من حجرته (إلى الصلاة)؛ أي: لأدائها في مسجده، والظاهر أنها الظهر، (ولم يلتفت إليه)؛ أي: إلى المال الذي قدم من البحرين، (فلما قضى صلاته)؛ أي: فرغ من صلاته، واستقبال القبلة؛ قام من مكانه، ثم (جاء فجلس إليه)؛ أي: عند ذلك المال؛ لأجل قسمته بين الناس، (فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه) من ذلك المال؛ (إذ جاءه العبَّاس)؛ وهو عم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ابن عبد المطلب، وكلمة (إذ) ظرف في الغالب، والعامل فيه يجوز أن يكون قوله: (فجلس إليه)، ويجوز أن يكون قوله: (يرى)، قاله إمام الشَّارحين، وزعم في «المصابيح» أن المعنى: فبينما هو على ذلك؛ إذ جاءه العبَّاس، ذكره القسطلاني.
قلت: وعليه؛ فهي ظرف للمفاجأة، وفيه نظر؛ لأنَّ العبَّاس لم يفاجئ النبيَّ الأعظم عليه السَّلام، بل جاءه؛ ليرى هذه القسمة حيث إنَّه عليه السَّلام ما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، فمجيئه ليس على سبيل المفاجأة، بل على سبيل التعجب من كرمه عليه السَّلام، وعلى هذا؛ فهي ظرف ألبتة، وليس معناها المفاجأة؛ فافهم.
(فقال: يا رسول الله؛ أعطني) من هذا المال كما أعطيت الناس، (فإني فاديت نفسي)؛ يعني: يوم بدر حيث أُخِذَ أسيرًا، وفاديت: من المُفَادَاة، يقال: فَادَاه يفاديه: إذا أعطى فداءه وأنقذ نفسه، ويقال: فدى وأفدى وفادى، ففدى: إذا أعطى المال لخلاص نفسه، وأفدى: إذا أعطى المال لخلاص غيره، وفادى: إذا افتَّكَ الأسير بأسير مثله، كذا في «عمدة القاري».
(وفاديت عَقِيلًا)؛ بفتح العين المهملة، وكسر القاف، وهو ابن أبي طالب، وكان هو أيضًا أُسر يوم بدر مع عمه العبَّاس، (فقال له)؛ أي: للعبَّاس (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: خذ) أي: افتح ثوبك وخذ، (فحَثَا)؛ بفتح الحاء المهملة والثاء المثلثة، من الحثية؛ وهي ملء اليد، يقال: حثوت له: إذا أعطيته شيئًا يسيرًا، والضمير فيه يرجع إلى العبَّاس (في ثوبه)؛ أي: حثا العبَّاس في ثوب نفسه مرة بعد أخرى إلى أن ملأ ثوبه كما يظهر، (ثم ذهب) رضي الله عنه عن المجلس يسيرًا (يُقله)؛ بضمِّ التحتية، من الإقلال؛ وهو الرفع والحمل، (فلم يستطع)؛ أي: حمله لكثرته، (فقال) أي العبَّاس: (يا رسول الله؛ اؤمر بعضهم)؛ أي: بعض الحاضرين (يرفعه)؛ أي: المال الذي أخذته (إليَّ)؛ بفتح التحتية؛ أي: عليَّ؛ لأنَّي لم أستطع حمله؛ لكثرته، و (يرفعه)؛ بياء المضارعة، والضمير المستتر فيه يرجع إلى البعض، والبارز إلى المال الذي حثاه العبَّاس في ثوبه، وهو بالجزم على أنه جواب الأمر؛ أي: فإن تأمره يرفعه، وبالرفع على الاستئناف؛ والتقدير: هو يرفعه، وفي رواية أبي ذر: (بِرفْعه)؛ بالباء الموحدة المكسورة، وسكون الفاء، و (اؤْمر)؛ بهمزة مضمومة، وأخرى ساكنة، وتحذف الأولى عند الوصل، وتصير الثانية ساكنة، وهذا جار على الأصل، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: (مُر) على وزن (عل)، فحذفت منه فاء الفعل؛ لأنَّ أصله: أمر؛ لأنَّه من أمر يأمر؛ مهموز الفاء، فحذفت همزة الكلمة؛ لاجتماع الهمزتين في أول الكلمة المؤدي إلى الاستثقال، فبقي: امُرْ، فاستغني عن همزة الوصل؛ لتحرك ما بعدها، فحذفت، فصار: (مُر)، على وزن (عل)، قاله إمامنا الشَّارح.
(قال) عليه السَّلام لعمه: (لا) أي: لا آمر أحدًا يرفعه عليك، (قال: فارفعه أنت عليَّ، قال: لا) أرفعه، وإنما لم يأمر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أحدًا بإعانته في الرفع ولا أعانه بنفسه، يحتمل أنه فعل ذلك؛ زجرًا له عن الاستكثار من المال، وألا يأخذ منه إلا قدر حاجته، ويحتمل أنه فعل
%ص 562%
ذلك؛ لينبهه على أن أحدًا لا يحمل عن أحد شيئًا، وفي المَثَل: كل عنزة معلقة من عرقوبها.
(فنَثَر)؛ بفتح النون، والثاء [1] المثلثة؛ أي: صب العبَّاس (منه) أي: من المال الذي أخذه، (ثم ذهب يُقله)؛ بضمِّ التحتية، من الإقلال؛ وهو الرفع والحمل؛ (يعني: فلم يستطع) حمله؛ لثقله، (فقال) العبَّاس: (يا رسول الله؛ اؤمر)؛ بضمِّ الهمزة الأولى، وسكون الثانية، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: (مر) على وزن (عل)، كما سبق (بعضهم) أي: بعض الحاضرين (يرفعه)؛ بياء المضارعة، والرفع على الاستئناف، والجزم؛ جوابًا للأمر، (قال: لا) آمر بذلك، (قال: فارفعه أنت عليَّ) بفتح التحتية، (قال: لا) أرفعه عليك، (فنثر) أي: صب العبَّاس (منه)؛ أي: من المال، (ثم احتمله) أي: رفعه بنفسه (فألقاه على كاهله)؛ هو ما بين كتفيه؛ لأنَّه حينئذٍ خَفَّوأمكن رفعه وحمله، (ثم انطلق)؛ أي: العبَّاس يمشي فيه، (فما زال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُتْبِعه)؛ بضمِّ التحتية، وسكون الفوقية، وكسر الموحدة، من الإتباع؛ أي: لم يزل عليه السَّلام يتبع العبَّاس (بصره حتى خفي علينا)؛ يعني: لم نره (عجبًا من حرصه)؛ يعني: تعجب من حرصه على المال، وانتصاب (عجبًا) على أنه مفعول مطلق من قبيل ما يجب حذف عامله، ويجوز أن يكون منصوبًا على أنه مفعول له، (فما قام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: من ذلك المجلس، (وثَم) بفتح المثلثة؛ أي: هنالك (منها) أي: من الدراهم الآتية من البحرين (درهم)؛ بالرفع: مبتدأ، وخبره قوله: (منها) مقدمًا، والجملة وقعت حالًا، والمقصود منه: إثبات القيام عند انتفاء الدرهم؛ إذ الحال قيدللمنفي [2] لا للنفي، والمجموع مُنْتَفٍ بانتفاء القيد؛ لانتفاء المقيد وإن كان ظاهره نفي القيام حال ثبوت الدرهم، قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
وذكره البرماوي بعينه، ونسبه لنفسه، فخفي على القسطلاني، فزعم أنَّ بين الكلامين تغايرًا [3]، وليس كذلك، بل أصل العبارةلإمام الشَّارحين؛ فافهم.
قال إمامنا الشَّارح: (فإن قلت: الترجمة مشتملة على شيئين؛ أحدهما: القسمة في المسجد، والآخر: تعليق القنو فيه، وليس في حديث الباب إلا ما يطابق الجزء الأول، قلت: ذكر أبو محمد بن قتيبة في «غريب الحديث» تأليفه في هذا الحديث: أنَّه لما خرج رأى أقناءً معلقة في المسجد، وكان أمر بهنَّ، كل حائط بقنو يعلق في المسجد؛ ليأكل منه من لا شيء له، وقال ثابت في كتاب «الدلائل»: «وكان عليها معاذ بن جبل في عهده عليه السَّلام») انتهى.
ومن عادة المؤلف الإحالة على أصل الحديث وما أشبهه، والمناسبة ما بينهما: أنَّ كلَّ واحد منهما وضع في المسجد لا للادخار، وعدم التفاته عليه السَّلام إليه؛ استقلالًا للدنيا وما فيها، فسقط بما ذكرنا قول ابن بطال في عدم ذكر المؤلف حديثًا في تعليق القنو: أنَّه أغفله، وكذلك سقط كلام ابن التين: أُنْسيَه، انتهى.
وزعم ابن الملقن أنَّ المؤلف أخذ تعليق القنو من جواز وضع المال في المسجد بجامع أنَّ كلًّا منهما وضع؛ لأخذ المحتاجين منه، وأشار بذلك إلى حديث عوف بن مالك الأشجعي عند النسائي بإسناد قوي: أنَّه عليه السَّلام خرج وبيده عصًا، وقد علَّق رجل قنو حشف، فجعل يطعن في ذلك القنو، ويقول: «لو شاء ربُّ هذه الصدقة؛ لتصدق بأطيب من هذا»، وليس على شرطه، انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه لما كان الحديث ليس على شرطه؛ لا يجوز له أخذ الحكم منه، ووضعه ترجمة ويحيل عليه؛ لأنَّه عنده ليس بقوي، فكيف يعتمد الحكم، وليس يعتمد دليله؟ على أنَّ ما في النسائي حديث مستقل ليس أصلًا لحديث الباب، وقياسه على وضع المال في المسجد قياس مع الفارق؛ لأنَّ القنو المعلق يفيد أنَّه علَّقه صاحبه؛ لأجل أن يصلِّي، ثم يرجع يأخذه، ولهذا قال عليه السَّلام لمَّا رآه: «لو شاء رب هذه الصدقة ... » إلى آخره، فأفاد أنَّه لم يعلق للصدقة، بل للحفظ، فالأظهر ما قاله إمام الشَّارحين؛ لأنَّه إشارة إلى أصل الحديث؛ فليحفظ.
وفي الحديث أحكام منها: أنَّ القسمة مفوضة إلى الإمام أو نائبه على قدر اجتهاده.
ومنها: أنَّ السلطان إذا علم حاجة لأحد إلى المال؛ لا يحل له أن يدخر منه شيئًا، وسلاطين زماننا عن هذا غافلون.
ومنها: أنَّ فيه كرم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وزهده في الدنيا حيث لم يلتفت إلى المال، ولم يبق عنده منه شيء، وأنَّه لم يمنع شيئًا سُئِلَه إذا كان عنده.
ومنها: أنَّ للسُّلطان أن يرتفع عما يدعى إليه من المهنة والعمل بيده، وله أن يمتنع من تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسلطان في ذلك حاجة.
ومنها: أنَّ فيه وضع ما الناس مشتركون فيه من صدقة وغيرها في المسجد؛ لأنَّ المسجد لا يحجب أحدًا من ذوي الحاجة من دخوله، والناس فيه سواء.
ومنها: أنَّ الأقناء في المسجد وما يشبهه لا بأس به.
ومنها: أنَّ الماء الذي أعدَّ للسَّقي في المسجد يشرب منه ويتوضأ؛ لأنَّه إنَّما جعل؛ لدفع العطش، ولم يردَّ به أهل المسكنة، فلا يترك شربه، وعليه تعامل الناس في الأمصار.
وقال ابن بطال: (وفي الحديث: أنَّ العطاء لأحد الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في كتابه دون غيرهم؛ لأنَّه أعطى العبَّاس لمَّا شكا إليه من الغرم، ولم يسوِّه في القسمة مع الثمانية، فلو قسَّم ذلك على التساوي؛ لما أعطى العبَّاس بغير مكيال ولا ميزان).
واعترضه الكرماني فقال: (لا يصح هذا الكلام؛ لأنَّ الثمانية هي مصارف الزكوات، والزكاة حرام على العبَّاس، بل كان هذا المال إمَّا فيئًا أو غنيمةً).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (لم يكن هذا المال فيئًا، وإنَّما كان خراجًا؛ لما رواه ابن أبي شيبة من طريق حميد مرسلًا، وفيه: «وهو أول خراج حمل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ... »؛ الحديث، ولو وقف الكرماني على هذا؛ لما قال هذا الكلام) انتهى.
قلت: وما ذكره ابن بطال من جعله المال من الزكاة، فقد تبعه عليه صاحب «التلويح» حيث قال: (وفي الحديث: دلالة للإمام الأعظم ومن تبعه أنَّه يجوز الاقتصار على بعض الأصناف الثمانية المذكورين في الآية؛ لأنَّه أعطى العبَّاس لمَّا شكا إليه الغرم بغير وزن، ولم يسوِّه في القسمة بين الثمانية، ولم ينقل أنَّه أعطى أحدًا مثله).
واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (وكلام ابن بطال وهم، وكلام
%ص 563%
صاحب «التلويح» صادر من غير تأمُّل؛ لأنَّه ليس للأصناف الثمانية دخل في هذا، ولا المال كان من مال الزكاة) انتهى.
قلت: يعني: أنَّ المال كان خراجًا، ولا حاجة للاستدلال للإمام الأعظم بهذا الحديث المحتمل، فإنَّ له أدلَّة كالجبال الراسخات، ذكرت في أبواب (الزكاة)، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الثاء)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (للنفي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (تغاير)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الثاء)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (للنفي)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الثاء)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (للنفي)، وليس بصحيح.
(1/704)
(43) [باب من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب فيه]
هذا (باب) بيان حكم (من دُعِي) بضمِّ الدال وكسر العين المهملتين، وفي رواية كريمة: (دَعَا) بفتح الدال والعين المهملتين (لطعام) وقوله: (في المسجد) متعلِّق بـ (دُعي) لا (لطعام)، وعُدِّيَ (دُعي) هنا باللام؛ لإرادة الاختصاص، فإذا أريد الانتهاء؛ عدِّيَ بـ (إلى)؛ نحو قوله تعالى: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25]، أو معنى: الطلب عدِّي بـ (الباء)؛ نحو قوله: دعا هرقل بكتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فتختلف صلة الفعل بحسب اختلاف المعاني المرادة، أفاده إمام الشَّارحين.
قلت: والألف واللام في (المسجد) للجنس، فيشمل كلَّ مسجد، ولا بأس في ذلك، كما يفعل في ديارنا في المواسم من دعاء القاطنين والجالسين في المسجد الشريف الأموي جعله الله معمورًا محفوظًا إلى ما بعد نزول عيسى ابن مريم من منارته الشرقية عليه السَّلام إلى دور أهل الخير والصلاح لأنواع الأطعمة الفاخرة، (ومن أجاب منه) كذا في رواية الأكثرين، وللكشميهني: (إليه)، ولغيره: (فيه)، والفرق بين هذه الروايات أنَّ كلمة (من) في رواية: (منه) للابتداء، والضمير فيه يعود على المسجد، وفي رواية: (إلى) يعود الضمير إلى (الطعام)، وفي رواية: (فيه) يعود الضمير إلى (المسجد)، وقصد المؤلف من هذا التبويب الإشارة إلى أنَّ هذا من الأمور المباحة، وليس من اللغو الذي يمنع في المساجد، والمناسبة بين البابين ظاهرة من حيث إنَّ كلًّا منهما حكم من أحكام المساجد، فإنَّ من باب: (حك البزاق باليد في المسجد) إلى قوله: باب: «سترة الإمام» خمسة وخمسون بابًا؛ كلُّها فيما يتعلق بأحكام المساجد، فلا يحتاج إلى ذكر المناسبة بينها على الخصوص؛ فافهم.
==========
%ص 564%
==================
(1/705)
[حديث: وجدت النبي في المسجد معه ناس]
422# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي، الدمشقي الأصل، الكلاعي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس، المدني، الأصبحي، (عن إسحاق بن عبد الله) زاد في رواية أبوي ذر والوقت، والأصيلي: (ابن أبي طلحة) كما في «الفرع»، وهو ابن أخي أنس من جهة الأم: (سمع) وللأصيلي: (أنه سمع) (أنسًا) وفي رواية: (أنس بن مالك هو الأنصاري)، (وجدت) يعني: يقول: وجدت؛ أي: أصبت، ولهذا اكتفى بمفعول واحد، ولابن عساكر: (قال: وجدت) (النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وقوله: (في المسجد)؛ أي: المدني النبوي، فـ (أل) للعهد حال من (النبيِّ) وقوله: (معه ناس) جملة اسمية وقعت حالًا، ولأبي الوقت: (بالواو) (فقمت) من المجلس، (فقال لي) عليه السَّلام: (أأرسلك) بهمزتين، وفي بعض الأصول: (أرسلك) بغير همزة الاستفهام (أبو طلحة؟) هو زيد بن سهل الأنصاري، أحد النقباء ليلة العقبة، شهد المشاهد كلها، وهو زوج أم أنس المتوفى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين على الأصح، كذا في «عمدة القاري»، وزعم ابن الملقن (أن «آرسلك» _بالمد_ وهو علم من أعلام نبوته؛ لأنَّ أبا طلحة أرسله بغتة).
ورده صاحب «المصابيح»: (بأنَّه لا يظهر هذا مع وجود الاستفهام؛ إذ ليس فيه إخبار ألبتة) انتهى.
قلت: بل الذي يظهر أنَّه عليه السَّلام كان عنده عِلم من أبي طلحة، وسؤال أنس استفهام بأنَّه عنده عِلم.
(قلت) وللأصيلي وابن عساكر: (فقلت)؛ بالفاء: (نعم) أي: أرسلني، (فقال) عليه السَّلام، ولأبي ذر: (قال) (لطعامٍ؟)؛ بالتنكير، وفي رواية: (للطعام) (قلت: نعم) أي: لطعام، (فقال) ولأبي ذر والأصيلي: (قال) (لمن حوله) بالنصب على الظرفية؛ أي: لمن كان حوله، وفي رواية: (لمن كان معه) (قوموا) أمر بالقيام من مجلسه للذهاب معه، (فانطلق)؛ أي: إلى بيت أبي طلحة، وفي بعض الأصول: (فانطلقوا)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ومن معه، (وانطلقت) أي: قال أنس: وانطلقت (بين أيديهم)؛ يعني: معهم.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للترجمة كلها ظاهرة، أما الشق الأول؛ فلأنا قد ذكرنا أنَّ «في المسجد» يتعلق بقوله: «دعي» لا بقوله: «لطعام»، فحصل الدعاء إلى الطعام في المسجد، وأما الشق الثاني؛ فهو إجابة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله لمن حوله: «قوموا»، فبهذا التقرير يندفع اعتراض من يقول: إن المطابقة للترجمة في الشق الثاني فقط؛ فافهم) انتهى.
وفي الحديث أحكام منها: جواز الحِجابة، وهو أن يتقدم بعض الخدام بين يدي الإمام ونحوه.
ومنها: جواز الدعاء إلى الطعام وإن لم يكن وليمة.
ومنها: أنَّ الدعاء إلى ذلك من المسجد وغيره سواء؛ لأنَّ ذلك من أعمال البر، وليس ثواب الجلوس في المسجد بأقل من ثواب الإطعام.
ومنها: دعاء السلطان إلى الطعام القليل.
ومنها: أن الرجل الكبير إذا دُعي إلى طعام، وعَلِمَ أن صاحبه لا يكره أن يَجلِبَ معه غيره، وأنَّ الطعام يكفيهم؛ أنه لا بأس بأنَّ يحمل معه من حضره، وإنَّما حملهم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى دار أبي طلحة _وهو قليل_؛ لعلمه أنَّه يكفيهم جميعهم؛ لبركته، وما خصَّه الله به من الكرامة والفضيلة، وهو من علامات النبوة، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وبهذا علم أنَّ تكثير القليل من الكرامات، وأنَّ تقليل الكثير ليس من الكرامات، بل من البدع المنكرات؛ فافهم.
==========
%ص 564%
==================
(1/706)
(44) [باب القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء]
هذا (باب) حكم (القضاء) وهو الحكم على الخصمين (و) حكم (اللِّعان) بكسر اللام (في المسجد)؛ (أل) فيه؛ للجنس، وقوله: (بين الرجال والنساء) حشو؛ لأنَّه لا يكون إلا بينهما، ولهذا لم يثبت في رواية المستملي، وهو أحفظ الرواة، وثبت في رواية غيره؛ لبيان الواقع؛ فافهم.
وعطف اللعان على القضاء من عطف الخاصِّ على العامِّ؛ لأنَّ القضاء أعم من أن يكون في اللعان وغيره، واللعان مصدر: لاعن، من اللعن؛ وهو الطرد والإبعاد، وسمي به؛ لما فيه من لعن
%ص 564%
نفسه في الخامسة، وهي من تسمية الكل باسم البعض؛ كالصلاة تسمى ركوعًا وسجودًا، واللعان عند الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: شهادات مؤكدات بالأيمان، مقرونة باللعن، قائمة مقام القذف في حقه، ومقام حد الزنى في حقها، وعند مالك والشافعي وأحمد: هو أيمان مؤكدات بلفظ الشهادة بشرط أهليَّة اليمين، وصفة اللعان: ما نطق به نص القرآن في سورة النور، وهو أن يبدأ القاضي بالزوج، فيشهد أربع شهادات، يقول في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى، يشير إليها في كل مرة، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى، ثم تشهد المرأة أربع شهادات، تقول في كل مرة: أشهد بالله إنه لَمِنَ الكاذبين فيما رماني به من الزنى، وتقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنى، كما بسط في محله.
==================
(1/707)
[حديث: أن رجلًا قال: يا رسول الله أرأيت رجلًا وَجَد مع امرأته رجلًا]
423# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى) زاد الكشميهني في روايته: (ابن موسى)؛ هو المعروف بالخَتِّ _بفتح الخاء المعجمة وتشديد المثناة الفوقية_ البلخي، كذا جَزَم به ابن السكن وغيره، وقيل: هو يحيى بن جعفر البيكندي، وقال الكرماني: (يحتمل أنَّه يحيى بن معين؛ لأنَّه سمع من عبد الرزاق).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (الأصح ما قاله ابن السكن) انتهى.
قلت: فاحتمال أنَّه ابن جعفر أو ابن معين ليس بشيء، بل هو ابن موسى، كما جزم به ابن السكن وغيره، ونصَّ إمام الشَّارحين: (أنَّه الأصح، ويدل عليه: أنَّه ثبت في رواية الكشميهني: «ابن موسى»، وبهذا تعين أنَّه ابن موسى، وتعليل الكرماني بأنَّه سمع من عبد الرزاق لا يدلُّ على أنَّه ابن معين؛ لأنَّ سماعه لا ينفي سماع غيره منه أيضًا، فقد يكون راوٍ سمع من أكثر من عشرة أو أكثر، فهذا لا يدل على ما قاله)؛ فافهم.
(قال: أخبرنا) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: (حدثنا) (عبد الرزاق)؛ هو ابن همام _على وزن (فعَّال) _ الصنعاني، صاحب «المصنف» (قال: أخبرنا ابن جُرَيْج)؛ بضمِّ الجيم، وفتح الراء، وسكون التحتية، هو عبد الملك ابن جريج المكي (قال: أخبرني)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (أخبرنا) (ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المدني، (عن سهل بن سعْد)؛ بسكون العين المهملة، هو ابن مالك الساعدي الخزرجي، أبو العبَّاس: (أنَّ رجلًا) قيل: إنَّه هلال بن أمية، وقيل: إنَّه عاصم بن عَدي العجلاني، وقيل: إنَّه عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد العجلاني.
قلت: ويدلُّ للأول: حديث أنس رضي الله عنه: أنَّ هلال بن أميَّة قذف شريك بن سحماء بامرأته، فرفع لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «ائت بأربعة شهداء، وإلا فحدٌّ [1] في ظهرك ... »؛ الحديث، وفيه: فنزلت آية اللعان، أخرجه المؤلف، ومسلم، والنسائي.
ويدل للثاني: حديث الزهري عن سهل بن سعد الساعدي: أنَّ عويمرًا جاء إلى عاصم بن عدي، فقال: «أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فقتله، أتقتلونه؟ سل يا عاصم رسول الله ... »؛ الحديث، أخرجه الطحاوي.
ويدل للثالث: حديث ابن عبَّاس: «أنَّه عليه السَّلام لاعَنَ بين العجلاني وامرأته ... »؛ الحديث، أخرجه الطحاوي، وأحمد في «مسنده»، والبيهقي في «سننه»، ووقع في حديث عبد الله بن مسعود: «وكان رجلًا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فَلَاعَنَ امرأته»، وقال المهلب: (الصحيح: أنَّ القاذف عويمر، والذي ذكر في حديث ابن عبَّاس وابن مسعود هو عويمر العجلاني، وكونه هلال بن أميَّة خطأ، وأظنُّ غلطًا من هشام بن حسان، وذلك؛ لأنَّها قصة واحدة، والدليل عليه: توقفه عليه السَّلام فيها حين نزلت الآية، ولو أنَّهما قضيَّتان؛ لم يتوقف عن الحكم في الثانية بما نَزَل عليه في الأولى) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: كأنَّه تبع في هذا الكلام محمد بن جرير، فإنَّه قال في «التهذيب»: (يستنكر قوله في الحديث: «هلال بن أمية»، وإنَّما القاذف عويمر بن الحارث العجلاني، وفيما قالاه نظر؛ لأنَّ قصة هلال وقذفه زوجته بشريك ثابتة [2] في «صحيح البخاري» في موضعين: «الشهادات» و «التفسير»، وفي «صحيح مسلم» من حديث أنس).
وقال ابن التين: (الصحيح: أنَّ هلالًا لَاعَنَ قَبْلَ عويمر).
وقال الماوردي في «الحاوي»: (الأكثرون على أنَّ قضيَّة هلال أسبق من قصة عويمر).
وفي «الشامل» لابن الصبَّاغ: (قصة هلال تبيِّن أنَّ الآية نزلت فيه أولًا) انتهى.
قلت: وحاصله: أنَّ القضيَّة ليست واحدة، بل متعددة، وأنَّ نزول الآية إنَّما كان في قصة هلال، وأنَّها كانت قبل قصة عويمر، ويدلَّ عليه: حديث أنس السابق المروي في «الصحيحين» و «النسائي»، فإنَّه صريح في ذلك، ويدلُّ على التعدد: كون القضية ذكرت مرات في «الصحيحين» بأشخاص متعددة، وقول المهلب: (وكونه هلال بن أمية خطأ) ليس بشيء؛ لأنَّه قد ذكر في حديث أنس السابق، فكيف يزعم أنَّه خطأ؟ وما هذا إلا كلام من لم يشم شيئًا من رائحة العِلم.
وقوله: (وأظن غلطًا من هشام) ممنوع؛ فإنَّه قد ذكر أيضًا من طرق متعددة، فكيف يزعم أنَّه غلط؟ وما هو إلا كلام من يصدر عنه من غير تأمل.
وقوله: (والدليل عليه ... ) إلى آخره ممنوع، فإنَّه عليه السَّلام يحتمل أنَّه ظنَّ أنَّ الحكم خاص به دون غيره، فتوقف في الحكم، ولذلك نظائر منها: أنَّه عليه السَّلام حين صلى في المسجد الأقصى بالأنبياء، فأذَّن جبريل، وأقام الصلاة، ولمَّا أُسرِيَ به، وهبط إلى الأرض؛ توقف في علامة للصلاة، فأشار الصحابة بالناقوس، وبعضهم بالدف، فلم يعجبه ذلك حتى رأى زيد وغيره رؤية الأذان، فظنَّ عليه السَّلام أنَّه خاص بتلك الليلة، وكذلك ما نحن فيه، فإنَّه ظنَّ أنَّ الحكم ليس عامًّا، بل خاص، ثم لما وقعت القصة المرة الثانية؛ جاء جبريل مقررًا للحكم السابق، وأخبره بأنَّ الحكم عام.
وقوله: (والذي ذكر في حديثي ابني مسعود وعبَّاس أنه عويمر) ليس بصريح، بل هو ظن وتخمين؛ لأنَّه لم يذكر في حديثهما أنَّه عويمر، والصحيح أنَّ القصة متعددة.
%ص 565%
وقيل: إنَّ الرجل سعد بن عبادة، وفيه نظر؛ لأنَّ الحديث فيه: «فتلاعنا»، ولم يتَّفق لسعد ذلك، قاله بعضهم.
قلت: وهو غير ظاهر؛ لاحتمال أنَّه قد اتفق له ذلك، والمثبت مقدم على النافي.
وزعم القسطلاني أنَّ حديث الزهري السابق لا يدل على أنَّ الرجل هو عاصم بن عدي؛ لأنَّ عاصمًا رسول الواقعة لا سائل لنفسه؛ لأنَّ عويمرًا [3] قال له: سل يا عاصم رسول الله صلى الله عليه السَّلام، فجاء عاصم، فسأل، فكره عليه السَّلام المسائل، فجاء عويمر بعده، وسأل).
قلت: وفيه نظر؛ لاحتمال أنَّ عاصمًا سأل لنفسه؛ لأنَّ القضية قد وقعت لعاصم ولعويمر، فسأل عاصم لنفسه أولًا، ثم سأل عويمر بعده، ويحتمل أنَّه لمَّا وقعت القضية لعويمر؛ سأل عاصمًا، فذكر أنَّه وقعت له أيضًا، فسأله [4] عويمر لأن يسأل لنفسه ولعويمر، فحديث الزهري دالٌّ على أنَّ القصة وقعت لعاصم أيضًا، خلافًا لما زعمه؛ فافهم.
(قال: يا رسول الله؛ أرأيت رجلًا)؛ الهمزة فيه للاستفهام؛ أي: أخبرني عن حكم رجل (وجد مع امرأته رجلًا)؛ أي: أجنبيًّا يزني بها، (أيقتله)؛ فيه حذف دلَّ عليه الأحاديث التي ذكرها المؤلف، والمحذوف: أيقتله أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المُتلاعنين، فقال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «قد قضى الله فيك وفي امرأتك».
قال: (فتلاعنا) أي: الرجل والمرأة اللعان المذكور في سورة النور (في المسجد) قال سهل بن سعد: (وأنا شاهد) لذلك، فلمَّا فرغا؛ قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها؛ فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «ذاك تفريق بين كلِّ متلاعنين ... »؛ الحديث، وسيأتي في (اللعان).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (أيقتله)؛ لأنَّه لو لم يَرَ مباشرة تامَّة؛ لمَّا سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن جواز قتل الرجل، وإلا؛ فمجرد وجدان الرجل مع امرأته غير مباشرة لا يقتضي سؤال القتل فيه، ففي الجملة ليس فيه إشعار بالزنى، ولا يقتضيه إلا ما يفهم من قوله: (أيقتله)، فإنَّه مشعر بالزنى، وإنَّما ذكر المؤلف هذا الحديث مختصرًا ههنا؛ لأجل الاستدلال على جواز القضاء في المسجد، وهو جائز عند الإمام الأعظم وأكثر العلماء.
وقال أئمتنا الأعلام: المستحب أن يجلس القاضي مجلس الحكم في الجامع، فإن كان بجنب داره مسجد؛ فله ذلك، وإن قضى في داره؛ جاز، والجامع أرفق المواضع بالناس وأجدر حتى لا يخفى على أحد جلوسه، ولا يؤم حكمه، وقد كان الشعبي يقضي في الجامع، وشُريح يقضي في المسجد ويخطب بالسواد، وقد قضى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجده بين الأنصار في مواريث تقادمت، وكانت الأئمة يقضون في المساجد، وقضى عثمان بن عفان بين سقاء وخصم له في المسجد.
وقال مالك: (جلوس القاضي في المسجد للحكم من الأمر القديم المعمول به).
وقال أشهب: (لا بأس للقاضي أن يقضي في المسجد).
وكان ابن أبي ليلى يقضي في المسجد.
قلت: وإنَّما جوزوا ذلك؛ لأنَّ الحكم على الخصمين عبادة، والمسجد بني؛ للعبادة، فحقه أن يحكم فيه.
وروي عن ابن المسيب: أنَّه كره القضاء في المسجد.
وعن عمر بن عبد العزيز: (لا يقعد القاضي في المسجد يدخل فيه المشركون، فإنَّهم نجس)، وتلا الآية.
وكان يحيى بن يعمر يقضي في الطريق، فقصد رجل إلى منزله، فقال: (القاضي لا يؤتى في منزله).
وقال الشافعي: (يكره قعود القاضي في المسجد للحكم إذا أعده لذلك دون ما إذا اتفقت له فيه حكومة).
قلت: والحديث حجة عليهم؛ لأنَّه عليه السَّلام قد قضى في حوادث متعددة في المسجد، وآية: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]؛ يعني: في الاعتقاد عند الجمهور، ولا مانع من دخولهم المساجد بدون إذن المسلم؛ لاحتمال إسلامهم، كما قالوا: إنَّهم يعلمون القرآن لئلَّا يهتدوا.
وحديث: «جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم وخصوماتكم» إن صحَّ؛ فمحمول على ما قبل الحكم؛ لأنَّه في الغالب يحصل بين الخصمين تشاجرٌ ورفع صوت، أمَّا عند الحكم؛ فلا يكون ذلك، كما لا يخفى؛ فإن الخصمين عند القاضي في مجلس الحكم يكونان في السكونة والوقار وغضِّ البصر.
فائدة: ابن أبي ليلى كان قاضي الكوفة، فجاء يومًا ليجلس مجلسه في المسجد للحكم، فسمع رجلًا عند باب المسجد يقول لرجل آخر: يا بن الزانيين، فقال: خذوه، فاضربوه حدين، فأخذوه، ودخلوا به المسجد، فضربوه حدين، فأخبر بذلك الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، فقال: يا للعجب من قاضي بلدنا! قد أخطأ في خمسة مواضع في مسألة واحدة:
أما الأول: فإنَّه قد أخذ القاذف من غير أن يخاصم المقذوف.
والثاني: أنَّه لو خاصم؛ يجب عليه حدٌّ واحد وإن قذف ألف رجل.
والثالث: أنَّه لو كان الواجب عنده حدَّين؛ ينبغي أن يتخلَّل بينهما بيوم أو أكثر حتى يَجِفَّ أثر الضرب الأول، وهو قد وَالَى بين الحدين.
الرابع: أنَّه قد حدَّ في المسجد، وقد قال عليه السَّلام: «جنِّبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وسلَّ سيوفكم، وإقامة حدودكم».
الخامس: أنَّه قذف الوالدين، ولم يسل عنهما هل هما في حال الحياة أم لا؟ فإن كان في الحياة؛ فالخصومة إليهما، وإلا؛ فالخصومة إلى الابن، كذا ذكره أصحاب المناقب، وذكره غير واحد من أهل التاريخ، والحديث المذكور رواه البخاري في «تاريخه» وابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع؛ فانظر فقه الإمام الأعظم ما أصوبه، وما أدقَّ نظره! وحقيق بأن يلقب برئيس المجتهدين، ولقد عُرِض عليه القضاء مرَّات متعدِّدة، فأبى ولم يقبله من شدَّة ورعه وزهده وصلاحه رضي الله عنه، ونفعنا به في الدارين، وحشرنا في زمرته ومن خُدَّامه وأتباعه تحت لواء سيد العالمين، ورأس الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم.
==========
[1] في الأصل: (فخذ)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (بابيه)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (عويمر)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (فاسله)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (فخذ)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (بابيه)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (عويمر)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فخذ)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (بابيه)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (عويمر)، وليس بصحيح.
(1/708)
(45) [باب إذا دخل بيتًا يصلي حيث شاء أو حيث أمر ولا يتجسس]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (إذا دخل) الرجل (بيتًا) لغيره بإذنه، وقوله: (يصلي)؛ أي: فيه، (حيث شاء)؛ كذا في رواية الأكثرين، وعليه؛ فهمزة الاستفهام مقدرة فيه تقديره: أيصلي؟ وفي رواية هكذا بهمزة الاستفهام؛ يعني: أيصلي في البيت حيث شاء؛ اكتفاءً بالإذن العام في الدخول؟ (أو) يصلي (حيث أمر)؛ أي: في المكان الذي أمره صاحب البيت؛ لأنَّه عليه السَّلام استأذنه في موضع
%ص 566%
الصلاة، ولم يصلِّ حيث شاء؛ كما في حديث الباب، فبَطُلَ حكم (حيث شاء)، قاله ابن بطال،
قال: ويؤيده قوله: (ولا يتجسَّس)؛ بالجيم، أو بالحاء المهملة، وبالضم، أو بالجزم؛ أي: لا يتفحص مكانًا يصلي فيه.
وقال ابن المنير: (والظاهر الأول، وإنما استأذن عليه السَّلام؛ لأنَّه دعي إلى الصلاة؛ ليتبَّرك صاحب البيت بمكان صلاته، فسأله عليه السَّلام؛ ليُصلِّ في البقعة التي يجب تخصيصها بذلك، وأمَّا من صلى لنفسه؛ فهو على عموم الإذن إلَّا أن يَخُص صاحب البيت ذلك العموم فيختص به) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن المؤلف عادته عدم القطع بالحكم، ولهذا أتى بالترجمة بكلمة (أو) التي لأحد الشيئين؛ إشعارًا بأنَّ الحديث يطابق إمَّا الحكم الأول، أو الثاني، والظاهر أن المراد: الحكم الثاني، والحكم الأول باطل، فكأن المؤلف قال: (باب: «إذا دخل بيتًا يصلي حيث أمر ولا يتجسس»)، وهذا هو المطابق للحديث، فإن الرجل الذي يدخل دار غيره يحتاج إلى الإذن العام في الدخول والقعود، وأمَّا الصلاة؛ فيحتاج إلى الإذن الخاص؛ لأنَّ المكان الذي دخله يحتمل أنَّه غير طاهر، ويحتمل أنَّ الرجل لا يعلم جهة القبلة، فيلزمه السؤال عن ذلك؛ لأنَّ الاجتهاد لا يصح هنا، وكذلك النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما استأذن؛ ليعلم طهارة المكان مع تبرُّك صاحب البيت بصلاته، فسؤاله [1] إنَّما كان عن طهارة المكان، لا سيما وصاحب البيت إذا كان له أولاد صغارٌ [2] لا يميزون بين الطاهر والنجس يلزم السؤال ألبتة، وعلى هذا؛ فالدخول للبيت على عموم الإذن إلَّا أن يخص صاحبه بمكان فيختص.
وأمَّا الصلاة؛ فهي على الإذن الخاص، كما ذكرنا، وعليه فالمراد: أنَّ الحديث يطابق الشق الثاني من الترجمة، والشق الأول المراد به: الدخول فقط، ويدلُّ لما قلناه حديث عتبان في الباب الذي بعده، وفيه: «فاستأذن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إلى أن قال: ثم قال: «أين تحب أن أصلي لك ... ؟»؛ الحديث، وعليه؛ فيتعين أن يكون استئذانه إنَّما هو في الدخول، وقوله: «أين تحب» استئذان في مكان الصلاة، وحديث الباب قطعة من حديث الباب الآتي؛ لأنَّهما واحد على أنَّ [3] الأحاديث تفسر بعضها بعضًا، كما ستقف عليه، فما ذكره ابن المنير ليس بشيء؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (فسأله)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أولادًا صغارًا)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أنه).
==================
[1] في الأصل: (فسأله)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أولادًا صغارًا)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فسأله)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أولادًا صغارًا)، وليس بصحيح.
(1/709)
[حديث: أين تحب أن أصلي لك من بيتك]
424# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميم واللام، بينهما مهملة ساكنة، هو ابن قعنب الحارثي البصري (قال: حدثنا إبراهيم بن سعْد)؛ بسكون العين المهملة، هو المدني، سبط عبد الرحمن بن عوف، (عن ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المدني، وصرح أبو داود الطيالسي في «مسنده» بسماع إبراهيم بن سعد من ابن شهاب، (عن محمود بن الرَّبِيْع)؛ بفتح الراء وسكون التحتية، بينهما موحدة مكسورة، هو الخزرجي الأنصاري الصحابي، وعند المؤلف من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه قال: أخبرني محمود (عن عتْبَان بن مالك)؛ بكسر العين المهملة وضمها، وسكون الفوقية، بعدها موحدة مفتوحة، هو الأنصاري السالمي المدني، كان إمام قومه على عهده عليه السَّلام، المتوفى بالمدينة زمن معاوية رضي الله عنه، وصرَّح المؤلف في رواية يعقوب بسماع محمود من عتبان.
قلت: ومع هذا، فقد صرَّح إمام الشَّارحين: (بأن عنعنة «الصحيحين» محمولة على السماع مقبولة)؛ فافهم.
(أنَّ النبيَّ) الأعظم، ولأبي ذر: (أنَّ رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم أتاه في منزله)؛ أي: يوم السبت، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، كما عند الطبراني، وفي لفظ: أن عتبان لقي النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوم جمعة، فقال: إنِّي أحبُّ أن تأتيني، وفي بعضها: أنَّ عتبان بعث إليه.
وعند ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة: أنَّ رجلًا من الأنصار أرسل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أن تعال، فخُطَّ لي مسجدًا في داري أصلي فيه، وذلك بعدما عمي، فجاء، ففعل.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا كأنَّه عتبان) انتهى.
(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (أين تحب أن أصلي) يعني: أين تريد أن أخصَّ مكانًا لصلاتي (لك من بيتك) وفي رواية الكشميهني: (في بيتك)، والإضافة في (لك) باعتبار الموضع المخصوص، فالأداء فيه له، وإلا؛ فالصلاة لله عزَّ وجلَّ، أفاده إمام الشَّارحين.
(قال) أي: عتبان: (فأشرت له) عليه السَّلام (إلى مكان) من بيتي نظيف طاهر مقابل للكعبة، (فكبر النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: تكبيرة الإحرام، (وصففنا)؛ أي: جعلنا صفًّا (خلفه) ولأبي ذر: (فصففنا)؛ بالفاء، ولابن عساكر: (وصفَّنا)؛ بالواو مع الإدغام، لا يقال: إنَّ إقامة الصف بعد التكبير؛ لأنَّا نقول: الواو لمطلق الجمع لا تقتضي الترتيب، فصفَّهم عليه السَّلام صفًّا خلفه، ثم كبر، (فصلى ركعتين) قال ابن بطال: (ولا يقتضي لفظ الحديث أن يصلي حيث شاء، وإنَّما يقتضي الحديث أن يصلي حيث أُمِر؛ لقوله: «أين تحب أن أصلي لك؟»، فكأنَّه قال: باب: «إذا دخل بيتًا هل يصلي حيث شاء أو حيث أُمِر؟»؛ لأنَّه عليه السَّلام استأذنه في موضع الصلاة، ولم يصلِّ حيث شاء، فبطل الحكم الأول، وبقي الحكم الثاني، وهو وجه مطابقة الحديث للجزء الثاني من الترجمة) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث استحباب تعيين مصلًّى في البيت إذا عجز عن حضور الجماعة.
وفيه: جواز الجماعة في البيوت.
وفيه: جواز النوافل بالجماعة.
وفيه: إتيان الرئيس في موضع المرؤوس.
وفيه: تسوية الصف خلف الإمام.
وفيه: ما يدلُّ على حُسن خلقه عليه السَّلام وتواضعه مع جلالة قدره وعِظَم منزلته) انتهى.
==========
%ص 567%
==================
(1/710)
(46) [باب المساجد في البيوت]
هذا (باب) حكم اتخاذ (المساجد في البيوت)، وهذا الباب والذي قبله في الحقيقة باب واحد؛ لأنَّ المؤلف ليس له إلا حديث واحد من عتبان، وإنَّما أخرجه في عدة مواضع مفرقًا ومطولًا ومختصراَ؛ لأجل التراجم.
(وصلى البَرَاء)؛ بفتح الموحدة وتخفيف الراء (بن عاذب) بالذال المعجمة رضي الله عنه (في مسجد داره في جماعة) وفي رواية الأربعة: (جماعة)؛ بالنصب وإسقاط (في)، وفي رواية: (في مسجده في داره)، وهذا تعليق روى معناه ابن أبي شيبة، وأشار المؤلف به إلى أن صلاته بالجماعة في مسجد داره دليل على جواز اتخاذ المساجد في البيوت؛ لأنَّه لو كان غير جائز؛ لما صلى البراء، ولما تابعوه على ذلك، فهو كالإجماع على جواز الصلاة في البيوت جماعة وانفرادًا؛ لأنَّ الأرض كلها جُعِلت مسجدًا وطهورًا؛ كما في
%ص 567%
«الصحيح»، وهذا وجه مطابقته للترجمة؛ فافهم.
==================
(1/711)
[حديث: أين تحب أن أصلي من بيتك؟]
425# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سعِيد ابن عُفَيْر)؛ بضمِّ العين المهملة وفتح الفاء وسكون التحتية، نسبه لجده؛ لشهرته به، وهو سعيد بن كثير بن عفير المصري، وعين سعِيد مكسورة (قال: حدثني) بالإفراد (الليث) هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي (قال: حدثني) بالإفراد أيضًا (عُقَيل)؛ بضمِّ العين المهملة وفتح القاف، هو ابن خالد الأيلي، (عن ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المدني، ونسبه لجده؛ لشهرته به (قال: أخبرني) بالإفراد (محمود بن الرَّبيع) بفتح الراء (الأنصاري) الخزرجي الصحابي: (أن عتْبان بن مالك)؛ بضمِّ العين المهملة وكسرها وسكون الفوقية، هو الأنصاري السالمي المدني الصحابي المتوفى بالمدينة زمن معاوية، والجملة في محل النصب على أنها مفعول ثان؛ لقوله: (أخبرني)، كذا في «عمدة القاري».
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: رواية الصحابي عن الصحابي، فإن قلت: من قوله: «أنَّ عُتْبان» إلى قوله: «قال عتبان» من رواية محمود بغير واسطة، فيكون مرسلًا، فلا يكون رواية الصحابي عن الصحابي.
ومن هذا قال الكرماني: «الظاهر أنَّه مرسل»؛ لأنَّه لا جرم أنَّ محمودًا سمع من عتبان أنَّه رأى بعينه ذلك؛ لأنَّه كان صغيرًا عند وفاة النبيِّ عليه السَّلام.
قلت: قد وقع تصريحه بالسماع عند البخاري من طريق مَعْمَر، ومن طريق إبراهيم بن سعد، كما مر في الباب الماضي، ووقع التصريح بالتحديث أيضًا بين عتبان ومحمود من رواية الأوزاعي، عن ابن شهاب عند أبي عوانة؛ فيكون رواية الصحابي عن الصحابي، فيُحمل قوله: «قال عتبان» على أن محمودًا أعاد اسم شيخه؛ اهتمامًا بذلك؛ لطول الحديث) انتهى.
قلت: وهذا يردُّ على ما زعمه الكرماني، وكأنَّه لم يطلع [1] على هذه الروايات، فللَّه درُّ إمامنا الشَّارح!
واختلف فيما إذا قال: (حدثنا فلان بن فلان قال: كذا، أو فعل كذا)، فقال الجمهور: هو كـ (عن) محمول على السماع بشرط أن يكون الراوي غير مدلس، وبشرط ثبوت اللقاء على الأصح.
وقال أحمد وغيره: (يكون منقطعًا حتى يتبين السماع)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ومع هذا، فإنَّ عنعنة «الصحيحين» مقبولة محمولة على السماع؛ فافهم.
(وهو من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وكان إمام قومه على عهد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (ممَّن شهد بدرًا من الأنصار) رضي الله عنه، أشار بذلك؛ لإفادة تقوية الرواية، وتعظيمه، والافتخار، والتلذذ به، وإلا؛ كان هو مشهورًا بذلك، أو غرضه التعريف للجاهل به؛ فافهم.
(أنَّه أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وهذا بدل من قوله: (أنَّ عتبان)، وفي رواية ثابت عن أنس: (عن عتبان).
فإن قلت: جاء في رواية مسلم: أنَّه بعث إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يطلب منه ذلك، فما وجه الروايتين؟
قلت: يحتمل أن يكون جاء إلى النبيِّ عليه السَّلام بنفسه مرة، وبعث إليه رسوله مرة أخرى؛ لأجل التذكير، قاله إمام الشَّارحين.
وزَعْمُ ابن حجر يحتمل أن يكون نسب إتيان رسوله إلى نفسه مجازًا.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (الأصل في الكلام الحقيقة، والدليل عليه: ما رواه الطبراني من طريق أبي أويس عن ابن شهاب بسنده أنَّه قال: قال للنبيِّ [2] صلَّى الله عليه وسلَّم يوم جمعة: «لو أتيتني يا رسول الله»، وفيه: أنَّه أتاه يوم السبت) انتهى.
قلت: ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وههنا أمكن الحمل على الحقيقة، بل تعين الحمل عليها بدلالة ما رواه الطبراني، فكلام ابن حجر ليس بشيء؛ فافهم.
(فقال يا رسول الله: قد أنكرت بصري) يحتمل معنيين: ضعف البصر، أو العمى.
وفي رواية مسلم: (لما ساء بصري).
وفي رواية الإسماعيلي: (جعل بصري يكلُّ).
وفي رواية أخرى لمسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت: (أصابني في بصري بعض الشيء).
وكل ذلك يدلَّ على أنَّه لم يكن بلغ العمى.
وفي رواية للبخاري في باب: (الرخصة في المطر) من طريق مالك عن ابن شهاب، فقال فيه: (إنَّ عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنَّه قال لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّها تكون الظلمة والسَّيل، وأنا رجل ضرير البصر).
فإن قلت: بين هذه الرواية والروايات التي تقدمت تعارض.
قلت: لا معارضة فيها؛ لأنَّه أطلق عليه العمى في هذه الرواية؛ لقربه منه، وكان قد قَرُبَ من العمى، والشيء إذا قرب إلى الشيء يأخذ حكمه، انتهى، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(وأنا أصلي لقومي)؛ أي: لأجلهم، والمعنى: أنَّه كان يؤمهم، وصرَّح بذلك أبو داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد؛ كذا في «عمدة القاري».
قلت: وصرَّح بذلك أيضًا المؤلف في باب (الرخصة في المطر) من طريق مالك عن ابن شهاب، ولم يبيِّن مَنْ قومه، والظَّاهر: أنَّهم جمع من الأنصار؛ فتفحَّص.
(فإذا كانت الأمطار)؛ أي: وجدت؛ فـ (كان) تامة، ولهذا ليس لها خبر، وهو جمع مطر؛ وهو ماء المزن؛ (سال الوادي)؛ أي: سال ماؤه، فهو من قبيل إطلاق اسم المحل على الحال (الذي بيني وبينهم) وفي رواية الإسماعيلي: (يسيل الوادي الذي بيني وبين مسجد قومي، فيحول بيني وبين الصلاة معهم)، كذا في «عمدة القاري».
(لم أستطع أن آتي مسجدهم) ولابن عساكر: (المسجد) (فأصلي بهم) بالموحدة، ونصب (أُصلِّيَ) عطفًا على قوله: (أن آتيَ) وللأصيلي: (فأصلِّي لهم)؛ باللام؛ أي: لأجلهم.
(وودِدْت)؛ بكسر الدال المهملة الأولى، ومعناه: تمنيت، قاله ثعلب.
وفي «الجامع» للقزاز، وحكى الفراء عن الكسائي: (ودَدت)؛ بالفتح، ولم يحكها غيره، والمصدر: وُدٌّ فيهما، ويقال في المصدر: الوَد، والوِد، والوُد والوَداد، والوِداد، والكسر أكثر، والوِدادة والوَدادة، وجاء: مودَّة، حكاه مكي في «شرحه».
وقال اليزيدي في «نوادره»: (ليس في شيء من العربية ودَدَت مفتوحة)؛ كذا في «عمدة القاري».
(يا رسول الله أنك تأتيني فتصليَْ)؛ بسكون التحتية وبنصبها، كما في «الفرع»؛ جوابًا للتمني؛ لوقوع الفاء بعد التمني (في بيتي) يحتمل الإضافة أن تكون للملك، وأن تكون لغيره، وأضافه لنفسه؛ باعتبار سكناه
%ص 568%
فيه، والظاهر الأول، (فأتخذه مُصلَّى)؛ بضمِّ الميم، موضع صلاة، (وأتخذَُه)؛ بالرفع على الاستئناف، أو بالنصب عطفًا على الفعل المنصوب، وكلاهما في «الفرع»، كذا قرره الزركشي.
ومثله في «عمدة القاري»، قال: (لأن الفاء وقعت بعد النهي المستفاد من الودادة) انتهى.
واعترض الدماميني ذلك فقال: (إن ثبتت الرواية بالنصب؛ فالفعل منصوب بـ «أن» مضمرة، وإضمارها هنا جائز لا لازم، و «أن» والفعل بتقدير مصدر معطوف على المصدر المسبوك من: أنَّك تأتيني؛ أي: وددت إتيانك فصلاتك، فاتخاذي مكان صلاتك مصلًّى، وهذا ليس في شيء من جواب التمني الذي يريدونه، وكيف ولو ظهرت «أن» هنا؛ لم يمتنع، وهناك يمتنع، ولو رفع «تصلي» وما بعده بالعطف على الفعل المرفوع المتقدم، وهو قولك: «تأتيني»؛ لصحَّ، والمعنى بحاله) انتهى.
قلت: واعتراضه وارد على ما قرره الزركشي؛ لأنَّه جعل النصب بالعطف على الفعل المنصوب، وأمَّا على ما ذكره إمام الشَّارحين؛ فلا يرد شيء؛ لأنَّه جعل النصب بـ (أن) المضمرة؛ حيث علله بقوله: (لأن الفاء وقعت بعد النهي ... ) إلى آخره؛ يعني: فهو منصوب بـ (أن) مضمرة، إلى آخر ما قاله الدماميني، والرواية بالنصب ثابتة في «الفرع» كالرفع، فالمعنى عليه صحيح، ولكنَّ إمامنا الشَّارح قد اختصر عبارته وأوضحها الدماميني؛ فافهم.
(قال) أي: الراوي: (فقال له) أي: لعُتبان (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: سأفعل)؛ بالهمز، يعني: أصلي لك في بيتك، (إن شاء الله) تعالى علقه بمشيئة الله تعالى؛ عملًا بقوله تعالى في الكهف: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا*إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ} [الكهف: 23 - 24]، وأراد: التبرُّك؛ لأنَّ اطلَاعَه بالوحي على الجزم بأنَّه سيقع غير مستبعد في حقِّه عليه السَّلام، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر وغيره.
قلت: ويدل عليه عموم قوله تعالى: {وَمَا [3] يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، فجميع أفعاله وأقواله عليه السَّلام مقرونة بالوحي، ولمَّا قال لعتبان: «سأفعل»؛ علم منه تحقق الفعل؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يخبر بأمر يفعله ولم يفعله؛ لأنَّه لا يخبر بخلاف الواقع، وعقَّبه بالمشيئة؛ تبرُّكًا بقوله تعالى، وإشارة إلى أنَّ جميع الأفعال بيد الله تعالى؛ فافهم.
وزعم الكرماني أنَّه ليس المراد به مجرد التبرك؛ إذ محل استعماله؛ إنَّما هو فيما كان مجزومًا به، وتبعه البرماوي.
قلت: وفيه نظر؛ فإنَّ استعمال المشيئة للتبرك ههنا حيث إنَّه عليه السَّلام علم بالوحي أنَّه يفعل ذلك، ولولا علمه بذلك؛ لما وعده بالفعل؛ لأنَّه لو لم يعلم؛ لكان خلف بالوعد، وهو محال عليه قطعًا صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فافهم.
(قال عتبان)؛ هو محمول على أنَّ محمودًا أعاد اسم شيخه؛ اهتمامًا بذلك؛ لطول الحديث، كما مر، (فغدا رسول الله) وللأصيلي والكشميهني: (فغدا على رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) زاد الإسماعيلي: (بالغد) (وأبو بكر)؛ هو عبد الله بن أبي قحافة، واسمه عثمان رضي الله عنهما، وعند الطبراني من طريق أبي أويس أنَّ السؤال وقع يوم الجمعة، والتوجه إليه وقع يوم السبت، كما سبق (حين ارتفع النهار)؛ تفسير لقوله: (فغدا)؛ يعني: أنَّه توجه إليه يوم السبت وقت الغداة، (فاستأذن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: في الدخول، وهذا يعين ما قلناه في الحديث السابق؛ فافهم.
(فأذنت له) وفي رواية الأوزاعي: (فاستأذنا؛ فأذنت لهما)؛ أي: للنبيِّ الأعظم عليه السَّلام وأبي بكر.
وفي رواية أبي أويس: (ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما).
وفي رواية مسلم من طريق أنس عن عتبان: (فأتاني ومن شاء الله من أصحابه).
وفي رواية الطبراني من وجه آخر عن أنس: (فأتاني في نفر من أصحابه).
قال إمام الشَّارحين: (والتوفيق بين هذه الروايات هو أنَّ أبا بكر كان معه في ابتداء توجههم، ثمَّ عند الدخول أو قبله بقليل اجتمع عمر وغيره من الصحابة، فدخلوا معه) انتهى.
قلت [4]: (فلم يجلس) عليه السَّلام (حين دخل البيت) وفي رواية الكشميهني: (حتى دخل)؛ أي: لم يجلس في الدار ولا غيرها حتى دخل البيت مبادرًا إلى ما جاء بسببه.
قال النووي في «شرح مسلم»: زعم بعضهم أن «حتى» غلط، وليس بغلط؛ لأنَّ معناه: لم يجلس في الدار ولا في غيرها حتى دخل البيت مبادرًا إلى قضاء حاجته التي طلبها منه، وجاء بسببها، وهي الصلاة في بيته، وفي رواية يعقوب عند الطيالسي والبخاري: (فلما دخل؛ لم يجلس حتى قال: «أين تحب؟»)، وكذلك للإسماعيلي.
قال إمام الشَّارحين: (إنما يتعيَّن كون رواية الكشميهني غلطًا؛ إذا لم يكن لعتبان دار فيها بيوت، وأمَّا إذا كانت له دار؛ فلا يتعين) انتهى.
قلت: ولا يخفى أنَّ دُور الصحابة ليس فيها بيوت، فإنَّ الدار بيت ومرتفق فقط، وليست دار أحدهم ذات بيوت، فإنَّه عليه السَّلام كانت حُجَره بيوتًا، والبيت: ما يبات فيه، وكأن النووي قاس البيت على بيت زمانه من اشتماله على عشرة أماكن أو أكثر أو أقل، وهو قياس مع الفارق، فإنَّ بين بيت الصحابة وبيت ما بعدهم فرقًا بيِّنًا، كما لا يخفى، وعليه؛ فيتعين كون رواية الكشميهني غلطًا؛ لأنَّه ليس في البيت مكان يقف فيه، بل الباب على الطريق متصل بمكان البيتوتة؛ فافهم.
(ثم قال) عليه السَّلام لعتبان: (أين تحب أن أصلي من بيتك) وللكشميهني: (في بيتك)؛ يعني: في أي مكان تريد أن أخصَّ الصلاة فيه وتجعله مصلًّى؟
فإن قلت: أصل (من)؛ للابتداء، فما معنى: (من بيتك)؟
قلت: الحروف ينوب بعضها عن بعض، فـ (من) ههنا؛ بمعنى: (في)؛ كما في قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا [5] خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر: 40]، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: 9].
(قال) عتبان: (فأشرت له) عليه السَّلام (إلى ناحية من البيت)؛ ليصلي فيها، وهذا يعين ما قلناه من أنَّ دار عتبان لم تكن فيها بيوت؛ لأنَّه لو كان فيها بيوت؛ لقال: فأشرت إلى بيت منها، ولمَّا قال: إلى ناحية من البيت؛ علم منه البيت هو ما يبات فيه، وأنه ليس يوجد غيره، وهذا أكبر ردٍّ على ما زعمه
%ص 569%
النووي آنفًا؛ فافهم.
(فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فكبَّر)؛ أي للصلاة.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا يدلُّ على أنه حين دخل؛ جلس، ثم قام، فكبر للصلاة، وبينه وبين ما قبله تعارض، ويمكن دفعه بأن يقال: لما دخل قبل أن يجلس؛ قال: أين تحب؟ ويحتمل أنَّه جلس بعده جلوسًا، ثم قام، فكبر) انتهى.
قلت: والظاهر: الأول، وهو أنه عليه السَّلام لما دخل؛ قال لعتبان: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» فأشار له إلى ناحية من البيت، فجلس فيها إمَّا لأجل الاستراحة، وإما لانتظار مجيء بقية الصحابة، فلما أخذ الراحة أو حضر بقية القوم؛ قام، فكبر، وأمَّا الاحتمال الثاني؛ فبعيد؛ لأنَّه قال: فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال: (وقد يقال: إنَّ معناه: فلم يجلس جلوسًا طويلًا، بل خفيفًا)؛ فافهم
(فقمنا فصففنا)؛ بالفكِّ للأربعة، و (نا) فاعل، ولغيرهم: (فصفَّنا)؛ بالإدغام، و (نا) مفعول؛ أي: حوله أو جعلنا صفًّا حوله، (فصلى) عليه السَّلام (ركعتين، ثم سلم)؛ أي: من صلاته، ففيه دليل على مشروعية صلاة النافلة في جماعة بالنهار، وأنه لا كراهة فيه؛ حيث كان على سبيل التداعي، كما صرح به أئمتنا الأعلام.
وليس في الحديث دليل على أن السنة في نوافل النهار ركعتان؛ لأنَّ هذه الصلاة كانت خصوصية لعتبان بدليل أنه سأله أن يصلي في بيته؛ ليتخذه مصلًّى، وأوعده عليه السَّلام بأنَّه سيفعل ذلك، فلم يُخْلِف وعده، وصلى ركعتين؛ تطييبًا لخاطره، وخصوصية له، بل كانت عادته عليه السَّلام في صلاة النهار الأربع كالليل؛ ولهذا قال أئمتنا الأعلام: الأفضل في الليل والنهار الأربع، والدليل عليه: حديث عائشة المروي في «الصحيحين» قالت: «كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي بالليل أربع ركعات لا تسأل عن حسنهن وطولهن»، وفيهما عنها: «أنَّه عليه السَّلام كان يصلي الضحى أربعًا»، وقد ثبتت مواظبته على الأربع نهارًا، وكلمة (كان) تدل على: الدوام والاستمرار، وهذا هو المذهب الصواب المختار، وهو حجة على الشافعي وغيره في أنَّ الأفضل في النهار والليل مثنى مثنى؛ فافهم.
(قال) أي: عتبان: (وحبسناه) [6]؛ أي: منعناه بعد الصلاة عن الرجوع (على خَزِيْرَة صنعناها له)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الزاي، وسكون التحتية، وفتح الراء، آخره هاء تأنيث، قال ابن سيده: (هي اللحم الغاث _بالمثلثة_؛ أي: المهزول يؤخذ، فيقطع صغارًا، ثم ي