روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الاصلي ظلما وبغيا

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الالكتروني

كتاب:آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة أبو البركات ا... /يا أمة الإسلام والأزهر الشريف *أفيقوا* /تحميل مذكرة الجبر3 ث ثانوي عام 3 ثانوي.pdf. / صفحة .. س وج احياء 3ث/ أرشيف المدونة النخبة في... /الفيزياء للجميع 3 .ث /مذكرة التميز (شرح ومراجعة) النصوص للصف الثالث الثا... /العلامات والأعراض التهاب المفاصل الروماتويدي /موضوعات علمية وللثانوية العامة وكذلك مسائل شرعية... /تحميل منهج الثانوية العامة 3ث /مذكرة الأساسيات , الجبر, الهندسة الفراغية , الاستا... /حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث .حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث . /ثانوي علم النفس اللثانوية العامة 2016 استاذ سام... /ث. استاتيكا :خرائط مفاهيم المميز للصف الثالث ال... /الفيزياء الثالث الثانوي3ث. /فيزياء 3ث /مناج الثالث الثانوي 3ث. /مذكرات 3ث. /مذكرات 3ث. /الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... / الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... /ث/الديناميكا(تفاضل الدوال المتجه.pdf ) /ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي /لا يمكن الجمع بين أن المؤمن مآله إلى الجنة وبين حد... /كتاب : الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ابن كثير /دليل 24. /القران مكتوب روابط /مجلد 1. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح... /مجلد 2. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح...

اللهم إني أُشهدك أنني بريئ من كل علم وكل شأن لا ترضاه ويخالف دينك القيم

الثلاثاء، 17 مايو 2022

مجلد 7. و8. أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)

 

7. مجلد 7. أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)

(17) [باب الصلاة في الثوب الأحمر]
هذا (باب): بيان حكم (الصلاة في الثوب الأحمر)؛ يعني: يجوز ويكره، وزعم ابن حجر أنه يشير إلى الجواز، والخلاف مع الحنفية، ومن أدلتهم ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال: (مر بالنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رجل وعليه ثوبان أحمران، فسلم عليه فلم يرد عليه)، وهو حديث ضعيف الإسناد) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: لا خلاف للحنفية في جواز ذلك، ولو عرف هذا القائل مذهب الحنفية؛ لما قال ذلك، ولم يكتف بهذا حتى قال: وتأولوا حديث الباب بأنها كانت حلة من برود فيها خطوط حمر، ولا يحتاج إلى هذا التأويل؛ لأنَّهم لم يقولوا بحرمة لبس الأحمر حتى تأولوا هذا، وإنما قالوا: مكروه لحديث آخر، وهو نهيه صلَّى الله عليه وسلَّم عن لبس المعصفر، والعمل بما ورد من الحديثين أولى من العمل بأحدهما، فاحتجوا بالأول على الجواز، وبالثاني على الكراهة.
وما زعمه هذا القائل من (أن من أدلتهم ما أخرجه أبو داود ... ) إلى آخره: ممنوع، وعرق العصبية حين تحرك حمله على أن سكت عن قول الترمذي عقيب إخراجه هذا الحديث، قال: (هذا حديث حسن صحيح) انتهى.
فانظر إلى تعصب ابن حجر وتعنته كيف يطيل لسانه، وهذا عرق فيه قد صار من أعضائه.
==========
%ص 489%
==================
(1/636)
[حديث: رأيت رسول الله في قبة حمراء من أدم]
376# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد بن عرعرة)؛ بالعينين والراءين المهملات، غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث: هو ابن البِرنْد؛ بكسر الموحدة والراء وبفتحها، وبسكون النون، البصري (قال: حدثني) بالإفراد (عُمَر) بضم العين المهملة وفتح الميم (بن أبي زائدة)؛ بالزاي: هو أخو زكريا الهمداني الكوفي، (عن عون) بالنون في آخره (بن أبي جُحَيْفَة)؛ بضم الجيم، وفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية، وفتح الفاء، (عن أبيه): هو أبو جحيفة المذكور، واسمه وهب بن عبد الله السُّوائي؛ بضم السين المهملة، وتخفيف الواو، بعدها ألف، ثم ألف [1]، الكوفي رضي الله عنه (قال: رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: بالإبطح بمكة، وقد صرح بذلك في رواية مسلم: (قال: أتيت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة وهو بالإبطح)، وهو الموضع المعروف، ويقال له: البطحاء، ويقال: إنه إلى منًى أقرب، وهو المحصب، وهو خيف [2] بني كنانة، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنه ذو طُوًى، قال إمام الشَّارحين: (وليس كذلك، كما نبه عليه ابن قرقول) انتهى.
قلت: وكان ابن حجر لم يقف على ما ذكره ابن قرقول؛ لعدم اطلاعه في كتب اللغة، فيقول رجمًا بالغيب، وهو خطأ ظاهر؛ فافهم.
(في قُبَّة) بضم القاف، وتشديد الموحدة المفتوحة (حمراء من أدم) وعند النسائي: (وهو في قبة حمراء في نحو من أربعين رجلًا)، قال الجوهري: (القبة: من البناء، والجمع قبب وقباب) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: المراد من القبة هنا: هي التي تعمل من الجلد، وقد فسر ذلك بكلمة (من) البيانية، والأَدم؛ بفتح الهمزة، والدال المهملة، جمع الأديم، وفي «المحكم»: الأديم: الجلد ما كان، وقيل: الأحمر، وقيل: هو المدبوغ، وقيل: هو بعد الأفيق، وذلك إذا تم واحمرَّ، والأفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه، وقيل: هو ما دبغ بغير القرظ، قاله ابن الأثير، و (الأدم): اسم الجمع عند سيبويه، والأدايم جمع أديم؛ كيتيم وأيتام وإن كان هذا في الصفة أكثر، وقد يجوز أن يكون جمع أدم.
وفي «المخصص»: إذا شق [3] الجلد وبسط حتى يبالغ فيه ما قبل من الدباغ؛ فهو حينئذ أديم وأدم [4] وآدمة، وفي «النوادر» للحياني: الأدم والأدم جمع الأديم؛ وهو الجلد، وفي «الجامع»: الأديم: باطن الجلد، انتهى.
(ورأيت بلالًا): هو مؤذن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بكسر الموحدة أوله (أَخذ)؛ بفتح الهمزة، والخاء المعجمة؛ أي: قد أخذ، ويجوز فتح الهمزة الممدودة، وكسر الخاء المعجمة، والظاهر أن الرواية الأول (وَضوء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بفتح الواو: وهو الماء الذي يتوضأ به، وفي المعنى الأول: رآه قد أخذه، وفي الثاني: رآه وهو آخذ، وذلك بعد ما توضأ النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (ورأيت الناس) أي: الصحابة (يبتدرون) أي: يتسارعون ويتسابقون إلى (ذلك)؛ باللام، وفي رواية غير الأصيلي وابن عساكر: (ذاك)؛ بغير لام (الوَضوء)؛ بفتح الواو، لأجل التبرك بآثاره الشريفة، (فمن أصاب) أي: أخذ (منه) أي: من الماء (شيئًا؛ تمسح به)؛ أي: بأن مسح وجهه ولحيته وصدره، (ومن لم يصب) أي: من لم يأخذ (منه شيئًا)؛ أي: لكثرة الناس والازدحام، أو لعدم وجود شيء منه؛ (أخذ من بلل يد صاحبه)؛ أي: رفيقه؛ حوزًا على الفضيلة العظيمة، وفي رواية: (من بَلال)؛ بفتح الموحدة وكسرها، والفتح أفصح، وفي رواية مسلم: (وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي؛ فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك)، وفي رواية: (فأخرج فضل وضوء رسول الله صلى الله علي وسلم، فابتدره الناس، فنلت منه شيئًا) انتهى.
قلت: وهذه الرواية تدل على أنه أخذ شيئًا يسيرًا منه، ورواية الباب تدل على أنه لم يأخذ منه شيئًا، لكن لما كان في يده؛ كان هو أحرص على أخذه من غيره؛ فافهم.
(ثم رأيت بلالًا) بكسر الموحدة؛ أي: المؤذن (أخذ عَنَزَة)؛ بفتح العين المهملة، والنون، والزاي؛ وهي مثل نصف الرمح أو أكبر شيئًا، وفيها سنان؛ مثل سنان الرمح، والعكازة قريب منها، كذا في «عمدة القاري»، وفي رواية ذكرها القسطلاني: (عنزة له) انتهى.
قلت: يحتمل عود الضمير في (له) إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويحتمل عوده إلى بلال، ويدل للأول قوله: (فركزها)؛ أي: أدخلها في الأرض بأمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأجل الصلاة.
(وخرج النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: من قبته الحمراء (في حلة حمراء): الجار والمجرور محله نصب على الحال، والحلة: ثوبان؛ إزار ورداء، وقيل: هي ثوبان من جنس واحد، سميا بذلك؛ لأنَّ كل واحد منهما يحل على الآخر، وقيل: أصل تسميتها بذلك إذا كان الثوبان جديدين كأحل طيتهما؛ فقيل لهما: حلة لهذا، ثم استمر عليها الاسم.
وقال ابن الأثير: الحلة: واحدة الحلل؛ وهي برود اليمن، ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد، وقال غيره: والجمع: حلل وحلال، وحلله الحلة: ألبسه عليها.
وفي رواية أبي داود: (وعليه حلة حمراء برود يمانية قطري)، فقوله: (برود) جمع برد، مرفوع؛ لأنَّه صفة الـ (حلة)، وقوله: (يمانية) صفة لـ (برود)؛ أي: منسوبة إلى اليمن، وقوله: (قِطْري)؛ بكسر القاف وسكون الطاء المهملة، والأصل: قَطَري؛ بفتح القاف والطاء؛ لأنَّه نسبة إلى قطر؛ بلد بين عمان وسيف البحر، ففي النسبة خففوها، وكسروا القاف، وسكنوا الطاء، ويقال: القطري: ضرب من البرود، وفيها حمرة، وقيل: ثياب حمر لها أعلام، فيها بعض الخشونة، وقيل: حلل جياد، وتحمل من قبل البحرين، وإنما لم يقل: قطرية مع أن التطابق بين الصفة والموصوف شرط؛ لأنَّه بكثرة
%ص 489%
الاستعمال صار كالاسم لذلك النوع من الحلل.
ووصف الحلة بثلاث صفات؛ الأولى: صفة الذات، وهي قوله: (حمراء)، والثانية: صفة الجنس، وهي قوله: (برود)، فبيَّن به أن جنس هذه الحلة الحمراء من البرود اليمانية، والثالثة: صفة النوع، وهي قوله: (قطري)؛ لأنَّ البرود اليمانية أنواع؛ نوع منها قطري بيَّنه بقوله: (قطري) انتهى.
وزعم ابن حجر أنه إنَّما لبس النبيُّ عليه السَّلام الحلة الحمراء في السفر؛ ليتأهب للعدو، ويجوز أن يلبس في الغزو بما لا يلبس في غيره.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (فيه نظر؛ لأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن في هذا السفر للغزو؛ لأنَّه كان عقيب حجة الوداع، ولم يبق له غزو إذ ذاك، وكأنَّ هذا القائل نقل عن بعض الأئمة الحنفية أنه ذهب إلى عدم جواز لبس الثوب الأحمر، ثم لما أوردوا عليه ما روي في هذا الحديث؛ أجاب بما ذكرنا).
قلت: لا النقل عنه صحيح، ولا هو مذهب الأئمة الحنفية، فلا يحتاج إلى الجواب المذكور؛ فافهم.
(مُشمِّرًا) ثوبه؛ بضم الميم الأولى، وكسر الثانية، وهو بالنصب على الحال من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، يقال: شمَّر إزاره تشميرًا: رفعه، وشمَّر عن ساقه، وشمَّر في أمره: خف؛ والمعنى: رفعها إلى أنصاف ساقيه، كما جاء في رواية مسلم: (كأني أنظر إلى بياض ساقيه)، كذا في «عمدة القاري».
(صلى إلى العنزة) أي: مقابل العصا (بالناس) صلاته هذه (ركعتين): وهي صلاة الظهر، وفي رواية مسلم: (فتقدم فصلى الظهر ركعتين، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة) (ورأيت الناس) أي: الأولاد ونحوهم (والدواب) أي: الخيل والحمير والإبل (يمرون بين يدي العنزة) وفي رواية أبي ذر: (من بين يدي العنزة)، وفي رواية: (يمر من ورائها الهراة)، وفي لفظ: (يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع)، ففيه استعمال المجاز، فإن العنزة لا يد لها، وفيه: جواز لبس الثوب الأحمر، وجواز الصلاة فيه، والباب معقود عليه، وفيه: جواز ضرب الخيام والقباب في الأسفار ونحوها، وفيه التبرك بآثار الصالحين، وفيه: استحباب نصب علامة بين يدي المصلي في الصحراء، وفيه: جواز قصر الصلاة في السفر وهو الأفضل عند إمامنا الأعظم، وأصحابه، والجمهور، ويدل عليه أيضًا ما في رواية مسلم، وهو حجة على من زعم أن الإتمام أفضل، وفيه: جواز المرور وراء سترة المصلي، وفيه: جواز لباس الثياب الملونة للسيد الكبير، والزهد في الدنيا، والحمرة أشهر الملونات، وأجمل الزينة في الدنيا.
وزعم ابن بطال وفيه: طهارة الماء المستعمل، وهو حجة على الحنفية في قولهم: بنجاسته.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (ليس كذلك، فإن المذهب أن الماء المستعمل طاهر حتى يجوز شربه والعجن به غير أنه ليس بطهور، فلا يجوز الوضوء ولا الاغتسال به، وكونه نجسًا رواية ضعيفة عن الإمام الأعظم، وليس العمل عليها على أن حكم النجاسة في هذه الرواية باعتبار إزالة الآثام النجسة عن البدن المذنب؛ فينجس حكمًا، بخلاف فضل وضوء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنه طاهر من بدن طاهر، وهو طهور أيضًا، أطهر من كل طاهر وأطيب) انتهى.
قلت: وإنما قال الإمام الأعظم في هذه الرواية بنجاسة المستعمل؛ لما قد شاهد من الناس أنه ينزل الماء من وجوه بعضهم أسود، وتارة ينزل من أيديهم أحمر، وتارة ينزل أصفر، فاستدل به على ارتكابهم شرب الخمر، وأكل الربا، وعدم بر الوالدين، وغير ذلك، وإن هذه الذنوب تذهب مع الماء المتوضأ به، والذنوب نجسة، فالماء المخلوط بها نجس، وهذا من بعض ولاية الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ فإنه رئيس المجتهدين وسيدهم التابعي الجليل، ويكفيه شرفًا وولاية أن الحكام والسلاطين على مذهبه إلى يوم القيامة، وأن الأولياء العظام من أتباعه، لا سيما مالك بن أنس، والليث بن سعد، ومحمد بن الحسن؛ كلهم من أتباعه، ولا سيما محمد بن إدريس من أتباع محمد بن الحسن.
وهذا الفضل لم يجتمع في غيره من الأئمة، فحقيق بأن يلقب بالإمام الأعظم، فإذا أطلق؛ لا يراد به غيره، وأن يلقب بإمام الأئمة؛ لأنَّه إمامهم وشيخهم، فهم عياله، كما قال محمد بن إدريس، وكل ما جاء بعده؛ فهو متصرف في مذهبه؛ لأنَّ الروايات عنه كثيرة، فما قال قولًا إلا قال به مجتهد، فله الرئاسة العظمى في العلم والاجتهاد رضي الله تعالى عنه، وحشرنا من بعض خدمهِ تحت لواء سيد المرسلين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
==========
[1] زيد في الأصل: (ثم ألف)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حنيف)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (رشق)، ولعله تحريف.
[4] في الأصل: (أدام)، وهو تحريف.
==================
[1] زيد في الأصل: (ثم ألف)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حنيف)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (رشق)، ولعله تحريف.
[1] زيد في الأصل: (ثم ألف)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حنيف)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (رشق)، ولعله تحريف.
(1/637)
(18) [باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب]
هذا (باب) حكم (الصلاة في): بمعنى (على)؛ كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ [1] فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] (المنبر)؛ بكسر الميم، من نبرت الشيء؛ إذا رفعته، والقياس فيه فتح الميم؛ لأنَّ الكسر علامة الآلة، ولكنه سماعي (والسُّطوح)؛ بضم السين المهملة، جمع سطح البيت، (والخشب)؛ بفتحتين وبالضمتين أيضًا؛ يعني: يجوز، ولما كان فيه خلاف لبعض التابعين وللمالكية في المكان المرتفع لمن كان إمامًا؛ لم يصرح المؤلف بالجواز وعدمه، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والترجمة شاملة لمن كان في المكان المرتفع، وهو إمام والناس خلفه في المكان المتسفل، ولمن كان في المكان المرتفع وهو مقتدٍ والناس خلفه في المكان المتسفل، وشاملة أيضًا لمن كان في المكان المرتفع وخلفه بعض والبعض أسفل منهم، ولمن كان مقتديًا وحده والإمام والناس وحدهم، وكل ذلك جائز، لكن مع الكراهة؛ لأنَّ فيه التشبه بأهل الكتاب؛ حيث اختص الإمام وكذا المقتدي بمكان وحده، كما سيأتي بيانه.
(قال أبو عبد الله): هو المؤلف نفسه: (ولم ير) أي: يعتقد (الحسن): هو البصري التابعي (بأسًا) أي: حرجًا ومنعًا (أن يُصلَّى)؛ أي: الشخص؛ بضم التحتية، وفتح اللام المشددة (على الجَمْد)؛ بفتح الجيم، وسكون الميم، آخره دال مهملة، قال السفاقسي: (الجمد؛ بفتح الجيم وضمها: مكان صلب مرتفع).
وزعم ابن قرقول أن في رواية الأصيلي وأبي ذر: بفتح الميم، وقال ابن التين: بضمها، لكن قال القاضي عياض: الصواب سكونها؛ وهو الماء الجامد من شدة البرد، وفي «المحكم»: (الجمد: الثلج)، وفي «المثنى» لابن عديس: (الجَمد؛ بالفتح)، وقال أبو عبد الله موسى بن جعفر: (الجمَد؛ محرك الميم: الثلج الذي يسقط من السماء)، وقال غيره: الجَمد والجُمد؛ بالفتح والضم، والجُمُد بضمتين: ما ارتفع من الأرض، وفي «ديوان الأدب» للفارابي: (الجمد: ما جمد من الماء، وهو نقيض الذَّوب [2]، وهو مصدر في الأصل)، وفي «الصحاح»: (الجمد؛ بالتحريك، جمع جامد؛ مثل: خادم وخدم، والجمْد والجمُد؛ مثل: عسْر وعسُر؛ مكان صلب مرتفع، والجمع أجماد وجماد؛ مثل: رمح وأرماح
%ص 490%
ورماح)، كذا في «عمدة القاري».
(والقناطر)؛ بفتح القاف، جمع قنطرة، وفي رواية الحمُّوي والمستملي: (والقناطير)، قال ابن سيده: (وهو ما ارتفع من البنيان)، وقال القزاز: (القنطرة معروفة عند العرب)، قال الجوهري: (وهي الجسر)، قال إمام الشَّارحين: (القنطرة: ما يبنى بالحجارة، والجسر يعمل من الخشب أو التراب) انتهى.
قلت: وقد يطلق على كل منهما جسر، لكن الفرق هو الأظهر.
(وإن) هذه تسمى وصلية؛ لأنَّها توصل حكم ما قبلها بما بعدها؛ فليحفظ (جرى تحتها بول) أو غيره من النجاسات، والضمير في قوله: (تحتها) يرجع إلى (القناطر) فقط، كذا زعمه الكرماني، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: يجوز أن يرجع الضمير إلى (الجمد) أيضًا؛ لأنَّ الجمد في الأصل ماء، فبشدة البرد يجمد، وربما يكون ماء النهر يجمد فيصير كالحجر حتى تمشي عليه الناس، فلو صلى شخص عليه وكان تحته بول أو نحوه؛ لا يضر صلاته.
فإن قلت: على هذا كيف يرجع الضمير في (تحتها) إلى الجمد وهو غير مؤنث؟
قلت: قد سبق أن الجوهري في «الصحاح» قال: إن الجمد جمع جامد، فإذا كان جمعًا؛ يجوز إعادة الضمير المؤنث إليه، وكذلك الضمير في قوله: (أو فوقها أو أمامها)؛ بفتح الهمزة، يجوز أن يرجع إلى (القناطر) بحسب الظاهر، وإلى (الجمد) بالاعتبار المذكور، والمراد من (أمامها): قدامها، انتهى.
وزعم ابن حجر الجمد: الماء إذا جمد، وهو مناسب لأثر ابن عمر الآتي: (أنه صلى على الثلج). ورده إمام الشَّارحين فقال: (إن لم يقيد الثلج بكونه متجمدًا متلبدًا؛ لا تجوز الصلاة عليه، فلا يكون مناسبًا له، وقال في «المجتبى»: سجد على الثلج، أو الحشيش الكثير، أو القطن المحلوج؛ يجوز إن اعتمد حتى استقرت عليه جبهته، ووجد حجم الأرض، وإلا؛ فلا يجوز، وفي «فتاوى أبي حفص»: لا بأس أن يصلي على الجمد، والبر، والشعير، والتبن، والذرة، ولا يجوز على الأرز؛ لأنَّه لا يستمسك، ولا يجوز على الثلج المتجافي والحشيش وما أشبهه حتى يلبده فيجد حجمه) انتهى.
(إذا كان بينهما)؛ أي: بين القناطر والبول، أو بين المصلي والبول، وهذا القيد مختص بلفظ (أمامها) دون أخواتها، كذا قاله الكرماني، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (المصلي غير مذكور، إلا أن يقال قوله: أن يصلي يدل على المصلى) انتهى.
(سترة): والمراد بها: أن يكون المانع بينه وبين النجاسة إذا كانت قدامه ولم يعين حد ذلك، والظاهر أن المراد منه ألَّا يلاقي النجاسة سواء كانت قريبة منه أو بعيدة، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم ابن حبيب من أصحاب مالك إن تعمد الصلاة إلى نجاسة وهي أمامه؛ أعاد الصلاة، إلا أن تكون بعيدة جدًّا، وفي «المدونة»: (من صلى وأمامه جدار أو مرحاض؛ أجزأه) انتهى.
ونص علمائنا الأعلام أن الصلاة في قرب النجاسة تجوز وتكره؛ لاحتمال أن يعود عليه منها شيء، كما تكره الصلاة في الحمام، والكنيف، والمقبرة، والمغتسل، والمزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، ونحوها، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(وصلى أبو هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (على ظهر المسجد) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: (على سقف المسجد)، والمراد به: السطوح، ففيه المطابقة للترجمة (بصلاة الإمام) يعني: مقتديًا بالإمام، فيكون الإمام أسفل من المقتدي، وهو جائز، إلا أنه مكروه، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة عن وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة قال: (صليت مع أبي هريرة فوق المسجد بصلاة الإمام وهو أسفل)، وصالح تكلم فيه غير واحد، ولكن رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي هريرة، فتقوَّى بذلك، فلأجل هذا ذكره البخاري بصيغة الجزم، وروى ابن أبي شيبة عن أبي عامر، عن سعيد بن مسلم قال: (رأيت سالم بن عبد الله يصلي فوق ظهر المسجد صلاة المغرب ومعه رجل آخر_يعني: ويأتم بالإمام في رمضان_ فقال: لا أعلم به بأسًا إلا أن يكون بين يدي الإمام).
قلت: وهذا يدل على أن الإمام والمقتدين معه وهو في ظهر المسجد يقتدي بالإمامولا كراهة فيه، وإنما المكروه قيام الإمام على مكان مرتفع والمقتدون أسفل منه، أو قيامه على مكان متسفل والمقتدون خلفه مرتفعون عنه، فهذا مكروه في الصورتين إلا إذا كان مع الإمام واحد يقتدي به، فتنتفي الكراهة، وقد وَرَدَ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (أنه عليه السَّلام نهى أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه؛ يعني: أسفل منه)، كذا في «إمداد الفتاح»، فيكره أن يكون موضع الإمام أو المأموم أعلى من موضع الآخر إلا إذا أراد التعليم لأفعال الصلاة، أو أراد المأموم التبليغ للقوم؛ فلا كراهة عندنا، وبه قال محمد بن إدريس، وإذا كره أن يعلو الإمام؛ فالمأموم أولى، وهو مذهبنا والشافعيِّ، وزعم ابن حزم أنه لا يجوز ذلك عند الإمام الأعظم ومالك، ورده إمام الشَّارحين، فقال: (ليس مذهب الإمام الأعظم هذا، وإنما مذهبه أنه يجوز، ولكنه يكره) انتهى.
قلت: ولا عجب من ابن حزم، فإنه ينقل الأقوال التي لا أصل لها في المذهب، ويعتمد عليها في كتبه، وهو لا يدل إلا على عدم اطلاعه في المذاهب، وقال إمامنا شيخ الإسلام: إنَّما يكره إذا لم يكن عذر، أما إذا كان عذر؛ فلا كراهة، كما في الجمعة إذا كان القوم على الرفِّ وبعضهم على الأرض، والرفُّ؛ بتشديد الفاء شبه الطاق، وقال الحافظ الطحاوي: أنه لا يكره، وعليه أكثر مشايخنا الأعلام رحمهم الملك العلام.
(وصلى ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (على الثلج)؛ بالمثلثة والجيم؛ يعني: وكان الثلج متلبدًا؛ لأنَّه إذا كان متجافيًا؛ لا تجوز الصلاة عليه، وليس لهذا الأثر مطابقة للترجمة إلا إذا شرطنا التلبد؛ لأنَّه حينئذٍ يكون مُتحجرًا، فيشبه السطح أو الخشب، قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
قلت: ووجهه ظاهر، فإن الثلج إذا لم يكن متلبدًا؛ يتسفل شيئًا فشيئًا، فلا تستقرُّ عليه الجبهة عند السجود، فاشتراط التلبد لا بد منه، فهذا الأثر فيه اختصار، ومع التلبد يكون متحجرًا، فيشبه السطح؛ لأنَّه عالٍ [3] على الأرض، فبهذا تحصل المطابقة.
==========
[1] في الأصل: (لأصلبنكم).
[2] في الأصل: (يقبض الروب)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (عالي)، والمثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (لأصلبنكم).
[2] في الأصل: (يقبض الروب)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (لأصلبنكم).
[2] في الأصل: (يقبض الروب)، وهو تحريف.
(1/638)
[حديث: ما بقي بالناس أعلم مني هو من أثل الغابة]
377 # وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله): هو ابن المديني (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عُيَيْنة؛ بضم المهملة، وفتح التحتية الأولى، وسكون الثانية (قال: حدثنا أبو حازم) بالحاء المهملة، وبالزاي: هو مسلمة بن دينار (قال) أي: أبو حازم: (سألوا) أي: التابعون؛ لأنَّه حين السؤال لم يكن بالمدينة صحابة غير سهل المذكور؛ لقوله الآتي: (ما بقي بالناس أعلم مني)؛ بسكون العين المهملة: هو الساعدي، آخر من مات من الصحابة بالمدينة: (من أي شيء) أي: من أي عود (المِنْبر؟)؛ بكسر الميم، وسكون النون؛ أي: النبوي، فـ (اللام) فيه للعهد عن منبر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية أبي داود: (أن رجالًا أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد أمتروا في المنبر، ممِّ عوده؟)؛ أي: وقد شكوا، واختلفوا في منبر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من أي شيء كان عوده؟ كذا قاله إمام الشَّارحين، فليحفظ.
(فقال) أي: سهل للسائلين:
%ص 491%
(ما بقي بالناس) وفي رواية الكشميهني: (في الناس)، وفي رواية: (من الناس) (أعلم مني) أي: بذلك المنبر من أي شيء، وهذا لا ينافي وجود أحد من الصحابة في غير المدينة؛ كالكوفة والبصرة؛ لأنَّ مراده الناس التي بالمدينة، وقد يكون الذي في غيرها غير عالم بذلك؛ لكونه صغيرًا؛ فتأمل.
(هو): مبتدأ؛ أي: المنبر (من أَثْل الغابة) خبره، وفي رواية أبي داود: (من طرفاء الغابة)، و (الأَثْل)؛ بفتح الهمزة، وسكون المثلثة: شجر شبه الطَّرْفاء إلا أنه أعظم منه، قاله ابن سيده، وقال أبو زياد: الأثل: شجر طوال ليس له ورق يثبت، مستقيم الخشب، وخشبه جيد يحمل إلى القرى فيبنى عليه بيوت المدر، وورقه هدب دقاق، وليس له شوك، يصنع منه القصاع، والأواني الصغار والكبار، والمكاتب، والأبواب، وهو النضار، وقال أبو عمرو: هو أجود الخشب للآنية، وأجود النضار الورس؛ لصفرته، ومنبره عليه السَّلام نضار، وفي «الواعي»: الأثل: حمصة؛ مثل الأشنان، ولها حب؛ مثل حب التنوم، ولا ورق له، وإنما هي أشنانه، يغسل بها القصارون غير أنها ألين من الأشنان.
وقال القزاز: هو ضرب من الشجر يشبه الطرفاء، وليس به شوك وهو أجود منه عودًا، ومنه يصنع قداح الميسر والتَّنُّوْم _بفتح المثناة الفوقية، وضم النون المشددة، وبعد الواو الساكنة ميم_؛ وهو نوع من نبات الأرض، فيه وفي ثمره سواد قليل.
و (الغابة)؛ بالغين المعجمة والموحدة: أرض على تسعة أميال من المدينة، كانت إبل النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مقيمة بها للمرعى، وبها وقعت قصة العرنيين الذين أغاروا على سرحه عليه السَّلام، وقال ياقوت: (بينها وبين المدينة أربعة أميال)، وقال البكري: (هما غابتان عليا وسفلى)، وقال الإمام الزمخشري: (الغابة: بريد من المدينة من طريق الشام)، وقال الواقدي: (ومنها صنع المنبر)، وفي «الجامع»: (كل شجر ملتف؛ فهو غابة)، وفي «المحكم»: (الغابة: الأجمة التي طالت، ولها أطراف مرتفعة باسقة)، وقال الإمام: هي أجمة القصب، وقد جعلت جماعة الشجر غابًا، مأخوذ من الغيابة، والجمع: غابات وغاب.
و (الطَّرْفاء)؛ بفتح الطاء المهملة، وسكون الراء المهملة، ممدودة؛ شجر من شجر البادية، واحدها طَرفة؛ بفتح الطاء؛ مثل: قصبة وقصبًا، وقال سيبويه: (الطرفاء واحد وجمع)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والطرفاء: شجر له ساق وورق صغير ناعم؛ مثل الصنوبر، قد رأيته في أرض المرج؛ الغوطة عند البحرة، والله أعلم.
(عمله) أي: المنبر؛ يعني: صنعه ونجره (فلانٌ)؛ بالتنوين؛ لأنَّه منصرف؛ لأنَّه كناية عن علم المذكر، بخلاف فلانة؛ فإنها كناية عن علم المؤنث، والمانع من صرفه وجود العلتين؛ وهما العلمية والتأنيث، كذا في «عمدة القاري».
قال إمام الشَّارحين: (واختلفوا في اسم فلان الذي نجر منبره عليه السَّلام؛ ففي كتاب «الصحابة» لابن الأمين الطليطلي: أن اسم هذا النجار قبيصة المخزومي، ويقال: ميمون، وقيل: صلاح غلام العباس بن عبد المطلب، وقال ابن بشكوال: وقيل: هو ميناء، وقيل: إبراهيم، وقيل: باقوم؛ بالميم في آخره، وقال ابن الأثير: (عمله باقوم، وكان روميًّا غلامًا لسعيد بن العاص، مات في حياة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم).
وروى ابن سعد في «شرف المصطفى» من طريق ابن لهيعة عن سهل قال: (كان في المدينة نجار واحد يقال له: ميمون)؛ وذكر قصة المنبر، وقال ابن التين: (عمله غلام لسعد بن عبادة، وقيل: لامرأة من الأنصار)، وروى أبو داود عن نافع، عن ابن عمر: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما بدن؛ قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرًا يا رسول الله تجمع أو تحمل عظامك؟ قال: «بلى»، فاتخذ له منبرًا مرقاتين).
وفي «طبقات ابن سعد» من حديث أبي هريرة قالوا: (كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يخطب يوم الجمعة إلى جذع قائمًا، فقال: «إن القيام شق علي»، فقال تميم الداري: ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت بالشام؟ فشاور النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلامًا يقال له: كلاب [مِنْ] أعمل الناس، فقال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «مره أن يعمله»، فعمله درجتين ومقعدًا، ثم جاء به فوضعه في موضعه) انتهى.
قلت: وروى عبد الرزاق: أن اسم هذا النجار: باقول؛ باللام، والظاهر: أن الأقرب من هذه الأقوال أن اسم هذا النجار كلاب غلام للعباس بن عبد المطلب، كما يدل عليه حديث أبي هريرة، وكذا حديث ابن عمر، والظاهر: أنه هو اختيار إمام الشَّارحين، ويحتمل أن الأقرب أنه باقوم _بالميم_ الرومي غلام سعيد بن العاص، كما قاله ابن الأثير، وكذا الغافقي، وزعم ابن حجر أن الأقرب أنه ميمون، كما قاله الصغاني.
قلت: وهو ممنوع، فإنه لا دليل على أنه هو، وما روى ابن سعد من طريق ابن لهيعة لا يعتمد عليه؛ لشهرة ابن لهيعة بالضعف؛ لأنَّه كذوب، فلا يعول عليه، والأقرب أنه كلاب، كما دل عليه حديث أبي هريرة وابن عمر المروي؛ الأولى: عند ابن سعد، والثاني: عند أبي داود من طريق صحيح؛ فليحفظ.
(مولى فلانةَ): ممنوع من الصرف؛ للعلمية والتأنيث؛ لأنَّه كناية عن علم المؤنث؛ وهي عائشة الأنصارية، كما قاله إمام الشَّارحين، وسيأتي بيانه، فيحتمل أنها زوجة العباس بن عبد المطلب، ويحتمل أنها زوجة سعيد بن العاص، فأطلق على النجار أنه مولًى لها، إما على الحقيقة، وإما على المجاز؛ فتأمل.
قال إمام الشَّارحين: وفي «الدلائل» [1] لأبي موسى المديني نقلًا عن جعفر المستغفري أنه قال في أسماء الرجال في الصحابة: علاثة؛ بالعين المهملة، وبالثاء المثلثة، ثم ساق هذا الحديث من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم، وقال فيه: أرسل إلى علاثة امرأة قد سماها سهل، قال أبو موسى: (صحف فيه جعفر أو شيخه، وإنما هي فلانة)، وقال الذهبي: (علاثة في حديث سهل: «أن مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا»، وإنما هي فلانة) انتهى.
وقال الكرماني وتبعه البرماوي: قيل في فلانة: اسمها عائشة الأنصارية، وزعم ابن حجر أنَّه أظنُّه صحَّف المصحَّف.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: هذا الطبراني روى في «معجمه الأوسط» من حديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي إلى سارية المسجد، ويخطب إليها، ويعتمد عليها، فأمرت عائشة فصنعت له منبره هذا، وبه يستدل على أن فلانة هي عائشة المذكورة، ولا سيما قال قائله: (الأنصارية)، ولا يستبعد
%ص 492%
هذا وإن كان إسناد الحديث ضعيفًا؛ فحينئذٍ أن المصحِّف من قال: علاثة، لا من قال: عائشة الأنصارية؛ فليحفظ.
ثم قال: وجاء في رواية في «الصحيح»: (أرسل؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى فلانة _سماها سهل_: «مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهنَّ إذا كلمت الناس»، فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت بها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمر بها فوضعت ههنا).
وعن جابر: أن امرأة قالت: (يا رسول الله؛ ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا ... )؛ الحديث، وفي «الإكليل» للحاكم عن يزيد بن رومان: (كان المنبر ثلاث درجات، فزاد فيه معاوية لعله قال: جعله ستَّ درجات، وحوَّله عن مكانه، فكسفت الشمس يومئذٍ، قال الحاكم: وقد أحرق المنبر الذي عمله معاوية، ورد منبر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المكان الذي وضعه فيه، وفي «الطبقات»: (كان بينه وبين الحائط ممرَّ الشاة)، وفي «الإكليل» أيضًا من حديث المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس رضي الله عنه: (لما كثر الناس؛ قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ابنوا لي منبرًا»، فبنوا له عتبتين، وقد ذكرنا عن أبي داود في حديث ابن عمر: (مرقاتين)؛ وهي تثنية مرقاة؛ وهي الدرجة.
فإن قلت: في الصحيح ثلاث دَرَجٍ، فما التوفيق بينهما؟
قلت: الذي قال: (مرقاتين): كأنه لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها، والذي روى ثلاثًا؛ اعتبرها، انتهى كلامه.
قلت: وهو توفيق حسن بين الروايتين، والله أعلم.
(لرسول الله) أي: لأجله (صلَّى الله عليه وسلَّم): ويحتمل أن القصة متعددة، وأن كل واحد من المذكورين قد عمل منبرًا وأنه عليه السَّلام قد اختار لنفسه منهم واحدًا، ويحتمل أن الجميع اشتركوا في عمله، ويحتمل أن كل واحد عمل منبرًا على التعاقب، ويحتمل غير ذلك، والله أعلم.
(فقام) بالفاء، وفي رواية: (وقام)؛ بالواو، وفي رواية: (فرقى) (عليه) أي: على المنبر (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ لأنَّه أعجبه (حين عُمِل)؛ بضم العين المهملة مبني للمجهول؛ أي: بعد أن فرغ من عمله وجيء به بين يديه (ووُضع)؛ بضم أوله مبني للمجهول أيضًا، في المكان الذي أراده عليه السَّلام، فبعد الوضع قام عليه (فاستقبل) عليه السَّلام (القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: توجه إليها، (كبر) بدون الواو؛ لأنَّه جواب عن سؤال، كأنه قيل: ما عمل بعد الاستقبال؟ قال: كبر، وفي بعض الأصول: (فكبر) بالفاء، وفي بعض النسخ: (وكبر) بالواو، كذا في «عمدة القاري».
(وقام الناس) أي: الصحابة (خلفه)؛ أي: خلف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: وراءه صفوفًا، فكبروا مقتدين به، (فقرأ) عليه السَّلام ما تيسر له من القرآن، (وركع وركع الناس خلفه)؛ أي: متابعين له، (ثم رفع رأسه) أي: من الركوع، (ثم رجع القهقرى)؛ أي: رجع إلى ورائه.
فإذا قلت: رجعت القهقرى؛ فكأنك قلت: رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم؛ لأنَّ القهقرى ضرب من الرجوع، فيكون انتصابه على أنه مفعول مطلق، لكنه من غير لفظ؛ كما تقول: قعدت جلوسًا، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وإنما فعل عليه السَّلام ذلك حتى يكون مستمرًّا على الاستقبال، ولئلَّا يولي ظهره القبلة؛ لأنَّه لو استدبر القبلة؛ لفسدت صلاته، فالاستدامة على استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إن لم يكن خائفًا، كما هو مقرر في الفروع.
(فسجد على الأرض) وسجد الناس خلفه، (ثم عاد إلى المنبر) قائمًا، (ثم قرأ) ما تيسر له من القرآن، (ثم ركع) وركع الناس خلفه، وإنما لم يذكر ذلك؛ للعلم به مما قدمه، وهو معلوم أيضًا من المقام، (ثم رفع رأسه) من الركوع، (ثم رجع القهقرى) أي: رجع إلى ورائه (حتى سجد بالأرض): والفرق بين قوله السابق: (على الأرض) وبين ما هنا من حيث إن في الأول لوحظ معنى الاستعلاء، وهنا لوحظ معنى الإلصاق، أفاده إمام الشَّارحين.
(فهذا شأنه) عليه السَّلام؛ أي: في هذه الصلاة، أو معناه من حيث صلاته إمامًا واقتداء الناس به، أو نحو ذلك، قال إمام الشَّارحين: (ففي الحديث الدلالة على ما ترجم له؛ وهو جواز الصلاة على المنبر، وقد علل عليه السَّلام صلاته عليه، وارتفاعه على المأمومين بالاتباع له والتعليم، فإذا ارتفع الإمام على المأموم؛ جاز، ولكنه مكروه إلا لحاجة كمثل هذا؛ فمستحب، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والليث بن سعد، وبه قال محمد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل، وعن مالك بن أنس: المنع، وبه قال الأوزاعي، وعندنا: جوازه إذا كان الإمام مرتفعًا مقدار قامة، وعن مالك: يجوز في الارتفاع اليسير، وهذا الحديث حجة عليه؛ فافهم.
وزعم ابن حزم أن مذهبنا المنع، وهو باطل لا أصل له في المذهب، وما هو إلا من تعصُّبه وعدم اطلاعه.
وفي الحديث: أن المشي اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقال صاحب «المحيط»: المشي في الصلاة خطوة؛ لا يبطلها، وخطوتين أو أكثر؛ يبطلها، وعلى هذا؛ كان ينبغي أن تفسد هذه الصلاة على هذه الكيفية، ولكنا نقول: إذا كان لمصلحة؛ ينبغي ألَّا تفسد صلاته، ولا تكره أيضًا، كما في مسألة: من انفرد خلف الصف وحده؛ فإن له أن يجذب واحدًا من الصف الأول إليه ويصطفان، فإن المجذوب لا تفسد صلاته ولو مشى خطوة أو خطوتين، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الخطابي فيه أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة، وكان المنبر ثلاث مراق [2]، ولعله إنَّما قام على الثانية منها، فليس في نزوله وصعوده إلا خطوتان، انتهى.
قلت: وهذه الكيفية التي فعلها عليه السَّلام في صلاته لا تفسدها؛ لأنَّ العمل الكثير المفسد للصلاة إنَّما يكون مفسدًا إذا كان في ركن واحد، أما إذا كان متفرقًا في أركانه؛ فلا يفسد، ولا يجمع، بل يعتبر كل فعل بمفرده، فقول صاحب «المحيط» السابق هذا الحديث يشهد له؛ لأنَّه عليه السَّلام صعد في الركعة الثانية، ونزل في الركعة الأولى، ونزوله خطوة واحدة وهو ركن واحد، وصعوده خطوة واحدة وهو ركن واحد، وعلى كل حال؛ فلا فساد؛ فليحفظ.
وما زعمه الخطابي يرده رواية أبي داود عن ابن عمر قال: (مرقاتين)، وفي «الإكليل» من حديث المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس قال: (فبنوا له عتبتين)، وعلى هذا؛ فيكون قيامه
%ص 493%
عليه السَّلام على الأولى منهما، فليس في نزوله وصعوده إلا خطوة واحدة؛ فافهم.
وفي الحديث: استحباب اتخاذ المنبر، وكون الخطبة على شيء مرتفع؛ كمنبر ونحوه، وفيه: استحباب التدريس على شيء مرتفع؛ كالكرسي ونحوه؛ كما يفعله الأتراك في وعظهم، وفيه: تعليم الإمام المأمومين أفعال الصلاة، وأنه لا يقدح ذلك في صلاته، وليس هو من باب التشريك في العبادة، بل هو كرافع صوته بالتكبير؛ ليسمعهم، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وفيه: أن العالم إذا انفرد بعلم شيء؛ يقول ذلك ليؤديه إلى حفظه، وفيه جواز الصلاة على الخشب ونحوه، بل هو الأفضل عندنا؛ لأنَّه تستحب [3] الصلاة على الأرض أو على ما تنبته الأرض، وكرهه الحسن وابن سيرين، كما رواه ابن أبي شيبة عنهما، والحديث حجة عليهما، كما لا يخفى؛ فافهم.
(قال) وللأصيلي: (وقال) (أبو عبد الله) هو البخاري نفسه: (قال علي بن عبد الله) وفي رواية أبي ذر: (قال علي ابن المديني): هو الحجة شيخ المؤلف: (سألني أحمد ابن حنبل): هو الإمام المشهور، قال ابن راهويه: هو حجة بين الله وبين عباده في أرضه، مات ببغداد سنة إحدى وأربعين ومئتين، وزعم الشافعية أن أحمد ابن حنبل متصرِّف في مذهب الشافعي؛ لأنَّه ألف مذهبين؛ قديم وجديد، فأخذ أحمد بأحدهما وجعله مذهبًا له.
قلت: وهذا كلام باطل، بل الإمام أحمد علمه مشهور، وهو حافظ السنة، وفقهه وورعه ظاهر مقبول، فانظر هذه الجرأة على مثل هذا الإمام وما هي إلا من قلة الأدب، ولا عجب؛ فإن دأبهم القدح في الأئمة الأعلام، ولا ريب أن البحر لا يفسده ولوغ الكلاب؛ كما أن النقي لا يغيره مقل الذباب، وما مثلهم إلا كمثل الذباب الذي تحت ذنب جواد في سيره وكرِّه؛ فلا يعتريه نقص عن حاله، والله تعالى أعلم.
(عن هذا الحديث)؛ أي: المذكور في هذا الباب (قال) وفي رواية: (فقال) (فإنما) وفي رواية ابن عساكر والأصيلي: (وإنما) (أردت أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كان أعلى)؛ أي: أرفع (من الناس): الذين خلفه في الصلاة؛ (فلا) ولابن عساكر: (ولا) (بأس)؛ أي: لا حرج ولا كراهة (أن يكون الإمام أعلى من الناس) حال الصلاة (بهذا الحديث)؛ أي: بدلالة هذا الحديث، وجوز العلوُّ بقدر درجات المنبر، وزعم بعض الشافعية لو كان الإمام على رأس منارة المسجد والمأموم في قعر بئره؛ صح الاقتداء.
قلت: وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ لأنَّ الشرط تقدُّم الإمام على المأموم، سواء كان أعلى من الناس أو أسفل منهم، بشرط أن يكونوا في المسجد لا في الصحراء، كما هو مقرر في الفروع.
(قال) أي: علي بن عبد الله المديني: (فقلت)؛ أي: لأحمد ابن حنبل، وفي رواية: (قال: قلت)؛ بدون الفاء: (إن سفيان) وفي رواية الأصيلي وأبي الوقت: (فإن سفيان) (بن عُيَيْنة)؛ بضم العين المهملة، وفتح المثناة التحتية الأولى، وسكون الثانية (كان يُسأل)؛ بضم أوله على صيغة المجهول (عن هذا)؛ أي: الحديث المذكور (كثيرًا، فلم) أي: أفلم (تسمعه منه؟ قال: لا) فهو متضمن للاستفهام بدليل الجواب بكلمة (لا)، ثم إن المنفي هو جميع الحديث؛ لأنَّه صريح في ذلك، ولا يلزم من ذلك عدم سماع البعض، والدليل على ذلك: أن أحمد قد أخرج في «مسنده» عن ابن عيينة بهذا الإسناد من هذا الحديث قول سهل: (كان المنبر من أثل الغابة) فقط، كذا في «عمدة القاري».
قلت: فهذا صريح في أن أحمد لم يسمع هذا الحديث من ابن عيينة، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الدئل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مراقي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يستحب).
==================
[1] في الأصل: (الدئل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مراقي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الدئل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مراقي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/639)
[حديث: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا]
378# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد بن عبد الرحيم): هو الحافظ البغدادي المعروف بصاعقة (قال: حدثنا يزيد بن هارون): هو الواسطي (قال: أخبرنا حميد) بضم الحاء المهملة (الطويل): هو البصري، (عن أنس بن مالك) هو الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سقط عن فرس)؛ بدون الضمير، وفي رواية: (عن فرسه)؛ بالضمير، فعلى الأولى؛ يحتمل أن الفرس عارية، وعلى الثانية؛ أن الفرس ملك النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية أبي داود: (فصرع عنه)؛ ومعناه: سقط أيضًا، وكان ذلك في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة، (فجُحِشَت ساقه)؛ بضم الجيم، وكسر الحاء المهملة، وفتح الشين المعجمة، من الجحش، وهو جحش الجلد؛ وهو الخدش، يقال: جحشه يجحشه جحشًا: خدشه، وقيل: أن يصيبه شيء يجحش؛ كالخدش أو أكثر من ذلك، وقيل: الجحش فوق الخدش، وقد يكون ما أصابه عليه السَّلام من ذلك السقوط مع الخدش رضٌّ في الأعضاء وتوجع، فلذلك منعه القيام للصلاة، كذا قاله إمام الشَّارحين، (أو كتفه)؛ يعني: أو جحشت كتفه بالشك من الراوي، وفي رواية: بـ (الواو) الواصلة، وفي رواية الزهري عن أنس عند المؤلف: (فجحش شقه الأيمن)، وعند أحمد عن حميد عن أنس بسند صحيح: (انفكت قدمه)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وعند الإسماعيلي من رواية بشر بن المفضل عن حميد: (انفكت قدمه)، كما عند أحمد، والفرق بين هذه الروايات ظاهر، وليس لأحدها شمول للأخرى، وزعم القسطلاني أن رواية المؤلف (فجحش شقه الأيمن) أشمل.
قلت: وهو غير ظاهر، فإن معناه: الجنب؛ وهو الخاصرة، فلا يشمل الكتف ولا الساق، كما لا يخفى.
(وآلى من نسائه شهرًا)؛ أي: حلف ألَّا يدخل عليهنَّ شهرًا، والإيلاء على وزن (إفعال)؛ هو الحلف، يقال: آلى يُولي، وتألَّى بالياء، والألية: اليمين، والجمع ألايا؛ كعطية وعطايا، وإنما عُدِّي آلى بكلمة (من) وهو لا يعدى إلا بكلمة (على)؛ لأنَّه ضمن فيه معنى البعد، ويجوز أن تكون (من) للتعليل مع أن الأصل فيه أن تكون للابتداء؛ أي: آلى من نسائه؛ أي: بسبب نسائه ومن أجلهنَّ، كذا قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: (وليس المراد منه الإيلاء المتعارف بين الفقهاء؛ وهو الحلف على ترك قربان امرأته أربعة أشهر وأكثر منها عند الإمام الأعظم، وعند مالك، والشافعي، وأحمد: لا بد من أكثر، والمولي: من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه، فإن وطئها في المدة؛ كفَّر؛ لأنَّه حنث في يمينه، وسقط الإيلاء، وإلا؛ بانت بتطليقة واحدة، وكان الإيلاء طلاقًا في الجاهلية، فغير الشرع حكمه، ويأتي بيان حكمه في بابه إن شاء الله تعالى) انتهى كلامه
(فجلس) عليه السَّلام (في مَشْرَبة)؛ بفتح الميم، وسكون الشين المعجمة، وفتح الراء وضمها؛ وهي الغرفة، ويقال: هي
%ص 494%
أعلى البيت شبه الغرفة، وقيل: الخزانة، وهي بمنزلة السطح لما تحتها، كذا في «عمدة القاري»، (له) أي: ملكه عليه السَّلام (درجتها) أي: سلمها الذي يتوصل إليها (من جُذُوع النخل)؛ بضم الجيم والذال المعجمة، جمع جِذْع _بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة_ وجمعه: جذوع وأجذاع، قاله ابن دريد، وقال الأزهري: (ولا يتبين للنخل جذع حتى يتبين ساقها)، وفي «المحكم»: (الجذع: ساق النخلة)، كذا قاله الشَّارح، وفي رواية: (من جُذوعٍ) فقط بضم الجيم والتنوين؛ بغير إضافة؛ والمعنى: أن هذه الغرفة مصنوعة من جذوع النخل.
(فأتاه أصحابه يعودونه)؛ بالدال المهملة، من العيادة للمريض، (فصلى) عليه السَّلام (بهم) أي: بأصحابه (جالسًا)؛ بالنصب على الحال، صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، كذا قاله البيهقي في «المعرفة» (وهم قيام): جملة اسمية حالية، والقيام: جمع قائم، أو مصدر بمعنى اسم الفاعل، ففيه جواز الصلاة على السطح وعلى الخشب؛ لأنَّ المشربة بمنزلة السطح لما تحتها، والصلاة فيها كالصلاة على السطح، وبذلك قال الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وكره الحسن وابن سيرين الصلاة على الألواح والأخشاب، وكذلك روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما، وكذلك روي عن مسروق: أنه كان يحمل لبنة في السفينة يسجد عليها، كذا رواه عنهم ابن أبي شيبة بسند صحيح، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال ابن بطال: ومطابقة الحديث للترجمة في صلاته عليه السَّلام بأصحابه على ألواح المشربة وخشبها، والخشب مذكور في الترجمة، واعترضه الكرماني فقال: ليس في الحديث ما يدل على أنه صلى على الخشب؛ إذ المعلوم منه أن درجها من الجذوع لا نفسها، ويحتمل أنه ذكره لغرض بيان الصلاة على السطح؛ إذ يطلق السطح على أرض الغرفة.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: الظاهر: أن الغرفة كانت من خشب، فذكر كون درجها من النخل لا يستلزم أن تكون البقية من البناء، فالاحتمال الذي ذكره ليس بأقوى من الاحتمال الذي ذكرناه) انتهى.
قلت: ولا يخفى أن معنى جذوع النخل: ساقها، والساق: خشب يوضع على الجدران، يعمل منه الأسقف، والدرجة مصنوعة من تلك الجذوع، فهي مبنية من الجذوع؛ لأنَّ سقفها وجدرانها وسطحها كلها من الجذوع، فيطلق عليه أنه صلى على الخشب، وما زعمه الكرماني من أنه ليس في الحديث ... إلخ؛ ممنوع، فإن الحديث دال على ذلك، كما لا يخفى.
وقوله: (إذ المعلوم ... ) إلى آخره: ممنوع أيضًا، فإن نفس الغرفة مبنية من الجذوع؛ سقفها، وسطحها، وجدرانها، وبابها، كما لا يخفى.
وقوله: (ويحتمل ... ) إلى آخره: هذا قاصر؛ لأنَّه لا يشمل الصلاة على الخشب؛ فافهم.
(فلما سلَّم)؛ بتشديد اللام؛ أي: فرغ من صلاته واستقبال القبلة؛ استقبل الناس، ثم (قال) لهم مبينًا حكم الإمام: (إنما جُعِل) بضم الجيم مبني للمجهول (الإمام)؛ أي: إمامًا، وأتى بكلمة (إنما) للحصر؛ لأجل الاهتمام والمبالغة، والمفعول الثاني لقوله: (جعل) محذوف؛ تقديره: إنَّما جعل الإمام إمامًا؛ (ليؤتم) أي: لأجل أن يقتدى (به) وتتبع أفعاله، والمفعول الأول وهو قوله: (الإمامُ) قائم مقام الفاعل، ففيه دليل على وجوب المتابعة للإمام في جميع الأفعال حتى في الموقف والنية، فقال الإمام الأعظم ومالك: يضر اختلاف النية، وجعلا اختلافها داخلًا تحت الحصر في الحديث، وقال مالك: لا يضر الاختلاف بالهيئة بالتقدم في الموقف، وجعل الحديث عامًّا في ما عدا ذلك، وقال محمد بن إدريس: لا يضر اختلاف النية، وجعل الحديث مخصوصًا بالأفعال الظاهرة.
قلت: والحديث حجة على الشافعي؛ لأنَّ صلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بأصحابه إنَّما كانت واحدة، وهي فرض الظهر، فاختلاف النية يضر الصلاة، وهو الظاهر من الحديث، وكذلك اختلاف الموقف، كما علم من الفروع.
(فإذا كبر) أي: الإمام للتحريمة؛ (فكبروا)؛ أي: ليكبر من خلفه للتحريمة، وهم المقتدون به، ففيه حجة قوية، ومحجة مستقيمة لما ذهب إليه الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: أن المقتدي يكبر مقارنًا لتكبير الإمام، لا يتقدم الإمام ولا يتأخر عنه؛ لأنَّ (الفاء) معناها الحال، وهذا هو الأفضل، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: الأفضل أن يكون تكبير المقتدي بعد فراغ تكبير الإمام؛ لأنَّ (الفاء) معناها التعقيب، فإن كبر مع الإمام؛ أجزأه عند الإمام محمد رواية واحدة ويكون مسيئًا، وكذلك في أصح الروايتين عن الإمام أبي يوسف، وفي رواية عنه: لا يصير شارعًا، ثم ينبغي أن يكون اقترانهما في التكبير على قوله كاقتران حركة الخاتم والإصبع، والبعدية على قولهما أن يوصل ألف (الله) براء (أكبر)، وقال شيخ الإسلام: قول الإمام الأعظم أدق وأجود، وقولهما أرفق وأحوط، وبقولهما قال محمد بن إدريس، وزعم الماوردي إن شرع في تكبيرة الإحرام قبل فراغ الإمام منها؛ لم تنعقد صلاته، ويركع بعد شروع الإمام في الركوع، فإن قارنه أو سابقه؛ فقد أساء، ولا تبطل صلاته، فإن سلم قبل إمامه؛ بطلت صلاته، إلا أن ينوي الإمام المفارقة، ففيه خلاف.
(وإذا ركع) أي: الإمام؛ (فاركعوا) أي: ليركع من خلفه من المقتدين، (وإذا سجد) أي: الإمام؛ (فاسجدوا)؛ أي: ليسجد من خلفه من المقتدين، و (الفاء) في (فاركعوا) و (فاسجدوا) للتعقيب، وهو يدل على أن المقتدي لا يجوز له أن يسبق الإمام بالركوع والسجود، حتى إذا سبقه فيهما أو أحدهما ولم يلحقه الإمام فيه؛ فسدت صلاته، فلا بد من اشتراكهما في أداء الركن، فلو انفرد المقتدي بركن لم يشاركه فيه إمامه؛ فسدت صلاته.
(وإن صلى) وللأصيلي: (وإذا صلى) أي: الإمام (قائمًا؛ فصلوا قيامًا)؛ مفهومه: إن صلى قاعدًا؛ يصلي المأموم أيضًا قاعدًا، وهو غير جائز، ولا يعمل به؛ لأنَّه منسوخ لما ثبت أنه عليه السَّلام صلى في آخر عمره قاعدًا، وصلى القوم خلفه قائمين.
فإن قلت: جاء في بعض الروايات: (فإن صلى قاعدًا؛ فصلوا قعودًا).
قلت: معناه: فصلوا قعودًا إذا كنتم عاجزين عن القيام مثل الإمام، فهو من باب التخصيص، أو هو منسوخ كما ذكرنا، كذا قاله
%ص 495%
إمام الشَّارحين.
قلت: والصحيح أنه منسوخ، خلافًا لأحمد في مباحث ستأتي.
(ونزل) عليه السَّلام من المشربة (لتسع وعشرين) يومًا، (فقالوا) أي: الصحابة: (يا رسول الله؛ إنك آليت)؛ بفتح الهمزة وبالمد؛ أي: حلفت ألَّا تدخل على نسائك (شهرًا)؛ يعني: والشهر ثلاثون، فكيف نزلت لتسع وعشرين؟ (فقال) عليه السَّلام لهم: (إن الشهر): اللام فيه للعهد عن ذلك الشهر المعين (تسع وعشرون) وفي رواية: (تسعة وعشرون)، ولا يلزم أن يكون كل الشهور تسعًا وعشرين، ففيه أن الشهر لا يأتي كاملًا دائمًا، وإن من حلف على فعل شيء أو تركه في شهر كذا فجاء الشهر تسعًا وعشرين يومًا؛ يخرج عن يمينه، فلو نذر صوم شهر بعينه فجاء الشهر تسعة وعشرين يومًا؛ لم يلزمه أكثر من ذلك، وإذا قال: لله عليه صوم شهر من غير تعيين؛ كان عليه إكمال عدد ثلاثين يومًا.
وفي الحديث أيضًا مشروعية اليمين؛ لأنَّه عليه السَّلام آلى ألَّا يدخل على نسائه شهرًا، وفيه: استحباب العبادة عند حصول الخدشة ونحوها، وفيه: جواز الصلاة جالسًا عند عدم القدرة على القيام، وهذا في حق الفرائض، أما النوافل؛ فتجوز من قعود مع القدرة على القيام، ولكن له نصف أجر القائم، واستدل أحمد ابن حنبل، وإسحاق، والأوزاعي، وابن حزم بهذا الحديث: على أن الإمام إذا صلى قاعدًا؛ يصلي من خلفه قعودًا، وقال مالك بن أنس: لا تجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائمًا ولا قاعدًا، وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، والثوري، وأبو ثور، ومحمد بن إدريس، والجمهور من السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائمًا، وهذا في الفرض والواجب، أما النفل؛ فتجوز صلاة القادر على القيام قاعدًا خلف القائم والقاعد؛ لأنَّ النفل يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، كما صرح به «صاحب البحر».
قال إمام الشَّارحين: والجواب عن حديث الباب من وجوه؛ الأول: أنه منسوخ، وناسخه صلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالناس في مرض موته قاعدًا وهم خلفه قيام، وأبو بكر رضي الله عنه قائم يعلمهم بأفعال صلاته؛ بناء على أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان الإمام وأن أبا بكر كان مأمومًا في تلك الصلاة.
فإن قلت: كيف وجه هذا النسخ، وقد وقع في ذلك خلاف، وذلك أنَّ هذا الحديث الناسخ، وهو حديث عائشة فيه: أنه كان عليه السَّلام إمامًا وأبو بكر مأمومًا، وقد ورد فيه العكس، كما أخرجه الترمذي والنسائي عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: (صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدًا)، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وأخرج النسائي أيضًا عن حميد، عن أنس قال: (آخر صلاة صلاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع القوم؛ صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر رضي الله عنه).
قلت: مثل هذا لا يعارض ما وقع في «الصحيح» مع أن العلماء جمعوا بينهما، فقال البيهقي في «المعرفة»: ولا تعارض بين الحديثين، فإن الصلاة التي كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إمامًا [فيها] هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، والتي كان عليه السَّلام فيها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الاثنين، وهي آخر صلاة صلاها عليه السَّلام حتى خرج من الدنيا.
قال: وهذا لا يخالف ما ثبت عن الزهري عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين، وكشفه عليه السَّلام الستر ثم إرخائه، فإن ذلك إنَّما كان في الركعة الأولى، ثم إنه عليه السَّلام وجد في نفسه خفة، فخرج فأدرك معه الركعة الثانية.
وقال القاضي عياض: نسخ إمامة القاعد ثبتت بقوله عليه السَّلام: «لا يَؤُمنَّ أحد بعدي جالسًا»، وبفعل الخلفاء بعده، وأنه لم يؤم أحد منهم قاعدًا وإن كان النسخ لا يمكن بعده عليه السَّلام؛ لمثابرتهم على ذلك، يشهد بصحة ذلك نهيه عليه السَّلام عن إمامة القاعد بعده.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا الحديث أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في «سننهما» [1] عن جابر الجعفي عن الشعبي، وقال الدارقطني: لم يروه عن الشعبي غير جابر الجعفي، وهو متروك الحديث مرسل، لا تقوم به حجة، وقال عبد الحق في «أحكامه»: ورواه عن الجعفي مجالد، وهو أيضًا ضعيف) انتهى.
قلت: وقد يقال: المرسل حجة عند الأئمة الحنفية والجمهور، فيحتج به على ثبوت النسخ، ومراد القاضي عياض إثبات النسخ، وجوابه متضمن لشيئين: إثبات الخصوصية والنسخ، وكلاهما ثابت بهذا الحديث المرسل، وهو حجة؛ فتأمل.
ثم قال إمام الشَّارحين: (الوجه الثاني: أن الحديث كان مخصوصًا بالنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفيه نظر؛ فإن الأصل عدم الخصوصية حتى يدل عليه دليل، كما عرف في الأصول) انتهى.
قلت: وفي النظر نظر، فإنه عليه السَّلام لما فعل ذلك، ثم نهى عنه؛ دل على أنه إما نسخ، أو خصوصية، بل الخصوصية أقرب، كما ثبت بهذا الحديث المرسل المذكور آنفًا، فهو دليل الخصوصية؛ فتأمل.
ثم قال إمام الشَّارحين: (الوجه الثالث: يحمل قوله عليه السَّلام: «وإذا صلى جالسًا؛ فصلوا جلوسًا» على أنه إذا كان الإمام في حالة الجلوس؛ فاجلسوا، ولا تخالفوه بالقيام، وكذلك إذا صلى قائمًا؛ فصلوا قيامًا؛ يعني: إذا كان الإمام في حالة القيام؛ فقوموا، ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله: «فإذا ركع؛ فاركعوا، وإذا سجد؛ فاسجدوا») انتهى.
قلت: يعني: فحينئذ يكون المراد بذلك المتابعة للإمام في أفعاله من حيث الأركان لا من حيث الاقتداء على هيئته في القعود، والمؤتم مثله، ويحتمل أن يكون المراد به الاقتداء في أثناء الصلاة؛ يعني: متى أدركتم الإمام في القيام؛ فوافقوه، وإن في الجلوس؛ فكذلك، وهكذا؛ فتأمل.
ثم قال إمام الشَّارحين: (ولقائل أن يقول: لا يقوى الاحتجاج على أحمد ابن حنبل بحديث عائشة المذكور: أنه عليه السَّلام صلى جالسًا والناس خلفه قيام، بل ولا يصلح حجة؛ لأنَّه لا تجوز صلاة القائم خلف من شرع في صلاته قائمًا، ثم قعد لعذر، ويجعلون هذا منه عفوًا، سيما وقد ورد في بعض طرق الحديث: أنه عليه السَّلام أخذ في القراءة من حيث انتهى إليه أبو بكر، رواه الدار قطني في «سننه»، وأحمد في «مسنده») انتهى.
قلت: وقد يقال: الاحتجاج به قوي، ويجعل هذا كمن سبقه الحدث في الصلاة واستخلف
%ص 496%
واحدًامن المقتدين به؛ ليتم بهم صلاتهم، يدل عليه شروعه في الصلاة قائمًا، ثم عرض له العذر المفضي للقعود، فصار أبو بكر مستخلفًا، فإنه عليه السَّلام لما عرض له العذر؛ استخلف أبا بكر، فهو صحيح تجوز الصلاة حينئذ؛ فتأمل.
ثم قال إمام الشَّارحين: ورواية الدارقطني وأحمد مرسلة؛ لأنَّها ليست من رواية ابن عباس عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنما أوردها ابن عباس، عن أبيه العباس، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكذلك رواه البزار في «مسنده» بسند فيه قيس بن الربيع، وهو ضعيف، قال: وكان ابن عباس كثيرًا ما يرسل، كذا قاله ابن القطان في كتابه «الوهم والإيهام»، ورده إمام إمام الشَّارحين فقال: (ورواه ابن ماجه من غير طريق قيس، فقال: حدثنا علي بن محمد: حدثنا وكيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس: لما مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ فذكره ... إلى أن قال: (قال ابن عباس: وأخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في القراءة من حيث بلغ أبو بكر) انتهى.
قلت: وقد يقال: إن فيه الرواية تخالفًا، فمفاد الأولى: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم استخلف أبا بكر، وهذه أبو بكر استخلف النبيَّ الأعظم عليه وسلم، والرواية الصحيحة الأولى وإن كانت مرسلة، وفي بعض طرقها ضعيف، لكن لما كثرت طرقها؛ تقوت؛ فتأمل.
وزعم الخطابي أن أبا داود ذكر هذا الحديث من رواية جابر، وأبي هريرة، وعائشة، ولم يذكر صلاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم آخر ما صلاها بالناس وهو قاعد والناس خلفه قيام، وهذا آخر الأمرين من فعله عليه السَّلام، ومن عادة أبي داود فيما أنشأه من أبواب كتابه أن يذكر الحديث في بابه، ويذكر الذي يخالفه في باب آخر على إثره، ولم أجده في شيء من النسخ، فلست أدري كيف أغفل ذكر هذه القصة، وهي من أمهات السنن، وإليه ذهب أكثر الفقهاء؟
ورده إمام الشَّارحين فقال: (إما [2] تركها سهوًا وغفلة، أو كان رأيه في هذا الحكم مثل ما ذهب إليه أحمد؛ فلذلك لم يذكر ما ينقضه) انتهى.
قلت: والظاهر الثاني ولا عبرة بذلك، فإن القصة ثابتة في «الصحيحين»، وهما أقوى وأصح الكتب، وما في غيرهما لا يقاوم في ما فيهما، والحاصل: أن الحجة قوية على أحمد ومن تبعه، وأن ما ذهب إليه منسوخ أو مخصوص، وسيأتي لذلك مزيد كلام إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (سنتيهما).
[2] في الأصل: (لما)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (سنتيهما).
[1] في الأصل: (سنتيهما).
(1/640)
(19) [باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد]
هذا (باب)؛ بالتنوين (إذا أصاب ثوب المصلي امرأته) وهو (في) حالة (السجود) وفي بعض النسخ: (إذا سجد)؛ يعني: هل تفسد صلاته أم لا؟
==========
%ص 497%
==================
(1/641)
[حديث: كان رسول الله يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض]
379# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد): هو ابن مسرهد البصري، (عن خالد): هو ابن عبد الله الواسطي الطحان أبو الهيثم (قال: حدثنا سليمان الشيباني): هو أبو إسحاق الكوفي التابعي، (عن عبد الله بن شداد): هو ابن الهاد المدني، وسقط لفظ (ابن شداد) للأصيلي، (عن ميمونة): هي بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها (قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي) جملة في محل النصب على أنها خبر (كان)؛ يعني: في بيتها صلاة النافلة (وأنا حذاؤه)؛ بكسر الحاء المهملة، وبالذال المعجمة المفتوحة، والجملة اسمية وقعت حالًا؛ أي: والحال أنا بإزائه ومحاذيه، والحذاء والحذوة والحذة كلها بمعنًى، كذا في «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أن (حذاءه)؛ بالنصب على الظرفية، ويروى: (حذاؤه)؛ بالرفع، قال إمام الشَّارحين: (الصحيح: أن «حذاؤه»؛ بالرفع على الخبرية) انتهى.
قلت: ورواية الرفع هي رواية الأكثرين، والنصب قيل: إنها رواية «اليونينية»، وللأكثر حكم الكل.
(وأنا حائض) جملة اسمية وقعت حالًا، إما من الأحوال المترادفة [1]، أو من الأحوال المتداخلة، الأولى بالواو والضمير، والثانية بالواو فقط، كذا في «عمدة القاري».
وإنما ترك التابع مع أنها مؤنث؛ لأنَّه لا فرق بين الحائض والحائضة، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا؛ فهي حائض وحائضة، وأنشد الفراء:
كحائضة يزني بها غير حائض ...
وفي اللغة لم يفرق بينهما، غير أن الأصل فيه التأنيث، ولكن لخصوصية النساء به وعدم الالتباس؛ ترك التاء، كذا في «عمدة القاري»؛ فاعرفه.
(وربَّما)؛ بتشديد الموحدة، وهي تحتمل التقليل حقيقة، والتكثير مجازًا، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: عند سيبويه وجماعة: أن (رب): حرف تكثير، وعند ابن درستويه وجماعة: أنها للتكثير دائمًا، كما في «المغني»، بل نقل الحلبي عن جماعة: أنها لا تفيد التقليل إلا بقرينة، انتهى.
وإذا زيدت كلمة (ما) بعدها؛ فالغالب أن تكفها عن العمل، وأن تهيئها للدخول على الجملة الفعلية، وأن يكون الفعل ماضيًا لفظًا ومعنًى، ومنه قول الشاعر:
ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات
وتمامه في شرحنا على «الأزهرية».
(أصابني ثوبه) عليه السَّلام (إذا سجد) في صلاته، (قالت) أي: ميمونة: (وكان) عليه السَّلام (يصلي على الخُمْرة)؛ بضم الخاء المعجمة، وسكون الميم؛ سجادة صغيرة تعمل من سعف النخيل، وترمل بالخيوط، قيل: سميت خُمرة؛ لأنَّها تستر وجه المصلي عن الأرض، ومنه سمي: الخمار الذي يستر الرأس، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن بطال الخُمْرة: مصلًّى صغير ينسج من السعف، فإن كان كبيرًا قدر طول الرجل أو أكثر؛ فإنه يقال له: حصير، ولا يقال له: خمرة، وجمعها: خمر، وفي حديث ابن عباس: (جاءت فأرة فأخذت نجر الفتيل، فجاءت بها، فألقتها بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع درهم)، وهذا ظاهر في إطلاق الخمرة على الكبيرة من نوعها، انتهى.
قلت: الخمرة: السجادة الصغيرة التي تكون على قدر قامة الرجل، ويدل لذلك حديث ابن عباس: وأما الخمرة الكبيرة؛ هي التي تكون أكثر من قدر قامة الرجل، وهي تسمى: سجادة أيضًا وحصيرًا، ولا تسمى خمرة، ففي كلام ابن بطال خلط، كما لا يخفى.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث أحكام؛ الأول: فيه جواز مخالطة الحائض، الثاني: فيه طهارة بدن الحائض وثوبها، الثالث: فيه إذا أصاب ثوب المصلي المرأة؛ لا يضر ذلك صلاته ولو كانت المرأة حائضًا، والباب معقود لذلك.
وظاهر الحديث يدل على صحة الصلاة، وكانت عادة المؤلف أن يأتي بمثل هذه الترجمة في التراجم إذا كان في الحكم اختلاف، وهذا الحكم ليس فيه اختلاف.
فإن قلت: روي عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يأتي بتراب فيضعه [2] على الخمرة فيسجد عليه.
قلت: كان هذا منه على تقدير صحته للمبالغة في التواضع والخشوع، لا على أنه كان لا يرى الصلاة على الخمرة، وكيف هذا وقد صلى عليه السَّلام عليها وهو أكثر تواضعًا وأشد خضوعًا؟) انتهى.
قلت: وقد يقال: مراد عمر بن عبد العزيز بذلك الفضيلة؛ لأنَّ المستحب السجود على الأرض أو على ما تنبته الأرض، فجعل التراب على الخمرة؛ ليكون سجوده على الأرض، وأما صلاته عليه السَّلام عليها؛ فهو لبيان الجواز؛ لأنَّه الشَّارع صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: روى ابن أبي شيبة عن عروة: أنه كان يكره الصلاة على شيء دون الأرض).
قلت: لا حجة فيه لأحد في خلاف ما فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويمكن أن يقال: مراده من الكراهة التنزيه، وكذا يقال في كل ما
%ص 497%
روي عنه بمثله) انتهى.
الرابع: فيه استحباب حمل السجادة للصلاة حتى في المساجد، لا سيما في زماننا؛ لما يشاهد من التهاون في أمر الطهارة في سجاجيد المساجد وحصرها، بل لو قيل بفرضية حملها غير بعيد.
الخامس: فيه جواز الصلاة على الخمرة من غير كراهة، وعن ابن المسيب: الصلاة على الخمرة سنة، وقد فعل ذلك جابر، وأبو ذر، وزيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنه، وزعم الكرماني أن فيه أن الصلاة لا تبطل بمحاذاة المرأة، وتبعه ابن حجر، ورده إمام الشَّارحين، فقال: قصدهما بذلك الغمز في مذهب الحنفية في أن محاذاة المرأة المصلي مفسدة لصلاة الرجل، ولكن هيهات لما قالا؛ لأنَّ المحاذاة المفسدة عندهم أن يكون الرجل والمرأة مشتركين في الصلاة أداء وتحريمة وغير ذلك، وهم أيضًا يقولون: إن محاذاة المرأة المذكورة في هذا الحديث غير مفسدة، فحينئذٍ إطلاقهما الحكم فيه غير صحيح، وهو من ضربان عرق العصبية) انتهى.
قلت: ولا شك في ذلك، فإن عرق العصبية لا يفتر عنهما خصوصًا ابن حجر، وكلاهما غير مصيب، فأين لهما من الاعتراض على مذهب الحنفية الذي هو الحق الصواب وما عداه خطأ؟! لا سيما أنَّهما ليس لهما معرفة في مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين حتى قالا هذا القول، فإن محاذاة المرأة إنَّما يكون مفسدًا بشروط؛ منها: أن تكون الصلاة واحدة أداء وتحريمة، وغير ذلك، كما هو مقرر في كتب الفروع، والمرأة التي في هذا الحديث ليست كذلك، بل هي ليست بطاهرة، فهذا كلام من لم يشم شيئًا من العلم، والولد الصغير لا يستنبط هذا الاستنباط، ولكن مرادهم القدح، والعناد، والتعصب، والتعنت، وغير ذلك من الأمور المخالفة للشرع، ألم يعلموا أن الإمام الأعظم حين استنبط الأحكام كان إمامهم محمد بن إدريس منيًا في ظهر أبيه، ثم بعد أن نشأ وقرأ على الإمام محمد بن الحسن قال: الناسعيالللإمام الأعظم؟ وقال: من أراد التفقه؛ فعليه بكتب محمد بن الحسن، فهذا أدب إمامهما، وكان عليهما التأدب أيضًا؛ فإن إمامهما قد تأدب مع إمامنا، وصح أنه صلى الفجر عنده ولم يقنت، وهذا يدل على أنه مقلد لا مطلق، وسيأتي بقية الكلام إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (الترادفة)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (فيوضعه)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (الترادفة)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (الترادفة)، وهو تحريف.
(1/642)
(20) [باب الصلاة على الحصير]
هذا (باب) بيان حكم (الصلاة على الحَصِير)؛ بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، وفي «المحكم»: أنها سفيفة تصنع من بردي وأَسل، سميت بذلك؛ لأنَّها تفرش على وجه الأرض، وكذلك يسمى وجه الأرض حصيرًا، والسَّفيْفة؛ بفتح السين المهملة، وبالفاءين، بينهما تحتية ساكنة: شيء يعمل من الخوص؛ كالزنبيل، والأَسل؛ بفتح الهمزة، والسين المهملة، آخره لام: نبات له أغصان كثيرة دقاق لا ورق لها، وفي «الجمهرة»: (الحصير عربي، سمي حصيرًا؛ لانضمام بعضها إلى بعض)، وقال الجوهري: (الحصير: الباريَّة)، كذا في «عمدة القاري».
ووجه مناسبة هذا الباب بالباب الذي قبله من حيث إن كلًّا منهما ذكر في حكم الصلاة، ففي الأول: السجود على الخمرة؛ وهي السجادة التي توضع على الأرض، وهنا السجود على الحصير التي توضع أيضًا على الأرض، وقدمنا تمام الكلام في باب (عقد الإزار على القفا)؛ فافهم.
(وصلى جابر) ولأبي ذر وأبي الوقت: (وصلى جابر بن عبد الله): هو الأنصاري رضي الله عنه (وأبو سعيد): هو سعد بن مالك (الخدري) رضي الله عنه (في السفينة): وهي الفلك؛ لأنَّها تسفن وجه الماء؛ يعني: تقشره، فعيلة بمعنى فاعلة، والجمع سفائن وسفن وسفين (قيامًا): جمع قائم، وأراد به التثنية؛ أي: قائمين، وهو نصب على الحال، وفي بعض النسخ: (قائمًا)؛ بالإفراد بتأويل كل منهما قائمًا، وهذا التعليق وصله أبو بكر ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد الله بن أبي عتبة مولى أنس، قال: (سافرت مع أبي الدرداء، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله _وأناس قد سماهم، قال_: فكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائمًا، ونصلي خلفه قيامًا، ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، يقال: أرسى السفينة؛ بالسين المهملة، وأرفى؛ بالفاء: إذا وقف بها على الشط، والبخاري اقتصر هنا على ذكر الاثنين وهما جابر وأبو سعيد رضي الله عنهما، كذا قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: ووجه مناسبة إدخال هذا الأثر في هذا الباب هو أنَّ هذا الباب في (الصلاة على الحصير)، وفي الباب الذي قبله: (وكان يصلي على الخمرة)، وكل واحد من الحصير والخمرة يعمل من سعف النخل، ويسمى: سجادة، والسفينة أيضًا مثل السجادة على وجه الماء، فكما أن المصلي يسجد على الخمرة والحصير دون الأرض، فكذلك الذي يصلي في السفينة يسجد على غير الأرض) انتهى.
وزعم ابن المنير في وجه المناسبة بينهما هو أنَّهما اشتركا في الصلاة على غير الأرض؛ لئلا يتخيل أن مباشرة المصلي الأرض شرط من قوله عليه السَّلام لمعاذ: «عفر وجهك في التراب» انتهى.
ورده إمام الشَّارحين: بأنه لا يخلو عن حزازة، والوجه القوي ما ذكرناه، انتهى.
قلت: ولا مناسبة لحديث معاذ هنا؛ لأنَّه ورد في (التيمم).
وقوله: (لئلا يتخيل ... ) إلخ: ممنوع، فإن الصلاة جائزة على الأرض حقيقةً وحكمًا، فالمصلي في السفينة مصلٍّ على الأرض حكمًا، فلا حاجة إلى هذا الكلام؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (ويستنبط من هذا الأثر: هو أن الصلاة في السفينة إنَّما تجوز إذا كان المصلي قائمًا، وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: تجوز الصلاة فيها قائمًا وقاعدًا، بعذر وبغير عذر، وبه قال الحسن بن مالك، وأبو قلابة، وطاووس، روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة، وروى أيضًا عن مجاهد: أن جنادة بن أبي أمية قال: كنا نغزو معه، لكنا نصلي في السفينة قعودًا، ولأن الغالب فيها دوران الرأس؛ فصار كالمتحقق، والأولى أن يخرج منها إن استطاع الخروج منها، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تجوز الصلاة في السفينة قاعدًا إلا من عذر؛ لأنَّ القيام ركن، فلا يترك إلا من عذر، والخلاف في غير المربوطة، فلو كانت مربوطة في لجة البحر؛ لم تجز الصلاة قاعدًا إجماعًا، وقيل: تجوز عنده في حالتي الإجراء والإرساء، ويلزمه التوجه للقبلة عند الاستفتاح، وكلما دارت السفينة؛ لأنَّها في حقه كالبيت حتى لا يتطوع فيها مومئًا مع القدرة على الركوع والسجود، بخلاف راكب الدابة) انتهى.
قلت: فإن راكب الدابة يصلي مومئًا على الدابة إلى أي جهة توجهت به دابته، وهذا إذا كان خارج المصر عند الإمام الأعظم والإمام محمد بن الحسن، وقال الإمام أبو يوسف: يجوز أيضًا إذا كان في المصر، وهذا الأثر المذكور عن جابر وأبي سعيد يدل لما قاله الإمام الأعظم؛ لأنَّ معناه: أن الصلاة تجوز في السفينة قائمًا وقاعدًا من غير عذر؛ لأنَّهما صليا [1] فيها وهي راسية؛ لقوله: (ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، فإذا كانت كذلك؛ فلا تجوز الصلاة قاعدًا، فلهذا صلى إمامهم قائمًا، وهذا ظاهر؛ فافهم.
%ص 498%
(وقال الحسن): هو البصري، مما وصله ابن أبي شيبة كما سيأتي (تصلي): خطابًا لمن سأله عن الصلاة في السفينة: هل يصلي قائمًا أو قاعدًا؟ فأجابه بقوله له: تصلي (قائمًا)؛ أي: حال كونك قائمًا تركع وتسجد (ما لم تشق)؛ بالفوقية والتحتية (على أصحابك)؛ أي: بالقيام، وكلمة (ما) مصدرية ظرفية، معناها المدة؛ والمعنى: تصلي قائمًا مدة دوام عدم شق أصحابك (تدور معها)؛ أي: مع السفينة حيثما دارت، فأفاد بهذا أنه يلزمه التوجه للقبلة عند الاستفتاح، وكلما دارت السفينة، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، خلافًا لمن زعم عدم لزوم الدوران، (وإلا) أي: وإن لم يشق على أصحابك القيام؛ (فقاعدًا)؛ أي: فصل حال كونك قاعدًا؛ لأنَّ الحرج مدفوع، وأجاز إمامنا رئيس المجتهدين الصلاة في السفينة قاعدًا مع القدرة على القيام، سواء كان بعذر أم لا، وظاهر كلام الحسن البصري هذا: أنَّ القيام ليس شرطًا؛ لأنَّه جعله لأجل الموافقة للأصحاب، وهو دليل الاستحباب؛ كالصوم في السفر إذا كان يشق على الأصحاب؛ فالمستحب الفطر، وإلا؛ فالمستحب الصوم، فكلام الحسن موافق لما ذهب إليه الإمام الأعظم، ولئن قيل غير ذلك؛ فهم رجال ونحن رجال، فإن الأثر عن التابعي لا يعارض مذهب تابعي آخر، بل الصواب ما عليه إمامنا، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: (يصلي)؛ بالمثناة التحتية، وكذلك: (يشق على أصحابه)؛ بضمير الغائب، و (يدور)؛ بالتحتية كذلك، وفي غير رواية أبي ذر: (تصلي)، و (تشق)، و (تدور)؛ بالمثناة الفوقية في الثلاثة، وهي أوفق في المعنى، قيل: وفي متن «الفرع»: (وقال الحسن: قائمًا ... ) إلى آخره، فأسقط لفظة: (يصلي).
قلت: والظاهر: أنها سقطت سهوًا أو غفلة من الناسخ؛ لأنَّه لا بد منها لصحة المعنى؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: حدثنا حفص عن [2] عاصم، عن الشعبي، والحسن، وابن سيرين: أنَّهم قالوا: حل في السفينة قائمًا، وقال الحسن: لا تشق على أصحابك، وفي رواية الربيع بن صالح: أن الحسن ومحمدًا قالا: يصلون فيها قيامًا جماعة، ويدورون مع القبلة حيث دارت، والبخاري اقتصر على الذكر عن الحسن) انتهى.
قلت: ولعل اقتصاره عليه كونه ذكر التفصيل، وهو إذا شق على أصحابه؛ يصلي قاعدًا، وإلا؛ فقائمًا، والظاهر: أن المؤلف اختار قوله فاقتصر عليه، والظاهر: أن القيام ليس بشرط على قول الحسن وكذلك على قول ابن سيرين لأن الشق على الأصحاب لعدم موافقتهم مستحبٌّ لا واجبٌ، كما يستفاد من كلامهما، وهو ظاهر اللفظ، فصار الحاصل: أن القيام فيها غير شرط، بل مستحب؛ لأجل موافقة أصحابه، وهذا كالصوم في السفر كما ذكرنا، والله تعالى أعلم؛ فافهم ذلك.
==================
[1] في الأصل: (صلا)، والمثبت هو الصواب.
(1/643)
[حديث: قوموا فلأصل لكم]
380# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي، وفي رواية: (عبد الله) فقط (قال: حدثنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي، وزعم القسطلاني هو إمام الأئمة.
قلت: لفظة: (إمام الأئمة) لا تطلق إلا على إمامنا الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنَّه إمامهم ورئيسهم، إلا أن يقال: المراد إمام أئمة مذهبه، وكذلك لفظة: (الإمام الأعظم) لا تطلق إلا على أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لكونه أقدم الأئمة وإمامهم ورئيسهم؛ حيث إن الأئمة الثلاثة من أتباعه، فإن مالك من تلامذته في الفقه، والشافعي من تلاميذ محمد بن الحسن ووكيع، وهما من تلاميذ الإمام الأعظم، وأحمد من تلاميذ الشافعي؛ فافهم.
(عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني والحمُّوي: (عن إسحاق ابن أبي طلحة)؛ بنسبته إلى جده، واسم أبي طلحة: زيد بن سهل الأنصاري، المتوفى سنة اثنتين [1] وثلاثين ومئة، وكان مالك لا يقدم على إسحاق أحدًا في الحديث، (عن أنس بن مالك): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (أن جدته)؛ أي: جدة إسحاق لأبيه، وبه جزم القاضي عياض، وابن عبد البر، وعبد الحق، وصححه النووي، واسمها: (مُلَيْكة)؛ بضم الميم، وفتح اللام، وسكون التحتية: هي بنت مالك بن عدي، وهي جدة أنس بن مالك؛ لأنَّ أمه أم سليم، وأمها مُلَيْكة المذكورة، ويؤيده ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يزور أم سليم ... )؛ الحديث، وأم سليم: هي أم أنس، وأمها مُلَيْكة المذكورة، واختلف في اسم أم سليم، فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: رمية، وقيل: الرميصاء، وقيل: الغميصاء، وقيل: أنيفة؛ بالنون، والفاء مصغرة، وتزوج أم سليم مالك بن النضر، فولدت له أنس بن مالك، ثم خلف عليها أبو طلحة، فولدت له عبد الله وأبا عمير، وعبد الله هو والد إسحاق راوي هذا الحديث عن عمه _أخي أبيه لأمه_ أنس بن مالك، وقال جماعة: الضمير في (أن جدته) يعود على أنس نفسه، وبه جزم ابن سعد، وابن منده، وابن الحصار، وهو مقتضى ما في «النهاية»، ويؤيده ما ذكره أبو الشيخ الأصبهاني في «فوائد العراقيين» من حديث إسحاق ابن أبي طلحة، عن أنس قال: (أرسلتني جدتي إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، واسمها مليكة ... )؛ الحديث، ولا تنافي بين كون مليكة جدة أنس، وبين كونها جدة إسحاق، كذا قرره إمام الشَّارحين رحمه الله تعالى.
(دعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لطعام) أي: لأجل طعام (صنعته)؛ أي: ركبته، والجملة فعلية في محل الجر؛ لأنَّها صفة (لطعام)؛ أي: مليكة جدة أنس، أو إسحاق، أو ابنتها أم سليم والدة أنس بن مالك (له)؛ أي: لأجله عليه السَّلام، (فأكل منه): وعند ابن أبي شيبة عن أنس قال: (صنع بعض عمومتي للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم طعامًا، فقالت: إني أحب أن تأكل منه في بيتي، وتصلي فيه، قال: فأتاه، وفي البيت فحل من تلك الفحول، فأمر بجانب منه، فكنس ورش، فصلى وصلينا معه).
وعند النسائي: (أن أم سليم سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأتيها فيصلي في بيتها فتتخذه مصلًّى، فأتاها، فعمدت إلى حصير فنضحته، فصلى عليه، وصلوا معه).
وفي «الغرائب» للدارقطني عن أنس قال: (صنعت مليكة طعامًا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي: «قم فتوضأ، ومر العجوز فلتتوضأ، ومر هذا اليتيم فليتوضأ، فلأصلي لكم»، قال: فعمدت إلى حصير عندنا).
%ص 499%
وفي «سنن البيهقي» من حديث أبي قلابة عن أنس: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتي أم سليم يقيل عندها، وكان يصلي على نطع، وكان كثير العرق، فتتبع العرق من النطع تجعله في القوارير مع الطيب وكان يصلي على الخمرة) كذا في «عمدة القاري».
قلت: وإفادة هذه الروايات: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان مجيئه لأجل الصلاة، وكان غرض مليكة الصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها، خلافًا لمن زعم أن مجيئه كان لأجل الطعام، فإن هذه الروايات تردُّ عليه كما هو ظاهر، وسيأتي بقية الكلام عليه.
(ثُمَّ قَالَ) عليه السَّلام لهم: (قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ) بكسر اللام، وضم الهمزة، وفتح المثناة التحتية، ووجهه أن اللام فيه لام (كي)، والفعل بعدها منصوب بـ (أن) المقدرة؛ تقديره: فلأن أصلي لكم، والياء زائدة، والفاء جواب الأمر، ومدخول الفاء محذوف؛ تقديره: قوموا فقيامكم لأصلي لكم، فاللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن تكون الفاء زائدة على رأي الأخفش، واللام متعلقة بـ (قوموا)، وفي رواية: (فلأصليْ) بكسر اللام على أنها لام (كي) وسكون الياء، ووجهه: أن تسكين الياء المفتوحة للتخفيف، وفي مثل هذا لغة مشهورة، ويجوز أن تكون اللام لام الأمر، وتثبت الياء في الجزم؛ إجراء للمعتل مجرى الصحيح.
وفي رواية الأربعة (فلَأصليْ) بفتح اللام وسكون الياء، ووجهه: أن تكون اللام لام الابتداء؛ للتأكيد، أو تكون اللام لام الأمر، وفتحت على لغة بني سليم، وثبتت الياء في الجزم؛ إجراء للمعتل مجرى الصحيح؛ كقراءة قنبل {مَن يَتَّقي وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90]، أو تكون اللام جواب قسم محذوف، والفاء جواب شرط محذوف؛ تقديره: إن قمتم؛ فوالله لأصلي لكم.
واعترض هذا الوجه ابن السِّيد فزعم (وغلط من توهم أنه قسم؛ لأنَّه لا وجه للقسم، ولو أريد ذلك؛ لقال: لأصلين؛ بالنون) انتهى.
قلت: بل الزاعم أنه لا وجه للقسم هو الغالط الواهم؛ فإن وجه القسم ظاهر وهو مراد، ولا يلزم أن يقول: لأصلين؛ بالنون؛ لأنَّ هذا في القسم الصريح، أما المقدر؛ فلا، وهنا جواب القسم محذوف كما علمت.
وفي رواية الأصيلي: (فلأصلِّ) بحذف الياء وكسر اللام، ووجهه: أن تكون اللام لام الأمر، والفعل مجزوم بحذفها.
وفي رواية حكاها ابن قرقول: (فلنصلِّ) بكسر اللام وبنون الجمع، ووجهه: أن تكون اللام لام الأمر، والفعل مجزوم بها، وعلامة الجزم سقوط الياء وكسر اللام لغة معروفة.
وفي رواية الكشميهني: (فأصليْ) بحذف اللام وسكون الياء على صيغة الإخبار عن نفسه، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره: فأنا أصلي، والجملة جواب الأمر، وهذه رواية الكشميهني، كما ذكرنا.
وزعم ابن حجر أنه لم يقف عليها في نسخة صحيحة.
قلت: وهو ممنوع، فإنه لايلزم من عدم وقوفه عليها ألا تكون ثابتة؛ فإنه ليس هو ممن يحيط بجميع الروايات على أنه ما ذكرناه مثبت، وكلامه ناف، والمثبت مقدم على النافي عند المحققين؛ فافهم.
فهذه ستُّ روايات مع ذكر أوجه إعرابها، وقد سردها إمامنا الشَّارح رضي الله عنه.
(لَكُمْ)؛ أي لأجلكم، فاللام للعلة من حيث إن صلاته كانت لأجل اقتدائهم به عليه السَّلام، فلا يقال: إن الظاهر أن يقول: بكم؛ بالموحدة؛ لأنَّهم قد يصلون معه في المسجد، فأراد عليه السَّلام الصلاة عندهم واقتداءهم به، فهو متضمن لشيئين.
على أنه قد تكون اللام بمعنى الباء؛ لأنَّ حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، ويدل لهذا: ما في «سنن البيهقي» من حديث أبي قلابة عن أنس: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتي أم سليم يقيل عندها ... )؛ الحديث، وعند ابن أبي شيبة عن أنس فقال: (إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه) إلى أن قال: (فصلى وصلينا معه) كما تقدم، ولهذا قال السهيلي: إن الأمر في قوله: (قوموا) بمعنى الخبر، كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، أو هو أمر لهم بالائتمام، لكن أضافه لنفسه؛ لارتباط تعليمهم بفعله، انتهى.
وزعم ابن حجر أن مجيئه عليه السَّلام كان لأجل الطعام لا ليصلي بهم؛ ليتخذوا مكان صلاته مصلى لهم كما في قصة عتبان بن مالك الآتية، وهذا هو السر في كونه بدأ في قصة عتبان بالصلاة قبل الطعام، وهنا بالطعام قبل الصلاة، فبدأ في كل منهما بأصل ما دعي له، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: قلت: لا مانع في الجمع بين الدعاء للطعام وبين الدعاء للصلاة، ولهذا صلَّى عليه السَّلام في هذا الحديث، والظاهر أن قصد مليكة من دعوتها كان للصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها.
وقوله: (وهذا هو السر ... ) إلى آخره: فيه نظر؛ لأنَّه يحتمل أن الطعام كان قد حضر وتهيأ في دعوة مليكة، والطعام إذا حضر؛ لا يؤخر، فيقدم على الصلاة، وبدأ بالصلاة في قصة عتبان؛ لعدم حضور الطعام، انتهى.
قلت: ويدل لما قاله إمامنا الشَّارح ما عند النسائي: (أن أم سليم سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأتيها فيصلي في بيتها، فتتخذه مصلًّى ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أن مجيئه عليه السَّلام كان لأجل الصلاة بهم، وليتخذوا مكان صلاته مصلًّى لهم، لا لأجل الطعام كما زعمه ابن حجر، وكأنه لم يطلع [2] على هذه الرواية، ويدل أيضًا لما قاله إمام الشَّارحين ما عند ابن أبي شيبة عن أنس قال: (صنع بعض عمومتي للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم طعامًا فقالت: إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أن الطعام كان قد صُنع وتهيَّأ وحضر في دعوتها، فبدأ عليه السلام بالصلاة ثم بالأكل؛ لأنَّه إذا حضر الطعام؛ لا تُقدم الصلاة عليه، ويدل لهذا أيضًا مافي «الغرائب» للدارقطني عن أنس قال: (صنعت مليكة طعامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أن الطعام قد صنع وتهيَّأ وحضر، وأن قصدها من دعوتها كان للصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها، ولما أنَّه قد حضر الطعام؛ فبدأ عليه السلام به قبل الصلاة، وفي ذلك روايات أُخَر تدل لما قاله إمام الشارحين، وتردُّ على ما زعمه ابن حجر، فلله در إمامنا الشَّارح ما أعظم فكره وأدق نظره! وحقيق بأن يلقب بإمام الشَّارحين؛ فافهم واحفظ.
(قَالَ أَنَسٌ) هو ابن مالك رضي الله عنه: (فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا)؛ بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، وهي الباريَّة المتخذة من سعف النخل وشبهه [3] قدر طول الرجل بمرتين أو أكثر أو أقل، وعند مسلم: (فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيكنس، ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنقوم خلفه، وكان بساطهم من جريد النخل) انتهى.
(قَدِ اسْوَدَّ) وفي رواية: (قطعة حصير عندنا خَلق) بفتح الخاء المعجمة (مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ)؛ بضم اللام وكسر الباء الموحدة؛ أي: من كثرة الاستعمال، و (لبس) ههنا ليس من: (لبست
%ص 500%
الثوب)، وإنما من قولهم: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا، فحينئذ يكون معناه: قد اسود من كثرة ما تمتع به في طول الزمان، قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: ومن هذا يظهر لك بطلان قول بعضهم: وقد استدل به على منع افتراش الحرير؛ لعموم النهي عن لبس الحرير، وقصد هذا القائل الغمز فيما قاله الحنفية من جواز افتراش الحرير وتوسده، ولكن الذي يدرك المعاني الدقيقة ومدارك الألفاظ العربية يعرف ذلك، ويقرُّ أن الحنفية لا يذهبون إلى شيء سدًى، انتهى.
قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) ابن حجر، وما زعمه باطل، ومن دأبه التعصب والعناد، وفهم المعاني على خلاف معانيها العربية فإن مراد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالنهي عن لبس الحرير: لبسه المعتاد على الجسد، وأما افتراش الحرير وتوسده؛ فليس فيه لبس؛ فهو خارج عن النهي، بل هو جائز، وقد فعله كثير من الصحابة والخلفاء رضي الله عنه، وصاحب الدار أدرى بالذي فيه.
وأما (لبس) في الحديث؛ فمعناه: التمتع، من قولهم: لبست المرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا، بدليل قوله في الحديث: (قد اسود) يعني: من كثرة الاستعمال، فإنه لو لم يستعمل؛ لم يسود، فهذا يدل على بطلان قوله: إنَّ معناه الافتراش؛ فافهم، فكيف يزعم ابن حجر هذا الزعم وما هو إلا من تحرك عرق العصبية والعناد؟ فافهم ذلك، ولا تكن من المتعصبين.
(فَتَنضَحه) من النضح، وهو الرش؛ أي: ترشه (بِمَاءٍ) وفي رواية مسلم: (فيكنس، ثم ينضح) وذلك لأجل تليين الحصير أو لإزالة الأوساخ منه فتنظفه، وهذا يدل على أنها فعلت ذلك من نفسها، وفي رواية مسلم أنه عليه السَّلام أمرها بذلك؛ لأنَّه قال: (فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح ... )؛ الحديث، والظاهر: أنها فعلته بأمره عليه السَّلام، ويدل له رواية ابن أبي شيبة: (فأمر بجانب منه، فكنس ورشَّ)، وفي «الغرائب» للدارقطني: ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي _أي: لأنس_: «قم فتوضأ، ومُرِ العجوز فلتتوضأ، ومُرْ هذا اليتيم فليتوضأ ... »؛ الحديث، (فَقَامَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: على الحصير لأجل الصلاة، ففيه جواز الصلاة على الحصير وسائر ما تنبته الأرض، وهو إجماع إلا من شذَّ بحديث أنه لم يصل عليه، وهو لا يصح، كذا ذكره صاحب «التوضيح».
قال إمام الشَّارحين: وأراد بقوله: (لا يصح)؛ أي: الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن المقدام عن أبيه عن شريح بن هانئ: أنه سأل عائشة رضي الله عنها: أكان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير، وقالوا: هذا الحديث غير صحيح؛ لضعف يزيد بن المقدام، ولهذا بوب البخاري باب (الصلاة على الحصير)، فإنَّ هذا الحديث لم يثبت عنده، وأورده؛ لمعارضة ما أقوى منه، والذي شذَّ فيه هو عمر بن عبد العزيز، فإنه كان يسجد على التر اب، ولكن يحمل فعله هذا على التواضع، انتهى.
قلت: وقد صح أنه عليه السَّلام قد صلى على الحصير، وهو أشد تواضعًا وأكثر خضوعًا، والظاهر: أن فعله لبيان الأفضل؛ لأنَّ الأفضل السجود على الأرض أو على ما تنبته الأرض، فإن الحصير وإن كان مما تنبته الأرض لكن التراب أرض حقيقة، وإذا وجد؛ فهو أفضل مما تنبته، والله أعلم.
(فَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (وصففت واليتيم) بإسقاط لفظة (أنا)، وبدل الفاء: واو، وقال إمام الشَّارحين: ومثل هذا فيه خلاف بين الكوفيين والبصريين؛ فعند البصريين لا يعطف على الضمير المرفوع إلا بعد تأكيده بضمير منفصل؛ ليحسن العطف على المرفوع المتصل بارزًا كان أو مستترًا؛ كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وعند الكوفيين يجوز ذلك بدون التأكيد.
و (اليتيمَُ): يجوز فيه الرفع والنصب؛ أما الرفع؛ فلأنه معطوف على الضمير المرفوع، وأما النصب؛ فلأنه يكون الواو فيه واو المصاحبة؛ والتقدير: فصففت أنا مع اليتيم، انتهى.
قلت: فرواية الأكثرين جارية على مذهب البصريين، ورواية المستملي والحمُّوي جارية على مذهب الكوفيين في جواز عدم التأكيد، و (اليتيمُ)؛ بالرفع رواية أبي ذر، وبالنصب رواية «الفرع» مصححًا عليه.
وزعم الكرماني أن رواية الرفع وجهها: أن يكون مبتدأ، و (وراءه) خبره، والجملة حال، ورده إمام الشَّارحين وتبعه الشراح بأنه غير موجَّه، بل الرفع على العطف على الضمير المرفوع كما ذكرنا؛ فافهم.
وقوله (وَرَاءَهُ)؛ أي: خلف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، قال إمام الشَّارحين: واليتيم هو ضميرة بن أبي ضميرة مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كذا قاله الذهبي في «تجريد الصحابة»، ثم قال: ولأبيه صحبة، وقال في «الكنى»: (أبو ضميرة مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كان من حِمْير، اسمه سعد)، وكذا قال البخاري: إن اسمه سعد الحميري من آل ذي يزن، وقال أبو حاتم: سعد الحميري وهو جد حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة، انتهى.
ويقال: اسم أبي ضميرة روح بن سدر، وقيل: روح بن شيرزاد، وضُمَيْرَة؛ بضم الضاد المعجمة، وفتح الميم، وسكون التحتية، وفتح الراء، آخره هاء، انتهى كلام إمام الشَّارحين رحمه الله.
(وَالْعَجُوزُ) هي مليكة المذكورة أولًا (من ورائنا)؛ أي: خلفهم، والجملة اسمية وقعت حالًا، وفي حالة الرفع يكون معطوفًا؛ فافهم، قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: وفي الحديث: جواز قيام الطفل مع الرجال في صف واحد، وفيه أيضًا: تأخير النساء عن الرجال، انتهى.
قلت: فإن تأخُّرهنَّ عن الرجال واجب؛ لئلا تفسد صلاة الرجال المحاذين لهنَّ.
فهذا الحديث دليل لما قاله الأئمة الحنفية من أن محاذاة المرأة للرجل في صلاة واحدة يفسد صلاة الرجل وغيره المحاذين لها، وهو حجة على من زعم أنه غير مفسد.
وكذا فيه حجة على من زعم أن محاذاة الطفل للرجل في الصلاة مفسد لصلاة الرجل؛ فإنَّ هذا الحديث صريح في أنها غير مفسدة [4]؛ لقيام اليتيم مع أنس خلف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فليحفظ.
(فَصَلَّى لَنَا) أي: لأجلنا (رَسُول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم رَكْعَتَيْنِ) وهي نافلة النهار، لكن الأفضل في النهار أربع، كما في أحاديث غيرها، لكنه عليه السَّلام
%ص 501%
اقتصر هنا على الركعتين؛ لأنَّ مراده بالصلاة التعليم بالمشاهدة، وبهما يكفي للتعليم، ويحتمل أنه صلى ركعتين، ثم ركعتين، فاقتصر الراوي على الركعتين الأوليين، (ثُمّ َانْصَرَفَ)؛ أي: فرغ من صلاته واستقبال القبلة وذهب إلى بيته، فيستنبط منه أن الخروج من الصلاة بلفظ السلام ليس بواجب؛ لأنَّه قال: (ثم انصرف)، ولم يقل: ثم سلم، لا يقال: المراد منه الانصراف من البيت الذي هو فيه؛ لأنَّا نقول: ظاهره بل صريحه أن المراد منه الانصراف من الصلاة بالمشي واستدبار القبلة.
وفيه: أن المنفرد خلف الصف تصح صلاته؛ بدليل وقوف العجوز في الأخير وحدها، وهو مذهب إمامنا رئيس المجتهدين وأصحابه، وبه قال مالك والشافعي، وقال أحمد وأصحاب الحديث: لا يصح؛ لقوله عليه السَّلام: «لا صلاة للمنفرد خلف الصف»، وأجيب: بأنه أريد به نفي الكمال لا الصحة، يدل عليه قوله عليه السَّلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، فإنه أريد به نفي الكمال إجماعًا، وهذا مثله؛ فليحفظ.
وفي الحديث: دليل على أن الاثنين يكونان صفًّا وراء الإمام، وهو مذهب الإمام الأعظم وكافة العلماء إلا ما روي عن ابن مسعود أنه قال: يكون الإمام بينهما.
وزعم صاحب «التوضيح» أنه مذهب الإمام الأعظم والكوفيين.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: مذهبه ليس كذلك، بل مذهبه أنه إذا أمَّ اثنين؛ يتقدم عليهما، وبه قال محمد بن الحسن، واحتجَّا بهذا الحديث المذكور في الباب، نعم؛ روي عن الإمام أبي يوسف أنه يتوسطهما، قال صاحب «الهداية»: (ونقل ذلك عن ابن مسعود).
قلت: هذا موقوف عليه، وقد رواه مسلم من ثلاث طرق، ولم يرفعه في الأوليين، ورفعه إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في الثالثة، وقال: هكذا فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال أبو عمر [5]: (هذا الحديث لا يصح رفعه، وأما فعله هو؛ فإنما كان لضيق المسجد)، رواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي في «معاني الآثار» بسنده عن ابن سيرين أنه قال: (لا أرى ابن مسعود فعل ذلك إلا لضيق المسجد أو لعذر آخر، لا على أنه من السنة) انتهى.
وفيه دليل على أن الأصل في الحصير ونحوه الطهارة، ولكن النضح فيه إنَّما كان لأجل تليين الحصير أو لإزالة الوسخ عنه كما ذكرنا، وقال القاضي عياض: الأظهر أنه كان للشك في نجاسته، ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا مبني على مذهبه من أن النجاسة المشكوك فيها تتطهر بنضحها من غير غسل، وعندنا الطهارة لا تحصل إلا بالغسل، انتهى.
قلت: وما قاله القاضي عياض غير ظاهر فضلًا عن أن يكون أظهر؛ لأنَّ الحصير إنَّما كان طاهرًا، يدل عليه ما في «مسلم»: (فربما تحضر الصلاة، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيكنس ... )؛ الحديث، فإنه عليه السَّلام لا يجلس إلا على طاهر، فلو كان نجسًا؛ لم يجلس عليه.
وفي «سنن البيهقي» من حديث أبي قلابة عن أنس (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتي أم سليم يقيل عندها، وكان يصلي على نطع، وكان كثير العرق، وكانت تتبع العرق من النطع وتجعله في القوارير مع الطيب ... )؛ الحديث، فهذا يدل أيضًا على أن الحصير كان طاهرًا؛ لأنَّه كان يعرق عليه وتأخذ العرق منه، فلو كان الحصير نجسًا؛ لم تفعل هكذا، ولم يجلس عليه السَّلام عليه، ولا كان يعرق عليه.
فقوله (والأظهر ... ) إلى آخره ممنوع، وإنما قاله؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، والصواب: أن النضح إنَّما كان لأجل تليين الحصير أو لأجل إزالة الوسخ عنه لتنظيفه؛ يدل عليه أنه قال في الحديث المذكور: (قد اسود) وإنما يسود الحصير من كثرة الاستعمال.
ويدل عليه أيضًا رواية الدارقطني عن أنس قال: (فعمدت إلى حصير عندنا خلق قد اسود)، وفي رواية: (قطعة حصير عندنا خلق) فوصفه بالخلق الذي هو الرث الغير النظيف دليل على أنه قد اسود من كثرة الاستعمال، فالنضح إنَّما كان لأجل إزالة الوسخ لا لأجل الطهارة، فإن الشيء المتنجس لا يطهره إلا الغسل هذا هو الصواب؛ فافهم.
وقال النووي: احتج أصحاب مالك بقوله: (من طول ما لبس) على أن من حلف لا يلبس ثوبًا ففرشه؛ فعندهم يحنث، وأجاب أصحابنا: بأن ليس كل شيء بحسبه، فحملنا اللبس في الحديث على الافتراش في القرينة، ولأنه المفهوم منه، بخلاف من حلف لا يلبس ثوبًا، فإن أهل العرف لا يفهمون من لبسه الافتراش، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: ليس معنى اللبس في الحديث الافتراش، وإنما معناه: التمتع، كما قال أصحاب اللغة: يقال: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا طويلًا، وليس هو من اللبس الذي من لبست الثياب، انتهى.
قلت: وما زعمه النووي متناقض، وحمل اللبس في الحديث على الافتراش باطل، ودعواه القرينة دعوى باطلة، ودعواه أنه المفهوم غير صحيح؛ فإن الحديث ليس فيه قرينة على صحة هذه الدعوى، وليس هو بمفهوم منه أيضًا؛ لأنَّه قال في الحديث: (قد اسود من طول ما لبس) وهو يدل على أنه قد استعمل كثيرًا، واستعماله إنَّما كان لأجل الصلاة، والصلاة مكررة ليلًا ونهارًا، لا سيما يعرض عليه الغبار والتراب، فطول اللبس كناية عن كثرة الاستعمال، فإن عادة حصير الصلاة يفرش وقت الصلاة ويقام عند الفراغ منها، ويوضع في مكان آخر، وأصل هذه المادة المخالطة والمداخلة، فـ (لبس) في الحديث ليس من قولهم: لبست الثوب، وإنما هو من قولهم: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا طويلًا، فيكون المعنى قد اسودَّ من كثرة مما تمتع به في طول الزمان، يدل عليه ما ذكرناه من رواية الدارقطني: (خلق قد اسود)، فوصفه بالخلق دليل على أنه قد استعمل كثيرًا حتى صار خلقًا مسودًّا، وهذا ظاهر بأدنى تأمل، ولكن النووي وغيره إنَّما ذهب إلى هذا المعنى؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه من حرمة افتراش الحرير، فارتكب هذا المعنى الغير الصواب، ولو أنصف؛ لقال كما قلنا، ولكن هيهات من صحة كلامه، لأنَّه خلاف ما قاله أهل اللغة على أن قوله: (بخلاف من حلف ... ) إلى آخره، فإنه ناقض كلامه وقال: (أهل العرف لا يفهمون ... ) إلى آخره، فإذا كان كذلك؛ فكيف يفهمون من الحديث أن اللبس بمعنى
%ص 502%
الافتراش؟!
وعلى ما قاله؛ إن من فهم هذا المعنى لا يكون ممن يدرك دقائق المعاني ومدارك الألفاظ العربية، وهو كذلك فإن من يدرك ذلك لا يقول هذا الكلام المتناقض، ولا يحمل هذا الحمل الباطل، وفوق كل ذي علم عليم.
وفي الحديث: دليل على صحة صلاة الصبي.
وفيه: دليل على صحة صلاة الرجل الذي صلى محاذيًا للصبي خلافًا لمن زعم فساد صلاته.
وفيه: أن إمامة المرأة للرجال غير صحيحة؛ لأنَّه إذا كان مقامها متأخرًا عن مرتبة الصبي فبالأولى ألَّا تتقدمهم إمامة النساء مطلقًا، وحكى بعض العلماء إجازة إمامة الصبي والمرأة في التراويح إذا لم يوجد قارئ غيرهما.
واستدل الإمام أبو يوسف ومحمد بن الحسن وتبعه الشافعي على أن الأفضل في نوافل النهار أن تكون ركعتين، وقال الإمام الأعظم: الأفضل في النهار الأربع، وأجاب عن هذا الحديث: أنه إنَّما فعله؛ لبيان الجواز ولأجل التعليم.
وزعم ابن حجر أن فيه الاقتصار على نافلة النهار على ركعتين خلافًا لمن اشترط أربعًا.
ورده إمام الشَّارحين فقال: إن كان مراده الإمام الأعظم؛ فليس كذلك؛ لأنَّه لم يشترط ذلك، بل قال: الأربع أفضل، سواء كان في الليل أو النهار، انتهى.
قلت: فانظر إلى ما زعمه ابن حجر؛ فإنه لم يفرق بين الاشتراط وبين الأفضل، على أنَّ هذا الحديث من صلاته عليه السَّلام ركعتين إنَّما كان لأجل التعليم؛ فإنه عليه السَّلام أراد تعليم أفعال الصلاة مشاهدة مع تبركهم بذلك، ومعلوم أن بالصلاة ركعتين يحصل التعليم وهو المقصود، فليس فيه دليل على أن الأفضل في النهار ركعتان [6]؛ لأنَّه قد ورد على سبب، يدل لهذا قوله في الحديث: (فصلى لنا)؛ أي: لأجلنا، وإنما عادته عليه السَّلام في صلاة الليل والنهار الأربع، كما دل على ذلك أحاديث كثيرة، وكأن ابن حجر لم يطلع [7] على ذلك؛ فافهم.
وفي الحديث: استحباب تنظيف مكان المصلى من الأوساخ، وكذلك التنظيف من الكناسات والزبالات.
وفيه: أن الأفضل أن تكون النوافل في البيت؛ لأنَّ المساجد تبنى لأداء الفرائض.
وفيه: الصلاة في دار الداعي وتبركه بها.
وفيه: استحباب التعليم لأفعال الصلاة مشاهدة.
وزعم ابن حجر أن المرأة قلما تشاهد أفعاله عليه السَّلام في المسجد؛ فأراد عليه السَّلام أن تشاهدها وتتعلمها وتعلمها غيرها.
قلت: وفيه نظر؛ فإن النساء كن يخرجن إلى المساجد ويصلين معه عليه السَّلام كما هو ثابت في الصحيح، ولا ريب أن من صلى مع آخر يشاهد أفعاله ويتعلمها؛ فإنه بسبب اقتدائهن به ضرورة يتعلمن أفعاله ويشاهدن خصاله، ولكن عليه السَّلام في هذا الحديث إنَّما أراد التعليم؛ لعلمه أن هذه العجوز لا تخرج إلى المسجد، فلم تشاهد أفعاله؛ لضعف بنيتها، وعدم قدرتها على الخروج، فكأنه عليه السَّلام لم يرها في المسجد، فأراد تعليمها في بيتها، والظاهر: أنه عليه السَّلام أراد أيضًا تعليمها الوضوء، يدل عليه رواية الدارقطني عن أنس قال: صنعت مليكة طعامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي: «قم فتوضأ، ومُرِ العجوز فلتتوضأ، ومُرْ هذا اليتيم فليتوضأ، فلأصلي لكم ... »؛ الحديث، فهذا يدل على أنه عليه السَّلام أراد تعليمها مع اليتيم أفعال الوضوء والصلاة، فإن الوضوء لم تشاهده، وكذلك الصلاة؛ لكونها عجوزة لا قدرة لها على الخروج لضعفها وكبر سنها؛ فافهم.
وفي الحديث: إجابة الدعوة وإن لم تكن وليمة عرس، والأكل من طعامها.
وفيه: جواز صلاة النافلة بالجماعة وهو جائز عندنا من غير كراهة؛ لأنَّه على سبيل التداعي، أما إذا لم يكن على سبيل التداعي؛ فكره أئمتنا الأعلام وجماعة التنفل بالجماعة في غير رمضان.
فإن قلت: جاء في رواية أبي المسيح: (فحضرت الصلاة)، وفي رواية مسلم: (فربما تحضر الصلاة وهو في بيتها).
قلت: لا يلزم من حضوروقت الصلاة أن صلاته عليه السَّلام في بيت مليكة كانت للفرض، ألا ترى أن في الرواية الأخرى لمسلم: («قوموا فلأصلي لكم» في غير وقت صلاة، فصلى بنا) على أنه لم ينقل عنه عليه السَّلام أنه ترك صلاة الجماعة في المسجد، ولهذا قال بعض أئمتنا الأعلام: إن صلاة الجماعة واجبة؛ لمواظبته عليه السَّلام عليها، وقال أحمد: إنها فرض، والصحيح عندنا أنها سنة مؤكدة، وظاهر حديث الباب وغيره: أن صلاته عليه السَّلام في بيت مليكة كانت نافلة، ومعنى قوله في الرواية: (فحضرت الصلاة)؛ أي: هيِّئ مكانها من بسط الحصير وكنسه ورشه، وفراغ وضوء أنس واليتيم والعجوز، فهذا معنى حضورها، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (وشهبه)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (مفسد)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (ركعتين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/644)
(21) [باب الصلاة على الخمرة]
هذا (باب) حكم (الصلاة على الخُمْرة)؛ بضم الخاء المعجمة وسكون الميم: سجادة صغيرة من سعف النخل تزمل بخيوط.
فإن قلت: قد ذكر المؤلف ذلك في حديث ميمونة في الباب الذي قبل باب (الصلاة على الحصير)، فما فائدة إعادته هنا؟
قلت: لأنَّه رواه هناك عن مسدد مطولًا، وههنا رواه عن أبي الوليد مختصرًا، فأعاده موافقة له، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني أنه ذكر هناك حكم الصلاة على الخمرة استطرادًا وتبعًا لحكم ما إذا أصاب ثوب المصلى امرأته إذا سجد، وههنا ذكر حكم الصلاة على الخمرة استقلالًا بانفراده وحده على حدة؛ فافهم.
==========
%ص 503%
==================
(1/645)
[حديث: كان النبي يصلي على الخمرة]
381# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدَّثنا أبو الوَلِيد) هو هشام بن عبد الملك الطيالسي (قال: حدَّثنا شُعْبة) هو ابن الحجاج (قال: حدَّثنا سُلَيْمان الشَّيبَانِي) هو أبو إسحاق سليمان بن فيروز التابعي، (عَنْ عَبْد اللّه بْنِ شَدَّادِ) هو ابن الهاد المدني، (عَن مَيْمُونَةُ) هي بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها (قَالَتْ: كَانَ النَبِيُّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) وجملة قولها (يُصَلِّي) محلها النصب خبر (كان) (عَلَى الخُمْرَةٍ)؛ بضم الخاء المعجمة وسكون الميم: سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل، وتزمل بالخيوط، وسميت خمرة؛ لأنَّها تستر وجه المصلي عن الأرض، ومنه سمي الخمار الذي يستر الرأس، والخمرة تطلق على التي كانت قدر طول الرجل أو أكثر أو أقل منه، وجمعها: خُمُر بضمتين.
وإفادة لفظة (كان) أنه عليه السَّلام كان يصلي على الخمرة دائمًا
%ص 503%
مستمرًّا، فيشمل ذلك الفرائض والواجبات والنوافل.
ففيه: جواز الصلاة على الخمرة من غير كراهة، وعن ابن المسيب: الصلاة على الخمرة سنة، وقد فعل ذلك جابر، وأبو ذر، وزيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنهم.
فإن قلت: روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يأتي بتراب فيضعه [1] على الخمرة، فيسجد عليه.
قلت: كان هذا منه على تقدير صحتهللمبالغة في التواضع والخشوع، لا على أنه كان لا يرى الصلاة على الخمرة، وكيف هذا وقد صح أنه عليه السَّلام صلى على الخمرة بدون حائل، وهو أكثر تواضعًا وأشد خضوعًا؟!
فإن قلت: روى ابن أبي شيبة عن عروة: أنه كان يكره الصلاة على شيء دون الأرض.
قلت: لا حجة فيه لأحد في خلاف ما فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويمكن أن يقال: إن مراده من الكراهة التنزيه، وكذا يقال في كل من روى عنه بمثله، انتهى.
قلت: الجواب الأول هو الصواب، أما الثاني؛ ففيه أن الحديث يدل على جواز الصلاة على الخمرة من غير كراهة، فإن كان مراده كراهة [2] التنزيه؛ فليس في الحديث ما يدل عليها؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: هذا طريق آخر لحديث ميمونة، والطريق الأول ذكره في باب (إذا أصاب المصلي امرأته إذا سجد)، لكن هناك عن مسدد عن خالد عن سليمان، وهنا عن أبي الوليد عن شعبة عن سليمان، وفائدة تكراره: اختلاف بعض رجاله في الإسناد، كما ترى، وبيان مقصود شيخه عند نقله الحديث، واختلاف استخراج الأحكام منه، ولكل من مشايخه مقصود غير مقصود الآخر، انتهى، والله أعلم
==========
[1] في الأصل: (فيوضعه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الكراهة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (فيوضعه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (فيوضعه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/646)
(22) [باب الصلاة على الفراش]
هذا (باب) حكم (الصلاة على الفِراش)؛ بكسر الفاء: هو ما يفرش، قال إمام الشَّارحين: والفراش هنا: اسم لما يفرش من أي نوع كان من أنواع ما يبسط، ويجمع على فُرُش بالضم، ويجيء مصدرًا من فرشت الشيء أفرشُه فراشًا إذا بسطته، وهو من باب (نصر ينصُر)، والمناسبة بين البابين ظاهرة، انتهى.
قلت: والصلاة على الفراش جائزة، سواء كان الفراش ينام عليه مع امرأته أم لا، لكن بشرط أن يكون طاهرًا، وأن يكون يجد حجم الأرض عند السجود، فإذا لم يجد حجمها؛ لم تجز الصلاة عليه، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، (وَصَلَّى أَنَسٌ) هو ابن مالك الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (عَلَى فِرَاشِهِ) بالضمير، وإضافته إليه يدل على أن الفراش الذي يصلي عليه هو الذي كان ينام عليه.
قال إمام الشَّارحين: وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور؛ كلاهما عن ابن المبارك عن حميد قال: كان أنس يصلي على فراشه، انتهى.
قلت: فأضافه إليه أيضًا، وهو يدل على أنه الذي ينام عليه، وهو أبلغ في جواز الصلاة؛ لأنَّ النائم لا يخلو عن شيء من النجاسة، لكنه أمر موهوم، والأحكام لا تبنى على الوهم، والأصل في الأشياء الطهارة لا يقال: إن الفراش الذي ينام عليه ثخين لا يجد الساجد عليه حجم الأرض، لأنا نقول: كان عادة الصحابة عدم الترفُّه، وعادتهم ترك زينة الدنيا، فكان فراشهم رقيقًا، يجد الساجد عليه حجم الأرض، بخلاف ما عليه الناس في زماننا من طلب الترفه، وزينة الدنيا، وثخانة الفرش؛ بحيث لا يجد الساجد عليها حجم الأرض، فإن ذلك غير جائز في صحة الصلاة؛ لأنَّه كلما بالغ بالسجود؛ يتسفَّل، وهكذا فإذا كان كذلك؛ لا يصح السجود عليه؛ فافهم.
(وَقَالَ أَنَسٌ) هو ابن مالك الأنصاري، مما وصله المؤلف فيما بعد في الباب الذي يليه (كُنَّا)؛ أي: معشر الصحابة رضي الله عنهم (نُصَلِّي) أي: الصلوات الخمس (مَعَ النَّبِيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: في مسجده النبوي، (فَيَسْجُدُ أَحَدُنَا) أي: كل واحد منا أو بعضنا (عَلَى ثَوْبِهِ)؛ أي: الذي كان هو لابسه نحو الفاضل من كمه أو ذيله المتحرك بحركته ضرورة، ويحتمل أن يكون ثوبه الذي يقلعه عن جسمه، لكن هذا الاحتمال بعيد، بل الصواب الأول؛ يدل عليه حديثه المسند الآتي، فإنه يصرح بأن المراد منه بعض ثوبه؛ حيث قال فيه: (فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود)، ويدل عليه أيضًا إضافة الثوب للضمير العائد على الساجد، فهو يدل على أن الثوب المسجود عليه هو الملبوس على المصلي.
ففيه: جواز الصلاة والسجود على فاضل ثوبه المتحرك بحركته؛ كطرف ذيله أو كمه أو عمامته، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور، ومنعه الشافعي، ولهذا زعم القسطلاني حيث فسر قوله على ثوبه؛ أي: الذي لا يتحرك بحركته؛ لأنَّ المتحرك بحركته كالجزء منه.
قلت: وهذا تفسير مخالف لصريح هذا الأثر وكذلك للحديث المسند الآتي، وإنما فسره بهذا؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، ووجه المخالفة أنَّ هذا الأثر مختصر من الحديث المسند الآتي، والحديث دل صريحًا على أن السجود إنَّما كان على طرف ثوب المصلي الذي هو لابسه، وكذلك هذا الأثر؛ حيث إنه أضافه، والإضافة تفيد التخصيص، فالمعنى: على ثوبه المختص به في الصلاة، وهو الذي لابسه؛ كفاضل كمه أو ذيله، ولا ريب أن الثوب الذي على المصلي يتحرك بحركته قيامًا وقعودًا، فدل ذلك على جواز الصلاة في هذه الحالة، وصار الأثر والحديث حجة على الشافعي؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: ووجه مناسبة هذا الأثر للترجمة ظاهرة؛ وهو أنه إذا سجد على ثوبه يكون ساجدًا على الفراش؛ لأنَّه اسم لما يبسط كما ذكرنا، انتهى.
قلت: وكأن المؤلف أراد بقوله: (باب الصلاة على الفراش): كل ما يبسط على الأرض، سواء كان متصلًا بالمصلي أو لا، فذكر الأثر الأول واستدل به على أن الصلاة على الفراش المنفصل جائزة، وذكر هذا الأثر الثاني واستدل به على جواز الصلاة على ما يفرش مما هو متصل بالمصلي، وهذا اختيار المؤلف كما يفهم من ترتيبه؛ فافهم.
وفي رواية الأصيلي: سقطت لفظة (أنس)، وهو يوهم أنه بقية الذي قبله، وليس كذلك، وسقط هذا التعليق كله في «الفرع» والله أعلم.
==================
(1/647)
[حديث: كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته]
382# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هو ابن عبد الله بن أبي أويس المدني ابن أخت مالك بن أنس، وتُكلِّم في إسماعيل وأبيه، لكن أثنى عليه ابن معين وأحمد ابن حنبل، كما قدمناه (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد خالي (مَالِكٌ) هو ابن أنس الأصبحي، (عَنْ أَبِي النَّضْرِ) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة هو سالم المدني (مَوْلَى عُمَرَ) بضم العين المهملة (بنِ عُبَيْدِ اللهِ) بضم العين المهملة وفتح الموحدة؛ مصغرًا هو التيمي المدني؛ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بفتحات، هو عبد الله (بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هو ابن عوف رضي الله عنه، (عَنْ عَائِشَةَ) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (زَوْجِ النَّبِيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) و رضي الله عنهما بالجر صفة لعائشة (أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ) أي: في حجرتي (بَيْنَ يَدَيْ) بالتثنية (رَسُول ِاللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو في حجرتها يصلي التهجد
%ص 504%
ليلًا (وَرِجْلَايَ) بصيغة التثنية (فِي قِبْلَتِهِ) جملة اسمية وقعت حالًا؛ أي: في مكان سجوده، (فَإِذَا سَجَدَ) عليه السَّلام؛ أي: أراد أن يسجد؛ (غَمَزَنِي) من الغمز باليد، قال الجوهري: غمزت الشيء باليد وغمزته بعيني، قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30] والمراد ههنا: الغمز باليد.
وروى أبو داود من حديث أبي سلمة عن عائشة أنها قالت: (كنت أكون نائمة ورجلاي بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يصلي من الليل، فإذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجلي، فقبضتها فسجد) كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذه الرواية أصرح في المقصود من رواية الباب؛ لأنَّه بيَّن فيها صريحًا أن صلاته عليه السَّلام كانت ليلًا وأنها نفل، وبينت أيضًا أن قوله: (فإذا سجد) على حذف مضاف؛ أي: إذا أراد أن يسجد كما صرحت [1] به هذه الرواية، وبينت أيضًا أن المراد بالغمز: الضرب باليد، وهو موافق لما قاله أصحاب اللغة، وهي أصرح في المعنى وإن كانت رواية الباب المراد بها الغمز باليد؛ فليحفظ.
وزعم القسطلاني عند قوله: (غمزني بيده)؛ أي: مع حائل، انتهى.
قلت: وهذا تفسير منه؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وهو باطل، فإن قوله: (غمزني) يدل على أنه بدون حائل؛ لأنَّه الأصل؛ لأنَّه لو كان؛ لصرحت به، على أنه الرجل واليد عند أهل العرف والتحقيق كانتا بغير حائل، بل بالمس؛ البشرة على البشرة، ويدل لذلك رواية أبي داود؛ فإنها مصرحة بذلك حيث قالت: (ضرب رجلي) ولا يخفى أن الضرب لا يكون بحائل، بل بدون حائل، كما هو التحقيق، فبهذا ظهر أن الصواب ما عليه الإمام الأعظم وأصحابه من أن مس المرأة غير ناقض للوضوء؛ فليحفظ، وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
(فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ)؛ بفتح اللام وتشديد الياء؛ بصيغة التثنية، وهذه رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (رجلِيْ) بكسر اللام وسكون الياء؛ بصيفة الإفراد، كذا في «عمدة القاري». قلت: ورواية أبي داود بالإفراد أيضًا، والمعنى: أنها قبضتها عن مكان سجوده عليه السَّلام؛ بمعنى: أخرتها عنه (فَإِذَا قَامَ) عليه السَّلام؛ أي: من السجود؛ (بَسَطْتُهُمَا) بضمير التثنية رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (بسطتها)؛ بضمير الإفراد؛ كرواية أبي داود؛ يعني: ردتهما إلى مكانهما (وَالْبُيُوتُ) مبتدأ جمع بيت؛ وهو اسم للمكان الذي يبات فيه ليلًا (يَوْمَئِذٍ) معناه: وقتئذ؛ أي: وقتئذ كان الرسول عليه السَّلام حيًّا.
وقوله: (لَيْسَ فِيهَا) أي: البيوت (مَصَابِيحُ) خبر المبتدأ، والجملة حال، والمصابيح جمع مصباح، قال إمام الشَّارحين: وإنما فسرنا قوله: (يومئذ) هكذا؛ لأنَّ المصابيح من وظائف الليل؛ فلا يمكن إجراء اليوم على حقيقة معناه، وقد يذكر اليوم ويراد به الوقت؛ كما في قوله تعالى {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وهذا اعتذار من عائشة عن نومها على هذه الهيئة، والمعنى: لو كانت المصابيح موجودة؛ لقبضت رجلي عند إرادته السجود ولما أحوجته إلى غمزي بيده، وهذا يدل على أنها كانت راقدة غير مستغرقة، وإلا؛ لما كانت تدرك شيئًا، سواء كانت مصابيح أم لم تكن، انتهى.
ثم قال: وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة في قولها: (كنت أنام)؛ لأنَّ نومها كان على الفراش، وقد صرحت في حديثها الآخر بقولها: (على الفراش) الذي ينامان عليه.
ثم قال رضي الله عنه: وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته، وكرهه بعضهم لغير الشَّارع؛ لخوف الفتنة بها واشتغال القلب بالنظر إليها، وأما النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فمنزَّه عن هذا كله مع أنه كان في الليل ولا مصابيح فيه.
الثاني: فيه استحباب إيقاظ النائم للصلاة.
الثالث: فيه أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء سلفًا وخلفًا، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه، وبه قال مالك والشافعي، ومعلوم أن اعتراضها بين يديه أشد من مرورها.
وذهب بعضهم إلى أنه يقطعها مرور المرأة والحمار والكلب، وقال أحمد ابن حنبل: يقطعها الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء، وقد روي ذلك في الحديث.
والجواب عن حديث قطع الصلاة بهؤلاء من وجهين:
الأول: أن المراد من القطع النقص؛ لشغل القلب بهذه الأشياء الثلاثة، وليس المراد به إبطالها؛ لأنَّ المرأة تغير الفكر فيها، والحمار ينهق، والكلب يهوش، فلما كانت هذه الأشياء آيلة إلى القطع؛ أطلق عليها القطع.
والثاني: أن الحديث منسوخ بحديث: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم»، وقد صلى الشَّارع وبينه وبين القبلة عائشة رضي الله عنها، وكانت الأتان ترتع بين يديه، ولم ينكره أحد، فدل ذلك على النسخ.
وذهب ابن عباس وعطاء إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة إنَّما هي الحائض، ورُدَّ بأنه قد جاء في روايات هذا الحديث، قال شعبة: وأحسبها قالت: (وأنا حائض).
فإن قلت: ورد في الحديث: «يقطع الصلاة اليهودي، والنصراني، والمجوسي، والخنزير».
قلت: هذا حديث ضعيف لا يحتج به، انتهى.
قلت: وقد يقال: إن الصلاة في محل يمر فيه الكلب، والخنزير، والمرأة، واليهودي، والحمار، والنصراني، والمجوسي؛ مكروهة كراهة تنزيه؛ لقول أئمتنا الأعلام: وتكره الصلاة عند كل شيء يشغل البال ويخل بالخشوع؛ فليحفظ.
الرابع: فيه أن العمل اليسير في الصلاة غير قادح، واختلف فيه؛ فذهب الإمام الأعظم إلى أن العمل الكثير واليسير في الصلاة مفوض إلى رأي المصلي إن كان له رأي؛ فإن رآه كثيرًا؛ فكثير، وإن رآه يسيرًا؛ فيسير، وفي رواية عنه وصححها الأئمة المتأخرون: أن الكثير مقدر بثلاث حركات متواليات، وما دونها؛ فيسير، وفي رواية عنه: أن الكثير ما يستكثره الناظر، واليسير ما يستقله، وبالرواية الثانية قال الشافعي وغيره، وحديث الباب يدل لها؛ فافهم.
الخامس: فيه جواز الصلاة إلى النائم، لأنَّه عليه السَّلام كان يصلي في حجرة عائشة وهي نائمة عنده، وكرهه بعضهم؛ لحديث ابن عباس أنه عليه السَّلام قال: «لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث».
وأجاب إمام الشَّارحين فقال: قلت: قال أبو داود روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، وطرقه كلها واهية، وهذا مثلها، وهو أيضًا
%ص 505%
ضعيف، وصرح به الخطابي وغيره، انتهى.
قلت: فهو لا يقاوم ما روي في الصحيح، على أنه يحتمل أن ما في الصحيح ناسخ لهذا الضعيف.
وروى أبو داود عن ابن عمر: أنه كان لا يصلي خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة.
وروى أيضًا في «مراسيله»: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصلي الإنسان إلى نائم أو متحدث).
وفي «الأوسط» للطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (نهيت أن أصلي خلف النائم أو المتحدثين).
وروى أبو نعيم عن عبد الله قال: (لا يصلي وبين يديه قوم يمترون).
وعن سعيد بن جبير: (إذا كانوا يذكرون الله؛ فلا بأس)، وفي رواية: (كره سعيد أن يصلي وبين يديه متحدث).
وضرب عمر بن الخطاب رجلين؛ أحدهما مستقبل الآخر وهو يصلي.
قلت: وما رواه عن ابن عمر؛ فسنده منقطع، وما رواه في «مراسيله»؛ فسنده ضعيف، وما رواه الطبراني؛ فسنده ضعيف واه [2]، وما رواه أبو نعيم؛ فسنده منقطع أيضًا، وقيل: إنه مرسل، وعلى كل؛ فهذه الأحاديث لا يحتج بها؛ لضعفها، وهي لا تقاوم ما روي في الصحيح وما روي عن سعيد بن جبير وغيره، فإن صح؛ فهم رجال ونحن رجال، كما قاله الإمام الأعظم، وما روي عن عمر بن الخطاب؛ فإن صح؛ فهو محمول على أنه رأى منه ما يوجب ذلك؛ لأنَّ الاستقبال منه للآخر لا يوجب الضرب؛ لأنَّه غاية ما فيه أنه مخل بالخشوع، فالصواب: أن كل ما يشغل البال ويخل بالخشوع؛ فهو مكروه كراهة تنزيه؛ فافهم.
السادس: فيه دليل على أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء؛ لأنَّه عليه السَّلام لمس عائشة وهو في صلاته.
وزعم ابن حجر أنه استدل بقولها: (غمزني) على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وتعقب باحتمال الحائل أو بالخصوصية.
قال إمام الشَّارحين: هذا القائل أخذ هذا من الكرماني؛ فإنه قال: (فإن قلت: هل هو دليل على أن لمس النساء لا ينقض الوضوء؟ قلت: لا، لاحتمال أن يكون بينهما حائل من ثوب ونحوه، بل هو الظاهر من حال النائم).
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا الكلام غير موجه، فإن الأصل في الرجل واليد أن يكونا بغير حائل عرفًا، وقوله: (من ثوب ... ) إلى آخره فيه بُعْد، وقوله: (أو بالخصوصية) غير صحيح؛ لأنَّه عليه السَّلام في هذا المقام في مقام التشريع لا الخصوصية؛ إذ من المعلوم أن الله عصمه في جميع أفعاله وأقواله، وأيضًا مجرد دعوى الخصوصية بلا دليل باطل، فإذا كان الأمر كذلك قام لنا الدليل من الحديث أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء، والعناد بعد ذلك مكابرة، انتهى.
قلت: وما زعمه الكرماني وتبعه ابن حجر مبني على تعصبهما؛ لأنَّه إنَّما قالا ذلك؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامهما، وقوله: (لاحتمال أن يكون بينهما حائل) ممنوع؛ لأنَّه لم يدل الدليل على وجود الحائل، فإنه عليه السَّلام لم يكن من عادته وضع شيء على يديه لا في الصلاة ولا في غيرها، وإن عائشة رضي الله عنها لم يكن على رجليها شيء من الثياب يدل عليه أنه حين غمزها قبضت رجليها عقيبه، ولهذا قالت: (فقبضت رجلي) فصرحت بالفاء التعقيبية؛ يعني: بلا مهلة، وهذا يدل على أنه غمزها؛ يعني: لمس بشرتها، فإنه لو كان حائل؛ لم تستيقظ في الحال، فاستيقاظها في الحال بلا مهلة دليل على ما قلنا.
وقوله: (بل هو الظاهر ... ) إلى آخره ممنوع أيضًا، فأي ظاهر هنا؟ وما هذا إلا أوهى من بيت العنكبوت، بل الظاهر من حالها: عدم الثوب؛ لأنَّ الحر حر الحجاز، وهي والنبيُّعليه السلام في حجرتها، فالقرينة دالة على أنه لم يكن عليها ثوب وإن كان حال النائم الذي في البلاد الباردة التغطية، أما من كان في البلاد الحارة كالحجاز؛ فإنه يشاهد فيها سلفًا وخلفًا قديمًا وحديثًا أن النائم لا يستتر بثوب أصلًا، بل ولا يلبس الشخص حال اليقظة والنوم إلا ثوبًا واحدًا كما هو العادة، فمن أين أتى الكرماني بهذا الكلام الذي لا يقوله من شم شيئًا من رائحة العلم، والعجب من ابن حجر كيف حذا حذوه؟! ولا عجب منه؛ فإنه مشهور بالتعصب والمكابرة والمحاولة التي لا يقبلها طبع سليم، وعلى كل حال؛ فلا عبرة بكلامهما.
وقوله: (أو بالخصوصية) ممنوع؛ فإن الخصوصية لا بد لها من دليل، ولم يوجد دليل على إثباتها، فدعواها باطلة غير مقبولة، وهذا تسليم منه بأنه لم يكن حائل، فلهذا قال (أو بالخصوصية)، وهيهات إثبات دليلها، بل هذا عام فيه عليه السَّلام وبجميع أمته ممن على الصواب، ولهذا قال إمامنا الشَّارح: فإذا كان الأمر كذلك؛ قام لنا الدليل من الحديث أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء، والعناد بعد ذلك مكابرة.
قلت: ولنا أدلة أخرى من الكتاب والسنة على ذلك ستأتي في مواضعها، فظهر أن مذهبنا هو الصواب؛ فليحفظ.
السابع: فيه جواز الصلاة على الفراش، والباب معقود لذلك، واختلفوا في الصلاة على الفراش وشبهه، ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه والشافعي: أنها تجوز على البساط والطنفسة والفراش إذا كان يجد حجم الأرض عند السجود، وروى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء، ولفظه: (ما أبالي لو صليت على ستِّ طنافس بعضها فوق بعض) قال: (وصلى ابن عباس على مسح وعلى طنفسة قد أطبقت البيت صلاة المغرب)، وكذلك فعله أبو وائل، وعمر بن الخطاب، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقال الحسن: لا بأس بالصلاة على الطنفسة، وصلى قيس بن عباد على لبد دابته، وكذلك مرة الهمداني، وصلى عمر بن عبد العزيز على المسح، وكذلك جابر بن عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.
قلت: ففعل هؤلاء الصحابة وغيرهم من غير إنكار أحد دليلٌ على جواز الصلاة من غير كراهة.
وزعم أصحاب مالك أن الصلاة على الطنفسة وشبهها مكروهة، وقال مالك: البساط الصوف والشعر وشبهه إذا وضع المصلي جبهته ويديه على الأرض؛ فلا أرىبالقيام عليها بأسًا، فكأنه يريد أنه مكروه.
وذكر ابن أبي شيبة عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم عن الأسود وأصحابه أنَّهم كانوا يكرهون أن يصلوا على الطنافس والفراء والمسوح، وقال ابن ابي شيبة: حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن (أنه كان يصلي على طنفسة وقدماه
%ص 506%
وركبتاه عليها، ويداه وجبهته على الأرض).
وعن ابن سيرين وابن المسيب وقتادة: أن الصلاة على الطنفسة محدث، وكره الصلاة على غير الأرض عروة بن الزبير، وجابر بن زيد، وابن مسعود، ونهى أبو بكر عن الصلاة على البرادع.
قلت: وكل هذا خلاف ما روي عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من قوله وفعله، وقد سبق في الصحيح من حديث ميمونة قالت: وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي على الخمرة.
وقال أبو نعيم: حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلى على بساط)، وحدثنا زمعة عن عمرو بن دينار، عن كريب، عن أبي معبد، عن ابن عباس قال: (قد صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على بساط) انتهى.
قلت: فهذا دليل على جواز الصلاة على غير الأرض بدون كراهة، وهو شامل لما كان جميع أعضائه على الطنفسة ونحوها، فظهر أن الأفضل الصلاة على الأرض، أو على ما تنبته الأرض؛ كما فعله الشَّارع، وليس بعد النص إلا الرجوع إليه؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (صرح)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (واهي)، والمثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (صرح)، والمثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (صرح)، والمثبت هو الصواب.
(1/648)
[حديث: أن رسول الله كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله]
383# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ)؛ بضم الموحدة مصغرًا: هو أبو زكريا القرشي المخزومي المصري (قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ)؛ بالمثلثة هو ابن سعد بن عبد الرحمن الفهمي المصري من تابع التابعين، ولهذا كان من أتباع الإمام الأعظم؛ لأنَّه رئيس التابعين رضي الله عنهما، (عَنْ عُقَيْلٍ)؛ بضم العين المهملة وفتح القاف مصغرًا: هو ابن خالد بن عَقيل؛ بفتح العين المهملة، الأيلي القرشي الأموي، (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني تابعي صغير، ونسبه لجده الأعلى؛ لشهرته به (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ)؛ بضم العين المهملة هو ابن الزبير_ بضم الزاي_ ابن العوام: (أَنَّ عَائِشَةَ) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (أَخْبَرَتْهُ) أي: أخبرت عروة فقالت له: (أَنَّ رَسُولَ الله ِصلَّى الله عليه وسلَّم كَانَ يُصَلِّي) أي: في حجرتها، زاد مسلم: (يصلي صلاته كلها من الليل)، وفي لفظ: (وسط السرير)، وفي لفظ: (وأنا حذاؤه وأنا حائض)، وربما قالت: أصابني ثوبه إذا سجد، وفي لفظ:
(على مرط، وعليه بعضه) (وَهْيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ)؛ أي: والحال أن عائشة بين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وبين موضع سجوده (عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ) وفي لفظ: (وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة تكون لي الحاجة، فأكره أن أقوم فأستقبله فأنسل انسلالًا من قبل رجليه)، وعند أبي داود عنها: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي صلاة من الليل وهي معترضة بينه وبين القبلة، راقدة على الفراش الذي ترقد عليه، حتى إذا أراد أن يوتر؛ أيقظها، فأوترت)، وفي لفظ لمسلم: (حتى إذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجلي، فقبضتها)، وفي لفظ: (فإذا أراد أن يوتر؛ قال: تنحي).
وقولها: (اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ) كلام إضافي منصوب بنزع الخافض؛ أي: كاعتراض الجنازة، وهي في الحقيقة صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: وهي معترضة بينه وبين القبلة اعتراضًا كاعتراض الجنازة، والمراد: أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلي.
والجنازة: رويت بالفتح والكسر، واختار ثعلب في «فصيحه»: كسر الجيم، وحكاه في «نوادره» عن أبي زيد، وكذا عن الدينوري بالكسر لا غير، وحكى المطرزي عن الأصمعي: أن الجنازة بالكسر والفتح، وهما لغتان بمعنًى واحد، وكذا قاله كراع، وفرق ابن الأعرابي بينهما فقال: الجنازة بكسر الجيم: النعش، وبفتحها: الميت، وفي «الصحاح»: العامة تقول: الجَنازة بالفتح، والمعنى: الميت على السرير، وقال أبو علي المرزوقي: الجِنازة بالكسر: اسم المتوفى في الأصل، وقال الخليل: الجِنازة بالكسر: سرير الميت، وقال أبو جعفر: لا يقال للميت: جنازة حتى يكون على نعش، ولا يقال للنعش: جنازة حتى يكون عليها ميت، وقال في «المحكم»: جنز الشيء يجنزه جنزًا: ستره، وقال ابن دريد: إن اشتقاق الجنازة من ذلك، وحكاه عن قوم، وقال: ولا أدري ما صحته، وقيل: إنه نبطي، انتهى «عمدة القاري»
قلت: ومطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة؛ حيث إنه عليه السَّلام كان يصلي على فراش أهله، والمراد به: زوجاته الطاهرات رضي الله عنهنَّ، وهو شامل للفراش الذي ينامان عليه وعلى ما يبسط لا للنوم، لكن الظاهر الأول؛ لقوله: (وهي بينه وبين القبلة)، ففيه: دليل على جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته.
وفيه: دليل على أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه.
وفيه: دليل جواز الصلاة على الفراش، وكذا كل شيء يبسط إذا كان تستقر عليه الجبهة عند السجود، وفراش النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأهله وأصحابه كان مما [1] تستقر عليه الجبهة؛ لأنَّه كان رقيقًا، وكان حشوه من الليف كما ثبت في «الصحيح» بخلاف فرش زماننا؛ فإنها ثخينة، وحشوها من القطن، فهي لا تجوز الصلاة عليها؛ لعدم استقرار الجبهة عليها، والناس عنه غافلون؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (ممن)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 507%
==================
(1/649)
[حديث: أن النبي كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة]
384# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهُ بنُ يُوسُفَ) هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل، وفي (يوسُف) تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قَالَ: حَدَّثَنا اللَّيثُ) هو ابن سعد المصري الفهمي، (عَن يَزِيدُ) هو ابن أبي حبيب المدني التابعي، (عَن عِراكٍ)؛ بكسر العين وتخفيف الراء المهملتين: هو ابن مالك المدني التابعي، (عَن عُروَةَ)؛ بضم العين المهملة: هو ابن الزُّبير_ بضم الزاي_ ابن العوَّام _بتشديد الواو_ المدني التابعي، ففي إسناده ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: (أَنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كَانَ) أي: على الدوام والاستمرار (يُصَلِّي) أي: صلاته من الليل كما في الروايات السابقة (وَعَائِشَةُ) أي: زوجته، وهي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ)؛ أي: والحال أن عائشة معترضة بين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وبين موضع سجوده، والمراد: أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلي (عَلَى الْفِرَاشِ)؛ بكسر الفاء
%ص 507%
أي: فراش أهله، والجار والمجرور متعلق بقوله: (يصلي) (الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ) وفي رواية أبي داود: (راقدة على الفراش الذي ترقد عليه حتى إذا أراد أن يوتر؛ أيقظها)، قال إمام الشَّارحين: وهذا الحديث مرسل، لكنه محمول على أن عروة سمع ذلك من عائشة، يدل على ذلك الرواية التي قبل هذه، وكذا ذكر [1] هذا مرسلًا الإسماعيلي، وأبو نعيم، والحميدي، وأصحاب الأطراف، وفائدة ذكر المؤلف إياه: الإشعار بأن الحديث روي مسندًا ومرسلًا، انتهى.
وزعم ابن حجر أن فائدة ذكره التنبيه على تقييد الفراش بكونه الذي ينامان عليه، بخلاف الرواية السابقة؛ فإن فيها (على فراش أهله)، وهو أعم من أن يكون هو الذي ناما عليه أو على غيره، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: ليس فيه زيادة فائدة؛ لأنَّ مقصود البخاري بيان جواز الصلاة على الفراش مطلقًا، وليس المراد: تقييده بكونه الذي ينامان عليه أو غيره، وإنما النكتة في إيراده: الإشعار بأنَّ هذا الحديث روي مسندًا ومرسلًا، انتهى.
قلت: وكلام إمام الشَّارحين واضح وهو الصواب، فإن مراد المؤلف: بيان حكم الصلاة على الفراش، سواء كان ينام عليه أو لا، ويدل عليه الترجمة التي ذكرها أول الباب؛ فإنه قد أطلقها ولم يقيدها بكون الفراش هو الذي ينام عليه أو لا، وكونه أطلقها يدل على أن مراده الإطلاق، ويدل عليه أيضًا: أنه ذكر في هذا الباب تعليق أنس، وهو يدل على جواز الصلاة على الفراش الذي ينام عليه، ثم أعقبه بذكر التعليق الثاني عن أنس، وهو يدل على جواز الصلاة على الفراش الذي لا ينام عليه، ثم أعقبهما بحديث إسماعيل بن عبد الله، وهو يدل للتعليق الأول، وبحديث يحيى ابن بكير وهو يدل للتعليق الثاني، وكلا الحديثين مسندان، ثم ذكر حديث عبد الله بن يوسف؛ لأجل بيان كونه روي مرسلًا، فهنا دليل واضح إلى مراد المؤلف؛ جواز الصلاة على الفراش مطلقًا، فما زعمه ابن حجر غير موجَّه وغير صواب؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على جواز الصلاة على الفراش الذي ينام عليه إذا كان يجد حجم الأرض عند السجود.
وفيه: دليل على جواز الصلاة إلى النائم، سواء كان رجلًا أو امرأة أو غيرهما، وما رواه أبو داود عن عائشة: (كان عليه السَّلام لا يصلي في لحفنا)؛ فقال الحفاظ: إنَّه لم يثبت؛ فافهم، ولئن ثبت؛ فهو لا يقاوم ما في «الصحيح»، أو يحمل على أنه رأى فيها منيًا أو غيره من النجاسات، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ذكره)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/650)
(23) [باب السجود على الثوب في شدة الحر]
هذا (باب) جواز (السُّجُودِ) أي: سجود المصلي (عَلَى الثَّوْبِ)؛ أي: على طرف ثوبه مثل: كمه أو ذيله ونحوهما (فِي شِدَّةِ الْحَرِّ)؛ أي: لأجل شدة الحر، ولفظ: (الحر) ليس بقيد؛ لأنَّ حكم البرد كذلك، وإنما صرح به مقتصرًا عليه؛ موافقة للفظ الحديث، وإنما جاز السجود على طرف ثوبه؛ لحديث الباب، ولأن شدة الحر من فيح جهنم كما ثبت في الصحيح، فكما أن الإنسان يتقي نار جهنم وعذابها بالطاعات؛ كذلك شدة الحر الذي هو من فيحها يتقيه بالثوب يسجد عليه؛ كما في قوله تعالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]؛ وهو البرد، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
(وَقَالَ الْحَسَنُ) هو البصري التابعي المشهور: (كَانَ الْقَوْمُ) أي: أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يَسْجُدُونَ)؛ أي: في صلاتهم كلها (عَلَى الْعِمَامَةِ)؛ بكسر العين المهملة؛ هي الشاش ونحوه، يوضع على الرأس ويكوَّر [1] عليه عشرة أكوار أو عشرون كورًا، والكَور؛ بفتح الكاف: الدَوْر: بفتح الدال المهملة وسكون الواو (وَالْقَلَنْسُوَةِ)؛ بفتح القاف واللام، وسكون النون، وضم السين المهملة، وفتح الواو: الغشاء المبيَّض يلبس على الرأس، كذا قاله القزاز، وعن ابن خالويه: العرب تسمي القلنسوة برنسًا، وفي «التلخيص»: البرنس: القلنسوة الواسعة التي تغطى بها العمائم، تستر من الشمس والمطر، وفي «المحكم»: هي من ملابس الروس، وقال ابن هشام: هي التي تقول لها العامة الشاشية، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهي الآن في زماننا من ملابس المتصوفة، يزعمون أن لباسها عين الطريقة والحقيقة؛ وإنما هي رياء وسمعة، ألا ترى أنَّ أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يلبسونها من أجل شدة الحر والشمس؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري»: وذكر ثعلب لغة أخرى وهي (القُلَيْسِيَة)؛ بضم القاف، وفتح اللام، وسكون التحتية، وكسر السين المهملة، وفتح التحتية الثانية، آخرها هاء، وفي «المحكم»: وعندي أنَّ (قليسية) ليست بلغة، وإنما هي مصغرة، وقال ابن سيده: وهي (قلنساة)، وجمعها: قلانس، وقلاسي، وقلنس، وقلونس، ثم يجمع على قلنس؛ وفيه قلب؛ حيث جعل الواو قبل النون، وعن يونس: أهل الحجاز يقولون: قلنسية، وتميم تقول: قلنسوة، وفي «شرح المرزوقي»: قلنست الشيء إذا غطيته، انتهى.
(وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ) هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (ويديه في كمه):
وجه الأول: أنَّ (يداه) كلام إضافي مبتدأ، وقوله: (في كمه) خبره، والجملة: حال، والتقدير: ويدا كل واحد في كمه؛ فلأجل ذلك قال: (ويداه)، وذلك؛ لأنَّ المقام يقتضي أن يقال: وأيديهم في أكمامهم.
ووجه الثاني: أنَّ (يديه) منصوب بفعل مقدر؛ تقديره: ويجعل كل واحد يديه في كمه، كذا قرره إمام الشَّارحين.
ثم قال: وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن أبي أسامة، عن هشام، عن الحسن: أنه قال: (إنَّ أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على قلنسوته وعمامته)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في «مصنفه» عن هشام بن حسان عن الحسن نحوه، وأخرج ابن أبي شيبة عن هشيم عن يونس عن الحسن: (أنه كان يسجد في طيلسانه)، وأخرج عن محمد بن أبي عدي عن حميد: رأيت الحسن يلبس أنبجانيا في الشتاء، ويصلي فيه، ولا يخرج يديه، وكان عبد الرحمن بن زيد يسجد على كور عمامته، وكذلك الحسن، وسعيد بن المسيب، وبكر
%ص 508%
بن عبد الله، ومكحول، والزهري، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الرحمن بن يزيد، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذا دليل على جواز السجود على كور العمامة والقلنسوة؛ لأنَّ فعل أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من غير نكير حجة قوية في ذلك؛ لأنَّه في حكم المرفوع؛ لأنَّه لا يقال من قبيل الرأي، بل من السماع أو الفعل من غير إنكار، ويدل لذلك ما رواه محمد بن أسلم الطوسي عن خلاد بن يحيى، عن [2] عبد الله بن المحرر، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم سجد على كور عمامته)، قيل: وفي سنده ضعف، لكنه قد يقوى بتعدد الطرق، ولمَّا كان السجود على كور العمامة يفوِّت الأفضل وهو السجود على الأرض أو على ما تنبته الأرض؛ قال أئمتنا الأعلام: ويكره تنزيهًا السجود على كور عمامته من غير ضرورة حرٍّ أو برد أو خشونة الأرض، ولهذا كان عبادة بن الصامت، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر وأبو عبيدة، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين، وميمون بن مهران، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وجعدة بن هبيرة يكرهون السجود على العمامة؛ يعني: من غير ضرورة حر أو برد أو نحوهما؛ لثبوت فعله عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه من السجود على العمامة تعليمًا للجواز، فلم تكن الكراهة تحريمية، ونبه المحقق ابن أميرحاج على أن صحة السجود على كور العمامة محله إذا كان على الجبهة أو بعضها، أما إذا كان على الرأس فقط، وسجد عليه ولم تصب جبهته الأرض؛ فإن صلاته غير صحيحة؛ لعدم السجود على محله، والناس عنه غافلون، انتهى.
قلت: وما علمته مما قدمناه حجة على الشافعي؛ حيث منع السجود على العمامة؛ قال: لأنَّه لمَّا لم يقم المسح عليها مقام الرأس؛ وجب أن يكون السجود كذلك، ولأن القصد من السجود التذلل، وتمامه بكشف الجبهة، كذا زعمه القسطلاني.
قلت: وهذا غير صحيح؛ فإنه قد ثبت في الكتب الستة: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قد سجد على عمامته، وكذلك فعله أصحابه، والخلفاء الراشدون، وكذلك التابعون، فكان ذلك كالإجماع منهم على جوازه؛ لأنَّه لم ينكر ذلك أحد منهم؛ فدل على جوازه.
وقوله: (لأنه لما لم يقم ... ) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّه قياس مع الفارق ومع مقابلة النص، وهو باطل، ولأنَّ الجبهة ليست من الرأس، وقد علم أن أصحاب اللغة فسَّروا الوجه بما يواجه به الإنسان والجبهة منه، وسبحانه وتعالى أمرنا بغسل الوجه ومسح الرأس بالنص، فكل واحد منهما مأمور به شرعًا، فبالضرورة لم يقم المسح عليها مقام الرأس، وإذا كان كذلك؛ لم يجب أن يكون السجود كذلك؛ لأنَّ الجهة منفكَّة، وقد ثبت ذلك بدليل آخر كما علمت مما قررنا، وقوله: (ولأن القصد ... ) إلى آخره: هذا حجة على المانع؛ لأنَّه إذا كان القصد من السجود التذلل، وقد أتى به؛ لأنَّ السجود يتم بوضع الجبهة على الأرض، سواء كان بينهما حائل أم لا.
فقوله: (وتمامه بكشف الجبهة): ممنوع؛ لأنَّ كشفها ليس من تمامه، فإن أهل اللغة وغيرهم قالوا: السجود: وضع الجبهة على الأرض مطلقًا، بل يتحقق السجود ويتمكَّن الشخص منه بوضع كور عمامته على جبهته [3] أكثر، ولمَّا كان الشافعي لا دليل له في منعه السجود على العمامة لا من حديث ولا من قول صحابي؛ استند إلى هذا الكلام الغير الموافق للصواب، وقد علمت أنَّ هذا غير صحيح، وكلام أهل اللغة صريح بخلاف ما قاله، فثبت بذلك مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور سلفًا وخلفًا من جواز السجود على العمامة، والله أعلم.
قال إمام الشَّارحين: ومطابقة هذا الأثر للترجمة غير ظاهرة إلا بالتعسُّف؛ لأنَّ الترجمة في السجود على الثوب، وهو لا يطلق على العمامة ولا على القلنسوة، ولكن لمَّا كان هذا الباب والأبواب الثلاثة التي قبله في السجود على غير وجه الأرض، بل كان على شيء هو على الأرض، وهو أعم من أن يكون حصيرًا أو خمرة أو فراشًا أو عمامة أو قلنسوة أو نحو ذلك؛ فبهذه الحيثية تدخل العمامة والقلنسوة في هذا الباب، انتهى.
قلت: ونفس الشاش الذي اتخذ منه عمامة أو قلنسوة يقال له: ثوب، لغة وعرفًا، ومع انضمامه لما يوضع على الرأس من الطاقية والطربوش يقال له: عمامة أو قلنسوة، فيحتمل أن المؤلف نظر إلى الأصل من غير انضمام، فهو ثوب؛ فصح السجود على الثوب، ودخل تحت الترجمة، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ويوكور)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (جبهة)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (ويوكور)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (ويوكور)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
(1/651)
[حديث: كنا نصلي مع النبي فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر]
385# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثنَا أَبُو الوَليدِ هِشامُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ) هو الطيالسي البصري (قَالَ: حَدَّثنا بِشْرُ) بكسر الموحدة وسكون المعجمة (بنُ المُفَضَّل)؛ بضم الميم، وفتح الفاء، وتشديد الضاد المعجمة المفتوحة؛ هو الرَّقاشي _بفتح الراء_ العثماني البصري الذي كان يصلي كل يوم أربع مئة ركعة (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (غَالِبٌ)؛ بالغين المعجمة وكسر اللام: ابن خَُطَّاف؛ بضم الخاء المعجمة وفتحها، وتشديد الطاء المهملة (القَطَّانُ)؛ بالقاف البصري، (عَن بَكر بن عَبْدِ اللهِ)؛ بفتح الموحدة في (بَكْر) وسكون الكاف: هو المزني البصري، (عَن أَنس بن مَالك) هو الأنصاري، خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه (قَالَ: كُنَّا) أي: معشر الصحابة رضي الله عنهم (نُصَلِّي)؛ بضم النون: ضمير جماعة الذكور (مَعَ النَبِيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: في مسجده النبوي، (فَيَضَعُ أَحَدُنَا) جملة معطوفة على قوله: (كنا نصلي)؛ يمعنى: يضع كل واحد من الصحابة (طَرَفَ الثَّوْبِ)؛ أي: ثوبه المتصل به المتحرك بحركته ضرورة، وهذا كلام إضافي منصوب؛ لأنَّه مفعول (يضع)، وتقييد القسطلاني الثوب بالمنفصل أو المتصل الذي لا يتحرك بحركته تفسيرٌ وتقييد من عنده، ذكره؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وهو باطل؛ فإنَّ الأصل في الثوب أن يكون متصلًا به ومتحركًا بحركته لغة وعرفًا عند أهل التحقيق، ودعوى القسطلاني باطلة، والمثبت مقدَّم على النافي، وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى.
قال إمام الشَّارحين: وفيه: حكاية قول الصحابي عما يفعله والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يشاهده ولا ينكره؛ فيكون تقريرًا منه عليه السَّلام.
فإن قلت: كان أنس خلف النبي عليه السَّلام؟
قلت: نعم؛ وما كان يخفى على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم شيء من أحوال من كان خلفه في الصلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام قد كان يرى من خلفه كما يرى من قدامه، كما ثبت في «الصحيح»؛ فيكون قول الصحابي: (كنَّا نفعل كذا) من قبل المرفوع، ولا سيَّما قد اتفق الشيخان على تخريج هذا الحديث في «صحيحيهما»، وكذلك أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، انتهى؛ فافهم.
%ص 509%
(مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ) متعلق بالجملة قبله، وفي رواية النسائي: (كنَّا إذا صلينا خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالظهائر؛ سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر)، وفي رواية مسلم وأبي داود: (بسط ثوبه فسجد عليه)، وفي رواية ابن أبي شيبة: (كنَّا نصلي مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في شدة الحر والبرد، فيسجد على ثوبه).
وهذا الحديث حجة قوية ومحجة مستقيمة لما ذهب إليه الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه من جواز السجود على الثوب من غير كراهة في شدة الحر والبرد، وهو قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه ابن أبي شيبة من حديث إبراهيم قال: (صلى عمر رضي الله عنه ذات يوم بالناس الجمعة في يوم شديد الحر، فطرح طرف ثوبه بالأرض، فجعل يسجد عليه، ثم قال: يا أيها الناس؛ إذا وجد أحدكم الحر؛ فليسجد على طرف ثوبه)، ورواه زيد بن وهب عن عمر بنحوه، وأمر به إبراهيم أيضًا وعطاء، وفعله مجاهد، وقال الحسن: لا بأس به، وحكاه ابن المنذر أيضًا عن الشعبي، وطاووس، والأوزاعي، والنخعي، والزهري، ومكحول، ومسروق، وشريح، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وقال صاحب «التهذيب» من الشافعية: وبه قال أكثر العلماء، والحديث حجة على الشافعي؛ حيث لم يجوِّز ذلك، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وأوَّل الحديثَ الشافعيُّ؛ فحمله على الثوب المنفصل أو المتصل الذي لا يتحرك بحركته.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: لفظ الحديث يرد هذا؛ لأنَّه قال: (طرف ثوبه)، وهو دالٌّ على المتصل به المتحرك بحركته، وكذلك قوله في رواية مسلم وأبي داود: (بسط ثوبه، فسجد عليه)؛ فإن اللفظ يدلُّ على المتصل به؛ لأنَّه قد عقَّب السجود بالبسط، وكذلك يدلُّ على المتصل به قلة الثياب عندهم، انتهى.
قلت: وهو ظاهر؛ لما سبق في «الصحيح» عنه عليه السَّلام أنه قال: «أَوَلِكلِّكم ثوبان؟!»؛ يعني: لا يجد أحد منهم إلا ثوب واحد، فإذا كان هذا حالهم بشهادة النبيِّ الأعظم صاحب الرسالة العظمى والنبوة الكبرى صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فلا شكَّ أنَّ المراد بالثوب هو المتصل به المتحرك بحركته ضرورةً.
وزعم البيهقي أنَّ رواية الإسماعيلي: (فيأخذ أحدنا الحصى في يده؛ فإذا برد؛ وضعه وسجد عليه)، يؤيد ما قاله الشافعي؛ لأنَّه لو جاز السجود على شيء متصل به؛ لما احتاجوا إلى تبريد الحصى مع طول الأمر فيه.
وردَّ بأنَّ هذا لا ينهض؛ لأنَّه إنَّما كان يبرَّد الحصى؛ حيث لم يكن في ثوبه فضلة يسجد عليها مع بقاء سترته له؛ لأنَّ من المعلوم أن الحرَّ حرُّ الحجاز، والرجل منهم لم يلبس إلا ثوبًا واحدًا [1]؛ لشيئين؛ أحدهما: من القلة، والثاني: من الحر؛ ففي شدة الحر يلبسون القمص، وهو ساتر للعورة فقط، وليس له فضلة، فإذا كان كذلك؛ فيبرِّد الحصى.
وتعلق الشافعي بحديث خباب قال: (شكونا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حر الرمضاء في جباهنا، فلم يشكنا)؛ أي: لم يزل شكوانا، وبما روي عنه عليه السَّلام أنَّه قال: «ترب جبينك يا رباح».
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: حديث خباب ليس فيه ذكر الجباه والأكف في المسانيد المشهورة [2]، ولو ثبت؛ فهو محمول على التأخير الكثير حتى تبرد الرمضاء، وذلك يكون في أرض الحجاز بعد العصر، ويقال: إنَّه منسوخ بقوله عليه السَّلام: «أبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم»، ويدل عليه ما رواه عبد الله بن عبد الرحمن قال: (جاءنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل، فرأيته واضعًا يديه في ثوبه إذا سجد)، رواه أحمد وابن ماجه.
فإن قلت: هذا محمول على المنفصل الذي لا يتحرك.
قلت: هذا بعيد؛ لقوله: (بسط ثوبه، فسجد عليه)؛ لأنَّ الفاء فيه للتعقيب.
وكل حديث احتج به الشافعي؛ فهو محتمل، وما احتج به غيره من الأئمة المذكورين؛ فهو محكم، فيحمل المحتمل على المحكم، انتهى.
قلت: ويحتمل حديث خباب أنَّ المراد به: مرض الصداع؛ فأمره عليه السَّلام بتتريب الجبين؛ لأجل إزالة الصداع، وذلك أنَّ الصداع يحصل من تسديد المسام، فبالتتريب يتفتح المسام، فيزول، فهو عليه السَّلام طبيب الأرواح والأشباح، فالدليل إذا طرقه الاحتمال؛ بطل الاستدلال به.
ويدل أيضًا على بطلان ما ذهب إليه الشافعي ما روي عن جماعة من الصحابة أنَّهم رووا سجوده عليه السَّلام على كور عمامته؛ منهم: أبو هريرة أخرج حديثه عبد الرزاق في «مصنفه»، ومنهم: عبد الله بن عباس أخرج حديثه أبو نعيم في «الحلية»، ومنهم: عبد الله بن أبي أوفى أخرج حديث ابن أبي حاتم في كتابه «العلل»، ومنهم: عبد الله بن عمر أخرج حديثه أبو القاسم تمَّام بن محمد الرازي في «فوائده»، فهؤلاء أربعة من أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يفتون بجواز السجود على الثوب من عمامته وذيله ونحوهما، وهو ضرب من الإجماع؛ لأنَّه لم يروَ عن أحد من الصحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل خلاف لهؤلاء الأربعة لا بإسناد متصل ولا منقطع، فكأنَّ الصحابة أجمعوا على أنَّ المصلي يجوز له أن يسجد على كور عمامته وفاضل ثوبه، وهو الصواب.
وزعم البيهقي أنَّ سجوده عليه السَّلام على كور عمامته لم يثبت.
وردَّ بأنَّه قد ثبت في «الصحيح»، وكذلك في الكتب الستة، وحديث ابن عمر، وابن عباس، وابن أبي أوفى جِيَادٌ، كما قاله النُّقَّاد الموثوق بهم، وما كان منهم ضعيفًا؛ فبتعدد طرقه يقوى أو يشيد بالقوي، والمثبت مقدم على النافي، ودعوى الجرح غير مقبولة؛ لأنَّها نفي والمقبول الصحة، إذا علمت هذا؛ قام لنا الدليل على جواز السجود على كور عمامته، وهو الحقُّ، والعناد بعد ذلك مكابرة.
وقال إمام الشَّارحين: وقد مرَّ الكلام فيه مستوفًى، وبما ذكرناه ههنا يحصل الجواب عمَّا قاله الكرماني في هذا الباب من فرقه بين المتحرك وغيره، والاستدلال بقوله عليه السَّلام: «ترب وجهك»، وحديث الباب أيضًا يردُّ ما ذكره.
وقوله: (والقياس على سائر الأعضاء) قياس بالفارق، وقياس في مقابلة النص، ونحن قد عملنا أولًا بحديث الباب، فإنَّه مُحكَمٌ لا يحتمل غيره، وبالقياس أيضًا؛ فهو أقوى.
وقوله: (وفيه أنَّه عليه السَّلام كان يباشر الأرض بوجهه في سجوده): يردُّه أنَّه إذا سجد على البساط أو نحوه؛ يجوز بالإجماع،
%ص 510%
فإن احتج بقوله عليه السَّلام: «مكِّن جبهتك وأنفك من الأرض»؛ فنحن نقول بموجبه؛ وهو وجدان حجم الأرض حتى إذا امتنع حجمها؛ لا يجوز، انتهى.
قلت: وعلى كلٍّ فكلُّ دليل لنا محْكم، وما استدل به محتمل، فالصواب ما قلنا.
وزعم ابن حجر أنَّ في حديث الباب تقديم الظهر في أول الوقت.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: ظاهر الأحاديث الواردة في الأمر بالإبراد تعارضه، ونقول: إنََّّ تقديم الظهر رخصة والإبراد سنة، وإذا قلنا: أحاديث الأمر بالإبراد ناسخة؛ لا يبقى تعارض؛ فافهم.
وممَّا يستنبط من الحديث أنَّ العمل اليسير في الصلاة عفوٌ؛ لأنَّ وضع طرف ثوبه في موضع سجوده عملٌ، انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ثوب واحد)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مشهورة)،وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (ثوب واحد)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ثوب واحد)، وليس بصحيح.
(1/652)
(24) [باب الصلاة في النعال]
هذا (باب) في بيان حكم (الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ)؛ بكسر النون، بعدها عين مهملة مفتوحة، جمع: نَعْل؛ بفتح النون وسكون المهملة، وهو الحذاء _بالمد_، مؤنثة، وتصغيرها نُعيلة، والمراد بالنعل: كلُّ ما يلبس اتقاء الوسخ عن الأرض؛ فيشمل البابوج، والكندرة، والزربول، ونحوها، وحكم الصلاة فيها الجواز عند الجمهور؛ لحديث الباب؛ لأنَّه إذا أصابها نجاسة؛ فبالمشي المستلزم للدلك بالتراب تطهر، فهي طاهرة تصح الصلاة عليها وبها، ويجوز لبسها في المسجد وغير ذلك مما سيأتي.
والمناسبة بين البابين كما قاله إمامنا الشَّارح: من حيث إن في الباب السابق تغطيةَ الوجه بثوبه الذي يسجد عليه، وفي هذا الباب تغطية بعض القدمين، انتهى.
==========
%ص 511%
==================
(1/653)
[حديث: أكان النبي يصلي في نعليه؟]
386# وبالسند إلى المؤلف قال: ([حدثنا] آدَمُ)؛ بفتح الهمزة الممدودة (بْنُ أَبِي إِيَاسٍ)؛ بكسر الهمزة وتخفيف التحتية: هو العسقلاني، وسقط عند الأصيلي: (ابن أبي إياس) (قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ): غير منصرف، هو ابن الحجَّاج بن الورد الواسطي، المتوفى بالبصرة (قَالَ: أَخْبَرَنَا)، وللأصيلي وابن عساكر: (حدثنا) (أَبُو مَسْلَمَةَ)؛ بفتح الميم، وسكون السين المهملة، وفتح اللام (سَعِيدُ)؛ بكسر العين المهملة (بْنُ يَزِيدَ)؛ من الزيادة (الأَزْدِيُّ)؛ بفتح الهمزة؛ نسبة إلى أزد بطن من العرب، هو الكوفي (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ): هو الأنصاري رضي الله عنه، خادم النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (أَكَانَ النَّبِيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستفسار (يُصَلِّي) صلواته كلها أو أكثرها، فرضها وواجبها ونفلها (فِي نَعْلَيْهِ؟)؛ بفتح النون، تثنية: نعل، وهو الحذاء، مؤنثة؛ يعني: على نعليه، أو بنعليه؛ لأنَّ الظرفية غير صحيحة (قَالَ)؛ أي: أنس بن مالك له: (نَعَمْ)؛ كان يصلي في نعليه، وهو يدلُّ على أنَّه عليه السَّلام كان يكثر الصلاة في نعليه؛ لأنَّ لفظة: (كان) تدلُّ على الدوام والاستمرار، ويلحق بالنعل البابوج، والكندرة، والزربول، ونحوها مما يلبس اتقاء الوسخ من الأرض.
وقال ابن بطال: معنى هذا الحديث عند العلماء: إذا لم يكن في النعلين نجاسة؛ فلا بأس بالصلاة فيهما، وإن كان فيهما نجاسة؛ فليمسحهما ويصلِّي فيهما، انتهى.
قلت: وظاهر هذا الحديث أنَّه عليه السَّلام لم ينظر إلى ذلك؛ لأنَّه لم يكن عليهما نجاسة، فالأمر ظاهر، وإن تعلق بهما نجاسة؛ فبالمشي والدلك بالأرض تذهب النجاسة، فيبقى النعل طاهرًا، فالصلاة فيه صحيحة.
واختلفوا في تطهير النعال من النجاسات؛ فذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك بن أنس: أنَّه يطهر الخف والنعل ونحوهما بالدلك بالأرض أو التراب من النجاسة التي لها جرم، ولو كانت مكتسبة من غيرها؛ كتراب أو رماد، ولو كانت المتجسدة من أصلها أو باكتسابها الجرم من غيرها رطبة على المختار للفتوى؛ لإطلاق حديث الباب، ويدلُّ عليه قوله عليه السَّلام: «إذا جاء أحدكم المسجد؛ فلينظر، فإن رأى في نعليه أذًى أو قذرًا؛ فليمسحهما وليصلِّ فيهما»، رواه أبو داود وابن حبان في «صحيحه»، وقوله عليه السَّلام: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخُفِّه؛ فطهورهما التراب»، رواه أبو داود والحاكم وصحَّحه.
وحديث الباب وهذه الأحاديث حجَّة على الشافعي؛ حيث قال: (لا يطهِّر النجاسة في الخف والنعل إلا الماء)؛ فإنه لا دليل لتخصيصه الماء بالطهورية، فإنه عليه السَّلام قد صلَّى في نعليه وخفيه بعدما أصابهما النجس ودلكهما بالأرض، ولأنه تعالى جعل المطهر الماء والتراب، وزعم ابن دقيق العيد أنَّ الصلاة في النعال من الرخص لا من المستحبات؛ لأنَّ ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: كيف لا يكون من المستحبات؟! بل ينبغي أن يكون من السنن؛ لأنَّ أبا داود روى في «سننه» عن يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خالفوا اليهود؛ فإنَّهم لا يصلُّون في نعالهم ولا في خفافهم»، ورواه الحاكم أيضًا؛ فيكون مستحبًّا من جهة مخالفة اليهود، وليس بسنَّة؛ لأنَّ الصلاة في النعال ليست بمقصودة بالذات، وقد روى أبو داود أيضًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حافيًا ومنتعلًا)، وهذا يدل على الجواز من غير كراهة، وحكى الغزالي في «الإحياء» عن بعضهم: أنَّ الصلاة فيه أفضل، ويستنبط منه جواز المشي في المسجد بالنعال، انتهى.
==========
%ص 511%
==================
(1/654)
(25) [باب الصلاة في الخفاف]
هذا (باب) بيان حكم (الصَّلَاةِ فِي الْخِفَافِ)؛ بكسر الخاء المعجمة؛ أي: بالخفاف؛ لأنَّ الظرفية غير صحيحة كما سبق، والخفاف: جمع خُف؛ بضم الخاء المعجمة، وهو ما اتخذ من الجلد الأصفر والأسود الساتر لرؤوس الأصابع إلى فوق الكعبين من الرجل، وإنَّما سمي خفًّا؛ لأنَّ الأمر فيه قد خفَّ؛ أي: سهل من الغسل إلى المسح، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==========
%ص 511%
==================
(1/655)
[حديث: رأيت النبي صنع مثل هذا.]
387# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا آدَمُ)؛ بفتح الهمزة الممدودة: هو ابن أبي إياس العسقلاني (قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ)؛ بضم الشين المعجمة: هو ابن الحجاج الواسطي البصري، (عَنِ الأَعْمَشِ): هو سليمان بن مهران الكوفي التابعي (قَال) أي: الأعمش: (سَمِعْتُ إبراهيم): هو ابن يزيد النخعي التابعي (يُحَدِّثُ)؛ بضم التحتية، (عَنْ هَمَّامِ)؛ بفتح الهاء، وتشديد الميم بعدها على وزن (فعَّال)؛ بالفتح والتشديد (بنِ الْحَارِثِ)؛ بالحاء والراء المهملتين وبالمثلثة: هو الكوفي التابعي، كان من العباد، المتوفى زمن الحجاج، ففي السند ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض (قَالَ) أي: همام: (رَأَيْتُ)؛ أي: أبصرت، فتقتضي مفعولين أحدهما: (جَرِيرَ) بفتح الجيم (بنَ عَبْدِ الله): هو البجلي الصحابي رضي الله عنه، والثاني: جملة قوله: (بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ)؛ أي: وضوءه للصلاة بدون استنجاء من البول، بل استبرأ منه، وهو يدلُّ على جواز الصلاة بدون الاستنجاء خلافًا لمن زعم عدم جوازها، فهذا الحديث حجة عليه؛ لأنَّ جريرًا لم يستنج من البول، والأصل بقاء ما كان على ما كان؛ فافهم.
(وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ)؛ بالتثنية من
%ص 511%
رؤوس الأصابع إلى الساق مرة واحدة، (ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى)؛ أي: وهو لابس لخفيه، ففيه: المطابقة للترجمة؛ لأنَّه قد صلى وهو لابس لهما؛ لأنَّه لو نزعهما بعد الغسل؛ لوجب عليه غسل رجليه، ولو غسل؛ لنقل في الحديث، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ولأنه لو نزعهما بعدما مسح عليهما؛ لوجب عليه غسل الرجلين فقط، فلو كان غسل؛ لكان صرَّح به في هذا الحديث، وعدم التصريح بذلك دليل على أنَّه صلى وهو لابس خفيه، ففيه استحباب الصلاة بالخفين.
(فَسُئِلَ)؛ بضم السين المهملة على صيغة المجهول؛ أي: سئل جرير عن المسح على الخفين والصلاة فيهما، والسائل له عن ذلك همام، كما بينه الطبراني في حديثه من طريق جعفر بن الحارث عن الأعمش، فعاب عليه ذلك رجل من القوم، كذا في «عمدة القاري»، (فَقَالَ) أي: جرير: (رَأَيْتُ) أي: أبصرت (رسول الله صلى الله عليه وسلَّم)؛ بالنصب مفعول أول لـ (رأيت)، والمفعول الثاني: جملة قوله: (صَنَعَ) أي: فعل وتوضأ وضوءًا (مِثْلَ هَذَا)؛ أي: أنَّه بال، ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى فيهما (قَالَ إبراهيم)؛ أي: المذكور، وهو ابن يزيد النخعي التابعي: (فَكَانَ) أي: حديث جرير هذا (يُعْجِبُهُمْ)؛ أي: القوم وهم الصحابة والتابعون؛ لأنَّه من جملة الذين أسلموا في آخر حياة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد أسلم في السنة التي توفي فيها النبيُّ الأعظم عليه السلام، وفي رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش: (كان يعجبهم هذا الحديث)، ومن طريق عيسى بن يونس: (فكان أصحاب عبد الله بن مسعود يعجبهم) انتهى.
(لأَنَّ جَرِيرًا): هو ابن عبد الله الصحابي المذكور (كَانَ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ) وفي رواية مسلم: (لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة).
وفي رواية أبي داود: (أنَّ جريرًا بال، ثم توضأ فمسح على الخفين، ثم قال: ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يمسح؟ قالوا: إنَّما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد).
ورواه الطبراني في «الأوسط» من حديث ربعي بن حراش عن جرير قال: (وضأت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فمسح على خفيه بعدما نزلت سورة المائدة)، ثم قال: لم يروه عن حماد بن أبي سليمان عن ربعي إلا ياسين الزيات، تفرد به عبد الرزاق وياسين متكلَّم فيه.
وفي رواية له من حديث محمد بن سيرين عن جرير: (أنَّه كان مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حجة الوداع، فذهب النبيُّ الأعظم صلى الله عيه وسلم يتبرَّز، فرجع فتوضأ ومسح على خفيه)، ثم قال: لم يروه عن محمد بن سيرين إلا خالد الحذاء، ولا [عن] خالد إلا حارث بن شريح، تفرد به سنان بن فروخ، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: وفي رواية الترمذي من طريق شهر بن حوشب قال: (رأيت جرير بن عبد الله ... )، فذكر نحو حديث الباب قال: (فقلت له: أَقَبْل المائدة أو بعدها؟ قال: ما أسلمت إلا بعد المائدة)، قال الترمذي: هذا حديث مفسر؛ لأنَّ بعض من أنكر المسح على الخفين تأوَّل أن مسح النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على الخفين كان قبل نزول آية الوضوء التي في (المائدة)، فيكون منسوخًا، فذكر جرير في حديثه أنَّه رآه يمسح بعد نزول (المائدة)، فكان أصحاب ابن مسعود يعجبهم حديث جرير؛ لأنَّ فيه ردًّا على أصحاب التأويل المذكور.
قال إمام الشَّارحين: قلت: قال الله تعالى في سورة (المائدة): {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... }؛ الآية [المائدة: 6]، فلو كان إسلام جرير متقدمًا على نزول (المائدة)؛ لاحتمل كون حديثه في مسح الخفين منسوخًا بآية (المائدة)، فلما كان إسلام جرير متأخرًا؛ علمنا أنَّ حديثه يعمل به، وهو مبيِّن أن المراد بآية (المائدة): غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة الآية، وفي «سنن» البيهقي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه قال: (ما سمعت في المسح على الخفين أحسن من حديث جرير رضي الله عنه)، وقد ورد مؤرخًا بحجة الوداع في حديث الطبراني كما ذكرناه.
ثم قال رضي الله عنه: واعلم أنَّه قد وردت في المسح على الخفين عدة أحاديث تبلغ التواتر على رأي كثير من العلماء.
وقال الميموني عن أحمد ابن حنبل: فيها سبعة وثلاثون صحابيًّا، وفي رواية الحسن بن محمد عنه أربعون صحابيًّا، كذا قاله البزار في «مسنده»، وقال ابن أبي حاتم: أحد وأربعون صحابيًّا، وفي «الأشراف» عن الحسن: حدثني به سبعون صحابيًّا، وقال ابن عبد البر: مسح على الخفين سائر أهل بدر والحديبية وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وعامة أهل العلم والأثر، ولا ينكره إلا مخذول مبتدع خارج عن جماعة المسلمين.
وقال في «البدائع»: المسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة إلا شيئًا روي عن ابن عباس: أنه لا يجوز، وهو قول الرافضة.
ثم قال: وروي عن الحسن البصري أنَّه قال: أدركت سبعين بدريًّا من الصحابة؛ كلُّهم يرون المسح على الخفين، ولهذا قال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين من شرائط السنة والجماعة أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وترى المسح على الخفين، وروي عنه أنَّه قال: ما قلت بالمسح حتى جاءني مثل ضوء النهار، فكان الجحود ردًّا على كبار الصحابة، ونسبته إياهم إلى الخطأ، فكان بدعة، ولهذا قال الإمام الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين، انتهى.
وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز البول بمشهد الرجل، وإن كانت السنة الاستتار عنه.
الثاني: فيه أنَّ الاستنجاء غير واجب، بل سنة؛ لأنَّه عليه السَّلام بال، ثم توضأ، ثم قام فصلى، ولم يستنج.
الثالث: فيه جواز المسح على الخفين، وقد سبق في باب (المسح).
الرابع: فيه جواز الإعجاب ببقاء حكم من الأحكام، وهو يدل على عدم النسخ.
وقال ابن بطال: وهذا الباب كالباب الذي قبله في أنَّ الخف لو كان فيه قذر؛ فحكمه حكم النعل، انتهى.
يعني: أنَّه يطهر الخف ونحوه بالدلك بالأرض أو بالتراب من النجاسة التي لها جرم ولو كانت مكتسبة من غيرها؛ لحديث الباب والذي قبله.
ويدلَّ عليه ما رواه أبو داود أنه عليه السَّلام قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه [1]؛ فطهورهما التراب»، ورواه ابن حبان والحاكم وصححه، وهو حجة على الشافعي؛ حيث لم يجوِّز ذلك، بل شرط في طهارتهما الماء، ولا دليل له في تخصيصه الماء بذلك، وقد قدَّمنا الكلام عليه مستوفًى.
==================
(1/656)
[حديث: وضأت النبي فمسح على خفيه وصلى]
388# وبالسند إليه قال: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ نَصْرٍ)؛ بالصاد المهملة نسبه لجده؛ لشهرته به، فهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر الكوفي (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ)؛ بضم الهمزة وفتح السين المهملة: هو حماد الكوفي، (عَنِ الأَعْمَشِ): هو سليمان بن مهران الكوفي، (عَنْ مُسْلِمٍ)؛ بضم الميم وسكون السين المهملة: هو ابن صبيح؛ ...
%ص 512%
بضم الصاد المهملة، وكنيته أبو الضحى الكوفي، مشهور باسمه وكنيته، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الكرماني أن (مسلم) هذا هو المشهور بالبطين، ويحتمل أنَّه أبو الضحى، لكن الظاهر الأول.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: كلُّ واحد منهما يروي عن مسروق، والأعمش يروي عن كل واحد منهما، وليس دعوى الظهور للأول بظاهر، بل الظهور للثاني؛ وهو أبو الضحى، ثم رأيت المزي في «الأطراف» في رواية مسلم نصَّ على أنَّه هو أبو الضحى، انتهى.
قلت: فاستظهار الكرماني غير صواب، وكأنَّه لم يطَّلع [1] على ما ذكره الحافظ المزي؛ فافهم.
وقد وهم القسطلاني تبعًا لما وهمه الكرماني، ولم يطَّلع [2] على ما ذكره إمام الشَّارحين؛ فقال بالاحتمال، وهو غير صواب، بل الصواب ما ذكره إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
(عَنْ مَسْرُوقٍ)؛ على وزن (مفعول): هو ابن الأجدع الكوفي، وسمي مسروقًا؛ لأنَّه سرقه سارق في صغره، (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ):مير الكوفة الصحابي الجليل رضي الله عنه (قَالَ: وَضَّأْتُ النَّبِيَّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: وضوءه للصلاة؛ بأن تمضمض واستنشق ثلاثًا ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وغسل يديه ثلاثًا، ومسح على ناصيته وكان لابسًا [3] للخفين، (فَمَسَحَ عَلَى الخفين)؛ أي: من رؤوس الأصابع إلى الساق، (وَصَلَّى)؛ أي: الفريضة أو النافلة فيهما.
ففيه: جواز المسح على الخفين، وفيه: جواز الاستعانة بغيره، وفيه: استحباب الصلاة بالخفين، وهو وجه المطابقة لما ترجم له المؤلف، ففيه: ردٌّ على من اعتاد في زماننا ممن يدعي العلم أنَّه إذا أراد الصلاة؛ خلع خفيه وصلى بدونهما، فإنَّ الصلاة فيهما من تمام الأدب؛ لأنَّه من كمال الزينة التي قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للأعرابي الذي لبس ثيابًا بذلة وصلى فيها: (الله أحق أن تتزين له).
وفي الإسناد ثلاثة من التابعين؛ وهم الأعمش ومسلم ومسروق يروي بعضهم عن بعض عن الصحابي، وقد سبق الكلام عليه عن قريب، وفي كتاب (الوضوء) أيضًا، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (لابس)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
(1/657)
(26) [باب إذا لم يتم السجود]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (إِذَا لَمْ يُتِمَّ) أي: المصلي (السُّجُودَ)؛ أي: في بيان حكم المصلي إذا لم يتم سجوده في صلاته؛ يعني: أنَّه لا يجوز؛ لترتب الوعيد الشديد في حقه.
قال إمام الشَّارحين: وهذا الباب والباب الذي يليه لم يقعا ههنا أصلًا عند المستملي؛ لأنَّ محلهما في أبواب (صفة الصلاة)، وإنَّما وقعا هنا عند الأصيلي، ولكن قبل باب (الصلاة في النعال)، انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ إعادة هاتين الترجمتين هنا وفي باب (السجود) الحمل فيه عندي على النُّسَّاخ؛ بدليل سلامة رواية المستملي من ذلك، وهو أحفظهم، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: تكرار هذا الباب وإعادته له وجه؛ لأنَّ عادته التكرار عند وجود الفائدة، وهي موجودة فيه؛ لأنَّه ترجم هنا بقوله: (باب إذا لم يتم السجود)، وهناك ترجم بقوله: (باب إذا لم يتم الركوع)، وشيخه هنا الصلت بن محمد ... إلى آخره، وشيخه هناك حفص بن عمر عن شعبة عن سليمان قال: سمعت زيد بن وهب قال: (رأى حذيفة رجلًا)، وفي بقية المتن أيضًا تغاير، وأمَّا الباب الثاني؛ فليس لذكره محل ههنا؛ لأنَّه كما هو المذكور هنا مذكور [1] هناك، كذلك ترجمةً ورواةً ومتنًا.
فإن قلت: على ما ذكره الأصيلي، ما وجه المناسبة بين هذا الباب وبين باب (السجود على الثوب في شدة الحر)؟
قلت: وجهها ظاهر لأنَّ كلًّا منهما في حكم السجود، انتهى؛ فافهم
==========
[1] في الأصل: (مذكورًا).
%ص 513%
==================
(1/658)
[حديث حذيفة: رأى رجلًا لا يتم ركوعه ولا سجوده]
389# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا) هكذا رواية الأربعة، وفي رواية: (أخبرنا) (الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ): هو ابن عبد الرحمن الخاركي البصري، ونسبته إلى خارك؛ بالخاء المعجمة والراء، وهو من سواحل البصرة (قال: حَدَّثَنَا) هكذا للأربعة أيضًا، وفي رواية: (أخبرنا) (مَهْدِيٌّ)؛ بفتح الميم بلفظ المفعول: هو ابن ميمون أبو يحيى الأزدي المتوفى سنة اثنتين وسبعين ومئة، (عَنْ وَاصِلٍ): هو ابن حيان الأحدب، (عَنْ أَبِي وَائِلٍ)؛ بالهمز: هو شقيق بن سلمة، (عَنْ حُذَيْفَةَ)؛ بضم الحاء المهملة: هو ابن اليمان رضي الله عنه: (أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا) قال إمام الشَّارحين: لم يعلم اسمه؛ يعني: أنه رآه يصلي وحده منفردًا في الصحراء أو في المسجد بعيدًا عن الناس (لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ) بضم المثناة التحتية أوله (وَلَا سُجُودَهُ)؛ أي: لا يطمئن فيهما، والجملة وقعت صفة لقوله: (رجلًا) (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ)؛ أي: فلما أدَّى الرجل صلاته الناقصة من إتمام الركوع والسجود، والقضاء يجيء بمعنى الأداء؛ كما في قوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]؛ يعني: أدِّيت.
قلت: وقد يجيء القضاء بمعنى الفراغ، يقال: قضيت صلاتي؛ أي: فرغت منها، والمعنى: فلما فرغ الرجل من صلاته؛ (فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ) هو ابن اليمان؛ أي: للرجل المذكور: (مَا صَلَّيْتَ)؛ أي: ما صليت صلاة كاملة، فالنفي عنه الصلاة نفي كمال؛ لأنَّ إتمام الركوع والسجود لا ينفي الركوع والسجود، فإن إتمام الركوع والسجود ليس من أجزاء الصلاة الركنية، بل من أجزائها المسنونة، فالكل من الركنية لا ينتفي بانتفاء الجزء من المسنون، ولا يلزم منه انتفاء إحدى الركوع والسجود المستلزم لانتفاء الصلاة، لأنَّ إتمام الركن ليس بركن، بل هو مسنون، وهو لا ينافي الصحة.
وما زعمه القسطلاني من أن الكل ينتفي بانتفاء الجزء، فانتفاء تمام الركوع يلزم منه انتفاء الركوع المستلزم لانتفاء الصلاة ممنوع، وإنَّما ذكره؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه وهو باطل؛ لأنَّه لا يلزم من انتفاء تمام الركوع انتفاء الركوع بالكلية؛ لأنَّ الركن هو الركوع وهو مطلق الانحناء، كما أجمع عليه أهل اللغة، وإتمام الركوع سنة مكمِّل للركن، فالمكمِّل إذا انتفى؛ لا يلزم منه انتفاء الكل، كما لا يخفى، ويدل على ذلك قوله: (قَالَ)؛ أي: أبو وائل: (وَأَحْسِبُهُ)؛ أي: أظنه؛ أي: حذيفة بن اليمان (قَالَ)؛ أي: للرجل المذكور: (لَوْ مُتَّ): روي فيه كسر الميم من مات يمات، وضمِّها من مات يموت، وفي رواية: (ولو مت) (مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ) النبيِّ الأعظم (مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: على غير طريقته الكاملة المتناولة للفرض والنفل، فالمراد به التغليظ، والشك من الراوي، ويدلُّ على أنه تغليظ قوله تعالى في آية الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ ... }؛ الآية [آل عمران: 97]، وقوله عليه السلام: «من استطاع منكم الحج ولم يحج؛ فإن شاء أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا»؛ فإن المراد من الآية والحديث التغليظ إجماعًا؛ لأنَّه لو لم يحجَّ حتى مات؛ فلا يحكم عليه بالموت على الكفر إجماعًا، فكذا هذا، على أنَّ هذا الحديث لا يدل على أنَّ الاطمئنان فرض، بل سنة أو واجب؛ لأنَّ المراد
%ص 513%
به التغليظ، كما ذكرنا، ويحتمل أنَّ حذيفة لم ير فعل صلاة الرجل حقيقة، بل رأى شبحًا من بعيد قائمًا وقاعدًا [1]، ثم رآه فأخبره بأنه قد صلى، فيحتمل أنَّه لم ير حقيقة فعله على أنَّ هذا لا يدل على الفرضية؛ لأنَّ حذيفة لم يأمره بالإعادة، ولا ذكر أنَّه يعيد، ولو كان صلَّى صلاة فاسدة؛ لأمره بالإعادة، ولم يذكر في الحديث أنَّه أعاد صلاته ولا أنَّه أمره بالإعادة، وهذا يدل على صحة صلاته.
وقال ابن البطال: قوله: ما صليت؛ يعني: صلاة كاملة، ونفى عنه العمل بقلَّة التجويد فيها، كما تقول للصانع إذا لم يجد: ما صنعت شيئًا؛ يريد الكمال، وهو يدل على أن الطمأنينة سنة.
قال إمام الشَّارحين: هذا التأويل لمن يدَّعي أن الطمأنينة في الركوع والسجود سنة، وهو مذهب الإمام الأعظم، ومحمد بن الحسن، ومالك بن أنس، والجمهور، وعند الإمام أبي يوسف ومحمد بن إدريس أنها فرض، انتهى.
قلت: والصواب: الأول، وما رواه الطبراني عن أنس مرفوعًا: «ومن لم يتمَّ لها خشوعها، ولا ركوعها، ولا سجودها؛ خرجت وهي سوداء مظلمة، تقول: ضيعك الله كما ضيعتني، حتى إذا كانت حيث شاء الله تعالى لفَّت كما يلفُّ الثوب الخلق، ثم ضرب بها وجهه»، وما رواه ابن خيثم: «ساجدًا كخرقة ملقاة وعليه عصافير لا يشعر بها»، فإنَّه يدل على التهديد، والتخويف، والتغليظ، لا على عدم الصحة، يدل عليه أنه قال: (من لم يتم لها خشوعها ... ) إلى آخره، فإن الخشوع في الصلاة ليس فرضًا إجماعًا، بل هو مستحب، وكذلك الركوع والسجود؛ فإنَّ الإتمام فيهما سنة أيضًا، وحيث قرب عدم تمام الخشوع مع عدم تمام الركوع والسجود دلَّ ذلك على أن إتمامهما سنة، كما لا يخفى، والله أعلم؛ فافهم، فقام لنا الدليل على أن الاطمئنان في الأركان سنة أو واجب وليس بفرض، والعناد بعد ذلك مكابرة؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (قائم وقاعد)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/659)
(27) [باب: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود]
هذا (باب) بالتنوين (يُبْدي)؛ بضمِّ التحتية من الإبداء؛ وهو الإظهار؛ أي: يظهر، والمعنى: باب بيان أن السنة للمصلِّي أن يبدي (ضَبْعيه) تثنية ضَبْع بفتح الضاد المعجمة وسكون الموحدة وفي «الموعب»: الضَّبع: مثال (صقر): العضد، مذكر، ويقال: الإبط، وقيل: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه، وفي «المخصص»: الضبع: هو إذا أدخلت يدك تحت إبطيه من خلفه، واحتملته، والعضد يذكر ويؤنث، وفي «المحكم»: الضبع يكون للإنسان وغيره، وفي «الجامع»: الضَّبعان: رأسا المنكبين، الواحد: ضبْع؛ ساكن الباء، والجمع أضباع، وقال السفاقسي: الضبع: ما تحت الإبط، ومعنى: (يبدي ضبعيه): لا يلصق عضديه بجنبيه كذا في «عمدة القاري».
(ويجافي) أي: يباعد عضديه عن (جنبيه) ويرفعهما عنهما (في السُّجود) (ويجافي): من الجفاء؛ وهو البعد عن الشيء، يقال: جفاه إذا أبعد عنه، وأجفاه إذا أبعده، ويجافي بمعنى يجفي؛ أي: يبعد جنبيه، وليست المفاعلة ههنا على بابها؛ كما في قوله تعالى {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133]؛ بمعنى: أسرعوا، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: فإن قلت: ما المناسبة بين البابين على تقدير ثبوت هذا الباب ههنا؟
قلت: من حيث إن المذكور في الباب السَّابق حكم الطمأنينة في السُّجود، وههنا إبداء الضبعين ومجافاة الجنبين في السجود، وكلها من أحكام السجود، انتهى.
==================
(1/660)
[حديث: أن النبي كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض أبطيه]
390# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا) كذا للأربعة، ولغيرها: (أخبرنا) (يَحْيَى ابنُ بُكَيْرٍ)؛ بضم الموحدة وفتح الكاف مصغَّر بكر: هو البصري (قَالَ حَدَّثَنَا) وفي رواية: (أخبرنا) (بَكْرُ) بفتح الموحَّدة وسكون الكاف (بنُ مُضَرَ)؛ بضم الميم وفتح الضاد المعجمة: هو البصري، قال إمام الشَّارحين وتبعه الدماميني، والبرماوي، وابن حجر، والقسطلاني: أنَّه روي غير منصرف؛ للعلميَّة والعدل؛ مثل: عمر، انتهى.
وزعم الكرماني أنَّه ممنوع من الصرف؛ للعلمية والعجمة، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: هذا بعيد؛ لأنَّه لفظ عربي خالص من مضر اللبن يمضر مضورًا: هو الذي يحذي اللسان قبل أن يروَّب، قال أبو البيداء: اسم مضر مشتقٌّ منه وهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان، انتهى.
(عَنْ جَعْفَرٍ) زاد الأصيلي: (بن ربيعة): هو ابن سرجيل المصري المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئة، (عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ)؛ بضمِّ الهاء والميم: هو عبد الرحمن الأعرج المشهور بالرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، (عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَالِكٍ): هو ابن القِشْب بكسر القاف، وسكون الشين المعجمة، وبالموحَّدة الأزدي (ابنِ بُحَيْنَةَ)؛ بضم الموحدة، وفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية، وفتح النون: هو اسم أم عبد الله؛ فهو منسوب إلى الوالدين، أسلم قديمًا، وصحب النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان ناسكًا فاضلًا يصوم الدهر، مات زمن معاوية رضي الله عنه.
والصواب فيه: أن ينون (مالك)، ويكتب (ابن) بالألف؛ لأنَّ ابن بحينة ليس صفة لمالك، بل صفة لعبد الله؛ لأنَّ عبد الله اسم أبيه مالك، واسم أمه بحينة، فبحينة امرأة مالك وأم عبد الله، فليس الابن واقعًا بين علمين منتسبين، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
(أَنَّ النَّبِيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كَانَ إِذَا صَلَّى)؛ أي: سجد، فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، كما سيأتي (فَرَّجَ)؛ بفتح الفاء وتشديد الراء وتخفيفها، يقال: فرَّج الله الغم؛ بالتشديد والتخفيف، وهو من باب (ضرب يضرِب)، وهو لفظ مشترك بين فرج العورة والثغر وموضع المخافة، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وظاهر كلامه: أنَّ الرواية بالتشديد والتخفيف، لكن نقل القسطلاني عن السفاقسي أنَّه قال: رويناه بتشديد الراء والمعروف في اللغة التخفيف، وقد يقال: إن إمام الشَّارحين رواه بالتشديد والتخفيف، كما هو ظاهر كلامه؛ فتأمل.
يعني: فتح عليه السَّلام (بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ يعني: وجنبيه، والحكمة فيه: أنه أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة من الأرض، وأبعد من هيئات الكسالى، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: وقوله: (بين يديه) على حقيقته؛ يعني: قدَّامه، وأراد ببعد قدَّامه من الأرض (حَتَّى يَبْدُوَ) بواو مفتوحة؛ أي: يظهر (بَيَاضُ إِبْطَيْهِ)؛ بالتثنية وكسر الهمزة.
قال إمام الشَّارحين: ويؤيِّد هذا ما في رواية مسلم: (كان إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه).
وفي رواية الليث: (كان إذا سجد فرَّج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه).
وعنده أيضًا من حديث ميمونة: (كان عليه السَّلام إذا سجد لو شاءت بهيمة أن تمرَّ بين يديه؛ لمرَّت).
وفي رواية: (خوَّى بيديه)؛ يعني: جنح حتى يُرى وضح إبطيه من ورائه.
وعند الترمذي محسَّنًا والحاكم مصحَّحًا: عن
%ص 514%
عبد الله بن أقرم قال: فكنت أنظر إلى عفرتي إبطيه صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سجد، وعند الحاكم مصحَّحًا عن ابن عباس قال: أتيت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من خلفه فرأيت بياض إبطيه، وهو مُجِخٌّ قد فرَّج يديه، وعند الدارقطني ملزمًا للبخاري تخريجه عن أحمد بن جزء أنَّه قال: إن كنا لنأوي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مما يجافي مرفقيه عن جنبيه إذا سجد، وعند أحمد وصحَّحه أبو زرعة الرازي وابن خزيمة عن جابر: كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سجد جافى حتى يُرَى بياض إبطيه، وعند ابن خزيمة عن عدي بن عميرة: كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سجد يرى بياض إبطيه، وفي «صحيح ابن خزيمة» أيضًا عن البراء: كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سجد يرى وضح إبطيه، وعند مسلم من حديث أبي حميد في عشرة من الصحابة: إذا سجد؛ جافى بين يديه، وعند أبي داود عن أبي مسعود ووصف صلاته عليه السَّلام، وفيه: ثم جافى بين مرفقيه حتى استقرَّ كل شيء منه، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
ثم قال: وقوله: (يجنح) من التجنيح؛ وهو أن يرفع ساعديه في السجود عن الأرض، فيصيران له مثل جناحي الطير، وكذلك التجنُّح، وقوله: (وَضَح إبطيه)؛ أي: بياضهما، وهو بفتح الواو والضاد المعجمة، وقوله: (بَهمة)؛ بفتح الموحدة، قال الجوهري: البهمة: من أولاد الضأن خاصَّة، ويطلق على الذكر والأنثى، والسخال: أولاد المِعزى، وقال أبو عبيد: البهمة: واحد البهيم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث، وجمع البهم: البِهام؛ بكسر الموحدة، وفي رواية الحاكم والطبراني: (بُهيمة)؛ بالتصغير، وقيل: هو الصواب، وفتح الباء خطأ، وقوله: (خوَّى)؛ بالخاء المعجمة وتشديد الواو المفتوحة؛ أي: جافى بطنه عن الأرض ورفعها، وجافى عضديه عن جنبيه حتى يخوى ما بين ذلك، وقوله: (مُجِخٌّ)؛ بضم الميم، وكسر الجيم، وبالخاء المعجمة المشدَّدة، مِن جَخَّ؛ بفتح الجيم والخاء المعجمة المشددة: إذا فتح عضديه عن جنبيه، ويروى: جَخِي بالياء وهو أشهر، وهو مثل: جَخَّ، وقيل: كان إذا صلَّى؛ يجنح؛ يعني: تحوَّل من مكان إلى مكان، وقوله: (لنأوي)؛ أي: نرقُّ له ونرثي، يقال: أويت الرجل أوًى؛ إذا أصابه شيء فرثيت له، و (العُفْرة)؛ بضمِّ العين المهملة وسكون الفاء: البياض، وزعم أبو نعيم في «دلائل النبوة» أن بياض إبطيه عليه السَّلام من علامات نبوته، انتهى.
ثم قال الشَّارح: ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (كان إذا صلَّى)؛ لأنَّ المراد من قوله: (صلى): سجد من قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء، وإذا فرج بين يديه؛ لا بُدَّ من إبداء ضبعيه، انتهى.
قلت: ويستنبط من هذا الحديث: التفريج بين اليدين وهو سنة للرجال، أمَّا المرأة والخنثى؛ فيضمان؛ لأنَّ المطلوب في حقهما الستر، وحكي عن بعضهم أن السنة في حق النساء التفريج أيضًا، وبعضهم خيرها بين الانفراج والانضمام.
وقال أئمتنا الأعلام: وجافى الرجل بطنه عن فخذيه، وعضديه عن إبطيه في غير زحمة، أمَّا فيها؛ فيضم؛ حذرًا عن إضرار الجار، فإنَّ الإضرار حرام، فلا يفعل السنة ويرتكب المحرم، انتهى.
قلت: وهذا يفعله بعض الجهلة من الشافعية؛ فإنَّهم يجافون ويزدحمون ويؤذون الجار وهو حرام كما هو مشاهد.
وقال أئمتنا الأعلام: والمرأة تنخفض فتضم عضديها لجنبيها، وتلزق بطنها بفخذيها؛ لأنها عورة مستورة وهذا أستر لها، وقالوا: وجافى الرجل بطنه عن فخذيه، وأبدى عضديه، وذلك سنة، انتهى.
وممن كان يفعل ذلك ويجافي: أنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، والحسن، وإبراهيم، وعلي بن أبي طالب، وقال عطاء: خفِّفوا [1] عن الأرض.
وممن كان يعتمد ورخص للمصلي أن يعتمد بمرفقيه: أبو ذر، وابن مسعود، وابن عمر، وابن سيرين، وقيس بن سعد، وقال أبو عبيد: حدثنا ابن عيينة، عن سمي، عن النعمان بن أبي عياش قال: شكونا إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الادِّعام والاعتماد في الصلاة، فرخص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو فخذيه.
وعند الترمذي عن أبي هريرة: اشتكى أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مشقة السجود عليهم، فقال: «استعينوا بالرُّكب».
وروى أبو داود ولفظه: اشتكى أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا، فقال: «استعينوا بالرُّكب».
وفي «الصحيح»: حدثنا يزيد بن هارون عن ابن عون قال: قلت لمحمد: الرجل يسجد إذا اعتمد بمرفقيه على ركبيته، قال: ما أعلم به بأسًا، وحدثنا عاصم عن ابن جريج عن نافع قال: كان ابن عمر يضم يديه إلى جنبيه إذا سجد، وحدثنا ابن نمير: حدثنا الأعمش عن حبيب قال: سأل رجل ابن عمر أضع مرفقي على فخدي إذا سجدت؟ قال: اسجد كيف يتيسر عليك، وحدثنا وكيع، عن أبيه، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن قيس بن السكن قال: كل ذلك قد كانوا يفعلون، وينضمون ويتجافون، وكان بعضهم ينضم، وبعضم يتجافى، انتهى.
قلت: يعني: كانوا يتجافون في غير زحمة، وينضمون في الزحمة، وقال الشافعي: يسن للرجل أن يجافي مرفقيه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه، وتضم المرأة بعضهما إلى بعض، وقال القرطبي: وحكم الفرائض والنوافل في هذا سواء، انتهى، والله أعلم.
(وَقَالَ اللَّيْثُ): هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي، من أتباع الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ نَحْوَهُ)؛ بالنصب؛ أي: نحو حديث بكر، فقوله: (وقال الليث) عطف على (بكر)؛ أي: حدثنا يحيى: قال الليث: حدثني جعفر؛ بلفظ التحديث وما روى بكر عنه بطريق العنعنة.
وهذا التعليق أخرجه مسلم في «صحيحه» فقال: حدثنا عمرو بن سويد، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث والليث بن سعد؛ كلاهما عن جعفر بن ربيعة به، وفي رواية عمرو بن الحارث: إذا سجد؛ يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه، وفي رواية الليث: كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري» رحمه الكريم الباري.
==================
(1/661)
(28) [باب فضل استقبال القبلة بأطراف رجليه]
هذا (باب) بيان (فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ)؛ بكسر القاف؛ أي: الكعبة، والسين والتاء للطلب؛ أي: باب فضل طلب التوجه للكعبة، ولما فرغ المؤلف من بيان أحكام ستر العورة بأنواعها؛ شرع في بيان استقبال القبلة على الترتيب؛ لأنَّ الذي يريد الشروع في الصلاة يحتاج أولًا إلى ستر العورة، ثم إلى استقبال القبلة، وما يتبعها من أحكام المساجد.
(يَسْتَقْبِلُ)
%ص 515%
أي: المصلي؛ أي: يتوجه (بِأَطْرَافِ) رؤوس أصابع (رِجْلَيْهِ) بالتثنية (القِبلَة)؛ أي: نحو الكعبة، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: (يستقبل القبلة بأطراف رجليه) (قَالَه أَبُو حُمَيْدٍ)؛ بضم الحاء المهملة: هو عبد الرحمن بن سعد الساعدي الأنصاري المدني، قيل: اسمه المنذر، غلبت عليه كنيته، مات في آخر زمن معاوية رضي الله عنه، (عَنِ النَّبِيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وسقط في رواية الأصيلي وابن عساكر هذا التعليق بتمامه هنا، وقال الشَّارح: وهذا التعليق قطعة من حديث طويل في (صفة الصلاة) رواه أبو حميد عنه عليه السَّلام، وأخرجه البخاري مسندًا فيما بعد في باب (سنة الجلوس في التشهد)، وجعل هذه القطعة ترجمة بباب آخر فيما بعد؛ حيث قال: (باب يستقبل القبلة بأطراف رجليه).
فإن قلت: ما مطابقة هذه القطعة للترجمة؟
قلت: إذا عرف [فرض] الاستقبال وعرف فضله؛ عرفت المطابقة، أمَّا فرضه؛ فهو توجه المصلي بكليته إلى القبلة، وأمَّا فضله؛ فاستقباله بجميع ما يمكن من أعضائه حتى بأطراف أصابع رجليه في التشهد.
وبوب عليه النسائي فقال: (باب الاستقبال بأطراف أصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد)، ثم روى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى) انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ المؤلف أراد بهذا بيان مشروعية الاستقبال بجميع ما يمكن من الأعضاء.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (ليس كذلك؛ لأنَّ الترجمة في فضل الاستقبال لا في مشروعيته، كما لا يخفى) انتهى.
قلت: ولقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر حيث قال هذا الكلام، ولم يدر ما مراد المؤلف، فقد قرأ وما درى، فإن مراد المؤلف في هذه الترجمة فضل الاستقبال، ومن عادته ذكر الأحاديث والتعاليق بعدها؛ لأجل أن يستدل بها على ما ترجم له، فأراد بهذا التعليق الاستدلال على فضل الاستقبال، أمَّا المشروعية؛ فساكت عنها؛ لأنَّه لو كان مراده المشروعية؛ لقال: باب مشروعية استقبال القبلة، ومتى علمت ما قلناه؛ ظهر لك بطلان ما زعمه ابن حجر؛ فافهم.
==================
(1/662)
[حديث: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم]
391# وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثنا عَمْرُو)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الميم، آخره واو (بنُ عَبَّاسٍ)؛ بتشديد الموحدة آخره سين المهملة: هو أبو عثمان الأهوازي البصري، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئتين (قَالَ: حَدَّثَنا ابنُ مهدِي)؛ بفتح الميم وكسر الدال المهملة: هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان أبو سعيد البصري اللؤلؤي، كذا بالتنكير في رواية الأصيلي وابن عساكر، وفي رواية غيرهما: (ابن المهدي)؛ بالتعريف (قَالَ: حَدّثَنا مَنْصُور بنُ سَعْدٍ)؛ بسكون العين المهملة: هو البصري صاحب اللؤلؤ، (عَنْ مَيْمُونِ)؛ بفتح الميم الأولى وضم الثانية، بينهما تحتية ساكنة (بنُ سِياهٍ)؛ بكسر السين المهملة وتخفيف التحتية، وبعد الألف هاء، وهو بالفارسية معناه: الأسود، ويجوز فيه الصرف ومنعه، أمَّا منعه من الصرف؛ فللعلمية والعجمة، وأمَّا صرفه؛ فلعدم شرط المنع، وهو أن يكون علمًا في العجم، ولفظ (سياه) ليس بعلم في العجم؛ فلذلك يكون صرفه أولى، قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
ولقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر؛ حيث قال: إنه عربي، ورده إمام الشَّارحين، فقال: هذا غير صحيح؛ لعدم تصرف وجوه الاشتقاق فيه؛ فليحفظ
(عَن أَنَس بنُ مَالِكٍ): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه (قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مَنْ) أي: الشخص الذي (صَلَّى صَلَاتَنَا): منصوب بنزع الخافض، وهو في نفس الأمر صفة لمصدر محذوف؛ أي: من صلى صلاة كصلاتنا؛ أي: صلى كما نصلي، ولا يوجد ذلك إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، ومن اعترف بنبوة النبيِّ الأعظم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقد اعترف بجميع ما جاء به عن الله عزَّ وجلَّ، فلهذا جعل الصلاة علمًا لإسلامه، ولم يذكر الشهادتين؛ لأنَّهما داخلتان في الصلاة، كذا في «عمدة القاري».
(وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا) السين والتاء للطلب؛ أي: وطلب التوجه إلى الكعبة فتوجه إليها، وإنما ذكر استقبال القبلة والصلاة متضمنة له مشروطة به؛ لأنَّ القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل واحد يعرف قبلته وإن كان لا يعرف صلاته، ولأنَّ من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا؛ كالقيام والقراءة، وأمَّا استقبال قبلتنا؛ فمخصوص بنا، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: ولما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غير عبادة؛ أعقبه بذكر ما يميزه عبادة وعادة، فقال: (وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا): فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العادات؛ فكذلك هو من العبادات الثابتة في كل ملة.
وقال الطيبي: إذا أجري الكلام على اليهود؛ سهل تعاطي عطف الاستقبال على الصلاة بعد الدخول فيها، ويعضده اختصاص ذكر الذبيحة؛ لأنَّ اليهود خصوصًا يمتنعون عن أكل ذبيحتنا، وهم الذين حين تحولت القبلة؛ شنعوا بقولهم: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]؛ أي: صلوا صلاتنا، وتركوا المنازعة في أمر القبلة، والامتناع عن أكل الذبيحة؛ لأنَّه من باب عطف الخاص على العام، فلما ذكر الصلاة؛ عطف ما كان الكلام فيه، وما هو مهتم بشأنه عليها، كما أنه يجب عليهم أيضًا عند الدخول في الإسلام أن يقروا ببطلان ما يخالفون به المسلمين في الاعتقاد بعد إقرارهم بالشهادتين، انتهى.
قلت: ولا خصوصية لليهود؛ لأنَّ الذين طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة مشركو العرب، كما قاله الحسن، أو هم المنافقون، كما قاله السدي، فكل من اليهود ومشركي العرب والمنافقين سفهاء، فلهذا قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ... }؛ الآية، أمَّا اليهود؛ فإنما قالوا ذلك؛ لأنَّهم لا يرون النسخ في الشرائع والأحكام؛ لما زعموا أن نسخها بمعنى البداء، والرجوع عنها بداء، وذلك محال في حق الله عز وجل؛ لعلمه بعواقب الأمور أجمع، والبداء والرجوع في الشاهد مبني على الجهل بالعواقب، وقولهم هذا جهل؛ لعدم علمهم بتفسير النسخ، فإنَّ النسخ: عبارة عن انتهاء الحكم إلى وقت معين؛ لانتهاء المصلحة التي شرع الحكم لها، وبيان حكم جديد لمصلحة أخرى في وقت آخر مع بقاء الحكم الأول مشروعًا، ومصلحة وقت كونه مشروعًا، وليس فيه ما فهمته اليهود.
ونظير النسخ في الشاهد أمر الطبيب مريضًا غلبت عليه الصفراء والحرارة بشرب المبردات القاطعة للصفراء، ثم إنَّه متى علم بسكون الصفراء والحرارة واعتدال طبعه؛ نهاه عن ذلك، وأمره بالمعتدل من الشراب، فإن ذلك لم يكن منه بداءً عما أمره في الوقت الأول، وإبطالًا ونقضًا له، بل بيان أنَّ المصلحة في ذلك
%ص 516%
الوقت ذاك.
وأمَّا المشركون والمنافقون؛ فإنما قالوا ذلك من حيث إنهم أعداء الدين، والأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالًا؛ لم يتركوا مقالًا ألبتة.
(فَذَلِكَ) جواب الشرط، وهو مبتدأ (الْمُسْلِمُ) بالرفع خبره (الَّذِي لَهُ) بالرفع صفته (ذِمَّةُ الله)؛ بكسر الذال المعجمة، كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله: (له)، والجملة صلة الموصول، والذمة: الأمان والعهد؛ والمعنى: في أمان الله وضمانه (وَذِمَّةُ رَسُولِهِ)؛ بكسر الذال المعجمة، ولأبي ذر: (وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في أمانه وضمانه، ويجوز أن يراد بالذمة: الذمام؛ وهو الحرمة، ويقال: الذمة: الحرمة أيضًا، وقال القزاز: الذمام: كل حرمة تلزمك منها ذمة، تقول: لزمني لفلان ذمام وذمة، ومذمة هذا؛ بكسر الذال المعجمة، وكذا لزمتني له ذَمامة مفتوح الأول، وفي «المحكم» الذمام والمذمة: الحق، والجمع أذمة، والذمة: العهد والكفالة، والجمع ذمم، وقال ابن عرفة: الذمة: الضمان، وبه سُمِّي أهل الذمة؛ لدخولهم في ضمان المسلمين، قال الأزهري في قوله تعالى: {إِلًا وَلاذِمَّةً} [التوبة: 8]: أي: ولا أمانًا، كذا في «عمدة القاري».
(فَلَا تُخْفِرُوا)؛ بضم المثناة الفوقية وسكون الخاء المعجمة وكسر الفاء، من الإخفار، والهمزة فيه للسلب؛ أي: لسلب الفاعل عن المفعول أصل الفعل؛ نحو: أشكيته؛ أي: أزلت شكايته، وكذلك: أخفرته؛ أي: أزلت خفارته، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال ثعلب: خفرت الرجل؛ إذا أجرته، وأخفرته؛ إذا نقضت عهده، وقال كراع وابن القطان: أخفرته: بعثت معه خفيرًا، وقال القزاز: خفر فلان بفلان وأخفره؛ إذا غدر به، وقال ابن سيده: خفره خفرًا وخفورًا وأخفره: نقض عهده وغدره، وأخفر الذمة: لم يف بها، انتهى.
(الله) أي: لا تنقضوا عهده ولا تغدروه ولا تفوا (فِي ذِمَّتِهِ)؛ بكسر الذال المعجمة، والضمير فيه يرجع إلى الله تعالى أو إلى المسلم، والأول أظهر؛ لقربه؛ يعني: ولا رسوله، وإنما اكتفى في النهي بذمة الله وحده ولم يذكر الرسول كما ذكر أولًا؛ لأنَّه ذكر الأصل لحصول المقصود به ولاستلزامه عدم إخفار ذمة الرسول، وأمَّا ما ذكره أولًا؛ فللتأكيد وتحقيق عصمته مطلقًا، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الخطابي أن معنى قوله: (فلا تخفروا الله): لا تخونوا الله في تضييع حق من هذا سبيله، انتهى.
قلت: وهذا قاصر، فإن من كان هذا سبيله بأن صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ لا يجوز له التعرُّض في هذه الأشياء، أمَّا لو فعل شيئًا مخالفًا لأوامر الله تعالى ورسوله؛ فيجوز التعرض له بأن وجب عليه حد أو جلد أو حق وغير ذلك، فإنَّه حينئذٍ خرج عن كونه في ذمة الله تعالى؛ لأنَّ الذي في ذمته تعالى هو الممتثل لأوامره تعالى المجتنب نواهيه، فمن كان هذا سبيله؛ فهو في ذمة الله تعالى حقًّا.
أمَّا ما نشاهده من جماعة الشيعة في بلادنا الشامية من صلاتهم معنا، واستقبالهم قبلتنا، وأكلهم ذبيحتنا؛ فهو نفاق وتقية، فنتعرض لهم، وإذا وجب عليهم حد من قتل أو جلد أو نحوها؛ فعلنا بهم؛ لأنَّهم ليسوا في ذمة الله تعالى؛ فافهم.
ففي الحديث: دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم وورعهم حتى يبحث عن باطنهم؛ لأنَّ الله تعالى قد بين أحوال الناس وأن منهم من يظهر قولًا جميلًا وهو ينوي قبيحًا، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 204 - 205]، وفي «الترمذي» عن بعض كتب الله: (أَبِي تغترون؟! وعليَّ تجترئون؟! فبي حلفت؛ لأبيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران).
وقال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله عليه السَّلام: «واستقبل قبلتنا»، وبيان ذلك أنه عليه السَّلام أفرد بذكر استقبال القبلة بعد قوله: «من صلى صلاتنا» مع كونه داخلًا فيها؛ لأنَّه من شرائطها، وذلك؛ للتنبيه على تعظيم شأن القبلة وعظم فضل استقبالها، وهو غير مقتصر على حالة الصلاة، بل أعم من ذلك، كما لا يخفى) انتهى.
ثم قال رضي الله عنه: ويستنبط من هذا الحديث: أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون الباطن، فمن أظهر شعائر الدين؛ أجريت عليه أحكام أهل الدين ما لم يظهر منه خلاف ذلك، فإذا دخل رجل غريب في بلد من بلاد المسلمين بدين أو مذهب في الباطل غير أنه يرى عليه زي المسلمين؛ حمل على ظاهر أمره على أنه مسلم، حتى يظهر منه خلاف ذلك.
قلت: ويدل لهذا أنه عليه السَّلام قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن برجل بالنفاق قال: «هل شققت على قلبه، أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟»، فأحوال الناس تحمل على الظاهر دون الباطن؛ لأنَّ الباطن لا يطلع [1] عليه إلا الله تعالى، فالشرع يحكم عليه بالظاهر، أمَّا إذا تبين منه الخروج عن الشرع؛ فيحكم عليه بسبب خروجه، فالشاهد إذا شهد عند القاضي؛ سأل عنه في ظواهر أموره دون باطنها، ويكتفي به؛ فافهم.
ثم قال: وفي الحديث: ما يدل على تعظيم شأن القبلة، وهي من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومن ترك القبلة متعمدًا؛ فلا صلاة له، ومن لا صلاة له؛ فلا دين له.
قلت: يدل عليه قوله عليه السَّلام: «الصلاة عماد الدين، فمن تركها؛ فقد هدم الدين»، وقوله عليه السَّلام: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة ... »؛ الحديث، فقد جعل عليه السلام الإسلام مثل قبة على أعمدة، فمن ترك منها واحدًا؛ فقد هدم القبة، كما تقدم في أول كتاب (الإيمان).
ثم قال رحمه الله: وفي الحديث: أن استقبال القبلة شرط للصلاة مطلقًا إلا في حالة الخوف، فمن كان بمكة _شرفها الله_؛ فالفرض في حقه إصابة عينها، سواء كان بين المصلي وبين الكعبة حائل؛ كجدار، أو لم يكن، حتى لو اجتهد وصلى فبان خطأه؛ فقال الإمام الرازي: يعيد، ونقل ابن رستم عن الإمام محمد بن الحسن: لا يعيد إذا بان خطؤه، سواء كان بمكة أو بالمدينة، قال: وهو الأقيس؛ لأنَّه قد أتى بما في وسعه، وذكر الإمام أبو البقاء أن
%ص 517%
جبريل عليه السَّلام وضع محراب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مسامت الكعبة.
وقيل: كان ذلك بالمعاينة بأن كشف الحال وأزيلت الحوائل، فرأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الكعبة، فوضع قبلة مسجده عليها.
قلت: كما وقع له عليه السَّلام صبيحة الإسراء حين سأله قريش عن صفة مسجد بيت المقدس، فأزيلت الحوائل عنه، وكشف له الحال، فوصفه [2] لهم، وأمَّا من كان غائبًا عن الكعبة؛ ففرضه جهة الكعبة لا عينها، وهو قول الإمام الكرخي، وأبي بكر الرازي، وأكثر الأئمة الحنفية.
وقال أبو عبد الله الجرجاني: الفرض إصابة عينها في حق الحاضر والغائب، وهو قول الشافعي، وزعم النووي أنَّ الصحيح عنه فرض المجتهد مطلوبية عينها.
وفي تعلم أدلة القبلة ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه فرض كفاية، الثاني: أنه فرض عين، ولا يصح، الثالث: أنه فرض كفاية إلا أن يريد سفرًا.
وقال البيهقي في «المعرفة» والذي روي مرفوعًا: «الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام، والمسجد الحرام قبلة أهل مكة ممن يصلي في بيته أو في البطحاء، ومكة قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الآفاق»، فهو حديث ضعيف لا يحتج به.
وفي الحديث: أن من جملة الشواهد [3] لحال المسلم أكل ذبيحة المسلمين، وذلك أن طوائف من الكتابيين والوثنيين يتحرجون [4] من أكل ذبيحة المسلمين، والوثني: الذي يعبد الصنم، انتهى.
==================
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (فوصفهم)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (الشواهل)، ولعله تحريف.
(1/663)
[حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله]
392# وبه قال: (حَدَّثَنَا) ولأبوي ذر والوقت: (وحدثنا)؛ بالواو (نُعَيْمٌ)؛ بضم النون وسكون التحتية، بينهما عين مهملة مفتوحة: هو ابن حماد الخزاعي (قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ): هو عبد الله، فهو موصول.
وقال إمام الشَّارحين: حديث أنس هذا أخرجه البخاري في هذا الباب من ثلاثة أوجه:
الأول: مسند عن عمرو بن عباس، وقد سبق.
والثاني: فيه خلاف بين الرواة من أربعة أوجه؛ الأول: حدثه البخاري عن نعيم، ونعيم أخرجه معلقًا؛ حيث قال: (قال ابن المبارك)، وهذا هو المذكور في نسختنا، وهي رواية أبوي ذر والوقت، الثاني: قال محمد بن إسماعيل وقال ابن المبارك: قال ابن عساكر روى البخاري عنه: (قال نعيم)، فالبخاري علقه، وقد وصله الدارقطني من طريق نعيم عن ابن المبارك، الثالث: رواية الأصيلي وكريمة: «قال ابن المبارك»؛ بغير ذكر نعيم، فالبخاري أيضًا علقه عنه، الرابع: وقع مسندًا؛ حيث قال: (حدثنا نعيم: حدثنا ابن المبارك)، هكذا في بعض الأصول، وقد ذكره المؤلف في (الجهاد)، والترمذي في (الإيمان): عن سعيد بن يعقوب عن ابن المبارك، وأخرجه النسائي في (المحاربة): عن محمد بن حاتم، عن حبان، عن ابن المبارك، انتهى.
(عَنْ حُمَيْدٍ) بضم الحاء المهملة وسكون التحتية (الطَّوِيلِ): التابعي المشهور، (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: أُمِرْتُ)؛ بضم الهمزة وكسر الميم؛ أي: أمرني الله تعالى، وإنما طوى ذكر الفاعل؛ لشهرته وتعظيمه (أَنْ) أي: بأن (أُقَاتِلَ النَّاسَ)؛ فكلمة (أَنْ) مصدرية، وأراد بـ (الناس): المشركون؛ أي: بقتل المشركين، فهو من العام الذي أريد به الخاص؛ لأنَّ المراد بـ (الناس): المشركون من غير أهل الكتاب، ويدل لذلك رواية النسائي، ولفظه: «أمرت أن أقاتل المشركين»، أو يكون المراد: مقاتلة أهل الكتاب؛ فافهم.
(حَتَّى) أي: إلى أن (يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ): إنَّما اكتفى بهذا الشطر من غير انضمام (محمد رسول الله)؛ لأنَّه عبر به على طريق الكناية عن الإقرار برسالته بالصلاة والاستقبال والذبح؛ لأنَّ هذه الثلاثة من خواص دين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ القائلين: لا إله إلا الله كاليهود؛ فصلاتهم بدون الركوع، وقبلتهم غير الكعبة، وذبيحتهم ليست كذبيحتنا، وقد يجاب: بأنَّ هذا الشطر الأول من كلمة الشهادة شعار لمجموعها، كما يقال: قرأت {الم*ذَلِكَ الكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2]، والمراد: كل السورة، لا يقال: فعلى هذا؛ لا يحتاج إلى الأمور الثلاثة؛ لأنَّ مجرد هذه الكلمة التي هي شعار الإسلام محرمة للدماء والأموال؛ لأنَّا نقول: الغرض منه بيان تحقيق القول بالفعل، وتأكيد أمره، فكأنه قال: إذا قالوها وحققوا معناها بموافقة الفعل لها؛ فتكون محرمة، وأمَّا تخصيص هذه الثلاثة من بين سائر الأركان وواجبات الدين؛ فلكونها أظهرها وأعظمها وأسرعها علمًا به؛ إذ في اليوم الأول من الملاقاة مع الشخص يعلم صلاته وطعامه غالبًا، بخلاف نحو الصوم؛ فإنه لا يظهر الامتياز بيننا وبينهم به، ونحو الحج؛ فإنه قد يتأخر إلى شهور وسنين، وقد لا يجب عليه أصلًا، كذا قرره إمامنا الشَّارح.
(فَإِذَا قَالُوهَا)؛ أي: كلمة الشهادة وصدقوا بمعناها بموافقة الفعل لها (وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا)؛ أي: المخصوصة بنا؛ أي: بأن صلوا بالركوع والسجود والقعود في آخرها، واقتصار القسطلاني على الركوع فقط؛ خطأ ظاهر؛ لأنَّ اليهود يصلون بالركوع فقط، كما هو مشهور عنهم، فلو صلوا بالركوع؛ لم يصيروا مسلمين حتى يصلوا بالركوع والسجود والقعود في آخرها؛ لأنَّ الفارق بيننا وبينهم في الصلاة السجود والقعود الأخير، فإن فعلوا ذلك؛ فلهم أحكام الإسلام، وإلا؛ فلا؛ فافهم
(وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا)؛ أي: طلبوا التوجه إلى الكعبة التي هدانا الله إليها، وإنما ذكر الاستقبال مع أن الصلاة متضمنة له؛ لأنَّ القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل واحد يعرف قبلته وإن كان لا يعرف صلاته كما سبق.
(وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا)؛ أي: ذبحوا المذبوح مثل مذبوحنا، والذبيحة على وزن (فعيلة) بمعنى المذبوح.
فإن قلت: فعيل إذا كان بمعنى المفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ فلا يدخله التاء.
قلت: لما زال عنه معنى الوصفية وغلبت عليه الاسمية واستوى فيه المذكر والمؤنث؛ فتدخله التاء، وقد يقال: إن الاستواء فيه عند ذكر الموصوف معه، وأمَّا إذا انفرد عنه؛ فلا، قاله إمام الشَّارحين.
(فَقَدْ حَرُمَتْ)؛ بفتح الحاء وضم الراء المهملتين، كما في رواية «الفرع»، وجوز البرماوي وغيره: ضم الحاء وتشديد الراء، وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر حيث زعم أنه لم ير في شيء من الروايات تشديد الراء.
قلت: ولا يلزم من عدم رؤيته ذلك ألَّا يكون ثابتًا في بعض الروايات، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، لا سيما أن التشديد معناه أبلغ في الحرمة من التخفيف، وقد صرح جماعة من الشراح بجوازه، وهو يدل على أنه ثابت في بعض الروايات، والمثبت مقدم على النافي، فليحفظ، والله تعالى أعلم.
%ص 518%
(عَلَيْنَا)؛ أي: على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ومن كان أميرًا بعده إلى قيام الساعة (دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ) فلا يجوز التعرُّض لهم حينئذ بدم ولا أخذ مال (إِلَّا بِحَقِّهَا)؛ أي: إلا بحق الدماء والأموال، وذلك من قتل نفس أو حد من الحدود، أو ضمان مال بأن أتلف شيئًا، فيقتص منه في ذلك؛ لأنَّهم حينئذٍ غير معصومين؛ لأنَّ الله تعالى حكم على القاتل بالقتل، والزاني بالرجم أو الجلد، وتارك الصلاة بالحبس والضرب، والغاصب بالضمان، ومتلف الأموال بالمال، وغير ذلك، ومن ذلك زكاة الأموال، والعشر للغنم والبقر والمعز والإبل ونحوها.
وعند المؤلف في باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة) عن ابن عمر: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ... »؛ الحديث، فهو محمول على أهل الكتاب المقرين بالتوحيد الجاحدين لنبوة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عمومًا وخصوصًا.
وفي حديث أبي هريرة عند المؤلف في (الجهاد) الاقتصار على قول: «لا إله إلا الله ... »؛ الحديث، وهو محمول على أنه عليه السَّلام قاله في وقت قتاله للمشركين.
وأمَّا حديث الباب محمول على من دخل الإسلام ولم يعمل الصالحات؛ كترك الجمعة والجماعة؛ فيقاتل حتى يذعن لذلك.
(وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله)؛ أي: حسابهم بعد ذلك في أمر سرائرهم على الله تعالى، وأمَّا نحن؛ فإنما نحكم عليهم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، ويحتمل المعنى هذا القتال وهذه العصمة إنَّما هما باعتبار أحكام الدنيا المتعلقة بنا، وأمَّا أمور الآخرة من الجنة والنار والثواب والعقاب؛ فمفوض إلى الله تعالى، ولفظة: (على) مشعرة بالإيجاب، فظاهره غير مراد، فإمَّا أن يكون المراد: وحسابهم إلى الله، أو لله، أو أنه يجب أن يقع ذلك لا أنه تعالى يجب عليه شيء، خلافًا للمعتزلة القائلين بوجوب الحساب عقلًا، فهو من باب التشبيه له بالواجب على العباد في أنه لا بد من وقوع ذلك.
واقتصر على الصلاة؛ لأنها عماد الدين كما ثبت في الحديث، ولم يذكر الزكاة هنا؛ لأنها داخلة في قوله: «إلا بحقها»، فإن الحق في الأموال الزكاة ونحوها.
ففي الحديث: قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر.
وفيه: الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافًا لمن أوجب تعلم الأدلة.
وفيه: ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرع، والحق أنَّ المعتزلة فسقة لا كفار، كما دل عليه هذا الحديث وغيره.
وفي الحديث: قبول توبة الكافر سواء كان كفرًا ظاهرًا أو باطنًا.
وزعم ابن المنيِّر أن في الحديث: دليل على قتل تارك الصلاة، وذكره القسطلاني عنه وطول كلامه، وكلاهما غير ظاهر، والحديث لا يدل على ما قاله؛ لأنَّ قوله: «فإذا قالوها وصلوا صلاتنا؛ حرمت دماؤهم» شرط، ومفهومه: أنَّهم إذا قالوها وامتنعوا من الصلاة كسلًا أو نحوه مع اعتقادهم فرضيتها عليهم، كذلك تحرم دماؤهم، أمَّا إذا جَحَدُوا فرضيتها أو لم يفعلوها استخفافًا؛ فحينئذ لم تحرم دماؤهم، لأنَّه عليه السَّلام قد رتب استصحاب سقوط العصمة على ترك الإقرار بفرضيتها لا على تركها، يدل عليه أن الذبيحة لا يقتل تاركها إجماعًا، فكذا هذا، وقولهم: إن الإجماع أخرج الذبيحة فقط؛ مردود، فإنه تخصيص بلا مخصص وترجيح بلا مرجح، فإن النبيَّ الأعظم عليه السَّلام قد جعل هذه الثلاثة أعلى أركان الدين، ولم يفصل بينها بشيء، فعلم منه أنها سواء في الحكم، فثبت بذلك أن تارك الصلاة كسلًا لا يقتل؛ فليحفظ، وهو الصواب، وقد سبق هذا الحديث في باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة)، ومر الكلام عليه مستوفًى.
%ص 519%
==================
(1/664)
[حديث: من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل]
393 # (قال) أي: المؤلف: (وَقَالَ) بالواو (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ): هو المديني: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ)؛ بالمثلثة: هو البصري (قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ)؛ بضم الحاء المهملة: هو الطويل التابعي (قَالَ: سَأَلَ مَيْمُونُ)؛ بفتح الميم الأولى وضم الثانية بينهما تحتية ساكنة (بنُ سِيَاهٍ)؛ بكسر السين المهملة في آخره هاء (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا معلق وموقوف، أمَّا التعليق؛ فقوله: «قال: قال علي بن عبد الله»، ففاعل «قال» الأول: هو البخاري، وفاعل «قال» الثاني: ظاهر وهو شيخه علي ابن المديني، وأمَّا الوقف؛ فإن أنسًا لم يرفعه) انتهى.
(قَالَ)؛ أي: ميمون لأنس، ولأبوي ذر والوقت: (فقال)، وسقطت هذه الكلمة عند الأصيلي: (يَا بَا حَمْزَةَ) بالحاء المهملة والزاي، أصله: يا أبا حمزة، فحذفت الهمزة للتخفيف، وأبو حمزة كنية أنس بن مالك؛ (وَمَا يُحَرِّمُ)؛ بالتشديد من التحريم، وكلمة (ما): استفهامية، وهو بواو العطف على شيء محذوف، كأنه سأل عن شيء قبل هذا، ثم قال: (وما يحرم)، ولم تقع الواو في رواية الأصيلي وكريمة، قاله إمام الشَّارحين.
وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر؛ حيث زعم أن الواو استئنافية.
ورده إمام الشَّارحين (فقال: الاستئناف كلام مبتدأ، وحينئذ لا يبقى مقول لـ «قال»، فيحتاج إلى تقدير) انتهى.
قلت: والقاعدة: أنه إذا اجتمع التقدير وعدمه؛ فعدمه أولى عند المحققين، على أن الكلام متعلق بما قبله؛ فلا وجه لجعله استئنافًا؛ فافهم
(دَمَ الْعَبْدِ) أي: الرجل المسلم (وَمَالَهُ؟)؛ يعني: ما يدخل دم المسلم وماله في العصمة حتى لا يجوز التعرض له بسوء بغير حق، وإنما وصف المسلم بالعبودية؛ لأنها أشرف المقامات، ولهذا اختارها تعالى لنبيِّه الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]؛ فافهم.
(فَقَالَ) أي: أنس بن مالك لميمون: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وحده لا شريك له، في ألوهيته بذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بأن أقر بذلك وصدق، (وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا) أي: طلب التوجه لقبلتنا؛ وهي الكعبة، (وَصَلَّى صَلَاتَنَا) أي: بالركوع والسجود والقعود، (وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا)؛ أي: المذبوحة بأيدي المسلمين، فإن اليهود لا تأكل ذبيحة المسلمين؛ (فَهُوَ الْمُسْلِمُ) حقًّا فيحرم دمه وماله إلا بحق؛ يعني: من فعل هؤلاء الثلاثة؛ فهو معصوم الدم والمال إلا بحقها، (لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ) أي: من النفع، (وَعَلَيْهِ مَا عَلَى المُسْلِمِ)؛ أي: من المضرة،
%ص 520%
والتقديم يفيد الحصر؛ أي: له ذلك لا لغيره، كذا قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: (فإن قلت: الجواب ينبغي أن يكون مطابقًا للسؤال، والسؤال هنا عن سبب التحريم، فالجواب كيف يطابقه؟
قلت: المطابقة ظاهرة؛ لأنَّ قوله: «من شهد ... » إلى آخره: هو الجواب وزيادة؛ لأنَّه لما ذكر الشهادة وما عطف عليها؛ علم أن الذي يفعل هذا هو المسلم، والمسلم يحرم دمه وماله إلا بحقه) انتهى.
قلت: وأمَّا طائفة الدروز المشهورين بديارنا الشريفة الشامية المعتقدين الحلول والتناسخ؛ فأفتى الإمام المحقق شيخ الإسلام حامد أفندي العمادي بإباحة دمهم ومالهم، واسترقاق نسائهم وذراريهم، وبذلك أفتى جدي الإمام النحرير شيخ الإسلام زين الدين أفندي بن سلطان الحنفي، وتبعه جماعة من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وقد رأيت فتوى بذلك عليها خطوطهم التمسها الوزير الأعظم حين دخل الشام وعصوا عليه، فقاتلهم وانتصر عليهم، وإلى الآن أشرارهم قائمة، وفتنهم دائمة، اللهم؛ أهلكهم ولا تبق [1] لهم أثرًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
393# (وقال ابن أبي مريم) هو سعيد بن الحكم المصري: (أخبرنا يحيى) زاد الأربعة: (ابن أيوب الغافقي): هو المصري (قال: حدثنا حُميد)؛ بضم الحاء المهملة: هو الطويل التابعي، ولابن عساكر: (وقال محمد)؛ أي: المؤلف: (قال ابن أبي مريم: حدثني)؛ بالإفراد (حميد) (قال: حدثنا أنس): هو ابن مالك الأنصاري رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم).
قال إمام الشَّارحين: (هذا أيضًا معلق، وقد وصله أبو نعيم، وفي هذا فائدة: وهي تصريح حميد بسماعه إياه من أنس، لكن طعن فيه الإسماعيلي، وقال: الحديث حديث ميمون، وإنما سمعه حميد منه، ولا يحتج بيحيى بن أيوب في قوله: «عن حميد: حدثنا أنس»، ويدل على ذلك ما أخبرنا يحيى بن محمد بن البحتري: حدثنا عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي، عن حميد، عن ميمون قال: سألت أنسًا ... ؛ الحديث) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (رواية معاذ لا دليل فيها على أن حميدًا لم يسمعه من أنس؛ لأنَّه يجوز أن يكون سمعه من أنس، ثم استثبته فيه من ميمون، فكأنه تارة يحدث به عن أنس؛ لأجل العلوِّ، وتارة عن ميمون؛ للاستثبات، وقد جرى عادة حميد وغيره بهذا الطريق.
فإن قلت: جاء عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، وجاء عن ابن عمر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم»، وجاء عن أنس المذكور في هذا الباب، فما التوفيق بين هذه الروايات الثلاث؟
قلت: إنَّما اختلفت هذه الألفاظ وزادت ونقصت؛ لاختلاف الأحوال والأوقات التي وقعت هذه الأقوال فيها، وكانت أمور الشريعة تشرع شيئًا فشيئًا، فخرج كل قول فيها على شرط المفروض في حينه، فصار كل منها في زمانه شرطًا لحقن الدم وحرمة المال، ولا منافاة بين الروايات ولا اختلاف) انتهى.
قلت: وقد قدمنا أن حديث أبي هريرة محمول على أنه عليه السَّلام قاله وقت قتاله للمشركين، وحديث ابن عمر محمول على أهل الكتاب المقرين بالتوحيد، الجاحدين لنبوة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَّا حديث الباب؛ فمحمول على من دخل في الإسلام، ولم يعمل الصالحات؛ كترك الجمعة والجماعة؛ فيقاتل حتى يذعن لذلك؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ولا تبقي)، وليس بصحيح.
==================
(1/665)
(29) [باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق]
هذا (باب) حكم (قِبلة) بكسر القاف (أهل المدينة) أي: النبوية (وأهل الشام) أي: الكنانة (و) قبلة أهل (المشرق)؛ يعني: وأهل المغرب، وإنما لم يذكر المغرب بعده مع أنَّ العلة فيهما مشتركة؛ لأنَّه قد اكتفى بذكر المشرق عن المغرب؛ كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: والبرد، وإنما خص المشرق بالذكر دون المغرب؛ لأنَّ أكثر بلاد الإسلام في جهة المشرق، ولما ذكر المؤلف هذا؛ كأن سائلًا سأله، فقال: كيف قبلة هؤلاء في تلك المواضع؟ فقال: (ليس في المشرق ولا في المغرب قِبلة)؛ يعني: ليس في التشريق ولا في التغريب في المدينة والشام ومن يلحق بهم ممن على سمتهم قِبلة، فأطلق المشرق والمغرب على التشريق والتغريب، والجملة استئنافية من فقه المؤلف جواب عن سؤال، كما سبق.
قال إمام الشَّارحين: وهذا الموضع يحتاج إلى تحرير قوي، فإن أكثر من تصدى لشرحه لم يغن شيئًا، بل بعضهم ركب البعاد وخرط القتاد، فنقول وبالله التوفيق: إن قوله: (باب) إما أن يضاف إلى ما بعده، أو يقطع عنه، وإن لفظة (قِبلة) بعد قوله: (ولا في المغرب) إما أن تكون موجودة أو لا، ولكل واحد من ذلك وجه، ففي القطع وعدم وجود لفظة (قبلة) يكون لفظ [1] (باب) منونًا على تقدير: هذا باب، وهي رواية الأربعة، ويجوز أن يكون ساكنًا مثل تعداد الأسماء؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، ويكون قوله: (قبلة أهل المدينة) الذي هو كلام إضافي: مبتدأ، وقوله: (وأهل الشام)؛ بالجر عطفًا على المضاف إليه، وكذلك قوله: (والمشرق)؛ بالجر، وقوله: (ليس في المشرق): خبر المبتدأ، لكن لا بد فيه من تقديرين؛ أحدهما: أن يقدر لفظ (قبلة) الذي هو المبتدأ بلفظ (مستقبل أهل الشام)؛ لوجوب التطابق بين المبتدأ والخبر في التذكير والتأنيث، والثاني: أن يؤول لفظ (المشرق) بالتشريق، ولفظ (المغرب) بالتغريب، والعرب تطلق المشرق والمغرب لمعنى التشريق والتغريب، قاله ثعلب، وأما في الإضافة، وتقدير وجود لفظة: (قبلة) بعد قوله: (ولا في المغرب)؛ [فتقديره: هذا باب في بيان قبلة أهل المدينة وقبلة أهل الشام وقبلة أهل المشرق]، وهي رواية الأكثرين؛ فلهذا ترك العاطف، والجملة استئنافية، وهي في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، وهو أنه لما قال: (باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق)؛ انتصب سائل، فقال: كيف قبلة هذه المواضع؟ فقال: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة، انتهى.
قلت: وأراد بقوله: (بعضهم): ابن حجر، فإنه في هذا الموضع قد ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء، وقال: ولا يدري ما يقول من انتهاء الجهالة إليه، فعرِّج عن كلامه؛ تفز بالمقصود، والله أعلم.
وقال السفاقسي: (يريد: أن قبلة هؤلاء المسمين ليست في المشرق منهم ولا في المغرب؛ بدليل أنه عليه السَّلام أباح لهم قضاء الحاجة في جهة المشرق منهم والمغرب).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (ليس هذا معناه، وإنما معناه: القبلة ما بين المشرق والمغرب؛ لما روى الترمذي بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»)، ثم قال: (وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما بين المشرق والمغرب
%ص 521%
قبلة»؛ منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وقال عبد الله بن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك؛ فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة، وقوله عليه السَّلام: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ليس عامًّا في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المنورة وما وافق قبلتها) انتهى.
وقال البيهقي: (والمراد: أهل المدينة ومن كانت قبلته على سمت أهل المدينة).
وقال أحمد بن خالد الوهبي: (قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما بين المشرق والمغرب قبلة؛ قاله بالمدينة، فمن كانت قبلته قبل قبلة المدينة؛ فهو في سعتها بين المشرق والمغرب، ولسائر البلدان من السعة في القبلة قبل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك).
وقال ابن بطال: (وتفسير هذه الترجمة؛ يعني: وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب، فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام في الأمر بالانحراف عند الغائط؛ لأنَّهم إذا شرقوا أو غربوا؛ لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها)، قال: (وأمَّا ما قابل مشرق مكة من البلاد التي يكون الخط المار عليها من مشرقها إلى مغربها؛ فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث، ولا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا؛ لأنَّهم إذا شرقوا؛ استدبروا القبلة، وإذا غربوا؛ استقبلوا القبلة، وكذلك من كان موازيًا لمغرب مكة، إن غرب؛ استدبر القبلة، وإن شرق؛ استقبل القبلة، وإنما ينحرف إلى الجنوب أو الشمال، فهذا هو تغريبه وتشريقه)، قال: (وتقدير الترجمة: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق والمغرب ليس في التشريق ولا في التغريب؛ يعني: أنَّهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا مواجهين للقبلة ولا مستدبرين لها) انتهى.
قلت: وما ذكره إمام الشَّارحين من تقدير (قبلة) بلفظ (مستقبل) لا بد منه؛ لأنَّ التطابق في التذكير والتأنيث بين المبتدأ والخبر واجب، والمشرق بالتشريق، والمغرب بالتغريب؛ يعني: هذا بابٌ _بالتنوين_ مستقبل أهل المدينة وأهل الشام ليس في التشريق ولا في التغريب، وقد سقطت التاء من (ليس)، فلا تطابق بينه وبين (قبلة)، فلهذا أول بـ (مستقبل)؛ ليتطابقا تذكيرًا.
وقال القاضي عياض: (والمشرقُ)؛ بضم القاف: رواية الأكثرين عطفًا على (باب)؛ يعني: وباب حكم المشرق، ثم حذف من الثاني (باب) و (حكم)، وأقيم (المشرق) مقام الأول، وتبعه الزركشي قائلًا: (وهو الصواب)، واعترضه الدماميني، فزعم أن إثبات (قبلة لأهل المشرق) في الجملة لا إشكال فيه؛ لأنَّهم لا بد لهم أن يصلوا إلى الكعبة، فلهم قبلة يستقبلونها قطعًا، وإنما الإشكال لو جعل المشرق نفسه قبلة مع استدبار الكعبة، وليس في جر (المشرق) ما يقتضي أن يكون المشرق نفسه قبلة، وكيف يتوهم هذا، والمؤلف قد ألصق بهذا الكلام قوله: (ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة؟) انتهى.
قلت: وفيه نظر، فإن تقدير: باب حكم المشرق؛ له وجه وجيه؛ لأنَّ من كان مقابل مشرق مكة من البلاد التي يكون الخط المار عليها من مشرقها إلى مغربها؛ لا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا؛ لأنَّهم إذا شرقوا؛ استدبروا القبلة، وإن غربوا؛ استقبلوها ... إلى آخر ما قاله ابن بطال المتقدم.
وعلى هذا؛ يكون كلام المؤلف في هذه الترجمة مبنيًّا [2] على أحكام؛ أحدها: حكم قبلة أهل المدينة والشام، والثاني: حكم قبلة أهل المشرق والمغرب، والثالث: بيان أن ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة، فإنَّ عادة المؤلف أخذ أحكام من الأحاديث ووضعها ترجمة، فالحكم الثالث ليس على إطلاقه كما فهمه الدماميني؛ فافهم.
(لقول النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) فيما وصله النسائي، وكذا المؤلف في الباب وغيره عن أبي أيوب الأنصاري: أنه عليه السَّلام قال: (لا تستقبلوا القِبلة) بكسر القاف؛ أي: لا تطلبوا التوجه بوجوهكم إلى الكعبة (بغائط): الباء للسببية؛ أي: بسبب وجود الغائط؛ وهو اسم لما اطمأن من الأرض، والمراد به: قضاء الحاجة، (أو بول) زاد في رواية مسلم: «ولا تستدبروها ببول أو غائط»، والظاهر منه اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة وتعظيمها عن المواجهة بالنجاسة، وقيل: مثار النهي كشف العورة، وعليه فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة؛ كالوطء مثلًا، وقد نقله ابن شاش من المالكية قولًا في مذهبهم مستدلًّا برواية في «الموطأ»: «لا تستقبلوا القبلة بفروجكم»، ولا دليل فيه؛ لأنَّها محمولة على حالة قضاء الحاجة جمعًا بين الراويتين على أنه المراد من الحديث: هو تعظيم القبلة عن المواجهة بالنجاسة، فإذا وطئ أو استنجى مواجهًا للقبلة؛ لا يكره؛ لأنَّه في الأول لم يكن عليه نجاسة حقيقية، وفي الثاني
%ص 522%
قد أزال النجاسة، وكل منهما طاعة مطلوبة مرغوبة، فليس في استقبال القبلة في ذلك خلل في تعظيم القبلة؛ فليحفظ.
(ولكن شرقوا أو غربوا)؛ يعني: خذوا في ناحية المشرق أو ناحية المغرب، وفيه: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو لأهل المدينة والشام، ومن كانت قبلتهم على سمتهم، أمَّا من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنه ينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال، ثم إنَّ هذا الحديث يدل على عموم النهي في الصحراء والبنيان، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه، وبه قال أحمد في رواية، وهو قول إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، ومجاهد، وغيرهم؛ لأنَّ المقصود من النهي عدم تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحراء والبنيان، فإن الحائل كما أنه موجود في البنيان كذلك هو موجود في الصحراء؛ كالجبال والأودية، فإنه ليس لأحد أن يدعي نظره للقبلة إذا وقف في الصحراء؛ فليحفظ.
واحتج البخاري بعموم هذا الحديث، وسوَّى بين الصحارى والأبنية، وجعله دليلًا للترجمة التي وضعها أول الباب، واعترض عليه بأن في حديث أبي داود والمؤلف [ما] يدل على عكس ما أراده، وذلك لأنَّ أبا أيوب قال في حديثه: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، لكنا ننحرف عنها، ونستغفر الله)، ورده إمام الشَّارحين فقال: لا يرد على البخاري هذا أصلًا؛ لأنَّ المنع كان لأجل تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحراء والبنيان، ولهذا قال أبو أيوب: (لكنا ننحرف، ونستغفر الله عز وجل) انتهى.
وذهب عروة بن الزبير، وربيعة الرأي، وداود إلى جواز الاستقبال والاستدبار مطلقًا؛ لحديث جابر بن عبد الله عند أبي داود، والترمذي، وأبناء ماجه وخزيمة وحبان: (نهانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول، ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها)، ولا دليل في هذا الحديث لهم؛ لأنَّه يحتمل أنه رأى في الصحراء في مهب ريح بأن كانت الريح تهب على يمين القبلة أو شمالها، فإنَّهما لا يحرمان للضرورة، ويدل عليه حديث ابن عمر: (فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على لبنتين مستقبلًا بيت المقدس لحاجته)، وهذا يرد على من قال بالجواز مطلقًا.
وزعم المالكية والشافعية أنه لا يحرم الاستقبال في البنيان، ويحرم في الصحراء؛ لحديث ابن عمر المذكور، وردَّ: بأنه لا دليل فيه على ذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام جلس على لبنتين لأجل أن يرتفع بهما عن الأرض؛ بدليل كونه على ظهر بيت، وما كان كذلك يحتاج إلى شيء يرتفع عليه لقضاء الحاجة، على أنه يشترط عند الشافعية أن يكون الساتر نحو ذراع، واللبنتان لا يبلغان ذراعًا، فاستدلالهم غير صحيح، والصواب حديث الباب الدال على عموم عدم الجواز مطلقًا، وقد سبق هذا الحديث في (الوضوء)، ومر الكلام عليه مستوفًى؛ فليحفظ، وهو حجة على الشافعي، وزعم القسطلاني أنه يحمل حديث الباب على الصحراء.
قلت: وهذا الحمل غير صحيح، فإن الحديث صريح في عدم الجواز مطلقًا، فكيف يحمل على هذا، وما هذا إلا تناقض؛ فافهم، وقد سبق الكلام عليه مستوفًى في كتاب (الوضوء).
==========
[1] في الأصل: (لفظة)، والمثبت هو الصواب، كذا في الموضع اللاحق.
[2] في الأصل: (مبني)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (لفظة)، والمثبت هو الصواب، كذا في الموضع اللاحق.
[1] في الأصل: (لفظة)، والمثبت هو الصواب، كذا في الموضع اللاحق.
(1/666)
[حديث: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها]
394# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو المديني (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عيينة المكي (قال: حدثنا الزهري): هو محمد بن مسلم ابن شهاب، (عن عطاء بن يزيد): من الزيادة، زاد في رواية أبوي ذر والوقت: (الليثي)؛ بالمثلثة: هو الجندعي المدني التابعي، (عن أبي أيوب): هو خالد بن زيد بن كليب (الأنصاري) رضي الله عنه، كان من كبار الصحابة، شهد بدرًا، ونزل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حين قدم المدينة عليه رضي الله عنه، وتوفي غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل: سنة خمس وخمسين، ودفن بالقسطنطينية، وبنى عليه قبة السلطان محمد الفاتح العثماني، ومسجدًا [1] يزار ويتبرك به، وهو جدي وسيدي وسندي، وعقد واسطتي بيني وبين جدي النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو بيني وبين رب العزة جل جلاله، وتقدست أسماؤه وصفاته بالغفران والعفو والدخول في الجنان: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إذا أتيتم) أي: جئتم (الغائط): هو اسم للأرض المطمئنة، والمراد به: قضاء الحاجة؛ (فلا تستقبلوا القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: لا تطلبوا التوجه للكعبة عند قضاء الحاجة، (ولا تستدبروها)؛ تعظيمًا لها، واحترامًا لشأنها؛ لأنَّه تعالى خصها بالتوجه لها حال العبادة، وبالنظر إليها عبادة أيضًا، فلا يتوجه إليها حال نزول الأنجاس والأقذار، وظاهره اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة أو بكشف العورة، قدمنا أن في ذلك خلافًا مبنيًّا [2] على جواز الوطء والاستنجاء مستقبل القبلة مع كشف العورة، فمن علل بالأول؛ أباح، ومن علل بالثاني؛ منع، والصواب: الإباحة؛ فافهم.
(ولكن شرقوا أو غربوا)؛ أي: خذوا في ناحية المشرق أو ناحية المغرب، وفيه: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو مخصوص بأهل المدينة؛ لأنَّهم المخاطبون، ويلحق بهم من كانت قبلتهم على سمتهم ممن إذا استقبل المشرق والمغرب؛ لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها، أمَّا من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنه ينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال؛ فافهم.
(قال أبو أيوب) هو جدي الأنصاري: (فقدِمنا) بكسر الدال المهملة (الشام): هي تذكر وتؤنث، على وزن (فعال)، سميت شامًا؛ لشامات لها؛ يعني: اختلاف أرضها في الألوان، يقال: فلان في قومه شامة؛ إذا كان له مزية عليهم بالكرم، أو بالحلم، أو بالشجاعة، وكذلك الشام، فإن لها مزية زائدة على غيرها؛ لقوله تعالى: (الشام كنانتي من أراد لها بسوء؛ ضريته بسهم منها)، وقوله عليه السَّلام لعبد الله بن حوالة: «عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه، وإن الله تكفل لي بالشام وأهله»، قال الراوي أبو إدريس: ومن تكفل الله به؛ فلا ضيعة عليه، وقال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1]، قال المفسرون: {التِّينِ}: مسجد دمشق، وقال تعالى: {أَن بُورِكَ
%ص 523%
مَن فِي النَّارِ ... }؛ الآية [النحل: 8]، قال صاحب «الكشاف»: (هي أرض الشام، جعلها الله بالبركات موسومة، وبالفضائل موصوفة، وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]، وحقت أن تكون كذلك؛ لأنَّها مبعث الأنبياء عليهم السلام، ومهبط الوحي إليهم وكفايتهم أحياء وأمواتًا، وما من نبي إلا منها، أو هاجر إليها)، وقال علي الصديق الأصغر: (طوبى لمن له فيها مسكنًا)، وتمامه في «محاسن الشام».
وقال إمام الشَّارحين: (الشام: هو الإقليم المشهور، يذكر ويؤنث، ويقال مهموزًا ومسهلًا، وسميت بسام بن نوح عليه السَّلام؛ لأنَّه أول من نزلها، فجعلت السين شينًا معجمة؛ تفسيرًا للفظ الأعجمي، وقيل: سميت بذلك؛ لكثرة قراها، وتداني بعضها من بعض، فشبهت بالشامات) انتهى.
(فوجدنا مَراحِيض)؛ بفتح الميم، وكسر الحاء المهملة، والضاد المعجمة، جمع مِرحاض؛ بكسر الميم: وهو البيت (بُنيت)؛ بضم الموحدة أوله، واتخذت لأجل قضاء الحاجة للإنسان؛ أي: التغوط (قِبَل) بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: مقابل (القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: الكعبة، وكان أهل المدينة يتغوطون في البساتين رجالًا ونساءً، فلما بنيت في الشام المراحيض ورآها أبو أيوب رضي الله عنه حين هاجر إليها وبعد مسيره للمدينة؛ أخبر الصحابة بذلك، فاستحسنوها وبنوا مثلها، فهي بدعة حسنة، يدل عليه ما ذكره المؤلف في باب (خروج النساء إلى البراز)، عن عائشة قالت: (إن أزواج النبيِّ الأعظم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصيع _وهو صعيد أفيح_ فكان عمر يقول للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله عليه السَّلام يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبيِّ الأعظم عليه السَّلام ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: قد عرفناك يا سودة؛ حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب)، وإنما كن يخرجن لحاجتهن للضرورة من عدم وجود الأخلية في البيوت، فلما اتخذت الكنف فيها؛ منعهن النبيُّ الأعظم عليه السَّلام من الخروج إلا لضرورة شرعية.
وفي حديث ابن عمر في باب (التبرز في البيوت): (أنه عليه السَّلام كان يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام)، وفي رواية: (مستقبلًا بيت المقدس)، وكل هذه الأحاديث إنَّما وقعت باختلاف الأزمان والأحوال، وإنما المراد على عموم حديث أبي أيوب رضي الله عنه، فإنها لا تصلح أن تكون مخصصة له؛ لأنَّ أبا أيوب لم يلتفت إليها، ولم يحتج بها، بل اقتصر على حديثه؛ لكونه أرجح وأثبت؛ فليحفظ.
(فننحرف)؛ أي: عن جهة القبلة، من الانحراف، وفي رواية: (فنتحرَّف)، من التحرف؛ بتشديد الراء، (ونستغفر الله تعالى)؛ أي: من الاستقبال أو لمن بناها، فإن الاستغفار للمذنبين سنة، وإنما استغفرَ الله تعالى لنفسه لا للناس؛ حيث إنه حين أراد قضاء الحاجة ورأى هذه المراحيض قِبل القبلة وهي منهيٌّ عنها؛ لأنَّ أبا أيوب كان لم ير [3] حديث ابن عمر مخصصًا، وحمل ما رواه هو على العموم، فهذا الاستغفار كان لنفسه لا للناس.
فإن قلت: الغالط والساهي لم يفعل إثمًا، فلا حاجة فيه إلى الاستغفار.
قلت: أهل الورع والمناصب العالية في التقوى يفعلون مثل هذا؛ بناء على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التحفظ ابتداء، انتهى.
قلت: ويحتمل أن أبا أيوب قضى بعض حاجته قِبَل القِبلة ناسيًا، فلما تذكر؛ انحرف عنها، ثم استغفر الله تعالى، ولهذا قال أئمتنا الأعلام: وإذا جلس مستقبلًا ناسيًا فتذكر؛ يستحب له أن ينحرف بقدر ما يمكن؛ لما أخرجه الطبراني مرفوعًا: «من جلس يبول قبالة القبلة، فانحرف عنها إجلالًا لها؛ لم يقم من مجلسه حتى يغفر له»، ويكره إمساك الصبي نحو القبلة ببول، انتهى؛ فافهم.
وزعم القسطلاني أن أبا أيوب لم يبلغه حديث ابن عمر.
قلت: وهو غير صحيح، فإن مثل هذا الصحابي الجليل لا يقال فيه هكذا، وإنما أبو أيوب لم يره مخصصًا، بل جعله من اختلاف الوقائع والأزمان والأحوال، ولا منافاة، وقد يقال: إن ما رواه أبو أيوب ناسخ لما رواه ابن عمر وغيره؛ لأنَّه عام ليس بمخصوص ومتأخر عنه، ويدل عليه عموم قوله عليه السَّلام: «فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ... »؛ الحديث، فإنه عام وأرجح من حديث ابن عمر وأثبت، وعليه العمل في كثير من الأمصار، وهو الصواب.
(وعن الزهري) عطف على قوله: (حدثنا سفيان، عن الزهري)؛ يعني: بالإسناد المذكور أيضًا، (عن عطاء): هو ابن يزيد الليثي (قال: سمعت أبا أيوب) أي: الأنصاري رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم مثلَه)؛ بالنصب؛ أي: مثل الحديث السابق، وفائدة ذكره مكررًا: أن في الطريق الأول عنعن الزهري عن عطاء عن أبي أيوب، وفي هذا الطريق صرح عطاء بالسماع عن أبي أيوب، والسماع أقوى من العنعنة، وقال الكرماني: السماع أقوى من العنعنة، وهي أقوى من (أنَّ)، لكن فيه ضعف من جهة التعليق عن الزهري.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا هو الظاهر، ولكن الحديث بهذا الطريق مسند في «مسند إسحاق ابن راهويه»: عن سفيان ... إلى آخره) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (مسجد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (خلاف مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يرى)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (مسجد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (خلاف مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (مسجد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (خلاف مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/667)
(30) [باب قول الله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}]
هذا (باب قول الله تعالى) وفي رواية: (قوله تعالى)، وإنما بوب بهذه الآية الكريمة؛ لأنَّ فيها بيان القبلة، وهذا وجه المناسبة في ذكر هذا الباب بين هذه الأبواب المذكورة هنا المتعلقة بالقبلة وأحكامها: ({وَاتَّخِذُوا}) [البقرة: 125]؛ بكسر الخاء المعجمة، بلفظ الأمر على القراءة المشهورة، وهو على إرادة القول؛ يعني: وقلنا لهم اتخِذوا، وهذا الأمر هو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب، وقرأ نافع وابن عامر: {وَاتَّخَذُوا}؛ بفتح الخاء، بلفظ الماضي عطفًا على قوله تعالى: {وَإِذْ [1] جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا واتخَذوا}، كذا في «عمدة القاري» ({مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ}): هو خليل الرحمن، وأبو الأنبياء عليه وعليهم السلام.
واختلف المفسرون في المراد بالـ (مقام) ما هو؟ فروى ابن أبي حاتم عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما:
%ص 524%
أنه قال: {مقَامِ إِبْرَاهِيمَ}: الحرم كله، وروي مثله عن مجاهد وعطاء، وقال السدي: (المقام: هو الحجر الذي وضعت [2] زوجة إسماعيل قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه)، وحكاه الرازي في «تفسيره» عن الحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، وضعفه القرطبي، ورجح غيره، وهو ليس بشيء؛ لأنَّه قول الجمهور، وحكى ابن بطال عن ابن عباس أنه قال: (الحج كله مقام إبراهيم).
وروى عبد الرزاق عن معمر، عن ابن أبي نجيح عنه قال: (هو عرفة، وجمع، ومنى).
وقال عطاء: (مقام إبراهيم: عرفة، والمزدلفة، والجمار).
وروى ابن أبي حاتم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: سمع جابرًا يحدث عن حجة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (لما طاف النبيُّ الأعظم؛ قال له عمر بن الخطاب: هذا مقام أبينا إبراهيم عليه السَّلام؟ قال: «نعم»، قال: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّخِذُوا ... }؛ الآية).
وروى عثمان ابن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال: (قال عمر: قلت: يا رسول الله؛ هذا مقام خليل ربنا؟ قال: «نعم»، قال: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فنزلت).
وروى ابن مزدويه عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب: (أنه مر بمقام إبراهيم، فقال: يا رسول الله؛ أليس نقوم مقام خليل الله؟ قال: «بلى»، قال: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فلم نلبث إلا يسيرًا حتى نزلت)، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: ({مُصَلًّى}) [البقرة: 125]؛ أي: مدعى يدعى عنده، مأخوذ من صليت؛ بمعنى: دعوت، قاله مجاهد، وقال الحسن: قبلة، وقال السدي وقتادة: أمروا أن يصلوا عنده، وقال الإمام الزمخشري في «تفسيره»: (موضع صلاة يصلون فيه)، وتبعه البرماوي وغيره.
قال إمام الشَّارحين: (ولا شك أن من صلى إلى الكعبة من غير الجهات الثلاث التي لا تقابل مقام إبراهيم؛ فقد أدى فرضه، فالفرض إذًا البيت لا المقام، وقد صلى الشَّارع خارجها، وقال: «هذه القبلة»، ولم يستقبل المقام حين صلى داخلها، ثم استقبل المقام، فإن المقام إنَّما يكون قبلة إذا جعله المصلي بينه وبين القبلة) انتهى.
قلت: وهذا يرجح القول الأول، ويضعف غيره، ويدل عليه أنه جار على المعنى اللغوي؛ فتأمل.
==========
[1] {إذ} سقط من الأصل.
[2] في الأصل: (وضعته)، وليس بصحيح.
==================
[1] {إذ} سقط من الأصل.
[1] {إذ} سقط من الأصل.
(1/668)
[حديث: قدم النبي فطاف بالبيت سبعًا وصلى خلف المقام]
395# 396# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا الحُمَيْدي)؛ بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وسكون التحتية: هو عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي أبو بكر المكي، ونسبته إلى بطن من قريش، يقال له: حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عيينة المكي (قال: حدثنا عَمْرو) بفتح العين المهملة، وسكون الميم (بن دينار) هو المكي (قال: سألنا ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما (عن رجل)؛ يعني: عمن فعل هذا، وليس المراد رجل معين، بل جعله مثلًا لأجل تعلم الحكم فيه (طاف بالبيت) أي: الكعبة (للعمرة)؛ باللام كذا هو رواية الأكثرين؛ أي: لأجل العمرة، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (طاف بالبيت العمرةَ)؛ بحذف اللام، وبالنصب، ولا بد من تقدير اللام؛ لأنَّ المعنى لا يصح بدونه؛ فافهم، أفاده إمام الشَّارحين.
قلت: ورواية النصب على حذف مضاف؛ أي: طواف العمرة، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
(ولم يطف) أي: لم يسع (بين الصفا والمروة): فأطلق الطواف على السعي؛ إما لأنَّ السعي نوع من الطواف، وإما للمشاكلة، ولوقوعه في مصاحبة طواف بالبيت، قاله إمام الشَّارحين، ويجوز في (الصفا والمروة) الصرف وعدمه، فإن أريد المكان؛ انصرف، وإن أريد به العلمية والتأنيث؛ منع؛ لأنَّ (الصفا): اسم امرأة، و (المروة) كذلك، قيل: إنه جلس عليهما امرأة مسماة بهذا الاسم، وقيل: إنَّهما امرأتان مسختا ووضعتا في ذلك المكان؛ لأنَّهما علمان على جبلين بمكة؛ فافهم.
(أيأتي امرأته): الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستفسار؛ أي: أيجوز له الجماع؛ يعني: أحصل له التحلل من الإحرام قبل السعي بين الصفا والمروة أم لا؟ (فقال)؛ أي: عبد الله بن عمر في الجواب عن ذلك: (قدِم) بكسر الدال المهملة (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: مكة إلى الحرم، (فطاف بالبيت)؛ أي: حول الكعبة (سبعًا) أي: سبعة أشواط، (وصلَّى خلف المقام) أي: وراء مقام إبراهيم عليه السَّلام (ركعتين)؛ بالتثنية، وهذا موضع مطابقة الحديث للترجمة، كما لا يخفى، قيل: كان إبراهيم يبني الكعبة، وإسماعيل يناوله الحجارة، فلما ارتفع البناء وضعف عن رفع الحجارة إليه؛ قام على حجر، فهو مقام إبراهيم، قاله ابن عباس رضي الله عنه، (وطاف بين الصفا والمروة)؛ بالصرف وعدمه؛ يعني: سعى، فأطلق الطواف وأراد السعي سبع أشواط، فأجاب ابن عمر بالإشارة إلى وجوب اتباع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، لا سيما في أمر المناسك؛ لقوله عليه السَّلام: «خذوا عني مناسككم»، والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لم يتحلل قبل السعي، فيجب التأسِّي به، وهو معنى قوله: (وقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة): والأُسوة؛ بضم الهمزة وكسرها؛ أي: قدوة.
قال عمرو بن دينار: (وسألنا جابر بن عبد الله)؛ أي: الأنصاري عن هذا الحكم، قال إمام الشَّارحين: (ولا يدخل هذا الحديث في مسند جابر؛ لأنَّه لم يرفعه، وإنما هو من مسند ابن عمر؛ فافهم) انتهى.
(فقال) أي: جابر في الجواب عن ذلك: (لا يقربنَّها) جملة فعلية مضارعة مؤكدة بالنون الثقيلة، وهذا جواب جابر بن عبد الله بصريح النهي عنه (حتى يطوف)؛ أي: إلى أن يطوف؛ يعني: يسعى (بين الصفا والمروة) وإنما خص إتيان المرأة بالذكر وإن كان الحكم سواء في جميع المحرمات؛ لأنَّ إتيان المرأة من أعظم المحرمات.
وفي الحديث: أن السعي في العمرة واجب، وهو مذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عياض عن ابن عباس: أنه أجاز التحلل بعد الطواف وإن لم يسع، وهو ضعيف ومخالف للسنة.
وفيه: أن الطواف لا بد فيه من سبعة أشواط.
وفيه: الصلاة ركعتين خلف المقام، فقيل: إنها سنة، وقيل: واجبة، وقيل: تابعة للطواف، فإن كان الطواف سنة؛ فالصلاة سنة، وإن كان واجبًا؛ فالصلاة واجبة، كذا قرره إمام الشَّارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الكريم الباري، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله.
%ص 525%
==================
(1/669)
[حديث: أصلى النبي في الكعبة]
397# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُسدد)؛ بضم الميم: هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا يحيى): هو ابن سعيد القطان البصري، (عن سَيْف)؛ بفتح السين المهملة، وسكون التحتية، آخره فاء، زاد ابن عساكر في روايته: (يعني: ابن أبي سليمان)، كما في «الفرع»، ويقال: ابن سليمان المخزومي المكي، ثبت صدوق، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة (قال: سمعت مجاهدًا): هو الإمام المفسر المشهور (قال): جملة فعلية محلها النصب، إما على الحال، وإما على أنها مفعول ثان [1] لـ (سمعت) على قولين مشهورين: (أُتِي) بضم الهمزة على صيغة المجهول (ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما، (فقيل له): قال إمام الشَّارحين: (لم يعلم اسم هذا القائل): (هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخل الكعبة)؛ أي: لأجل الصلاة فيها، (فقال ابن عمر: فأقبلت)؛ أي: حين قال لي هذا القائل: رسول الله دخل الكعبة؛ بادرت لأرى ما يفعل فيها؟ فأقبلت (والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قد خرج)؛ أي: من الكعبة، وكأنه وقع مهلة طويلة بين الكلامين، فلم يدرك ابن عمر النبيَّ الأعظم داخل الكعبة، (وأَجدُ)؛ بفتح الهمزة على صيغة المتكلم وحده، من المضارع، وكان المناسب أن يقول: ووجدت، بعد قوله: (فأقبلت)، لكنه عدل عن الماضي إلى المضارع حكاية عن الحال الماضية، واستحقارًا لتلك الصورة، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني: حتى كأن المخاطب يشاهد هذه الصورة.
(بلالًا): هو المؤذن الصحابي الجليل، وهو منصوب؛ لأنَّه مفعول (أجد)، وقوله: (قائمًا) منصوب؛ لأنَّه حال من (بلال) (بين البابين)؛ أي: مصراعي الباب؛ لأنَّ الكعبة لم يكن لها حينئذٍ إلا باب واحد، وأطلق ذلك باعتبار ما كان من البابين لها زمن إبراهيم الخليل عليه السَّلام، أو أنه كان في زمان رواية الراوي لها بابان؛ لأنَّ ابن الزبير رضي الله عنه جعل لها بابين، قاله الكرماني، وارتضاه الشَّارح.
وزعم ابن حجر (بين البابين)؛ أي: المصراعين، وحمله الكرماني على حقيقة التثنية، وقال: أراد بالباب الثاني: الباب الذي لم تفتحه قريش حين بنت الكعبة، وهذا يلزم منه أن يكون ابن عمر وجد بلالًا في وسط الكعبة، وفيه بعد.
قلت: فلقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر حتى زعم هذا الكلام، ولهذا ردَّه إمام الشَّارحين، فقال: الكرماني فسر قوله: (بين البابين) بثلاثة أوجه، فأخذ هذا القائل الوجه الأول من تفسيره، ولم يعزه إليه، ثم نسبه لنفسه، ونسب إليه ما لم تشهد به عبارته؛ لأنَّ عبارة الكرماني ما ذكرناه.
وقوله: (وهذا يلزم منه ... ) إلى آخره: ممنوع، فإن هذه الملازمة ممنوعة؛ لأنَّ عبارة الكرماني لا تقتضي ذلك.
وقوله: (وفيه بُعد): ممنوع، وليس فيه بُعد، بل البُعد في الذي اختاره من التفسير، وهو ظاهر لا يخفى، وفي رواية الحموي: (وأجد بلالًا قائمًا بين الناس)؛ بالنون والسين بدل (البابين) انتهى كلامه.
قلت: وكلام ابن حجر ليس بشيء؛ لأنَّ الملازمة المذكورة ممنوعة كما يعلم من عبارته، وليس فيه بُعد؛ لأنَّه ما المانع من أن يكون وجد بلالًا داخل الكعبة واقفًا بين مصراعي الباب؟ ولا مانع منه، بل هو ظاهر كلام ابن عمر؛ فافهم.
(فسألت بلالًا)؛ أي: المؤذن (فقلت) أي: لبلال: (أصلَّى)؛ بهمزة الاستفهام، ولأبي ذر والأصيلي: (صلى)؛ بإسقاطها (النبيُّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم في الكعبة؟)؛ يعني: داخل البيت؛ لأنَّ كلمة (في) للظرفية، (قال) أي: بلال: (نعم؛ ركعتين)؛ أي: نعم؛ صلى ركعتين (بين الساريتين)؛ بالسين المهملة، تنثية سارية؛ وهي الأُسطوانة، وجامع هذه الأوراق منسوب إلى بلدة أسطوان؛ لأنَّ أصله منها، وسمي جدي بالأسطواني؛ لأنَّه كان كالسارية في العلم، وإنما هو أنصاري من ذرية أبي أيوب الأنصاري، وحسيني من ذرية الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، كما بينت ذلك في كتاب سميته: «إنجاء الغريق المخزون»؛ فارجع إليه، فإنه نفيس جدًّا، والله أعلم.
(اللتين على يساره) الضمير فيه يرجع إلى الداخل بقرينة قوله: (إذا دخلت) ولأبي ذر عن الكشميهني: (يسارك)؛ بالكاف، وهذا هو المناسب، أو كان يقول: إذا دخل، ووجه الأول أن يكون من الالتفات، أو يكون الضمير فيه عائدًا إلى البيت، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(ثم خرج)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من البيت (فصلى) أيضًا (في وجه الكعبة)؛ أي: مواجه باب الكعبة؛ وهو مقام إبراهيم عليه السَّلام، أو يكون المعنى: في جهة الكعبة، فيكون أعم من جهة الباب (ركعتين) مقول قوله: (صلى)، ومطابقته للترجمة في قوله: (فصلى في وجه الكعبة)؛ أي: مواجه باب الكعبة؛ وهو مقام إبراهيم عليه السَّلام، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (وفي الحديث: جواز الدخول في البيت)، وفي «المغني»: ويستحب لمن حج أن يدخل البيت، ويصلي فيه ركعتين، كما فعل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يدخل البيت بنعليه، ولا خفيه، ولا يدخل الحجر أيضًا؛ لأنَّ الحجر من البيت.
وفيه: استحباب الصلاة بركعتين في البيت؛ فإن بلالًا أخبر في هذا الحديث: أنه عليه السَّلام صلى فيه ركعتين، وزعم النووي أن أهل الحديث أجمعوا على الأخذ به، وأنه بلال؛ لأنَّه مثبت ومعه زيادة علم؛ فوجب ترجيحه، وأمَّا نفي من نفى كأسامة؛ فسببه أنَّهم لما دخلوا البيت، وأغلقوا الباب، واشتغلوا بالدعاء؛ فرأى أسامة النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو، فاشتغل هو أيضًا بالدعاء في ناحية من نواحي البيت، والرسول عليه السَّلام في ناحية أخرى، وبلال قريب منه،
%ص 526%
ثم صلى عليه السَّلام، فرآه بلال؛ لقربه، ولم يره أسامة؛ لبعده مع خفة الصلاة، وإغلاق الباب، واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملًا بظنه، وقال بعض العلماء: يحتمل أنه عليه السَّلام دخل البيت مرتين، فمرة صلى فيه، ومرة دعا ولم يصل، فلم تتضاد الأخبار، وأيده إمام الشَّارحين بما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم البيت فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين، ثم قال: «هذه القبلة»، ثم دخل مرة أخرى، فقام فيه يدعو، ثم خرج ولم يصل) انتهى.
قلت: فهذه الرواية تدل على تعدد دخول البيت، كما لا يخفى.
قال الشَّارح: فإن قلت: روى الطبراني من حديث ابن عباس قال: ما أحب أن أصلي في الكعبة، من صلى فيها؛ فقد ترك شيئًا خلفه، ولكن حدثني أخي: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين دخلها؛ تأخر بين العمودين ساجدًا، ثم قعد فدعا ولم يصل؟
قلت: هذان نفي وإثبات في روايتين، فرواية الإثبات مقدمة على النفي، كما ذكرنا، وكيف وقد صرح بلال في هذا الحديث المذكور بقوله: (نعم ركعتين).
فإن قلت: قال الإسماعيلي: المشهور عن ابن عمر من طريق نافع وغيره عنه أنه قال: (ونسيت أن أسأله كم صلى؟)، فدل على أنه أخبره بالكيفية، وهي تعين الموقف في الكعبة، ولم يخبره بالكمية، ونسي هو أن يسأله عنها.
قلت: أجيب: بأن المراد من قوله: (صلى): الصلاة المعهودة، وأقلها ركعتان؛ لأنَّه لم ينقل عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه تنفل في النهار بأقل من ركعتين، فكانت الركعتان متحققًا وقوعهما، وأصرح من هذا ما رواه عمر بن شبة [2] في كتاب «مكة» من طريق عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر في هذا الحديث: (فاستقبلني بلال، فقلت: ما صنع رسول الله عليه السَّلام ههنا؟ فأشار بيده أن صلى ركعتين بالسبابة والوسطى)، فعلى هذا؛ يحمل قوله: (نسيت أن أسأله كم صلى؟) على أنه لم يسأله باللفظ، ولم يجبه، وإنما استبعد [3] منه صلاته الركعتين بالإشارة لا بالنطق، وقد قيل: يجمع بين الحديثين بأن ابن عمر نسي أن يسأل بلالًا، ثم لقيه مرة أخرى فسأله.
وزعم ابن حجر أن فيه نظرًا [4] من وجهين؛ أحدهما: أن القصة لم تتعدد؛ لأنَّه أتى في السؤال بالفاء المعقبة في الروايتين معًا، فقال في هذه: (فأقبلت)، ثم قال: (فسألت بلالًا)، وقال في الأخرى: (فبدرت فسألت بلالًا)، فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدًا في وقت واحد، وثانيهما: أن راوي قول ابن عمر: (ونسيت): هو نافع مولاه، ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمر على حكاية النسيان، ولا يتعرض لحكاية الذكر أصلًا.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: في نظره نظر من وجوه:
الأول: أن قوله: (إن القصة لم تتعدد): دعوى بلا برهان، فما المانع من تعددها؟
والثاني: أنه علل على ذلك بالفاء؛ لكونها للتعقيب، ولقائل أن يقول له: فلم لا يجوز أن تكون الفاء ههنا بمعنى «ثم»؛ كما في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً}، وفي {فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ}، وفي {فَكَسَوْنَا} [المؤمنون: 14] بمعنى (ثم)؛ لتراخي معطوفاتها، وتارة تكون بمعنى (الواو)؛ كما في قوله:
~ ... بين الدخول فحومل
ولئن سلمنا أنها للتعقيب؛ فهو في كل شيء بحسبه، ألا ترى أنه يقال: تزوج فلان فولد له؛ إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل وإن كانت مدة متطاولة، ودخلت البصرة فبغداد؛ إذا لم يقم في البصرة، ولا بين البلدين.
والثالث: أن قوله: (ويبعد مع طول ملازمته ... ) إلى آخره: غير بعيد، فإن الإنسان مأخوذ من النسيان، انتهى.
قلت: ولقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر حتى زعم هذا الكلام، وهو ليس بشيء، فإن قوله: (إن القصة لم تتعدد): دعوى نفي، وهي غير مقبولة، ودعوى التعدد إثبات، وهو مقدم على النفي عند المحققين، ويدل للإثبات _أي: إثبات تعدد القصة_ ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس الذي قدمناه قريبًا، فإنه صريح في تعدد القصة، وكذلك ما رواه الطبراني، وكأنَّ ابن حجر لم يفهم معناه، فقال ما قال، وما زعمه من قوله: (فدل على أن السؤال كان واحدًا في وقت واحد): ممنوع؛ لأنَّ الفاء ليست للتعقيب عند المحققين، بل هي ههنا بمعنى (ثم) التي للتراخي؛ لأنَّ قوله: (فأقبلت والنبيُّ عليه السَّلام قد خرج) يدل على أنه وقع مهلة ومدة طويلة بين الكلامين، فلم يدرك ابن عمر النبيَّ عليه السَّلام داخل الكعبة، وما ذاك إلا من وجود التراخي؛ فليحفظ.
فدل ذلك على أن السؤال كان متعددًا، والوقت متعدد؛ فافهم.
وقوله: (وثانيهما ... ) إلى آخره: ممنوع أيضًا، وغير بعيد؛ لأنَّ الإنسان محل للنسيان، وما سمي الإنسان به إلا لأنَّه عهد إليه فنسي، وهو ليس بمعصوم من النسيان؛ لأنَّ العصمة لا تكون إلا للأنبياء عليهم السلام عند المحققين، خلافًا لفرقة ضالة زعمت أنها تكون لغير الأنبياء، وهو باطل، فلله در إمامنا الشَّارح؛ حيث لم يرض بهذا الكلام؛ لأنَّه يمجه كل من له أدنى ذوق في العلم، والله أعلم.
وقال القاضي عياض: إن قوله: (ركعتين): غلط من يحيى بن سعيد القطان؛ لأنَّ ابن عمر قال: (قد نسيت أن أسأله كم صلى؟)، وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (لم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتى يغلط، فقد تابعه أبو نعيم عند البخاري والنسائي، وأبو عاصم عند ابن خزيمة، وعمر بن علي عند الإسماعيلي، وعبد الله بن نمير عند أحمد عنه؛ كلهم عن سيف، ولم ينفرد به سيف أيضًا، فقد تابعه عليه حصيف عن مجاهد عند أحمد، ولم ينفرد به مجاهد عن ابن عمر، فقد تابعه عليه ابن أبي مليكة عند أحمد والنسائي، وعمرو بن دينار عند أحمد أيضًا باختصار من حديث عثمان بن طلحة عند أحمد
%ص 527%
والطبراني بإسناد قوي، ومن حديث أبي هريرة عند البزار، ومن حديث عبد الرحمن بن صفوان قال: (فلما خرج؛ سألت من كان معه، فقالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى) أخرجه الطبراني بإسناد صحيح، ومن حديث شيبة بن عثمان قال: (لقد صلى ركعتين عند العمودين) أخرجه الطبراني بإسناد جيد، فإذا كان الأمر كذلك؛ فكيف يُقْدِم عياض على تغليط حافظ جهبذ من غير تأمل في بابه، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ولا حجة في هذا الحديث لمن يقول: الأولى في نفل النهار ركعتان؛ لأنَّ هذه الصلاة قد وردت على سبب وهو دخول البيت المعظم؛ لأنَّ عادة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الصلاة في نفل النهار والليل المطلق أربعًا أربعًا [5]، يدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما حين بات عند خالته يرقب صلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفيه: (كان يصلي أربعًا، لا تسأل عن حسنهن وطولهن)، ولهذا قال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: الأفصل في نفل النهار والليل الأربع؛ لهذا الحديث، وهو حجة على الشافعي في قوله: الأفضل في النوافل مثنى مثنى في الليل والنهار، وهو قول مالك، وأحمد، والإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ فافهم.
وزعم ابن جرير الطبري أنَّ الصلاة في الكعبة فرضًا كانت أو نفلًا غير صحيحة، وهذا الحديث حجة قوية، ومحجة مستقيمة عليه؛ حيث صلى في الكعبة النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وصلاته كانت ذات ركوع وسجود، كما دل عليه صريح هذا الحديث، ولهذا قال الإمام الأعظم وأصحابه: يجوز صلاة الفرض والنفل في الكعبة، وبه قال الشافعي، وزعم أصحاب مالك من صلى على ظهر البيت؛ أعاد أبدًا، وقال مالك: لا يُصلَّى فيه الفريضة ولا ركعتا الطواف الواجب، فإن صلى؛ أعاد في الوقت، ويجوز أن يصلي فيه النافلة، والحديث بإطلاقه حجة عليه؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (شبيه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (استعبد)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (أربع أريع)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (شبيه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (استعبد)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (شبيه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (استعبد)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
(1/670)
[حديث: لما دخل النبي البيت دعا في نواحيه كلها]
398# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق ابن نصر): نسبه لجده هنا، وفي غير هذا المحل نسبه لأبيه؛ تفنُّنًا للعلم به، فهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر أبو إبراهيم السغدي المدني، هكذا وقع منسوبًا في الروايات كلها، وبه جزم الإسماعيلي، وأبو نعيم، وأبو مسعود، وغيرهم، وذكر أبو العباس في «الأطراف»: أن المؤلف أخرجه عن إسحاق غير منسوب، وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في «مستخرجيهما» من طريق إسحاق ابن راهويه، عن عبد الرزاق شيخ إسحاق ابن نصر فيه، بإسناده هذا، فجعله من رواية ابن عباس عن أسامة بن زيد، وكذلك رواه مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج، وهو الأرجح.
قلت: وهذا يدل على أنَّ هذا الحديث من مراسيل ابن عباس، وأيضًا لم يثبت أن ابن عباس دخل الكعبة مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(قال: حدثنا عبد الرزاق): هو ابن همَّام _بالتشديد_ الصنعاني (قال: أخبرنا): وللأصيلي وأبي الوقت: (حدثنا) (ابن جريج): نسبه لجده؛ لشهرته به، واسمه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الكوفي، (عن عطاء)؛ بالمد: هو ابن أبي رَباح المكي (قال: سمعت ابن عباس): هو عبد الله حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن، وأخرجه مسلم، وفيه قصة، ورواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أسامة، ولم يذكر ابن عباس (قال): جملة فعلية محلها نصب على الحال، أو على أنها مفعول ثان لـ (سمعت) على قولين مشهورين: (لما دخل النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم البيت) أي: الكعبة المشرفة؛ (دعا) الله تعالى (في نواحيه كلها): جمع ناحية؛ وهي الجهة، (ولم يصل) أي: في البيت (حتى) أي: إلى أن (خرج منه) ورواية بلال المثبت صلاته في البيت أرجح من نفي ابن عباس هذا، لا سيما أن ابن عباس لم يدخل، وعلى هذا؛ فيكون مرسلًا؛ لأنَّه أسنده عن غيره ممن دخل مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الكعبة، فهو مرسل صحابي، (فلما خرج) عليه السَّلام من البيت؛ (ركع) يعني: صلى (ركعتين): فأطلق الجزء وأراد به الكل (في قُبُل الكعبة)؛ بضم القاف والباء الموحدة، وقد تسكن الموحدة؛ أي: مقابلها، وما استقبلك منها؛ وهو وجهها (وقال) عليه السَّلام: (هذه)؛ أي: الكعبة هي (القِبْلة)؛ بكسر القاف، وسكون الموحدة؛ معناه: أن أمر القِبلة قد استقر على استقبال هذا البيت، فلا ينسخ بعد اليوم، فصلوا إليه أبدًا، قاله الخطابي، ويحتمل أن معناه: أنه علمهم سنة موقف الإمام، فإنه يقف في وجهها دون أركانها وجوانبها الثلاثة وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزئة، ويحتمل أنه دل بهذا القول على أن حكم من شاهد البيت وعاينه خلاف حكم الغائب عنه فيما يلزمه من مواجهته عيانًا دون الاقتصار على الاجتهاد، وذلك فائدة ما قال: «هذه القِبلة» وإن كانوا قد عرفوها قديمًا، وأحاطوا بها علمًا، قاله إمام الشَّارحين، ويحتمل أن معناه: هذه الكعبة هي المسجد الحرام أمرتم باستقباله لا كل الحرم، ولا مكة، ولا المسجد الذي هو حول الكعبة، بل هي الكعبة نفسها فقط، قاله النووي.
قلت: وكلامه مضطرب الأول والآخر، وكان حقه أن يقول: معناه: هذه القِبلة هي الكعبة نفسها لا غيرها؛ كالحرم ومكة والمسجد الذي حول الكعبة، بل الكعبة نفسها الذي استقر الأمر على استقبالها؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: روى البزار من حديث عبد الله بن حبشي [1] الخثعمي قال: رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي إلى باب الكعبة، وهو يقول: «أيها الناس؛ إنَّ الباب قبلة البيت».
قلت: هذا محمول على الندب؛ لقيام الإجماع على جواز استقبال البيت من جميع جهاته كما أشرنا إليه، ووجه التوفيق بين هذه الرواية والتي قبلها قد سبق مستوفًى، والله أعلم) انتهى.
قلت: وقد تقدم ذلك أول الباب،
%ص 528%
ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (في قبل الكعبة)؛ والمراد: مقابل الكعبة؛ وهو مقام إبراهيم عليه السَّلام، والله تعالى أعلم.
==================
(1/671)
(31) [باب التوجه نحو القبلة حيث كان]
هذا (باب) بيان حكم (التوجه نحو)؛ أي: إلى جهة (القِبْلة)؛ أي: الكعبة (حيث كان)؛ أي: حيث كان المصلي؛ أي: حيث وجد في سفر أو حضر، و (كان): تامة؛ فلذلك اقتصر على اسمها، والمراد به: في صلاة الفرض؛ لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، والمناسبة بين البابين ظاهرة، (وقال أبو هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه: (قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: استقبِلِ القِبْلة)؛ بكسر اللام، وكسر القاف، وسكون الموحدة؛ أي: توجه إليها حيث كنت، (وكبِّر)؛ بكسر الموحدة فيها على الأمر، (وكبِّر)؛ بالواو، وفي رواية الأربعة: (فكبِّر)؛ بالفاء، وللأصيلي: (قام النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم استقبَل، فكبَّر)؛ بالماضي [1]، وفتح الموحدة فيهما، وهذا التعليق طرف من حديث المسيء صلاته رواه المؤلف في (الاستئذان)، ولفظه هناك: (ثم استقبل القبلة، فكبر)، وتمامه هناك؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (بالميم)، والمثب موافق لما في هامش «اليونينية» من رواية الأصيلي.
%ص 529%
==================
(1/672)
[حديث: كان رسول الله صلى نحو بيت المقدس ستة عشر]
399# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن رجَاء)؛ بالمد مع تخفيف الجيم: هو البصري الغُداني؛ بضم الغين المعجمة (قال: حدثنا) وللأربعة: (حدثني)؛ بالإفراد (إسرائيل): هو ابن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، (عن) جده (أبي إسحاق): هو عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي الهمداني التابعي، لا يقال: إنه مدلس؛ لأنَّا نقول: إن المؤلف ساقه في (التفسير) من طريق الثوري بلفظ: (عن أبي إسحاق: سمعت البراء) (عن البَراء)؛ بفتح الموحدة، والراء المخففة (بن عازب): هو أبو عمرو أو أبو عامر الأنصاري الأوسي، المتوفى بالكوفة سنة اثنتين وسبعين، الصحابي الجليل رضي الله عنه، وسقط: (ابن عازب) للأصيلي، (قال: كان رسول الله): وللأصيلي: (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): إفادة (كان) الدوام والاستمرار (صلَّى نحو) أي: جهة (بيت المَقْدس)؛ بفتح الميم، وسكون القاف، مصدر ميمي؛ كالمرجع، وذلك بالمدينة المنورة (ستة عشر شهرًا): من الهجرة على الأصح، كذا زعمه النووي، (أو سبعة عشر شهرًا): هو الصحيح، وهو قول أبي إسحاق، وابن المسيب، ومالك بن أنس، والشك من البراء، وكذا وقع الشك عند المؤلف في رواية زهير وأبي نعيم، ورواه أبو عوانة في «صحيحه» من رواية أبي نعيم، فقال: (ستة عشر شهرًا) من غير شك، وكذا في رواية مسلم من رواية الأحوص، والنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة، ووقع في رواية أحمد والطبراني عن ابن عباس: (سبعة عشر شهرًا)، كذا قاله الشَّارح، ثم قال: والجمع بينهما أن من جزم بـ (ستة عشر)؛ أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بـ (سبعة عشر شهرًا)؛ عدهما معًا، ومن شك؛ تردد فيهما، وذلك أن قدومه عليه السَّلام المدينة كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف رجب في السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقال ابن حبان: (سبعة عشر شهرًا، وثلاثة أيام)، وهو مبني على أنَّ القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول، وقال ابن حبيب: (كان التحويل في نصف شعبان)، وهو الذي نقله النووي وأقره، ورجح في «شرح مسلم» رواية: (ستة عشر شهرًا)؛ لكونها مجزومًا بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان، إلا إن ألغي شهرا القدوم والتحويل؛ فافهم.
وجاءت فيه روايات أخرى، ففي «سنن أبي داود» و «ابن ماجه»: (ثمانية عشر شهرًا)، وزعم الطبري (ثلاثة عشر شهرًا)، وفي رواية: (سنتين)، وأغرب منهما: (تسعة أشهر، وعشرة أشهر)، وهما شاذتان، انتهى.
وزعم الطبري أن صلاته عليه السَّلام كذلك كانت بأمر الله تعالى له، انتهى.
قلت: ويحتمل أنها كانت عن اجتهاد منه عليه السَّلام، وفي حديث الطبري من طريق ابن جريج قال: (أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة)، وفي حديث ابن عباس عند أحمد من وجه آخر: (أنه عليه السَّلام كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه).
قلت: ويجمع بينهما بحمل صلاته في المدينة على الاستمرار باستقبال بيت المقدس، كذا قيل، وفيه نظر، وقد صرح في حديث الطبري بطريق الجمع بين حديث الباب وحديث ابن عباس؛ فافهم.
(وكان رسول الله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحب أن يُوجَه)؛ بضم أوله، وفتح الجيم، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يؤمر بالتوجه (إلى الكعبة) وفي حديث ابن عباس عند الطبري: (وكان يدعو وينظر إلى السماء).
قلت: روي: أنه عليه السَّلام قال لجبريل: «وددت لو أن الله يصرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها»، فقال: إنَّما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربك، فادع ربك وسله، ثم ارتفع جبريل، وجعل عليه السَّلام يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي يسأل ربه، (فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ})؛ أي: تردد وجهك في جهة السماء؛ تطلُّعًا للوحي، وقيل: معناه: تحول وجهك إلى السماء، فيكون قوله: {فِي السَّمَاءِ} متعلقًا بقوله: {تَقَلُّبَ}؛ بتقدير: في النظر إلى السماء، وكان الظاهر أن يقول: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، إلا أن تقلب الوجه لمَّا كان أبلغ في انتظار الوحي؛ كان ما عليه النظم أبلغ، وكلمة (قد): للتكثير؛ ومعناها: كثرة الرؤية؛ لأجل طلب مقصوده، قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 144]: اصرفه شطر المسجد الحرام؛ أي: نحوه، والمراد به: الكعبة، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة؛ لأنَّه عليه السَّلام كان في المدينة، والبعيد عنها يكفيه مراعاة الجهة، (فتوجه) عليه السَّلام بعد نزول الآية (نحو الكعبة)؛ أي: جهتها، وإنما كان يحب أن يوجه إليها؛ لأنَّها قبلة أبيه إبراهيم، وأسبق القبلتين بالنسبة إلى أهل الإسلام، ولأنها أدعى للعرب إلى الإيمان؛ لأنَّها كانت مفخرةً لهم، وأمنًا، ومزارًا، ومطافًا، ولأجل مخالفة اليهود؛ لأنَّهم كانوا يقولون: إنه يخالفنا في ديننا، ثم يتبع قبلتنا، ولولا نحن؛ لم يدر أين يستقبل؟ فعند ذلك كره عليه السَّلام أن يوجه إلى قبلتهم، فحقق الله تعالى رجاءه صلَّى الله عليه وسلَّم.
(وقال السفهاء من الناس) ونزول آية: {قَدْ نَرَى} متقدمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 142]، ذكره القرطبي (وهم اليهود): هذا تفسير من البراء بن عازب، ومثله روي عن ابن عباس رضي الله عنهم، وقال الحسن: (هم مشركو العرب)، وقال السدي: (هم المنافقون)، ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ لأنَّ كل واحد منهم من هؤلاء الفرق سفهاء طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فالظاهر إبقاء اللفظ على عمومه، وقد وصف الله تعالى هؤلاء الفرق بالسفاهة في قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ
%ص 529%
عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]؛ أي: أذلها بالجهل والإعراض عن النظر، فإنه لا شك أن كل فرقة منهم راغبون عن ملة إبراهيم، فيكونون سفهاء، فكأنه قال: هؤلاء الراغبون عن ملة إبراهيم قالوا عند إيجاب التوجه إلى الكعبة: ({مَا وَلاَّهُمْ})؛ أي: ما حولهم وصرفهم ({عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا})؛ أي: التي كانوا على التوجه إليها، وهي بيت المقدس، وكلمة (ما) في {مَا وَلاَّهُمْ}: استفهامية مرفوعة المحل على الابتداء، و {وَلاَّهُمْ}: خبره، والجملة في موضع النصب بالقول، يقال: تولى عن ذلك؛ أي: انصرف، وولاه غيره؛ أي: صرفه، والقِبْلة: فعلة، وقد اشتهر أن الفِعلة: للمرة، والفَعلة: للحال؛ كالجِلسة والقَعدة، نقله في عرف الشرع إلى الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة، وسميت قِبْلة؛ لأنَّ المصلي يقابلها وهي تقابله؛ فافهم.
وإنما قال اليهود ذلك؛ بناءً على أنَّهم لا يرون نسخ الشرائع والأحكام، لما زعموا أن نسخها بمعنى البداء، والرجوع عنها بداء، وذلك محال في حق الله تعالى؛ لعلمه بعواقب الأمور، والبداء والرجوع في الشاهد مبني على الجهل بالعواقب؛ كمن بنى بناء، ثم نقضه بما يبدوويظهر له أنه مخطئ وغالط في الفَرض الذي بنى بناءه عليه، واليهود إنَّما قالوا ذلك _وذهبوا إلى امتناع أن ينسخ الله حكمًا مما شرعه أولًا_؛ لجهلهم بتفسير النسخ وحده، ولو عرفوه؛ لما نفوه، فإن النسخ عبارة عن انتهاء الحكم إلى وقت معين؛ لانتهاء المصلحة التي شرع الحكم لها، وبيان حكم جديد لمصلحة أخرى في وقت آخر مع بقاء الحكم الأول مشروعًا، ومصلحة وقت كونه مشروعًا وليس فيه ما فهمته اليهود، وأمَّا المشركون والمنافقون؛ فإنما قالوا ذلك من حيث إنهم أعداء الدين، والأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالًا؛ لم يتركوا مقالًا، فمنهم من يقول: ما بالهم كانوا على قبلة، ثم تركوها مع أن الجهات لمَّا كانت متساوية في جميع الصفات؛ كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى مجرد عبث، فلا يكون ذلك من فعل الحكيم؟ وقال المنافقون: اشتاق الرجل إلى بلد أبيه ومولده؛ فلذلك توجه إليه، وقال آخرون: تحير في دينه؛ حيث لم يثبت على دين، وقال ابن عباس: لمَّا حولت القبلة؛ جاءت جماعة من اليهود، وقالوا: يا محمد؛ ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها؟ فكن على بيت المقدس؛ نتبعك ونصدقك، وأرادوا بذلك فتنة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فسماهم الله تعالى: سفهاء؛ لأنَّهم كانوا نوافل إبراهيم والكعبة بناؤه، وقبلة إسماعيل، ومع ذلك رغبوا عنها قبل، كان موسى عليه السَّلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، فهي قبلة الأنبياء كلهم عليهم السلام.
({قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ})؛ يعني: أن الأمكنة كلها والنواحي بأسرها لله تعالى ملكًا وتصريفًا، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة حتى يمتنع إقامة غيره مقامه، وشيء من الجهات إنَّما يصير قبلة لمجرد أن الله تعالى أمر بالتوجه إليه، فله أن يأمر كل وقت بالتوجه إلى جهة من تلك الجهات على حسب الألوهية ونفوذ قدرته ومشيئته {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، ولعل الوجه في التعبير عن جميع النواحي والأطراف بالمشرق والمغرب أن الشمس بحسب اختلاف حركاتها، وتبدل مطالعها ومغاربها متناولة لأكثر النواحي والجهات، فأقيم الأكثر مقام الكل، كذا قيل، فاتبع اليهود هوى أنفسهم، واستقبلوا المغرب، واتخذوها قبلة، وزعموا أن موسى عليه السَّلام كان في المغرب حينما أكرمه الله تعالى بوحيه وكلامه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص: 44]، واتبع النصارى هوى أنفسهم أيضًا، واستقبلوا المشرق، واتخذوا جهته قبلة، وزعموا أن مريم حين خرجت من بلدها؛ مالت إلى الشرق، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16]، والمؤمنون استقبلوا الكعبة؛ طاعة لله تعالى وامتثالًا لأمره، لا ترجيحًا لبعض الجهات المتساوية على بعض بمجرد رأيهم واجتهادهم مع أنها قبلة خليل الله تعالى ورسوله، ومولد حبيبه عليه السَّلام.
({يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}) [البقرة: 142]: وهو توجه العباد إلى الجهة التي أمر الله بالتوجه إليها، ووجه استقامته كونه مشتملًا على الحكمة والمصلحة موافقًا لما هداهم الله إليه بأن أمرهم بذلك، وأوجبه عليهم؛ فافهم.
(فصلى)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة العصر؛ لقول البراء بن عازب في باب (الصلاة من الإيمان): (وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر ... )؛ الحديث، وصلى (مع النبيِّ) الأعظم) (صلَّى الله عليه وسلَّم رجل) اسمه عباد بن نَهِيك _بفتح النون، وكسر الهاء_ قاله أبو عمرو، أو عباد بن بشر بن قيظي، قاله ابن بشكوال، وفي رواية باب (الصلاة من الإيمان): (وصلى معه قوم) (ثم خرج) أي: الرجل (بعدما صلى) وكلمة (ما) إما مصدرية أو موصولة؛ أي: بعد صلاته أو بعد الذي صلى؛ أي: انصرف من صلاته، واستقبال القبلة، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (فصلى مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رجال)؛ بالجمع.
قال الكرماني: (فصلى): هذه الرواية يرجع الضمير في قوله: (ثم خرج) إلى ما دل عليه (رجال)، وهو مفرد، أو معناه: ثم خرج خارج.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (بل معناه على هذه الرواية: ثم خرج خارج منهم، فيكون الفاعل محذوفًا) انتهى.
(فمر) أي: ذلك الرجل في طريقه (على قوم من الأنصار): من بني حارثة، وهم أهل مسجد يعرف الآن بمسجد القبلتين (في صلاة العصر) وكأنه عليه السَّلام صلى العصر في أول وقتها، وهؤلاء القوم صلوا العصر في آخر وقتها المستحب، فلا منافاة؛ فافهم.
(نحو) أي: جهة (بيت المَقْدس): مصدر ميمي؛ كالمَرْجع، وفي رواية الكشميهني: (في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس)، وفي الرواية السابقة:
%ص 530%
(وهم راكعون)؛ يعني: حقيقة، أو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، (فقال) أي: الرجل: (هو يشهد): أراد به نفسه، ولكن عبر عنها بلفظ الغيبة على سبيل التجريد، باب جرد من نفسه شخصًا، أو على طريقة الالتفات، أو نقل الراوي كلامه بالمعنى، ويؤيده الرواية في باب (الإيمان) بلفظ: (أشهد) (أنَّه صلى) أي: العصر (مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: بالمدينة، (وأنَّه) عليه السَّلام (توجه) في صلاته (نحو) جهة (الكعبة) وللأربعة: (وأنَّه نحو الكعبة)، (فتحرف القوم): الذين صلُّوا العصر نحو بيت المقدس (حتى) أي: إلى أن (توجهوا) [1]؛ أي: في استدارتهم (نحو) أي: جهة (الكعبة) وهم في صلاتهم، فأتموها لجهة الكعبة.
ففيه: المطابقة للترجمة حيث توجه نحو الكعبة التي استقرت قبلة أبدًا في أي حالة كان المصلي صلاة الفرض.
وفيه: جواز التحري والاجتهاد في أمر القبلة، فلو تحرى لجهة وشرع في الصلاة، ثم تبدل اجتهاده وهو في الصلاة لجهة أخرى؛ استدار وأتم صلاته، ولو صلى الظهر مثلًا كل ركعة إلى جهة بالتحري؛ جازت صلاته، كما لا يخفى.
وفيه: بيان شرف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وكرامته على ربه؛ حيث أعطاه ما أحب واختار.
وفي الحديث: أنه عليه السَّلام صلى العصر، ويدل عليه الرواية في الباب السابق، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر؛ أي: متوجهًا للكعبة، وعند ابن سعد في «الطبقات»: (أنه عليه السَّلام صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه، ودار معه المسلمون)، وعند ابن سعد: (أنه عليه السَّلام زار أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعامًا، وحانت الظهر، فصلى عليه السَّلام لأصحابه ركعتين، ثم أمر، فاستدار إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمي: مسجد القبلتين).
قلت: والظاهر من هذا أنه عليه السَّلام وقع له ذلك مرات متعددة، ويحتمل أنه عليه السَّلام صلى الظهر في آخر وقتها، أو قدم صلاة العصر على وقتها المستحب، فالراوي رآه يصلي صلاة الظهر قرب العصر، فظن أنها العصر، فعبر بما رآه، أو رآه يصلي في أول وقت العصر مقدمها على وقتها المستحب، فظن أنها العصر، فعبر عنها، ويحتمل أنه عليه السَّلام صلى في بيت أم بشر ناسيًا، فأمر بالاستقبال، وقول ابن سعد عن الواقدي: (صلاة الظهر أثبت عندنا)؛ ليس بشيء بعد تصريح الإمام البخاري في باب (الصلاة) عن البراء: (أنه عليه السَّلام صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر)؛ أي: متوجهًا إلى الكعبة، ولا شك أن ذلك أثبت؛ لأنَّ صاحب الدار أدرى؛ فليحفظ.
وجاء في رواية ابن عمر في «البخاري»، و «مسلم»، و «النسائي»: (أنه عليه السَّلام صلى الصبح)، قال إمام الشَّارحين: (والتوفيق بينها وبين رواية الباب أن هذا الخبر وصل إلى قوم كانوا يصلون في نفس المدينة صلاة العصر، ثم وصل إلى أهل قباء في صبح اليوم الثاني؛ لأنَّهم كانوا خارجين عن المدينة؛ لأنَّ قباء من جملة سوادها، وفي حكم رساتيقها) انتهى.
وفيه: جواز نسخ الأحكام عند الجمهور إلا طائفة لا يقولون به، ولا يعبأ بهم؛ لموافقتهم لليهود، واختلف في صلاته عليه السَّلام إلى بيت المقدس وهو بالمدينة كمكة؛ فقال جماعة: لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، ثم لما قدم المدينة؛ استقبل بيت المقدس، ثم نسخ، وزعم البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]؛ أي: الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، فإنه كان يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر؛ أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفًا لليهود، وقال قوم: كان لبيت المقدس، وفي حديث عند ابن ماجه: (صلينا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرًا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين)، وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس، وكذلك في المدينة، فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، وعلى الثاني المنسوخ؛ والمعنى: أنَّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على نسخ السنة بالقرآن عند الإمام الأعظم والجمهور، وهو حجة على الشافعي؛ حيث منعه.
وفيه: دليل على قبول خبر الواحد.
وفيه: وجوب الصلاة إلى القبلة، وتقرر الإجماع على أنها الكعبة.
وفيه: جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين أو جهات، كما قدمنا.
وفيه: أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه، وفي هذا الباب أبحاث تقدمت [2] في باب (الصلاة من الإيمان)، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (توجوا)، وليس بصحيح.
(1/673)
[حديث: كان رسول الله يصلي على راحلته حيث توجهت]
400# وبالسند إليه قال: (حدثنا مسلم) زاد الأصيلي: (ابن إبراهيم): هو أبو عمرو البصري الأزدي الفراهيدي القصاب (قال: حدثنا هشام) زاد الأصيلي: (ابن أبي عبد الله): هو سندر الربعي الدستوائي البصري (قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير)؛ بالمثلثة: هو صالح بن المتوكل الطائي مولاهم العطار، (عن محمد بن عبد الرحمن): هو ابن ثوبان المدني العامري، قال إمام الشَّارحين: (وليس له في «الصحيح» عن جابر غير هذا الحديث، وفي طبقته محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، ولم يخرج له البخاري عن جابر شيئًا) انتهى.
(عن جابر) زاد الأصيلي: (ابن عبد الله): هو الأنصاري رضي الله تعالى عنه (قال: كان النبيُّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) وإفادة (كان) الدوام والاستمرار (يصلي): صلاة النافلة، والجملة فعلية محلها نصب خبر (كان) (على راحلته): الراحلة: الناقة التي تصلح لأن تركب، وكذلك الرحول، ويقال الراحلة: المركب من الإبل ذكرًا كان أو أنثى، كذا في «عمدة القاري» (حيث توجهت به)؛ أي: الراحلة؛ يعني: توجه صاحب الراحلة؛ لأنَّها تابعة لقصد توجهه بنفسها من غير أن يسوقها أو يديرها، فإن ساقها أو حولها؛ بطلت صلاته، وظاهر الحديث بل صريحه أنه عليه السَّلام كان يتركها حيثما سارت؛ لتوجهها أول الصلاة إلى المكان المقصود له، فلا يحتاج إلى تحويلها إن دارت، وسيأتي بيانه؛ فافهم.
وفي حديث ابن عمر عند مسلم، وأبي داود، والنسائي قال: (رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر)، وفي حديث جابر عند الترمذي وأبي داود قال: (بعثني النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في حاجة، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، السجود أخفض من الركوع)، قال الترمذي: (حسن صحيح)، كذا في «عمدة القاري».
(فإذا أراد) عليه السَّلام أن يصلي (الفريضة)؛ أي: صلاة الفرض العملي والعلمي؛ (نزل)؛ أي: عن راحلته إلى الأرض (فاستقبل القِبلة)؛ أي: توجه إلى الكعبة، وصلى الفرض والوتر، وهذا يدل على عدم ترك استقبال القِبلة في الفريضة، وهو إجماع، ولكن رخص في شدة الخوف.
%ص 531%
قال في «خلاصة الفتاوى»: (أمَّا صلاة الفرض على الدابة بالعذر؛ فجائزة، ومن الأعذار المطر، إذا كان في السفر، فأمطرت السماء، فلم يجد مكانًا يابسًا ينزل للصلاة؛ فإنه يقف على الدابة مستقبل القبلة، ويصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة، فإن لم يمكنه؛ يصلي مستدبر القبلة، وهذا إذا كان الطين بحال يغيب وجهه فيه، فإن لم يكن بهذه المثابة لكن الأرض ندية؛ صلى هنالك)، ثم قال: (وهذا إذا كانت الدابة تسير بنفسها، أمَّا إذا سيرها صاحبها؛ فلا يجوز صلاته مطلقًا فرضًا أو نفلًا، ومن الأعذار كون الدابة جموحًا لو نزل؛ لا يمكنه الركوب، ومنها اللص والمرض، وكونه شيخًا كبيرًا لا يجد من يركبه، ومنها الخوف من سَبُع) انتهى.
وصرح صاحب «المحيط»: (بأنَّ الصلاة على الدابة في هذه الأعذار جائزة، ولا يلزمه الإعادة بعد زوال العذر، وهذا كله إذا كان خارج المصر) انتهى.
قلت: أمَّا عدم لزوم الإعادة؛ للقاعدة الأصولية: (أن الساقط لا يعود)، فمتى صحت صلاته بوجه؛ لا يجب عليه إعادتها، وأمَّا كونه خارج المصر؛ لأنَّه لو كان في المصر؛ لا تصح صلاته هذه؛ لأنَّ المصر ليس فيه شيء من هذه الأعذار؛ كما لا يخفى، ومثل صلاة الفرض صلاة الوتر الواجب، والمنذور، والعيدين، وما شرع فيه نفلًا فأفسده، وصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة التي تلاها على الأرض، كما صرح به في «إمداد الفتاح»، وفيه: (والصلاة في المحمل، وهو على الدابة كالصلاة على الدابة، سواء كانت سائرة أو واقفة، ولو أوقفها وجعل تحت المحمل خشبة ونحوها حتى بقي قرار المحمل على الأرض؛ كان المحمل بمنزلة الأرض، فتصح الفريضة فيه قائمًا) انتهى.
وأمَّا التنفل على الدابة؛ فلا يجوز إلا إذا كان خارج المصر، وهو المكان الذي يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة، وقيل: قدر فرسخين، وقيل: قدر ميل، والأول هو الأصح، وهذا قول الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن الزبير، وأبي ذر، وأنس، وابن عمر، وبه قال طاووس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك، والليث، فلا يشترط أن يكون السفر طويلًا، بل لكل من كان خارج المصر؛ فله الصلاة على الدابة، واشترط مالك مسافة القصر، وهو إحدى قولي الشافعي.
وقال ابن بطال: (واستحب ابن حنبل وأبو ثور: أن يفتتحها متوجهًا إلى القبلة، ثم لا يبالي حيث توجهت، وزعمت الشافعية أن المنفرد في الركوب على الدابة إذا كانت سهلة يلزمه أن يدير رأسها عند الإحرام إلى القبلة على الأصح، وقيل: لا يلزمه كما لا يلزمه في القطار والدابة الضعيفة) انتهى.
قلت: وظاهر حديث الباب بل صريحه يرد هذا؛ لأنَّه عليه السَّلام كان يصلي على راحلته حيث توجهت، ولأن في التزامه النزول والتوجه انقطاعًا عن النافلة أو القافلة، فيكون حرجًا، فالحديث حجة على من اشترط التوجه واستحبه؛ فليحفظ.
وأمَّا التنفل في المصر على الدابة؛ فمنعه الإمام الأعظم، والإمام محمد بن الحسن، والإصطخري من الشافعية، وجوزه الإمام قاضي القضاة أبو يوسف، وهو رواية عن الإمام محمد بن الحسن.
دليل المنع: أنَّ هذه الأحاديث الدالة على جواز التنفل على الدابة وردت في السفر؛ ففي رواية جابر بن عبد الله: كانت في غزوة أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع، وفي رواية: (أرسلني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره)، وفي رواية ابن عمر: (بطريق مكة)، وفي رواية: (متوجه إلى المدينة)، وفي رواية: (متوجه إلى خيبر).
والحاصل: أنها كانت مرات كلها في السفر.
ودليل الجواز: ما رواه أبو يوسف قال: حدثني فلان _وسماه_ عن سالم عن ابن عمر: (أنه عليه السَّلام ركب الحمار في المدينة يعود سعد بن عبادة، وكان يصلي وهو راكب).
وقال ابن بطال: (وروى أنس بن مالك: أنه عليه السَّلام صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماءً) انتهى.
قلت: وأجاب المانع عن الأول: بأنَّه شاذ، وهو فيما يعم به البلوى لا يكون حجة، وعن الثاني: بأن المراد من أزقة المدينة: الأزقة الخارجة عن المدينة؛ يعني: في أزقة البساتين في المدينة، والله تعالى أعلم.
==================
(1/674)
[حديث: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به]
401# وبالسند إليه قال: (حدثنا عثمان): هو ابن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة بن عثمان بن خواستى العبسي الكوفي (قال: حدثنا جرير): هو ابن عبد الحميد بن قرط العبسي الكوفي، (عن منصور): هو ابن المعتمر بن عبد الله الكوفي، (عن إبراهيم): هو ابن يزيد النخعي الكوفي، (عن علقمة): هو ابن قيس النخعي الكوفي (قال: قال عبد الله): هو ابن مسعود، أحد العبادلة الأربعة، وكان قصيرًا نحيفًا، وكان الريح يأخذه حين يمشي، فتنظر إليه الصحابة بحضرة الرسول عليه السَّلام، فحين يراهم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ يقول: «لساق عبد الله في الميزان أثقل من أُحُد» رضي الله عنه، وفي رواية أبي ذر: (عن عبد الله قال:) (صلى النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): هذه الصلاة، قيل: العصر، وقيل: الظهر؛ يدل للأول: ما رواه الطبراني، من حديث طلحة بن مصرف، عن إبراهيم به: أنها العصر، فنقص في الرابعة، ولم يجلس حتى صلى الخامسة، ويدل للثاني: ما رواه من حديث شعبة عن حماد عن إبراهيم: أنها الظهر، وأنَّه صلاها خمسًا؛ كذا في «عمدة القاري».
(قال إبراهيم) هو النخعي المذكور: (لا أدري زاد)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في صلاته، ولابن عساكر: (أزاد)؛ بهمزة الاستفهام (أو نقص) فيها؟ وهذا مدرج، وفي رواية أبي داود: (فلا أدري)؛ أي: فلا أعلم هل زاد النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في صلاته أو نقص فيها؟، والمقصود: أنَّ إبراهيم شك في سبب سجود السهو المذكور، وهل كان لأجل الزيادة أو النقصان؟ وهو مشتق من النقص المتعدي لا من النقصان اللازم، والصحيح كما قال الحميدي: أنه (زاد)، قاله إمام الشَّارحين.
(فلمَّا سلَّم)؛ بتشديد اللام؛ أي: من صلاته ساهيًا؛ (قيل) لم يعلم اسم القائل (له: يا رسول الله؛ أَحَدَث)؛ الهمزة فيه للاستفهام؛ ومعناه: السؤال عن حدوث شيء من الوحي يوجب تغيير حكم الصلاة بالزيادة على ما كانت معهودة أو بالنقصان عنه، قاله الشَّارح.
قلت: وحاء (أَحَدَث)
%ص 532%
مهملة مفتوحة، وكذلك الدال مهملة مفتوحة؛ أي: أوقع (في الصلاة شيء)؛ أي: من الوحي مما يوجب التغيير بزيادة أو نقصان؟ وأمَّا (حدُث) _بضم الدال_؛ فلا يستعمل في شيء من الكلام إلا في قولهم: أخذني ما قدُم وما حدُث؛ للازدواج.
(قال) عليه السَّلام للسائل: (وما ذاك؟): سؤال من لم يشعر بما وقع منه، ولا يتبين عنده، ولا غلبة ظن، وهو خلاف ما عندهم؛ حيث (قالوا) أي: الصحابة: (صليت كذا وكذا)؛ بالتكرار؛ كناية عما وقع إمَّا زائدًا على المعهود أو ناقصًا عنه، وهذا يدل على أنَّ سلامه من الصلاة كان سهوًا، وهو غير مفسد للصلاة؛ ولهذا قال: (فثنَى)؛ بتخفيف النون، مشتق من الثني؛ يعني: عطف عليه السَّلام (رجليه)؛ بالتثنية رواية الكشميهني والأصيلي، وفي رواية غيرهما: (رجله)؛ بالإفراد، والمقصود منه: فجلس كما هو هيئة القعود للتشهُّد، وليس المراد: أنه تحول عن جهة القبلة، بل ظاهره بل صريحه أنَّه بسط رجليه من غير تحويل عنها، وسمع كلامهم، ويحتمل أنه التفت بعنقه إليهم، ويحتمل أنه لم يلتفت، فالسلام للقطع لا يفسد الصلاة إذا كان ساهيًا، فيعود لسجود [1] السهو، فيسجده ما لم يتحول عن القبلة أو يتكلم؛ لأنَّهما مبطلان للتحريمة، وقيل: لا يقطع بالتحويل ما لم يتكلم أو يخرج من المسجد، كذا في «الدرر» عن «النهاية»؛ فافهم.
(واستقبل القبلة)؛ أي: برجليه؛ لأنَّه قد بسطهما، وليس المراد: أنه كان متحولًا عن القبلة، بل المراد: أنه استقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة؛ لأنَّه كان باسطًا لهما؛ فافهم.
(وسجد سجدتين)؛ بالتثنية؛ أي: للسهو، ففيه دليل على أنَّ سجود السهو سجدتان، وهو قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وعامة الفقهاء، وحكي عن الأوزاعي وابن أبي ليلى: أنه يلزمه لكل سهو سجدتان؛ لحديث في ذلك، وقال الحفاظ: إنه ضعيف لا يحتج به؛ فافهم.
(ثم سلَّم)؛ بتشديد اللام؛ أي: من صلاته، وهذا دليل قوي للإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم حيث ذهبوا إلى أن سجدتي السهو بعد السلام؛ لأنَّه عليه السَّلام سلَّم، ثم سجد، ثم سلَّم، وهو قول الصديق الأصغر علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، وهو قول سفيان الثوري، والحسن البصري، وابن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.
وهذا الحديث حجة على الشافعي، وأحمد، ومالك؛ حيث ذهبوا إلى أن السجود للسهو قبل السلام، وفي «المغني» [2] الحنبلي: السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الموضعين [3] اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام؛ وهما إذا سلَّم من نقص في صلاته، أو تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه، وما عداهما يسجد له قبل السلام، وقال مالك وأبو ثور: إن كان السهو لنقص؛ فقبل السلام، وإن كان لزيادة؛ فبعد السلام.
قلت: وكل هذا ليس فيه دليل من الحديث، وإنما هو قياس، ولا يعمل بالقياس عند وجود النص، فحديث الباب حجة لنا وعلى من خالفنا؛ فافهم، فمذهبنا هو الصواب، فلو سجد المنفرد للسهو قبل السلام؛ جاز، ولكنه مكروه، هذه رواية الأصول، وفي رواية غيرها: لا يجوز؛ لأنَّه قد أداه قبل وقته، وقيل: إن الخلاف في الأولوية، فلو اقتدى حنفي بمخالف في السنن، فسجد الإمام للسهو قبل السلام؛ قيل: يتابعه، وقيل: لا يتابعه، وعليه الإعادة بعد السلام، كذا في «التجنيس».
قلت: والظاهر الثاني؛ تحقيقًا للمخالفة؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على أن سجود السهو يتداخل ولا يتعدد بتعدد أسبابه، وهو مذهب الجمهور من الفقهاء؛ لأنَّه عليه السَّلام تكلم بعد أن سها واكتفى فيه بسجدتين، وقال بعض العلماء: يتعدد السجود بتعدد السهو، وظاهر الحديث يرده، وهو دليل الجمهور؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على أن سجود السهو في آخر الصلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يفعله إلا آخرها، وحكمته: أنه أخر؛ لاحتمال سهو آخر، فيكون جابرًا للكل، وفرع عليه الفقهاء: أنه لو سجد، ثم تبين أنه لم يكن في آخر الصلاة؛ لزمه إعادتها في آخرها، وفيه صورتان:
إحداهما [4]: أن يسجد للسهو في الجمعة، ثم يخرج الوقت وهو في السجود الآخر، فيلزمه إتمامه ظهرًا، ويعيد السجود.
والثانية: أن يكون مسافرًا، فيسجد للسهو، ويصل به إلى الوطن، أو ينوي الإقامة، فيتم، ثم يعيد السجود، كذا في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني أنَّ قوله: (وسجد سجدتين) دليل على أنه لم ينقص شيئًا من الركعات، ولا من السجدات، وإلا لتداركها، فكيف صح أن يقول إبراهيم: (لا أدري؟) بل يعين أنه زاد، فإن النقصان لا يجبر بالسجدتين، بل لا بد من الإتيان بالمتروك؟
والجواب: أنَّ كل نقص لا يستلزم الإتيان به، بل كثيرًا منه ينجبر بمجرد السجدتين، ولفظ: (نقص) لا يوجب النقص في الركعة ونحوها، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: قد ذكرنا فيما مضى عن الحميدي أنه قال: (بل زاد)، وكانت زيادته أنه صلى الظهر خمسًا، كما ذكره الطبراني، فحينئذٍ كان سجوده لتأخير السلام، ولزيادته من جنس الصلاة.
وقوله: (فإن النقصان ... ) إلخ: غير مسلم؛ لأنَّ النقصان إذا كان في الواجبات، أو في تأخيرها عن محلها، أو في تأخير ركن من الأركان؛ ينجبر بالسجدتين.
وقوله: (بل لا بد ... ) إلخ: إنَّما يجب إذا كان المتروك ركنًا، وأمَّا إذا كان من الواجبات، أو من السنن التي في قوة الواجب؛ فلا يلزمه الإتيان بمثله، وإنما ينجبر بالسجدتين) انتهى.
(فلما أقبل علينا بوجهه)؛ يعني: فلما فرغ من صلاته، واستقبال القبلة؛ انحرف، وتوجه إلى أصحابه بوجهه الشريف عليه السَّلام (قال: إنَّه) أي: الشأن (لو حدث في الصلاة شيء)؛ أي: من الوحي مما يوجب التغيير بزيادة أو نقصان؛ (لنبأتكم) أي: لأخبرتكم (به)؛ أي: بالشيء الحادث أو بالحدوث الذي دل عليه قوله: (لو حدث)؛ كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 9]، ونبأتكم من باب (نبَّأ) _بتشديد الباء الموحدة_: وهو ما ينصب ثلاثة مفاعيل، وكذلك (أنبأ) من باب (أفعل)، والثلاثي
%ص 533%
نبأ، والمصدر: النبأ؛ ومعناه: الخبر، تقول: نبأ وأنبأ ونبأ؛ أي: أخبر، ومنه أخذ: النبيء؛ لأنَّه أنبأ عن الله تعالى؛ أي: أخبر، واللام فيه لام الجواب، وتفيد التأكيد أيضًا.
فإن قلت: أين المفاعيل الثلاثة هنا؟
قلت: الأول: ضمير المخاطبين، والثاني: الجار والمجرور؛ أعني: لفظة (به)، والثالث: محذوف، أفاده إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أنَّ اللام بعد (لو) لام جواب قسم مقدر.
قلت: وهو ليس بشيء؛ لتصريح النحاة بأنها لام الجواب، وتفيد التأكيد؛ فافهم.
قال الشَّارح: (وفيه دلالة على أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة؛ لقوله عليه السَّلام: «لو حدث في الصلاة شيء؛ لنبأتكم به»)؛ فافهم.
(ولكن إنَّما أنا بشر مثلكم): لا نزاع أنَّ كلمة (إنما) للحصر، لكن تارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة حصرًا مخصوصًا، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق، ومعنى الحصر في الحديث: أنه بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن المخاطبين لا بالنسبة إلى كل شيء، فإنَّ للرسول عليه السَّلام أوصافًا أخر، قاله إمام الشَّارحين.
(أنسى كما تنسون)؛ والنسيان في اللغة: خلاف الذِّكر والحفظ، وفي الاصطلاح: النسيان: غفلة القلب عن الشيء، ويجيء النسيان بمعنى: الترك؛ كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وقوله: {وَلاَ [5] تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، انتهى.
وأَنسى _بهمزة مفتوحة، وسين مهملة مخففة_ قال الزركشي: (ومن قيده بضم أوله وتشديد ثالثه؛ لم يناسب التشبيه) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن ضم الأول هو المناسب؛ لحديث: «لا تقل: نسيت، وإنما قل: أُنسيت»؛ بضم الهمزة؛ لأنَّ النسيان منسوب إلى الشيطان، قال تعالى: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]، وهنا غير مذكور، فتعين ضم الهمزة، وكونه لا يناسب التشبيه بعيد؛ لأنَّ (تنسون) مأخوذ من لفظ (أنسيت الأمر)؛ والمعنى: أنسى كما ينسى أحدكم، لكن بين اللفظين تغاير من حيث إنه أتى به بصيغة المتكلم وحده مع جمع المخاطبين؛ فافهم.
(فإذا نسيت) في الصلاة؛ (فذكروني)؛ أي: في الصلاة بالتسبيح ونحوه، ففيه جواز النسيان في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام، واتفقوا على أنَّهم لا يقرون عليه، بل يعلمهم الله تعالى به، وقال الأكثرون: (شرطه تنبيهه عليه السَّلام على الفور متصلًا بالحادثة)، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته.
والفرق بين النسيان والسهو: أن النسيان: غفلة القلب عن الشيء، والسهو: غفلة الشيء عن القلب، وعن هذا قال قوم: كان عليه السَّلام يسهو ولا ينسى، فلذلك نفى عن نفسه النسيان في حديث ذي اليدين بقوله: «لم أنسَ»؛ لأنَّ فيه غفلة، ولم يفعل.
وقال القشيري: (الفرق بينهما بعيد، كما في استعمال اللغة، وكأنه يلوح من اللفظ على أن النسيان: عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو: عدم الذكر لا لأجل الإعراض).
وقال القرطبي: (لا نسلم الفرق، ولئن سلمنا؛ فقد أضاف عليه السَّلام النسيان إلى نفسه في غير ما موضع بقوله: «أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني»).
وقال القاضي عياض: (إنما أنكر عليه السَّلام «نسيت» المضاف إليه، وهو قد نهى عن هذا بقوله: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا، ولكنه نسي»، وقد قال أيضًا: «لا أنسى» على النفي، «ولكن لأُنسَّى»، وقد شك بعض الرواة في روايته، فقال: «أنسى أو أُنسَّى»، وأنَّ «أو» للشك أو للتقسيم، وأنَّ هذا يكون منه مرة من قبل شغله، ومرة يغلب ويجبر عليه، فلما سأله السائل بذلك في حديث ذي اليدين؛ أنكره، وقال: «كل ذلك لم يكن»، وفي الرواية الأخرى: «لم أنس ولم تقصر»، أمَّا القصر؛ فبيِّنٌ، وكذلك «لم أنس» حقيقة من قبل نفسي، ولكن الله أنساني)، وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (وفي الحديث: جواز وقوع السهو من الأنبياء عليهم السلام في الأفعال).
وقال ابن دقيق العيد: (وهو قول عامة العلماء، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز السهو على الأنبياء عليهم السلام، وهذا الحديث يرد عليهم)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هم منعوا السهو عليه في الأفعال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك: بأن السهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه؛ لم تحصل منه مفسدة، بل يحصل فيه فائدة، وهو بيان أحكام الناسي، وتقرير الأحكام، وإليه مال أبو إسحاق الإسفرائيني).
وقال القاضي عياض: (واختلفوا في جواز السهو عليه صلَّى الله عليه وسلَّم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ، وبيان أحكام الشرع من أفعاله، وعاداته، وأذكار قلبه؛ فجوزه الجمهور، وأمَّا السهو في الأقوال البلاغية؛ فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على تعمده امتناع تعمده، وأمَّا السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة، وما يتعلق بها، ولا يضاف إلى وحي؛ فجوزه قوم؛ إذ لا مفسدة فيه).
قال القاضي: (والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من منع ذلك على الأنبياء في كل خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدًا ولا سهوًا [6]، لا في صحة ولا في مرض، ولا في رضًى ولا في غضب، وأمَّا جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا؛ فغير ممتنع) انتهى، والله أعلم.
(وإذا شك أحدكم في صلاته)؛ الشك في اللغة: خلاف اليقين، وفي الاصطلاح: الشك ما يستوي فيه طرفا العلم والجهل، وهو الوقوف بين الشيئين بحيث لا يميل إلى أحدهما، فإذا قوي أحدهما وترجح على الآخر ولم يأخذ بما رجح ولم يطرح الآخر؛ فهو الظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر؛ فهو أكبر الظن وغالب الرأي، فيكون الظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان، انتهى.
(فليتحرى [7] الصواب): التحرِّي: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول، وفي رواية مسلم: (فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب)، وفي رواية: (فليتحرَّى الذي يرى أنه صواب)، ويعلم من هذا أن التحرِّي: طلب أحد الأمرين وأولاهما بالصواب، قاله في «عمدة القاري».
(فليتم) بانيًا (عليه)؛ أي: على ما هو الصواب، ولولا تضمين الإتمام معنى البناء؛ لما جاز استعماله بكلمة الاستعلاء، وقصد الصواب في البناء على غالب الظن عند الإمام
%ص 534%
الأعظم، وأصحابه، والجمهور؛ لأنَّه بمنزلة اليقين، وهو صريح الحديث، وزعم الشافعية أنه الأخذ باليقين.
قلت: وهو مردود؛ لأنَّه لم يعلم اليقين حتى يأخذ به، ولهذا قال عليه السَّلام: «فليتحرَّى الصواب»، وهو الأخذ بغالب الظن، ولو كان مراده اليقين؛ لقال: فليأخذ باليقين، ولما قال: «فليتحرَّى الصواب»، والتحري: الاجتهاد في طلب أحد الأمرين؛ علم منه أن المراد بالتحري غلبة الظن؛ فليحفظ.
(ثم يسلم)؛ أي: للخروج من الصلاة، وهو واجب، (ثم يسجد) أي: للسهو وجوبًا (سجدتين)؛ بالتثنية؛ أي: جبرًا لما حصل في صلاته من الخلل، وفي رواية غير أبي ذر: (ثم ليسلم)؛ بلام الأمر، وفي رواية الأصيلي: (وليسجد)؛ بلام الأمر، وهذا يدل على أن التحري والسجود واجبان للأمر في ذلك، والأمر المطلق يدل على الوجوب، وزعم القسطلاني أن الأمر محمول على الندب، وعليه الإجماع، انتهى.
قلت: وهو فاسد؛ فإن الأمر فيه للوجوب عند إمامنا الأعظم وأصحابه، وبه قال مالك وأحمد، فالحمل على الندب باطل؛ لأنَّ الأمر المطلق يدل على الوجوب، ودعوى الإجماع باطلة؛ لأنَّه لا دليل يدل عليها، فإن كان مراده إجماع المجتهدين؛ فباطل؛ لأنَّ رأس المجتهدين الإمام الأعظم ومالك بن أنس وأحمد ابن حنبل قالوا بالوجوب، وإن كان مراده إجماع أهل مذهبه؛ فغير صحيح؛ لأنَّ اجتماع أهل المذهب على أمر يقال له: اتفاق، وهو غير لازم لغيرهم، وعلى كلٍّ؛ فهذا كلام من لم يذق شيئًا من العلم؛ فافهم.
وزاد في الطنبور نغمة الكرماني، فزعم أنه إنَّما عبر بلفظ الخبر في (يسلِّم) و (يسجد)، وبلفظ الأمر في (فليتحرَّى) و (ليتم)؛ لأنَّ السلام والسجود كانا ثابتين يومئذٍ، بخلاف التحري والإتمام؛ فإنَّهما ثبتا بهذا الأمر، وللإشعار بأنَّهما ليسا بواجبين؛ كالتحري والإتمام، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: الفصاحة في التفنُّن في أساليب الكلام، والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أفصح الناس لا يجارى في فصاحته، فلهذا عدل عن لفظ الأمر إلى الخبر، وغير أسلوب الكلام.
وقوله: (أو للإشعار ... ) إلى آخره: غير مسلم، بل هما واجبان؛ لمقتضى الأمر المطلق، وهو قوله عليه السَّلام: «من شك في صلاته؛ فليسجد سجدتين»، والصحيح من المذهب هو الوجوب، ذكره صاحب «المحيط»، و «المبسوط»، و «الذخيرة»، و «البدائع»، وبه قال مالك وأحمد، وعلى رواية: «فليتحرَّى الصواب، فليتم، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين»؛ لا يرد هذا السؤال، ولا يحتاج إلى الجواب، انتهى.
قلت: ورواية: (ثم ليسلم)؛ بلام الأمر رواية الأكثرين، وعند أبي ذر: (يسلم)؛ بدونها، وكذلك: (ثم ليسجد)؛ بلام الأمر عند الأكثرين، وعند الأصيلي بدونها.
وقوله: (فليتحرَّى)؛ بلام الأمر عند جميع الرواة، وكذلك: (فليتم)؛ بلام الأمر عند جميعهم أيضًا؛ فانظر كيف لحظ لروايةٍ الله أعلم بثبوتها، واعترض وسأل ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وما هذا إلا دأب المتعصبين؛ فافهم.
زعم الكرماني فإن قلت: السجدة مسلم أنها ليست بواجبة، لكن السلام واجب، قلت: وجوبه بوصف كونه قبل السجدتين؛ ممنوع، وأما نفس وجوبه؛ فمعلوم من موضع آخر، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: وقوله: (السجدة مسلم ... ) إلى آخره: غير مسلم؛ لما ذكرنا؛ أي: من قوله عليه السَّلام: «ثم ليسجد سجدتين»، فإن الأمر المطلق فيه يدل على الوجوب عند المحققين.
وقوله: (قلت ... ) إلى آخره: غير ممنوع؛ لأنَّ محل السلام الذي هو للصلاة في آخرها متصلًا بها، فوجب بهذا الوصف، ولا يمتنع أن يكون الشيء [8] واجبًا من جهتين؛ فافهم.
وزعم الكرماني فإن قلت: آخر الحديث يدل على أن سجود السهو بعد السلام وأوله على عكسه، قلت: ومذهب الشافعي: أنه يسن قبل السلام، وتأول آخر الحديث بأنه قول، والأول فعل، والفعل مقدم على القول؛ لأنَّه أدل على المقصود، أو أنه عليه السَّلام أمر بأن يسجد بعد السلام؛ بيانًا للجواز، وفعل نفسه قبل السلام؛ لأنَّه أفضل، انتهى.
ورده إما م الشَّارحين فقال: (لا نسلم أن الفعل مقدم على القول؛ لأنَّ مطلق القول يدل على الوجوب على أنَّا نقول: يحتمل أن يكون سلم قبل أن يسجد سجدتين، ثم سلم سلام سجود السهو، فالراوي اختصره، ولأن في السجود بعد السلام تضاعف الأجر، وهو الأجر الحاصل من سلام الصلاة ومن سلام سجود السهو، ولأنه شرع جبرًا للنقص أو للزيادة التي في غير محلها، وهي أيضًا نقص كالإصبع الزائدة، والجبر لا يكون إلا بعد تمام المجبور، وما بقي عليه سلام الصلاة، فهو في الصلاة) انتهى.
قلت: ويدل عليه قولهم: إذا اقتدى بالإمام وهو في سجود السهو؛ صح اقتداؤه؛ لأنَّه عاد إلى حرمة الصلاة، وما زعمه الكرماني متناقض؛ لأنَّ قوله: (فإن قلت ... ) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّ أول الحديث وآخره يدل على أن سجود السهو بعد السلام؛ لأنَّ أول الحديث: (صلى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما سلم؛ قيل: يا رسول الله ... ) إلى آخره، فاكتفى بهذا السلام، ولهذا سجد سجدتي السهو، ثم سلم.
وقوله: (وتأول آخر الحديث ... ) إلى آخره: هذا التأويل باطل؛ لأنَّ القول مقدم على الفعل عند المحققين؛ لأنَّ الفعل لا يدل على الوجوب، ويحتمل الندب، والإباحة، والسنية، والخصوصية بخلاف القول؛ فإنه لا يحتمل إلا الوجوب، كما لا يخفى، ولهذا قال العلماء: النظر للقول لا للفعل؛ فافهم.
وما زعمه من أنه أمر عليه السَّلام بأن يسجد بعد السلام؛ بيانًا للجواز؛ ممنوع، فإن هذا ليس سبيله بيان الجواز، فإن عادته عليه السَّلام على الدوام والاستمرار السجود للسهو بعد السلام قولًا وفعلًا، ففعله هذا ليس لبيان الجواز، بل على سبيل الوجوب؛ للعادة فيه، يدل علىه قوله عليه السَّلام: «ولكن إنَّما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون»، فثبت بهذا أن السهو متكرر منه عليه السَّلام، وأنه يسجد بعد السلام؛ فافهم.
وقوله: (وفعل نفسه ... ) إلى آخره: هذا رجوع؛ لدلالة الحديث على وجوب سجود السهو بعد السلام، كما لا يخفى.
وقوله: (لأنه أفضل): تناقض، بل هو واجب، كما لا يخفى، وفي الحديث: دليل على أن الإمام أو المأموم إذا شك في صلاته؛ يرجع إلى قول غيره من المأمومين؛ لأنَّه عليه السَّلام قد
%ص 535%
رجع إلى قول أصحابه وبنى عليه، وهو حجة على الشافعية حيث زعموا أنه لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيره إمامًا كان أو مأمومًا، ولا يعمل إلا على يقين نفسه.
وأجاب الكرماني: (بأنه عليه السَّلام سألهم؛ ليتذكر، فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير، وأنَّ قول السائل أحدث شكًّا عنده عليه السَّلام، فسجد بسبب حصول الشك له، فلا يكون رجوعًا إلا إلى حال نفسه).
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا كلام فيه تناقض؛ لأنَّ قوله: (سألهم ... ) إلى قوله: (فبنى عليه) رجوع إلى قول الغير بلا نزاع، وقوله: (لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير): يناقض ذلك، وقوله: (فسجد بسبب حصول الشك): غير مسلم؛ لأنَّ سجوده إنَّما كان للزيادة لا للشك الحاصل من كلامهم؛ لأنَّه لو شك؛ لكان تردُّدًا [9]؛ إذ مقتضى الشك التردد، فحين سمع قولهم: «صليت كذا وكذا»؛ ثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين) انتهى.
يعني: فيكون رجوعًا إلى قول الغير.
قلت: وظاهر الحديث يدل على أن هذا رجوع إلى قول الغير؛ لأنَّه قال السائل: (يا رسول الله؛ أحَدَث في الصلاة شيء؟)؛ أي: من الوحي، فقال عليه السَّلام له: «وما ذاك؟»، وهو سؤال من لم يشعر بما وقع منه، فقالوا: (صليت كذا وكذا)؛ كناية عما وقع، فاعتمد على قولهم، وثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، فكان سجوده عليه السَّلام عملًا بقولهم، ورجوعًا إلى ما قالوه له، ولو كان كما زعمه الكرماني من أنه سألهم ليتذكر، فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه؛ لكان قوله: «وما ذاك؟» لا فائدة فيه، وكذلك قوله: (قالوا: صليت كذا وكذا)، فإنه لو كان عالمًا بالسهو؛ لكان حين قال السائل له: (أحدث في الصلاة شيء؟)؛ تذكر، ولم يسألهم، فسؤاله [10] لهم دليل على أنه عليه السَّلام قد رجع إلى قولهم، وبنى عليه، ويدل عليه الفاء التعقيبية في قوله: (فثنى)، فإنها أفادت أنه حين سمع قولهم: (صليت كذا وكذا)؛ عقب ذلك بالثني لرجليه، ولم يتذكر، ولو كان في ذكره شيء؛ لما احتاج إلى سؤالهم وجوابهم، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم.
وما زعمه من قول السائل: (أحَدَث ... ) إلى آخره: ممنوع، فإن سجود السهو شرع في الزيادة أو النقصان لا للشك، فسجوده عليه السَّلام كان لأجل الزيادة، يدل عليه قول السائل: (أحَدَث)؛ أي: شيء من الوحي يوجب الزيادة في الصلاة، وصرح الحميدي: (أنه عليه السَّلام قد زاد في صلاته)، فثبت أن السجود كان للزيادة؛ فافهم.
وأجاب النووي عن الحديث: (بأنه عليه السَّلام سألهم؛ ليتذكر؛ فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه لا أنه رجع إلى قولهم، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره؛ لرجع ذو اليدين حتى قال عليه السَّلام: «لم تقصر ولم أنس»).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا ليس بجواب مخلص؛ لأنَّه لا يخلو عن الرجوع، سواء كان رجوعه للتذكير أو لغيره، وعدم رجوع ذي اليدين كان لأجل كلام الرسول لا لأجل يقين نفسه)؛ فافهم.
قلت: وكأن الكرماني أخذ كلامه من كلام النووي، ونسبه لنفسه، وكلامهما باطل ومحاولة وعدول عن الظاهر؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم، والحق أن حديث الباب حجة عليهم؛ لأنَّه مصرح بأنه عليه السَّلام قد رجع إلى قولهم، وبنى عليه، كما قدمناه لك؛ فافهم.
وزعم الكرماني فإن قلت: الصواب غير معلوم، وإلا؛ لما كان ثمة شك، فكيف يتحرى الصواب؟ قلت: المراد منه المتحقق المتيقن؛ أي: فليأخذ باليقين.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا الذي قاله بناء على ما ذهب إليه إمامه، فإنه فسر «الصواب»: الأخذ باليقين، وأما عند الإمام الأعظم؛ فالمراد منه: البناء على غالب الظن واليقين [11] في أين ههنا؟) انتهى.
قلت: وما زعمه الكرماني باطل؛ لأنَّ المراد من قوله عليه السَّلام: «فليتحرَّى الصواب»: غلبة الظن؛ لأنَّ التحري: طلب إحدى الأمرين وأولاهما بالصواب، وغلبة الظن: هو صواب الأمرين، ويدل عليه رواية مسلم: (فليتحرَّ [12] الذي يرى أنه صواب)، وفي أخرى: (فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب)، فعلم من ذلك أن الصواب معلوم، وهو غلبة الظن، وأما المتيقن؛ فليس يفهم من الحديث؛ لأنَّه لو كان مراده بـ (الصواب): المتيقن؛ لقال: فليأخذ باليقين، ولما عدل عنه إلى قوله: (فليتحرَّى)؛ علم أن المراد بـ (الصواب): غلبة الظن؛ فإنه بمنزلة اليقين، فإن اليقين لم يعلم ههنا، والعناد بعد ذلك مكابرة، فقام لنا الدليل على أن المراد بقوله: (فليتحرَّى الصواب): البناء على غالب الظن؛ فليحفظ.
وفي الحديث: حجة قوية، ومحجة مستقيمة للإمام الأعظم رأس المجتهدين، وأصحابه، والكوفيين: على أن من شك في صلاته في عدد ركعاتها؛ تحرى؛ لقوله عليه السَّلام: «فليتحرى الصواب»، وبنى على غالب ظنه، ولا يلزمه الاقتصار على الأقل، وهو حجة على الشافعي في قوله: من شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا مثلًا؛ لزمه البناء على اليقين، وهو الأقل.
فإن قلت: أمر الشَّارع بالتحري، وهو القصد بالصواب، وهو لا يكون إلا بالأخذ بالأقل الذي هو اليقين على ما بينه في حديث أبي سعيد الخدري: أنَّه عليه السَّلام قال: «إذا صلى أحدكم، فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا؛ فليبن على اليقين، ويدع الشك ... »؛ الحديث، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
قلت: هذا محمول على ما إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، ففي هذا نقول: يبني على الأقل؛ لأنَّ حديثه هذا قد ورد في الشك؛ وهو ما استوى طرفاه ولم يترجح له أحد الطرفين، ففي هذا يبني على الأقل بالإجماع، انتهى قاله في «عمدة القاري».
قلت: ويدل لما قاله ما رواه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني عنه عليه السَّلام أنه قال: «إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدةً صلى أو ثنتين؛ فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثًا؛ فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا؛ فليبن على ثلاث ... »؛ الحديث، فأفاد أن المصلي إذا لم يقع تحريه على شيء؛ يبني على الأقل، أمَّا إذا تحرى ووقع تحريه على شيء؛ وجب الأخذ به؛ لقوله عليه السَّلام: «فليتحرى الصواب، فليتم»، فالحديث
%ص 536%
وارد في الشك؛ وهو تساوي الأمرين، كما بينه الحديث الثاني.
واعترض النووي، فزعم أنَّ تفسير الشك هكذا اصطلاح طارئ للأصوليين، وأمَّا في اللغة؛ فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى: شكًّا، سواء المستوي والراجح والمرجوح، والحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية، فلا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح.
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا غير جيد؛ لأنَّ المراد الحقيقة العرفية؛ وهي أن الشك في اللغة: ما استوى طرفاه، ولم يترجح أحد الطرفين على الآخر، ولئن سلمنا أن يكون المراد معناه اللغوي؛ فليس معنى الشك في اللغة ما ذكره؛ لأنَّ صاحب «الصحاح» وغيره فسر الشك في باب (الكاف)، فقال: (الشك خلاف اليقين)، ثم فسر اليقين في باب (النون)، فقال: (اليقين العلم)، فيكون الشك ضد العلم، وضد العلم الجهل، ولا يسمى المتردد بين وجود الشيء وعدمه جاهلًا، بل يسمى: شاكًّا، فعلم أنَّ قوله: (وأما في اللغة ... ) إلى آخره: هو الحقيقة العرفية لا اللغوية، انتهى.
قلت: وقد ذكر النووي في «شرح المهذب» الشك، فقال: (اعلم أنَّ الشك: تردد الذهن بين أمرين على حد سواء عند الأصوليين، وقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء؛ فهو الشك، وإلا؛ فالراجح الظن، والمرجوح وهم) انتهى.
فهذا يرد عليه؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري»: (فإن قلت: المصير إلى التحري؛ لضرورة، ولا ضرورة هنا؛ لأنَّه يمكنه إدراك اليقين بدونه بأن يبني على الأقل، فلا حاجة إلى التحري، قلت: التحري يحتاج إليه هنا؛ لأنَّه قد يتعذر عليه الوصول إلى الذي اشتبه عليه بدليل من الدلائل، والتحري عند عدم الأدلة مشروع، كما في أمر القِبلة) انتهى.
قلت: على أنَّه لم يعلم اليقين ليبني عليه، فمتى شك؛ بقي على احتمال الطرفين، وترجيح أحدهما غلبة ظن، وأما اليقين؛ فهو وهم، كما لا يخفى.
فإن قلت: يستقبل الصلاة؟
قلت: لا حاجة لذلك؛ لأنَّه عساه أن يقع له مرة ثانيًا أو ثالثًا إلى ما لا نهاية له.
فإن قلت: يبنيه على الأقل؟
قلت: لا وجه لذلك أيضًا؛ لأنَّ ذلك لا يوصله إلى ما عليه، فلا يبني على الأقل إلا عند عدم وقوع تحريه على شيء، كما ذكرنا.
قلت: والبناء على الأقل عند الشك _الذي هو استواء الطرفين_ لا فائدة فيه؛ لأنَّه لم يترجح عنده أحدهما حتى يبني عليه، فهذا اليقين هو الوهم نفسه، فغلبة الظن الأخذ بها صواب؛ فافهم.
وزعم الشافعية أنَّ في الحديث [حجة] على أنَّ كلام الناسي لا يبطل الصلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام في حكم الناسي أو الساهي؛ لأنَّه كان يظن أنَّه ليس فيها، وقال أبو عمر [13] (ذهب الشافعي: إلى أنَّ الكلام والسلام ساهيًا في الصلاة؛ لا يبطلها، وهو قول مالك وأصحابه)، وقال مالك: تعمُّد الكلام في الصلاة إذا كان لشأنها وإصلاحها؛ لا يفسدها، وهو قول ربيعة، وقال أحمد: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها؛ لم تفسد، فإن تكلم لغير ذلك؛ فسدت، وقال الشافعي: من تعمد الكلام، وهو يعلم أنَّه لم يتم صلاته، وأنَّه فيها؛ أفسدها، فإن تكلم ناسيًا، أو تكلم وهو يظن أنَّه ليس في الصلاة؛ لا تبطل، وأجمعوا على أنَّ الكلام عامدًا إذا كان المصلي يعلم أنَّه في الصلاة ولم يكن ذلك لإصلاحها؛ أنَّها تفسد، وروي عن الأوزاعي: أنَّه من تكلم لإحياء نفس ونحوه؛ لم تفسد صلاته، وقال الشافعي: إذا تكلم لإحياء صبي [من] الوقوع في هلكة أو نحوها؛ تبطل صلاته، وذهب أحمد: أنَّها لا تبطل، وهو قول أصحاب الشافعي.
قلت: ولا دليل لهؤلاء على ما قالوه، بل إنَّه لا يجوز الكلام في الصلاة إلا بالتكبير، والتسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن، ولا يجوز أن يتكلم في الصلاة لأجل شيء حدث من الإمام في الصلاة، والكلام يبطل الصلاة مطلقًا، سواء كان عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا، وسواء كان إمامًا أو مقتديًا أو منفردًا، سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فالكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان، وهذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، وهو قول حماد بن أبي سليمان، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وسفيان الثوري، وعبد الله بن وهب، وابن نافع من أصحاب مالك، وهو قول عطاء، والحسن البصري، وغيرهم، واستدلوا بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، قال السدي: (يعني: ساكتين؛ لأنَّ الآية نزلت في منع الكلام من الصلاة، وكان ذلك مباحًا في صدر الإسلام)، وهذا هو الصحيح؛ لما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نُسلِّم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه؛ فلم يرد علينا السلام، فقلنا: يا رسول الله؛ كنا نسلم عليك في الصلاة، فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي؛ سلمنا، فلم ترد علينا، فقال عليه السَّلام: «إن في الصلاة لشغلًا»، وروى زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «إن الله أحدث من أمره ألا تتكلموا في الصلاة»، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي، أخرجه مسلم مطولًا، وفيه قال عليه السَّلام: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن»، وأخرجه أبو داود والنسائي أيضًا، فهذا نص صريح على تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان عامدًا أو جاهلًا؛ لحاجة الصلاة أو غيرها، وسواء كان ناسيًا أو ساهيًا أو غير ذلك؛ لأنَّ اللفظ مطلق، فيعم الجميع، وأفاد أن الحديث منسوخ؛ لأنَّ الكلام كان مباحًا في صدر الإسلام، ثم نسخ، وحرم في الصلاة، فلا دليل لهم في إباحته، كما لا يخفى، فإن احتاج المصلي إلى تنبيه إمام ونحوه؛ سبح إن كان رجلًا، وصفقت إن كانت امرأة،
%ص 537%
وذلك؛ لقوله عليه السَّلام: «من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله، فإنما التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال»، رواه سهل بن سعد، أخرجه الحافظ الطحاوي عنه، وأخرجه البخاري مطولًا، ولفظه: «أيها الناس؛ ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟! إنَّما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله! فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إلا التفت»، وأخرجه مسلم وأبو داود أيضًا، وقوله: «من نابه»؛ أي: من نزل به شيء من الأمور المهمة، والمراد من التصفيق: ضرب ظاهر إحدى يديه على باطن الأخرى، وقيل: بإصبعين من أحدهما على صفحة الأخرى؛ للإنذار والتنبيه، وقال الحافظ الطحاوي: (دل هذا الحديث على أن كلام ذي اليدين لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما كلمه به في حديث عمران وأبي هريرة كان قبل تحريم الكلام في الصلاة) انتهى.
قلت: فحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث عبد الله بن مسعود وزيد بن أرقم، فإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام؛ فإنه أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل حديث من أدركه الفجر جنبًا، فلا صوم له، وكان كثير الإرسال؛ فافهم.
فإن قلت: قد جرى الكلام في الصلاة، وقد ورد في الحديث: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل سبحان الله!»، فلمَ لم يسبحوا؟
قلت: لأنَّه عليه السَّلام في ذلك الوقت لم يأمرهم بالتسبيح؛ لأنَّ حديث التسبيح متأخر عن إباحة الكلام في الصلاة، ويحتمل أنَّهم توهموا أن الصلاة قصرت أو زادت، وقد جاء في الحديث قال: «وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة؟»، فلم يكن بد من الكلام لأجل ذلك، ثم حرم الكلام في الصلاة بعد ذلك، واستقر الحال على تحريمه، وصار التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وما وراء ذلك تعصب وعناد؛ فافهم.
فإن قلت: حديث الباب لا يدل على تحريم الكلام في الصلاة؛ لأنَّه قال: «وما ذاك؟».
قلت: لأنَّ الحديث كان في صدر الإسلام، وكان الكلام فيها مباحًا، وقد ثبت تحريم الكلام في حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم بعد ذلك، فالحديث منسوخ، كما قدمناه.
وزعم الكرماني (فإن قلت: كيف رجع إلى الصلاة بانيًا عليها، وقد تكلم بقوله: «وما ذاك؟»؟
قلت: لأنَّه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو أنه خطاب للنبيِّ عليه السَّلام وجواب، وذلك لا يبطل الصلاة، أو كان قليلًا وهو عليه السَّلام في حكم الساهي أو الناسي؛ لأنَّه كان يظن أنه ليس في الصلاة).
ورده إمام الشَّارحين فقال: مذهب إمامه: أن الكلام في الصلاة إذا كان ناسيًا أو ساهيًا لا يبطلها، فلا فائدة حينئذ في قوله: (إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة)، والجواب الثاني: لا يتمشى بعد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، والجواب الثالث: غير موجه؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «وما ذاك؟» غير قليل، على ما لا يخفى، انتهى.
قلت: وقد أباح إمامهم الكلام القليل دون الكثير، وقوله عليه السَّلام: «وما ذاك؟» كثير؛ لأنَّ الكثير عندهم ما زاد على ثلاثة أحرف، وما دونها أو هي؛ فقليل، فلا دليل لهم من الحديث؛ فافهم. ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (فثنى رجليه، واستقبل القبلة)؛ لأنَّه استقبلها بعد أن سلم سلام الخروج من الصلاة، وفيه دليل على جواز النسخ، وجواز توقع الصحابة في ذلك يدل عليه استفهامهم حيث قيل له عليه السَّلام: (أحدث في الصلاة شيء؟) والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (للسجود)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (المفتي)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (موضعين).
[4] في الأصل: (أحدهما)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فلا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[6] في الأصل: (لا عمد ولا سهو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] كذا في الأصل وفي «اليونينية» بإثبات الياء.
[8] في الأصل: (شيء)، والمثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (تردد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (فسأله)، وهو تحريف.
[11] في الأصل: (المتيقن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (فليتحرَّى)، و المثبت موافق لما في «صحيح مسلم».
[13] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (للسجود)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (المفتي)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (موضعين).
[4] في الأصل: (أحدهما)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فلا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[6] في الأصل: (لا عمد ولا سهو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] كذا في الأصل وفي «اليونينية» بإثبات الياء.
[8] في الأصل: (شيء)، والمثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (تردد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (فسأله)، وهو تحريف.
[11] في الأصل: (المتيقن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (فليتحرَّى)، و المثبت موافق لما في «صحيح مسلم».
[1] في الأصل: (للسجود)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (المفتي)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (موضعين).
[4] في الأصل: (أحدهما)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (فلا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[6] في الأصل: (لا عمد ولا سهو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] كذا في الأصل وفي «اليونينية» بإثبات الياء.
[8] في الأصل: (شيء)، والمثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (تردد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (فسأله)، وهو تحريف.
[11] في الأصل: (المتيقن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (فليتحرَّى)، و المثبت موافق لما في «صحيح مسلم».
(1/675)
(32) [باب ما جاء في القبلة]
هذا (باب: ما جاء في) أمر (القبلة)، وهو خلاف ما تقدم قبل هذا الباب، فإن ذاك في حكم التوجه إلى القبلة، وهذا في حكم من سها فصلى إلى غير القبلة، وأشار إلى حكم هذا بقوله: (ومن لم ير)، هذه رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر والأصيلي، وفي رواية المستملي: (ومن لا ير)، (الإعادة) وهو عطف على قوله: (في القبلة)؛ أي: وباب: ما جاء فيمن لم ير إعادة الصلاة (على من سها) عن التوجه إلى القبلة، (فصلى إلى غير القبلة) بأن شرق أو غرب أو نحوهما، وزعم الكرماني: أن الفاء في (فصلى) تفسير لقوله: (سها)، فهي تفسيرية.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (وفيه بعد، والأولى أن تكون الفاء للسببية؛ كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، ولو قال: كـ «الواو» لكان أحسن، كما لا يخفى) انتهى.
ومقصود الإمام البخاري في هذا الباب: بيان أن الرجل إذا اجتهد في القبلة، فصلَّى إلى غيرها؛ هل يعيد أم لا؟
فذهب الإمام الأعظم وأصحابه: إلى أنَّه لا يعيد صلاته؛ لأنَّه قد أتى بما في وسعه، فصلاته صحيحة، وبه قال الثوري، والنخعي، والشعبي، وعطاء، وابن المسيب، وحماد، وهو مذهب المؤلف، وهو رواية عن مالك، وهو قول الحسن والزهري.
يدل لهذا ما رواه الترمذي وابن ماجه، من حديث عامر بن ربيعة أنَّه قال: كنَّا مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في سفر، فغيَّمت السماء، وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وأعلمنا، فلمَّا [1] طلعت الشمس؛ إذا نحن قد صلينا لغير القبلة، فذكرنا ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فأنزل الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115]، وروى البيهقي في «المعرفة»، من حديث جابر قال: إنَّهم صلوا في ليلة مظلمة؛ كلُّ رجل منهم على حياله، فذكروا ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «مضت صلاتكم»، ونزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}.
وقول الترمذي: (ليس إسناده بذاك)، وقول البيهقي: (حديث جابر ضعيف): ممنوع؛ لأنَّه رُوي حديث جابر من ثلاث طرق؛ أحدها: أخرجه الحاكم في «المستدرك»، عن محمد بن سالم، عن عطاء بن أبي رباح عنه، ثم قال: (هذا حديث صحيح)؛ فافهم، وروي عن مالك فيمن صلى إلى غير القبلة، والحالة هذه: أنه يعيد في الوقت استحسانًا، وقال المغيرة: (يعيد أبدًا)، وعن حميد بن عبد الرحمن، وطاووس، والزهري: (يعيد في الوقت)، وزعم الشافعية: (إن فرغ
%ص 538%
من صلاته، ثم بان له أنَّه صلى إلى الغرب؛ استأنف الصلاة، وإن لم يبن له ذلك إلا باجتهاده؛ فلا إعادة عليه).
قلت: والأحاديث المذكورة حجة عليهم.
وزعم الواحدي (أنَّ ابن عمر ذهب إلى أنَّ الآية نازلة في التطوع بالنافلة).
قلت: وصريح الحديث السابق يرده، وقال ابن عباس: لما توفي النجاشي؛ جاء جبريل إلى النبيِّ الأعظم عليهما السلام، فقال: إنَّ النجاشي توفي؛ فصلِّ عليه، فقال الصحابة في أنفسهم: كيف نصلي على رجل مات ولم يصلِّ لقبلتنا؟ وكان النجاشي يصلي إلى بيت المقدس إلى أن مات، فنزلت الآية، وقال قتادة: (هذه الآية منسوخة بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، وهي رواية ابن عباس)، كذا قاله في «عمدة القاري».
قلت: والأحاديث التي سبقت صريحة في أنَّ الآية نزلت في أمر القبلة، ويدل عليه أنَّ أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ استداروا في الصلاة إليها؛ فليحفظ.
(وقد سلم النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم في ركعتي الظهر) وللأصيلي: (في ركعتين من الظهر) (وأقبل على الناس بوجهه)؛ أي: من غير تحويل صدره عن القبلة، بل التفت بعنقه، فإقباله عليهم بالوجه فقط، (ثم أتم ما بقي)؛ أي: من صلاته؛ أي: الركعتين الأخيرتين.
ومطابقة هذا التعليق للترجمة من حيث عدم وجوب الإعادة على من صلى ساهيًا إلى غير القبلة، وهو ظاهر؛ لأنَّه عليه السَّلام في حال إقباله على الناس داخل في حكم الصلاة، وأنَّه في ذلك الزمان ساهٍ مصلٍّ إلى غير القبلة، وهذا التعليق قطعة من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن بطال وابن التين إلى أنَّ هذا التعليق طرف من حديث ابن مسعود الذي سلف.
ورده الشَّارح فقال: (وهذا وهم منهما؛ لأنَّ حديث ابن مسعود ليس في شيء من طرقه أنَّه سلم من ركعتين)؛ فافهم.
قلت: فلله در هذا الشَّارح! وحقيق بأن يسمى إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
==================
(1/676)
[حديث عمر: وافقت ربي في ثلاث]
402# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَمْرو)؛ بفتح العين المهملة وسكون الميم (بن عون)؛ بالنون، هو أبو عثمان الواسطي البزاز _بالزاي المكررة_ نزيل البصرة، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئتين (قال: حدثنا هُشَيْم)؛ بضم الهاء، وفتح المعجمة، وسكون التحتية، هو ابن بَشير _بفتح الموحدة_ الواسطي، (عن حُميد)؛ بضم الحاء المهملة، هو الطويل البصري، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك)؛ هو الأنصاري، خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (قال: قال عمر) هو ابن الخطاب، القرشي، العدوي، ثاني خلفاء سيد المرسلين رضي الله عنه: (وافقت ربي) من الموافقة، من باب المفاعلة الذي يدل على مشاركة اثنين في فعل ينسب إلى أحدهما متعلقًا بالآخر [1]، والمعنى في الأصل: وافقني ربي، فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، ولكنَّه راعى الأدب، فأسند الموافقة إلى نفسه لا إلى الرب، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر وغيره.
واعترضه صاحب «اللامع» فقال: (لا يحتاج إلى ذلك، فإن من وافقك؛ فقد وافقته) انتهى.
قلت: بل يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ الله تعالى أفعاله وأحكامه تأتي على وفق إرادته، فقد يريد العبد شيئًا ولا يريد الرب ذلك الشيء؛ يعني: أنه تعالى أراد هذه الأحكام، وإرادته مرضية محبوبة لإرادتي؛ حيث تقع على وفق الحكمة، وإنما يحتاج إليه أيضًا حتى لا ينسب إلى سوء الأدب مع الرب عزَّ وجلَّ، وإن كان باب المفاعلة يدل على المشاركة؛ فإنَّها قاعدة اصطلاحية نحوية كما أنَّ الخبر يحتمل الصدق والكذب ولو كان في كلامه تعالى، وذلك من حيث الاصطلاح، وإلا؛ فكلامه تعالى منزَّه عن الكذب، بل هو صدق؛ فافهم.
(في ثلاث)؛ أي: ثلاثة أمور، وإنَّما لم يؤنث الثلاث مع أنَّ الأمر مذكر؛ لأنَّ المميز إذا لم يكن مذكورًا؛ جاز في لفظ العدد التذكير والتأنيث.
فإن قلت: حصلت الموافقة له في أشياء غير هذه الثلاثة؛ منها: في أسارى بدر؛ حيث كان رأيه ألا يفدون، فنزل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ [2] لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67]، ومنها: في منع الصلاة على المنافقين، فنزل: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]، ومنها: في تحريم الخمر، ومنها: ما رواه أبو داود الطيالسي، من حديث حماد بن سلمة، عن أنس قال عمر: وافقت ربي في أربع، وذكر ما في البخاري قال: ونزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 12 - 14]، فقلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت كذلك، ومنها: في شأن عائشة لما قال أهل الإفك ما قالوا، فقال: يا رسول الله؛ من زوجكها؟ فقال: «الله تعالى»، قال: أفننظر أن ربك دلس عليك فيها؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم، فأنزل الله ذلك، وذكر ابن العربي: (أن الموافقة في أحد عشر موضعًا).
قلت: يشهد لذلك ما رواه الترمذي مصححًا، من حديث ابن عمر قال: ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه، وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر، وهذا يدل على كثرة موافقته، فإذا كان كذلك؛ فكيف نص على الثلاث في العدد؟
قلت: التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد عنه، ويحتمل أنَّه ذكر ذلك قبل أن يوافق في أربع وما زاد، وهذا الاحتمال فيه نظر؛ لأنَّ عمر أخبر بهذا بعد موت النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا يتجه ما ذكر، ويحتمل أنَّ الراوي اعتنى بذكر الثلاث دون ما سواها؛ لغرض له، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: ويحتمل أنَّ الراوي حضر هذه الموافقة في هذه الثلاث، فعبر عما سمعه وقتئذٍ، ثمَّ وقت آخر حضر موافقة أخرى، فعبر عنها، والله تعالى أعلم.
ولموافقات عمر
%ص 539%
تأليف خاص وصل فيه إلى أكثر من مئة، والله تعالى أعلم.
(قلت:) وللأربعة: (فقلت) (يا رسول الله؛ لو اتخذنا من مقام إبراهيم) هو خليل الرحمن عليه السَّلام؛ (مصلى)؛ أي: قبلة، قاله الحسن، وذلك بأن جعل المصلى بينه وبين القبلة.
قال إمام الشَّارحين: وجواب (لو) محذوف، ويجوز أن تكون (لو)؛ للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، واختلفوا فيه، فقال ابني الصائغ وهشام: هي قسم برأسها لا تحتاج إلى جواب؛ كجواب الشرط، ولكن قد يؤتى لها بجواب منصوب؛ كجواب (ليت)، وقال ابن مالك: هي (لو) المصدرية أغنت عن فعل التمني، انتهى.
وزعم ابن حجر: أنها (لو) الشرطية أشربت معنى: التمني.
قلت: هذا قول ملفق من قولين جعله واحدًا، ونسبه لنفسه، وهو غير ظاهر؛ فافهم.
(فنزلت: {وَاتَّخِذُوا})؛ فيه قراءتان، أحدهما: وهي المشهورة بلفظ الأمر؛ يعني: وقلنا لهم: اتخذوا، والثانية: بلفظ الماضي؛ عطفًا على: {جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخَذُوا}، ({مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}) [البقرة: 125]: تصلون فيه ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات، كما روي عن مقاتل وقتادة والسدي: أنَّ قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا ... }؛ الآية: أمر بالصلاة عند المقام.
وأراد عمر بقوله: لو اتخذنا؛ يعني: أفلا نؤثره؛ لفضله بالصلاة فيه؛ تبركًا وتيمُّنًا بموطئ قدم إبراهيم عليه السَّلام؟ فالخطاب بالاتخاذ إنَّما هو لأمة نبينا النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لا لأمة إبراهيم عليه السَّلام.
والأمر بتعيين المقام للصلاة للاستحباب؛ لانعقاد الإجماع على أنَّ أماكن المسجد الحرام لا تفاوت بينها في حق ركعتي الطواف ولا في غيرهما من الصلوات، فعلم بذلك أن أهل الإجماع حملوا الأمر بتعيُّن المقام للصلاة على الاستحباب، وهو لا ينافي كون ركعتي الطواف واجبة، كما هو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ فافهم.
والمَقام؛ بفتح الميم، ويجوز أن يكون مصدرًا ميميًّا من قام يقوم، وأن يكون اسمًا لموضع القيام، وهو الموضع الذي يضع عليه الإنسان قدميه حيث يقوم.
والمُقام؛ بضم الميم، موضع الإقامة، ونفس الإقامة أيضًا، والتعريف المستفاد من إضافة المقام إلى إبراهيم للعهد، والمعهود موضعه الذي وضع قدميه حين دعا الناس إلى الحج، أو حين رفع بناء البيت، وذلك الموضع هو الحجر الذي فيه أثر قدميه؛ لأنَّه عليه السَّلام قام عليه حقيقة في ذينك الوقتين، ويطلق لفظ: المقام أيضًا على الموضع الذي كان الحجر فيه حين قام عليه ودعا أو رفع البناء؛ لأنَّ ذلك الموضع وإن كان موضعًا للحجر حقيقة وبالذات؛ فهو موضع لإبراهيم؛ توسعًا وبالواسطة، والمقام المذكور في قول النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما»، وفي قول أنس بن مالك: رأيت المقام فيه أصابعه وأخمص قدميه والعقب غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، فالمراد به: نفس الحجر الذي قام عليه؛ فافهم.
وروى البغوي: (أن إبراهيم عليه السَّلام استأذن سارة أن يزور إسماعيل عليه السَّلام، فأذنت له، وشرطت عليه ألا ينزل، فقدم مكة حتى جاء إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: ذهب يتصيد، ويجيء الآن إن شاء الله، فانزل؛ يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركة، ولو جاءت يومئذٍ بخبز أو برٍّ أو شعير أو تمر؛ لكان أكثر أراضي الله برًّا وشعيرًا وتمرًا، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام، فوضعته عن شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولته إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك؛ فأقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، فلمَّا جاء إسماعيل؛ وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم؛ شيخ أحسن الناس وجهًا وأطيبهم ريحًا، فقال: كذا وكذا، فقلت له: كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه، فقال: ذلك إبراهيم عليه السَّلام، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ثم لبث ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نباله تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه؛ قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل؛ إن الله أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال: أعينك، قال: إنَّ الله أمرني أن أبني هنا بيتًا، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء؛ جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة) انتهى، والله أعلم.
وتوجيه القراءتين في {وَاتَّخِذُوا}: أن يقال: {وَاتَّخَذُوا} بلفظ الماضي، فمقام إبراهيم: البيت الذي بناه، وهو الكعبة، والمصلى: القبلة؛ لأنَّ الناس سواء حمل على العموم أو خص بالذاكرين لا يصح أن يخبر عنهم بأنَّهم اتخذوا الحجر المعهود أو موضعه صلاة أو دعاء؛ بمعنى: أنَّهم يصلون فيه أو يدعون؛ لأنَّ اتخاذه كذلك إنَّما هو من أحكام شريعتنا ليس شريعة قديمة مثل كون البيت مثابة، فلا جرم أنَّ معنى (المصلى): الموضع الذي يصلى إليه، فإنَّ موضع الصلاة أعم من الموضع الذي يصلى فيه، ومن الموضع الذي يصلى إليه، واستلزم ذلك أن يقال: مقام إبراهيم: هو الكعبة؛ لأنَّ المتوجه إليه في الصلاة إنَّما هو الكعبة بعينها، وسميت بمقام إبراهيم؛ لاهتمامه بها؛ من حيث إنه بناها بنفسه بمعاونة ابنه إسماعيل.
وأمَّا إذا قرئ بلفظ الأمر؛ فيصح أن يجعل (المصلى)؛ بمعنى: ما يصلى فيه، وأن يجعل (المقام)؛ بمعنى: موضع القدمين؛ إذ لا مانع من أن يؤمر جميع الناس بأن يصلوا فيه، وإن لم يصحَّ أن يخبر عنهم بأنَّهم صلوا فيه، ويكون لفظ: (مقام إبراهيم) على قراءة الماضي موضوعًا موضع ضمير البيت؛ للإشارة إلى أنَّ
%ص 540%
علة اتخاذهم إياه قبلة إضافتُه إلى إبراهيم عليه السَّلام؛ من حيث إنَّه بناه بأمر الله تعالى، وروى ابن عباس أنَّه عليه السَّلام قال: «إنَّ لله في كل يوم وليلة مئة وعشرين رحمة تنزل على هذا البيت؛ ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين» انتهى «حواشي شيخ زاده».
(وآية الحجاب)؛ كلام إضافي يجوز فيه: الرفع والنصب والجر، أمَّا الرفع؛ فيحتمل وجهين؛ أحدهما: بالابتداء محذوف الخبر، تقديره: وآية الحجاب كذلك، والآخر: أن يكون معطوفًا على مقدر، تقديره: هو اتخاذ المصلى وآية الحجاب، وأمَّا النصب؛ فعلى الاختصاص، وأمَّا الجر؛ فعلى أنه معطوف على مجرور مقدر، وهو بدل من (ثلاث)، تقديره: في ثلاث: اتخاذ المصلى وآية الحجاب، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(قلت: يا رسول الله) أي: قال عمر لرسول الله: (لو أمرت نساءك أن يحتجبن)؛ أي: يتسترن عن غير أزواجهن من الأجانب؛ (فإنَّه يكلِّمهنَّ) الفاء؛ للسببية (البَر)؛ بفتح الموحدة، صفة مشبهة، من بررت أبر، من باب علم يعلم، فأنا برٌّ وبارٌّ، ويجمع (البرُّ) على (أبرار)، و (البارُّ) على (البررة)؛ وهو ما قابل الفاجر، (والفاجر)؛ من الفجور، يقال: فجر فجورًا: فسق، وفجر: كذب، وأصله الميل، فالفاجر: المائل عن الحق.
(فنزلت آية الحجاب) هي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} [الأحزاب: 59]، قال قتادة: (توفي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن تسع؛ خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية [3]، وواحدة من بني هارون: صفية، وأمَّا أولاده؛ فالقاسم، وعبد الله، والطاهر، والطيب، وفاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم؛ كلهم من خديجة، وإبراهيم من مارية القبطية، وجميع أولاده عليه السَّلام ماتوا في حياته غير فاطمة، وكانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهنَّ، فأحب عمر أن يأمر الله ورسوله بإرخاء الجلابيب عليهنَّ إذا أردنالخروج إلى حوائجهنَّ، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف، فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبًا شابًّا، وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تبرز للحاجة، فتعرض لها بعض الفساق يظن أنها أمة، فتصيح به، فيذهب، فشكوا ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فنزلت الآية المذكورة)، والجلابيب: جمع جُلباب؛ بضم الجيم، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابني عباس ومسعود: أنَّه الرداء، وقيل: إنَّه القناع، والصحيح: أنَّه الثوب الذي يستر جميع البدن، وفي «الصحيحين» عن أم عطية قلت: يا رسول الله؛ إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: «لتلبسها صاحبتها من جلبابها»، وفيهما عنه عليه السَّلام أنه قال: «رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة»، وثبت عنه أنَّه قال: «نساء كاسيات، عاريات، مائلات، مميلات، رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها»، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمَة قد تقنعت ضربها بالدرة؛ محافظة على زيِّ الحرائر، فانظر هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد، وأبيحت الخمور، والولد متلف، والبيت مدلف، والرأي مخلف، والعبد مسرف، والقلب خراب، والخطأ صواب، والزنى فاش، والرياء ماش، والإمام داش، والقاضي راش، والصوفي عكر، والصافي كدر، والملك لاه، والوزير ساه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فيجب على كل راع أن يمنع النساء من الخروج والركوب على السروج؛ فافهم، والله أعلم.
(واجتمع نساء النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: الذين دخل بهن، والذين عقد عليهن ولم يدخل بهن، والذين خطبهن ولم يتم نكاحه معهن، ومجموعهن نيف وثلاثون، كما بسطه القرطبي في «تفسيره».
(في الغيرة عليه)؛ بفتح الغين المعجمة، وهي الحمية والأنفة، يقال: رجل غيور وامرأة غيور؛ بلا هاء؛ لأنَّ فعولًا يشترك فيه الذكر والأنثى، يقال: غرت على أهلي أغار غيرة، فأنا غائر وغيور؛ للمبالغة، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(فقلت) أي: قال عمر (لهن: عسى ربه إن طلقكن)؛ يعني: لتنتهن عن ذلك، وإلا؛ فعسى ربه إن طلقكن (أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنَّ).
فإن قلت: المبدلات خير [4] منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين.
قلت: إذا طلقهن عليه السَّلام؛ لعصيانهن له، وإيذائهن إياه؛ لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة له عليه السَّلام، والنزول على رضاه وهواه خيرًا منهن، ولهذا قال تعالى: {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5]، وإنَّما أخليتْ هذه الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؛ لأنَّهما صفتان متنافيتان لا يجمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بدٌّ من الواو، قاله الإمام جار الله في «كشافه».
وقال الإمام حافظ الدين النسفي: (الآية واردة في الإخبار عن المقدرة لا عن الكون في الوقت؛ لأنَّه عزَّ وجلَّ قال: {إِن طَلَّقَكُنَّ}، وقد علم أنَّه لا يطلقهن، وهذا كقوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ... }؛ الآية [محمد: 38]، فهذا إخبار عن القدرة، وتخويف لهن لا أن في الوجود من هو خير من أمَّة محمد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم) انتهى.
(فنزلت هذه الآية)؛ أي: المذكورة، قال إمام الشَّارحين: ومطابقة هذا الحديث للترجمة في الجزء الأول، وهو قوله: (لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى)، والمراد بـ (المقام): الكعبة على قول، وهي قبلة، والباب في ما جاء في القبلة، وعلى قول من فسر المقام بالحرم؛ فالحرم كله قبلة في حق الآفاقيين، والباب في أمور القبلة، وأمَّا على قول من فسر المقام بالحجر الذي وقف عليه إبراهيم؛ فتكون المطابقة للترجمة بتعلقه
%ص 541%
بالمتعلق بالقبلة لا بنفس القبلة، انتهى.
ثم قال رضي الله عنه: (ويستنبط من الحديث أحكام، وهي على ثلاثة أنواع، كما صرح بها الحديث:
الأول: سؤال عمر رضي الله عنه من رسول الله عليه السَّلام أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلًّى.
وزعم الخطابي أنَّ عمر سأل أن يجعل ذلك الحجر الذي فيه أثر مقامه مصلًّى بين يدي القبلة يقوم الإمام عنده، فنزلت الآية.
وزعم ابن الجوزي فإن قلت: ما السر في أنَّ عمر لم يقنع بما في شرعنا حتى طلب الاستنان بملة إبراهيم، وقد نهاه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن مثل هذا حين أتى بأشياء من التوراة؟
والجواب: أنَّ عمر لما سمع قوله تعالى في إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، ثم سمع: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]؛ علم أن الائتمام به مشروع في شرعنا دون غيره، ثم رأى أن البيت مضاف إليه، وأنَّ أثر قدمه في المقام كرقم اسم الباني في البناء؛ ليُذكر به بعد موته، فرأى الصلاة عند المقام كقراءة الطائف بالبيت اسم من بناه) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (ولم تزل آثار قدمي إبراهيم عليه السَّلام ظاهرة فيه معروفًا عند العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في «قصيدته اللامية» المعروفة:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا، كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس، عن الزهري: أن أنس بن مالك حدثهم قال: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السَّلام أخمص قدميه غير أنَّه أذهبه مسح الناس بأيديهم، وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ: حدثنا يزيد بن زريع: حدثنا سعيد عن قتادة: {وَاتَّخِذُوا ... }؛ الآية [البقرة: 125]، قال: إنَّما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأُمَّة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيها، فما زالت هذه الأمَّة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى) انتهى.
(النوع الثاني: الحجاب، فكان عليه السَّلام جاريًا فيه على عادة العرب، ولم يكن يخفى عليه عليه السَّلام أنَّ حجبهن خير من غيره، لكنَّه كان ينظر الوحي؛ بدليل أنَّه لم يوافق عمر حين أشار بذلك)، قاله القرطبي.
قلت: وحديث الباب يردُّ عليه؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه لما سأل رسول الله عليه السَّلام أن يحجب نساءه؛ لم يحصل بينهما عدم موافقة ولا إشارة بالعدم، بل عقب سؤال عمر نزل الحجاب؛ بدليل عليه قوله: (فنزلت آية الحجاب)، فأتى بالفاء التعقيبية؛ إشارة إلى عدم وقوع المهلة بينهما، بل عقب السؤال نزل الحجاب، ويدل عليه أيضًا ما رواه أبو داود الطيالسي: عن أنس قال: قال عمر: (وافقت ربي في أربعة ... )؛ الحديث، وفيه: قلت: يا رسول الله؛ لو ضربت على نسائك الحجاب؛ فإنَّه يدخل عليهن البرُّ والفاجر، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]»، وهذا يدل على أنَّه لم يقع بينهما إشارة بعدم الموافقة، بل كان عليه السَّلام يحب في نفسه نزول الحجاب، ولم يأمر به ولم ينه عنه حتى نزلت الآية؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وكان الحجاب في السنة الخامسة، قاله قتادة، وقيل: في السنة الثالثة، وهو قول أبي [5] عبيدة يعمر بن المثنى، وعند ابن سعد: أنَّه في ذي القعدة سنة أربع، وكان السبب في ذلك أنه لما تزوج زينب بنت جحش؛ أولم عليها، فأكل جماعة، وهي مولية بوجهها إلى الحائط ولم يخرجوا، فخرج رسول الله عليه السَّلام ولم يخرجوا، وعاد ولم يخرجوا، فنزلت آية الحجاب) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فيكون نزول الحجاب سنة خمس؛ لما رواه الدارقطني: أنَّه عليه السَّلام تزوج زينب بالمدينة في سنة خمس من الهجرة، وتوفيت سنة عشرين، وهي بنت ثلاث وخمسين، ذكره القرطبي، وقال القاضي عياض: (أمَّا الحجاب الذي خص به زوجات النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا لغيرها، ولا إظهار شخصهن، كما فعلت حفصة يوم مات أبوها، ستر شخصها حين خرجت، وبنيت عليها قبة لما توفيت، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}) انتهى.
قلت: وهذه الآية عامة شاملة لجميع النساء، فالله سبحانه أمر الجميع [6] بالتستر، وأنَّ ذلك لا يكون إلا بما لا يصف [7] جلدها إلا إذا كانت مع زوجها؛ فيجب الستر والتقنع في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله عليه السَّلام منعوا النساء المساجد بعد وفاته عليه السَّلام مع قوله: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لو عاش رسول الله عليه السَّلام إلى وقتنا هذا؛ لمنعهنَّ من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل.
قلت: فيجب في زماننا المنع مطلقًا، سواء كان خروجهن للمساجد أو لغيرها؛ لفساد الزمان؛ فافهم.
النوع الثالث: اجتماع نساء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في الغيرة عليه، وهو ما ذكره البخاري في تفسير سورة البقرة، حدثنا مسدد، عن يحيى، عن حميد، عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله؛ يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعض نسائه، فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه؛ فقالت: يا عمر؛ أمَا في رسول الله عليه السَّلام ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ ... }؛ الآية [التحريم: 5]، وأخرج في سورة التحريم: حدثنا عمرو بن عون: حدثنا هشيم عن حميد، عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكنَّ أن
%ص 542%
يبدله أزواجًا خيرًا منكن، فنزلت الآية.
قال إمام الشَّارحين: (وأصل هذه القضية: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا صلى الغداة؛ دخل على نسائه امرأة امرأة، وكانت قد أهديت لحفصة بنت عمر رضي الله عنهما عكة من عسل، فكانت إذا دخل عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مسَلِّمًا؛ حبسته، وسقته منها، وأنَّ عائشة رضي الله عنها أنكرت احتباسه عندها، فقالت لجويرة عندها حبشية يقال لها: خضرة: إذا دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على حفصة؛ فادخلي عليها، فانظري ماذا يصنع، فأخبرتها الخبر وشأن العسل، فغارت، فأرسلت إلى صواحبها، وقالت: إذا دخل عليكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقلن: إنا نجد منك ريح مغافر، وهو صمغ العرفط [8] كريه الرائحة، وكان عليه السَّلام يكره ويشق عليه أن يوجد منه ريح منتنة؛ لأنَّه يأتيه الملَك، فدخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على سودة، فقالت: فما أردت أن أقول ذلك لرسول الله عليه السَّلام، ثم إني فرقت من عائشة، فقلت: يا رسول الله؛ ما هذه الريح التي أجدها منك، أكلت المغافر؟ قال: «لا، ولكن حفصة سقتني عسلًا»، ثم دخل على عائشة، فأخذت بأنفها، فقال لها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما شأنك؟»، قالت: أجد ريح المغافر، أكلتها يا رسول الله؟ فقال: «لا، بل سقتني حفصة عسلًا»، قالت: جرست إذًا نحله العرفط، فقال لها: «والله لا أطعمه أبدًا»، فحرمه على نفسه، قالوا: وكان عليه السَّلام قسم الأيام بين نسائه، فلما كان يوم حفصة؛ قالت: يا رسول الله؛ إن لي إلى أبي حاجة نفقة لي عنده، فائذن لي أن أزوره، وآتي بها، فأذن لها، فلما خرجت؛ أرسل رسول الله [صلى الله] عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية أم إبراهيم، وكان قد أهداها له المقوقس، فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها، فأتت حفصة، فوجدت الباب مغلقًا، فجلست عند الباب، فخرج رسول الله ووجهه يقطر عرقًا، وحفصة تبكي، فقال: «ما يبكيك؟»، فقالت: إنَّما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ثم وقعت عليها في يومي، وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقًّا؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، فقالعليه السلام: «أليس هي جارية قد أحلها الله لي؟ اسكتي، فهي علي حرام، ألتمس بذلك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهن، وهو عندك أمانة»، فلما خرج عليه السَّلام؛ قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشرك أنَّ رسول الله عليه السَّلام قد حرم عليه أمته مارية، فقد أراحنا الله منها، وأخبرت عائشة بما رأت، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه عليه السَّلام، فلم تزل بنبي الله عليه السَّلام حتى حلف ألا يقربها، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1]؛ يعني: العسل ومارية، ثم إنَّ عمر رضي الله عنه لما بلغه ذلك؛ دخل على نساء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فوعظهن، وزجرهن، ومن جملة ما قال: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، فأنزل الله هذه الآية، فهذا من جملة ما وافق عمر ربه، ووافقه ربه عز وجل) انتهى، والله تعالى أعلم.
وبالسند إليه قال: (حدثنا ابن أبي مريم) هو سعيد بن محمد بن الحكم؛ كذا في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذر، عن المستملي، قال (أبو عبد الله _أي: المؤلف_: وحدثنا ابن أبي مريم)، وفي رواية ابن عساكر: (قال محمد _أي: المؤلف أيضًا_: وقال ابن أبي مريم)، وفي رواية الأصيلي، عن الحمُّوي والكشميهني: (وقال ابن أبي مريم)، (أخبرنا يحيى بن أيوب) هو الغافقي (قال: حدثني)؛ بالإفراد (حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة، هو الطويل التابعي (قال: سمعت أنسًا)؛ هو ابن مالك الأنصاري (بهذا)؛ أي: بالحديث المذكور سندًا ومتنًا، فهو من رواية أنس، عن عمر، لا من رواية أنس، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فافهم، نبه عليه إمام الشَّارحين، ثم قال: وهذا ذكره البخاري معلقًا هنا، وفي «التفسير» أيضًا، ونص عليه أيضًا خلف وصاحبا «المستخرج»، وهو الظاهر، ووقع في رواية كريمة: (حدثنا ابن أبي مريم)، وهو غير ظاهر؛ لأنَّ البخاري لم يحتج بيحيى بن أيوب، وإنَّما ذكره في الاستشهاد والمتابعة، وقول ابن طاهر: (خرَّج له الشيخان)، فيه نظر؛ لأنَّه نقض كلام نفسه بنفسه؛ لذكره له ترجمة في «أفراد مسلم»، وفائدة ذكر البخاري له تصريح حميد فيه بسماعه إياه من أنس، فحصل الأمن من تدليسه، انتهى.
وزعم الكرماني أنَّ استشهاد المؤلف بهذا الطريق؛ للتقوية؛ دفعًا لما في الإسناد السابق من ضعف عنعنة هشيم، فإنَّه قيل: إنَّه مدلس.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (فيه نظر؛ لأنَّ معنعنات «الصحيحين» كلها مقبولة محمولة على السماع، وكلامه يدل على هذا، فذكره كما ذكرنا هو الواقع في محله)؛ فافهم.
وزعم الكرماني أيضًا: (وإنما لم يعكس المؤلف بأن يجعل هذا الإسناد أصلًا؛ لما في يحيى من سوء الحفظ، ولأنَّ في ابن أبي مريم ما نقله بلفظ النقل والتحديث، بل ذكره على سبيل المذاكرة، ولهذا قال البخاري: قال ابن أبي مريم).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: فيه نظر؛ لأنَّه صرح في رواية كريمة: (حدثنا ابن أبي مريم)، فهو يعكر على ما قاله، والظاهر: أنَّ الكرماني لو اطلع على هذه الرواية؛ لما قال ما ذكره، انتهى.
قلت: والتصريح بالتحديث ثبت أيضًا في رواية أبي ذر عن المستملي: (قال أبو عبد الله: وحدثنا ابن أبي مريم)، والمستملي أحفظ الرواة، فيكون المؤلف نقله على لفظ النقل والتحديث لا على سبيل المذاكرة، كما زعمه الكرماني، فحقيق بأنَّ الكرماني لم يطلع على هذه الروايات، ولو اطلع؛ لما قال ما قال، فإنَّه قد ركب متن عميا، وخبط خبط عشوى؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (بالآخرة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (تكون)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (وجويرة)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (خيرًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أبو)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (حميع)، والمثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (لا يوصف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (العزقط)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (بالآخرة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (تكون)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (وجويرة)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (خيرًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أبو)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (حميع)، والمثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (لا يوصف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (بالآخرة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (تكون)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (وجويرة)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (خيرًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أبو)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (حميع)، والمثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (لا يوصف)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/677)
[حديث: بينا الناس في بقباء]
403# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ هو التنيسي المنْزِل، الدمشقي الأصل، وفي (يوسُف) تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قال: أخبرنا مالك)، كذا للأصيلي وابن عساكر، ولغيرهما: (مالك بن أنس)؛ هو الأصبحي المدني، (عن عبد الله بن دينار) هو المكي التابعي، (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما (قال: بينا) أصله: بين، فأشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، يقال: بينا وبينما، وهما
%ص 543%
ظرفا زمان؛ بمعنى: المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما ألا يكون فيه (إذ) و (إذا)، وقد جاء كثيرًا، تقول: بينا زيد جالس؛ دخل عليه عمرو، وإذ دخل عليه عمرو، وإذا دخل دخل عليه، وبينا هنا: أضيف إلى المبتدأ والخبر، وجوابه قوله: (إذ جاءهم آتٍ) انتهى، قرره إمام الشَّارحين.
(الناس بقُباء)؛ بضمِّ القاف وتخفيف الموحدة بعدها، قال الشَّارح: (وفيه ست لغات: المد، والقصر، والتذكير، والتأنيث، والصرف، والمنع، وأفصحها: المد) انتهى.
قلت: وأفصحها: المد، والتذكير، والتنوين، هذه اللغة المشهورة، والقصر، والتأنيث، وترك الصرف حكاها صاحب «المطالع» عن الخليل، ثم قال إمام الشَّارحين: وهو موضع معروف ظاهر المدينة، والمعنى هنا: بينا الناس في مسجد قباء، وهم (في صلاة الصبح)، واللام في الناس؛ للعهد الذهني؛ لأنَّ المراد: أهل قباء ومن حضر معهم في الصلاة بمسجدهم، وفي حديث البراء بن عازب المتقدم في صلاة العصر، ولا منافاة بين الخبرين؛ لأنَّ الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة، وهم بنو حارثة، ووقت الصبح في اليوم الثاني إلى من هو خارجها، وهم بنو عمرو بن عوف بقباء، قاله إمام الشَّارحين، وقوله: (إذ جاءهم) جواب (بينا)، كما ذكرنا؛ أي: أهل قباء (آتٍ)؛ بالمد، فاعل من: أتى يأتي، فأُعل إعلال قاضٍ، وهذا الآتي هو عبَّاد _بالتشديد_ ابن بشر؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة، قاله في «عمدة القاري»، وتبعه الشراح.
قلت: واقتصر ههنا على هذا الآتي، وفي حديث البراء اختلف فيه هل هو عباد بن بشر أو عباد بن نهيك؟ والأول: قول ابن بشكوال، والثاني: قول أبي عمرو، فالظاهر من جزم إمام الشَّارحين تعيين الأول ههنا، لكن يحتمل أن يكون الثاني؛ فافهم.
(فقال)؛ أي: الآتي: (إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد أنزل عليه الليلة قرآن)؛ بالتنكير؛ لأنَّ المراد البعض، وفي رواية الأصيلي: (القرآن)؛ بالألف واللام التي هي للعهد، وأراد بالقرآن قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ... }؛ الآيات [البقرة: 144]، وأطلق (الليلة) على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازًا، وفيه أيضًا مجاز حيث ذكر الكل، وهو (قرآن)، وأراد الجزء وهو الآيات، كذا قرره إمامنا الشَّارح رضي الله عنه.
(وقد أُمر)؛ بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول؛ أي: أمر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: أمره الحكم العدل سبحانه، وإنَّما حذف للعلم به، وتعظيمه (أن) أي: بأن (يستقبل) أي: باستقبال (الكعبة) فكلمة: (أن) مصدرية مؤولة بمصدر، والمعنى: باستقبالها، كما علمت، (فاستقبَلوها)؛ بفتح الموحدة عند أكثر الرواة على صيغة الجمع من الماضي، والضمير فيه يرجع إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون الضمير راجعًا لأهل قباء؛ يعني: حين سمعوا من الآتي ما بلغهم؛ استقبَلوا الكعبة، وفي رواية الأصيلي: (فاستقبِلوها)؛ بكسر الموحدة على صيغة الأمر للجمع، والأمر فيه لأهل قباء من الرجل الآتي، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قلت: والأظهر أن يكون الضمير راجعًا للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه؛ لأنَّ هذا من تمام كلام الآتي؛ يعني: أنَّه أخبرهم بأنَّ الرسول أمر باستقبال الكعبة، فاستقبلها هو وأصحابه، وأنتم كذلك يجب عليكم استقبالها، فإنَّ هذا صار كالتأكيد للأمر المذكور؛ فافهم.
وقوله: (وكانت وجوههم إلى الشام)؛ من كلام الرجل المخبِر بتغيير القبلة، قاله إمام الشَّارحين، وزعم الكرماني أنه من كلام ابن عمر، انتهى.
قلت: والأظهر أنَّه من كلام الرجل المخبر؛ لأنَّه لما بلغهم ما رأى من تغير القبلة؛ رآهم مستقبلين الشام، فأخبر عنهم بذلك.
قال إمام الشَّارحين: وعلى هذا _أي: أنه من كلام الرجل_؛ تكون الواو للحال، وتكون الجملة حالية على رواية الأكثرين، وهو أن يكون بصيغة الجمع من الماضي، وعلى رواية الأصيلي تكون الواو للعطف، وجاء عطف الجملة الخبرية على الإنشائية، والضمير في (وجوههم) يحتمل الوجهين المذكورين، انتهى؛ يعنى: أنه يحتمل رجوعه للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، ويحتمل رجوعه لأهل قباء.
قلت: والظاهر الأول؛ لأنَّ هذا حكاية عمَّا فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وهو تأكيد للأمر المذكور؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنَّ الأظهر عود الضمير لأهل قباء، ويرجح رواية الكسر أنَّه عند المصنف في «التفسير»: (وقد أمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها)، فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأنَّ الذي بعده أمر لا أنه بقية الخبر الذي قبله.
ورده إمام الشَّارحين فقال: («ألا» في مثل هذا الموضع تكون للتنبيه؛ لتدلَّ على تحقق ما بعدها، ولا يسمى حرف استفتاح إلا في مكان يمهل معناها، وفي ترجيحه الكسر بهذا نظر؛ لأنَّه يعكر عليه).
قوله: (فاستداروا) إذا جعل (وكانت وجوههم)، من كلام ابن عمر، انتهى.
قلت: وما زعمه ابن حجر غير ظاهر، فضلًا عن أن يكون أظهر، بل هو باطل، والصواب: أنَّ الضمير يرجع للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وأصحابه في الوجهين؛ لأنَّ هذا من كلام الرجل المخبر، ساقه؛ لأجل التحقيق والتأكيد على الذي بلَّغهم به، وما زعمه من ترجيح الكسر هذا ممنوع، وترجيح بلا مرجح، فإنَّ الذي عند المؤلف في «التفسير» لا يدل على ترجيحه؛ لأنَّ المراد بقوله: (ألا فاستقبلوها) تحقيق الوقوع، ويدل على بطلان ما زعمه قوله: (فاستداروا)، فإنَّه يدل على أنَّ الرواية بالفتح، وهي الأرجح؛ لموافقة المعنى، أمَّا على ما زعمه؛ فلا يظهر؛ لأنَّ فيه مخالفة المعنى، وصريح اللفظ يرده، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في
%ص 544%
العلم.
(إلى الكعبة) بأن تحول الإمام عن مكانه، ثم تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحول النساء أيضًا حتى صرن خلف الرجال، فأتمَّ الإمام بهم الصلاة، ففي الحديث: دليل على جواز الاجتهاد في أمر القبلة، وأنَّ المصلي إذا صلى إلى جهة بالتحري، ثمَّ تبدل اجتهاده إلى جهة أخرى، فتحول إليها ثم وثم؛ فصلاته جائزة، ولو صلى الصلاة الرباعية إلى أربع جهات بالتحري؛ جائز.
فإن قلت: تحولهم مع الإمام فيه عمل كثير، وهو يفسد الصلاة، فكيف أتمَّ الإمام الصلاة بهم؟
قلت: اختلف في العمل الكثير، فروي عن الإمام الأعظم رضي الله عنه: أنَّه مفوض لرأي المصلي إن استكثره؛ فكثير، وإن استقله؛ فقليل، وروي عنه: أنَّ الحركات الثلاث كثير، وبها أخذ الأئمة المتأخرون، فيقال: إنَّ تحولهم لم يكن بثلاث خطوات، بل كان بخطوة أو خطوتين، ويحتمل أنَّ الخطوات لم تكن متوالية، بل وقعت متفرقة، وهو غير مفسد في الصلاة لتخلل المهلة بينها، ويحتمل أنَّ ذلك كان قبل تحريم المشي في الصلاة، والله أعلم.
وفي الحديث: جواز تعليم من ليس في الصلاة من هو فيها، وأنَّه لا يضر صلاته، وفيه: دليل على أنَّ الخشوع في الصلاة مستحب، وفيه: دليل على جواز استماع المصلي كلام من ليس في الصلاة، وأنَّه لا يضر عليه صلاته، والحديث حجة على المتصوفة حيث زعموا أنَّ الخشوع في الصلاة واجب، وهو باطل؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لأمروا بإعادة الصلاة، فلما دلَّ الحديث على أنَّهم أتموا صلاتهم، ولم يعيدوها؛ تبين أنَّها جائزة وإن حصل فيها عدم الخشوع، وصريح الحديث يدل على عدم وجوب الخشوع في الصلاة، وهو الصواب؛ فافهم، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، وأفعل التفضيل على بابه بإجماع المفسرين، فمن صلى بدون خشوع؛ فهو مفلح من أهل الفلاح، ومن صلى به؛ فهو أفلح، فدل على أنَّه مستحب لا واجب، كما لا يخفى؛ فافهم.
وفي الحديث: أنَّ من لم تبلغه الدعوة، ولم يمكنه استعلام ذلك؛ فالفرض غير لازم له، فحكم النسخ لا يثبت في حقه ما لم يبلغه.
وفي الحديث: جواز قبول خبر الواحد، فلو صلى بالتحري إلى جهة، فجاء رجل وأخبره أنَّ القبلة في جهة أخرى؛ أخذ بقوله، واستدار، وأتمَّ، وهكذا، وكذا لو أخبره أنَّ هذه الذبيحة ذبيحة مسلم؛ فهي طاهرة، أو ذبيحة مجوسي؛ فهي نجسة، ولو أخبره رجلان أحدهما: بأنَّها ذبيحة مسلم، والآخر: أنها ذبيحة مجوسي؛ فلا يأخذ بقولهما؛ لتهاتر الخبرين، وتبقى الذبيحة على الأصل، وهو الحرمة؛ لأنَّه لا تحل إلا بالذكاة الشرعية، ولو أخبره رجلان عن ماء وتهاترا في الطهارة والنجاسة؛ لا يأخذ بقولهما، ويبقى الماء على الأصل، وهو الطهارة الأصلية؛ فافهم.
وفي الحديث: أنَّ الذي يؤمر به النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يلزم أمته.
قلت: وذلك لعدم قيام الدليل على أنَّه خاصٌّ به، ولأمره عليه السَّلام أصحابه باتباعه، فهو دليل اللزوم على العموم.
وفي الحديث: أنَّ أفعاله وأقواله يجب الإتيان بها عند قيام الدليل على الوجوب، ويسن ويستحب بحسب المقام والقرائن، ولكنَّ القول يقدم على الفعل عند المحققين، ويستمر الحكم حتى يقوم الدليل على الخصوصية، كما لا يخفى.
قال إمام الشَّارحين: ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة من حيث الدلالة عليها من الجزء الأول، وهو قوله: (وقد أمر أن يستقبل الكعبة)، ومن الجزء الثاني أيضًا، وذلك لأنَّهم صلوا في أول تلك الصلاة إلى القبلة المنسوخة التي هي غير القبلة الواجب استقبالها جاهلين بوجوبه، والجاهل كالناسي؛ حيث لم يؤمروا بإعادة صلاتهم، انتهى.
وفي الحديث: أنَّه أنزل عليه قرآن، ولم يبينه، وقد بينه إمام الشَّارحين، وهو قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ... }؛ الآيات [البقرة: 144]، واختلفوا في المراد من المسجد الحرام، فحكى البغوي عن ابن عبَّاس أنَّه قال: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك، وقال جماعة: (القبلة: هي الكعبة، والدليل عليه ما خرِّج في «الصحيحين» عن عطاء، عن ابن عبَّاس قال: أخبرني أسامة بن زيد قال: لما دخل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم البيت؛ دعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج منه، فلما خرج؛ ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: «هذه القبلة»)، ورووا أخبارًا كثيرة؛ كلها تدل على أنَّ القبلة هي الكعبة، وقال آخرون: (المراد بالمسجد الحرام: الحرم كله؛ لأنَّ الكلام يجب أن يحمل على ظاهر لفظه إلا إذا منع منه مانع)، وقال جماعة آخرون: المراد من المسجد
%ص 545%
الحرام: الحرم كله، والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [الإسراء: 1] وهو صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما أسري به من خارج المسجد، فدل هذا على أنَّ الحرم كله يسمى بالمسجد الحرام، كذا قاله الإمام الرازي.
قلت: وهذا الدليل منقوض؛ لأنَّه عليه السَّلام أسري به ليلًا من بيته، وكان عليه السَّلام قد صلى في المسجد قبل ذلك، فأطلق الإسراء من المسجد؛ لكونه يُصلى فيه ويتعبد به، على أنَّ حجره عليه السَّلام أبوابها في حائط المسجد، وإسراؤه كان من حجرة عائشة باتفاق المحدثين، فليس فيه دليل على أنَّ الحرم كله يسمى مسجدًا حرامًا؛ فافهم.
ثم ذكر أنَّ فرض من يريد الصلاة عند الشافعي أن يستقبل عين الكعبة، والجهة غير كافية، ونقل عن صاحب «التهذيب»: أنَّ الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام، والقوم يقفون مستديرين بالبيت، فلو امتد الصف في المسجد بحيث ازداد طوله على عرض البيت؛ فإنَّه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة، ومذهب الإمام الأعظم أنَّه يصح؛ لأنَّ إصابة الجهة عنده كافية في صحة الصلاة، واستدل الشافعي: بأنَّ كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك، وقد أوجب الله على كافة المكلفين استقبال القبلة، والمكلف لا يخرج عن عهدة ما كُلف به بالشك.
واحتج الإمام الأعظم رضي الله عنه بأمور من الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول:
أمَّا الكتاب؛ فقوله تعالى: {قَدْ نَرَى ... }؛ الآيات، فظاهرها، بل صريحها يدل على أنَّ إصابة الجهة كافية؛ حيث قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة: 144]؛ يعني: جهته وجانبه، ولأنَّه تعالى أوجب على المكلف أن يولِّي [1] وجهه إلى جانبه، ومن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه، فقد أتى بما أُمر به، سواء كان مستقبلًا للكعبة أو لا، فوجب أن يخرج عن العهدة بإصابة جهة الكعبة، وليس هذا أمر مشكوك؛ لأنَّ الله تعالى أوجب تولي الوجه؛ يعني: البدن كله إلى جهة الكعبة، فهو أمر متيقن، فوجب العمل به.
وأما السُّنة؛ ففي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه عليه السَّلام قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»، فلو كان الفرض إصابة عين الكعبة؛ لما كان ما بينهما قبلة، وذكر الفقهاء: أنَّ استقبال القبلة واستدبارها لغائط أو بول مكروهان، سواء كان في البنيان أو الصحراء؛ لما في «الصحيحين» أنَّه عليه السَّلام قال: «إذا أتيتم الغائط؛ فلا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا»، فإن هذا الحديث أيضًا يدل على أنَّ من لم يشرق أو يغرب في الخلاء؛ فهو مستقبل للقبلة أو مستدبرها، وهو يستلزم أن يكون ما بينهما قبلة، كما لا يخفى.
وأمَّا الإجماع؛ فإنَّ الناس من عهد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا قط مهندسًا عند تعيين جهة القبلة فيها مع أنَّ إصابة عين الكعبة لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة، وحيث اجتمعت الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على صحة ما وقع فيها من الصلوات؛ علمنا أنَّ محاذاة عين الكعبة ليست بشرط، وأيضًا لو كان استقبال عين الكعبة واجبًا؛ لكان تعلم الدلائل الهندسية واجبًا على كل أحد؛ لأنَّ استقبال العين لا سبيل إليه إلا بتلك الدلائل، ولما كان تعلمها غير واجب؛ علمنا أنَّ استقبال العين غير واجب.
وأما المعقول؛ فإن الدائرة وإن كانت عظيمة يكون جميع القطع المفروضة محاذية لمركز الدائرة، والصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة محيطة بالكعبة، والكعبة كأنَّها نقطة لتلك الدائرة إلا أنَّ الدائرة إذا صغرت؛ ظهر التقوس والانحناء في كل واحدة من القطع المفروضة فيها، بل يرى كل قطعة منها شبيهة بالخط المستقيم، فلا جرم صحت الجماعة بصف مستطيل ممتد إلى جانبي المشرق والمغرب يزيد طوله على أضعاف مقدار البيت؛ لكون كل واحد مما فيه متوجهًا إلى عين الكعبة، فأمَّا النقطة المفروضة فيها؛ فإنَّما تكون محاذية لمركزها إذا كان الخط الخارج من كل واحدة منها واقعًا على المركز محاذيًا لها، ومجرد كونها من أجزاء الدائرة لا يستلزم ذلك، وهو ظاهر في أنَّ استقبال العين ليس بواجب، وإنما الواجب هو استقبال السمت والجهة، ومعنى استقبال السمت: أنا لو فرضنا خطًّا مستقيمًا من نقطة من النقط المفروضة في دائرة الأفق مارًّا على الكعبة واصلًا إلى النقطة المقابلة على الاستقامة؛ لكان الخط الخارج من جبين المصلي إلى ذلك الخط المار بالكعبة على استقامة من غير أن تكون إحدى الزاويتين الحادتين في الملتقى حادة والأخرى منفرجة، بل يحصل هناك قائمان، أو نقول: هو أن تقع الكعبة فيما بين خطين يلتقيان في الدماغ ليخرجا إلى العينين؛ كما في المثلث.
وذكر صاحب «الذخيرة» و «الكافي» و «النهاية»: (أنَّ من كان بمكة؛ ففرضه إصابة عينها إجماعًا حتى لو صلى مكيٌّ في بيته؛ ينبغي أن يصلي بحيث لو أزيلت الجدران؛ يقع الاستقبال على عين الكعبة، بخلاف الآفاقي فإنَّ فرضه إصابة جهتها لا عينها في الصحيح)، وهذا قول الشيخ أبي الحسن الكرخي، والشيخ أبي بكر الرازي؛ لأنَّه ليس في وسع المصلي سوى هذا، والتكليف بحسب الوسع، واحترز بـ (الصحيح) عن قول أبي عبد الله الجرجاني، فإنَّه قال: (من كان غائبًا عن الكعبة؛ ففرضه إصابة عينها؛ لأنَّه لا فضل في النص)، وهو قول الشافعي.
وثمرة الخلاف تظهر في اشتراط نية عين الكعبة، فعلى قول الجرجاني والشافعي؛ يشترط، وعلى
%ص 546%
قول الكرخي والرازي؛ لا يشترط، وهذا لأنَّ إصابة عينها لما كانت فرضًا عند الجرجاني والشافعي، ولا يمكن إصابة عينها حال غيبته عنها إلا من حيث النية؛ عينها، وعند الكرخي والرازي، لما كان الشرط في حق من غاب عنها إصابة جهتها، وإصابة الجهة لا تتوقف على نية العين؛ قالا: (لا حاجة إلى اشتراط نية العين)، وذكر الزندوستي: (أنَّ الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام، والحرم قبلة العالم)، وقيل: إنَّ مكة وسط الدنيا، فقبلة أهل المشرق إلى المغرب عندنا، وقبلة أهل المغرب إلى المشرق، وقبلة أهل المدينة إلى عين من توجه إلى المغرب، وقبلة أهل الحجاز إلى بيان من توجه إلى المغرب؛ كذا في «النهاية» و «الذخيرة».
والحاصل: أنَّ الأئمة الحنفية وكذا الشافعية متفقون على أنَّ القبلة في حق من عاين البيت: هي عين البيت، وفي حق من غاب عن البيت وبعُد: هي سمت البيت وجهته، وخالف الشافعية والجرجاني، فزعموا أنَّ من غاب عنها هي عين الكعبة، وقولهم لا شاهد له؛ فليحفظ، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يول)، وليس بصحيح.
==================
(1/678)
[حديث: صلى النبي الظهر خمسًا فقالوا: أزيد في الصلاة]
404# وبالسند إليه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان البصري، (عن شعبة) هو ابن الحجاج، الواسطي، ثم البصري، (عن الحكم)؛ بفتحتين، هو ابن عُتَيْبة؛ بضمِّ العين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون التحتية بعدها موحدة، (عن إبراهيم) هو ابن يزيد النخعي، (عن علقمة) هو ابن قيس النخعي، (عن عبد الله) هو ابن مسعود الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: صلى النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) بمسجده النبوي (الظهر) وعند الطبراني أنها: (العصر)، فنقص في الرابعة، ولم يجلس حتى صلى الخامسة، وهو يوافق قوله: (خمسًا)؛ أي: خمس ركعات؛ يعني: أنه قعد على رأس الرابعة، ثم قام إلى الخامسة ساهيًا، وقيدها بسجدة، (فقالوا) أي: الصحابة: (أزيد في الصلاة؟)؛ الهمزة فيه للاستفهام، ومعناه: السؤال عن حدوث شيء من الوحي يوجب الزيادة في الصلاة على ما كانت معهودة، (قال) عليه السَّلام: (وما ذاك؟) سؤال من لم يشعر بما وقع منه، ولا يتبين عنده، ولا غلبه [1] ظن، وهو خلاف ما عندهم؛ حيث (قالوا: صليت خمسًا)؛ أي: خمس ركعات زيادة على المعهود، فلما سمع عليه السَّلام ما قالوه؛ أخذ بقولهم، فبادر، (فثنى)؛ بخفيف النون، مشتق من: الثني؛ أي: عطف، والمعنى: أنَّه جلس على هيئة قعود التشهد (رجليه)؛ بالتثنية، وعند ابن عساكر: (رجله)؛ بالإفراد، (وسجد سجدتين)؛ أي: للسهو، ففي الحديث: جواز وقوع السهو من الأنبياء عليهم السلام، وفيه: جواز النسيان في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام، ولا حجة فيه لمن زعم أنَّ كلام الناسي وغيره لا يبطل الصلاة؛ لأنَّ هذا الحديث منسوخ؛ لأنَّ الكلام كان مباحًا في صدر الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]؛ أي: ساكتين، وبقوله عليه السَّلام: «إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنَّما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، فهذا نص صريح على تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان عامدًا أو ناسيًا، جاهلًا أو مخطئًا، إمامًا أو منفردًا أو مقتديًا، لمصلحة أو غيرها، فإن احتاج إلى تنبيه الإمام أو غيره؛ سبح إن كان رجلًا، وصفقت إن كانت امرأة؛ لقوله عليه السَّلام: «أيها الناس؛ مالكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم بالتصفيق، إنَّما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله، فإنَّه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت»، أخرجه الشيخان، والطحاوي، والنسائي، وأبو داود.
وفيه: دليل على أنَّ سجود السهو سجدتان.
وفيه: دليل على أنَّ سجود السهو بعد السلام؛ لأنَّه عليه السَّلام قد صلى خمسًا، وسلم من الصلاة، ولما قالوا له: (أزيد؟) رجع إلى قولهم، وعاد إلى حرمة الصلاة، وسجد للسهو، ثم سلم، وهذا اختصار من الراوي قد دلَّ عليه الرواية السابقة، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا، وهو حجة على من زعم أنَّ سجود السهو قبل السلام.
وفيه: دليل على أنَّ الإمام إذا سها في صلاته في عدد ركعاتها؛ يرجع إلى قول المأمومين خلفه؛ لأنَّه عليه السَّلام قد رجع إلى قول أصحابه، وبنى عليه، وأتم صلاته؛ بدليل قوله: (فثنى رجليه)، فأتى بالفاء التعقيبية؛ يعني: لمَّا قالوا له؛ عقَّبه بثني رجليه، وعلى كلٍّ؛ لا يخلو عن الرجوع، سواء كان رجوعه للتذكر أو لغيره، كما قدمناه، وهو حجة على من زعم أنَّه لا يجوز رجوع الإمام إلى قول غيره؛ فافهم.
وفيه: دليل على أنَّ سجود السهو في آخر الصلاة.
قال إمام الشَّارحين: ومطابقة الحديث للترجمة التي هي قوله: (ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى) ظاهرة؛ لأنَّه عليه السَّلام سها فصلى، ولم يعد تلك الصلاة، ووجه احتجاج البخاري بهذا الحديث هو أنَّ إقباله على الناس بوجهه بعد انصرافه بعد السلام كان في غير صلاته؛ لأنَّه كان في وقت استدبار القبلة في حكم المصلي؛ لأنَّه لو خرج من الصلاة؛ لم يجز له أن يبني على ما مضى منها، فظهر بهذا أنَّ من أخطأ القبلة لا يعيد) انتهى؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (غلبة).
%ص 547%
==================
(1/679)
(33) [باب حك البزاق باليد من المسجد]
ولما فرغ المؤلف من بيان أحكام القبلة؛ شرع في بيان أحكام المساجد فقال: (باب)؛ أي: هذا باب في بيان (حكِّ البزاق باليد) سواء كان بآلة أو لا (من المسجد) الألف واللام فيه؛ للجنس، فيعم كل مسجد، والبزاق؛ بالزاي لغة مشهورة، وكذلك بالصاد المهملة، ويقال: بالسين المهملة، لكنها لغة ضعيفة؛ وهو ما يتفل من الفم مطلقًا، سواء كان من فم الإنسان أو غيره، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==========
%ص 547%
==================
(1/680)
[حديث: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه]
405# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قُتَيْبَة)؛ بضمِّ القاف، وفتح الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة، هو ابن سعيد الثقفي البلخي (قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر) هو الأنصاري المدني، (عن حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة، هو ابن أبي حميد تير، الخزاعي، البصري، المشهور بالطويل، (عن أنس)، زاد الأصيلي: (ابن مالك) هو الأنصاري خادم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتعدد هذا الحديث عن أنس، وأبي هريرة، وعائشة عند مسلم، والمؤلف، والنسائي، وأبي داود تنفي تهمة تدليس حُميد؛ فافهم.
(أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم رأى)؛ أي: أبصر، فهي
%ص 547%
بصرية تقتضي مفعولين؛ أحدهما: قوله: (نُخَامَة)؛ بضمِّ النون، وفتح الخاء المعجمة والميم، بينهما ألف، وهي النخاعة، يقال: تنخم الرجل: إذا تنخع، وفي «المطالع»: (النخامة: ما يخرج من الصدر، والبصاق: ما يخرج من الفم، والمخاط: ما يسيل من الأنف)؛ كذا في «عمدة القاري»، فما زعمه القسطلاني من أنَّها: (ما يخرج من الرأس) خطأ ظاهر؛ لأنَّ الذي يخرج من الرأس هو المخاط لا النخامة؛ فافهم، (في القبلة): هو على حذف تقديره: في حائط المسجد الذي في جهة القبلة، والمفعول الثاني: محذوف تقديره: ملقاة في القبلة؛ فافهم.
(فشق ذلك عليه)؛ يعني: كره عليه السَّلام هذا الفعل (حتى رُؤِيَ)؛ بضمِّ الراء، وكسر الهمزة، وفتح التحتية، وللأصيلي وأبي ذر: (حتى رِيْء)؛ بكسر الراء وسكون التحتية آخره همزة؛ أي: شوهد أثر المشقة (في وجهه) المنير، وفي رواية المؤلف في «الأدب» من حديث ابن عمر: (فتغيظ على أهل المسجد)، وعند النسائي عن أنس قال: رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار، فحكتها، وجعلت مكانها خلوفًا، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما أحسن هذا!»، وفي كتاب أبي نعيم: «من ابتلع ريقه؛ إعظامًا للمسجد، ولم يمح اسمًا من أسماء الله ببزاق؛ كان من خيار عباد الله»، وذكر ابن خالويه عن أنس: أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما رأى نخامة في المحراب؛ قال: «من إمام هذا المسجد؟»، قالوا: فلان، قال: «قد عزلته»، فقالت امرأته: لم عزل النبيُّ زوجي عن الإمامة؟ فقال: رأى نخامة في المسجد، فعمدت إلى خلوف طيب، فخلَّقت به المحراب، فاجتاز عليه السَّلام بالمسجد، فقال: «من فعل هذا؟» قال: امرأة الإمام، قال: «قد وهبت ذنبه لامرأته، ورددته إلى الإمامة»، فكان هذا أول خلوق كان في الإسلام؛ كذا في «عمدة القاري»، (فقام) عليه السَّلام، (فحكه) أي: أثر النخامة (بيده) الشريفة.
فإن قلت: في الحديث الحك باليد من غير ذكر آلة، وكذلك الترجمة.
قلت: وقوله في الحديث: «بيده» وفي الترجمة باليد أعم من أن يكون فيها آلة أو لا، على أنَّ أبا داود روى عن جابر قال: (أتانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجدنا، وفي يده عرجون ابن طاب، فنظر، فرأى في قبلة المسجد نخامة، فأقبل عليها، فحتها بالعرجون ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أنَّه باشر بيده بعرجون فيها، والعُرجون_بضمِّ العين المهملة_: وهو العود الأصفر الذي فيه الشماريخ إذا يبس واعوج، وهو من الانعراج، وهو الانعطاف، وجمعه: عراجين، والواو والنون فيه زائدتان، وقوله: (ابن طاب): هو رجل من أهل المدينة ينسب إليه نوع من تمر المدينة، ومن عادتهم أنَّهم ينسبون ألوان التمر كل لون إلى أحد، ومع هذا يحتمل تعدد القصة، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: والظاهر أنَّ القصة متعددة، والأصل في اليد أن تكون بغير آلة، وقد يقال: يحتمل اتحاد القصة، ويكون الحديث المطلق هنا هو المقيد عند أبي داود، فهو من باب حمل المطلق على المقيد؛ فتأمل.
(فقال) عليه السَّلام، ولابن عساكر: (وقال): (إن أحدكم إذا قام في صلاته) الفرق بين قام في الصلاة، وقام إلى الصلاة: أن الأول: يكون بعد الشروع، والثاني: عند الشروع، قاله في «عمدة القاري»، (فإنَّه يناجي ربه) عزَّ وجلَّ، والمناجاة والنجوى؛ هو السر بين الاثنين، يقال: ناجيته؛ أي: ساررته، وكذلك: نجوته نجوًا، ومناجاة الرب مجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة الحقيقية؛ إذ لا كلام محسوسًا بينهما إلا من طرف العبد، فيكون المراد لازم المناجاة، وهو إرادة الخير، ويجوز أن يكون من باب التشبيه؛ أي: كأنه يناجي ربه، والتحقيق فيه: أنَّه شبه العبد وتوجهه إلى ربه تعالى في الصلاة وما فيها من القراءة، والأذكار، وكشف الأسرار، واستنزال رحمته، ورأفته، مع الخضوع والخشوع بمن يناجي مولاه ومالكه، فمن شرائط حسن الأدب: أن يقف محاذيه، ويطرق رأسه، ولا يمد بصره إليه، ويراعي جهة إمامه حتى لا يصدر من تلك الهيئات شيء وإن كان الله منزهًا عن الجهات؛ لأنَّ الآداب الظاهرة والباطنة مرتبط بعضها ببعض، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: فيكون المعنى على الأول: أنَّ العبد في صلاته يطلب الرحمة، والبركة، والعفو، والغفران، ودخول الجنان من خالقه بفضله تعالى.
(أو أن)؛ بفتح الهمزة وكسرها؛ كما في «اليونينية»، ولأبي ذر عن الحمُّوي والمستملي: (وأن)؛ بواو العطف، ورواية الأكثرين بالشك (ربه)؛ أي: اطلاع أو رحمة ربه على ما (بينه وبين القبلة) فإنَّ هذا الكلام لا يصح على ظاهره؛ لأنَّ الله تعالى منزه عن الحلول في المكان، فالمعنى على التشبيه؛ أي: فإنَّه بينه وبين القبلة، قاله الشَّارح، وقال الخطابي: (معناه: أنَّ توجهه إلى القبلة مفضٍ بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير: كأنَّه مقصوده بينه وبين قبلته، فأمر أن تصان تلك الجهة عن البزاق ونحوه من أثقال البدن)، وقال ابن بطال: (وظاهر هذا محال؛ لأنَّ الرب منزَّه عن المكان، فيجب على المصلي إكرام قبلته بما يكرم به من يناجيه من المخلوقين عند استقبالهم بوجهه، ومن أعظم الجفاء وسوء الأدب أن تتنخم في توجهك إلى رب الأرباب، وقد أعلمنا الله بإقباله على من توجه إليه) انتهى.
(فلا يبزقنَّ)؛ بنون التوكيد الثقيلة، وللأصيلي: (فلا يبزق)؛ بإسقاطها (أحدكم)؛ أي: المخاطبون، وهم الصحابة رضي الله عنهم، وليس المراد التخصيص، بل المراد عموم جميع الأمة، كما لا يخفى (قِبَل) بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (قبلته): التي عظمها الله تعالى، فلا تقابل بشيء يقتضي الاحتقار والاستخفاف بها؛ كالبزاق وغيره، فإنَّ الله تعالى جعله مرجعًا للزائرين من حيث إنَّهم لا يقضون منه وطرًا بزيارته مرة أو مرتين، بل كلما أتوه وانصرفوا عنه؛ اشتاقوا إلى الرجعة إليه؛ لما اعتقدوا في زيارته من الفوائد المتعلقة بمحو الخطيئات ورفع الدرجات ما لم يعتقدوا مثله في سائر الأعمال، ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ... } إلى أن قال
%ص 548%
تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ... }؛ الآيات [البقرة: 125]، ولأنَّ الجلوس في المسجد الحرام ناظرًا إلى الكعبة من جملة العبادات المرضية؛ بدليل ما روي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ لله في كل يوم وليلة مئة وعشرين رحمة، تنزل على هذا البيت ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين»، وجعله تعالى أمنًا من القحط، ومن الجدب، والخسف، والمسخ، والزلازل، والغارات، والجنون، والجذام، والبرص، ونحوها من البلايا التي تخل بالبلد، وجعل سبحانه من التجأ إليه آمنًا من القتل، ومن الأسباب الموجبة للقتل، فمن جنى خارج الحرم، كما لا يقتل في الحرم؛ لا يخرج منه ليقتل خارج الحرم عند الجمهور، (ولكن) يبزق (عن يساره)؛ أي: لا عن يمينه؛ تشريفًا لليمين، ولا أمامه؛ تشريفًا للقبلة، وجاء في رواية البخاري: (فإنَّ عن يمينه ملكًا)، وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: «لا يبزق عن يمينه؛ فعن يمينه كاتب الحسنات، ولكن يبزق عن شماله أو خلف ظهره»، وقوله: (فإنَّ عن يمينه ملَكًا) دليل على أنَّه لا يكون حالتئذٍ عن يساره ملَك؛ فإنَّه في طاعة، لا يقال: يخدشه قوله عليه السَّلام: «إنَّ الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا عند الخلاء والجماع»؛ لأنَّا نقول: هذا حديث ضعيف لا يحتج به، قاله إمام الشَّارحين.
(أو تحت قدميه)؛ بالتثنية، ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: (قدمه)؛ بالإفراد؛ يعني: اليسرى؛ كما في حديث أبي هريرة في الباب الذي بعده، وزاد أيضًا من طريق همام عن أبي هريرة: (فيدفنها)، كما سيأتي، وزعم النووي أنَّ هذا في غير المسجد، أمَّا فيه؛ فلا يبزق إلا في ثوبه، انتهى.
قلت: يرده سياق الحديث؛ لأنَّه يدل على أنَّه في المسجد، ويدل عليه حديث أبي هريرة: أنَّه يدفنها، فدل هذا على أنَّه في المسجد، وأنَّ كفارتها دفنها، وسيأتي؛ فافهم.
(ثم أخذ) عليه السَّلام (طرف رِدائه)؛ بكسر الراء؛ هو ما يتزر به للنصف الأعلى، (فبصق فيه) بالصاد المهملة، (ثم رد بعضه على بعض): ففيه البيان بالفعل؛ ليكون أوقع في نفس السامع؛ فافهم.
(فقال) عليه السَّلام: (أو يفعل هكذا): عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك؛ أي: ولكن يبزق عن يساره أو يفعل هكذا، وليست كلمة (أو) ههنا للشك، بل للتنويع؛ ومعناه: أنَّه مخير بين هذا وهذا، قاله إمام الشَّارحين، واعترضه القسطلاني، فزعم أنَّه سيأتي أنَّ المؤلف حمل هذا الأخير على ما إذا بدره البزاق، وحينئذٍ فـ (أو) للتنويع، انتهى.
قلت: مراده أنَّ إمام الشَّارحين جعل (أو) للتنويع؛ أي: التخيير بين الثلاثة، وهو ظاهر حديث الباب، وأنَّ المؤلف جعل التخيير في الأوليين، وحمل الثالث على ما إذا بدره البزاق.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإنَّ المؤلف قد جعل هذا ترجمة في باب سيأتي، وذكر حديثه، والحديث ليس فيه مطابقة لما ترجم له؛ لأنَّه ليس فيه ذكر أنَّه بدره البزاق، فالحمل من عنده، وهو مخالف لصريح أحاديث الأبواب الآتية، فلا يعتد به، نعم؛ لو كان مذكورًا في الحديث؛ فهو مقبول، والبحث في النقول غير مقبول على أنَّ ظاهر الأحاديث بل صريحها أنَّ التخيير في الثلاثة مطلقًا، سواء بدره البزاق أو لا، كما لا يخفى؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: تعظيم المساجد عن أثقال البدن، وعن القاذورات بالطريق الأولى، وفيه: احترام جهة القبلة، وفيه: إزالة البزاق وغيره من الأقذار من المسجد، وفيه: إذا بزق؛ يبزق عن يساره، ولا يبزق أمامه؛ تشريفًا للقبلة، ولا عن يمينه؛ تشريفًا لليمين، واعلم أنَّ البصاق في المسجد خطيئة مطلقًا، سواء احتاج إليه أم لا، فإن احتاج؛ يبزق في ثوبه [1]، فإن بزق في المسجد؛ يكون خطيئة، وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفنها) انتهى.
قلت: والظاهر أنَّ الذي أُعدَّ في المسجد من زمن واقفه؛ كالحياض المعدة للوضوء في المساجد، فإنَّه لو بزق في مجاريها؛ لا بأس به، أمَّا ما حدث بعد الواقف كالبحرة التي وسط برَّاني الجامع الشريف الأموي، والحنفيات المتخذة في جُوَّانيه؛ فالظاهر أنَّه لا يجوز البساق فيها؛ لأنَّ مكانها كان مسجدًا، فإنَّ الأولى أحدثها عثمان باشا، والثانية من وصية داود باشا، فكان البازق يبزق في المسجد، فلا يجوز، وهذا غفلة عظيمة من علمائنا الشاميين؛ فافهم.
وقول القاضي عياض: (البزاق في المسجد ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه، أمَّا من أراد دفنه؛ فليس بخطيئة)، رده إمام الشَّارحين بأنَّه غير صحيح، والحق ما ذكرناه، انتهى.
قلت: يعني: أنَّه خطيئة مطلقًا؛ لأنَّه عليه السَّلام لما رآه في حائط المسجد؛ حكه وأزاله، وهو دليل على أنَّها خطيئة، كما سيأتي.
واختلفوا في المراد بدفنه؛ فذهب الإمام الأعظم والجمهور: إلى أنَّ دفنه بتراب المسجد ورمله وحصبائه إن كانت هذه الأشياء فيه؛ وإلا؛ فيخرجها من المسجد.
قلت: وإلقاؤها في فعله ونحوه دفن لها، كما لا يخفى.
وزعم أصحاب الشافعي أنَّ عليه إخراجها مطلقًا، وقيل: إن لم تكن المساجد تربة وكانت ذات حصر؛ فلا يجوز إلقاؤها، وفي الحديث: دليل على أنَّ البزاق طاهر، وكذا النخامة، وليس فيه خلاف إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي أنَّه يقول: (البزاق نجس)، وقال القرطبي: (الحديث دال على تحريم البصاق في القبلة، وأنَّ الدفن لا يكفيه).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هو كما قال، وأنَّ في دفنه كفارته).
قلت: يعني: أنَّ النهي في الحديث يقتضي التحريم، وأنَّ الدفن يكفي؛ لأنَّه عليه السَّلام صرح بأنَّ الدفن يكفي، ولا فرق فيه بين أن يكون في ثوبه أو في التراب ونحوه؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وقيل: النهي للتنزيه، والأصح أنَّه للتحريم).
قلت: ويدل عليه إطلاق النهي في الحديث، فإنَّه يقتضي التحريم، ويدل عليه ما في «صحيح ابن خزيمة» و «صحيح ابن حبان» من حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «من تفل تجاه القبلة؛ جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه»، وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعًا: «يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه»، وروى أبو داود من حديث أبي سهلة السائب بن خلاد قال: من أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم
%ص 549%
أنَّ رجلًا أمَّ قومًا، فبصق في القبلة ورسول الله ينظر، فقال عليه السَّلام حين فرغ: «لا يصلي لكم»، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله، فذكر ذلك لرسول الله، فقال: «نعم»، وأحسبه قال: «إنَّك آذيت الله ورسوله»؛ والمعنى: أنَّه فعل فعلًا لا يرضي الله ورسوله، وروى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله قال: أتانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب، كما ذكرناه فيما سبق، وفي رواية مسلم: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل [2] ربه، فيتنخع أمامه، أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ ... »؛ الحديث، فهذا يدل على أنَّ المراد بالنهي التحريم؛ لأنَّه قد اقترن بالوعيد، ولا سيما أنَّه مؤذٍ لله ولرسوله، وهو يدل على التحريم، كما لا يخفى.
==================
[1] زيد في الأصل: (في ثوبه).
(1/681)
[حديث: إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه]
406# وبالسند إليه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل [1] (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن نافع): مولى ابن عمر المدني، (عن عبد الله بن عمر): هو ابن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى)؛ أي: أبصر، فتقتضي مفعولين أحدهما: قوله: (بصاقًا)؛ بالصاد المهملة؛ وهو ما يسيل من الفم (في جدار القِبْلة)؛ بكسر القاف، وسكون الموحدة، وفي رواية أبي ذر عن المستملي: (في جدار المسجد).
قلت: وهي أعم من كونه في جدار القبلة، أو في الشمال، أو غيرهما، لكن بقية الحديث يدل على أنَّ المراد بجدار المسجد إنَّما هو القبلي، وقد يقال المراد الأعم، فإنَّ جميع جدران المسجد الأربع منهيٌّ عن البصاق فيها، كما لا يخفى، وإنمَّا خصص القبلي؛ لشرفه من حيث الاستقبال.
(فحكه)؛ أي البصاق إمَّا بيده، كما في الحديث السابق، وإمَّا بالعرجون، كما في حديث أبي داود، (ثم أقبل على الناس)؛ أي: بوجهه المنير، وهذا شامل لأمرين؛ أحدهما: أنه فرغ من صلاته، فرأى البصاق فحكه، ثم أقبل على الناس، والثاني: أنه كان يخطب لهم، فرأى البصاق فنزل، فحكه، ثم أقبل على الناس، ويدل للثاني ما في رواية المؤلف في أواخر (الصلاة) من طريق أيوب عن نافع في قبلة المسجد: (ثم نزل فحكها بيده)، فهذه تدل على أنه كان في حالة الخطبة، وقد صرح الإسماعيلي بذلك في روايته من طريق شيخ المؤلف وزاد فيه قال: (وأحسبه دعا بزعفران، فلطخه به)، وزاد عبد الرزاق في روايته عن معمر، عن أيوب: (فلذلك صنع الزعفران في المساجد).
قلت: وإنما خص الزعفران؛ لأنَّ فيه رائحة طيبة، وشكله وصفته مستحسنة مناسبة للمساجد، والظاهر أنه كان طريًّا حيث لطخه بالزعفران؛ لأنَّ اليابس لا يعلق عليه شيء من ذلك؛ فافهم.
(فقال) لهم: (إذا كان أحدكم يصلي) سواء كان في المسجد، أو في البيت، أو في غيرهما؛ (فلا يبصق) بالصاد المهملة، والجزم على النهي (قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (وجهه): والمراد: مقابل وجهه، وهو قدامه؛ لأنَّ ذلك يخل بالخشوع، ويشغل الفكر، ويسخط الرب، ولهذا قال: (فإن الله قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (وجهه)؛ أي: وجه المصلي، وهذا على سبيل التشبيه؛ أي: فإن الله في مقابل وجهه؛ أي: القصد منه تعالى، وقيل المراد: عظمته ورحمته، وقيل: ثوابه ونحو ذلك، فلا يقابل هذه الجهة بالبزاق الذي هو للاستخفاف لمن يبزق إليه وتحقيره، (إذا صلى) سواء كانت فريضة، أو واجبة، أو نافلة، وهذا يدل على أن البصاق في القبلة منهي عنه، سواء كان في المسجد أو غيره، كما ذكرنا؛ لأنَّ اللفظ والتعليل عامٌّ.
ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث أنَّ المتبادر إلى الفهم من إسناد الحك إليه أنه كان بيده، وأن المعهود من جدار القبلة: جدار قبلة مسجد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كما قاله إمام الشَّارحين قال: (وبهذا التقرير يسقط سؤال من يقول: إن هذا الحديث لا يدل إلا على بعض الترجمة، ولا يعلم أن الحك كان بيده، ولا من المسجد؛ فافهم) انتهى.
قلت: لأنَّ الأصل في الحك أن يكون باليد؛ لأنَّه المتبادر، وأن الأصل بالصلاة أن تكون بمسجده عليه السَّلام؛ لأنَّه لم يكن وقتئذٍ مسجد غيره، فالحديث مطابق للترجمة كلها لا بعضها، كما لا يخفى.
==========
[1] في الأصل: (التنيسي الأصل، الدمشقي المنزل)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
%ص 550%
==================
(1/682)
[حديث: أن رسول الله رأى في جدار القبلة مخاطًا فحكه]
407# وبالسند إليه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسيالمنزل، الدمشقي الأصل [1] (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن هِشام بن عُروة)؛ بكسر الهاء في الأول، وضم العين المهملة في الثاني، (عن أبيه): هو عُروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة أم المؤمنين): هي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: (إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) أي: أبصر (في جدار القبلة)؛ أي: جدار قبلة مسجد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (مُخَاطًا)؛ بضمِّ الميم، وفتح الخاء المعجمة؛ وهو ما يسيل من الأنف، (أو بصاقًا)؛ بالصاد المهملة؛ هو ما يسيل من الفم، (أو نُخَامة)؛ بضمِّ النون، وفتح الخاء المعجمة؛ هي ما تخرج من الصدر، كما نص عليه في «المطالع»، وقول القسطلاني: (النخامة _بالميم_: من الرأس، والنخاعة _بالعين_: من الصدر): خطأ؛ لأنَّ هذه التفرقة لم تذكر في كتب اللغة، وإنما الذي نص عليه اللغويون: (أنَّ النخامة _بالميم_، ويقال فيها: النخاعة _بالعين_: هو ما يخرج من الصدر)، كما قدمناه؛ فافهم.
قال إمام
%ص 550%
الشَّارحين: هكذا وقع في «الموطأ» بالشك كما هنا، وفي رواية الإسماعيلي من طريق معن عن مالك: (أو نخاعًا) بدل: (مخاطًا) انتهى.
قلت: والشك يحتمل من عائشة، ويحتمل من هشام، والظاهر الأول؛ فافهم.
(فحكه)؛ أي: الذي رآه في الجدار بيده الشريفة؛ لأنَّه الأصل، فهو مطابق للترجمة، كما لا يخفى، وفي الحديث: دليل على أنَّ البصاق والمخاط والنخامة طاهر، وأنَّ من دفنه بثوب وصلى فيه؛ فصلاته جائزة، وفيه: وجوب إزالة الأوساخ والزبالات من المسجد، فإن كل ما يؤذي العين يؤذي المسجد، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (التنيسي الأصل، الدمشقي المنزل)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
==================
(1/683)
(34) [باب حك المخاط بالحصى من المسجد]
هذا (باب) بيان حكم (حك) أي: إزالة (المُخاط)؛ بضمِّ الميم؛ أي: ما يسيل من الأنف (بالحصى): وللأصيلي: (بالحصباء)، والمراد الأعم؛ يعني: سواء كان بالحصى، أو العود، أو نحوهما (من المسجد)؛ الألف واللام فيه للجنس، والمراد: جميع المساجد التي يصلى فيها.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: ذكر في الباب السابق حك البصاق باليد، وذكر هنا حك المخاط بالحصى، فهل فيه زيادة فائدة؟
قلت: نعم؛ ذلك، فإن المخاط غالبًا يكون له جرم لزج، فيحتاج في قلعه إلى معالجة، وهي بالحصى ونحوه، والبصاق ليس فيه ذلك، فيمكن نزعه بلا آلة، إلا أن يقال: إن خالطه بلغم؛ فحينئذٍ يلحق بالمخاط) انتهى.
قلت: والمناسبة بينهما ظاهرة؛ لأنَّ كلًّا منهما في إزالة ما على جدار المسجد.
(وقال ابن عبَّاس): هو عبد الله، حَبر هذه الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنهما: (إن وطئت على قذر)؛ بالذال المعجمة؛ أي: طاهر؛ كالمخاط ونحوه (رطب) أي: في المسجد؛ (فاغسله)؛ لأنَّه يعلق بالرجل، فلا يزول بغير الماء؛ للزوجته، (وإن كان) أي: القذر المذكور (يابسًا؛ فلا)؛ أي: فلا تغسله، بل يكفي حكه؛ لأنَّه لا يعلق منه بالرجل شيء، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة بسند صحيح، وقال في آخره: (وإن كان يابسًا؛ لم يضره)، وزعم القسطلاني أن القذر أعم من كونه طاهرًا أو نجسًا، وهو ممنوع؛ لأنَّ المراد بالقذر: الطاهر فقط، يدل عليه أن الواطئ عليه في المسجد، وأنه يريد الصلاة، والقذر النجس لا يكون في المسجد، وعلى ما زعمه لا يكون في التعليق مطابقة للترجمة، وهو خلاف مراد المؤلف، كما لا يخفى.
وقال إمام الشَّارحين: ووجه مناسبة هذا التعليق للترجمة: أنَّ في حديث الباب حك النخامة بالحصى، وفي الترجمة: حك المخاط بالحصى، وهذا يدل على أنه كان يابسًا؛ لأنَّ الحك لا يفيد في رطبه؛ لأنَّه ينتشر به، ويزداد التلوث، فظهر الفرق بين رطبه ويابسه وإن لم يصرح به في ظاهر الحديث، ففي الرطب يزال بما يمكن إزالته به، وفي اليابس بالحصاة ونحوها، فكذلك في أثر ابن عبَّاس الفرق حيث قال: (إن كان رطبًا؛ فاغسله، وإن كان يابسًا؛ فلا)؛ أي: فلا يضرك وطؤه، فتكون المناسبة بينهما من هذه الحيثية، وهذا القدر كاف؛ لأنَّه إقناعي لا برهاني، انتهى.
وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر، فزعم أن مطابقة الأثر المذكور للترجمة الإشارة إلى أن العلة في النهي احترام القبلة لا مجرد التأذي بالبزاق ونحوه، فلهذا لم يفرق بينه وبين رطب ويابس، بخلاف ما علة النهي فيه مجرد الاستقذار؛ فلا يضر وطء اليابس منه.
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا تعسُّف، وبعد عظيم؛ لأنَّ قوله: (النهي فيه احترام القبلة ... ) إلخ: غير موجه؛ لأنَّ علة النهي فيه احترام القبلة، وحصول التأذي منه، كما ذكرنا في حديث أبي سهلة: «إنَّك آذيت الله ورسوله»، وحصول الأذى فيه هو ما ذكره في الحديث: «فإنَّ الله قبل وجهه إذا صلى»، وبزاقه إلى تلك الجهة أذًى كبير، وهو من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم؛ ومعناه: لا يرضى الله به ولا يرضى به رسوله أيضًا، وتأذيه عليه السَّلام من ذلك هو أنه نهاه عنه ولم ينته، وفيه ما فيه من الأذى، فعلم من ذلك أن العلة العظمى هي حصول الأذى مع ترك احترام القبلة، والحكم يثبت بعلل شتى.
وقوله: (بخلاف ما علة النهي فيه مجرد ... ) إلخ: غير صحيح؛ لأنَّ علة النهي فيه كونه نجسًا، ولم يسقط عنه صفة النجاسة غير أن وطء يابسه لا يضره؛ لعدم التصاقه بالجسم، وعدم التلوث لا لمجرد كونه يابسًا حتى لو صلى على مكان عليه نجس يابس؛ لا تجوز صلاته، ولو كان على بدنه أو ثوبه نجاسة؛ لا تجوز أيضًا، فعلم أن النجاسة المانعة تضره مطلقًا غير أنه عفي عن يابسها في الوطء، انتهى.
==========
%ص 551%
==================
(1/684)
[حديث: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه]
408# 409# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل): هو المنقري البصري، المعروف بالتبوذكي (قال: حدثنا) وفي رواية كريمة: (أخبرنا) (إبراهيم بن سَعْد)؛ بسكون العين المهملة: هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (ابن شهاب): هو محمد بن مسلم الزهري المدني، (عن حُميد) بضمِّ الحاء المهملة (بن عبد الرحمن): هو ابن عوف القرشي المدني الزهري: (أنَّ أبا هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي (وأبا سعيد) هو سعد بن مالك الخدري رضي الله عنهما (حدثاه)؛ أي: أنَّهما حدثا حميدًا: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) أي: أبصر (نُخامة)؛ بضمِّ النون، وهي النخاعة؛ وهي ما يخرج من الصدر (في جدار المسجد)؛ أي: في جدار قبلة المسجد النبوي، فالألف واللام فيه للعهد، (فتناول حَصاة)؛ بفتح الحاء المهملة؛ هي صغار الحجر (فحكها)؛ بالكاف؛ أي: النخامة، ولأبوي ذر والوقت، وابن عساكر، والأصيلي: (فحتها)؛ بالمثناة الفوقية بدل الكاف، ومعناهما واحد (فقال) عليه السَّلام: (إذا تنخم أحدكم)؛ أي: رمى بالنخامة وهو في مصلاه كما دل عليه الأحاديث السابقة؛ (فلا يتنخمنَّ) بنون التوكيد الثقيلة (قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (وجهه)؛ أي: وجه المصلي، (ولا عن يمينه)؛ لشرف اليمين، وجاء في رواية المؤلف: (فإنَّ عن يمينه ملَكًا)، وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: (لا يبزق عن يمينه،
%ص 551%
فعن يمينه كاتب الحسنات)، وقوله: (فإنَّ عن يمينه ملَكًا) دليل على أنه لا يكون حالتئذٍ عن يساره ملك، فإنَّه في طاعة، لا يقال: يرد هذا قوله عليه السَّلام: «إن الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا عند الخلاء والجماع»؛ لأنَّا نقول: هذا حديث ضعيف لا يحتج به، وتمامه فيما قدمناه، (وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى)؛ لأنَّه ليس في اليسرى شرف، وكذلك تحت القدم، وكلمة (أو) فيه ليست للشك، بل للتنويع؛ يعني: أنه مخير بين هذا وهذا.
فإن قلت: الباب معقود على حك المخاط، والحديث يدل على حك النخامة.
قلت: ذكر المخاط في الترجمة، والنخامة في الحديث؛ إشعارًا بأن بينهما اتحادًا في الثخانة واللزوجة، وأن حكمهما واحد من هذه الحيثية وإن كان بينهما فرق [1] من حيث إنَّ المخاط يكون من الأنف، والنخامة من الصدر، كما ذكرناه عن «المطالع»، كذا قرره إمام الشَّارحين قال: (وهذا أوجه مما زعمه الكرماني حيث قال: «لما كانا فضلتين طاهرتين؛ لم يفرق بينهما؛ إشعارًا بأن حكمهما واحد»)، انتهى.
قلت: وليس مراد المؤلف كونهما فضلتين طاهرتين، بل مراده أن كلًّا منهما لزج ثخين، لا يزول عن الجدار إلا بالحك، فكل منهما يزول بالحك، ولهذا ترجم بـ (باب حك المخاط ... ) إلخ، فالحق أن ما زعمه الكرماني ليس له وجه وإن تبعه القسطلاني تعصبًا؛ لأنَّه ليس بمراد للمؤلف، والصواب ما ذكره إمام الشَّارحين رضي الله تعالى عنه؛ فليحفظ، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (فرقًا)، وليس بصحيح.
==================
(1/685)
(35) [باب: لا يبصق عن يمينه في الصلاة]
هذا (باب) بالتنوين؛ يذكر فيه: أن المصلي (لا يبصق)؛ بالصاد المهملة لغة؛ كالسين والزاي (عن يمينه في الصلاة)؛ يعني: لا يجوز له ذلك، فإن فعل؛ تفسد صلاته؛ لأنَّ إلقاء البصاق يكون بحروف مفهمة، فإن ظهرت؛ فسدت، وإلا؛ فلا فساد، بل يكره، كما سنذكره.
==========
%ص 552%
==================
(1/686)
[حديث: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه ولا عن يمينه]
410# 411# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى ابن بُكير)؛ بضمِّ الموحدة، تصغير بكر، (قال: حدثنا الليث): هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي، من أتباع الإمام الأعظم، كما قاله أهل التاريخ، والمثبت مقدم على النافي؛ فافهم، (عن عُقَيل)؛ بضمِّ العين المهملة، وفتح القاف: هو ابن خالد، (عن ابن شهاب): هو محمد بن مسلم الزهري المدني، (عن حُميد) بضمِّ الحاء المهملة (بن عبد الرحمن) هو ابن عوف القرشي المدني: (أنَّ أبا هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، (وأبا سعيد) هو سعد بن مالك الخدري رضي الله عنهما (أخبراه) وفي حديث الباب الذي قبله: (حدثاه) (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) يعني: أبصر (نُخامة)؛ بضمِّ النون، وهي النخاعة، تقال بالميم كالعين؛ ما يخرج من الصدر (في حائط المسجد) وفي الحديث السابق: (في جدار المسجد)؛ يعني: النبوي، فالألف واللام للعهد، (فتناول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: بيده الكريمة (حَصَاة)؛ بفتح المهملتين؛ هي صغار الحجر (فحتها)؛ بمثناة فوقية، وفي الحديث السابق: (فحكها)؛ بالكاف؛ يعني: أزال أثرها عن الجدار، (ثم قال) عليه السَّلام: (إذا تنخم أحدكم) أي: رمى بالنخامة؛ (فلا يتنخم): وفي رواية «الفرع»: (إذا تنخمنَّ؛ فلا يتنخمنَّ)؛ بنون التأكيد فيهما معًا؛ كالحديث السابق (قِبَل) بكسر القاف، وفتح الموحدة (وجهه)؛ أي: جهته (ولا عن يمينه)؛ لأنَّ القبلة واليمين مشرف، فلا يقابل بخسيس ممتهن، (وليبصق عن يساره)؛ لعدم شرفه، (أو تحت قدمه اليسرى)؛ لامتهانها، فقد فسر القدم باليسرى، وهناك أطلقها، والمطلق محمول على المقيد.
قال إمام الشَّارحين قدِّس سره: (ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: «فلا يتنخم قبل وجهه، ولا عن يمينه»؛ أي: ولا يتنخم عن يمينه).
فإن قلت: الترجمة: (لا يبصق عن يمينه)، ولفظ الحديث: «لا يتنخم».
قلت: جعل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حكم النخامة والبصاق واحدًا، ألا ترى أنه في حديث أنس الآتي قال: «فلا يبزقن في قبلته، ولكن عن يساره»، بعد أن رأى نخامة في القبلة، فدل ذلك على تساويهما في الحكم، ثم هذا الحديث غير مقيد بحالة الصلاة إلا في حديث أنس المتقدم، وفي حديث ابن عمر المتقدم أيضًا الذي روي الأول: عن قتيبة، والثاني: عن عبد الله بن يوسف، وفي حديث أنس الآتي الذي رواه عن آدم، ومن ذلك جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها، وسواء كان في المسجد أو غيره، ونقل عن مالك أنه قال: (لا بأس به خارج الصلاة)، وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود: أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة، وعن معاذ بن جبل أنه قال: (ما بصقت عن يميني منذ أسلمت)، وعن عمر بن عبد العزيز: أنه نهى ابنه عنه مطلقًا، وهذه كلها تشهد للمنع مطلقًا، وقال القاضي عياض: (النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة إنَّما هو مع إمكان غيره، فإن تعذر؛ فله ذلك)، وقال الخطابي: (إن كان عن يساره واحد؛ فلا يبزق في واحد من الجهتين، ولكن تحت قدمه أو ثوبه)، وقد روى أبو داود عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا قام الرجل إلى الصلاة أو إذا صلى أحدكم؛ فلا يبزق أمامه، ولا عن يمينه، ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغًا، أو تحت قدمه اليسرى»، وقد ذكرنا لفظ (القول) أنه يستعمل عند العرب في معانٍ كثيرة، انتهى.
قلت: وأشار إمام الشَّارحين إلى أن هذا الحديث ليس فيه مطابقة للترجمة؛ لأنَّه ليس فيه التقييد بحالة الصلاة، وهو كذلك، وأشار إلى أنه مطابق للترجمة مع ضميمة حديث أنس السابق واللاحق، وكذلك في حديث ابن عمر، فإن فيهم التقييد بحالة الصلاة، والحديث المطلق هنا هو المقيد هناك، وقد يقال الحديث هنا مطابق؛ لأنَّ قوله: «فلا يتنخم قِبَل وجهه» قرينة دالة على أنه كان في الصلاة، وعليه؛ فهو غير جائز في حالة الصلاة؛ لأنَّه يفسدها إذا ظهر حروف كـ (تف) ونحوه؛ فافهم.
==========
%ص 552%
==================
(1/687)
[حديث: لا يتفلن أحدكم بين يديه ولا عن يمينه]
412# وبالسند إليه قال: (حدثنا حفص بن عُمر)؛ بضمِّ العين المهملة: هو ابن الحارث الحوضي (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (قتادة): هو ابن دعامة التابعي المفسر المشهور (قال: سمعت أنسًا) وللأصيلي: (أنس بن مالك): هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه (قال: قال النبيُّ)
%ص 552%
الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم): والجملة فعلية محلها نصب، إمَّا على الحال، وإمَّا على أنها مفعول ثان لـ (سمعت) على قولين مشهورين: (لا يتفِلن)؛ بكسر الفاء في «الفرع»، ويجوز الضم؛ أي: لا يبزقن (أحدكم بين يديه)؛ يعني: قدامه، والمراد: جهة وجهه، (ولا عن يمينه)؛ لشرف اليمين، (ولكن عن يساره أو تحت رجله)؛ بالإفراد؛ أي: اليسرى، وكلمة (أو) فيه ليست للشك، بل للتنويع؛ يعني: أنه مخير بين هذا وهذا.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للترجمة ظاهرة؛ لأنَّ معنى: «لا يتفلن»: لا يبزقن، والتفل شبيه بالبزق، وهو أقل منه، أوله البزق، ثم التفل، ثم النفث، ثم النفخ) انتهى.
قلت: وليس في هذا الحديث أيضًا تقييد بحالة الصلاة إلا في رواية آدم الآتية، وحديث أنس السابق في باب (حك البصاق باليد من المسجد)، وكأنه جنح المؤلف إلى أن المطلق محمول على المقيد، كما ذكرناه آنفًا؛ فافهم.
وقدمنا المنع منه في الجهة اليمنى مطلقًا داخل الصلاة وخارجها، وسواء كان في المسجد أو في غيره، وروي عن مالك وغيره: أنه لا بأس به خارج الصلاة؛ لما في حديث أبي هريرة حيث قال: «فإن عن يمينه ملكًا»، فخصه بحالة الصلاة أخذًا من علة النهي المذكور؛ لأنَّه لا يكون عن يساره ملكًا، وحديث: «إن الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا عند الخلاء والجماع» فضعيف لا يحتج به، كما قدمناه، والله تعالى أعلم؛ فافهم.
==================
(1/688)
(36) [بابٌ: لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (ليبزق)؛ بالزاي، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: (ليبصق)؛ بالصاد المهملة، ومعناهما واحد (عن يساره أو تحت قدمه اليسرى) وكلمة (أو) فيه للتنويع، وذكر المؤلف في هذا الباب حديثين؛ أحدهما: عن أنس بن مالك، وقد تكرر، وفيه القيد بحالة الصلاة، والآخر: عن أبي سعيد الخدري، وليس فيه القيد بالصلاة على ما سيجيء، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==========
%ص 553%
==================
(1/689)
[حديث: إن المومن إذا كان في الصلاة فإنَّما يناجي ربه]
413# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا آدم)؛ بالمد: هو ابن أبي إياس، وهو غير منصرف؛ للعلمية والعجمة، وقيل: ليس فيه علمية، بل العجمة ووزن الفعل (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (قال: حدثنا قتادة): هو ابن دعامة التابعي المفسر (قال: سمعت أنس بن مالك): هو الأنصاري، خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه (قال) جملة فعلية محلها نصب مفعول ثان أو حال: (قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) حين رأى نخامة في جدار قبلة المسجد النبوي: (إنَّ المؤمن) يعني: صفته، وحقه، وسريرته (إذا كان في الصلاة) وإفادة (كان) الدوام والاستمرار؛ يعني: في كل صلاة، سواء كانت فرضًا، أو واجبةً، أو نفلًا، أو صلاة جنازة، أو عيد، أو نحوها [1]؛ (فإنما يناجي ربَّه) عزَّ وجلَّ، والمناجاة والنجوى: هو السر بين الاثنين، يقال: ناجيته؛ أي: ساررته، ومناجاة الربِّ مجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي؛ إذ لا كلام محسوسًا بينهما إلا من طرف العبد، فيكون المراد لازم المناجاة، وهو إرادة الخير والبركة، ويجوز أن يكون من باب التشبيه؛ كأنه شبَّه العبد وتوجهه إلى ربِّه في الصلاة وما فيها من القراءة والأذكار وطلب الرحمة والغفران بمن يناجي مولاه ومالكه، فمن شرائط حسن الأدب: أن يقف محاذيه، ويُطرِق رأسه، ويراعي جهة أمامه حتى لا يصدر من تلك الهيئات شيء وإن كان الله تعالى منزهًا عن الجهات؛ لأنَّ الآداب الظاهرة والباطنة مرتبط بعضها ببعض، انتهى.
(فلا يبزقنَّ) بالزاي ونون التأكيد الثقيلة (بين يديه)؛ يعني: قُدامه، والمراد: جهة وجهه، (ولا عن يمينه)؛ لشرف اليمين؛ لأنَّها خصت بالشيء النفيس؛ كدخول المسجد، والخروج من الخلاء، وغير ذلك مما فيه تشريف، (ولكن عن يساره)؛ لعدم شرفها؛ لأنَّها خصت بالشيء الحقير؛ كالخروج من المسجد، والدخول في الخلاء، وغير ذلك مما فيه حقارة؛ والمعنى: ولكن ليبزق عن يساره، (أو تحت قدمه)؛ أي: اليسرى، كما في الحديث السابق، وكلمة (أو) فيه للتنويع، فهو مخير بين هذا وهذا، وفيه المطابقة للترجمة، لكن لم يصرح في الحديث تقييد القَدم باليسرى، لكنه عُلم من الحديث السابق، فهو مطابق، وحُمِل المطلق على المقيد، وقد تقدم في باب (حكِّ البزاق): أنَّه يدفنه، وأن كفارتها دفنها، وفي الحديث: شرف اليمين على اليسار، وفيه: أن الصلاة أعظم العبادات؛ لكونها مناجاة الربِّ عزَّ وجلَّ، وفيه: أن البزاق إنَّما يباح عن اليسار أو تحت القدم مع دفنها، كما في الحديث السابق، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (نحوهما)، والمثبت هو الصواب.
%ص 553%
==================
(1/690)
[حديث: أن النبي أبصر نخامة في قبلة المسجد فحكَّها بحصاة]
414# وبالسند إليه قال: (حدثنا علي) زاد الأصيلي: (ابن عبد الله): هو المديني، ولابن عساكر: (أخبرنا علي) (قال: حدثنا) ولابن عساكر: (أخبرنا) (سفيان) هو ابن عيينة (قال: حدثنا الزهري): هو محمد بن مسلم بن شهاب المدني، (عن حُميد) بضمِّ الحاء المهملة
(بن عبد الرحمن): هو ابن عوف القرشي الزهري المدني، (عن أبي سعيد): هو سعد بن مالك الخدري رضي الله عنه، وفي رواية ابن عساكر كما في «الفرع»: (عن أبي هريرة) بدل (أبي سعيد).
قال إمام الشَّارحين: (وهو وهم، ووافقه في هذا ما ذكره البخاري في آخر الحديث: «وعن الزهري ... » إلخ، فظن أنه عن أبي هريرة وأبي سعيد معًا وفرَّقهما) انتهى؛ فافهم.
(أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): أراد أن يصلي في مسجد، فدخل، ثم (أبصر): ناقصة، فتقتضي مفعولين؛ أحدهما: قوله: (نُخامة)؛ بضمِّ النون؛ ما يخرج من الصدر، والثاني: ملقاة (في) جدار (قبلة المسجد)؛ أي: النبوي، (فحكَّها) بالكاف؛ أي: أزال أثرها من الجدار (بحَصَاة)؛ بفتح المهملتين؛ صغار الحجر، وفي رواية المستملي: (بحصا).
قلت: والظاهر أن الهاء المثناة سقطت من الناسخ سهوًا؛ لأنَّ الرسم واحد؛ فافهم.
(ثم نهى أن يبزق الرجل) ومثله المرأة والصغير (بين يديه)؛ أي: قدامه؛ يعني: جهة وجهه، والنهي يقتضي التحريم، كما قدمناه، وهو الأصح، وهو قول الإمام الأعظم والجمهور، وقيل: إنه للتنزِّيه، وهو شاذ، وبه قال الشافعي، (أو عن يمينه) وكلمة (أو) [1]؛ للتنويع؛ يعني: لا يفعل هذا ولا هذا، (ولكن) يبصق (عن يساره)؛ لحقارة اليسار، (أو تحت قدمه اليسرى) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية أبي الوقت: (وتحت)؛ بواو العطف، ووقع في رواية مسلم عن أبي هريرة: (ولكن عن يساره تحت
%ص 553%
قدمه)؛ بحذف كلمة (أو)، وكذا وقع للبخاري من حديث أنس في أواخر (الصلاة)، ورواية كلمة (أو) أعم وأشمل، قاله الشَّارح.
وزعم الكرماني فإن قلت: لفظ (عن يساره) شامل لقدمه اليسرى، فما فائدة تخصيصها بالذِّكر؟ قلت: ليس شاملًا لها؛ إذ جهة اليمين والشمال غير [2] جهة التحت والفوق، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين: (بأن فيه تناقضًا [3]) انتهى.
قلت: ووجهه أن اليسار _أي: يسار الواقف_ يتناول الجهة كلها فوق وتحت، والقدم اليسرى مختصٌ بموضع القدم من تحت، فليس هو شامل لها، وبينهما فرقٌ بيِّنٌ [4]، وإنما خصَّها؛ لاحتمال الدفن، ويؤيده قوله: (وكفَّارتها دفنها).
وزعم الكرماني فإن قلت: هذه الترجمة مقيدة بالقدم اليسرى، ولفظ الحديث ليس فيه تقييد القدم باليسرى، قلت: يُقيَّدُ به عملًا بالقاعدة المقررة من تقييد المطلق.
وردَّه إمام الشَّارحين: (بأن لفظ الحديث: «أو تحت قدمه اليسرى»، وكأن في نسخته قد سقطت منه لفظة «اليسرى»، فبنى هذا السؤال والجواب على هذا) انتهى.
قلت: لفظة (اليسرى) ثابتة في جميع الروايات، وليس لأحدٍ روايةٌ بإسقاطها، فنسخة الكرماني خطأ، وبنى عليها كلامه من غير تدبرٍ ولا تفحص، فإنا قد عَهِدنا الشراح يجمعون نسخًا متعددة؛ لأجل المراجعة في ضبط الألفاظ على الوجه الصحيح، ولم نعهد أن أحدًا يتصدر لشرح مثل هذا الكتاب، وليس عنده إلا نسخة واحدة، فليس هذا دَأَب المحصلين؛ فافهم.
(وعن الزهري) هو محمد بن مسلم: (سمع حُميدًا): هو ابن عبد الرحمن السابق، (عن أبي سعيد) أي: الخدري (نحوَه)؛ بالنَّصب؛ يعني: مثل الحديث السابق، وأشار المؤلف بهذا إلى أن الزهري روى هذا الحديث من وجهين؛ أحدهما: بالعنعنة، والآخر: صرح فيه بسماعه من حميد، وزعم الكرماني أن هذا تعليق، واعترضه ابن حجر بأنَّه وهم، بل هو موصول، ورده إمام الشَّارحين، فقال: (ظاهر الأمر أنه تعليق، ودعوى أنه موصول يحتاج إلى دليل، ولم يبين وجه ذلك) انتهى.
قلت: يعني: أن البيِّنة للمدَّعي، فالمدَّعي بشيء إذا لم يبين حجته؛ لم يقبل منه؛ لأنَّه خبر محتمل لوجهين؛ أرجحهما الثاني؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (عين)؛ ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (تناقض)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (فرقا بينا)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (عين)؛ ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (تناقض)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (عين)؛ ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (تناقض)، وليس بصحيح.
(1/691)
(37) [باب كفَّارة البزاق في المسجد]
هذا (باب) بيان (كفارة) خطيئة (البُزَاق) بضمِّ الموحدة، وفتح الزاي (في المسجد) بدفنه، والألف واللام فيه للجنس؛ أي: في كل مسجد، ولو كان مصلَّى عيد وجنازة.
قال إمام الشَّارحين: (والكفَّارة على وزن «فَعَّالة»؛ للمبالغة؛ كقتَّالة وضرَّابة، وهي من الصفات الغالبة في باب الاسمية، وهي عبارة عن الفعلة والخَصْلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة؛ أي: تسترها وتمحوها، وأصل المادة من الكفر، وهو الستر، ومنه سمي الزَّراع كافرًا؛ لأنَّه يستر الحَب في الأرض، وسُمِّي المخالف لدين الإسلام كافرًا؛ لأنَّه يستر الدين الحق، والتكفير: هو فعل ما يجب بالحديث، والاسم منه: الكفَّارة) انتهى.
==========
%ص 554%
==================
(1/692)
[حديث: البزاق في المسجد خطيئة]
415# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا آدم)؛ بالمدِّ: هو ابن أبي إياس (قال: حدثنا شعبة): هو ابن الحجاج (قال: حدثنا قتادة): هو ابن دعامة التابعي المفسر (قال: سمعت أنس بن مالك) هو الأنصاري: أنَّه (قال: قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) والجملة فعلية محلها نصب على الحال، أو مفعول ثان لـ (سمعت) (البُزَاق)؛ بضمِّ الموحَّدة، وفتح الزاي؛ ما يخرج من الفم (في المسجد) الألف واللام فيه للجنس، فيشمل كل مسجد، ومثله مصلَّى الجنازة والعيدين.
قال إمام الشَّارحين: (وهو ظرف للفعل، فلا يُشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه؛ تناوله النهي) انتهى.
قلت: لأنَّه حينئذٍ يصدق عليه أنه بصق في المسجد، وفي رواية مسلم: (التفل في المسجد)؛ بالمثناة الفوقية، وفي رواية أبي داود: (وكفَّارته أن تواريه)؛ أي: تغيِّبه؛ يعني: تدفنه (خطيئة)؛ أي: إثم، وأصلها بالهمزة، ولكن يجوز تشديد التحتية، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: فأفاد أن الرواية بالهمز، ويجوز التشديد؛ فافهم.
(وكفَّارتها) أي: الخطيئة (دفنها)؛ أي: في تراب المسجد، ورمله، وحصائه إن كانت هذه الأشياء فيه، وإلا؛ فيخرجه، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «من دخل هذا المسجد، فبزق فيه أو تنخَّم؛ فليحفر فليدفنه، فإن لم يفعل؛ فليبزق في ثوبه، ثم ليخرج به»، وقوله: «فإن لم يفعل»؛ أي: فإن لم يحفر أو لم يمكن الحفر؛ فليبزق في ثوبه، وروى الطبراني في «الأوسط» عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «البزاق في المسجد خطيئة، وكفَّارته دفنه»، وإسناده ضعيف، وزعم النووي أن هذا في غير المسجد، وأما المصلِّي في المسجد؛ فلا يبزق إلا في ثوبه.
قلت: وما زعمه مخالف لصريح الأحاديث، ولهذا قال القاضي عياض: (البزاق إنَّما يكون خطيئة إن لم يدفنه، فمن أراد دفنه؛ فليس بخطيئة).
قال إمام الشَّارحين: (ويرد على ما زعمه النووي أحاديث كثيرة، وكلها تدل على أن ذلك كان في المسجد، فقد روى أحمد في «مسنده» من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا بإسناد حسن: «من تنخَّم في المسجد؛ فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه، فيؤذيه»، وروى أحمد أيضًا والطبراني بإسنادٍ حسن من حديث أبي أمامة مرفوعًا: «من تنخَّع في المسجد، فلم يدفنه؛ فسيِّئة، وإن دفنه؛ فحسنة»، وفي حديث أبي ذرٍّ عند مسلم: «وجدت في مساوئ أعمال أمتي النُّخامة تكون في المسجد لا تدفن»، قال القرطبي: «فلم يثبت لها حكم السيِّئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل فيه وبتركها غير مدفونة»، وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة: أنه تنخَّم في المسجد ليلة، فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار، ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد لله الذي لم تكتب عَلَيَّ خطيئة) انتهى.
قلت:
%ص 554%
وكأن النووي لم يطلع على هذه الأحاديث حتى قال هذا الكلام المخالف لصريح الأحاديث الواردة في ذلك، وزعم القسطلاني أن حاصل النزاع بين النووي والقاضي عياض: أن ههنا عمومين تعارضا، وهما قوله: «البزاق في المسجد خطيئة»، وقوله: «وليبصق عن يساره أو تحت قدمه»، فالنووي يجعل الأول عامًّا، ويَخصُّ الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي عياض يجعل الثاني عامًّا، ويَخصُّ الأول بمن لم يرد دفنها، وتوسط بعضهم، فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر؛ كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر) انتهى.
قلت: وما زعمه ممنوع، فإنَّه ليس ههنا عمومان متعارضان ولا متفقان، فإن قوله: «البزاق في المسجد خطيئة» ليس عامًّا، بل هو خاص بمن كان يبزق في المسجد، فإنَّه صريح الحديث؛ بدليل قوله: «وكفَّارتها دفنها»، ولهذا ترجم المؤلف بـ (باب كفَّارة البزاق في المسجد)، وإنَّ قوله عليه السَّلام: «وليبصق عن يساره أو تحت قدمه» عامٌّ في جميع الأحوال، سواء كان في الصلاة أو خارجها، وسواء كان في المسجد أو غيره، ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق عن ابن مسعود: أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة، ومثله عن معاذ بن جبل، ونهى عنه مطلقًا عمر بن عبد العزيز، ويؤيده الأحاديث السابقة عند أحمد والطبراني وغيرهما؛ فليحفظ.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وفيه التصريح بسماع قتادة عن أبي هريرة، فانتفى تدليسه؛ فافهم.
==================
(1/693)
(38) [باب دفن النُّخامة في المسجد]
هذا (باب دفن النخامة في المسجد) ويجوز في لفظة (باب) التنوين وعدمه، وعلى الأول: يكون قوله: (دفن) مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: جائز، وعلى الثاني: يكون (باب) مضافًا لمحذوفٍ مضافٍ لتاليه؛ تقديره: باب جواز دفن ... إلخ، والدفن: هو التَّواري؛ أي: التغيب بحيث لم يظهر للناظر، و (النُّخامة)؛ بضمِّ النون: ما يخرج من الصدر، والألف واللام في (المسجد)؛ للجنس، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==========
%ص 555%
==================
(1/694)
[حديث: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه]
416# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق ابن نصر)؛ نسبه إلى جده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر البخاري (قال: حدثنا) ولأبوي ذر والوقت: (أخبرنا) (عبد الرزاق): هو ابن همام الصنعاني، صاحب «المصنف»، (عن مَعْمَر)؛ بفتح الميمين، بينهما عين ساكنة، وللأصيلي: (أخبرنا مَعمَر): هو ابن راشد البصري، (عن همَّام) على وزن (فعَّال)؛ بالتشديد: هو ابن مُنَبْه _بضمِّ الميم، وفتح النون، وتشديد [1] الموحدة_ ابن كامل الصنعاني، أخو وهب: أنَّه (سمع أبا هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنَّه (قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة)؛ أي: إذا أراد أحدكم القيام إليها على حد قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]، والمراد: أنه تهيأ إليها بأن استقبل القبلة، وأتى بالسنن، وبهذا التقدير اضمحل ما زعمه القسطلاني من أنه فسر القيام: بالشروع فيها؛ لأنَّه لا يوافق قوله: (فلا يبصق)؛ بالصاد المهملة، والجزم على النهي؛ لأنَّ البصاق يكون خروجه بحروف مفهمة، وهي تفسد الصلاة، وهو خلاف ما أراده عليه السَّلام، ويؤيده قوله عليه السَّلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هي التسبيح وقراءة القرآن»، أخرجه مسلم وغيره، ولا ريب أن الحروف المفهمة كلام، ويدل عليه الحصر في قوله: «إنما هي ... » إلى إلخ، فإنَّها تسبيح وقرآن؛ فافهم.
(أَمامه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: قدامه؛ والمراد: جهة القبلة، (فإنما) وللكشميهني: (فإنَّه)؛ أي: مريد الصلاة أو المصلي (يناجي الله) من جهة مساررته بالقرآن والأذكار، فكأنه يناجيه تعالى، والرب عز وجل يناجيه من جهة لازم ذلك؛ وهو إرادة الخير والبركة، فهو من باب المجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة؛ إذ لا كلام محسوسًا إلا من جهة العبد (ما دام في مصلاه)؛ أي: مدة دوامه في مصلاه، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: وأشار به إلى أن كلمة (ما) ظرفية مصدرية؛ معناها: المدة؛ يعني: مدة دوامه قاعدًا في مكان صلاته متوجهًا للكعبة، ويدل عليه قوله عليه السَّلام: «إنكم في صلاة ما انتظرتموها»؛ يعني: ما دمتم منتظرين الصلاة، فأنتم فيها حكمًا من حيث إقبال الرب عليه بالرحمة والعفو والغفران، وهذا يؤيد ما قلناه، ويرد على ما زعمه القسطلاني آنفًا.
قال الشَّارح: (فإن قلت: هذا تخصيص المنع بما إذا كان في الصلاة، ورواية: «أذى المسلم» يقتضي المنع مطلقًا ولو لم يكن في الصلاة.
قلت: هذه مراتب، فكونه في الصلاة أشد إثمًا مطلقًا، وكونه في جدار القبلة أشد إثمًا من كونه في غيرها من جدار المسجد) انتهى.
قلت: وقوله: (هذا تخصيص المنع ... ) إلخ: قد يقال: إنه تخصيص المنع مطلقًا، سواء كان في الصلاة أو خارجها؛ لأنَّ من توضأ أو أذن أو أقام للصلاة يناجي ربه عزَّ وجلَّ؛ فهو مصلٍّ حكمًا، وهو موافق لما في رواية: (أذى المسلم)، فيكون المنع المطلق.
وقوله: (فكونه في الصلاة أشد ... ) إلخ: لما يلزم عليه من إظهار الحروف وفساد الصلاة، وهو غير جائز؛ لقوله تعالى: {وَلاَ [2] تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
وقوله: (وكونه في جدار القبلة ... ) إلخ؛ لأنَّ القبلة لها شرف ومزية على غيرها من الجهات؛ لقوله عليه السَّلام: «فإن الله قِبَلَ وجهه»؛ أي: رحمته، كما قدمنا؛ فافهم.
(ولا) يبصق (عن يمينه؛ فإن عن يمينه مَلَكًا)؛ بفتح الميم واللام والكاف، وهذا يقتضي اختصاص منع البزاق عن يمينه؛ لأجل الملك، وفي يساره أيضًا ملك.
قلت: إنَّ لكل واحد قرينًا، وموقفه عن يساره، كما ورد في حديث أبي أمامة، رواه الطبراني، فإنَّه بين يدي الله وملكه عن يمينه، وقرينه عن يساره، فلعل المصلي إذا تفل عن يساره؛ يقع على قرينه، وهو الشيطان ولا يصيب الملك منه شيء، كذا قاله إمام الشَّارحين، وأجاب غيره: بأن لليمين شرفًا، قال إمامنا: (وفيه نظر).
قلت: ووجهه أن على اليمين ملكًا كما أن على اليسار ملكًا أيضًا، فأين الشرف الذي لليمين على اليسار؟ وقد يقال: إن لليمين شرفًا من حيث إنَّه عليه السَّلام كان يبدأ بها في مشيه ودخوله وخروجه وأحواله كلها، وقد يقال: هذا لا يقتضي الشرف؛ لاحتمال أنه يفعل ذلك؛ لأجل التسهيل عليه والعادة.
%ص 555%
وأجاب بعض: بأن الصلاة أُمُّ الحسنات البدنية، فلا دخل لكاتب السيئات فيها الكائن عن اليسار، قال إمامنا الشَّارح: (وفيه نظر؛ لأنَّه ولو لم يكتب؛ لا يغيب) انتهى.
قلت: ويدل عليه قوله عليه السَّلام: «إن الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا حال الجماع ودخول الخلاء»، على أنَّه لكاتب السيئات دخل في الصلاة، كما أنَّ لكاتب الحسنات دخلًا [3] فيها من حيث إنَّ المصلي يحصل له تفكر في أمور الدنيا غالبًا، خصوصًا في أهل زماننا، فإن تفكر في صلاته أنَّه يفعل الأمر القبيح أو المكروه أو المحرم؛ يخرج من فمه ريح منتنة، فيعلم الملَك أنَّه قد هم بمعصية، فيكتبها، وإن تفكر أنَّه يفعل الأمر الحسن؛ يخرج من فمه ريح طيبة، فيعلم الملَك أنَّه قد همَّ بطاعة، فيكتبها، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث، ويدل عليه الحديث السابق آنفًا، فإنَّه يقتضي عدم المفارقة أصلًا إلا في هذين الموضعين، وهذا يدل صريحًا أنَّ الملكين لا يفارقان العبد أصلًا إلا في الموضعين؛ فافهم.
(وليبصق عن يساره)؛ لأنَّ اليمين لها فضل على اليسار في الجملة، (أو تحت قدمه)؛ بالإفراد؛ أي: اليسرى، كما قيَّدَها في حديث أبي سعيد السابق، وهذا صريح في أنَّه كان في المسجد؛ بدليل قوله في أول الحديث: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة»، والقيام إليها لا يكون إلا في المسجد، ويدل عليه أيضًا ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن مرفوعًا: «من تنخع في المسجد، فلم يدفنه؛ فسيئة، وإن دفنه؛ فحسنة»، وروى مسلم عن أبي ذر مرفوعًا: «وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخامة تكون في المسجد لا تدفن»، قال القرطبي: (فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل به، وبتركها غير مدفونة) انتهى.
وبهذا تعلم سقوط ما زعمه النووي وتبعه القسطلاني أنَّ هذا في غير المسجد، أمَّا المصلي في المسجد؛ فلا يبزق إلا في ثوبه؛ لأنَّ هذا تخصيص بلا مخصص، وتقييد الإطلاق بشيء مخالف؛ لظاهر حديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة الدالة صريحًا على أن ذلك كان في المسجد؛ فافهم.
وقول القسطلاني معلِّلًا بأنَّه قد قال: (إنه خطيئة، فلم يأذن فيه)، يرده: أنه قد قال: (وكفارتها دفنها)؛ كما في حديث أنس في الباب قبله، وقد ترجم له المؤلف بـ (باب كفارة البزاق في المسجد)، ولا يلزم من كونها خطيئة عدم الإذن بفعلها في المسجد؛ لأنَّ قوله: (وكفارتها دفنها) دليل على الإذن فيها، وأنها إذا دفنت؛ تخرج عن كونها خطيئة، فقد حفظ شيئًا، وغاب عنه أشياء على أن قوله: (وليبصق عن يساره أو تحت قدمه) دليل صريح على الإذن بفعلها، ولو لم يأذن بها؛ لم يجعل لها كفارة، ويدل عليه قوله: (فيدفنها)؛ أي يغيبها بتراب المسجد، ورمله، وحصائه، وبذلك تخرج عن كونها خطيئة، وقوله: (فيدفنُها)؛ بالرفع، وهو الذي في «الفرع» على أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو يدفنها، ويجوز النصب؛ لأنَّه جواب الأمر، ويجوز الجزم عطفًا على الأمر، وتأنيث الضمير فيه على تأويل البصقة التي يدل عليها قوله: (وليبصق)، وقيل: إنَّما لم يغطها [4]؛ لأنَّ التغطية يستمر بها الضرر؛ إذ لا يؤمن أن يجلس غيره عليها، فتؤذيه، بخلاف الدفن؛ فإنَّه يفهم منه التعميق في باطن أرض المسجد، ويؤيده ما رواه الطبراني: «فليحفر وليدفنه»، وعند ابن أبي شيبة مرفوعًا: «إذا بزق في المسجد؛ فليحفر وليمعن»، وفي «صحيح ابن خزيمة»: «فليبعد»، لا يقال: إن الباب معقود على دفن النخامة، والحديث يدل على دفن البزاق؛ لأنَّا نقول: قد قلنا فيما مضى: أنه لا تفاوت بينهما في الحكم، ومطابقته للترجمة ظاهرة من قوله: (فيدفنها)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قلت: ومثل دفنها بل أبلغ إلقاؤها في نعله أو بابوجه، كما هو العادة في زماننا، فإن ذلك مثل بزقه في ثوبه؛ لأنَّ مآله الخروج بها من المسجد، ثم دفنها ينبغي أن يُقيَّد بكون البزاق لم يخالطه نجس؛ كَدَمٍ من بين أسنانه، فلو تنجس؛ ينبغي أن يخرجه من المسجد؛ لأنَّه نجاسة، وقد يقال: لما كان الدفن مستلزم للحفر والتعميق، وهو يستلزم عدم ظهوره، وعدم إيذاء أحد به؛ لا بأس به؛ لأنَّه يكون في باطن أرض المسجد، والسجود على أعلاه لا يضر الصلاة، نعم، لو كان المسجد لم يوجد فيه تراب، أو رمل، أو حشيش، ونحوها؛ فإن كان البزاق باقيًا على طهارته؛ فيدلكها بشيء حتى يذهب أثرها، وإن كان متنجسًا؛ ينبغي أن يتعين عليه إخراجه من المسجد؛ لأنَّ في إبقائه إيذاء للمسجد والمصلين بالنجاسة، وهو غير جائز، ومثل دفن البزاق الطاهر دلكه في الحشيش، أو الحصير، أو غيرهما، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (وسكون)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[2] في الأصل: (لا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (دخل)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (يغطيها)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (وسكون)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[2] في الأصل: (لا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (دخل)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (وسكون)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[2] في الأصل: (لا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[3] في الأصل: (دخل)، وليس بصحيح.
(1/695)
(39) [باب: إذا بَدَرَهُ البزاق فليأخذ بطرف ثوبه]
هذا (باب)؛ بالتنوين: (إذا بدره)؛ بدال وراء مهملتين؛ أي: غلب على من كان في المسجد (البُزَاق)؛ بضمِّ الموحدة، وفتح الزاي، ولم يقدر على دفعه؛ (فليأخذ)؛ بدون ضمير، والأولى أن يلحقه ضميرٌ مذكرٌ [1]؛ ليعود على البزاق، أو ضميرٌ مؤنثٌ [2]؛ ليعود على البزقة المدلول عليها قوله: (إذا بدره البزاق) (بطرف ثوبه) قد يقال: فيه إتلاف المال، وهو غير جائز، وقد يجاب: بأن الثوب يغسل بخلاف المسجد، فإنَّه يدل على الاستخفاف، كما سيأتي.
وقال إمام الشَّارحين: (لا يقال: بدره، بل يقال: بدر إليه)، وقال الجوهري: (بَدَرْتُ إلى الشيء، أَبْدُرُ، بُدورًا: أسرعت، وكذلك: بادرت إليه، وتَبادَرَ القوم: أسرعوا) انتهى.
قلت: وهذا اعتراض على المؤلف في قوله: (إذا بدره)؛ لأنَّه مخالف للغة، وكذلك أنكره، واعترض عليه السروجي، وأجاب عن المؤلف ابن حجر، وتبعه البرماوي، والدماميني: (بأنَّه من باب المُغَالبة؛ أي: بادر البزاق، فبدره؛ أي: غلبه في السَبْق) انتهى.
قلت: وهذا الجواب ليس لابن حجر، كما يُتوهم، وإنما هو للزركشي، فنسبه ابن حجر لنفسه، وعلى كلٍّ؛ فهو مردود؛ لأنَّ إمام الشَّارحين قد رد على ابن حجر كعادته، فقال: (هذا كلام من لم يمس شيئًا من علم التصريف، فإن في باب المغالبة يقال: بادرني، فبدرته، ولا يقال: بادرت كذا، فبدرني، والفعل اللازم في باب المغالبة يجعل متعديًا بلا حرف صلة، يقال: كارمني فكرمته، وليس ههنا باب المغالبة حتى يقال: بدره) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (ضميرًا مذكرًا)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (ضميرًا مؤنثًا)، وليس بصحيح.
%ص 556%
==================
[1] في الأصل: (ضميرًا مذكرًا)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ضميرًا مذكرًا)، وليس بصحيح.
(1/696)
[حديث: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه]
417# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مالك بن إسماعيل) هو أبو غسان النهدي الكوفي (قال: حدثنا زُهير)؛ بضمِّ
%ص 556%
الزاي، مصغَّرًا: هو ابن معاوية الكوفي (قال: حدثنا حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة: هو الطويل التابعي، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك): هو الأنصاري رضي الله عنه: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) أي: أبصر (نُخَامة)؛ بضمِّ النون، وفتح الخاء المعجمة: ما يخرج من الصدر (في القبلة)؛ أي: في الحائط القبلي من المسجد النبوي، وقول القسطلاني: (في جهة حائطها)؛ ممنوع؛ لأنَّ النخامة المرئية ليست في جهة القبلة، بل في حائط القبلة؛ لأنَّ جهة القبلة يطلق على ما بين المشرق والمغرب، بخلاف حائط القبلة، فإنَّه مخصوص بحائط المسجد القبلي؛ فافهم.
(فحكها) بالكاف؛ أي: أزال أثرها (بيده) الكريمة، يحتمل أنه باشر ذلك بنفس يده، ويحتمل أنه باشر ذلك بعرجون كان بيده، كما في حديث أبي داود، ويحتمل تعدد القصة، كما سبق، وفي رواية: (فحكه)؛ أي: أثر النخامة، وقول القسطلاني: (أي: البصاق)؛ ممنوع؛ لأنَّه لم يوجد أنه رأى بصاقًا حتى يدل الضمير على البصاق، وإنما هو رأى نخامة، فضمير المؤنث يرجع إليها، وضمير المذكر يرجع إلى أثرها، كما لا يخفى.
(ورُؤِيَ)؛ بضمِّ الراء، وكسر الهمزة، وفتح التحتية، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني والأصيلي: (ورِيْءَ)؛ بكسر الراء، وسكون التحتية، وفتح الهمزة (منه) عليه السَّلام (كراهيةُ)؛ بالرفع نائب فاعل، (أو رُئِيَ) بضمِّ الراء، وكسر الهمزة، وفتح التحتية (كراهيته) عليه السَّلام (لذلك)؛ أي: لأجل رؤية النخامة في القبلة، وكلمة (أو) [1]؛ للشك، وهو من الراوي.
قلت: يحتمل من حميد، ويحتمل من أنس، والظاهر الأول، و (كراهيته) مرفوع بـ (رُؤي) المبني للمفعول.
(وشدتُه عليه)؛ أي: على ذلك الفعل، وهو بالرفع عطفًا على (كراهيته)، أو بالجر عطفًا على قوله: (لذلك)، وفي رواية أنس في باب (حك البزاق): (فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه)، وفي رواية النسائي: (فغضب حتى احمر وجهه)، وهذا بيان لقوله: (كراهيته) و (شدته)، والروايات تفسر بعضها بعضًا، (وقال) عليه السَّلام؛ أي: بعدما رئي منه الكراهية والشدة: (إنَّ أحدكم إذا قام في صلاته): يحتمل على الحقيقة، ويحتمل أنه أراد القيام إلى صلاته، والثاني أعم، والظاهر: أنه هو المراد؛ لأنَّ استقبال القبلة في غير الصلاة عبادة؛ كما أن النظر إلى الكعبة في غير صلاة عبادة أيضًا؛ فتأمل.
(فإنما يناجي ربه) تعالى؛ أي: من جهة مساررته بالقرآن الذي هو كلامه والأذكار وغير ذلك، فكأنه يناجيه، والله تعالى يناجيه من جهة لازم ذلك؛ وهو إرادة الخير والرحمة، فهو من باب المجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة؛ إذ لا كلام محسوسًا إلا من جهة العبد، وزعم النووي أنَّ [2] هذا إشارة لإخلاص القلب، وحضوره، وتفريغه لذكر الله تعالى، انتهى.
قلت: وهو ممنوع، فإن المناجاة: المساررة، وهي بكلامه تعالى وذكره، وأمَّا الإخلاص والحضور؛ فخارج عن ذلك، فتارة تكون المناجاة بإخلاص، وتارة بدونه، وكل ذلك جائز؛ لأنَّ المالك من كرمه العفو عن مملوكه، ولعل النووي أشار بهذا إلى قول المتصوفة: إنَّ الخشوع في الصلاة واجب، فإن كان مراده هذا؛ فغير مقبول منه؛ لأنَّ الإجماع منعقد على أنَّه ليس بواجب؛ فافهم.
(أو ربه) تعالى؛ بالرفع مبتدأ خبره قوله: (بينه وبين قبلته)؛ بالضمير، ولأبوي ذر والوقت: (وبين القبلة)؛ بحذفه، والجملة معطوفة على (يناجي ربه) عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية، وظاهر هذا غير مراد؛ لأنَّ الله تعالى منزه عن المكان والجهة، وإنما المراد: إقباله تعالى على عبده بالرحمة، والعفو، والغفران، والكرم، والإحسان، كما سبق في باب (حك البزاق) (فلا يبزقنَّ)؛ بنون التأكيد الثقيلة؛ أي: أحدكم (في قبلته)؛ أي: في جدار القبلة، (ولكن) يبزق (عن يساره)؛ لعدم شرف اليسار، (أو تحت قدمه)؛ بالإفراد؛ أي: اليسرى، كما في الحديث السابق؛ لأنَّ محل وطء القدم ليس له شرف، (ثم أخذ) عليه السَّلام (طرف رِدائه)؛ بكسر الراء: ما يغطي النصف الأعلى (فبزق فيه) بالزاي (ورد بعضه على بعض) يعني: غيبها فيه، (قال) عليه السَّلام، وللأصيلي وابن عساكر: (فقال) (أو يفعل هكذا) عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك؛ والمعنى: ولكن ليبزق عن يساره، أو يفعل هكذا، ففيه البيان بالفعل، وهو أوقع في النفس، وكلمة (أو) [3] ليست للشك، بل هي للتنويع؛ ومعناه: التخيير؛ أي: هو مخير بين هذا وهذا.
فإن قلت: ليس في الحديث مطابقة للترجمة؛ لأنَّه لم يذكر فيه بدر البزاق.
قال إمام الشَّارحين: (الترجمة مشتملة على شيئين؛ أولهما: مبادرة البزاق، والآخر: هو أخذ المصلي بزاقه بطرف ثوبه، وفي الحديث ما يطابق الثاني، وهو قوله: «ثم أخذ طرف ردائه، فبزق فيه»، وليس للجزء الأول ذكر في الحديث، ولهذا اعترض عليه في ذلك، ولكن يمكن أن يقال وإن كان فيه تعسف، كأنه أشار بذلك إلى ما في بعض طرق الحديث، وهو ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: «وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة؛ فليقل بثوبه هكذا، ثم طوى بعضه على بعض»، وروى أبو داود: «فإن عجلت به بادرة؛ فليقل بثوبه هكذا، وَضَعَهُ على فيه، ثم دلكه»، وقوله: «بادرة»؛ أي: حِدَّة، وبادرة الأمر: حِدَّتُه؛ والمعنى: إذا غلب عليه البصاق أو النخامة؛ فليقل بثوبه هكذا، وقوله: «وضعه على فيه» تفسير لقوله: «فليقل به»، ولأجل ذلك ترك العاطف؛ أي: وضع ثوبه على فيه حتى يتلاشى البزاق فيه) انتهى.
قلت: ووجه التعسف: أن ذكر الترجمة لشيء لم يذكره تحتها، ويشير إلى بعض طرقه مما لم يذكره، وما ذكره الشَّارح ترميم لعبارة المؤلف، وأنَّ ذكر الترجمة وعدم ذكر ما يدل عليها أو على بعضها معيبٌ في الصناعة، ولعل المؤلف جنح إلى أن قوله: (ثم أخذ طرف ردائه ... ) إلى آخره يطابق الجزء الأول من الترجمة أيضًا؛ لأنَّ مبادرة البزاق لا يكون إلا بسعال وتنحنح غالبًا، فإذا حصل له ذلك، وغلب عليه البزاق أو النخامة؛ لا يسعه أن يبزق عن يساره، أو تحت قدمه؛ لطول المدة، بل يعجل بأخذ طرف ثوبه، وأيضًا إذا حصل له سعال ونحوه؛ يضطر إلى وضع طرف ثوبه على فمه حتى لا يخرج من فيه صغار البزاق، فيصيب بعض من على يمينه أو شماله أو أمامه، وفي هذه الحالة يضطر إلى أن يبزق بطرف ثوبه؛ محافظة على عدم إيذاء الجار، وعلى هذا؛ يكون قوله: «ثم أخذ طرف ردائه ... ) إلى آخره مطابق لجزئي [4] الترجمة، والله أعلم.
وفي الحديث فوائد؛ منها: استحباب إزالة ما يستقذر أو يتنزه عنه من المسجد، ومنها: تفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها.
قلت: ومثل الإمام نائبه، وهو الناظر أو المتولي على أوقافه ومصارفه، وكذلك الكناس، والشعال، والحسكي، ونحوهم،
%ص 557%
فيجب عليهم تعاهد المسجد من وقوع القاذورات فيه، والكناسات، والزبالات، ونحوها.
ومنها: أن البصاق طاهر، وكذلك النخامة والمخاط، ولم يخالف في ذلك إلا إبراهيم النخعي، فإنَّه يقول: (كل ما تستقذره النفس نجس).
ومنها: أن التحسين والتقبيح إنَّما هو بالشرع ككون اليمين مفضلة على اليسار، واليد مفضلة على القدم.
ومنها: أن الرجل إذا رأى ما يُكره شرعًا أن يزيله بيده، ولهذا كان الأمر بالمعروف واجبًا، وهو على التفصيل؛ لقوله عليه السَّلام: «من رأى منكم منكرًا؛ فليغيره بيده، فإن لم يقدر؛ فبلسانه، فإن لم يقدر؛ فبقلبه، وهو أضعف الإيمان»، ويشترط أن يكون الأمر بالمعروف بالمعروف لا بالشدة إلا إذا رأى أحدًا كشف عورته؛ فينهاه بشدة، كما بُين في كتب الفروع، وقد انتهت الجهالة إلى قوم، فزعموا أن البصاق والنفخ والتنحنح في الصلاة جائز مطلقًا، غير مفسد؛ استدلالًا بهذا الحديث.
قلت: وهو استدلال فاسد، ودعوى بلا برهان، فإن قوله عليه السَّلام: «إذا قام في صلاته»؛ معناه: أن أحدكم إذا أراد القيام إلى صلاته؛ ينبغي له أن يتهيأ لها، ومن جملة ذلك: أنه إذا غلب عليه البلغم والبزاق، وأراد أن يبزق؛ يفعل، كما ذكره في الحديث، وليس المراد أنه يفعل ذلك في حال صلاته؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «إن صلاتنا هذه لا يَصْلُح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هي التسبيح وقراءة القرآن»، رواه مسلم وغيره، ولا ريب أن البصاق والنفخ والتنحنح ملحق بكلام الناس؛ لأنَّ الكلام لا يَحْسُن إلا بذلك، ويدل عليه الحصر في الحديث على أنها تسبيح وقراءة قرآن؛ يعني: لا غيرهما من أفعال الناس، ولو سلمنا أنه كان في حال الصلاة؛ فالغالب في البزاق أنه يخرج من الفم بدون حرف ولا صوت، لا سيما إذا أخذه بطرف ردائه؛ فإنَّه لا يسمع لذلك صوت أصلًا، ولهذا قال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: (إن البصاق والنفخ في الصلاة غير مفسد إذا كان بدون صوت ولا حروف، فإن كان يسمع؛ فهو مفسد؛ لأنَّه بمنزلة الكلام، وإن التنحنح في الصلاة إذا كان بعذر كأن وقف في حلقه البلغم، فمنعه عن القراءة ونحوها؛ فإنَّه غير مفسد، وإن كان بدون عذر، كما يفعله ذرية يأجوج ومأجوج؛ فمفسد للصلاة)، وفي رواية عنه: (إن حصل منه ثلاثة حروف؛ تفسد صلاته، وفي الحرفين قولان: الاحتياط المنع، وهو الأصح)، وزعم الشافعية وكذا الحنابلة أن النفخ والتنحنح إن ظهر من كل منهما حرفان أو حرف مفهم؛ كـ (قِ)؛ من الوقاية، أو مدة بعد حرف؛ بطلت صلاته، وإلا؛ فلا، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أنَّه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (للجزئي)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أنَّه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أنَّه)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
(1/697)
(40) [باب عِظَة الإمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة]
هذا (باب) حكم (عِظَة الإمام) أي: وعظه (الناسَ)؛ بالنصب على المفعولية (في) أي: بسبب ترك (إتمام الصلاة)؛ أي: بأن يتموا صلاتهم ولا يتركوا منها شيئًا، (وذكر القبلة)؛ بالجر عطف على (عظة)؛ أي: وفي بيان القبلة، والعظة على وزن (علَة [1]) مصدر من وَعَظ يعظ وَعظًا، وعظة [2]، ومَوعظَة، وأصل (عظة): وعظ، فلما حذفت الواو؛ عوضت منها التاء في آخره، أمَّا الحذف؛ فلوجوده في فعله، وأما كسر العين؛ فمن الواو؛ فافهم، والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، وإذا قلت: وعظته فاتعظ؛ أي: قبل الموعظة، ووجه المناسبة في ذكر هذا الباب عقيب الأبواب المذكورة من حيث إنَّه كان فيها أمر ونهي وتشديد فيهما، وهي كلها وعظ ونصح، وهذا الباب أيضًا في الوعظ والنصح، انتهى.
==========
[1] في الأصل: (فعلة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (ووعظة)، وليس بصحيح.
%ص 558%
==================
[1] في الأصل: (فعلة)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فعلة)، وليس بصحيح.
(1/698)
[حديث: هل تَرون قِبلتي هاهنا؟! فوالله ما يخفى عليَّ خشوعكم ولا ركوعكم]
418# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي الكلاعي الدمشقيُّ الأصل (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن أبي الزِّناد)؛ بكسر الزاي، وتخفيف النون: هو عبد الله بن ذكوان القُرشي المدني، (عن الأعرج): هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي المدني: (أنَّ رسول الله)
ولأبي الوقت: (عن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنَّه (قال: هل تَرون)؛ بفتح المثناة الفوقية، استفهام على سبيل إنكار ما يلزم منه؛ المعنى: أنتم تحسبون (قِبلتي ههنا) وأنني لا أرى إلا ما في هذه الجهة؟! (فوالله): قَسَم منه عليه السَّلام، وجوابه قوله: (ما يخفى عليَّ)؛ بفتح التحتية، (خشوعُكم) بالرفع فاعل (يخفى)؛ المراد به: السجود؛ لأنَّه غاية الخشوع، وقد صرح في رواية مسلم: (بالسجود)، ويجوز أن يُراد به أعم من ذلك، فيتناول جميع أفعالهم في صلاتهم، وقوله: (ولا) يخفى عليَّ (ركوعُكم) بالرفع عطفًا على (خشوعكم)؛ يعني: إذا كنت في الصلاة مستدبرًا لكم.
فإن قلت: إذا كان الخشوع بمعنى الأعم يتناول الركوع أيضًا، فما فائدة ذكره؟
قلت: لكونه أكبر من عمد الصلاة؛ لأنَّ الرجل ما دام في القيام؛ لا يتحقق أنه في الصلاة؛ فإذا ركع؛ يتحقق أنه في الصلاة، ويكون فيه عطف العام على الخاص؛ والمعنى: أن رؤيتي لا تختص بجهة قبلتي هذه، فإني أرى من خلفي كما أرى من جهة قبلتي.
(أَني)؛ بفتح الهمزة (لأراكم) اللام فيه للتأكيد، وهو إما بيان لجواب القسم، أو بدل منه (من وراء ظهري): واختلف في ذلك؛ فقيل: كانت له عليه السَّلام عين خلف ظهره يرى بها من ورائه دائمًا، وقيل: كانت بين كتفيه عينان مثل سم الخياط؛ يعني: خرق [1] الإبرة يبصر بهما، لا يحجبهما ثوب ولا غيره، وقيل: بل كانت صورهم تتطبع في حائط قبلته كما تتطبع في المرآة مُثلَتُهُم فيها، فيشاهد بذلك أفعالهم، واختلف أيضًا في معنى هذه الرؤية؛ فقال قوم: المراد بها: العلم إمَّا بطريق أنه كان يوحى إليه بيان كيفية فعلهم، وإمَّا بطريق الإلهام، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّه لو كان ذلك بطريق العلم؛ ما كانت فائدة في التقييد بقوله: «من وراء ظهري»، وقال قوم: المراد بها: أنه يرى مَن عن يمينه، ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير في بعض الأحوال، وهذا أيضًا ليس بشيء، وقال الجمهور: إنها من خصائصه عليه السَّلام، وإن إبصاره إدراك حقيقي انخرقت له فيه العادة، ولهذا
%ص 558%
خرَّج البخاري هذا الحديث في (علامات النبوة)، وفيه دلالة لأهل السنة من الماتردية والأشاعرة حيث لا يشترطون في الرؤية مواجهة ولا مقابلة، وهذا هو الحق الصواب؛ لأنَّ الرؤية لا يشترط عقلًا عضو مخصوص، ولا مقابلة، ولا قرب، ولا بعد، ولهذا حكموا بجواز رؤية الباري تعالى في الدار الآخرة، خلافًا للمعتزلة في الرؤية مطلقًا، وللمُشَبِّهة والكَرَّامية في خلوها عن المواجهة والمكان، فإنَّهم إنَّما جوزوا رؤية الله تعالى؛ لاعتقادهم كونه تعالى في الجهة والمكان، وأهل السنة أثبتوا رؤية الله تعالى بالنقل والعقل، وبينوا بالبرهان على أن تلك الرؤية مبرأة عن الانطباع والمواجهة واتصال الشعاع بالمرئي، كما بين في موضعه، كذا قرره إمام الشَّارحين.
ثم قال: (ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إنَّ في هذا الحديث وعظًا لهم وتذكيرًا وتنبيهًا بأنَّه لا يخفى عليه ركوعهم وسجودهم، ولا يظنون أنه لا يراهم؛ لكونه مستدبرًا لهم، وليس كذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام يرى من خلفه مثل ما يرى من بين يديه، ويستفاد من الحديث: أنه ينبغي للإمام إذا رأى أحدًا [2] مُقصِّرًا في شيء من أمور دينه أو ناقصًا للكمال منه؛ أن ينهاه عن فعله، ويحضَّه على ما فيه جزيل الحظ، ألا ترى أنه عليه السَّلام كيف وبَّخ من نقص كمال الركوع والسجود، ووعظهم في ذلك بأنَّه يراهم من وراء ظهره كما يراهم من بين يديه، وفي «تفسير سنيد» عن أنس، ولفظه: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا بوجهه، فقال: «أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري»، وفي لفظ: «أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وإذا سجدتم»، وفي لفظ: «إني لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وإذا ما سجدتم»، وعند مسلم: صلى بنا ذات يوم، فلما قضى صلاته؛ أقبل علينا بوجهه، فقال: «أيها الناس؛ إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف؛ فإني أراكم أمامي ومن خلفي»، ثم قال: «والذي نفس محمد بيده؛ لو رأيتم ما رأيت؛ لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا»، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنة والنار») انتهى.
قلت: أشار عليه السَّلام بهذا إلى أن السبق في الأركان غير جائز، وقد ورد: أن الذي يرفع رأسه في الركوع قبل إمامه؛ أنه يُحوِّل رأسه رأس حمار يوم القيامة، فإن من سبق إمامه في ركن، ولم يشاركه إمامه فيه؛ فقد بطلت صلاته، وإن شاركه فيه؛ صحت وكان مسيئًا، ولا ريب أنه عليه السَّلام رأى في النار من يُعذَّب بهذا الفعل حتى أخبر عنه ونهى وزجر، وقال: «رأيت الجنة والنار»؛ إشارةً إلى هذا، فإنَّه في أمته رؤوف رحيم صلَّى الله عليه وسلَّم.
==========
[1] في الأصل: (خرءة).
[2] في الأصل: (أحد)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (خرءة).
[1] في الأصل: (خرءة).
(1/699)
[حديث: إني لأراكم من ورائي كما أراكم]
419# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى بن صالح): هو الوُحاظي _بضمِّ الواو، وتخفيف المهملة، ثم المعجمة_ الحمصي، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين، عن نيف وسبعين، (قال: حدثنا فُلَيْح)؛ بضمِّ الفاء، وفتح اللام، وسكون التحتية، آخره مهملة (بن سُليمان)؛ بضمِّ المهملة، (عن هِلال)؛ بكسر الهاء (بن علي) ويقال: (هلال بن أبي هلال بن علي)، ويقال: (ابن أسامة) الفِهري المديني، المتوفى آخر خلافة هشام بن عبد الملك، (عن أنس بن مالك): هو الأنصاري، خادم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (قال: صلى لنا)؛ أي: لأجلنا، وفي رواية كريمة: (صلى بنا)؛ بالموحدة؛ يعني: إمامًا (النبيُّ) الأعظم، ولأبي ذر: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة)؛ بالتنكير للإبهام، كذا قال الشَّارح، وتبعه الشراح.
قلت: والظاهر أنها صلاة الجمعة، يدل عليه قوله: (ثم رَقِيَ)؛ بفتح الراء، وكسر القاف، وفتح التحتية، ويجوز فتح القاف على لغة طيِّئ؛ ومعناه: صعد (المِنْبَر)؛ بكسر الميم، وسكون النون، وتخفيف الموحدة المفتوحة، ويجوز كسرها، فإنَّه لا يخطب إلا بعد صلاة الجمعة، فيتعين أنها هي، لا يقال: إن الخطبة تكون بعد صلاة الكسوف والاستسقاء؛ لأنَّا نقول: قوله: (صلاة) يدل على أنها كانت ذات ركوع وسجود من الفرائض؛ لأنَّها مطلقة، وهاتين [1] الصلاتين لا يذكر إحداهما [2] إلا بقيدها؛ فافهم.
(فقال في الصلاة): فيه حذف؛ تقديره: فقال في شأن الصلاة وفي أمرها، أو يكون متعلقها محذوفًا؛ تقديره: أراكم في الصلاة، كذا قرره في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أنه متعلق بقوله بعد: «لأراكم»، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا غلط؛ لأنَّ ما في حيز «أن» لا يتقدم عليها) انتهى.
(وفي الركوع)؛ أي: وفي شأنه، وإنما أفرده بالذكر، وإن كان داخلًا [3] في الصلاة؛ للاهتمام بشأنه؛ إمَّا لأنَّه أعظم أركانها؛ بدليل أنَّ المسبوق لو أدرك الركوع؛ فقد أدرك تلك الركعة بتمامها، وإمَّا لأنَّه عليه السَّلام علم أنَّهم قصَّروا في حال الركوع؛ فذكره؛ لزيادة التنبيه، انتهى.
إلى أن قال عليه السَّلام: (أَني) بفتح الهمزة (لأراكم) اللام فيه للتأكيد (من ورائي): وفي رواية: (من وراء)؛ بحذف التحتية منه، والاكتفاء بالكسرة عنها، وزعم الكرماني أن لفظ الحديث السابق يقتضي عموم الرؤية من الوراء لجميع الأحوال، وسياق اللفظ يقتضي خصوصها بحال الصلاة، قال إمام الشَّارحين: (حُكي عن مجاهد: أنَّه كان في جميع أحواله) انتهى.
قلت: وعليه فتكون الرؤية من الوراء عامة في جميع أحواله، كما هو مقتضى لفظ الحديث السابق، لا يقال: المطلق محمول على المقيد؛ لأنَّا نقول: ليس هذا منه؛ لأنَّ هذا خاص به عليه السَّلام، والخصوصية تدل على العموم،
%ص 559%
ويحتمل تعدد القصة؛ فافهم.
(كما أراكم)؛ أي: من أمامي، وصرح به في رواية أخرى، كما سيأتي، وفي رواية مسلم: (إني لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي)، وعن تقي بن خالد: أنه عليه السَّلام كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء، والكاف في (كما أراكم)؛ للتشبيه، فالمشبه به: الرؤية المقيدة بالقُدام، والمشبه: المقيدة بالوراء، قاله إمام الشَّارحين، وبقية الكلام سبق في الحديث السابق.
==========
[1] في الأصل: (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أحدهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (دخلًا)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أحدهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أحدهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/700)
(41) [باب هل يقال: مسجد بنى فلان؟]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (هل يقال: مسجد بني فلان؟)؛ يعني: هل يجوز أن يضاف مسجد من المساجد إلى قبيلة، أو إلى أحد مثل بانيه أو الملازم للصلاة فيه، فيقال: مسجد بني أمية، أو مسجد سنان باشا؟
نعم؛ يجوز، والدليل عليه حديث الباب المروي عن ابن عمر الآتي ذكره، وإنما ترجم المؤلف الباب بلفظة (هل) التي للاستفهام؛ إشارةً إلى أنَّ في هذا خلاف إبراهيم النخعي، فإنَّه كان يكره أن يقال: مسجد بني فلان؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، ذكره عنه ابن أبي شيبة، وحديث الباب يرد عليه، والجواب عن تمسكه بالآية: أن الإضافة فيها إلى الله تعالى حقيقة، وإضافتها إلى غيره إضافة تمييز وتعريف على سبيل المجاز لا للملك، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: وقد يقال: إن إبراهيم النخعي لا يمنع الجواز، بل كان يكره ذلك، وبين الكراهة وعدم الجواز فرق بيِّن [1]، فالأولى عدم الاعتداد بخلافه؛ لأنَّ الكراهة لا تفيد عدم الجواز، وعادة المؤلف إطلاق ترجمته، وعدم القطع بالحكم؛ فلهذا أتى بالاستفهام، وقد يقال: إن عادة المتقدمين التعبير بالكراهة، ومُرادهم عدم الجواز، وعليه فيكون مراده بالكراهة عدم الجواز؛ فافهم.
قال إمامنا الشَّارح: (ووجه ذكر هذا الباب ههنا، ووجه المناسبة بينه وبين الأبواب المتقدمة: أن المذكور في الأبواب السابقة أحكام تتعلق بالمساجد، والمذكور في هذا الباب أيضًا حكم من أحكامها، وهذا القدر كاف) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (فرقًا بينًا)، وليس بصحيح.
%ص 560%
==================
(1/701)
[حديث: أن رسول الله سَابَق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء]
420# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي الكلاعي الدمشقي الأصل (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن نافع): هو مولى ابن عمر، (عن عبد الله بن عمر): هو ابن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سابق) من المسابقة؛ وهي السبق الذي يشترك فيه الاثنان، وباب المفاعلة يقتضي ذلك (بين الخيل) على حُلَل أتته من اليمن، فأعطى السابق: ثلاث حلل، وأعطى المُصلِّي: حُلتين، والثالث: حلة، والرابع: دينارًا، والخامس: درهمًا، والسادس: فضة، وقال: «بارك الله فيك وفي كلكم [1]، وفي السابق، والفِسْكِل»، وهو بكسر الفاء والكاف، وسكون المهملة، آخره لام؛ الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل، قاله ابن التين (التي أُضمرت)؛ بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول، من الإضمار، يقال: ضمر الفرس _بالفتح_ وأضمرته أنا، والضُّمْر _بضمِّ الضاد المعجمة، وسكون الميم_: الهزال، وكذلك الضمور، وتضمير الفرس: أن يعلف حتى يسمن، ثم يرده إلى القوت، وذلك في أربعين يومًا.
وفي «النهاية»: (وتضمير الفرس: هو أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن، ثم لا تعلف إلا قوتًا؛ لتنحف، وقيل: تشد عليها سروجها، وتجلل بالأجلة حتى تعرق تحتها، فيذهب رهلها، ويشتد لحمها، ورَهَلَها _بفتح الراء والهاء واللام_ من رهِل لحمه؛ بالكسر: اضطرب واسترخى، قاله الجوهري، والمضمر: الذي يضمر خيله لغزو أو سباق، والمضمار: الموضع الذي يضمر فيه الخيل، ويكون وقتًا للأيام التي تضمر فيها)، قاله إمام الشَّارحين.
(من الحَفْياء)؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الفاء، وبالتحتية، والألف ممدودة، قال السفاقسي: (وربما قرئ بضمِّ الحاء مع القصر، وقدم بعضهم الياء على الفاء؛ وهو اسم موضع بقرب المدينة، والخيل التي أضمرت هي التي كانت المسابقة [2] بينها، وكان فرس النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بينها يسمى: السَّكْبَ_بتشديد السين المهملة، وسكون الكاف، وفتح الباء الموحدة_ وكان أغر محجلًا، طلق اليمين، له مسحة، وهو أول فرس مَلَكه، وأول فرس غزا عليه، واشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي: الضرس، فسماه عليه السَّلام السَّكْب، وسابق عليه فسبق، وفرح به، وهو أول فرس سابق عليه فسبق، وفرح المسلمون به)، قاله إمام الشَّارحين.
(وأَمَدها) بفتح الهمزة والميم؛ أي: غايتها (ثنية الوَداع)؛ بفتح الواو، عند المدينة، وبينها وبين الحفياء خمسة أميال أو ستة أو سبعة، وسميت بذلك؛ لأنَّ الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها، والثنية لغة: الطريقة إلى العقيقة، واللام فيه للعهد، كذا في «عمدة القاري».
(وسابق) عليه السَّلام أيضًا (بين الخيل التي لم تُضَمَّر)؛ بضمِّ المثناة الفوقية، وفتح الضاد المعجمة، وتشديد الميم المفتوحة، هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية: بضمِّ المثناة، وسكون الضاد، وتخفيف الميم؛ يعني: لم تجلل عليها؛ ليكثر عرقها، ويقوى لحمها، بل كانت كعادتها، وليس المراد منه: أنها مهزولة، بل هي متوسطة في السمن؛ فافهم.
(من الثنية)؛ بالمثلثة، والنون، والتحتية؛ هي الموضع المذكور آنفًا (إلى مسجد بني زُرَيْق)؛ بضمِّ الزاي المعجمة، وفتح الراء، وسكون التحتية، آخره قاف، وبنو زريق بن عامر بن حارثة بن غضب بن جشم بن الخزرج، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وإضافة المسجد إليهم إضافة تمييز وتعريف؛ حيث إنَّهم بنوه لا للملك، كما تقدم، وهذا موضع المطابقة للترجمة.
وقال صاحب «التوضيح»: (بنو زريق بطن من الخوارج)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (تفسيره بهذا ههنا غلط، والصحيح هو الذي ذكرناه) انتهى.
قلت: والظاهر أن قوله: (من الخوارج) تحريف من الناسخ، فزاد الألف، وأبدل الراء واوًا، فإنَّه قريب التصحيف؛ فافهم.
وقوله: (وأن) بفتح الهمزة (عبد الله بن عمر) هو ابن الخطاب (كان فيمن سابق بها)؛ أي: بالخيل أو بهذه المسابقة، كذا
%ص 560%
قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: والظاهر أن يقال بها؛ أي: بالخيل التي لم تضمر؛ لأنَّها أقرب مذكور؛ فافهم، يجوز أن يكون مقول ابن عمر بطريق الحكاية عن نفسه باسمه على لفظ الغيبة، كما تقول عن نفسك: العبد فعل كذا، ويجوز أن يكون مقول نافع، انتهى.
قلت: والظاهر الثاني، فإن المسابقة على الخيل التي لم تضمر يدل على قوة راكبها وشجاعته، ولهذا كان عليه السَّلام يسابق على الخيل التي لم تضمر وعلى التي أضمرت، وإن المسابقة على التي أضمرت يدل على قوة نفس الخيل وشدتها، فالمسابقة على التي لم تضمر أبلغ وأشد في القوة والشجاعة، فإن الدابة قوية بقوة راكبها؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: دليل على جواز المسابقة بين الخيول، وجواز تضميرها وتمرينها على الجري، وإعدائها لذلك؛ لينتفع بها عند الحاجة في القتال كرًّا وفرًّا، وهذا بالإجماع، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ... }؛ الآية [الأنفال: 60]، وكان الجاهلية يفعلونها، فأقرها الإسلام، ولا يختص جوازها بالخيل خلافًا لقوم، والحديث محمول على ما إذا كان بغير رهان، والفقهاء شرطوا فيها شروطًا، منها: جواز الرهان من جانب واحد، وأمَّا من الجانبين؛ فقمار إلا بمحلل، وقد علم في موضعه، وليس في الحديث دلالة على جواز ذلك، ولا على منعه، وفيه: تجويع البهائم على وجه الصلاح، وليس من باب التعذيب، وفيه: بيان الغاية مقدار أمدها، وفيه: جواز إضافة المسجد إلى بانيه أو إلى مصلٍّ فيه، كما ذكرناه، وكذلك يجوز إضافة أعمال البر إلى أربابها، ونسبتها إليهم، وليس في ذلك تزكية لهم) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (كلمكم).
[2] تكرر في الأصل: (المسابقة).
==================
[1] في الأصل: (كلمكم).
[1] في الأصل: (كلمكم).
(1/702)
(42) [باب القسمة وتعليق القنو في المسجد]
هذا (باب) حكم (القِسمة)؛ بكسر القاف؛ أي: للشيء (وتعليق القِنْو)؛ بكسر القاف، وسكون النون، بالجر؛ عطفًا على (القسمة) (في المسجد)؛ الألف واللام فيه للجنس، فيشمل كل مسجد، والجار والمجرور متعلق بـ (القسمة)، وزعم القسطلاني أنه يتعلق بكل من (القسمة) و (تعليق).
قلت: والأول هو الأظهر، وهو الذي اختاره إمام الشَّارحين؛ لأنَّه موافق للمعنى بخلاف ما زعمه؛ فافهم.
والقسمة في المسجد جائزة؛ لأنَّه عليه السَّلام قد فعلها، كما في حديث الباب، والمناسبة بين هذه الأبواب ظاهرة؛ لأنَّها في أحكام تتعلق بالمساجد؛ فافهم.
(قال أبو عبد الله) هو المؤلف نفسه: (القِنْو) بكسر القاف، وسكون النون: (العِذْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الذال المعجمة: هو كالعنقود للعنب، والعَذق _بفتح العين المهملة_: النخلة، وقال ابن سيده: (القنو والقنا: الكِباسة بشماريخه وبسره، والقنا _بالفتح_ لغة فيه، والجمع في كل ذلك: أقناء، وقنوان، وقنيان)، وفي «الجامع»: (في القنوان لغتان: كسر القاف وضمها، وكل العرب تقول: قِنو وقُنو في الواحد) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فتفسير المؤلف فيه نظر.
(والاثنان قِنوان): على وزن (فِعلان)؛ بكسر الفاء والنون، (والجماعة أيضًا)؛ مصدر: آض؛ بمعنى: رجع (قنوان)؛ بالرفع والتنوين، على وزن (فعلان) أيضًا، ويفرق بين التثنية والجمع بسقوط النون في التثنية عند الإضافة، وبثبوتها في الجمع، وبكسرها في التثنية، وإعرابها في الجمع؛ (مثل: صنو وصنوان)؛ يعني: في الحركات والسكنات، وفي التثنية والجمع، والصاد المهملة فيها مكسورة، والصنو: هو النخلتان أو ثلاث، يخرج من أصل واحد، وكل واحدة منهن: صنو، والاثنان: صنِوان؛ بكسر النون، والجمع: صنوان بإعرابها، والمؤلف لم يذكر جمعه؛ لظهوره من الأول، وهذا التفسير من قوله: (قال أبو عبد الله) إلى ههنا ثابت عند أبي ذر، وابن عساكر، وأبي الوقت، ساقط عند غيرهم؛ فافهم.
==========
%ص 561%
==================
(1/703)
[حديث: أُتي النبي بمال من البحرين فقال: انثروه في المسجد]
421# (وقال إبراهيم؛ يعني: ابن طَهْمان)؛ بفتح الطاء المهملة، وسكون الهاء؛ هو ابن شعبة أبو سعيد الخراساني، المتوفى بمكة سنة ثلاث وستين ومئة، وسقط اسم أبيه في رواية الأربعة، وإثباته هو الأصح، كما قاله إمام الشَّارحين؛ ليزول الاشتباه، قال الحافظ المزي: (هكذا هو في «البخاري» غير منسوب، وذكره أبو مسعود الدمشقي وخلف الواسطي في ترجمة: عبد العزيز بن صهيب عن أنس، وكذلك رواه عمر بن محمد بن بُجَير؛ بضمِّ الموحدة، وفتح الجيم، ونسبه عمر إلى جده البجري في «صحيحه» من رواية: إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، وقيل: إنه عبد العزيز بن رفيع، وقد روى أبو عوانة في «صحيحه» حديثًا من رواية: إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أنس: «تسحروا، فإنَّ في السحور بركة»، وروى أبو داود والنسائي حديثًا من رواية: إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبيد بن عمير، عن عائشة حديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث ... »؛ الحديث، فيحتمل أن يكون هذا، ويحتمل أن يكون هذا، والله أعلم أيهما هو) انتهى.
وقد اعترضه ابن حجر، فزعم أن قول المزي: (وقيل: إنه عبد العزيز بن رفيع) ليس بشيء.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (قوله: «ليس بشيء» يرجع إلى صاحب هذا القيل؛ لأنَّ المزي قال بالاحتمال، كما ذكرنا) انتهى.
قلت: بل مراد ابن حجر الغمز على المزي بذكره هذا القيل، وغمزه مردود عليه، فإن الرواة الأربعة قد أسقطوا ذكر أبيه، فاختلف فيه، وإن كان الأصح أنه ابن طهمان، فلا اعتراض على المزي في ذكره؛ لوجود الاشتباه، على أنه لم يجزم، بل قال بالاحتمال، وظاهر كلامه: اعتماد أنه ابن طهمان؛ لأنَّه قد قواه بالنقول، وذكره معتمدًا عليه، ثم ذكر القول الثاني بصيغة التمريض، وهو يدل على ضعفه، كما لا يخفى، وقال الإسماعيلي: (ذكره البخاري عن إبراهيم، وهو ابن طهمان فيما أحسب بغير إسناد؛ يعني: تعليقًا).
قال إمام الشَّارحين: ثم إنَّ هذا المعلق وصله أبو نعيم الحافظ: حدثنا محمد بن إبراهيم بن علي: حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد: حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد: حدثني أبي: حدثني إبراهيم بن إبراهيم، (عن عبد العزيز بن صُهَيب)؛ بضمِّ
%ص 561%
الصاد المهملة، وفتح الهاء: هو البصري الأعمى، (عن أنس): هو ابن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنَّه (قال: أُتي) بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول (النبيُّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وقوله: (بمال) متعلق بـ (أُتي)، وهو مُنَوَّن ومجهول، وقد تعين هذا المال فيما رواه ابن أبي شيبة من طريق حُميد مرسلًا: أنَّه كان مئة ألف، وأنَّه أرسل به العلاء بن الحضرمي (من) خراج (البحرين) قال: وهو أول خراج حُمِل إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد روى المؤلف في (المغازي) من حديث عمرو بن عوف: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صَالَحَ أهل البحرين، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه إليهم، فقَدِمَ أبو عبيدة بمال، فسمعت الأنصار بقُدُومه ... )؛ الحديث.
فإن قلت: ذكر الواقدي في (الرِّدة): (أنَّ رسول العلاء بن الحضرمي بالمال: هو العلاء بن جارية الثقفي).
قلت: يحتمل أنه كان رفيق أبي عبيدة، فاقتصر في رواية الواقدي عليه.
فإن قلت: في «صحيح البخاري» من حديث جابر: أنه عليه السَّلام قال له: «لو جاء بمال البحرين؛ أعطيتك»، وفيه: فلم يقدم مال البحرين حتى مات عليه السَّلام، فهذا يعارض حديث الباب.
قلت: لا معارضة في ذلك؛ لأنَّ المراد: أنه لم يقدم في السنة التي مات فيها النبيُّ الأعظم عليه السَّلام، فإنَّه كان في مال خراج أو جزية، فكان يقدم من سنة إلى سنة، وأما البحرين؛ فهو تثنية بحر في الأصل، وهي بلدة مشهورة بين البَصرة وعُمان، وهي هَجَر، وأهلها: عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن مَعَد بن عدنان، وقال القاضي عياض: (قيل: بينها وبين البصرة أربعة وثمانون فرسخًا)، وقال البكري: (لما صالح أهله رسول الله عليه السَّلام؛ أمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي)، وزعم أبو الفرج في «تاريخه» أنها وبية، وأن ساكنها معظمهم مطحولون، وأنشد:
من يسكن البحرين يَعظُم طحاله ... ويُغبَط بما في جوفه وهو ساغب
وزعم ابن سعد أنه عليه السَّلام لما انصرف من الجعرانة _يعني: بعد قسمة غنائم حنين_ أرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي، وهو بالبحرين يدعوه إلى الإسلام، فكتب إلى رسول الله عليه السَّلام بإسلامه وتصديقه، كذا في «عمدة القاري».
(فقال) عليه السَّلام: (انثروه)؛ بالنون ثم المثلثة؛ أي: صبوه (في المسجد) أي: النبوي المدني، فـ (أل) فيه للعهد (وكان) أي: المال المأتي من البحرين (أكثر مال أُتي) بضمِّ الهمزة على صيغة المجهول (به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع نائب فاعل، يحتمل من البحرين، ويحتمل من غيرها، لكن تقدم أن المال كان مئة ألف، وهو ليس بكثير، لكن كونه أتي من البحرين كثير حيث إنَّه الواجب عليهم وقتئذٍ، وبالنسبة لما قبل ذلك، (فخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: من حجرته (إلى الصلاة)؛ أي: لأدائها في مسجده، والظاهر أنها الظهر، (ولم يلتفت إليه)؛ أي: إلى المال الذي قدم من البحرين، (فلما قضى صلاته)؛ أي: فرغ من صلاته، واستقبال القبلة؛ قام من مكانه، ثم (جاء فجلس إليه)؛ أي: عند ذلك المال؛ لأجل قسمته بين الناس، (فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه) من ذلك المال؛ (إذ جاءه العبَّاس)؛ وهو عم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ابن عبد المطلب، وكلمة (إذ) ظرف في الغالب، والعامل فيه يجوز أن يكون قوله: (فجلس إليه)، ويجوز أن يكون قوله: (يرى)، قاله إمام الشَّارحين، وزعم في «المصابيح» أن المعنى: فبينما هو على ذلك؛ إذ جاءه العبَّاس، ذكره القسطلاني.
قلت: وعليه؛ فهي ظرف للمفاجأة، وفيه نظر؛ لأنَّ العبَّاس لم يفاجئ النبيَّ الأعظم عليه السَّلام، بل جاءه؛ ليرى هذه القسمة حيث إنَّه عليه السَّلام ما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، فمجيئه ليس على سبيل المفاجأة، بل على سبيل التعجب من كرمه عليه السَّلام، وعلى هذا؛ فهي ظرف ألبتة، وليس معناها المفاجأة؛ فافهم.
(فقال: يا رسول الله؛ أعطني) من هذا المال كما أعطيت الناس، (فإني فاديت نفسي)؛ يعني: يوم بدر حيث أُخِذَ أسيرًا، وفاديت: من المُفَادَاة، يقال: فَادَاه يفاديه: إذا أعطى فداءه وأنقذ نفسه، ويقال: فدى وأفدى وفادى، ففدى: إذا أعطى المال لخلاص نفسه، وأفدى: إذا أعطى المال لخلاص غيره، وفادى: إذا افتَّكَ الأسير بأسير مثله، كذا في «عمدة القاري».
(وفاديت عَقِيلًا)؛ بفتح العين المهملة، وكسر القاف، وهو ابن أبي طالب، وكان هو أيضًا أُسر يوم بدر مع عمه العبَّاس، (فقال له)؛ أي: للعبَّاس (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: خذ) أي: افتح ثوبك وخذ، (فحَثَا)؛ بفتح الحاء المهملة والثاء المثلثة، من الحثية؛ وهي ملء اليد، يقال: حثوت له: إذا أعطيته شيئًا يسيرًا، والضمير فيه يرجع إلى العبَّاس (في ثوبه)؛ أي: حثا العبَّاس في ثوب نفسه مرة بعد أخرى إلى أن ملأ ثوبه كما يظهر، (ثم ذهب) رضي الله عنه عن المجلس يسيرًا (يُقله)؛ بضمِّ التحتية، من الإقلال؛ وهو الرفع والحمل، (فلم يستطع)؛ أي: حمله لكثرته، (فقال) أي العبَّاس: (يا رسول الله؛ اؤمر بعضهم)؛ أي: بعض الحاضرين (يرفعه)؛ أي: المال الذي أخذته (إليَّ)؛ بفتح التحتية؛ أي: عليَّ؛ لأنَّي لم أستطع حمله؛ لكثرته، و (يرفعه)؛ بياء المضارعة، والضمير المستتر فيه يرجع إلى البعض، والبارز إلى المال الذي حثاه العبَّاس في ثوبه، وهو بالجزم على أنه جواب الأمر؛ أي: فإن تأمره يرفعه، وبالرفع على الاستئناف؛ والتقدير: هو يرفعه، وفي رواية أبي ذر: (بِرفْعه)؛ بالباء الموحدة المكسورة، وسكون الفاء، و (اؤْمر)؛ بهمزة مضمومة، وأخرى ساكنة، وتحذف الأولى عند الوصل، وتصير الثانية ساكنة، وهذا جار على الأصل، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: (مُر) على وزن (عل)، فحذفت منه فاء الفعل؛ لأنَّ أصله: أمر؛ لأنَّه من أمر يأمر؛ مهموز الفاء، فحذفت همزة الكلمة؛ لاجتماع الهمزتين في أول الكلمة المؤدي إلى الاستثقال، فبقي: امُرْ، فاستغني عن همزة الوصل؛ لتحرك ما بعدها، فحذفت، فصار: (مُر)، على وزن (عل)، قاله إمامنا الشَّارح.
(قال) عليه السَّلام لعمه: (لا) أي: لا آمر أحدًا يرفعه عليك، (قال: فارفعه أنت عليَّ، قال: لا) أرفعه، وإنما لم يأمر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أحدًا بإعانته في الرفع ولا أعانه بنفسه، يحتمل أنه فعل ذلك؛ زجرًا له عن الاستكثار من المال، وألا يأخذ منه إلا قدر حاجته، ويحتمل أنه فعل
%ص 562%
ذلك؛ لينبهه على أن أحدًا لا يحمل عن أحد شيئًا، وفي المَثَل: كل عنزة معلقة من عرقوبها.
(فنَثَر)؛ بفتح النون، والثاء [1] المثلثة؛ أي: صب العبَّاس (منه) أي: من المال الذي أخذه، (ثم ذهب يُقله)؛ بضمِّ التحتية، من الإقلال؛ وهو الرفع والحمل؛ (يعني: فلم يستطع) حمله؛ لثقله، (فقال) العبَّاس: (يا رسول الله؛ اؤمر)؛ بضمِّ الهمزة الأولى، وسكون الثانية، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: (مر) على وزن (عل)، كما سبق (بعضهم) أي: بعض الحاضرين (يرفعه)؛ بياء المضارعة، والرفع على الاستئناف، والجزم؛ جوابًا للأمر، (قال: لا) آمر بذلك، (قال: فارفعه أنت عليَّ) بفتح التحتية، (قال: لا) أرفعه عليك، (فنثر) أي: صب العبَّاس (منه)؛ أي: من المال، (ثم احتمله) أي: رفعه بنفسه (فألقاه على كاهله)؛ هو ما بين كتفيه؛ لأنَّه حينئذٍ خَفَّوأمكن رفعه وحمله، (ثم انطلق)؛ أي: العبَّاس يمشي فيه، (فما زال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُتْبِعه)؛ بضمِّ التحتية، وسكون الفوقية، وكسر الموحدة، من الإتباع؛ أي: لم يزل عليه السَّلام يتبع العبَّاس (بصره حتى خفي علينا)؛ يعني: لم نره (عجبًا من حرصه)؛ يعني: تعجب من حرصه على المال، وانتصاب (عجبًا) على أنه مفعول مطلق من قبيل ما يجب حذف عامله، ويجوز أن يكون منصوبًا على أنه مفعول له، (فما قام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: من ذلك المجلس، (وثَم) بفتح المثلثة؛ أي: هنالك (منها) أي: من الدراهم الآتية من البحرين (درهم)؛ بالرفع: مبتدأ، وخبره قوله: (منها) مقدمًا، والجملة وقعت حالًا، والمقصود منه: إثبات القيام عند انتفاء الدرهم؛ إذ الحال قيدللمنفي [2] لا للنفي، والمجموع مُنْتَفٍ بانتفاء القيد؛ لانتفاء المقيد وإن كان ظاهره نفي القيام حال ثبوت الدرهم، قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
وذكره البرماوي بعينه، ونسبه لنفسه، فخفي على القسطلاني، فزعم أنَّ بين الكلامين تغايرًا [3]، وليس كذلك، بل أصل العبارةلإمام الشَّارحين؛ فافهم.
قال إمامنا الشَّارح: (فإن قلت: الترجمة مشتملة على شيئين؛ أحدهما: القسمة في المسجد، والآخر: تعليق القنو فيه، وليس في حديث الباب إلا ما يطابق الجزء الأول، قلت: ذكر أبو محمد بن قتيبة في «غريب الحديث» تأليفه في هذا الحديث: أنَّه لما خرج رأى أقناءً معلقة في المسجد، وكان أمر بهنَّ، كل حائط بقنو يعلق في المسجد؛ ليأكل منه من لا شيء له، وقال ثابت في كتاب «الدلائل»: «وكان عليها معاذ بن جبل في عهده عليه السَّلام») انتهى.
ومن عادة المؤلف الإحالة على أصل الحديث وما أشبهه، والمناسبة ما بينهما: أنَّ كلَّ واحد منهما وضع في المسجد لا للادخار، وعدم التفاته عليه السَّلام إليه؛ استقلالًا للدنيا وما فيها، فسقط بما ذكرنا قول ابن بطال في عدم ذكر المؤلف حديثًا في تعليق القنو: أنَّه أغفله، وكذلك سقط كلام ابن التين: أُنْسيَه، انتهى.
وزعم ابن الملقن أنَّ المؤلف أخذ تعليق القنو من جواز وضع المال في المسجد بجامع أنَّ كلًّا منهما وضع؛ لأخذ المحتاجين منه، وأشار بذلك إلى حديث عوف بن مالك الأشجعي عند النسائي بإسناد قوي: أنَّه عليه السَّلام خرج وبيده عصًا، وقد علَّق رجل قنو حشف، فجعل يطعن في ذلك القنو، ويقول: «لو شاء ربُّ هذه الصدقة؛ لتصدق بأطيب من هذا»، وليس على شرطه، انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه لما كان الحديث ليس على شرطه؛ لا يجوز له أخذ الحكم منه، ووضعه ترجمة ويحيل عليه؛ لأنَّه عنده ليس بقوي، فكيف يعتمد الحكم، وليس يعتمد دليله؟ على أنَّ ما في النسائي حديث مستقل ليس أصلًا لحديث الباب، وقياسه على وضع المال في المسجد قياس مع الفارق؛ لأنَّ القنو المعلق يفيد أنَّه علَّقه صاحبه؛ لأجل أن يصلِّي، ثم يرجع يأخذه، ولهذا قال عليه السَّلام لمَّا رآه: «لو شاء رب هذه الصدقة ... » إلى آخره، فأفاد أنَّه لم يعلق للصدقة، بل للحفظ، فالأظهر ما قاله إمام الشَّارحين؛ لأنَّه إشارة إلى أصل الحديث؛ فليحفظ.
وفي الحديث أحكام منها: أنَّ القسمة مفوضة إلى الإمام أو نائبه على قدر اجتهاده.
ومنها: أنَّ السلطان إذا علم حاجة لأحد إلى المال؛ لا يحل له أن يدخر منه شيئًا، وسلاطين زماننا عن هذا غافلون.
ومنها: أنَّ فيه كرم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وزهده في الدنيا حيث لم يلتفت إلى المال، ولم يبق عنده منه شيء، وأنَّه لم يمنع شيئًا سُئِلَه إذا كان عنده.
ومنها: أنَّ للسُّلطان أن يرتفع عما يدعى إليه من المهنة والعمل بيده، وله أن يمتنع من تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسلطان في ذلك حاجة.
ومنها: أنَّ فيه وضع ما الناس مشتركون فيه من صدقة وغيرها في المسجد؛ لأنَّ المسجد لا يحجب أحدًا من ذوي الحاجة من دخوله، والناس فيه سواء.
ومنها: أنَّ الأقناء في المسجد وما يشبهه لا بأس به.
ومنها: أنَّ الماء الذي أعدَّ للسَّقي في المسجد يشرب منه ويتوضأ؛ لأنَّه إنَّما جعل؛ لدفع العطش، ولم يردَّ به أهل المسكنة، فلا يترك شربه، وعليه تعامل الناس في الأمصار.
وقال ابن بطال: (وفي الحديث: أنَّ العطاء لأحد الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في كتابه دون غيرهم؛ لأنَّه أعطى العبَّاس لمَّا شكا إليه من الغرم، ولم يسوِّه في القسمة مع الثمانية، فلو قسَّم ذلك على التساوي؛ لما أعطى العبَّاس بغير مكيال ولا ميزان).
واعترضه الكرماني فقال: (لا يصح هذا الكلام؛ لأنَّ الثمانية هي مصارف الزكوات، والزكاة حرام على العبَّاس، بل كان هذا المال إمَّا فيئًا أو غنيمةً).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (لم يكن هذا المال فيئًا، وإنَّما كان خراجًا؛ لما رواه ابن أبي شيبة من طريق حميد مرسلًا، وفيه: «وهو أول خراج حمل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ... »؛ الحديث، ولو وقف الكرماني على هذا؛ لما قال هذا الكلام) انتهى.
قلت: وما ذكره ابن بطال من جعله المال من الزكاة، فقد تبعه عليه صاحب «التلويح» حيث قال: (وفي الحديث: دلالة للإمام الأعظم ومن تبعه أنَّه يجوز الاقتصار على بعض الأصناف الثمانية المذكورين في الآية؛ لأنَّه أعطى العبَّاس لمَّا شكا إليه الغرم بغير وزن، ولم يسوِّه في القسمة بين الثمانية، ولم ينقل أنَّه أعطى أحدًا مثله).
واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (وكلام ابن بطال وهم، وكلام
%ص 563%
صاحب «التلويح» صادر من غير تأمُّل؛ لأنَّه ليس للأصناف الثمانية دخل في هذا، ولا المال كان من مال الزكاة) انتهى.
قلت: يعني: أنَّ المال كان خراجًا، ولا حاجة للاستدلال للإمام الأعظم بهذا الحديث المحتمل، فإنَّ له أدلَّة كالجبال الراسخات، ذكرت في أبواب (الزكاة)، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الثاء)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (للنفي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (تغاير)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الثاء)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (للنفي)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الثاء)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (للنفي)، وليس بصحيح.
(1/704)
(43) [باب من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب فيه]
هذا (باب) بيان حكم (من دُعِي) بضمِّ الدال وكسر العين المهملتين، وفي رواية كريمة: (دَعَا) بفتح الدال والعين المهملتين (لطعام) وقوله: (في المسجد) متعلِّق بـ (دُعي) لا (لطعام)، وعُدِّيَ (دُعي) هنا باللام؛ لإرادة الاختصاص، فإذا أريد الانتهاء؛ عدِّيَ بـ (إلى)؛ نحو قوله تعالى: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25]، أو معنى: الطلب عدِّي بـ (الباء)؛ نحو قوله: دعا هرقل بكتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فتختلف صلة الفعل بحسب اختلاف المعاني المرادة، أفاده إمام الشَّارحين.
قلت: والألف واللام في (المسجد) للجنس، فيشمل كلَّ مسجد، ولا بأس في ذلك، كما يفعل في ديارنا في المواسم من دعاء القاطنين والجالسين في المسجد الشريف الأموي جعله الله معمورًا محفوظًا إلى ما بعد نزول عيسى ابن مريم من منارته الشرقية عليه السَّلام إلى دور أهل الخير والصلاح لأنواع الأطعمة الفاخرة، (ومن أجاب منه) كذا في رواية الأكثرين، وللكشميهني: (إليه)، ولغيره: (فيه)، والفرق بين هذه الروايات أنَّ كلمة (من) في رواية: (منه) للابتداء، والضمير فيه يعود على المسجد، وفي رواية: (إلى) يعود الضمير إلى (الطعام)، وفي رواية: (فيه) يعود الضمير إلى (المسجد)، وقصد المؤلف من هذا التبويب الإشارة إلى أنَّ هذا من الأمور المباحة، وليس من اللغو الذي يمنع في المساجد، والمناسبة بين البابين ظاهرة من حيث إنَّ كلًّا منهما حكم من أحكام المساجد، فإنَّ من باب: (حك البزاق باليد في المسجد) إلى قوله: باب: «سترة الإمام» خمسة وخمسون بابًا؛ كلُّها فيما يتعلق بأحكام المساجد، فلا يحتاج إلى ذكر المناسبة بينها على الخصوص؛ فافهم.
==========
%ص 564%
==================
(1/705)
[حديث: وجدت النبي في المسجد معه ناس]
422# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي، الدمشقي الأصل، الكلاعي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس، المدني، الأصبحي، (عن إسحاق بن عبد الله) زاد في رواية أبوي ذر والوقت، والأصيلي: (ابن أبي طلحة) كما في «الفرع»، وهو ابن أخي أنس من جهة الأم: (سمع) وللأصيلي: (أنه سمع) (أنسًا) وفي رواية: (أنس بن مالك هو الأنصاري)، (وجدت) يعني: يقول: وجدت؛ أي: أصبت، ولهذا اكتفى بمفعول واحد، ولابن عساكر: (قال: وجدت) (النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وقوله: (في المسجد)؛ أي: المدني النبوي، فـ (أل) للعهد حال من (النبيِّ) وقوله: (معه ناس) جملة اسمية وقعت حالًا، ولأبي الوقت: (بالواو) (فقمت) من المجلس، (فقال لي) عليه السَّلام: (أأرسلك) بهمزتين، وفي بعض الأصول: (أرسلك) بغير همزة الاستفهام (أبو طلحة؟) هو زيد بن سهل الأنصاري، أحد النقباء ليلة العقبة، شهد المشاهد كلها، وهو زوج أم أنس المتوفى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين على الأصح، كذا في «عمدة القاري»، وزعم ابن الملقن (أن «آرسلك» _بالمد_ وهو علم من أعلام نبوته؛ لأنَّ أبا طلحة أرسله بغتة).
ورده صاحب «المصابيح»: (بأنَّه لا يظهر هذا مع وجود الاستفهام؛ إذ ليس فيه إخبار ألبتة) انتهى.
قلت: بل الذي يظهر أنَّه عليه السَّلام كان عنده عِلم من أبي طلحة، وسؤال أنس استفهام بأنَّه عنده عِلم.
(قلت) وللأصيلي وابن عساكر: (فقلت)؛ بالفاء: (نعم) أي: أرسلني، (فقال) عليه السَّلام، ولأبي ذر: (قال) (لطعامٍ؟)؛ بالتنكير، وفي رواية: (للطعام) (قلت: نعم) أي: لطعام، (فقال) ولأبي ذر والأصيلي: (قال) (لمن حوله) بالنصب على الظرفية؛ أي: لمن كان حوله، وفي رواية: (لمن كان معه) (قوموا) أمر بالقيام من مجلسه للذهاب معه، (فانطلق)؛ أي: إلى بيت أبي طلحة، وفي بعض الأصول: (فانطلقوا)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ومن معه، (وانطلقت) أي: قال أنس: وانطلقت (بين أيديهم)؛ يعني: معهم.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للترجمة كلها ظاهرة، أما الشق الأول؛ فلأنا قد ذكرنا أنَّ «في المسجد» يتعلق بقوله: «دعي» لا بقوله: «لطعام»، فحصل الدعاء إلى الطعام في المسجد، وأما الشق الثاني؛ فهو إجابة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله لمن حوله: «قوموا»، فبهذا التقرير يندفع اعتراض من يقول: إن المطابقة للترجمة في الشق الثاني فقط؛ فافهم) انتهى.
وفي الحديث أحكام منها: جواز الحِجابة، وهو أن يتقدم بعض الخدام بين يدي الإمام ونحوه.
ومنها: جواز الدعاء إلى الطعام وإن لم يكن وليمة.
ومنها: أنَّ الدعاء إلى ذلك من المسجد وغيره سواء؛ لأنَّ ذلك من أعمال البر، وليس ثواب الجلوس في المسجد بأقل من ثواب الإطعام.
ومنها: دعاء السلطان إلى الطعام القليل.
ومنها: أن الرجل الكبير إذا دُعي إلى طعام، وعَلِمَ أن صاحبه لا يكره أن يَجلِبَ معه غيره، وأنَّ الطعام يكفيهم؛ أنه لا بأس بأنَّ يحمل معه من حضره، وإنَّما حملهم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى دار أبي طلحة _وهو قليل_؛ لعلمه أنَّه يكفيهم جميعهم؛ لبركته، وما خصَّه الله به من الكرامة والفضيلة، وهو من علامات النبوة، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وبهذا علم أنَّ تكثير القليل من الكرامات، وأنَّ تقليل الكثير ليس من الكرامات، بل من البدع المنكرات؛ فافهم.
==========
%ص 564%
==================
(1/706)
(44) [باب القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء]
هذا (باب) حكم (القضاء) وهو الحكم على الخصمين (و) حكم (اللِّعان) بكسر اللام (في المسجد)؛ (أل) فيه؛ للجنس، وقوله: (بين الرجال والنساء) حشو؛ لأنَّه لا يكون إلا بينهما، ولهذا لم يثبت في رواية المستملي، وهو أحفظ الرواة، وثبت في رواية غيره؛ لبيان الواقع؛ فافهم.
وعطف اللعان على القضاء من عطف الخاصِّ على العامِّ؛ لأنَّ القضاء أعم من أن يكون في اللعان وغيره، واللعان مصدر: لاعن، من اللعن؛ وهو الطرد والإبعاد، وسمي به؛ لما فيه من لعن
%ص 564%
نفسه في الخامسة، وهي من تسمية الكل باسم البعض؛ كالصلاة تسمى ركوعًا وسجودًا، واللعان عند الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: شهادات مؤكدات بالأيمان، مقرونة باللعن، قائمة مقام القذف في حقه، ومقام حد الزنى في حقها، وعند مالك والشافعي وأحمد: هو أيمان مؤكدات بلفظ الشهادة بشرط أهليَّة اليمين، وصفة اللعان: ما نطق به نص القرآن في سورة النور، وهو أن يبدأ القاضي بالزوج، فيشهد أربع شهادات، يقول في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى، يشير إليها في كل مرة، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى، ثم تشهد المرأة أربع شهادات، تقول في كل مرة: أشهد بالله إنه لَمِنَ الكاذبين فيما رماني به من الزنى، وتقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنى، كما بسط في محله.
==================
(1/707)
[حديث: أن رجلًا قال: يا رسول الله أرأيت رجلًا وَجَد مع امرأته رجلًا]
423# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى) زاد الكشميهني في روايته: (ابن موسى)؛ هو المعروف بالخَتِّ _بفتح الخاء المعجمة وتشديد المثناة الفوقية_ البلخي، كذا جَزَم به ابن السكن وغيره، وقيل: هو يحيى بن جعفر البيكندي، وقال الكرماني: (يحتمل أنَّه يحيى بن معين؛ لأنَّه سمع من عبد الرزاق).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (الأصح ما قاله ابن السكن) انتهى.
قلت: فاحتمال أنَّه ابن جعفر أو ابن معين ليس بشيء، بل هو ابن موسى، كما جزم به ابن السكن وغيره، ونصَّ إمام الشَّارحين: (أنَّه الأصح، ويدل عليه: أنَّه ثبت في رواية الكشميهني: «ابن موسى»، وبهذا تعين أنَّه ابن موسى، وتعليل الكرماني بأنَّه سمع من عبد الرزاق لا يدلُّ على أنَّه ابن معين؛ لأنَّ سماعه لا ينفي سماع غيره منه أيضًا، فقد يكون راوٍ سمع من أكثر من عشرة أو أكثر، فهذا لا يدل على ما قاله)؛ فافهم.
(قال: أخبرنا) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: (حدثنا) (عبد الرزاق)؛ هو ابن همام _على وزن (فعَّال) _ الصنعاني، صاحب «المصنف» (قال: أخبرنا ابن جُرَيْج)؛ بضمِّ الجيم، وفتح الراء، وسكون التحتية، هو عبد الملك ابن جريج المكي (قال: أخبرني)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (أخبرنا) (ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المدني، (عن سهل بن سعْد)؛ بسكون العين المهملة، هو ابن مالك الساعدي الخزرجي، أبو العبَّاس: (أنَّ رجلًا) قيل: إنَّه هلال بن أمية، وقيل: إنَّه عاصم بن عَدي العجلاني، وقيل: إنَّه عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد العجلاني.
قلت: ويدلُّ للأول: حديث أنس رضي الله عنه: أنَّ هلال بن أميَّة قذف شريك بن سحماء بامرأته، فرفع لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «ائت بأربعة شهداء، وإلا فحدٌّ [1] في ظهرك ... »؛ الحديث، وفيه: فنزلت آية اللعان، أخرجه المؤلف، ومسلم، والنسائي.
ويدل للثاني: حديث الزهري عن سهل بن سعد الساعدي: أنَّ عويمرًا جاء إلى عاصم بن عدي، فقال: «أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فقتله، أتقتلونه؟ سل يا عاصم رسول الله ... »؛ الحديث، أخرجه الطحاوي.
ويدل للثالث: حديث ابن عبَّاس: «أنَّه عليه السَّلام لاعَنَ بين العجلاني وامرأته ... »؛ الحديث، أخرجه الطحاوي، وأحمد في «مسنده»، والبيهقي في «سننه»، ووقع في حديث عبد الله بن مسعود: «وكان رجلًا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فَلَاعَنَ امرأته»، وقال المهلب: (الصحيح: أنَّ القاذف عويمر، والذي ذكر في حديث ابن عبَّاس وابن مسعود هو عويمر العجلاني، وكونه هلال بن أميَّة خطأ، وأظنُّ غلطًا من هشام بن حسان، وذلك؛ لأنَّها قصة واحدة، والدليل عليه: توقفه عليه السَّلام فيها حين نزلت الآية، ولو أنَّهما قضيَّتان؛ لم يتوقف عن الحكم في الثانية بما نَزَل عليه في الأولى) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: كأنَّه تبع في هذا الكلام محمد بن جرير، فإنَّه قال في «التهذيب»: (يستنكر قوله في الحديث: «هلال بن أمية»، وإنَّما القاذف عويمر بن الحارث العجلاني، وفيما قالاه نظر؛ لأنَّ قصة هلال وقذفه زوجته بشريك ثابتة [2] في «صحيح البخاري» في موضعين: «الشهادات» و «التفسير»، وفي «صحيح مسلم» من حديث أنس).
وقال ابن التين: (الصحيح: أنَّ هلالًا لَاعَنَ قَبْلَ عويمر).
وقال الماوردي في «الحاوي»: (الأكثرون على أنَّ قضيَّة هلال أسبق من قصة عويمر).
وفي «الشامل» لابن الصبَّاغ: (قصة هلال تبيِّن أنَّ الآية نزلت فيه أولًا) انتهى.
قلت: وحاصله: أنَّ القضيَّة ليست واحدة، بل متعددة، وأنَّ نزول الآية إنَّما كان في قصة هلال، وأنَّها كانت قبل قصة عويمر، ويدلَّ عليه: حديث أنس السابق المروي في «الصحيحين» و «النسائي»، فإنَّه صريح في ذلك، ويدلُّ على التعدد: كون القضية ذكرت مرات في «الصحيحين» بأشخاص متعددة، وقول المهلب: (وكونه هلال بن أمية خطأ) ليس بشيء؛ لأنَّه قد ذكر في حديث أنس السابق، فكيف يزعم أنَّه خطأ؟ وما هذا إلا كلام من لم يشم شيئًا من رائحة العِلم.
وقوله: (وأظن غلطًا من هشام) ممنوع؛ فإنَّه قد ذكر أيضًا من طرق متعددة، فكيف يزعم أنَّه غلط؟ وما هو إلا كلام من يصدر عنه من غير تأمل.
وقوله: (والدليل عليه ... ) إلى آخره ممنوع، فإنَّه عليه السَّلام يحتمل أنَّه ظنَّ أنَّ الحكم خاص به دون غيره، فتوقف في الحكم، ولذلك نظائر منها: أنَّه عليه السَّلام حين صلى في المسجد الأقصى بالأنبياء، فأذَّن جبريل، وأقام الصلاة، ولمَّا أُسرِيَ به، وهبط إلى الأرض؛ توقف في علامة للصلاة، فأشار الصحابة بالناقوس، وبعضهم بالدف، فلم يعجبه ذلك حتى رأى زيد وغيره رؤية الأذان، فظنَّ عليه السَّلام أنَّه خاص بتلك الليلة، وكذلك ما نحن فيه، فإنَّه ظنَّ أنَّ الحكم ليس عامًّا، بل خاص، ثم لما وقعت القصة المرة الثانية؛ جاء جبريل مقررًا للحكم السابق، وأخبره بأنَّ الحكم عام.
وقوله: (والذي ذكر في حديثي ابني مسعود وعبَّاس أنه عويمر) ليس بصريح، بل هو ظن وتخمين؛ لأنَّه لم يذكر في حديثهما أنَّه عويمر، والصحيح أنَّ القصة متعددة.
%ص 565%
وقيل: إنَّ الرجل سعد بن عبادة، وفيه نظر؛ لأنَّ الحديث فيه: «فتلاعنا»، ولم يتَّفق لسعد ذلك، قاله بعضهم.
قلت: وهو غير ظاهر؛ لاحتمال أنَّه قد اتفق له ذلك، والمثبت مقدم على النافي.
وزعم القسطلاني أنَّ حديث الزهري السابق لا يدل على أنَّ الرجل هو عاصم بن عدي؛ لأنَّ عاصمًا رسول الواقعة لا سائل لنفسه؛ لأنَّ عويمرًا [3] قال له: سل يا عاصم رسول الله صلى الله عليه السَّلام، فجاء عاصم، فسأل، فكره عليه السَّلام المسائل، فجاء عويمر بعده، وسأل).
قلت: وفيه نظر؛ لاحتمال أنَّ عاصمًا سأل لنفسه؛ لأنَّ القضية قد وقعت لعاصم ولعويمر، فسأل عاصم لنفسه أولًا، ثم سأل عويمر بعده، ويحتمل أنَّه لمَّا وقعت القضية لعويمر؛ سأل عاصمًا، فذكر أنَّه وقعت له أيضًا، فسأله [4] عويمر لأن يسأل لنفسه ولعويمر، فحديث الزهري دالٌّ على أنَّ القصة وقعت لعاصم أيضًا، خلافًا لما زعمه؛ فافهم.
(قال: يا رسول الله؛ أرأيت رجلًا)؛ الهمزة فيه للاستفهام؛ أي: أخبرني عن حكم رجل (وجد مع امرأته رجلًا)؛ أي: أجنبيًّا يزني بها، (أيقتله)؛ فيه حذف دلَّ عليه الأحاديث التي ذكرها المؤلف، والمحذوف: أيقتله أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المُتلاعنين، فقال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «قد قضى الله فيك وفي امرأتك».
قال: (فتلاعنا) أي: الرجل والمرأة اللعان المذكور في سورة النور (في المسجد) قال سهل بن سعد: (وأنا شاهد) لذلك، فلمَّا فرغا؛ قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها؛ فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «ذاك تفريق بين كلِّ متلاعنين ... »؛ الحديث، وسيأتي في (اللعان).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (أيقتله)؛ لأنَّه لو لم يَرَ مباشرة تامَّة؛ لمَّا سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن جواز قتل الرجل، وإلا؛ فمجرد وجدان الرجل مع امرأته غير مباشرة لا يقتضي سؤال القتل فيه، ففي الجملة ليس فيه إشعار بالزنى، ولا يقتضيه إلا ما يفهم من قوله: (أيقتله)، فإنَّه مشعر بالزنى، وإنَّما ذكر المؤلف هذا الحديث مختصرًا ههنا؛ لأجل الاستدلال على جواز القضاء في المسجد، وهو جائز عند الإمام الأعظم وأكثر العلماء.
وقال أئمتنا الأعلام: المستحب أن يجلس القاضي مجلس الحكم في الجامع، فإن كان بجنب داره مسجد؛ فله ذلك، وإن قضى في داره؛ جاز، والجامع أرفق المواضع بالناس وأجدر حتى لا يخفى على أحد جلوسه، ولا يؤم حكمه، وقد كان الشعبي يقضي في الجامع، وشُريح يقضي في المسجد ويخطب بالسواد، وقد قضى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجده بين الأنصار في مواريث تقادمت، وكانت الأئمة يقضون في المساجد، وقضى عثمان بن عفان بين سقاء وخصم له في المسجد.
وقال مالك: (جلوس القاضي في المسجد للحكم من الأمر القديم المعمول به).
وقال أشهب: (لا بأس للقاضي أن يقضي في المسجد).
وكان ابن أبي ليلى يقضي في المسجد.
قلت: وإنَّما جوزوا ذلك؛ لأنَّ الحكم على الخصمين عبادة، والمسجد بني؛ للعبادة، فحقه أن يحكم فيه.
وروي عن ابن المسيب: أنَّه كره القضاء في المسجد.
وعن عمر بن عبد العزيز: (لا يقعد القاضي في المسجد يدخل فيه المشركون، فإنَّهم نجس)، وتلا الآية.
وكان يحيى بن يعمر يقضي في الطريق، فقصد رجل إلى منزله، فقال: (القاضي لا يؤتى في منزله).
وقال الشافعي: (يكره قعود القاضي في المسجد للحكم إذا أعده لذلك دون ما إذا اتفقت له فيه حكومة).
قلت: والحديث حجة عليهم؛ لأنَّه عليه السَّلام قد قضى في حوادث متعددة في المسجد، وآية: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]؛ يعني: في الاعتقاد عند الجمهور، ولا مانع من دخولهم المساجد بدون إذن المسلم؛ لاحتمال إسلامهم، كما قالوا: إنَّهم يعلمون القرآن لئلَّا يهتدوا.
وحديث: «جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم وخصوماتكم» إن صحَّ؛ فمحمول على ما قبل الحكم؛ لأنَّه في الغالب يحصل بين الخصمين تشاجرٌ ورفع صوت، أمَّا عند الحكم؛ فلا يكون ذلك، كما لا يخفى؛ فإن الخصمين عند القاضي في مجلس الحكم يكونان في السكونة والوقار وغضِّ البصر.
فائدة: ابن أبي ليلى كان قاضي الكوفة، فجاء يومًا ليجلس مجلسه في المسجد للحكم، فسمع رجلًا عند باب المسجد يقول لرجل آخر: يا بن الزانيين، فقال: خذوه، فاضربوه حدين، فأخذوه، ودخلوا به المسجد، فضربوه حدين، فأخبر بذلك الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، فقال: يا للعجب من قاضي بلدنا! قد أخطأ في خمسة مواضع في مسألة واحدة:
أما الأول: فإنَّه قد أخذ القاذف من غير أن يخاصم المقذوف.
والثاني: أنَّه لو خاصم؛ يجب عليه حدٌّ واحد وإن قذف ألف رجل.
والثالث: أنَّه لو كان الواجب عنده حدَّين؛ ينبغي أن يتخلَّل بينهما بيوم أو أكثر حتى يَجِفَّ أثر الضرب الأول، وهو قد وَالَى بين الحدين.
الرابع: أنَّه قد حدَّ في المسجد، وقد قال عليه السَّلام: «جنِّبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وسلَّ سيوفكم، وإقامة حدودكم».
الخامس: أنَّه قذف الوالدين، ولم يسل عنهما هل هما في حال الحياة أم لا؟ فإن كان في الحياة؛ فالخصومة إليهما، وإلا؛ فالخصومة إلى الابن، كذا ذكره أصحاب المناقب، وذكره غير واحد من أهل التاريخ، والحديث المذكور رواه البخاري في «تاريخه» وابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع؛ فانظر فقه الإمام الأعظم ما أصوبه، وما أدقَّ نظره! وحقيق بأن يلقب برئيس المجتهدين، ولقد عُرِض عليه القضاء مرَّات متعدِّدة، فأبى ولم يقبله من شدَّة ورعه وزهده وصلاحه رضي الله عنه، ونفعنا به في الدارين، وحشرنا في زمرته ومن خُدَّامه وأتباعه تحت لواء سيد العالمين، ورأس الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم.
==========
[1] في الأصل: (فخذ)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (بابيه)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (عويمر)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (فاسله)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (فخذ)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (بابيه)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (عويمر)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فخذ)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (بابيه)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (عويمر)، وليس بصحيح.
(1/708)
(45) [باب إذا دخل بيتًا يصلي حيث شاء أو حيث أمر ولا يتجسس]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (إذا دخل) الرجل (بيتًا) لغيره بإذنه، وقوله: (يصلي)؛ أي: فيه، (حيث شاء)؛ كذا في رواية الأكثرين، وعليه؛ فهمزة الاستفهام مقدرة فيه تقديره: أيصلي؟ وفي رواية هكذا بهمزة الاستفهام؛ يعني: أيصلي في البيت حيث شاء؛ اكتفاءً بالإذن العام في الدخول؟ (أو) يصلي (حيث أمر)؛ أي: في المكان الذي أمره صاحب البيت؛ لأنَّه عليه السَّلام استأذنه في موضع
%ص 566%
الصلاة، ولم يصلِّ حيث شاء؛ كما في حديث الباب، فبَطُلَ حكم (حيث شاء)، قاله ابن بطال،
قال: ويؤيده قوله: (ولا يتجسَّس)؛ بالجيم، أو بالحاء المهملة، وبالضم، أو بالجزم؛ أي: لا يتفحص مكانًا يصلي فيه.
وقال ابن المنير: (والظاهر الأول، وإنما استأذن عليه السَّلام؛ لأنَّه دعي إلى الصلاة؛ ليتبَّرك صاحب البيت بمكان صلاته، فسأله عليه السَّلام؛ ليُصلِّ في البقعة التي يجب تخصيصها بذلك، وأمَّا من صلى لنفسه؛ فهو على عموم الإذن إلَّا أن يَخُص صاحب البيت ذلك العموم فيختص به) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن المؤلف عادته عدم القطع بالحكم، ولهذا أتى بالترجمة بكلمة (أو) التي لأحد الشيئين؛ إشعارًا بأنَّ الحديث يطابق إمَّا الحكم الأول، أو الثاني، والظاهر أن المراد: الحكم الثاني، والحكم الأول باطل، فكأن المؤلف قال: (باب: «إذا دخل بيتًا يصلي حيث أمر ولا يتجسس»)، وهذا هو المطابق للحديث، فإن الرجل الذي يدخل دار غيره يحتاج إلى الإذن العام في الدخول والقعود، وأمَّا الصلاة؛ فيحتاج إلى الإذن الخاص؛ لأنَّ المكان الذي دخله يحتمل أنَّه غير طاهر، ويحتمل أنَّ الرجل لا يعلم جهة القبلة، فيلزمه السؤال عن ذلك؛ لأنَّ الاجتهاد لا يصح هنا، وكذلك النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما استأذن؛ ليعلم طهارة المكان مع تبرُّك صاحب البيت بصلاته، فسؤاله [1] إنَّما كان عن طهارة المكان، لا سيما وصاحب البيت إذا كان له أولاد صغارٌ [2] لا يميزون بين الطاهر والنجس يلزم السؤال ألبتة، وعلى هذا؛ فالدخول للبيت على عموم الإذن إلَّا أن يخص صاحبه بمكان فيختص.
وأمَّا الصلاة؛ فهي على الإذن الخاص، كما ذكرنا، وعليه فالمراد: أنَّ الحديث يطابق الشق الثاني من الترجمة، والشق الأول المراد به: الدخول فقط، ويدلُّ لما قلناه حديث عتبان في الباب الذي بعده، وفيه: «فاستأذن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إلى أن قال: ثم قال: «أين تحب أن أصلي لك ... ؟»؛ الحديث، وعليه؛ فيتعين أن يكون استئذانه إنَّما هو في الدخول، وقوله: «أين تحب» استئذان في مكان الصلاة، وحديث الباب قطعة من حديث الباب الآتي؛ لأنَّهما واحد على أنَّ [3] الأحاديث تفسر بعضها بعضًا، كما ستقف عليه، فما ذكره ابن المنير ليس بشيء؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (فسأله)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أولادًا صغارًا)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أنه).
==================
[1] في الأصل: (فسأله)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أولادًا صغارًا)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فسأله)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أولادًا صغارًا)، وليس بصحيح.
(1/709)
[حديث: أين تحب أن أصلي لك من بيتك]
424# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميم واللام، بينهما مهملة ساكنة، هو ابن قعنب الحارثي البصري (قال: حدثنا إبراهيم بن سعْد)؛ بسكون العين المهملة، هو المدني، سبط عبد الرحمن بن عوف، (عن ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المدني، وصرح أبو داود الطيالسي في «مسنده» بسماع إبراهيم بن سعد من ابن شهاب، (عن محمود بن الرَّبِيْع)؛ بفتح الراء وسكون التحتية، بينهما موحدة مكسورة، هو الخزرجي الأنصاري الصحابي، وعند المؤلف من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه قال: أخبرني محمود (عن عتْبَان بن مالك)؛ بكسر العين المهملة وضمها، وسكون الفوقية، بعدها موحدة مفتوحة، هو الأنصاري السالمي المدني، كان إمام قومه على عهده عليه السَّلام، المتوفى بالمدينة زمن معاوية رضي الله عنه، وصرَّح المؤلف في رواية يعقوب بسماع محمود من عتبان.
قلت: ومع هذا، فقد صرَّح إمام الشَّارحين: (بأن عنعنة «الصحيحين» محمولة على السماع مقبولة)؛ فافهم.
(أنَّ النبيَّ) الأعظم، ولأبي ذر: (أنَّ رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم أتاه في منزله)؛ أي: يوم السبت، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، كما عند الطبراني، وفي لفظ: أن عتبان لقي النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوم جمعة، فقال: إنِّي أحبُّ أن تأتيني، وفي بعضها: أنَّ عتبان بعث إليه.
وعند ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة: أنَّ رجلًا من الأنصار أرسل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أن تعال، فخُطَّ لي مسجدًا في داري أصلي فيه، وذلك بعدما عمي، فجاء، ففعل.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا كأنَّه عتبان) انتهى.
(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (أين تحب أن أصلي) يعني: أين تريد أن أخصَّ مكانًا لصلاتي (لك من بيتك) وفي رواية الكشميهني: (في بيتك)، والإضافة في (لك) باعتبار الموضع المخصوص، فالأداء فيه له، وإلا؛ فالصلاة لله عزَّ وجلَّ، أفاده إمام الشَّارحين.
(قال) أي: عتبان: (فأشرت له) عليه السَّلام (إلى مكان) من بيتي نظيف طاهر مقابل للكعبة، (فكبر النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: تكبيرة الإحرام، (وصففنا)؛ أي: جعلنا صفًّا (خلفه) ولأبي ذر: (فصففنا)؛ بالفاء، ولابن عساكر: (وصفَّنا)؛ بالواو مع الإدغام، لا يقال: إنَّ إقامة الصف بعد التكبير؛ لأنَّا نقول: الواو لمطلق الجمع لا تقتضي الترتيب، فصفَّهم عليه السَّلام صفًّا خلفه، ثم كبر، (فصلى ركعتين) قال ابن بطال: (ولا يقتضي لفظ الحديث أن يصلي حيث شاء، وإنَّما يقتضي الحديث أن يصلي حيث أُمِر؛ لقوله: «أين تحب أن أصلي لك؟»، فكأنَّه قال: باب: «إذا دخل بيتًا هل يصلي حيث شاء أو حيث أُمِر؟»؛ لأنَّه عليه السَّلام استأذنه في موضع الصلاة، ولم يصلِّ حيث شاء، فبطل الحكم الأول، وبقي الحكم الثاني، وهو وجه مطابقة الحديث للجزء الثاني من الترجمة) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث استحباب تعيين مصلًّى في البيت إذا عجز عن حضور الجماعة.
وفيه: جواز الجماعة في البيوت.
وفيه: جواز النوافل بالجماعة.
وفيه: إتيان الرئيس في موضع المرؤوس.
وفيه: تسوية الصف خلف الإمام.
وفيه: ما يدلُّ على حُسن خلقه عليه السَّلام وتواضعه مع جلالة قدره وعِظَم منزلته) انتهى.
==========
%ص 567%
==================
(1/710)
(46) [باب المساجد في البيوت]
هذا (باب) حكم اتخاذ (المساجد في البيوت)، وهذا الباب والذي قبله في الحقيقة باب واحد؛ لأنَّ المؤلف ليس له إلا حديث واحد من عتبان، وإنَّما أخرجه في عدة مواضع مفرقًا ومطولًا ومختصراَ؛ لأجل التراجم.
(وصلى البَرَاء)؛ بفتح الموحدة وتخفيف الراء (بن عاذب) بالذال المعجمة رضي الله عنه (في مسجد داره في جماعة) وفي رواية الأربعة: (جماعة)؛ بالنصب وإسقاط (في)، وفي رواية: (في مسجده في داره)، وهذا تعليق روى معناه ابن أبي شيبة، وأشار المؤلف به إلى أن صلاته بالجماعة في مسجد داره دليل على جواز اتخاذ المساجد في البيوت؛ لأنَّه لو كان غير جائز؛ لما صلى البراء، ولما تابعوه على ذلك، فهو كالإجماع على جواز الصلاة في البيوت جماعة وانفرادًا؛ لأنَّ الأرض كلها جُعِلت مسجدًا وطهورًا؛ كما في
%ص 567%
«الصحيح»، وهذا وجه مطابقته للترجمة؛ فافهم.
==================
(1/711)
[حديث: أين تحب أن أصلي من بيتك؟]
425# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سعِيد ابن عُفَيْر)؛ بضمِّ العين المهملة وفتح الفاء وسكون التحتية، نسبه لجده؛ لشهرته به، وهو سعيد بن كثير بن عفير المصري، وعين سعِيد مكسورة (قال: حدثني) بالإفراد (الليث) هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي (قال: حدثني) بالإفراد أيضًا (عُقَيل)؛ بضمِّ العين المهملة وفتح القاف، هو ابن خالد الأيلي، (عن ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المدني، ونسبه لجده؛ لشهرته به (قال: أخبرني) بالإفراد (محمود بن الرَّبيع) بفتح الراء (الأنصاري) الخزرجي الصحابي: (أن عتْبان بن مالك)؛ بضمِّ العين المهملة وكسرها وسكون الفوقية، هو الأنصاري السالمي المدني الصحابي المتوفى بالمدينة زمن معاوية، والجملة في محل النصب على أنها مفعول ثان؛ لقوله: (أخبرني)، كذا في «عمدة القاري».
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: رواية الصحابي عن الصحابي، فإن قلت: من قوله: «أنَّ عُتْبان» إلى قوله: «قال عتبان» من رواية محمود بغير واسطة، فيكون مرسلًا، فلا يكون رواية الصحابي عن الصحابي.
ومن هذا قال الكرماني: «الظاهر أنَّه مرسل»؛ لأنَّه لا جرم أنَّ محمودًا سمع من عتبان أنَّه رأى بعينه ذلك؛ لأنَّه كان صغيرًا عند وفاة النبيِّ عليه السَّلام.
قلت: قد وقع تصريحه بالسماع عند البخاري من طريق مَعْمَر، ومن طريق إبراهيم بن سعد، كما مر في الباب الماضي، ووقع التصريح بالتحديث أيضًا بين عتبان ومحمود من رواية الأوزاعي، عن ابن شهاب عند أبي عوانة؛ فيكون رواية الصحابي عن الصحابي، فيُحمل قوله: «قال عتبان» على أن محمودًا أعاد اسم شيخه؛ اهتمامًا بذلك؛ لطول الحديث) انتهى.
قلت: وهذا يردُّ على ما زعمه الكرماني، وكأنَّه لم يطلع [1] على هذه الروايات، فللَّه درُّ إمامنا الشَّارح!
واختلف فيما إذا قال: (حدثنا فلان بن فلان قال: كذا، أو فعل كذا)، فقال الجمهور: هو كـ (عن) محمول على السماع بشرط أن يكون الراوي غير مدلس، وبشرط ثبوت اللقاء على الأصح.
وقال أحمد وغيره: (يكون منقطعًا حتى يتبين السماع)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ومع هذا، فإنَّ عنعنة «الصحيحين» مقبولة محمولة على السماع؛ فافهم.
(وهو من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وكان إمام قومه على عهد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (ممَّن شهد بدرًا من الأنصار) رضي الله عنه، أشار بذلك؛ لإفادة تقوية الرواية، وتعظيمه، والافتخار، والتلذذ به، وإلا؛ كان هو مشهورًا بذلك، أو غرضه التعريف للجاهل به؛ فافهم.
(أنَّه أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وهذا بدل من قوله: (أنَّ عتبان)، وفي رواية ثابت عن أنس: (عن عتبان).
فإن قلت: جاء في رواية مسلم: أنَّه بعث إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يطلب منه ذلك، فما وجه الروايتين؟
قلت: يحتمل أن يكون جاء إلى النبيِّ عليه السَّلام بنفسه مرة، وبعث إليه رسوله مرة أخرى؛ لأجل التذكير، قاله إمام الشَّارحين.
وزَعْمُ ابن حجر يحتمل أن يكون نسب إتيان رسوله إلى نفسه مجازًا.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (الأصل في الكلام الحقيقة، والدليل عليه: ما رواه الطبراني من طريق أبي أويس عن ابن شهاب بسنده أنَّه قال: قال للنبيِّ [2] صلَّى الله عليه وسلَّم يوم جمعة: «لو أتيتني يا رسول الله»، وفيه: أنَّه أتاه يوم السبت) انتهى.
قلت: ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وههنا أمكن الحمل على الحقيقة، بل تعين الحمل عليها بدلالة ما رواه الطبراني، فكلام ابن حجر ليس بشيء؛ فافهم.
(فقال يا رسول الله: قد أنكرت بصري) يحتمل معنيين: ضعف البصر، أو العمى.
وفي رواية مسلم: (لما ساء بصري).
وفي رواية الإسماعيلي: (جعل بصري يكلُّ).
وفي رواية أخرى لمسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت: (أصابني في بصري بعض الشيء).
وكل ذلك يدلَّ على أنَّه لم يكن بلغ العمى.
وفي رواية للبخاري في باب: (الرخصة في المطر) من طريق مالك عن ابن شهاب، فقال فيه: (إنَّ عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنَّه قال لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّها تكون الظلمة والسَّيل، وأنا رجل ضرير البصر).
فإن قلت: بين هذه الرواية والروايات التي تقدمت تعارض.
قلت: لا معارضة فيها؛ لأنَّه أطلق عليه العمى في هذه الرواية؛ لقربه منه، وكان قد قَرُبَ من العمى، والشيء إذا قرب إلى الشيء يأخذ حكمه، انتهى، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(وأنا أصلي لقومي)؛ أي: لأجلهم، والمعنى: أنَّه كان يؤمهم، وصرَّح بذلك أبو داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد؛ كذا في «عمدة القاري».
قلت: وصرَّح بذلك أيضًا المؤلف في باب (الرخصة في المطر) من طريق مالك عن ابن شهاب، ولم يبيِّن مَنْ قومه، والظَّاهر: أنَّهم جمع من الأنصار؛ فتفحَّص.
(فإذا كانت الأمطار)؛ أي: وجدت؛ فـ (كان) تامة، ولهذا ليس لها خبر، وهو جمع مطر؛ وهو ماء المزن؛ (سال الوادي)؛ أي: سال ماؤه، فهو من قبيل إطلاق اسم المحل على الحال (الذي بيني وبينهم) وفي رواية الإسماعيلي: (يسيل الوادي الذي بيني وبين مسجد قومي، فيحول بيني وبين الصلاة معهم)، كذا في «عمدة القاري».
(لم أستطع أن آتي مسجدهم) ولابن عساكر: (المسجد) (فأصلي بهم) بالموحدة، ونصب (أُصلِّيَ) عطفًا على قوله: (أن آتيَ) وللأصيلي: (فأصلِّي لهم)؛ باللام؛ أي: لأجلهم.
(وودِدْت)؛ بكسر الدال المهملة الأولى، ومعناه: تمنيت، قاله ثعلب.
وفي «الجامع» للقزاز، وحكى الفراء عن الكسائي: (ودَدت)؛ بالفتح، ولم يحكها غيره، والمصدر: وُدٌّ فيهما، ويقال في المصدر: الوَد، والوِد، والوُد والوَداد، والوِداد، والكسر أكثر، والوِدادة والوَدادة، وجاء: مودَّة، حكاه مكي في «شرحه».
وقال اليزيدي في «نوادره»: (ليس في شيء من العربية ودَدَت مفتوحة)؛ كذا في «عمدة القاري».
(يا رسول الله أنك تأتيني فتصليَْ)؛ بسكون التحتية وبنصبها، كما في «الفرع»؛ جوابًا للتمني؛ لوقوع الفاء بعد التمني (في بيتي) يحتمل الإضافة أن تكون للملك، وأن تكون لغيره، وأضافه لنفسه؛ باعتبار سكناه
%ص 568%
فيه، والظاهر الأول، (فأتخذه مُصلَّى)؛ بضمِّ الميم، موضع صلاة، (وأتخذَُه)؛ بالرفع على الاستئناف، أو بالنصب عطفًا على الفعل المنصوب، وكلاهما في «الفرع»، كذا قرره الزركشي.
ومثله في «عمدة القاري»، قال: (لأن الفاء وقعت بعد النهي المستفاد من الودادة) انتهى.
واعترض الدماميني ذلك فقال: (إن ثبتت الرواية بالنصب؛ فالفعل منصوب بـ «أن» مضمرة، وإضمارها هنا جائز لا لازم، و «أن» والفعل بتقدير مصدر معطوف على المصدر المسبوك من: أنَّك تأتيني؛ أي: وددت إتيانك فصلاتك، فاتخاذي مكان صلاتك مصلًّى، وهذا ليس في شيء من جواب التمني الذي يريدونه، وكيف ولو ظهرت «أن» هنا؛ لم يمتنع، وهناك يمتنع، ولو رفع «تصلي» وما بعده بالعطف على الفعل المرفوع المتقدم، وهو قولك: «تأتيني»؛ لصحَّ، والمعنى بحاله) انتهى.
قلت: واعتراضه وارد على ما قرره الزركشي؛ لأنَّه جعل النصب بالعطف على الفعل المنصوب، وأمَّا على ما ذكره إمام الشَّارحين؛ فلا يرد شيء؛ لأنَّه جعل النصب بـ (أن) المضمرة؛ حيث علله بقوله: (لأن الفاء وقعت بعد النهي ... ) إلى آخره؛ يعني: فهو منصوب بـ (أن) مضمرة، إلى آخر ما قاله الدماميني، والرواية بالنصب ثابتة في «الفرع» كالرفع، فالمعنى عليه صحيح، ولكنَّ إمامنا الشَّارح قد اختصر عبارته وأوضحها الدماميني؛ فافهم.
(قال) أي: الراوي: (فقال له) أي: لعُتبان (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: سأفعل)؛ بالهمز، يعني: أصلي لك في بيتك، (إن شاء الله) تعالى علقه بمشيئة الله تعالى؛ عملًا بقوله تعالى في الكهف: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا*إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ} [الكهف: 23 - 24]، وأراد: التبرُّك؛ لأنَّ اطلَاعَه بالوحي على الجزم بأنَّه سيقع غير مستبعد في حقِّه عليه السَّلام، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر وغيره.
قلت: ويدل عليه عموم قوله تعالى: {وَمَا [3] يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، فجميع أفعاله وأقواله عليه السَّلام مقرونة بالوحي، ولمَّا قال لعتبان: «سأفعل»؛ علم منه تحقق الفعل؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يخبر بأمر يفعله ولم يفعله؛ لأنَّه لا يخبر بخلاف الواقع، وعقَّبه بالمشيئة؛ تبرُّكًا بقوله تعالى، وإشارة إلى أنَّ جميع الأفعال بيد الله تعالى؛ فافهم.
وزعم الكرماني أنَّه ليس المراد به مجرد التبرك؛ إذ محل استعماله؛ إنَّما هو فيما كان مجزومًا به، وتبعه البرماوي.
قلت: وفيه نظر؛ فإنَّ استعمال المشيئة للتبرك ههنا حيث إنَّه عليه السَّلام علم بالوحي أنَّه يفعل ذلك، ولولا علمه بذلك؛ لما وعده بالفعل؛ لأنَّه لو لم يعلم؛ لكان خلف بالوعد، وهو محال عليه قطعًا صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فافهم.
(قال عتبان)؛ هو محمول على أنَّ محمودًا أعاد اسم شيخه؛ اهتمامًا بذلك؛ لطول الحديث، كما مر، (فغدا رسول الله) وللأصيلي والكشميهني: (فغدا على رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) زاد الإسماعيلي: (بالغد) (وأبو بكر)؛ هو عبد الله بن أبي قحافة، واسمه عثمان رضي الله عنهما، وعند الطبراني من طريق أبي أويس أنَّ السؤال وقع يوم الجمعة، والتوجه إليه وقع يوم السبت، كما سبق (حين ارتفع النهار)؛ تفسير لقوله: (فغدا)؛ يعني: أنَّه توجه إليه يوم السبت وقت الغداة، (فاستأذن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: في الدخول، وهذا يعين ما قلناه في الحديث السابق؛ فافهم.
(فأذنت له) وفي رواية الأوزاعي: (فاستأذنا؛ فأذنت لهما)؛ أي: للنبيِّ الأعظم عليه السَّلام وأبي بكر.
وفي رواية أبي أويس: (ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما).
وفي رواية مسلم من طريق أنس عن عتبان: (فأتاني ومن شاء الله من أصحابه).
وفي رواية الطبراني من وجه آخر عن أنس: (فأتاني في نفر من أصحابه).
قال إمام الشَّارحين: (والتوفيق بين هذه الروايات هو أنَّ أبا بكر كان معه في ابتداء توجههم، ثمَّ عند الدخول أو قبله بقليل اجتمع عمر وغيره من الصحابة، فدخلوا معه) انتهى.
قلت [4]: (فلم يجلس) عليه السَّلام (حين دخل البيت) وفي رواية الكشميهني: (حتى دخل)؛ أي: لم يجلس في الدار ولا غيرها حتى دخل البيت مبادرًا إلى ما جاء بسببه.
قال النووي في «شرح مسلم»: زعم بعضهم أن «حتى» غلط، وليس بغلط؛ لأنَّ معناه: لم يجلس في الدار ولا في غيرها حتى دخل البيت مبادرًا إلى قضاء حاجته التي طلبها منه، وجاء بسببها، وهي الصلاة في بيته، وفي رواية يعقوب عند الطيالسي والبخاري: (فلما دخل؛ لم يجلس حتى قال: «أين تحب؟»)، وكذلك للإسماعيلي.
قال إمام الشَّارحين: (إنما يتعيَّن كون رواية الكشميهني غلطًا؛ إذا لم يكن لعتبان دار فيها بيوت، وأمَّا إذا كانت له دار؛ فلا يتعين) انتهى.
قلت: ولا يخفى أنَّ دُور الصحابة ليس فيها بيوت، فإنَّ الدار بيت ومرتفق فقط، وليست دار أحدهم ذات بيوت، فإنَّه عليه السَّلام كانت حُجَره بيوتًا، والبيت: ما يبات فيه، وكأن النووي قاس البيت على بيت زمانه من اشتماله على عشرة أماكن أو أكثر أو أقل، وهو قياس مع الفارق، فإنَّ بين بيت الصحابة وبيت ما بعدهم فرقًا بيِّنًا، كما لا يخفى، وعليه؛ فيتعين كون رواية الكشميهني غلطًا؛ لأنَّه ليس في البيت مكان يقف فيه، بل الباب على الطريق متصل بمكان البيتوتة؛ فافهم.
(ثم قال) عليه السَّلام لعتبان: (أين تحب أن أصلي من بيتك) وللكشميهني: (في بيتك)؛ يعني: في أي مكان تريد أن أخصَّ الصلاة فيه وتجعله مصلًّى؟
فإن قلت: أصل (من)؛ للابتداء، فما معنى: (من بيتك)؟
قلت: الحروف ينوب بعضها عن بعض، فـ (من) ههنا؛ بمعنى: (في)؛ كما في قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا [5] خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر: 40]، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: 9].
(قال) عتبان: (فأشرت له) عليه السَّلام (إلى ناحية من البيت)؛ ليصلي فيها، وهذا يعين ما قلناه من أنَّ دار عتبان لم تكن فيها بيوت؛ لأنَّه لو كان فيها بيوت؛ لقال: فأشرت إلى بيت منها، ولمَّا قال: إلى ناحية من البيت؛ علم منه البيت هو ما يبات فيه، وأنه ليس يوجد غيره، وهذا أكبر ردٍّ على ما زعمه
%ص 569%
النووي آنفًا؛ فافهم.
(فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فكبَّر)؛ أي للصلاة.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا يدلُّ على أنه حين دخل؛ جلس، ثم قام، فكبر للصلاة، وبينه وبين ما قبله تعارض، ويمكن دفعه بأن يقال: لما دخل قبل أن يجلس؛ قال: أين تحب؟ ويحتمل أنَّه جلس بعده جلوسًا، ثم قام، فكبر) انتهى.
قلت: والظاهر: الأول، وهو أنه عليه السَّلام لما دخل؛ قال لعتبان: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» فأشار له إلى ناحية من البيت، فجلس فيها إمَّا لأجل الاستراحة، وإما لانتظار مجيء بقية الصحابة، فلما أخذ الراحة أو حضر بقية القوم؛ قام، فكبر، وأمَّا الاحتمال الثاني؛ فبعيد؛ لأنَّه قال: فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال: (وقد يقال: إنَّ معناه: فلم يجلس جلوسًا طويلًا، بل خفيفًا)؛ فافهم
(فقمنا فصففنا)؛ بالفكِّ للأربعة، و (نا) فاعل، ولغيرهم: (فصفَّنا)؛ بالإدغام، و (نا) مفعول؛ أي: حوله أو جعلنا صفًّا حوله، (فصلى) عليه السَّلام (ركعتين، ثم سلم)؛ أي: من صلاته، ففيه دليل على مشروعية صلاة النافلة في جماعة بالنهار، وأنه لا كراهة فيه؛ حيث كان على سبيل التداعي، كما صرح به أئمتنا الأعلام.
وليس في الحديث دليل على أن السنة في نوافل النهار ركعتان؛ لأنَّ هذه الصلاة كانت خصوصية لعتبان بدليل أنه سأله أن يصلي في بيته؛ ليتخذه مصلًّى، وأوعده عليه السَّلام بأنَّه سيفعل ذلك، فلم يُخْلِف وعده، وصلى ركعتين؛ تطييبًا لخاطره، وخصوصية له، بل كانت عادته عليه السَّلام في صلاة النهار الأربع كالليل؛ ولهذا قال أئمتنا الأعلام: الأفضل في الليل والنهار الأربع، والدليل عليه: حديث عائشة المروي في «الصحيحين» قالت: «كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي بالليل أربع ركعات لا تسأل عن حسنهن وطولهن»، وفيهما عنها: «أنَّه عليه السَّلام كان يصلي الضحى أربعًا»، وقد ثبتت مواظبته على الأربع نهارًا، وكلمة (كان) تدل على: الدوام والاستمرار، وهذا هو المذهب الصواب المختار، وهو حجة على الشافعي وغيره في أنَّ الأفضل في النهار والليل مثنى مثنى؛ فافهم.
(قال) أي: عتبان: (وحبسناه) [6]؛ أي: منعناه بعد الصلاة عن الرجوع (على خَزِيْرَة صنعناها له)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الزاي، وسكون التحتية، وفتح الراء، آخره هاء تأنيث، قال ابن سيده: (هي اللحم الغاث _بالمثلثة_؛ أي: المهزول يؤخذ، فيقطع صغارًا، ثم يطبخ بالماء، فإذا أميت طبخًا؛ ذرَّ عليه الدقيق، فعصد به [7]، ثم أدم بأي إدام شِيْءَ، ولا تكون الخزيرة إلا وفيها اللحم، وقيل: هي بلالة النخالة تصفَّى، ثم تطبخ، وقيل: هي الحساء من الدسم والدقيق).
وعن أبي الهيثم: (إذا كان من دقيق؛ فهي خزيرة، وإذا كان من نخالة؛ فهي حريرة)؛ بالمهملات.
وفي «الجمهرة» لابن دريد: (الخزيرة: دقيق يلبك بشحم كانت العرب تعير بأكله، وفي موضع: يعيَّر به بنو مجاشع، قال: والخزيرة: السخينة [8]).
وقال الفارسي: (أكثر هذا الباب على فعيلة؛ لأنَّه في معنى مفعول).
وفي رواية الأوزاعي عند مسلم: (على جشيشة)؛ بجيم ومعجمتين.
قال أهل اللغة: (هي أن تطحن الحنطة قليلًا، ثم يلقى فيها شحم أو غيره).
وفي «المطالع»: (أنها رويت في «الصحيحين» بحاء وراءين مهملات).
وحكى البخاري في (الأطعمة) عن النضر: (أنها تصنع من اللبن)؛ كذا في «عمدة القاري».
قلت: والحريرة؛ بالحاء والراءين المهملات، هو المعروف، وهي دقيق يطبخ بالماء، ويوضع معها السمن، وهو الموافق؛ لما في «المطالع»، فما ذكره إمام الشَّارحين اصطلاح في اللغة القديمة، وإنَّما المعروف ما ذكرناه، لكنَّ الفرق بين المهمل والمعجم، فاللغة بالمعجم، وتصحف الناس، فاستعملوها بالمهمل، وهو الموافق لرواية «الصحيحين» في غير هذا الموضع؛ فافهم.
(قال) أي: عتبان: (فثاب)؛ بالمثلثة والموحدة بينهما ألف؛ أي: جاء، يقال: ثاب الرجل: إذا رجع بعد ذهابه.
وقال ابن سيده: (ثاب الشيء ثوبًا وثؤبًا: رجع، وثاب جسمه ثوبانًا: أقبل).
وقال الخليل: (المثابة: مجتمع الناس بعد افتراقهم، ومنه قيل للميت: مثابة)، كذا في «عمدة القاري».
(في البيت رجال)؛ أي: اجتمعوا وجاؤوا، وكلمة (في) بمعنى: (إلى)؛ لأنَّ الحروف ينوب بعضها عن بعض (من أهل الدار)؛ أي: من أهل المحلة؛ لقوله عليه السَّلام: «خير دور الأنصار دار بني النجار»؛ أي: محلتهم، والمراد: أهلها، ويقال: الدار: القبيلة أيضًا (ذو عدد)؛ أي: أصحاب عدد، والمراد به: الكثرة، فجاء بعضهم إثر بعض، وإنَّما جاؤوا؛ لسماعهم بقدوم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فافهم.
(فاجتمعوا)؛ (الفاء) عاطفة، وهو يقتضي المغايرة، والمعنى هنا: أنَّهم اجتمعوا داخل البيت، وتفسير إمام الشَّارحين (ثاب): باجتمعوا صحيح، والمعنى: أنَّهم اجتمعوا في الدار، وهذا الاجتماع هو غير ذاك الاجتماع؛ لأنَّه هنا كان اجتماعهم داخل البيت، وهناك كان اجتماعهم في الدار؛ بعضهم عند بابها، وبعضهم في دهليزها، وبعضهم على باب البيت، وبعضهم داخل البيت، وعلى هذا؛ قد حصل التغاير بين المعطوفين، وبهذا التقرير سقط ما زعمه القسطلاني تبعًا «للمصابيح» من أنه لا يَحْسُنُ تفسير (ثاب رجال): باجتمعوا؛ لأنَّه يلزم منه عطف الشيء على مرادفه، وهو خلاف الأصل، فالأولى تفسيره: بجاء بعضهم إثر بعض) انتهى.
قلت: بل يَحْسُن تفسير (ثاب) بـ (اجتمعوا)، ولا يلزم منه عطف الشيء على مرادفه؛ لأنَّ معنى (ثاب رجال): اجتمعوا في الدار متفرقين فيها، ومعنى (فاجتمعوا)؛ يعني: في داخل البيت غير متفرقين، كما قررناه؛ فافهم.
(فقال قائل منهم) لم يسم هذا القائل، قاله إمام الشَّارحين: (أين مالك بن الدُخَيْشِن)؛ بضمِّ الدال المهملة، وفتح الخاء المعجمة، وسكون التحتية، وكسر الشين المعجمة، آخره نون، (أو ابن الدُخْشُن)؛ بضمِّ الدال المهملة، وسكون الخاء المعجمة، وضم الشين المعجمة، وحُكي كسر أوله، والشك فيه من الراوي هل هو مصغر أو مكبر؟ ووقع في رواية مسلم من طريق معمر: بالشك أيضًا، لكن عند المؤلف في (المحاربين) من رواية معمر: (الدخشن)؛ بالنون مكبرًا من غير شك.
وكذا في رواية مسلم من طريق يونس.
وفي رواية أبي داود الطيالسي: (الدخشم)؛ بالميم.
وكذا في
%ص 570%
رواية مسلم عن أنس عن عتبان.
وكذا في رواية الطبراني من طريق النضر بن أنس عن أبيه، قال أحمد بن صالح: (وهو الصواب)، أفاده إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(فقال بعضهم)؛ أي: بعض القوم، وهم الصحابة، قيل: هو عتبان راوي الحديث، ونسب بعضهم هذا القول إلى ابن عبد البر، وهو غير ظاهر؛ لأنَّه قال: (لا يصح عن مالك النفاق، وقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه).
وقال أيضًا: (لم يختلف في شهود مالك بدرًا، وهو الذي أَسَرَ سهيل بن عمرو)، ثم ساق بإسنادٍ حسن عن أبي هريرة: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لمن تكلم فيه: «أليس قد شَهِدَ بدرًا؟».
وذكر ابن إسحاق في (المغازي): (أن النبيَّ عليه السَّلام بعث مالكًا هذا، ومعن بن عدي، فحرقا مسجد الضرار)، فدل ذلك كله على أنه بريء مما اتهم به من النفاق.
فإن قلت: إذا كان كذلك؛ فكيف قال هذا القائل: (إنَّا نرى وجهه ونصيحته للمنافقين)؟
قلت: لعله [9] كان له عذر في ذلك، كما كان لحاطب بن أبي بلتعة، وهو أيضا ممن شهد بدرًا، ولعلَّ الذي قال ذلك بالنظر إلى الظاهر، ألا ترى أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كيف قال عند قوله هذا: «فإنَّ الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله»، وهذا إنكار لقوله هذا.
ويجوز أن يكون اتهامه إياه بالنفاق غير نفاق الكفر، كذا قرره إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(ذلك) باللام؛ أي: ابن الدخشم، أو ابن الدخيشن، أو ابن الدخشن (منافق لا يحب الله ورسوله)؛ لأنَّه كان يَودُّ أهل النفاق، (فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) رادًّا على هذا القائل مقالته هذه: (لا تقل ذلك)؛ باللام، وفي رواية: (ذاك)؛ بدونها؛ أي: القول: بأنَّه منافق، (أَلا تَراه)؛ بفتح همزة (ألا) الاستفتاحية، وفتح مثناة (تَراه) الفوقية (قد قال: لا إله إلا الله)، وفي رواية أبي داود الطيالسي: (أما يقول: لا إله إلا الله)، وفي رواية مسلم: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله).
فإن قلت: لا بد من محمد رسول الله.
قلت: قال الكرماني: (هذا إشعار لكلمة الشهادة بتمامها).
قلت: هذا في حق المشرك، وأمَّا في حق غيره؛ فلا بد من ذلك، قاله إمام الشَّارحين؛ يعني: لا بد من ضميمة: محمد رسول الله عليه السَّلام، (يريد بذلك)؛ أي: بقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله (وجه الله)؛ أي: ذات الله وحده، وهذه شهادة من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالإيمان منه باطنًا، وبراءته من النفاق؛ كذا في «عمدة القاري».
قلت: فإن من قال كلمة الإخلاص لا بد أن يقولها مخلصًا لله تعالى؛ لأنَّه ليس لأحد التعرُّض له في عدمها من حيث إنَّه مخالط لأهل الإسلام في عبادتهم وشرائعهم ونحوها، لا سيما في زماننا من ترك كل ملة على ملتها، وعدم التعرُّض لها بسوء، وعلى هذا؛ فمن أظهر الإسلام وشعائره وفعل العبادات؛ فإنَّه يحكم عليه بالإسلام باطنًا وظاهرًا؛ لأنَّه ليس له في ذلك سبب موجب لدخوله في الإسلام حتى يكون نفاقًا، بل السبب: مرضاة الله عزَّ وجلَّ.
(قال) أي: الرجل القائل: (الله ورسوله أعلم)؛ أي: بقوله ذلك، وكأنَّه فهم من الاستفهام عدم الجزم بذلك، ولهذا (قال: فإنَّا نرى وجهه) أي: توجهه (ونصيحته للمنافقين)، وفي رواية الأصيلي: (إلى المنافقين).
زعم الكرماني فإن قلت: يقال: نصحت له لا إليه، قلت: قد ضمن معنى الانتهاء.
وزعم ابن حجر الظاهر أنَّ قوله: (إلى المنافقين) متعلق بقوله: «وجهه»، فهو الذي يتعدى بـ (إلى)، وأمَّا متعلق (ونصيحته)؛ فمحذوف للعِلم به.
وردَّ كلامهما إمام الشَّارحين حيث قال: (كل منهما لم يُمْعن على قانون العربية؛ لأنَّ قوله: «ونصيحته» عطف على قوله: «وجهه»، و «نصيحته» داخل في حكمه؛ لأنَّه تابع له، وكلمة «إلى» تتعلق بقوله: «وجهه»، ولا يحتاج إلى دعوى حذف متعلق المعطوف؛ لأنَّه يكتفى فيه بتعلق المعطوف عليه) انتهى؛ فافهم.
(قال) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: (فقال) (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) رادًّا على هذا القائل مقالته هذه: (فإن الله قد حرَّم) بتشديد الراء المهملة (على النار من قال: لا إله إلا الله) هذا في حق المشرك، أمَّا في حق غيره؛ فلا بدَّ من ضميمة: محمد رسول الله عليه السَّلام، كما مر (يبتغي) أي: يطلب (بذلك) أي: بما قاله (وجه الله) عزَّ وجلَّ؛ أي: ذاته.
وفيه ردٌّ على المرجئة القائلين: (بأنَّه يكفي في الإيمان النطق فقط من غير اعتقاد).
والمراد بالتحريم هنا: تحريم الخلود؛ جمعًا بينه وبين ما ورد من دخول أهل المعاصي في النار، وتوفيقًا بين الأدلة.
وعن الزهري: (أنه نزلت بعد هذا الحديث فرائض وأمور نرى أنَّ الأمر انتهى إليها).
وعند الطبراني: (أنه من كلام عتبان).
وقال ابن الجوزي: (الصلوات الخمس فرضت بمكة قبل هذه القضية بمدة)
وظاهر [10] الحديث يقتضي: أنَّ مجرد القول يدفع العذاب ولو ترك الصلاة.
والجواب: أنَّ من قالها مخلصًا؛ فإنَّه [11] لا يترك العمل بالفرائض؛ إذ إخلاص القول حامل على أداء اللازم، أو أنه يحرم عليه خلوده فيها.
وقال ابن التين: (معناه: إذا غفر له وتقبل منه، أو يكون أراد: نار الكافرين، فإنَّها محرمة على المؤمنين، فإنَّها كما قال الداودي: «سبعة أدراك والمنافقون في الدرك الأسفل من النار مع إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه»)؛ كذا في «عمدة القاري».
وقوله: (قال ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري، أحد رواة هذا الحديث، تعليق من المؤلف.
وزعم ابن حجر أنه مسند بالإسناد السابق قال: ووهم من قال: إنه تعليق).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (قلت: ظاهره التعليق، فإنَّه قال: «قال ابن شهاب» بدون العطف على ما قبله) انتهى.
قلت: وهذا هو الظاهر، فإنَّه لو كان مُسْنَدًا؛ لأتى بحرف العطف، ولأن المؤلف قد
%ص 571%
أتى بهذا؛ لأجل التقوية ونحوها مما سيأتي، وهذا يدل على أنه تعليق؛ فافهم.
(ثم سألت الحُصَين) وفي رواية الكشميهني: (ثم سألت بعد ذلك الحُصَين) (بن محمد)؛ وهو بضمِّ الحاء المهملة، وبفتح الصاد المهملة، هكذا ضبطه جميع الرواة إلا القابسي، فإنَّه ضبطه بالضاد المعجمة، وغلطوه في ذلك (الأنصاري)، ثم المدني من ثقاة التابعين.
فإن قلت: محمود كان عدلًا، فلمَ سأل الزهري غيره؟
قلت: إمَّا للتقوية ولاطمئنان القلب، وإمِّا لأنَّه عرف أنه نقله مرسلًا، وإمَّا لأنَّه تحمَّله وهو صبي، واختُلِفَ في قبول المتحمل زمن الصبا؛ كذا في «عمدة القاري».
قلت: والأظهر: أنَّ تَحَمُّل الصبي زمن صباه وتحديثه بعده مقبول، وعليه الجمهور، ويدل عليه: ما ذكره الفقهاء في أبواب (الشهادات): أنَّ الصبي إذا تحمَّل الشهادة في حال صباه وأدَّاها حال بلوغه؛ فهي مقبولة معتبرة؛ فافهم.
(وهو أحد بني سالم) هي قبيلة من الأنصار (وهو)؛ أي: الحصين بن محمد، وإنما أعاد الضمير؛ لطول الكلام (من سَراتهم)؛ بفتح السين المهملة؛ أي: سراة بني سالم، جمع سُرى، قال أبو عبيد: (هو المرتفع القدر).
وفي «المُحْكم»: (السرو [12]: المروءة والشرف، سروسراوة، وسروًا الأخيرة عن سيبويه واللحياني، وسرا سروًا، وسرى يسري سراء، ولم يحك اللحياني مصدر سرا إلا ممدودًا، ورجل سري من قوم أسرياء: شرفاء؛ كلاهما عن اللحياني، والسراة: اسم للجمع، وليس يجمع عند سيبويه، ودليل ذلك قولهم: سروات).
وفي «الصحاح»: (وجمع السرى: سراة، وهو جمع عزيز أن يجمع فعيل على فعلة، ولا يعرف غيره).
وفي «الجامع»: (وقولهم: فلان سري، إنَّما معناه في كلام العرب: الرفيع، وهو من سرو الرجل يسرو: صار رفيعًا، وأصله: من السراة، وهو من أرفع المواضع من ظهر الدابة، وقيل: بل السراة: الرأس، وهو أرفع الجسم)، كذا في «عمدة القاري»؛ يعني: من أشرف بني سالم.
وقوله: (عن حديث محمود بن الربيع) زاد ابن عساكر: (الأنصاري) متعلق بقوله: (سألت) (فصدقه بذلك)؛ أي: بالحديث المذكور، وهذا يحتمل أن يكون الحصين سمعه أيضًا من عتبان، ويحتمل أن يكون حمله من صحابي آخر، وليس للحصين ولا لعتبان في «الصحيحين» سوى هذا الحديث، كذا قاله إمامنا الشَّارح، ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
وفي الحديث أحكام:
الأول: جواز إمامة الأعمى مع وجود مثله بصيرًا، ولكنَّه يكون مكروهًا، فإن لم يوجد غيره؛ فلا كراهة، وصرَّح الإمام الشيخ علاء الدين المفتي بديارنا الشريفة الشامية في «شرحه» على «ملتقى الأبحر»: بكراهة إمامة الأعمى كراهة تنزيه؛ لأنَّه لا يتحفظ من النجاسات، فإن لم يوجد غيره؛ فلا كراهة.
الثاني: جواز التخلف عن الجماعة؛ لعذر؛ كمطر، وظلمة، وخوف على نفسه، وغيرها، وقد ورد في الحديث: أنَّ من كان نيَّته حضور الجماعة لولا العذر؛ يحصل له [13] ثوابها، وإن لم يحضرها؛ فإن الأعمال بالنيات، كما صرَّح به في «إمداد الفتاح».
الثالث: فيه جواز إخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة، وليس ذلك من الشكوى.
الرابع: جواز اتخاذ موضع معيَّن للصلاة.
فإن قلت: روى أبو داود في «سننه» من النهي عن إيطان موضع معين من المسجد.
قلت: هو محمول على ما إذا استلزم رياء وسمعة ونحوهما.
قلت: ووجه النهي عن ذلك: أنه في صلاته في مواضع من المسجد يكون فيه تكثير الشهود له في الصلاة؛ لما ورد في الحديث: «أن الأرض تشهد لمن يسجد عليها»، ومثله: حلق الشعر، وقص الأظفار يوم الجمعة، ورد: أنَّه يفعل ذلك بعد الصلاة؛ لأجل أن يشهد معه يوم القيامة، لكن لما كان الغالب في اتخاذ موضع للصلاة حصول الرياء، والسمعة، والإشارة إليه بأنَّه مصلى فلان؛ ورد النهي عنه؛ كما في حديث أبي داود، أمَّا إذا أمن من ذلك؛ فلا كراهة، كما دل عليه حديث الباب؛ فافهم.
الخامس: استحباب تسوية الصفوف، يدل عليه حديث أنس قال: (صلى لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة، ثم رقي المنبر، فقال في الصلاة: «أقيموا صفوفكم وتراصوا [14]، فإني أراكم من وراء ظهري ... ؛») الحديث؟، كما سبق في (عِظَة الإمام)، والأمر فيه للندب بالإجماع، ويحتمل أنه عليه السَّلام قاله حيث كان المسجد ضيقًا حتى يسع الناس، بدليل: أنه رآهم يوم الجمعة؛ لأنَّه بعد الصلاة رقي المنبر، أمَّا إذا كان المسجد واسعًا كمسجد بني أمية؛ فالظاهر: أنه لا يندب التراص [15]، وهذا بخلاف ما يفعله بعض المتعصبين من الشافعية من التزاق بعضهم ببعض لزقًا شديدًا بحيث يكون الرجل على الرجل، فمكروه أو حرام؛ لأنَّ ذلك يفضي إلى إيذاء الجار، وربَّما يكون جاره مريضًا أو شيخًا فانيًا، فإنَّه يتضرر بذلك، وضرر المسلم أو إيذاؤه حرام، فيظنُّ أنه قد فعل مستحبًّا يثاب على فعله، والحال أنه فعل معصية يعاقب على فعلها؛ فافهم.
السادس: جواز اتخاذ مسجد في البيت، وأنه لا يخرج عن ملك صاحبه، بخلاف المتخذ في المحلة.
قلت: يعني: فإنَّه يخرج عن ملك صاحبه، ومثله المتخذ في البيت مع الإذن العام لكل أحد من الناس، فإنَّه حينئذ يخرج عن مِلكه، فما ذكر في الباب محمول على أنه لم يأذن لكل أحد، بل الإذن فيه خاص؛ فافهم.
السابع: استحباب التبرُّك بمصلى الصالحين، ومساجد الفاضلين.
الثامن: استحباب الدعوة لغير وليمة عرس، أمَّا هي؛ فواجبة، وأنه من دعي من الصالحين إلى شيء يتبرك به منه؛ فله أن يجيب إليه إذا أَمِنَ العُجْب.
التاسع: وجوب الوفاء بالوعد؛ لما في «الصحيح» في (علامات المنافق)؛ منها: «إذا وعد؛ أخلف»، فمن وعد في شيء؛ يجب الوفاء به، وهذا إذا ذكره على الجزم، أمَّا إذا وعده وألحق به
%ص 572%
المشيئة وأخلف؛ لا بأس بذلك؛ لأنَّ الأشياء كلها بمشيئة الله تعالى.
العاشر: وجوب إكرام العلماء العاملين؛ لأنَّهم ورثة الأنبياء عليهم السلام بالطعام وشبهه إذا دعوا إلى ذلك.
الحادي عشر: استحباب التنبيه على أهل الفسق والنفاق عند السلطان؛ لما في «الصحيح»: «اذكروا الفاجر بما فيه؛ ليحذره الناس».
الثاني عشر: أنَّ السلطان يجب عليه أن يستثيب في أمر من يذكر عنده بفسق، ويوجه له أجمل الوجوه.
الثالث عشر [16]: استحباب السؤال عمَّن لم يحضر الجماعة مع القوم إذا كانت عادته الحضور معهم، فإذا كان له عذر؛ وإلا؛ فهو من أهل الشَّر.
الرابع عشر: جواز استدعاء المفضول للفاضل؛ لمصلحة.
الخامس عشر: جواز استتباع الإمام والعالم أصحابه إذا علم أنَّ الطعام يكفيهم.
السادس عشر: وجوب الاستئذان على الرجل في منزله، وإن كان قد تقدم منه استدعاء.
السابع عشر: استحباب اجتماع أهل المحلة إذا ورد إلى منزل بعضهم رجل صالح، فيحضروا مجلسه؛ لزيارته، وإكرامه، والاستفادة منه.
الثامن عشر: استحباب الذبِّ عمَّن ذكر بسوء، وهو بريء منه.
التاسع عشر: أنَّه لا يخلد في النار من مات على التوحيد.
قلت: ظاهر الحديث يدل على أنَّ من قال: لا إله إلا الله مخلصًا؛ تُحرَّم عليه النار.
العشرون: جواز إسناد المسجد إلى القوم.
الحادي والعشرون: جواز إمامة الزائر والمَزُورِ برضاه.
وقال ابن بطال: (وفي الحديث ردٌّ على من قال: «إذا زار قومًا؛ فلا يؤمهم»؛ مستدلًّا بما روى وكيع، عن أبان بن يزيد، عن بديل بن ميسرة، عن أبي عطية، عن رجل منهم: كان مالك بن الحويرث يأتينا في مصلَّانا، فحضرت الصلاة، فقلنا له: تقدم، فقال: لا، ليقدم بعضكم، فإنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «من زار قومًا؛ فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم»).
قال ابن بطال: (وهذا إسناد ليس بقائم، وأبو عطية مجهول يروي عن مجهول، وصلاة النبيِّ عليه السَّلام في بيت عتبان مخالفة له)، وكذا ذكره السفاقسي.
قال إمام الشَّارحين: (وفيه نظر في مواضع:
الأول: رواه أبو داود عن مسلم بن إبراهيم، وابن ماجه عن سويد عن عبد الله، وأبو الحسين المعلم عن محمد بن سليمان الباغندي [17]: حدثنا محمد بن أبان الواسطي قالوا: حدثنا أبان.
الثاني: قوله: «إسناده ليس بقائم»، يردُّه قول الترمذي: «هذا حديث حسن».
الثالث: الذي في «أبي داود»، و «الترمذي»، و «النسائي»، و «المصنف» أن أبا عطية قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا ... ؛ فذكره من غير واسطة).
وقال الترمذي: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وغيرهم، قالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة من الزائر)، وقال بعض أهل العلم: (إذا أُذِنَ له؛ فلا بأس أن يصلي بهم).
وقال إسحاق: (لا يصلي أحد بصاحب المنزل وإن أَذِنَ له صاحب المنزل، وكذلك في المسجد لا يصلي بهم في المسجد إذا زارهم يقول: ليُصلِّ بهم رجل منهم).
وقال مالك: (يستحب لصاحب المنزل إذا حضر فيه من هو أفضل منه أن يقدمه للصلاة).
وقد روي عن أبي موسى: أنه أمر ابن مسعود وجذبه في داره.
وقال أبو البركات ابن تيمية: (أكثر أهل العلم على أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رَبِّ المنزل) انتهى.
ومذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: أنَّه يستحبُّ لصاحب المنزل أن يأذن لمن هو أفضل منه، والمراد بصاحب المنزل: الساكن فيه، سواء كان بإجارة أو عارية، وصاحب المنزل يُقدَّم على المالك، فإذا اجتمع قوم في منزل؛ فصاحبه أحق بالإمامة، وإذا اجتمع قوم وفيهم السلطان وغيره؛ فيقدَّم السلطان، ثم الأمير، ثم القاضي، ثم صاحب المنزل، ويقدَّم القاضي على إمام المسجد، وهذا واجب؛ لأنَّ في تقديم غيره عليه إهانة له، ثم الأعلم بأحكام الصلاة صحةً وفسادًا، ثم الأقرأ، وإنَّما قدَّم الأعلم على الأقرأ؛ لأنَّ القراءة إنَّما يحتاج إليها؛ لإقامة ركن واحد، والفقه يحتاج إليه؛ لجميع الأركان، والواجبات، والسنن، والمستحبات [18] على أنَّ الزائد على حفظ ما به سنة القراءة غير محتاج إليه، والخطأ المفسد للصلاة في القراءة لا يُعرف إلا بالعلم، وكم من قارئ لم يحفظ شيئًا في الفقه، فكيف يقدَّم على الفقيه الحافظ لأحكام الله تعالى؟ كذا في «إمداد الفتاح»، والله تعالى أعلم؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (النبي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (ولا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[4] بياض في الأصل.
[5] في الأصل: (ما)، والمثبت موافق للتلاوة.
[6] في الأصل: (وحسبناه)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (فعصيدة)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
[8] في الأصل: (السنجينة)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (لعل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] تكرر في الأصل: (وظاهر).
[11] في الأصل: (لأنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (السرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[13] في الأصل: (لها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] في الأصل: (وتراضوا)، وهو تصحيف.
[15] في الأصل: (التراض)، وهو تصحيف.
[16] سقط من الأصل: (عشر).
[17] في الأصل: (الباعندي)، وهو تصحيف.
[18] في الأصل: (والمستحباب)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (النبي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (ولا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[4] بياض في الأصل.
[5] في الأصل: (ما)، والمثبت موافق للتلاوة.
[6] في الأصل: (وحسبناه)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (فعصيدة)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
[8] في الأصل: (السنجينة)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (لعل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] تكرر في الأصل: (وظاهر).
[11] في الأصل: (لأنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (السرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[13] في الأصل: (لها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] في الأصل: (وتراضوا)، وهو تصحيف.
[15] في الأصل: (التراض)، وهو تصحيف.
[16] سقط من الأصل: (عشر).
[17] في الأصل: (الباعندي)، وهو تصحيف.
[1] في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (النبي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (ولا)، والمثبت موافق للتلاوة.
[4] بياض في الأصل.
[5] في الأصل: (ما)، والمثبت موافق للتلاوة.
[6] في الأصل: (وحسبناه)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (فعصيدة)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
[8] في الأصل: (السنجينة)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (لعل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] تكرر في الأصل: (وظاهر).
[11] في الأصل: (لأنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (السرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[13] في الأصل: (لها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] في الأصل: (وتراضوا)، وهو تصحيف.
[15] في الأصل: (التراض)، وهو تصحيف.
[16] سقط من الأصل: (عشر).
[17] في الأصل: (الباعندي)، وهو تصحيف.
(1/712)
(47) [باب التيمن في دخول المسجد وغيره]
هذا (باب التيمُّن) أي: بيان البداءة باليمين (في دخول المسجد)؛ فـ (أل) للجنس، فيشمل كل مسجد، ولو مصلَّى جنازة أو عيدين (وغيره)؛ بالجرَّ عطفًا على المسجد؛ يعني: وغير المسجد مثل البيت والمنزل وغيرهما، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الكرماني أنه معطوف على الدخول، وتبعه ابن حجر.
قلت: وهو غير ظاهر، فإنَّ المراد بالغيريَّة؛ أي: غير المسجد، ولا معنى لغيرية الدخول؛ فافهم.
(وكان ابن عمر)؛ هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، القرشي العدوي رضي الله عنهما (يبدأ) أي: في دخول المسجد (برجله اليمنى) وذكر الخروج في مقابلة قرينة دالَّة على ذلك، (فإذا خرج) أي: من المسجد؛ (بدأ برجله اليسرى)، ومطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرة، ويؤيِّد فعل ابن عمر ما رواه الحاكم في «المستدرك» من طريق معاوية بن قرة عن أنس رضي الله عنه أنَّه كان يقول: (من السنَّة إذا دخلت المسجد؛ أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت؛ أن تبدأ برجلك اليسرى)، وقول الصحابي: من السنة كذا، محمول على أنَّه مرفوع إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو الصحيح، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وظاهر كلامه أنَّه لم يقف
%ص 573%
على هذا الأثر موصولًا عن ابن عمر؛ حيث لم يتعرض لذلك، ولهذا قال ابن حجر: لم أره موصولًا عنه.
قلت: وعدم رؤيته له لا ينفي رؤيته لغيره على أنَّه المؤلف حافظ أجمع على جلالته المسلمون، فلا ينقل شيئًا يكون غير ثابت، وقد جنح لهذا إمام الشَّارحين حيث أيَّد فعل ابن عمر بما رواه الحاكم في «المستدرك» عن أنس، وعليه؛ فلا كلام؛ فافهم.
==================
(1/713)
[حديث: كان النبي يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله]
426# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سليمان بن حرب) بحاء، وراء مهملتين، ثم موحدة (قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (عن الأَشْعَث) بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح العين المهملة، آخره مثلثة (بن سُليم)؛ بضمِّ السين المهملة؛ مصغَّرًا، (عن أبيه)؛ هو سليم بن الأسود المُحاربي _بضمِّ الميم_ الكوفي، (عن مسروق)؛ هو ابن الأجدع الكوفي أبو عائشة، أدرك الصدر الأول من الصحابة، وأسلم قبل وفاته عليه السَّلام، وسمي مسروقًا؛ لأنَّه سرقه سارق في صغره، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما أنَّها (قالت: كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أفادت (كان) الدَّوام والاستمرار (يحب التيمُّن)؛ بالنصب على المفعولية؛ أي: البداءة باليمين لحسنه.
إن قلت: المحبَّة أمر باطني، فمن أين علمت عائشة محبته؟
قلت: قد علمت محبَّته عليه السَّلام لهذه الأشياء إمَّا بالقرائن، أو بإخباره عليه السَّلام لها بذلك، انتهى.
قلت: ويقال: علمت ذلك بسبب مداومته واستمراره على فعله ذلك، كما أفاده تعبيرها بـ (كان)؛ فافهم.
(ما استطاع) يجوز أن تكون كلمة (ما) موصولة، فتكون بدلًا من التيمُّن، ويجوز أن تكون بمعنى: ما دام، وبه احترز عمَّا لا يستطيع فيه التيمُّن شرعًا؛ كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، قاله إمام الشَّارحين (في شأنه كلِّه) الجار والمجرور يتعلق بالتيمُّن، ويجوز أن يتعلق بالمحبة أو بهما، على سبيل التنازع، وتأكيد الشأن بقولها: (كلِّه) يدلُّ على التعميم، فيدخل فيه نحو: لبس الثوب، والخفَّ، والسراويل، ودخول المسجد، والصلاة على ميمنة الإمام وميمنة المسجد، والأكل، والشرب، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقصِّ الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والخروج من الخلاء، وغير ذلك، إلا ما خُصَّ بدليل؛ كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب والسراويل، فاستحب فيها التياسر؛ لأنَّه من باب الإزالة، والقاعدة: (أنَّ كل ما كان من باب التكريم والتزين؛ فاستحب فيه اليمين، وكل ما كان من باب الإزالة؛ فاستحب فيه التياسر)، لا يقال: حلق الرأس من باب الإزالة، فيبدأ فيه بالأيسر؛ لأنَّا نقول: هو من باب التزين، وقد ثبت الابتداء فيه بالأيمن.
(في طُهوره) بضمِّ الطاء المهملة؛ لأنَّ المراد: تطهره، وتفتح؛ أي: البداءة بالشق الأيمن في الغسل، وباليمين في اليدين والرجلين على اليسرى في الوضوء، وروى أبو داود في «سننه» من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إذا توضأتم؛ فابدؤوا بميامنكم»، فإن قَدَّم اليسرى؛ جاز، ولكنَّه يكره تنزيهًا، وأمَّا الكَفَّان والخدان والأذنان؛ فيُطهرَان دفعة واحدة، نصَّ أئمتنا الأعلام عليه، (وترجله) بالجيم؛ أي: الابتداء بالشق الأيمن في تسريح لحيته ورأسه، ومن المستحبات جمع الشعر والظفر ونحوهما من أجزاء البدن ودفنها، وألا يقطع شيئًا إلا وهو متوضئ، وروى الترمذي في «الشمائل» من حديث عبد الله بن معقل قال: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الترجل إلا غبًّا؛ أي: وقتًا بعد وقت)، وظاهره: أنَّه يُرجل بعد كلِّ وضوء، وقيل: إنَّه يفعل يومًا ويترك يومًا، ونقل عن الحسن: أنَّه في كل أسبوع، ولعله محمول على تمشيط شعر الرأس.
قلت: وظاهر الحديث: يدل على أنَّه بعد كل وضوء؛ لحديث الباب وحديث أنس قال: «كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أخذ مضجعه من الليل وُضع له سواكه وطهوره ومشطه، فإذا هيئه الله من الليل؛ استاك وتوضأ وامتشط»، رواه ابن الجوزي في كتاب «الوفاء»، وفي حديث أُبي بن كعب قال: قال عليه السَّلام: «من سرَّح لحيته كلَّ يوم؛ عوفي من أنواع البلاء، وزيد في عمره»، وعنه عليه السَّلام: «من مرَّ المشط على حاجبيه، عوفي من البلاء»، وعن علي بن أبي طالب مرفوعًا: «عليكم بالمشط؛ فإنَّه يذهب الفقر، ومن سرَّح لحيته حين يصبح؛ كان له أمانًا حتى يمسي»، وعن وهب بن منبه: (من سرَّح لحيته بلا ماء؛ زاد همُّه، أو بماء؛ نقص همُّه، ومن سرَّحها قائمًا؛ ركبه الدين، أو قاعدًا؛ ذهب عنه الدين، ومن سرَّحها يوم الأحد؛ زاده الله نشاطًا، أو الاثنين؛ قضى حاجته، أو الثلاثاء؛ زاده الله رخاءً، أو الأربعاء؛ زاده الله نعمة، أو الخميس؛ زاد الله في حسناته، أو الجمعة؛ زاده الله سرورًا، أو السبت؛ طهر قلبه)، كذا في «نزهة المجالس» لعبد الرحمن الصفوري.
قلت: وهذا يدل لما قلناه، ويدل عليه أيضًا ما في «الشمائل» عن أنس قال: (كان عليه السَّلام يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته)، وفي «الإحياء» في حديث غريب: (أنَّه عليه السَّلام كان يسرح لحيته في اليوم مرتين)، وقد أوضح المقام الإمام المحقق خاتمة المحدثين منلا علي القاري في رسالة خاصة في تسريح اللحية، والله أعلم.
(وتنعله)؛ بفتح الفوقية والنون، وتشديد العين المهملة المضمومة؛ أي: الابتداء بلبس اليمين من نعليه، وموقع (في طهوره) من الإعراب: البدل من قوله: (في شأنه) بدل بعض من كلٍّ.
فإن
%ص 574%
قلت: إذا كان كذلك؛ يفيد استحباب التيمن في بعض الأمور، وتأكيد شأنه بالكلِّ يفيد استحبابه في كلِّها.
قلت: هذا تخصيص بعد تعميم، وخصَّ هذه الثلاثة بالذكر؛ اهتمامًا بها وبيانًا لشرفها، ولا مانع أن يكون بدل الكل من الكل؛ لأنَّ الطهور مفتاح أبواب العبادات، والترجل يتعلق بالرأس، والتنعل بالرجل، وأحوال الإنسان، إمَّا أن تتعلق بجهة الفوق، أو بجهة التحت، أو بالأطراف؛ فجاء لكلٍّ منها بمثال، كذا قاله إمام الشَّارحين، وهذا الحديث قد سبق في باب (التيمن في الوضوء والغسل)؛ فافهم.
ومطابقته للترجمة من حيث عمومه؛ لأنَّ عمومه يدلُّ على البداءة باليمين في دخول المسجد وغيره، والشأن بمعنى الحال، والمعنى: يحب التيمن في جميع حالاته، والله تعالى أعلم.
==================
(1/714)
(48) [باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (هل تُنبش) بضمِّ المثناة الفوقية؛ أي: تحفر (قبور مشركي الجاهلية)؛ يعني: يجوز نبش قبور المشركين الذين هلكوا في الجاهلية؛ لما صُرِّح به في حديث الباب، و (هل) ههنا؛ للاستفهام التقريري، وليس باستفهام حقيقي، صرَّح بذلك جماعة من المفسرين في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان: 1]، وتأتي (هل) أيضًا بمعنى (قد)، كذا فسر الآية جماعة منهم: ابن عبَّاس، والكسائي، والفراء، والمبرد وذكر في «المقتضب»: (أنَّ «هل» للاستفهام نحو: هل جاء زيد، ويكون بمنزلة «قد» نحو قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ})، وقد بالغ الإمام الزمخشري، فقال: (إنَّها أبدًا بمعنى (قد)، وإنَّما الاستفهام مستفاد من همزة مقدرة معها)، ونقله في «المفصل» عن سيبويه، وقال في «كشافه»: ({هَلْ أَتَى}، على معنى: التقرير والتقريب فيه جميعًا)، ومن عَكَس الزمخشري ههنا فقد عَكَسَ نفسه:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإنَّ القول ما قالت حذام
وهذا الذي ذكرناه أحسن من الذي يقال: إنَّ ذكر كلمة (هل) هنا ليس له محل؛ لأنَّ عادته إنَّما يذكر (هل)؛ إذا كان حكم الباب فيه خلاف، وليس ههنا خلاف، ولم أرَ شارحًا ههنا شفى العليل، ولا أروى الغليل، قاله إمام الشَّارحين، وفسر ابن حجر: باب: (هل تنبش قبور مشركي الجاهلية) بقوله: (أي: دون غيرهم من قبور الأنبياء وأتباعهم).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تفسير عجيب مستفاد من سوء التصور؛ لأنَّ معناه ظاهر، وهو جواز نبش قبور المشركين؛ لأنَّهم لا حرمة لهم، فيستفاد منه عدم جواز نبش قبور غيرهم، سواء كانت قبور الأنبياء أو قبور غيرهم من المسلمين؛ لما فيه من الإهانة لهم، ولا يجوز ذلك؛ لأنَّ حرمة المسلم لا تزول حيًّا وميتًا، فإن كان هذا القائل اعتمد هذا التفسير على حديث عائشة المذكور في الباب؛ فليس فيه ذكر النبش، وهو ظاهر، وإنما فيه: أنَّهم إذا مات فيهم رجل صالح يبنون على قبره مسجدًا، ويصورون فيه تصاوير، ولا يلزم من ذلك النبش؛ لأنَّ بناء المسجد على القبر من غير نبش متصور) انتهى.
(ويُتَّخَذ مكانها مساجد) عطف على قوله: (تنبش)، و (مكانها)؛ بالنصب على الظرفية، و (مساجد)؛ مرفوع؛ لأنَّه مفعول ناب عن الفاعل، هذا إذا جُعل الاتخاذ متعديًا إلى مفعول واحد، فإذا جُعل متعديًا إلى مفعولين على ما هو الأصل من أنه من أفعال التصيير كما في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]؛ فيكون أحد المفعولين (مكانها)، فيُرفع على أنَّه مفعول قام مقام الفاعل، والمفعول الثاني هو (مساجد)؛ بالنصب، كذا قرره إمام الشَّارحين، ثم قال: (فإنَّ الكرماني ذكر فيه ما لا يخفى عن نظر وتأمل) انتهى.
قلت: وهذا التفسير مبني على روايتين في ذلك؛ أحدهما: نصب (مكانَها)، و (مساجدَ) مفعولين لـ (يتخذ)، والثانية: نصب (مكانَها) على الظرفية، ورفع (مساجدُ) نائبًا عن الفاعل؛ فافهم، والله أعلم.
(لقول النبيِّ) الأعظم؛ أي: لأجل قوله فيما وصله المؤلف في أواخر كتاب (الجنائز)، فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبو عوانة عن هلال، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم: لعن الله اليهود) زاد في رواية (الجنائز): (والنصارى)؛ أي: لأجل كونهم، (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وهذا تعليل لقوله: (ويتخذ مكانها مساجد) خاصة؛ لأنَّ الترجمة شيئان، والتعليل للشق الثاني، ووجه الاستدلال به: أنَّ اليهود لَّما خصوا باللعنة باتخاذهم قبور الأنبياء مساجد؛ عُلم منه عدم جواز اتخاذ قبور غيرهم ومن هم في حكمهم من المسلمين؛ لما فيه من الإهانة لهم؛ لأنَّ حرمة المسلم لا تزول حيًّا وميتًا، لا يقال: في اتخاذ قبور المشركين مساجد تعظيم لهم؛ لأنَّا نقول: لا يستلزم ذلك؛ لأنَّه إذا نُبشت قبورهم ورُميت عظامهم؛ تصير الأرض طاهرة منهم، والأرض كلُّها مسجد؛ لقوله عليه السَّلام: «جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، رواه المؤلف فيما سبق، وقال أئمتنا الأعلام: (ويجوز نبش قبور الكفار وجعل مكانها مساجد)، وبه صرح الإمام الجليل قاضيخان، لكن قيده بكون عظامهم فنيت وادثرت آثارهم، فأفاد أنَّ إلقاء عظامهم مكروه؛ لأنَّ فيه إهانة لبني آدم؛ لأنَّ عظم الآدمي وإن كان كافرًا؛ فهو غير مهان، وفيه تأمل، واستدل أئمتنا الأعلام على جواز ذلك بما فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في نبش قبورهم، واتخذ مكانها مسجده النبوي، وإنَّما كان النبش جائزًا؛ لما فيه من الاستهانة فيهم، ولأنَّه لا ذمة لهم، فلا حرج في نبشهم واتخاذ مكانهم مساجد؛ لأنَّه من قبيل تبديل السيئة بالحسنة، وعلى هذا؛ فلا تعارض بين فعله عليه السَّلام في نبش قبورهم واتخاذ مسجده مكانها، وبين لعنه عليه السَّلام من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد؛ لما ذكرنا من الفرق، وفي هذا الحديث: الاقتصار على لعن اليهود؛ فيكون قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» واضحًا؛ لأنَّ النصارى لا يزعمون نبوة عيسى، بل يدعون أنَّه ابن أو إله أو غير ذلك على اختلاف مللهم الباطلة، ولا يزعمون موته حتى يكون له قبر، وأمَّا من قال منهم: إنه قتل؛ فله في ذلك كلام حاصله: أنَّه رُفع إلى السماء، وسينزل، واستشكلت [1] الرواية التي في كتاب (الجنائز) من إثبات اللعن لليهود والنصارى، وأجيب: بأنَّه مبني على أنَّه عليه السَّلام كان مبلِّغًا للشريعة السابقة، أو أنَّه قُتل ودُفن بالأرض في بيت لحم، وسيأتي بقية الكلام عليه في موضعه.
(وما يكره من الصلاة في القبور) هذا عطف على قوله: (هل تنبش)، لا يقال: إنَّ هذه جملة خبرية، وقوله: (هل تنبش) جملة طلبية، فكيف يصح عطفها عليها؟ لأنَّا نقول: قد ذكرنا أنَّ (هل) استفهام تقريري، وهو في حكم الجملة الخبرية الثبوتية، وقوله هذا يتناول ما إذا صلى على القبر أو إليه أو بينهما، وفيه حديث أبي مرثد واسمه: كناز بن الحصين، أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ولفظه: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها»، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الأرض كلُّها مسجد إلا المقبرة والحمَّام ... »؛ الحديث، كذا في «عمدة القاري».
قلت: يعني: أنه تجوز
%ص 575%
الصلاة على القبور، ولكنَّها مكروهة.
(ورأى عمر) هو ابن الخطاب _كما في رواية الأصيلي_ القرشي، العدوي، المدني، ثاني خلفاء سيد المرسلين (أنس بن مالك) هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يصلي عند قبر) شامل لما أنه صلى عليه، أو إليه، أو بينهما، (فقال: القبرَ القبرَ)؛ بالنصب فيهما على التحذير، محذوف العامل وجوبًا، وهو اتقِ أو اجتنب، وفي بعض الروايات بهمزة الاستفهام؛ أي: أتصلي عند القبر؟ (ولم يأمره بالإعادة)؛ أي: لم يأمر عمر أنسًا بإعادة صلاته تلك، فدلَّ على أنَّه يجوز، ولكنَّه يكره؛ لأنَّ فيه التشبه بأهل الكتاب، كما يدلُّ عليه الحديث الآتي، وتعليل القسطلاني الكراهة بأنَّه صلى على نجاسة ولو كان بينهما حائل؛ ممنوع؛ فإنَّ النجاسة مفقودة ههنا، ولو كان فيه نجاسة؛ لما صحت الصلاة، على أنَّ هذا التعليل مخالف لصريح الحديث الآتي؛ لأنَّ صريحه أنَّ علة الكراهة التشبه بأهل الكتاب، كما لا يخفى.
وهذا التعليق رواه وكيع بن الجراح في «مصنفه» على ما حكاه ابن حزم عن سفيان بن سعيد، عن حُميد، عن أنس قال: رآني عمر أصلي عند قبر، فنهاني، وقال: القبر أمامك، قال: وعن معمر، عن ثابت، عن أنس قال: رآني عمر أصلي عند قبر، فقال لي: القبر لا يصلى إليه، قال ثابت: فكان أنس يأخذ بيدي إذا أراد أن يصلي، فيتنحى عن القبور، ورواه أبو نُعيم شيخ المؤلف عن حريث بن السائب قال: سمعت الحسن يقول: بينا أنس يصلي إلى قبر؛ فناداه عمر: القبرَ القبرَ، وظنَّ أنَّه يعني القمر، فلمَّا رأى أنَّه يعني القبر؛ تقدم، وصلى، وجاز القبر، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (واختُلف في جواز الصلاة على القبور، فذهب أحمد ابن حنبل: إلى تحريم الصلاة في المقبرة، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيء يقيه من النجاسة أم لا، ولا بين أن يكون بين القبور، أو في مكان منفرد عنها؛ كالبيت، أو العلو أم لا) انتهى.
قلت: والمشهور عن أحمد: عدم صحة الصلاة، قال في «تنقيح المقنع»: (ولا تصح الصلاة تعبدًا في مقبرة غير صلاة الجنازة، ولا يضر قبران ولا ما دفن بداره)؛ فافهم
وذهب الإمام الأعظم وأصحابه والثوري والأوزاعي: إلى كراهة الصلاة في المقبرة والحمَّام، ولم يرَ مالك بالصلاة في المقبرة بأسًا، وحكى أبو مصعب عن مالك: كراهة الصلاة في المقبرة، كما ذهب إليه الجمهور، وقال في «إمداد الفتاح» نقلًا عن «الفتاوى»: (لا بأس بالصلاة في المقبرة إذا كان فيها موضع معدٌّ للصلاة، وليس فيه قبر؛ لأنَّ الكراهة معللة بالتشبه بأهل الكتاب، وهو منتفٍ فيما كان على الصفة المذكورة) انتهى.
قلت: وتعبيره: بـ (لا بأس) يفيد أنَّه خلاف الأولى، ويجمع بينهما بأنَّ الكراهة في المقبرة؛ للتحريم، وفيما أُعدَّ للصلاة؛ للتنزيه؛ لحديث ابن عمر: (أنَّه عليه السَّلام نهى أن يُصلى في سبعة مواطن، وعدَّ منها المقبرة ... )؛ الحديث، رواه الترمذي وابن ماجه، والنهي يقتضي التحريم، وهو يتناول المقبرة وما فيه قبر، أمَّا الذي أُعدَّ منها للصلاة؛ فلا كراهة؛ يعني: تحريمية، بل هو خلاف الأولى، وكذا يكره أن يتوجه المصلي إلى قبر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، أو إلى قبر غيره من الأنبياء عليهم [السلام]، أو قبر الصحابة، والتابعين، والأولياء المكرمين؛ لأنَّ في ذلك كله التشبه بأهل الكتاب، وزعم أبو ثور أنَّه لا يصلى في حمام ولا مقبرة؛ لظاهر الحديث السابق.
وقال الرافعي: (أمَّا المقبرة؛ فالصلاة فيها مكروهة بكل حال).
وفرَّق الشافعي بين المنبوشة وغيرها، فإن كانت مختلطة التراب بلحوم الموتى وصديدهم وما يخرج منهم؛ لم تجز الصلاة فيها؛ للنجاسة، وإن صلَّى في مكان طاهر منها؛ صحَّت.
قلت: وهذا كلُّه خلاف الحديث، فإنَّ صريحه يدلُّ على الكراهة في كل حال، كما لا يخفى، وحكى ابن حزم عن خمسة من الصحابة النهي عن ذلك، وهم: عمر، وعلي، وأبو هريرة، وأنس، وابن عبَّاس، رضي الله عنه، وزعم أنَّه ما يَعْلم لهم مخالفًا من الصحابة، وحكاه عن جماعة من التابعين، وهم: النخعي، وابن جبير، وطاووس، وعمرو بن دينار، وخيثمة، وغيرهم.
واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: «ما نعلم لهم مخالفًا» معارض بما حكاه الخطابي في «معالم السنن» عن عبد الله بن عمر: أنَّه رخَّص الصلاة في المقبرة، وحُكي أيضًا عن الحسن البصري: أنَّه صلى في المقبرة.
وفي «شرح الترمذي»: «حكى أصحابنا خلافًا في الحكمة في النهي عن الصلاة في المقبرة، فقيل: المعنى فيه: ما تحت مصلاه من النجاسة، وقيل: المعنى فيه: حرمة الموتى»، قال ابن الرفعة: «فينبغي أن تقيَّد الكراهة بما إذا حاذى الميت، أمَّا إذا وقف بين القبور بحيث لا يكون تحته ميت ولا نجاسة؛ فلا كراهة، ولا فرق في الكراهة بين أن يصلي على القبر، أو بجانبه، أو إليه، ومنه يؤخذ: أنَّه تكره الصلاة بجانب النجاسة وخلفها) انتهى.
قلت: وقول الترمذي: (حكى أصحابنا خلافًا ... ) إلى آخره ممنوع؛ فإن علَّة الكراهة على التحقيق إنَّما هو التشبُّه بأهل الكتاب، كما هو صريح الحديث الآتي.
وقوله: (وقيل المعنى فيه: ما تحت مصلاه من النجاسة) ممنوع، فإن النجاسة إذا كانت في جوف الأرض، وصلَّى على أعلاها؛ فكيف يضرُّ صلاته؟ وما هو إلا بعيد عن القول.
وقوله: (وقيل: لحرمة الموتى) ممنوع؛ فإن الموتى بصلاة المرء عندهم تنزل عليهم الرحمة، فالحرمة فيهم في عدم نبش قبورهم، لا في الصلاة عليها، كما لا يخفى، وعلى كلٍّ؛ فالنهي يقتضي كراهة الصلاة في المقبرة، وهو حجَّة على أهل الظاهر حيث قالوا: تحرم الصلاة في المقبرة، سواء كانت مقابر المسلمين أو الكفار، وعلى أبي ثور، كما تقدم، وتمامه في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (واستشكل).
==================
(1/715)
[حديث: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا ... ]
427# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد بن المثنَّى)؛ بفتح النون المشددة بعد المثلثة، هو البصري (قال: حدثنا يحيى)؛ هو ابن سعيد القطان البصري، (عن هشام) هو ابن عروة (قال أخبرني) بالإفراد (أبي)؛ هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) ولابن عساكر: (عن عائشة أم المؤمنين)، وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه: (قال: أخبرتني عائشة)؛ وهي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أنَّ أم حَبيبة)؛ بفتح الحاء المهملة، أم المؤمنين، واسمها: رَملة _بفتح الراء_ بنت أبي سفيان صخر بن حرب الأموية، هاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش _بتقديم الجيم على الحاء المهملة_ إلى الحبشة، فتوفِّي هناك، فزوجها [1]
==================
[1] في الأصل: (فتزوجها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[النجاشي] رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وبعثها إليه، وكانت من السابقات إلى الإسلام، توفِّيت سنة أربع وأربعين بالمدينة على الأصح، (وأم سلَمة)؛ فتح اللام، هي [2] أم المؤمنين أيضًا، واسمها هند _على الأصح_ بنت أبي أمية المخزومي، هاجرت مع زوجها أبو سلمة إلى الحبشة، فلما رجعا إلى المدينة؛ مات زوجها، فتزوجها رسول الله عليه السَّلام ورضي الله عنها (ذكرتا)؛ بلفظ التثنية للمؤنث من الماضي، والضمير فيه يرجع إلى أم حبيبة وأم سلمة، هكذا في رواية الأكثرين على الأصل، ووقع في رواية المستملي والحمُّوي: (ذكرا)؛ بالتذكير، وهو خلاف الأصل، والأظهر: أنَّه تحريف من النساخ، أو من بعض الرواة غير المميزين، قاله إمام الشَّارحين.
(كَنيسة)؛ بفتح الكاف، وهي معبد النصارى، ويقال لها: مارية، والمارية؛ بتخفيف التحتية: النقرة، وبتشديدها: القطاة الملساء، كذا في «عمدة القاري».
(رأينها)؛ بصيغة جمع المؤنث من الماضي، وإنَّما جمع؛ باعتبار من كان مع أم حبيبة وأم سلمة، وفي رواية الكشميهني والأصيلي: (رأيتاها) على الأصل بضمِّير التثنية (بالحبشة)؛ بفتح الحاء المهملة
%ص 576%
وذلك، قبل أن تهاجرا إلى المدينة، وفي رواية: ذكرها القسطلاني ولم يَعْزُها لأحد: (رأياها)؛ بمثناة تحتية.
قلت: والظاهر: أنَّها تحريف من النساخ، والحاصل: أن الأكثر: (رأينها)؛ بنون جمع يحتمل على أن أقل الجمع اثنان، ويحتمل على أنَّه كان معهما غيرهما من النسوة، وهو الظاهر، والرواية الثانية بمثناة فوقية وضمير التثنية على الأصل، والرواية الثالثة الله أعلم بصحتها.
(فيها تصاوير)؛ أي: تماثيل، جمع (تِمثال)؛ بكسر المثناة الفوقية، قيل: كانت من زجاج، ونحاس، ورخام، وقيل: طلمسات كان يعملها، ويحرم على كل مُضرٍّ أن يتجاوزها، فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالًا [3] للذباب، أو للبعوض، أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزوها، فلا يتجاوزه واحد أبدًا مادام ذلك التمثال، والجملة اسمية محلها نصب؛ صفة لكنيسة، (فذكرتا ذلك للنبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: ذكرتا هذه التصاوير في تلك الكنيسة، وقيل: إنَّها صور الأنبياء عليهم السلام، والعلماء، والعباد، وغيرهم، ويدلُّ لذلك قوله: (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لهما: (إنَّ أولئكِ)؛ بكسر الكاف؛ لأنَّ الخطاب لمؤنث، وقد تفتح الكاف (إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات)؛ عطف على (كان)، وجواب (إذا) قوله: (بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تِيْك الصور)؛ بكسر المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفي رواية أبي ذر وابن عساكر: (تلك)؛ باللام بدل المثناة التحتية؛ يعني: كانت تصور في معابدهم؛ ليراها الناس، فيزدادوا [4] في العبادة، ويجتهدوا فيها، ويتذكروا عبادتهم، وهذا يدلُّ على أنَّ التصوير كان مباحًا في ذلك الزمان، وقد نسخ ذلك في شرعنا، ويدلُّ على ذلك قوله عليه السَّلام: (فأولئكِ)؛ بكسر الكاف خطاب للمؤنث، وقد تفتح، وفي رواية: (وأولئك)؛ بالواو (شِرار الخلق عند الله يوم القيامة)؛ بكسر الشين المعجمة، جمع: (الشر)؛ كخيار جمع: (خير)، وتِجَار جمع: (تجر)، وأما الأشرار؛ فقال يونس: (واحدها: شر أيضًا).
وقال السفاقسي: (جمع شر كزند وأزناد).
وقال الأخفش: (شرير؛ مثل يتيم وأيتام).
قال القرطبي: (إنما صوَّر أوائلهم الصور؛ ليستأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم، ثم خَلَف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان: إنَّ أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظِّمونها، فعبدوها، فحذَّر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن مثل ذلك؛ سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وسدُّ الذرائع في قبره الشريف عليه السَّلام، وكان ذلك في يوم مرض موته؛ إشارةً إلى أنَّه من الأمر المحكم الذي لا ينتسخ بعده، ولما احتاجت الصحابة رضي الله عنهم والتابعون إلى زيادة مسجده المعظَّم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلَّا يصل إليه العوام، فيؤدِّي ذلك إلى المحذور، ثم بنوا على القبر جدارين بين ركني القبر الشمالي، حرفوهما حتى التقيا حتى لا يمكن أحد أن يستقبل القبر الشريف) انتهى.
وقال البيضاوي: (لَّما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء؛ تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجَّهون في الصلاة نحوها، واتَّخذوها أوثانًا؛ لعنهم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومنع المسلمين عن ذلك، فأمَّا من اتَّخذ مسجدًا في جوار صالح، وقصد التبرُّك بالقرب منه لا للتعظيم له ولا للتوجُّه إليه؛ فلا يدخل في الوعيد المذكور)، وقال ابن بطال: (وفي الحديث نهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن فعل التصاوير، وإنما نهي عنه؛ لاتخاذهم القبور والصور آلهة، وفيه دليل على تحريم التصوير للحيوان خصوصًا الآدمي الصالح، وفيه منع بناء المساجد على القبور، ومقتضاه التحريم، كيف وقد ثبت اللعن عليه؟) انتهى.
قلت: ويستثنى من النهي عن اتخاذ القبور مساجد ما إذا كانت المقبرة دائرة، فبناء المسجد عليها؛ ليصلَّى فيه لا بأس بذلك، وبه صرَّح الإمام الجليل قاضيخان من أهل المذهب المعظم، وبه صرَّح البندنجي من الشافعية، وذلك لأنَّ المقابر وقف، وكذا المسجد، فمعناهما واحد، كما لا يخفى، وقوله: (وفيه النهي عن فعل التصاوير) يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران، وأذنان يسمعان، ولسان ينطق يقول: إنِّي وكِّلت بثلاث: بكل جبارعنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا [5] آخر، والمصورين»، رواه الترمذي، وقال: (هذا حديث حسن غريب صحيح)، وفي «البخاري «و «مسلم» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»، وهذا يدلُّ على المنع من تصوير شيء أيُّ شيء كان، قال تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60].
وقوله: (وفيه منع بناء المساجد ... ) إلى آخره؛ يعني: أن يسوَّى القبر أو القبور مسجدًا [6] يصلَّى فيه، وهذا مكروه، وهو ليس على إطلاقه، وفيه تفصيل، فإن كانت المقبرة للكفار؛ فيجوز نبشها، واتِّخاذ مكانها مسجدًا، وقد ترجم له المؤلف فيما مضى، وإن كانت للمسلمين؛ فيحرم ذلك، سواء كان فيها قبور أحد الأنبياء أو المسلمين؛ لأنَّ حرمة المسلم لا تزول حيًّا وميتًا، وفي ذلك إهانة له، فيحرم ذلك، كما لا يخفى، إلا إذا كانت المقبرة دائرة؛ فلا بأس بأن يجعل عليها مسجدًا [7] يصلى فيه؛ لأنَّ كل ذلك وقف منفعة للمسلمين.
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: جواز حكاية ما يشاهده المرء من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به، وفيه: ذم الفاعل للمحرمات، وفيه: أن الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل) انتهى.
وقد سبق: أنَّ الصلاة في المقبرة لا تصحُّ عند أحمد، والظاهرية، وأبي ثور، وتصحُّ وتكره عند الإمام الأعظم، والثوري، والأوزاعي، ومالك بن أنس، والشافعي فيما قاله الرافعي، وتصحُّ بدون كراهة عند الحسن البصري، وتبعه القاضي حسين، وهو مروي عن ابن عمر، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.
==================
[2] في الأصل: (هم)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (تمثال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (فيزداد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (إله)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (مسجد)، وليس بصحيح.
(1/716)
[حديث: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا]
428# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد)؛ هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا عبد الوارث)؛ هو ابن سعيد التميمي البصري، (عن أبي التَيَّاح)؛ بفتح الفوقية، وتشديد التحتية، آخره حاء مهملة، هو يزيد بن حميد، الضبعي، البصري، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك)، هو الأنصاري أنَّه (قال: قدِم) بكسر الدال المهملة (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة)، قال الحاكم: (تواترت الأخبار بوروده عليه والسلام قباء يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول)، وقال محمد بن موسى الخوارزمي: (وكان ذلك اليوم الخميس الرابع من تيرماه، ومن شهور الروم العاشر
%ص 577%
من أيلول سنة سبعمئة وثلاث وثلاثين لذي القرنين).
وقال الخوارزمي: (من حين ولد إلى حين أسري به أحد وخمسون سنة، وسبعة أشهر وثمانية وعشرين يومًا، ومنه إلى اليوم الذي هاجر سنة وشهران ويوم، فذلك ثلاث وخمسون سنة، وكان ذلك يوم الخميس).
وقال ابن سعد في «الطبقات»: (إنَّه عليه السَّلام خرج من الغار ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول، فأقام يوم الثلاثاء بقديد، وقدم على بني عمرو بن عوف لليلتين خلتا من ربيع الأول، ويقال: لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فنزل على كلثوم بن هدم، وهو السبت عندنا).
وذكر البرقي: (أنَّه عليه السَّلام قدم المدينة ليلًا)، وعن جابر: (لما قدم المدينة نحر جزورًا)، كذا في «عمدة القاري».
(فنزل أعلى) وللأصيلي: (في أعلى) (المدينة)، وفي رواية أبي داود: (فنزل في عُلوِّ المدينة)؛ بالضم، وهي العالية (في حيٍّ)؛ بتشديد التحتية، وهي القبيلة، وجمعها أحياء، كذا قاله إمام الشَّارحين، (يقال لهم: بنو عَمرو بن عَوف)؛ بفتح العين المهملة فيهما، وبالفاء في الأخير، (فأقام النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم فيهم) أي: في بني عمرو (أربع عشرة ليلة)، هذه رواية الأكثرين، وكذا في رواية أبي داود عن شيخه مسدد، وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت ونسبها إمام الشَّارحين للمستملي والحمُّوي: (أربعًا وعشرين ليلة)، وعن الزهري: (أقام فيهم بضع عشرة ليلة)، وعن عويمر بن ساعدة: لبث فيهم ثماني عشرة ليلة، ثم خرج، كذا قاله إمام الشَّارحين، (ثم أرسل) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو في بني عمرو (إلى بني النجَّار)؛ بتشديد الجيم، أبو قبيلة من الأنصار، وبنو النجار هم: بنو تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الجموح، والنجار: قبيل كثير من الأنصار منه بطون، وعمائر، وأفخاذ، وقفائل، وتيم اللات: هو النجار، سمي بذلك؛ لأنَّه اختتن بقدُّوم، وقيل: بل ضرب رجلًا بقدُّوم، فجرحه، ذكره الكلبي وأبو عبيدة، وإنما طلب بني النجار؛ لأنَّهم كانوا أخواله عليه السَّلام؛ لأنَّ هاشمًا جده تزوج سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عدي بن النجار بالمدينة، فولدت له عبد المطلب، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: ولأجل هذا خصَّهم عليه السَّلام بالإرسال عن غيرهم، (فجاؤوا متقلدي السيوف)؛ بالجِّر وحذف نون (متقلِّدين)، وإضافة (المتقلدين) إلى (السيوف)، هكذا في رواية كريمة، وفي رواية الأكثرين: (متقلدين السيوفَ)؛ بنصب السيوف وثبوت النون؛ لعدم الإضافة، وعلى كل حالٍ هو منصوب على الحال من الضمير الذي في (فجاؤوا)، والتقلُّد: جَعْلُ نِجاد السيف على المنكب؛ كذا في «عمدة القاري».
قلت: والمعنى: جاؤوا جاعلين سيوفهم على مناكبهم؛ خوفًا من اليهود، وليروه عليه السَّلام ما أعدُّوه؛ لنصرتهم من شجاعتهم وقوتهم، قال أنس بن مالك: (كأني أنظر إلي النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم على راحلته)؛ أي: ناقته التي تسمى: القصواء، فإنَّ الرَّاحلة: المركب من الإبل، ذكرًا كان أو أنثى، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: وفي بعض النسخ: (وكأني)؛ بالواو، وفي بعضها: (فكأني)؛ بالفاء، والمعنى: وكأني الآن، فالتشبيه باعتبارين، و (كأنَّ)؛ للتحقيق؛ كقوله: كأن الأرض ليس بها هلال (وأبو بكر)؛ أي: الصديق الأكبر، عبد الله بن أبي قحافة عثمان رضي الله عنهما (ردفه)؛ الجملة اسمية محلها نصب على الحال من (النبي)، أو من فاعل (أنظر)؛ أي: راكب خلفه، فإنَّ الرِّدْف _بكسر الراء وسكون الدال المهملتين_: المرتدف، وهو الذي يركب خلف الراكب، وأردفته أنا: إذا أركبته معك، وذاك الموضع الذي يركبه: رِدَاف، وكل شيء يتبع سببًا؛ فهو ردفه، وكان لأبي بكر ناقة، فلعلَّه تركها في بني عمرو بن عوف؛ لمرض أو غيره، ويجوز أن يكون ردَّها إلى مكة؛ ليحمل عليها أهله، وثَمَّ وجه آخر حسن: وهو أنَّ ناقته كانت معه، ولكنَّه ما ركبها؛ لشرف الإرداف خلفه، فإنَّه تابعه، والخليفة بعده، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(ومَلَأ)؛ بفتحتين آخره همزة من غير مد (بني النجار حوله) عليه السَّلام؛ إكرامًا له، وأدبًا معه، وافتخارًا به، والملأ: أشراف القوم ورؤساؤهم، سمُّوا بذلك؛ لأنَّهم ملأى [1] بالرأي والغنى، والملأ: الجماعة، والجمع: أملاء، قال ابن سيده: (وليس الملأ من بني «رهط» وإن كانا اسمين؛ لأنَّ «رهطًا» لا واحد له من لفظه، والملأ: رجل مالئ جليل ملأ العين بجهرته، فهو كالعرب والرَّوَح [2]، وحكى ملأته على الأمر: املأه، ومالأته كذلك؛ أي: شاورته، وما كان هذا الأمر عن ملأ منَّا؛ أي: عن تشاور واجتماع)، كذا في «عمدة القاري»، والجملة اسمية حالية أيضًا، (حتى ألقى) أي: حتى طرح النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رحله، فهو مبني للفاعل، ويحتمل للمفعول، كذا زعمه العجلوني.
قلت: وهذا الاحتمال بأنَّه مبني للمفعول غير ظاهر؛ لأنَّ أنسًا أخبر عنه عليه السَّلام بأنَّه ألقى رحله، فيتعين أن يكون مبنيًّا للفاعل، والمفعول محذوف، وهو الرحل، يقال: ألقيت الشيء: إذا طرحته.
(بفِناء) بكسر الفاء مع المد: سعة أمام الدار، والجمع: أفنية، وفي «المجمل»: (فناء الدار: ما امتد من جوانبها)، وفي «المحكم»: (وتبدل الموحدة من الفاء).
(أبي أيوب) أي دار أبي أيوب، واسمه: خالد بن زيد الأنصاري، جعل جبار بن صخر يَنخَسُها برجله، فقال أبو أيوب: يا جبار؛ أَعَنْ منزلي تنخسها؟ أما والذي بعثه بالحق لولا الإسلام؛ لضربتك بالسيف.
قال إمام الشَّارحين: (جبار بن صخر بن أمية بن خنساء السلمي، ويقال: جابر بن صخر الأنصاري، شهد العقبة وبدرًا، وهو صحابي كبير، روى محمد بن إسحاق: عن أبي سعد الخطمي، سمع جابرًا بن عبد الله قال: صليت خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنا وجابر بن صخر، فإمامنا خلفه، والصحيح: أنَّ اسمه جبار بن صخر، وذكر محمد بن إسحاق في كتاب «المبتدأ وقصص الأنبياء عليهم السلام»: «أن تُبَّعًا؛ وهو ابن حسان، لمَّا قدم مكة قبل مولده عليه السَّلام بألف عام، وخرج منها إلى يثرب، وكان معه أربع مئة رجل من الحكماء؛ فاجتمعوا وتعاقدوا على ألا يخرجوا منها، فسألهم تُبَّع عن سر ذلك، فقالوا: إنَّا نجد في كتبنا أنَّ نبينا اسمه محمد، هذه دار مهاجره، فنحن نقيم بها لعل أن نلقاه، فأراد تُبَّع الإقامة معهم، ثمَّ بنى لكل واحد من أولئك دارًا، واشترى له جارية، وزوجها منه، وأعطاهم مالًا جزيلًا، وكتب كتابًا فيه إسلامه، وقوله:
شهدت على أحمد أنَّه ... رسول من الله بارئ النسم
في أبيات، وختمه بالذهب، ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه إلى محمد عليه السَّلام إن أدركه، وإلا؛ من أدركه من ولده، وبنى للنبي عليه السَّلام دارًا ينزلها إذا قدم المدينة، فتداور الدار المُلَّاك إلى أن صارت إلى
%ص 578%
أبي أيوب رضي الله عنه، وهو من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب، قال: وأهل المدينة من ولد أولئك العلماء الأربع مئة، ويزعم بعضهم: أنَّهم كانوا الأوس والخزرج، ولمَّا خرج عليه السَّلام؛ أرسلوا إليه كتاب تُبَّع مع رجل يسمى أبا ليلى، فلما رآه عليه السَّلام؛ قال: «أنت أبو ليلى، ومعك كتاب تُبَّع الأول»، فبقي أبو ليلى متفكرًا، ولم يعرف النبيَّ عليه السَّلام، فقال: من أنت؟ فإني لم أرَ في وجهك أثر السحر، وتوهم أنَّه ساحر، فقال: «أنا محمد، هات الكتاب»، فلما قرأه؛ قال: «مرحبًا بتبع الأخ الصالح» ثلاث مرات»، وفي «سير ابن إسحاق»: «أنَّ اسمه تبان أسعد أبو كرب، وهو الذي كسا البيت الحرام»، وفي «مغايص الجوهر في أنساب حمير»: «كان يدين بالزبور»، وفي «معجم الطبراني» مرفوعًا: «لا تسبوا تبَّعًا»، وقال الثعلبي بإسناده إلى سهل بن سعد رضي الله عنه: أنَّه قال: سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لا تسبوا تبعًا؛ فإنَّه كان قد أسلم»، وأخرجه أحمد في «مسنده»: «وتُبَّع _بضمِّ المثناة الفوقية، وفتح الموحدة المشددة، آخره عين مهملة_ لقب لكلِّ من ملَك اليمن؛ مثل كسرى لقب لكل من ملَك الفرس، وقيصر لكل من ملَك الروم»، وقال عكرمة: «إنَّما سُمي تُبَّعًا؛ لكثرة أتباعه، وكان يعبد النار، فأسلم، قال: وهذا تبع الأوسط، وأقام مَلِكًا ثلاثًا وثلاثين سنة، وقيل: ثمانين سنة»، وقال ابن سيرين: «هو أول من كسا البيت وملك الدنيا والأقاليم بأسرها»، وحكى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أنَّه قال: «كان إذا عرض الخيل؛ قاموا صفًّا من دمشق إلى صنعاء»، وهذا بعيد إن أراد به صنعاء اليمن؛ لأنَّ بينها وبين دمشق أكثر من شهرين، والظاهر: أنَّه أراد بها صنعاء دمشق، وهي قرية على باب دمشق من ناحية باب الفراديس، واتصلت حيطانها بالعقيبة، وهي محلة عظيمة بظاهر دمشق، وذكر ابن عساكر في كتابه: «أنَّ تُبَّعًا هذا لمَّا قدم مكة، وكسا الكعبة، وخرج إلى يثرب؛ كان في مئة ألف وثلاثين ألفًا من الفرسان، ومئة ألف وثلاثة عشر ألفًا من الرجالة»، وذكر أيضًا: «أنَّ تُبَّعًا لمَّا خرج من يثرب؛ مات في بلاد الهند»، وذكر السهيلي: «أنَّ دار أبي أيوب هذه صارت بعده إلى أفلح مولى أبي أيوب، فاشتراها منه بعد ما خربت المغيرةُ بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار بعد حيلة احتالها عليه المغيرة، فأصلحه المغيرة، وتصدق بها على أهل بيت فقراء بالمدينة») انتهى.
(وكان) أي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة) فلا يخص مكانًا بصلاته، بل يصلي في أي مكان حضرت الصلاة فيه؛ لأنَّه عليه السَّلام قد جعلت له الأرض كلُّها مسجدًا وطهورًا، فهو من خصائصه دون سائر الأنبياء عليهم السلام، ولأنَّ في ذلك تكثير الشهود للمصلي؛ لأنَّ الأرض تشهد بالصلاة لمن صلى عليها، ففيه: أنَّ المسلم يكره له أن يخصَّ موضعًا للصلاة فيه دون غيره؛ لأنَّ في اختصاصه بموضع مخصوص رياءً وسمعة وغير ذلك؛ فافهم، وهذا أكبر ردٍّ على من اعتاد في زماننا اختيار مكان مخصوص للصلاة وراء الإمام من الشافعية، ويزعم أنَّ الصلاة في الصف الأول خلف الإمام أفضل، فقد حفظ شيئًا وغاب عنه أشياء، فإنَّ الصف الأول من المشرق إلى المغرب، وكله خلف الإمام، ولكنَّه هو يقصد مكانًا مخصوصًا خلف الإمام حتى يقال: إنَّه رجل صالح متعبد، بل هو طالح مخالف للسنة؛ لأنَّ في ذلك رياء وسمعة، وهو مكروه؛ فافهم.
(ويصلي في مرابض الغنم) جمع مِربِض؛ بكسر الموحدة والميم، بينهما راء مهملة ساكنة، آخره معجمة، والمراد: مأواها، وهو عطف على قوله: (وكان يحب) من عطف الخاص على العام؛ يعني: أنَّه كان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ولو كان في مرابض الغنم، وعلى هذا؛ فليس يحب الصلاة في مرابض الغنم إلا إذا أدركته الصلاة فيها، وقد يقال: هو عطف على (أن يصلي) والمعنى: وكان يحب أن يصلي في مرابض الغنم، وسبب محبته؛ لأنَّه قد أدركته الصلاة فيها، فالمحبة ليست للمكان، بل لإقامة الصلاة في وقتها؛ محافظة عليها في أول الوقت، وهذا هو الظاهر، فعلى الأول: فقوله: (ويصلي) مرفوع، وعلى الثاني: منصوب عطفًا على (أن يصلي)، وهو الأظهر؛ فافهم.
(وإنَّه)؛ بكسر الهمزة؛ لأنَّه كلام مستقل بذاته؛ وفي «الفرع»: بفتح الهمزة، والجملة مستأنفة أو حال؛ أي: أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أَمر)؛ بفتح الهمزة؛ مبنيًا للفاعل، وفي رواية: بضمِّها؛ مبنيًّا للمجهول، وعلى هذا؛ يكون الضمير في (إنه) للشأن، قاله إمامنا الشَّارح.
(ببناء المسجد)؛ بكسر الجيم وفتحها؛ وهو الموضع الذي يسجد فيه، وفي «الصحاح»: (المسجَد؛ بفتح الجيم: موضع السجود، وبكسرها: البيت الذي يصلى فيه، ومن العرب من يفتح في كلا الوجهين، وعن الفراء: «سمعت المسجِّد؛ بالكسر والفتح، والفتح جائز وإن لم نسمعه»، وقال الزجاج: «كل موضع يتعبد فيه مسجد») انتهى.
(فأرسل) عليه السَّلام (إلى ملأ) أي: جماعة (من بني النجار) وللأربعة: (إلى ملأ بني النجار) بإسقاط كلمة (من) الجارة؛ هم أشرافهم، (فقال) عليه السَّلام لهم: (يا بني النجار) خطاب لبعضهم، وأطلق عليهم باعتبار الشرف والرئاسة؛ (ثامنوني)؛ بالمثلثة بعدها ألف، فميم، فنون، بينهما واو، من ثامنت الرجل في البيع أثامنه: إذا قاولته في ثمنه وساومته على بيعه وشرائه، كذا قاله إمام الشَّارحين في «شرحه على سنن أبي داود»، وزعم ابن حجر أنَّ معناه: (اذكروا لي ثمنه).
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ليس دالًّا على المقصود؛ لأنَّ ذكر الثمن لا يدل على البيع، فقد يطلب الرجل ثمن متاعه وليس مقصوده بيعه.
وزعم الكرماني أنَّ معناه: بيعونيه بالثمن.
قلت: وفيه نظر أيضًا؛ لأنَّ المساومة ليس معناها طلب البيع، بل المقاولة على الثمن.
وقال صاحب «التوضيح»: (معناه: قدِّروا لي ثمنه؛ لأشتريه منكم، وبايعوني فيه).
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ ذكر قدر الثمن ليس يفيد المقصود، بل قد يذكر قدر الثمن ولا يراد البيع، وهذا معنى ما زعمه ابن حجر، فكأنَّه أخذه من كلام صاحب «التوضيح»، ونسبه لنفسه، وإمامنا الشَّارح قد سرد كلام هؤلاء الثلاثة، وقال: (كل ذلك ليس تفسيرًا لموضوع
%ص 579%
هذه المادة، والتفسير هو الذي ذكرته) انتهى.
قلت: والمعنى: أنِّي أريد الشراء منكم، فقولوا لي عن ثمنه حتى أشتريه منكم.
(بحائطكم) أي: بستانكم؛ لأنَّ الحائط ههنا: البستان، يدل عليه قوله: (وفيه نخل)، وفي لفظ: (كان مربدًا)؛ وهو الموضع الذي يجعل فيه الثمر؛ لينشف.
قلت: والمعنى واحد.
(هذا) وكان موضع مسجده الشريف النبوي، (قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) عزَّ وجلَّ؛ أي: من الله؛ كما في رواية الإسماعيلي، وقد جاء في كلام العرب: أنَّ (إلى) بمعنى (من)؛ للابتداء كقوله:
.... ... .. ... فلا يروي إليَّ ابن أحمرا
أي: مني، وزعم العجلوني (أنَّه يكون قد تمَّ الكلام عند ثمنه، و «إلا» بمعنى «لكن»؛ أي: لكن الأمر فيه إلى الله).
قلت: وهذا تعسف وبعد عن الظاهر؛ لأنَّ قولهم: (والله لا نطلب ثمنه) يرد ما قاله، فكيف يقول: (قد تم الكلام عند ثمنه)؟ فإنَّهم لم يذكروا له ثمنه، ولم يتمَّ الكلام، وكون (إلا) بمعنى (لكن) غير ظاهر؛ لأنَّها لا تأتي بمعناها، على أنَّ الكلام لا يحتاج إلى استعارتها لمعناها؛ فافهم.
وزعم الكرماني أنَّا لا نطلب ثمنه المصرف في سبيل الله، وأطلق الثمن عليه؛ للمشاكلة.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تعسف مع تطويل المعنى، بل المعنى: لا نطلب الثمن إلا من الله، كما في رواية الإسماعيلي، ويجوز أن يكون «إلى» ههنا على معناها؛ لانتهاء الغاية، ويكون التقدير: ننهي طلب الثمن إلى الله، كما في قولهم: أحمد إليك الله، والمعنى: أنهي حمده إليك، والمعنى: لا نطلب منك الثمن، بل نتبرع به، ونطلب الثمن؛ أي: الأجر من الله تعالى، وهذا هو المشهور في «الصحيحين»)، قال: (وذكر محمد بن سعد في «الطبقات» عن الواقدي: «أنه عليه السَّلام اشتراه منهم بعشرة دنانير دفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ويقال: كان ذلك مربدًا ليتيمين، فدعاهما عليه السَّلام، فساومهما؛ ليتخذه مسجده، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك»، وفي «المغازي» لأبي معشر: «فاشتراه أبو أيوب منهما، وأعطاهما الثمن، وبناه مسجدًا، واليتيمان هما: سهل وسهيل ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو من بني النجار، كانا في حجر أسعد بن زرارة، وقيل: معاذ بن عفراء، وقال معاذ: يا رسول الله؛ أنا أرضيهما، فاتخذه مسجدًا، وقال: إنَّ بني النجار جعلوا حائطهم وقفًا، فأجازه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم»)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قال ابن بطال: (واستدل بهذا على صحة وقف المشاع، وقال: وقف المشاع جائز عند مالك، وهو قول أبي يوسف والشافعي خلافًا لمحمد بن الحسن) انتهى.
قلت: وقف المشاع الذي لا تمكن قسمته؛ كالحمام والبئر جائز عند الإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن، واختلفا في الممكن قسمته، فأجازه الإمام أبو يوسف، وبه أخذ أئمة بلخ، وأبطله الإمام محمد، فلو وقف أحد الشريكين حصته من أرض؛ جاز، كما في «الإسعاف»، فما زعمه ابن بطال فيه نظر؛ لأنَّ ما ذكره ليس على إطلاقه، ومع هذا قال إمام الشَّارحين: (والصحيح: أنَّ بني النجار لم يوقفوا شيئًا، بل باعوه بالثمن، ووقفه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وجعله مسجدًا، فليس هو وقف مشاع) انتهى.
(فقال) ولابن عساكر: (قال) (أنس) هو ابن مالك الأنصاري: (فكان فيه) أي: الحائط المذكور (ما أقول لكم)، وكلمة (ما) موصولة؛ بمعنى: الذي، والعائد محذوف تقديره: أقوله لكم، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة (قبور المشركين)؛ بالرفع بدل أو بيان لقوله: (ما أقول لكم)، كذا اقتصر عليه إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: ويجوز أن يكون مرفوعًا على أنَّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو قبور، ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: قبور المشركين فيه، وزعم العجلوني أنَّه يجوز نصبه بـ (أعني).
قلت: الرواية بالرفع، فلا يجوز التجاوز عنها، أمَّا من حيث العربية؛ فيجوز النصب في مثل هذا التركيب، أما هنا؛ فلا يجوز.
(وفيه خرب)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الراء المهملة، بعدها موحدة، جمع خربة، كما يقال: كلم وكلمة، وهذا هو الرواية المعروفة، قاله أبو الفرج ابن الجوزي، وقال أبو سليمان: (حدثناه: بكسر الخاء المعجمة، وفتح الراء المهملة، جمع خربة؛ كـ (عنب وعنبة)؛ وهو ما يخرب من البناء في لغة بني تميم، وهما لغتان صحيحتان مرويتان)، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: الأولى رواية الأكثرين ههنا، وكذا ضبطه في «سنن أبي داود»، ويجوز أن يكون اسم جمع، والثانية رواية أبي ذر، وزعم الخطابي: (لعل صوابه: خُرب _بضمِّ الخاء المعجمة_ جمع خربة؛ وهي الخروق في الأرض، إلا أنَّهم يقولونها في كل ثقبة مستديرة في أرض أو جدار)، قال: ولعل الرواية جرْف _بالجيم_ جمع جِرِفَة، وهي جمع جُرُف، كما يقال: حرج وحرجة، وترس ترسة، وأبين من ذلك إن ساعدته الرواية أن يكون حَدَبًا جمع حَدَبَة _بالمهملة_ وهو الذي يليق بقوله: (فسويت)، وإنَّما يسوى المكان المحدودب أو موضع من الأرض فيه خروق وهدوم، فأمَّا الخرب؛ فإنَّها تعمر ولا تسوى.
قلت: وهذا غير ظاهر، فإنَّ الخرب هو ما يخرب من البناء، كما مر، ولا ريب أنَّ الخرب تبنى وتعمر وتسوى حتى تصير مستوية؛ كالأرض الملسة، ولهذا اعترضه صاحب «المصابيح»، فقال: (وما ذكره ليس بشيء؛ لأنَّ خربًا لا يمنع تسويتها؛ لاحتمال أن يكون فيها بناء تهدم، ونقض منع من اصطحاب الأرض واستقرائها، ولا يدفع الرواية الصحيحة بما قاله) انتهى.
واعترضه أيضًا القاضي عياض قال: لا حاجة إلى هذا التكليف، فإنَّ الذي ثبت في الرواية صحيح المعنى، كما أمر بقطع النخل؛ لتسوية الأرض؛ أمر بالخرب، فرفعت رسومها، وسويت مواضعها؛ لتصير جميع الأرض مبسوطة مستوية للمصلين، وكذلك فعل بالقبور، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» بسند صحيح: (فأمر بالحرث، فحرث)، وهو الذي
%ص 580%
زعمه ابن الأثيرأنَّه روي بالحاء المهملة والثاء المثلثة، يريد: الموضع المحروث للزراعة، انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وفي رواية الكشميهني: «حَرْث»؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء بعدها مثلثة، ولكن قيل: إنه وهم) انتهى.
قلت: الذي قال: (إنَّه وهم) ابن حجر، وهو من انتهاء الجهالة إليه، وعدم تعرفه في المعاني، فإنَّ هذه الرواية هي رواية حماد بن سلمة عن أبي التياح، وكذلك هي في رواية ابن أبي شيبة، كما سبق قريبًا، والمعنى عليه صحيح؛ لأنَّ الحرث؛ بالمهملة والمثلثة: الموضع المحروث للزراعة، كما قاله ابن الأثير، فيكون المراد: أنَّه أمر بتسوية موضع الحرث وبسطها متسوية للمصلين، وقال ابن الأثير: (قد روي بالحاء المهملة والمثلثة) كما مر، وعلى هذا؛ فلا وهم في هذه الرواية، إنَّما الواهم ابن حجر، وقد علل كلامه بأنَّ رواية البخاري عن عبد الوارث عن أبي التياح لا من رواية حماد عنه.
قلت: وهذا تعسف وبُعْدٌ عن الظاهر، فإنَّه لا يلزم من رواية المؤلف عن عبد الوارث أنَّه تكون رواية حماد عنه وهمًا [3]؛ لأنَّ الشيخ واحد وهو أبو التياح، فروى عنه حماد: أنَّه بالمهملة والمثلثة، وروى عنه عبد الوارث: بالمعجمة والموحدة، وهذا لا مانع منه، فيحتمل أنَّ عبد الوارث روى عنه هكذا وهكذا، فأخذ الكشميهني بالمهملة والمثلثة، وهذا ليس فيه وهم، وقد نقل عبارته العجلوني، ولم يعترضه؛ لأنَّه يتعصب له دائمًا أبدًا، وإمامنا الشَّارح لم يعترضه من أدبه وحفظه وعلمه بأنَّ الرواية ثابتة، فلا حاجة إلى ردِّ ما يقال فيها؛ فافهم.
(وفيه نخل) أي: في الحائط المذكور، وزعم العجلوني أي: في الخرب.
قلت: وهو تعسف بعيد؛ لأنَّ الخرب لا يزرع عليها نخل ولا غيره، فهي محتاجة للتعمير والبسط، فكيف قال هذا القائل هذا الكلام الذي هو صادر عن غير تأمُّل؟
(فأمر النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بقبور المشركين) متعلق بـ (أمر)؛ يعني: التي في الحائط، (فنبشت)؛ أي: حفرت وغُيِّبت عظامها، وزعم العجلوني أي: أخرجت العظام ورميت في غير موضع.
قلت: هذا بإطلاقه ممنوع، فإن كان مراده أنَّ العظام أخرجت ودفنت في موضع آخر؛ فمسلم أنَّه جائز، وإن كان مراده إخراجها ورميها غير مدفونة؛ فغير جائز، والظاهر: أنَّ هذا مراده؛ لأنَّ قوله: (ورُميت) معناه: أُلقيت غير مدفونة، وهذا غير جائز؛ لأنَّ أجزاء الآدمي ولو كافرًا محترمةٌ، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، وإكرامه: دفنه تحت الأرض، كما لا يخفى، (ثم) أمر عليه السَّلام (بالخِرَب)؛ بكسر المعجمة وفتح المهملة، أو بفتح المعجمة وكسر المهملة، (فسُوِّيت)؛ يعني: ألقي عليها التراب وغيره حتى بسطت، وسُطِّحت، وصارت سهلة، وليس معناه: أزيل ما كان فيها، كما زعمه العجلوني؛ لأنَّ الخرب خروق وفرج في الأرض، وليس فيها شيء حتى يزال، بل تحتاج إلى وضع تراب أو مدر حتى تبسط، كما لا يخفى؛ فافهم.
(و) أمر عليه السَّلام (بالنخل، فقطع) أي: من أصله حتى لا ينبت، فيؤذي المسجد، (فصفوا النخل قبلة المسجد) من صففت الشيء صفًّا: إذا وضعته مصفوفًا؛ أي: جعلوا موضع النخل جهة القبلة للمسجد، وقيل: المعنى: جعلوا النخل في جهة قبلة المسجد.
قال إمام الشَّارحين: (وفي «مغازي ابن أبي بكر»، عن ابن إسحاق: جعل قبلة المسجد من اللَّبِن، ويقال: من حجارة منضودة بعضها على بعض)، وسيأتي في «الصحيح»: (أن المسجد كان على عهده عليه السَّلام مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، ولم يزد فيه أبو بكر شيئًا ... )؛ الحديث.
قال إمام الشَّارحين: ولعل المراد بالقبلة: جهتها لا القبلة المعهودة اليوم، فإنَّ ذلك لم يكن ذلك الوقت، وورد أيضًا: أنَّه كان في موضع المسجد الغرقد، فأمر أن يقطع، وكان في المربد قبور جاهلية، فأمر بها عليه السَّلام، فنُبشت، وأمر بالعظام أن تُغيَّب، وكان في المربد ماء مستنجل، فسيَّروه حتى ذهب، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مئة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك، فهو مُرَبع، ويقال: كان أقلَّ من المئة، وجعلوا الأساس قريبًا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللَّبِن، وجعل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ينقل معهم اللَّبِن والحجارة بنفسه، ويقول:
~ ... هذا الجمال لا جمال خيبر [4] ... هذا أبر ربنا وأطهر
وجعل عليه السَّلام قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابًا في مؤخره، وبابًا يقال له: باب الرحمة؛ وهو الباب الذي يدعى باب العاتكة، والثالث: الذي يدخل منه عليه السَّلام؛ وهو الباب العثماني، وجعل طول الجدار قامة وبسطة، وعُمُده الجذوع، وسقفه جريدًا، فقيل له: ألا تسقفه، فقال: «عريش كعريش موسى خَشيبات»، وتمام الأمر أعجل من ذلك، وسيجيء في الكتاب عن ابن عمر أنَّ المسجد كان على عهده عليه السَّلام مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعُمُده خشب [5] النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهده عليه السَّلام باللبن والجريد، وإنَّما دعمه خشبًا، ثمَّ غيره عثمان بن عفان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة، وجعل عمده حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وفي «الإكليل»: (ثمَّ بناه الوليد بن عبد الملك في إمرة عمر بن عبد العزيز)، وفي «الروض»: (ثمَّ بناه المهدي، ثم زاد فيه المأمون، ثمَّ لم يبلغنا تغيره إلى الآن) انتهى.
قلت: وقد بلغني تغيره، وهو أنَّ السلطان عبد المجيد بن محمود العثماني قد زاد فيه زيادة كثيرة، وبناه بالحجارة المرمر، وفتح له بابًا سماه: الباب المجيدي، وإذا شاء الله تعالى أن يتفضل عليَّ بالزيارة؛ نحقق ذلك بمنه تعالى وكرمه.
(وجعلوا عضادتيه الحِجَارة)؛ بكسر الحاء
%ص 581%
المهملة وفتح الجيم، وعضادتيه: تثنية عِضادة _بكسر العين المهملة، وبالضاد المعجمة المفتوحة_ قال أبو عمرو: (هي جانب الحوض)، وقال صاحب «العين»: (أعضاد كل شيء: ما يشدده من حواليه من البناء وغيره مثل عضاد الحوض: وهي صفائح من حجارة يُنصبن على شفيرة، وعضادتا الباب: ما كان عليهما يطبق الباب؛ إذا أصفق)، وقال الأزهري: (عضادتا الباب: الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه وشماله)، زاد القزار: (فوقهما العارضة) انتهى.
قلت: والمعروف: أنَّ العضادة هي التي على يمين الباب، وأخرى عن يساره، يعلوهما قوس يُبنون من الحجارة، فالباب مركب منهما، ولكنَّ ظاهر اللفظ يدلُّ على أنَّهم جعلوا عضادتي المسجد حجارة، وهما حائطان كل واحد منهما بموضع واحد مربع البناء عال يوضع عليهما الأقواس؛ لأجل السقف؛ فافهم.
(وجعلوا ينقلون الصخر)؛ بالمعجمة: الحجارة الكبار، وضمائر الرفع السابقة واللاحقة ههنا ترجع للصحابة رضي الله عنه (وهم يرتجزون)؛ أي: ينشدون أشعار الرجز؛ تنشيطًا لنفوسهم؛ ليسهل عليهم العمل، والرجز: ضَرْبٌ من الشعر، وقد رجز الراجز وارتجزه.
(والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يرتجز معهم) والجملة حالية، وإنَّما كان يفعل ذلك؛ تطييبًا لخاطرهم وتنشيطًا لعملهم (وهو) أي: النبيُّ الأعظم عليه السَّلام (يقول) والجملة أيضًا حالية: (اللهم) أي: يا الله، وقال الكوفيون: (أصله: الله آمنا بخير؛ أي: اقصدنا، فخُفِف، فصار: اللهم، وقال البصريون: (اللهم: دعاء لله بجميع أسمائه؛ لأنَّ الميم تُشعِر بالجمع، كما في «عليهم»).
قلت: وما قاله الكوفيون هو الظاهر؛ لأنَّ أصله عندهم: الله آمنا، فهو دعاء بالخير من الله تعالى، وما زعمه البصريون ليس بشيء؛ لأنَّه ليس فيه ما يدل على أنَّه دعاء بجميع أسماء الله تعالى؛ لأنَّ الميم للتفخيم لا للجمع، كما زعموا، يدل عليه أنَّ أصله: يا الله، فحذفت ياء، وعُوِّض عنها [6] الميم؛ للتفخيم، وليدل على المحذوف؛ فافهم.
(لا خير إلا خير الآخرة)، وفي رواية أبي داود: (اللهم؛ إنَّ الخير خير الآخرة) (فاغفر للأنصار)؛ كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (فاغفر الأنصار)؛ بحذف اللام، ووجهه: أن يضمن (اغفر) معنى (استر) أو (ارحم)، وفي رواية أبي داود: (فانصر الأنصار)، والأنصار: جمع نصير؛ كـ (الأشراف): جمع شريف، والنصير والناصر: من نصره الله على عدوه، ينصره نصرًا، والاسم: النصرة، وسموا بذلك؛ لأنَّهم أعانوا النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على أعدائه، وشدوا منه، وهم الأوس والخزرج، كذا في «عمدة القاري».
(والمهاجرة) أي: الذين هاجروا من مكة إلى المدينة النبوية؛ محبة فيه عليه السَّلام، وطلبًا للآخرة، والهجرة في الأصل: من الهجر ضد الوصل، وقد هجره هجرًا وهجرانًا، ثمَّ غلب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية، يقال: منه هاجر مهاجرة، قاله إمام الشَّارحين.
فإن قلت: الشِّعر حرام على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بنص القرآن، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، فكيف كان ينشد الرجز من الشعر مع أصحابه؟ كما في حديث الباب، وقوله: يوم حنين وغيره:
هل أنتِ إلا إصبع دَمِيت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وقوله: ...
~أنا النبيُّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وما هذا إلا يرد على الآية الكريمة.
قلت: لا يرد على الآية شيء من ذلك، فإنَّ العروضيين [7] وأهل الأدب اتفقوا على أنَّ الرجز لا يكون شعرًا، وعليه يحمل ما جاء عنه عليه السَّلام من ذلك، كذا أجاب إمامنا الشَّارح.
قلت: ويدل عليه أنَّ الخليل قد أنكر كون الرجز من الشعر، وزعم القرطبي أنَّ الصحيح في الرجز: أنَّه من الشعر، وإنَّما أخرجه من الشعر من أشكل عليه إنشاده عليه السَّلام إياه، فقال: (لو كان شعرًا؛ لما عَلِمَه)، قال: (وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ من أنشد القليل من الشعر، أو قاله، أو تمثل به على وجه الندور؛ لم يستحق اسم شاعر، ولا يقال فيه: إنَّه يعلم الشعر ولا ينسب إليه) انتهى.
قلت: وهذا ليس بشيء، فإنَّ من أنشد الشعر ولو قليلًا يقال: إنَّه شاعر يعلم الشعر، وكذلك من قاله، أو تمثل به ولو كان على وجه الندور، فيقال: إنَّه شاعر، ويدلُّ عليه ما قاله الحسن بن أبي الحسن: أنشد عليه السَّلام: «كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا»، فقال أبو بكر: يا نبي الله؛ إنَّما قال الشاعر:
هريرة ودع إن تجهزت غاديًا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنَّك رسول الله، يقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}، فهذا يدلُّ على أنَّ إنشاد الشعر ولو قليلًا يقال لمنشده شاعر؛ بدليل أنَّه عليه السَّلام لم يقل ذلك على الوجه الموزون، بل غيره، كما لا يخفى، وأيضًا فإنَّه عليه السَّلام قد أنشد قول طرفة، فقال:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك من لم تزوده بالأخبار
فقال أبو بكر: يا رسول الله؛ لم يقل هكذا، وإنَّما قال:
............. ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقال: أشهد أنَّك رسول الله، وأنَّك لست بشاعر، ولا تحسنه، وهذا يردُّ أيضًا على من زعم أنَّ البيت الواحد ليس بشعر؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لقاله عليه السَّلام على طبق ما قاله الشاعر، ولم يغيره، فهذا يدلُّ على أنَّ من أنشد الشعر ولو بيتًا واحدًا؛ يقال له: إنَّه شاعر، وقال ابن التين: (لا ينطلق على الرجز شعر، وإنَّما هو كلام مسجع؛ بدليل أنَّه يقال لصانعه: راجز، ولا يقال: شاعر، ويقال: أنشد الرجز، ولا يقال: أنشد شعرًا، وقيل: إنَّما قاله الشَّارع ليس برجز ولا موزون).
واختلف هل يحل له الشعر؟ فعلى القول بنفي الجواز: هل يحكي بيتًا واحدا؟ فقيل: إنه لا يتمه إلا متغيرًا، ويدل عليه
%ص 582%
ما قدمناه، ويقال أيضًا: إنَّه عليه السَّلام في حديث الباب قرأهما بالتاء المتحركة؛ خروجًا عن وزن الشعر؛ لأنَّه لو قرئ البيت بوزن الشعر؛ ينبغي أن يوقف على قوله: (الآخرة) و (المهاجرة)، وقال الأخفش: (قوله: «أنا النبي لا كذب» ليس بشعر)، وقال الخليل: (إنَّ ما جاء من السجع على جزءين لا يكون شعرًا)، وروي عنه: (أنَّه من منهوك الرجز)، قيل: لا يكون منهوك الرجز إلا بالوقف على الباء من قوله: (لا كذب)، ومن قوله: (عبد المطلب)، ولم يعلم كيف قاله عليه السَّلام، قال ابن العربي: (والأظهر من حاله أنَّه قال: «لا كذب»؛ برفع الباء، وبخفض الباء من «عبد المطلب» على الإضافة)، قال النحاس: (إنَّما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب؛ لم يكن شعرًا؛ لأنَّه إذا فتح الباء من البيت الأول، أو ضمها، أو نونها، وكسر الباء في الثاني؛ خرج عن وزن الشعر)، وأمَّا قوله: «هل أنتِ إلا إصبع دميت»؛ فهو من بحر السريع، وذلك لا يكون إلا إذا كسرت التاء من «دميت»، فإن سكن؛ لم يكن شعرًا بحال؛ لأنَّ هاتين الكلمتين على هذه الصفة لا يكون فعولًا، ولا مدخل لفعول في بحر السريع، والظاهر: أنَّه عليه السَّلام قالها ساكنة التاء، أو متحركة التاء من غير إشباع، وهذا لا يكون شعرًا، ويقال أيضًا: إنَّ إصابة الوزن أحيانًا لا يوجب أنَّه يعلم الشعر، فقد يأتي ذلك في آيات القرآن، وفي كل كلام، وليس ذلك شعرًا ولا معناه؛ كقوله تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وقوله تعالى: {نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [الصف: 13]، وقوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، وقد ذكر ابن العربي منها آيات أخر، وأخرجها عن الوزن، وقال الزجاج: (معنى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}؛ أي: ما جعلناه شاعرًا، وهذا لا يمتنع أن ينشد شيئًا من الشعر)، قال النحاس: (فإنَّما أخبر الله تعالى عنه أنَّه ما علمه الله الشعر، ولم يخبر أنَّه لا ينشد الشعر)، قال القرطبي: (فإنشاد الشعر على وجه الندور وإضافة القافيتين من الرجز وغيره لا يوجب أن يكون قائلها عالمًا بالشعر باتفاق العلماء، كما أنَّ من خاط شيئًا لا يقال: إنَّه خياط)، وقال بعضهم: (أجمع أهل اللغة على من قال قولًا موزونًا ولا يقصد به الشعر؛ فليس بشعر، وإنَّما وافق الشعر، وإنَّما الذي نفاه الله عنه؛ فهو العلم بالشعر، وأصنافه، وأعاريضه، وقوافيه، والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفًا بذلك بالاتفاق)، قال الزجاج: (ومعنى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}؛ أي: ما يتسهل له قول الشعر، لا الإنشاد)، ورو ى ابن القاسم عن مالك: (أنَّه سئل عن إنشاد الشعر، فقال: لا تكثرن به، فمن عيبه أنَّ الله يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ})، وروي أنَّ المأمون قال لأبي علي المنقري: (بلغني أنَّك أُمِّي، وأنَّك لا تقيم الشعر، وأنَّك تلحن، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أمَّا اللحن؛ فربما سبق لساني منه شيء، وأمَّا الأمية وكسر الشعر؛ فقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يكتب ولا يقيم الشعر، فقال له: سألتك عن ثلاثة عيوب فيك، فزدتني رابعًا، وهذا الجهل يا جاهل أنَّ ذلك كان للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فضيلة؛ لئلا تدخل الشبهة على من أُرْسِل إليه، فيظنَّ أنَّه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة، وإنما منع منه عليه السَّلام؛ لنفي الظِنَّة، لا لعيب في الشعر والكتابة) انتهى.
وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق ذلك.
الثاني: فيه جواز الصلاة في مرابض الغنم، لكن مع الكراهة.
الثالث: فيه جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع إذا كانت داثرة.
الرابع: فيه ندب ملاقاة القادم من السفر والمشي معه؛ إكرامًا له.
الخامس: فيه جواز قطع الأشجار المثمرة؛ للضرورة والمصلحة، إمَّا لاستعمال خشبها، أو ليغرس مكانها غيرها، أو لخوف سقوطها على شيء تتلفه، أو لاتخاذ موضعها مسجدًا، وكذلك قطعها في بلاد الكفار إذا لم يُرجَ فتحها؛ لأنَّ فيه نكاية وغيظًا لهم وإرغامًا.
السادس: فيه جواز الارتجال، وقول الأشعار، ونحوها؛ لتنشيط النفوس، وتسهيل الأعمال، والمشي عليها.
السابع: فيه أنَّ القبر إذا لم يكن فيه شيء من أثر الميت، ومن ترابه المختلط بالصديد؛ تجوز الصلاة فيه، لكن مع الكراهة، أمَّا إذا بسط عليه شيء حائل؛ فلا كراهة، بل خلاف الأولى.
الثامن: فيه جواز نبش قبور المشركين؛ لأنَّه لا حرمة لهم.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: كيف يجوز إخراجهم من قبورهم، والقبر مختص بمن دفن فيه، قد حازه، فلا يجوز بيعه، ولا نقله؟ قلت: تلك القبور التي أمر عليه السَّلام بنبشها لم يكن ملكًا لمن دفن فيها، بل لعلها كانت مغصوبة، ولهذا باعها مُلاكها، وعلى تقدير التسليم أنَّها حبست، فهو ليس بلازم، وإنَّما اللازم تحبيس المسلمين لا الكفار، ولهذا قالت الفقهاء: إذا دفن المسلم في أرض مغصوبة، ولم يرض صاحبها؛ يجوز إخراجه فضلًا عن المشركين، وقد يجاب: بأنَّه دعت الضرورة والحاجة إلى نبشهم، فجاز ذلك، فإن قلت: هل يجوز في هذا الزمان نبش قبور الكفار؛ ليتخذ مكانها مساجد؟ قلت: أجاز ذلك قوم محتجين بهذا الحديث، وبما رواه أبو داود: أنَّه عليه السَّلام قال: «هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بالحرم يدفع عنه، فلما خرج؛ أصابته النقمة، فدفن بهذا المكان، وأنَّه دفن معه غصن من ذهب، فابتدر الناس، فنبشوه، فاستخرجوا الغصن»، قالوا: فإذا جاز نبشها لطلب المال؛ فنبشها للانتفاع بمواضعها أولى، وليست حرمتهم موتى بأعظم منها وهم أحياء، بل هو مأجور في ذلك، وإلى جواز نبش قبورهم للمال ذهب الإمام الأعظم والكوفيون والشافعي وأشهب؛ لحديث الباب، وقال الأوزاعي: «لا يفعل؛ لأنَّه عليه السَّلام لما مر بالحِجْر؛ قال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين»، فنهى أن يُدخل عليهم بيوتهم، فكيف قبورهم؟»، وقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي: «قد أباح دخولها على وجه البكاء»، فإن قلت: هل يجوز أن يُبنى المساجد على قبور المسلمين؟ قلت: إذا دثرت المقبرة، ولم يكن شيء من أجزاء الموتى يجوز أن تبني مسجدًا، قال ابن القاسم: «لو أنَّ مقبرة من مقابر المسلمين عفت، فبنى قوم عليها مسجدًا؛ لم أرَ بذلك بأسًا؛ لأنَّ المقابر كلها وقف من أوقاف المسلمين؛
%ص 583%
لدفن موتاهم، لا يجوز لأحد أن يملكها، فإذا دَرَست، واستغني عن الدفن فيها؛ جاز صرفها إلى المسجد؛ لأنَّ المسجد أيضًا وقف من أوقاف المسلمين لا يجوز تمليكه لأحد، فمعناهما على هذا واحد» [8]، وذكر أصحابنا: أنَّ المسجد إذا خرب ودثر، ولم يبق حوله جماعة، والمقبرة إذا عفت ودثرت؛ تعود ملكًا لأربابها، فإذا عادت ملكًا؛ يجوز أن يبني موضع المسجد دارًا، وموضع المقبرة مسجدًا، وغير ذلك، فإذا لم يكن لها أرباب؛ تكون لبيت المال) انتهى.
قلت: والظاهر أنَّ هذا مذهب مالك، وفيه نظر؛ لأنَّ المسجد، ولو خرب؛ يبقى مسجدًا إلى يوم القيامة؛ لأنَّ الواقف وقفه على جهة برٍّ لا تنقطع أبدًا، فلا يجوز بيعه ولو خرب؛ لأنَّ الوقف إذا حكم به الحاكم؛ خرج عن مِلك صاحبه، ولا يعود إليه أبدًا.
فإذا خرب المسجد ودثر؛ قال الإمام الناطفي: (يؤاجر قطعة منه بقدر ما ينفق عليه) كذا في «الظهيرية» الفتاوى المشهورة، وقال في «جواهر الفتاوى»: (إذا خرب المسجد، وتفرق أهله، وبعض المتغلبة قد يستولوا على خشبه؛ فإنَّه يجوز أن يباع الخشب بإذن القاضي، ويمسك الثمن، ويصرفه إلى بعض المساجد، أو إلى هذا المسجد)، وقال السيد أبو شجاع: (رباط خَرِب، وهو في بعض الطرق، ولا تنتفع به المارة، وله أوقاف، قال: يجوز صرفها إلى رباط آخر ينتفع به المارة) انتهى.
وعلى هذا المقبرة؛ فإنَّه يؤاجر منها قطعة، ويصرف عليها؛ لأنَّ الوقف يبقى أبدًا مدى الدهر؛ فافهم، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين رضي الله عنه.
==================
[1] في الأصل: (مليء)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (كالعزب والزوج)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (وهم)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (خبير)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (الخشب)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (عنه).
[7] في الأصل: (العرضيين)، والمثبت هو الصواب.
(1/717)
(49) [باب الصلاة في مرابض الغنم]
هذا (باب) حكم (الصلاة في مرابض الغنم) جمع مَربِض؛ بفتح الميم وكسر الموحدة؛ لأنَّه من ربض يربِض؛ مثل ضرب يضرِب، يقال: ربض في الأرض: إذا ألصق بها وأقام ملازمًا لها، واسم المكان: مربض؛ وهو مأوى الغنم، وربوض الغنم مثل بروك الإبل، وفي «الصحاح»: (ربوض الغنم، والبقر، والفرس، والكلب مثل بروك الإبل، وجثوم الطير).
والغنم: اسم جنس جمعي؛ كالإبل، يقع على الذكر والأنثى، وإذا صغرتها؛ قلت: غنيمة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لازم لها، انتهى، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وزعم العجلوني أنَّ في بعض الأصول: (في مواضع) بدل (مرابض).
قلت: والمشهور: الأول، والله أعلم بصحة ذلك؛ لأنَّه لم يَعْزُه لأحد من الرواة، فيحتمل أنَّه تحريف من النساخ، وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر، فزعم أنَّ (مِربض)؛ بكسر الميم، قال إمام الشَّارحين: (وهو غلط منه) انتهى.
وانتصر العجلوني لابن حجر تعصبًا، فزعم أنَّه يتكلف له بجعله اسم آلة تجوزًا؛ كالمنبر، فلا غلط، انتهى.
قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّ مرابض الغنم: مأواها ومواضعها، وليس آلة للصلاة فيها، كما زعمه، فإنَّ اسم الآلة ما يعمل باليد؛ كالملقط والقدوم، وهذا ليس كذلك، ولا حاجة إلى هذا التكليف الغير الموافق للأصول الصرفية، وقوله: (تجوُّزًا) ممنوع، فإنَّه إذا أمكن العمل بالحقيقة؛ لا يجوز العمل بالمجاز عند المحققين، وقوله: (كالمنبر) ممنوع أيضًا، فإنَّه آلة لرُقيِّ الخطيب عليه، وليس هو مثل المربض، وبينهما فرق بيِّن [1]، وعلى كل حال؛ فما قالاه غلط وفاسد، والعناد بعد ذلك مكابرة؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ المذكور في هذا الباب بعينه طرفٌ من الحديث المذكور في الباب السابق، لكنَّ المذكور هناك أنَّه عليه السَّلام كان يحب الصلاة حيث أدركته إذا دخل وقتها، سواء كان في مرابض الغنم أو غيرها، والمذكور ههنا أنَّه كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبني المسجد) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (فرقًا بينًا)، وليس بصحيح.
%ص 584%
==================
(1/718)
[حديث: كان النبي يصلي في مرابض الغنم]
429# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سليمان بن حرب)؛ بالحاء المهملة والراء المهملة، ضد الصلح، هو الأزدي، الواشحي، البصري، قاضي مكة (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج البصري، (عن أبي التيَّاح)؛ بفتح الفوقية، وتشديد التحتية، آخره مهملة، هو يزيد بن حميد الضبعي، البصري، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك)، هو الأنصاري أنه (قال: كان) هي للدوام والاستمرار (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي) أي: الفرائض، والواجبات، والسنن، وجملة (يصلي) محلها نصب خبر كان، و (النبيُّ)؛ بالرفع اسمها (في مرابض الغنم)؛ بفتح الميم وكسر الموحدة؛ أي: مأواها، وهو متناول لما كان بعد بناء مسجده أو قبله، ويدل عليه التعبير بـ (كان) الدالة على الدوام والاستمرار، ففيه دليل على طهارة بول مأكول اللحم وروثه؛ لأنَّ المرابض لا تخلو عن ذلك، فدلَّ على أنَّهم كانوا يباشرونها في صلاتهم، فلا تكون نجسة، وهذا قول الإمام محمد بن الحسن، ومالك، والشعبي، والنخعي، وعطاء، والزهري، والثوري، وابن سيرين، وابن المنذر، وابن حبان، وابن خزيمة، والرُّوياني، والإصطخري من الشافعية، ويدلُّ لهم ما في قصة رعل وذكوان: أنَّهم شربوا أبوال الإبل بأمره عليه السَّلام لهم.
وذهب الإمام الأعظم والإمام أبو يوسف رضي الله عنهما إلى أنَّ أبوال مأكول اللحم وروثه نجس نجاسة مخففة؛ حيث يعفى عن ربع الثوب المصاب منها، والدليل عليه: أنَّه عليه السَّلام صلى في مرابضها، ولا ريب أنَّ من صلى فيه يتلوث منها بشيء [1]، وهو قدر ربع الثوب، فهو معفوٌّ عنه، وما زاد على ذلك يؤاخذ به.
وذهب الشافعي إلى أنَّ الأبوال كلها نجسة.
قال ابن المنذر: (أجمع كل من يُحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي، فإنَّه قال: «لا أكره الصلاة في مرابض الغنم إذا كان سليمًا من أبعارها وأبوالها»).
ورُدَّ بأنَّه عليه السَّلام قد صلى في مرابضها وهي لا تخلو عن أبعارها وأبوالها.
وقد صلى فيها ابن عمر، وجابر وأبو ذر، والزبير، والحسن، وابن سيرين وغيرهم، وأجازوا الصلاة فيها، فدلَّ ذلك على طهارة أبعارها وأبوالها.
واعترض بأنَّه عليه السَّلام كان يصلي فيها على
%ص 584%
حصير ونحوه، فالحديث محمول على وجود الحائل.
وردَّ بأنَّ الأصل عدم الحائل لغة وعرفًا وشرعًا، وعادتهم الصلاة على الأرض بدون حائل؛ لأنَّه إذ ذاك لم يكن طنافس ولا سجاجيد.
واعترض بأنَّها شهادة نفي، وهي غير مقبولة، على أنَّه قد ثبت في «الصحيحين» عن أنس: (أنَّه عليه السَّلام صلى على حصير في دارهم).
ورُدَّ بأنَّ شهادة النفي غير مقبولة؛ إذا لم يكن النفي متواترًا، أما هنا؛ فقد تواترت الأخبار عنهم أنَّه لم يكن حائل، وحديث أنس مخصوص بدارهم، والدار غير مربض الغنم، فلا يردُّ، فافهم.
(ثم سمعته) أي: قال أبو التيَّاح: سمعت أنس بن مالك، فيكون الضمير عائدًا على أنس، وزعم ابن حجر أنَّ الضمير فيه يعود على أبي التياح، ويكون القائل: (ثم سمعته) هو شعبة، انتهى.
قلت: وقد ردَّه إمام الشَّارحين، ثم قال: (القائل هو أبو التيَّاح، سمع من أنس أولًا بالإطلاق، ثم سمع بقيد ... إلى آخر كلامه)، وقد أنصف العجلوني ههنا؛ حيث ردَّ كلام ابن حجر فقال: (هو خلاف الظاهر) انتهى.
قلت: وهذا هو ظاهر اللفظ، فإنَّ ابن حجر قد صدر منه ذلك من غير تأمل، فإنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور كما لا يخفى، وأقربه أنس، والقائل أبو التياح؛ لأنَّه تابعي؛ فافهم، قال إمام الشَّارحين: (يعني: أبو التياح يقول: ثمَّ سمعت أنسًا).
(بعدُ): بالبناء على الضمَّ؛ لنيَّة معنى الإضافة إليه؛ أي: بعد القول الأوَّل وهو: (كان يصلي في مرابض الغنم)، (يقول) أي: ثانيًا (كان) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يُصلي في مرابِض الغنم قبل أن يُبنى) بضمِّ التحتية أو بفتحها على البناء للمفعول أو للفاعل (المسجد)؛ أي: النبوي، فأشار بذلك إلى قوله أوَّلًا: مطلق، وقوله ثانيًا: مقيَّد، فالحكم أنَّهما إذا وردا سواء يحمل المطلق على المقيد، عملًا بالدليلين، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني: أنَّه يفهم من هذه الزيادة، أنَّه عليه السَّلام لم يصلِّ في مرابض الغنم بعد بناء المسجد، فيكون ذلك المطلق مقيدًا بهذا؛ للقاعدة الأصولية أنَّ المطلق يحمل على المقيد تقدم أو تأخر؛ عملًا بالدليلين؛ فليحفظ.
وزعم ابن حزم أنَّ هذا الحديث منسوخ؛ لأنَّ فيه: (أنَّ ذلك كان قبل أن يبنى المسجد) فاقتضى أنَّه كان في أول الهجرة.
ورُدَّ عليه بما صحَّ عن عائشة: (أنَّه عليه السَّلام أمرهم ببناء المساجد في الدور، وأن تُطيب وتُنظف)، رواه أبو داود، وأحمد وغيرهما، وصححه ابن خزيمة، ولأبي داود نحوه من حديث سمرة، وزاد: (وأن يطهرها)، قال: وهذا بعد بناء المسجد.
وما ادعاه من النسخ يقتضي الجواز، ثم المنع.
ويرُدَّ هذا: إذنه عليه السَّلام في الصلاة في مرابض الغنم، يدل عليه ما في «صحيح ابن حبان»: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن لم تجدوا إلا مرابض الغنم، وأعطان الإبل؛ فصلوا في مرابض الغنم» قال الترمذي والطوسي: حديث حسن صحيح، وعن أبي زرعة مرفوعًا: «الغنم من دواب الجنة، فامسحوا رغامها، وصلوا في مرابضها»، ذكره النيسابوري في «تاريخه»، وتمامه فيما تقدم في باب: (أبوال الإبل والدواب والغنم).
وتجوز الصلاة أيضًا في مراح البقر؛ لما في مسند عبد الله بن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن رجل حدثه عن ابن المغفل: (نهى النبيُّ عليه السَّلام أن يُصلَّى في معاطن الإبل، وأمر أن يُصلَّى في مراح الغنم والبقر) انتهى.
فإن قلت: ويعارضه ما في «مسند أحمد» من حديث ابن عمر؛ (أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ كان يصلي في مرابد الغنم، ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر).
قلت: لا يعارضه؛ لأنَّ هذا الحديث سنده ضعيف كما قال الحفَّاظ، ولئن صح؛ فالأول أمر وهو قول، وهذا فعل، والقول مقدم على الفعل، كما قاله المحققون.
فإن قلت: في سند الأول مجهول.
قلت: قد روي بطرق مختلفة عن غير مجهول، وبها قد انتفى ذلك؛ فافهم.
قال ابن بطال: (وحديث الباب حجة على الشافعي؛ لأنَّ الحديث ليس فيه تخصيص موضع من آخر، ومعلوم أنَّ مرابطها لا تسلم من البعر والبول، فدلَّ على الإباحة، وعلى طهارة البول والبعر، وفيه المطابقة للترجمة) انتهى.
واعترضه العجلوني؛ تعصبًا لمذهبه بأنَّ الأصل في مرابضها الطهارة في أمكنتها وإن كان الغالب عدمها، وإذا تعارضا؛ قدم الأصل، مع أنَّه لم يدلَّ الدليل على عدم الحائل، فلعله كان يفرش عليها شيئًا ثم يصلي فيه، انتهى.
قلت: وهو ممنوع، فإنَّ الأصل في مرابضها ألا يخلو عن أبعارها وأبوالها، وقوله: (وإن كان الغالب عدمها) تناقض ظاهر وتسليم بأنَّ أمكنتها لا تسلم عن أبعارها، وليس في ذلك تعارض؛ لأنَّ الأدلة تضافرت [2] على إباحة الصلاة في مرابضها، ولم يوجد دليل على الحظر حتى يحصل التعارض، وقوله: (مع أنَّه لم يدل ... ) إلخ ممنوع؛ فإنَّ الدليل هو أنَّ الأصل عدم الحائل لغة وعرفًا، وقوله: (فلعله كان يفرش) ممنوع؛ لأنَّه لم يدلَّ دليل على أنَّه كان يفرش في مرابضها شيئًا يصلي عليه، مع أنَّ الأصل عدمه، وتمامه فيما قدمناه، على أنَّه روى أبو داود مرفوعًا: «صلوا في مواطن الغنم؛ فإنَّها بركة» وروى البيهقي: «إنَّها من دواب الجنَّة»، وهذا يدلُّ على أنَّه كان يحب الصلاة في مرابضها، وهو دليل على جواز الصلاة فيها، وهو مذهب الجمهور، لكن مع الكراهة عند إمامنا الأعظم.
وزعم الشافعية أنَّها لا تصح في معاطن الغنم، والحديث حجة عليهم، كما قدمناه؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (شيء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (تظافرت).
==================
[1] في الأصل: (شيء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (شيء)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/719)
(50) [باب الصلاة في مواضع الإبل]
هذا (باب) حكم (الصلاة في مواضع)؛ بالجمع، وفي بعض الأصول: (موضع)؛ بالإفراد (الإبل) هي اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهي مؤنثة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لازم لها، وقد تُسكَّن الباء؛ للتخفيف، والجمع: آبال.
قال إمام الشَّارحين: ثم إنَّ البخاري إن أراد من مواضع الإبل معاطنها؛ فالصلاة فيها مكروهة عند قوم خلافًا لآخرين، وإن أراد بها أعمَّ من ذلك؛ فالصلاة فيها غير مكروهة بلا خلاف، وعلى كلا التقديرين لم يذكر في الباب حديثًا يدلُّ على أحد الفصلين، وإنَّما ذكر فيه الصلاة إلى البعير، وهو لا يطابق الترجمة، انتهى.
%ص 585%
واعترضه العجلوني كعادته؛ بأنَّ نفيه الخلاف في الشق الثاني غير مسلم بلا خلاف؛ إذ من أفراده الصلاة في معاطنها، والخلاف فيه ثابت، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ مراده من (الأعم): مواضعها حال غيبتها إذا كانت طاهرة، فالصلاة فيها غير مكروهة بلا خلاف؛ لأنَّ من جعل علة الكراهة نفادها؛ فهي غير موجودة، ومن جعلها النجاسة؛ فهي أيضًا غير موجودة، فالمراد بـ (الأعم): المغايرة لا ما تحته أفراد؛ فافهم.
وتعبير المؤلف بـ (المواضع) أعم من (المعاطن)؛ لأنَّها تشمل مواضعها حال إقامتها عند الماء وغيره، حال حضورها، أو غيبتها، وهذا هو مراد المؤلف، فإنَّه لا يرى الكراهة فيها مطلقًا على الظاهر؛ لأنَّه لم يورد في الباب حديثًا يدلُّ على الكراهة، بل يدلُّ حديث الباب على عدمها، وليس مراده اختصاص الكراهة بالمعاطن، بل مراده الأعم، وأنَّه لا كراهة مطلقًا، وهذا ظاهر.
وقد يقال: إن كانت عبارة إمام الشَّارحين على ظاهرها، وأراد بالأعم: ما تحته أفراد؛ فبيَّن أولًا: أنَّ الصلاة في المعاطن مكروهة عند قوم خلافًا لآخرين، وبيَّن ثانيًا: أنَّ الصلاة فيما عدا المعاطن غير مكروهة بلا خلاف؛ حيث إنَّه لم يعتبر خلاف بعض الناس، أو إنَّه أراد بنفي الخلاف عدم وجود علة النهي من النجاسة أو النفاد؛ فافهم.
وفسر القسطلاني (المواضع) بـ (المعاطن) تبعًا لابن حجر، واعترضه العجلوني بأنَّ إبقاء المواضع على عمومها أولى، فإنَّ الحكم أعم.
قلت: وهو مردود، فإنَّه إذا لم تكره الصلاة في المواطن؛ ففي غيرها من باب أولى، لكن يقال عليه: إنَّ ظاهر ترجمة المؤلف أنَّ مراده: الأعم؛ وهو عدم الكراهة مطلقًا، فالأولى له أن يُبيِّن الحكم فيه، كما فعل إمام الشَّارحين؛ فافهم.
والمناسبة بين البابين من حيث إنَّ الباب السابق في بيان جواز الصلاة في مرابض الغنم، وههنا جواز الصلاة في مرابض الإبل، وكلاهما حكم من أحكام الصلاة؛ فافهم.
==================
(1/720)
[حديث: رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره]
430# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا صدقة بن الفضل) هو المروزي (قال: أخبرنا) ولأبوي ذر والوقت: (حدثنا) (سُليمان) بضمِّ المهملة (بن حَيَّان)؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتية، وبالنون، يجوز فيه الصرف وعدمه، وهو أبو خالد الأحمر الأزدي، الجعفري [1]، الكوفي، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة (قال: حدثنا) ولابن عساكر: (أخبرنا) (عُبيد الله) بضمِّ العين المهملة؛ مصغَّرًا؛ هو ابن عبد الله _بالتكبير_ ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي كان من سادات أهل المدينة فضلًا وعبادةً، توفي سنة سبع وأربعين ومئة، (عن نافع) هو مولى ابن عمر (قال: رأيت) مولاي (ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما (يُصلي) أي: الفرض وغيره (إلى بعيره) أي: إلى جانب بعيره، وفي «المحكم»: (البعير: الجمل البازل، وقيل: الجذع، وقد يكون للأنثى، حكي عن بعض العرب: شربت من لبن بعيري، وصرعتني بعيرٌ لي، والجمع: أبعِرَة وأباعِر وأباعِير، وبُعران، وبَعران)، وفي «المخصص»: (قال الفارسي: أباعر؛ جمع أبعرة، كأسقية وأساق)، وفي «الجامع»: (البعير بمنزلة الإنسان بجمع المذكر والمؤنث من الناس، إذا رأيت جملًا على البعد؛ تقول: هذا بعير، فإذا استثبته؛ تقول: هذا جمل أو ناقة).
قال الأصمعي: (إذا وضعت الناقة ولدها ساعة تضعه؛ سليل قبل أن يُعلم أذكر هو أم أنثى؟ فإذا عُلم؛ فإن كان ذكرًا؛ فهو: سقب وأُمُّه مسقب، وقد أذكرت؛ فهي: مذكر، وإن كانت أنثى؛ فهي: حائل، وأمها أم حائل، فإذا مشى؛ فهو: راشح، والأمُّ مرشح، فإذا ارتفع عن الراشح؛ فهو: جادل، فإذا حمل في سنامه شحمًا؛ فهو: مُجذ [2] ومُكعِر، وهو في هذا كله حوار، فإذا اشتدَّ؛ قيل: ربع، والجمع: أرباع ورباع، والأنثى: ربعة، فلا يزال ربعًا حتى يأكل الشجر، ويعين على نفسه، ثم هو فصيل وهبع، والأنثى: فصيلة، والجمع: فُصْلان وفِصْلان؛ لأنَّه فُصل عن أمه، فإذا استكمل الحول، ودخل في الثاني؛ فهو: ابن مخاض، والأنثى: بنت مخاض، فإذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة؛ فهو: ابن لبون، والأنثى: بنت لبون، فإذا استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة؛ فهو: حقٌّ، والأنثى: حقَّة، سمي به؛ لأنَّه استحق أن يحمل عليه ويركب، فإذا مضت الرابعة ودخل في الخامسة؛ فهو: جذع، والأنثى: جذعة، فإذا مضت الخامسة ودخل في السادسة، وألقى ثنيته؛ فهو: ثنيٌّ، والأنثى: ثنيَّة، فإذا مضت السادسة ودخل في السابعة؛ فهو: رباع، والأنثى: رباعيَّة، فإذا مضت السابعة ودخل في الثامنة وألقى السن؛ فهو: سديس وسدس؛ لغتان، وكذا يقال للأنثى، فإذا مضت الثامنة ودخل في التاسعة؛ فهو: فاطر وبازل؛ لأنَّه فطر نابه وطلع، وكذا يقال للأنثى، فإذا مضت التاسعة ودخل في العاشرة؛ فهو: مخلف، ثمَّ ليس له اسم بعد ذلك بلا خلاف، لكن يقال له: بازل عام وبازل عامين، ومخلف عام ومخلف عامين إلى ما زاد على ذلك، فإذا كبر؛ فهو: عوذ، والأنثى: عوذة، فإذا ارتفع عن ذلك؛ فهو قحر، والجمع: أقحر وقحور)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(وقال) ولأبي ذر (فقال): أي: ابن عمر: (رأيت النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يفعله) أي: يُصلي الفرض وغيره والبعير في طرف قبلته، ورواه الترمذي أيضًا عن ابن عمر: (أنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلى إلى بعيره أو راحلته، وكان يصلي إلى راحلته حيثما توجهت به)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ورواه البزار في «مسنده» عن أبي الدرداء قال: (صلَّى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى بعير من المغنم)، وذكر مالك في «الموطأ» أنَّه بلغه: (أن ابن عمر كان يستتر براحلته في السفر إذا صلى)، ووصله ابن أبي شيبة في «مصنفه».
ففي الحديث جواز الصلاة إلى الحيوان، ونقل ابن التين عن مالك: أنه لا يُصلى إلى الجمل والحمير؛ لنجاسة أبوالها.
وفيه جواز الصلاة بقرب البعير، وأنَّه لا بأس أن يستتر المصلي بالراحلة والبعير في الصلاة، وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم: أنَّهم لا يرون به بأسًا، وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن أنس: (أنَّه صلَّى وبينه وبين القبلة بعير عليه محمله)، وروي أيضًا الاستتار بالبعير عن سويد بن غفلة، والأسود بن يزيد، وعطاء بن أبي رباح
%ص 586%
والقاسم، وسالم، وعن الحسن: (لا بأس أن يستتر بالبعير)، وقال ابن عبد البر في «الاستذكار»: (لا أعلم فيه_ أي: في الاستتار بالراحلة_ خلافًا)، وقال ابن حزم: (من منع الصلاة إلى البعير؛ فهو مبطل) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا الحديث يخبر أنَّه عليه السَّلام صلى إلى البعير لا في موضعه، فلا يطابق للترجمة)، وعن هذا قال الإسماعيلي: (ليس في هذا الحديث بيان أنَّه صلى في مواضع الإبل، وإنما صلى إلى البعير لا في موضعه، وليس إذا أنيخ بعير في موضع؛ صار ذلك الموضع عطنًا، أو مأوًى للإبل) انتهى.
وعلله إمام الشَّارحين بأنَّ (العطن): اسم لمبرك الإبل عند الماء؛ لتشرب عللًا بعد نهل، فإذا استوفت؛ رُدَّت إلى المراعي، انتهى.
وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر، فأجاب بأنَّ المؤلف يشير إلى أنَّ الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه، لكن لها طرق قوية؛ منها: حديث جابر بن سمرة عند مسلم، وحديث البراء بن عازب عند أبي داود، وحديث أبي هريرة عند الترمذي، وحديث عبد الله بن مغفل عند النسائي، وحديث سبرة بن معبد عند ابن ماجه، وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل، فمراد المؤلف: الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي عن ذلك؛ وهي كونها من الشياطين، كأنه يقول: لو كان ذلك مانعًا من صحَّة الصلاة؛ لامتنع مثله في جعلها أمام المصلي، وكذلك صلاة راكبها، وقد ثبت أنَّه عليه السَّلام كان يصلي النافلة وهو على بعيره، انتهى كلامه
وقد ردَّه إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: «إن المؤلف يشير إلى أنَّ الأحاديث ... » إلى آخره _ ليت شعري_ ما وجه هذه الإشارة؟! وبم دلَّ على ما ذكره؟
وقوله: «وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل» ليس كذلك، فإنَّ المذكور في حديث جابر بن سمرة عند مسلم، وحديث البراء بن عازب عند أبي داود: «مبارك الإبل»، والمبارك غير المعاطن؛ لأنَّ المبرك أعمُّ؛ فافهم
وقوله: «فمراد المؤلف: الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي ... »: إلى آخره ممنوع، وسبحان الله! ما أبعد هذا الجواب عن موقع الخطاب! فإنَّه متى ذكر علَّة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل حتى يشير إليه؟! ولم يذكر شيئًا في كتابه من أحاديث النهي في ذلك، وإنما ذكره غيره:
فمسلم في «صحيحه» ذكر حديث جابر بن سمرة من رواية جعفر بن أبي ثور عنه: أن رجلًا سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أَأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت؛ توضأ، وإن شئت؛ فلا تتوضأ»، قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «فتوضأ من لحوم الإبل»، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم»، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا».
وأبو داود ذكر حديث البراء من رواية ابن أبي ليلى وفيه: سئل عن الصلاة في مبارك الإبل، قال: «لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنَّها من الشياطين».
والترمذي ذكر حديث أبي هريرة من حديث ابن سيرين عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل».
وابن ماجه ذكر حديث سبرة بن معبد من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني، أخبرني أبي عن أبيه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يصلَّى في أعطان الإبل، ويصلَّى في مراح الغنم».
وذكر ابن ماجه أيضًا حديث عبد الله بن مغفل من رواية الحسن عنه قال: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «صلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل؛ فإنَّها خلقت من الشياطين».
وذكر أيضًا حديث ابن عمر من حديث محارب بن دثار يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «توضؤوا من لحوم الإبل ... »؛ الحديث، وفيه: «ولا تصلوا في معاطن الإبل».
وذكر الطبراني في «الأوسط» حديث أسيد بن خضير قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «توضَّؤوا من لحوم الإبل، ولا تصلُّوا في مناخها».
وأخرج أيضًا في «الكبير» حديث سليك الغطفاني عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «توضَّؤوا من لحوم الإبل، ولا توضَّؤوا من لحوم الغنم، وصلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في مبارك الإبل».
وذكر أحمد في «مسنده» حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي في مرابد الغنم، ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر».
وأخرجه الطبراني في «الكبير» أيضًا، ولفظه: «لا تصلوا في أعطان الإبل، وصلوا في مراح الغنم».
وذكر الطبراني أيضًا حديث عقبة بن عامر في «الكبير»، و «الأوسط» عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل ومبارك الإبل».
وذكر أحمد والطبراني أيضًا حديث يعيش الجهني، المعروف بذي الغرة من رواية ابن أبي ليلى عنه قال: «عرض أعرابي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ... »؛ الحديث، وفيه: «تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل، فنصلِّي فيها؟ فقال عليه السَّلام: لا»، وأخرجه أحمد أيضًا.
فهذا كله كما رأيت وقع في موضع: «مبارك الإبل»، وفي موضع: «مناخ الإبل»، وفي مواضع: «مرابد الإبل»، ووقع عند الطحاوي في حديث جابر بن سمرة «أن رجلًا قال: يا رسول الله؛ أصلي في مباءة الإبل؟ قال: لا»، و «المباءة»: المنزل الذي تؤويإليه الإبل، و «الأعطان»: جمع عطن؛ وهو الموضع الذي يناخ فيه عند ورودها الماء، و «المبارك»: جمع مبرك، وهو موضع بروك الجمل في أي موضع كان، و «المُناخ»؛ بضمِّ الميم: المكان الذي تناخ فيه الإبل، و «المرابد»؛ بالمهملة: الأماكن التي تحبس فيها الإبل وغيرها من البقر والغنم، فكل عطن مبرك، وليس كل مبرك عطنًا؛ لأنَّ العطن الموضع الذي يناخ فيه عند ورودها الماء فقط، والمبرك أعم؛ لأنَّه الموضع المتخذ لها في كل حال، فإذا كان كذلك؛ فتكره الصلاة في مبارك الإبل ومواضعها، سواء كانت عطنًا، أو مناخًا، أو مباءة، أو مرابد، وغير ذلك.
فدلَّ هذا كله على أنَّ علة النهي فيه كونها خلقت من الشياطين، ولا سيَّما فإنَّه عليه السَّلام علل ذلك بقوله: «فإنَّها خلقت من الشياطين» وقد مرَّ في رواية أبي داود: «فإنَّها من الشياطين»، وفي رواية ابن ماجه: «فإنَّها خلقت من الشياطين» وهذا يدلُّ على أنَّ الإبل مخلوقة من الجن؛ لأنَّ الشياطين من الجن على الصحيح من الأقوال، وعن هذا قال يحيى بن آدم: «جاء النهي من قبل أنَّ الإبل يخاف وثوبها، فتعطب
%ص 587%
من تلاقي حينئذ، ألا ترى أنَّه يقول: إنَّها جنٌّ من جنٍّ خُلقت»، واستصوب هذا أيضًا القاضي عياض) انتهى.
قلت: والحاصل: أنَّ العلة في النهي؛ ما يخاف من وثوبها وعطب من يلاقيها، فيشغل البال، ويخلُّ بالخشوع، فالصلاة عندها مكروهة؛ لأنَّها خُلقت من الشياطين، فيخاف منها كما يخاف منهم، وهذا هو الأظهر.
وقال ابن حبان: (معنى حديث: «فإنَّها خُلقت من الشياطين» أي: خلقت معها بدليل: صلاته عليه السَّلام عليها الوتر والنافلة).
ورُدَّ ما قاله بأنَّه إن أريد خَلقها معها حقيقة؛ لم يصحَّ؛ لأنَّ الجن خُلقوا قبل الإنس والحيوان بأزمنة كثيرة، وإن أريد المبالغة في نفورها وشرودها؛ اتجه ما قاله، انتهى.
قلت: وصريح حديث ابن ماجه أنها خلقت من الشياطين، وكذا حديث أبي داود: (فإنَّها من الشياطين)، وفي حديث: (أنَّ على سنام كل واحد منها شياطين)، يدلُّ على أنها مخلوقة من الجن؛ لأنَّ الشياطين من الجن على الصحيح، ولأنَّ خصالها من خصال الشياطين، فإنَّ كلمة (من) في الأحاديث: للتبعيض، فهي مخلوقة منهم، وذلك بأن خلقت أولًا حقيقة من الشياطين، ثم خلقت ثانيًا بهذه الهيئة الموصوفة بها الآن، فهي مشوبة بالخلقة الأصلية من حيث نفارها، وشرودها، وعطب صاحبها؛ كنهشه وضربه برجلها وغير ذلك، وصلاته عليه السَّلام عليها الوتر والنافلة كان للضرورة؛ حيث كان يصلي عليها ليلًا في القافلة وهي سائرة، فلم يتيسَّر له عليه السَّلام النزول عنها، وكان له أعداء كثيرة، ومعلوم أنَّ ذلك كان في مبدأ الإسلام.
على أنَّ تأويل ابن حبان غير صحيح، فإنَّه لو كان كما قاله؛ يلزم عليه عدم النهي الوارد في الأحاديث الصحاح من النهي عن الصلاة في أعطانها ونحوه؛ لأنَّه سبحانه قد خلق أجناسًا كثيرة في زمن واحد؛ إنسًا وجنًّا وحيوانًا، وجعل كل جنس على خِلقَة وصفة مخصوصة لا يتجاوزها إلى غيرها من المخلوقين، فيلزم عليه عدم فائدة الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عندها، وكلامه عليه السَّلام مُصان عن اللغو وعدم الفائدة، فليُحفظ.
وقد انتصر العجلوني لابن حجر، فأجاب عما قاله إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: «ليت شعري ما وجه هذه الإشارة ... » إلى آخره، لعل وجه الإشارة إفراد الصلاة في مواضع الإبل بترجمة؛ كترجمة مرابض الغنم؛ كراهة الصلاة فيها، فلو ثبتت عنده على شرطه؛ لذكر الكراهة فيها.
وقوله: «سبحان الله! ما أبعد هذا الجواب ... » إلى آخره، ليس الجواب لابن حجر حتى ينسبه إليه، ولئن سلم؛ فلا يُردُّ عليه؛ لأنَّه لم يدَّعِ أنَّه هو الذَّاكر لعلَّة النهي؛ لأنَّ «ذكر» يحتمل أنه مبني للمفعول، لا للفاعل، وقد يقال عليه: إنه ليس الغرض بيان صحة الصلاة إليها وعدمها فقط؛ بل المراد: بيان كراهتها وعدمها، فلو زاد في الجواب: أو كان ذلك مقتضيًا للكراهة؛ لاقتضاها في جعلها أمامه، فإنَّ الخلاف بين العلماء في الأمرين معًا ظاهر) انتهى.
قلت: وكلام شيخ عجلون فاسد الاعتبار؛ لأنَّ كون وجه الإشارة ما ذكره غير صحيح، فإنَّ المؤلف غرضه بيان الأحكام: فبيَّن أولًا حكم الصلاة في مرابض الغنم وذكر حديثها، ثم ذكر حكم الصلاة في معاطن الإبل وذكر حديثها، وليس مراده: بإفراد أحدهما عن الآخر الإشارةَ إلى الأحاديث التي ليست على شرطه، الفارقة بين حكم الصلاة فيهما، فلو كان مراده هذا؛ لم يذكر في الباب حديثًا؛ بل اقتصر على الإشارة، وهذا من أبعد البعيد أن يترجم لشيء، ويشير إلى أحاديث لم تذكر في كتابه، ولا سيما أنها لم تكن على شرطه، فهي لا يحتجُّ بها عنده، فكيف يشير إليها ويحتجُّ بها؟ وما هذا إلا قول صادر من غير تأمُّل.
على أنَّه ظاهر تعبير المؤلف بـ (المواضع) الأعم من المعاطن أنه لا يرى الكراهة فيهما مطلقًا؛ لأنَّه لم يورد في الباب ما يدلُّ للكراهة؛ بل يدلُّ على عدمها، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس مراده الإشارة إلى الأحاديث الفارقة التي ليست على شرطه، وعلى كلِّ حال؛ لا يصحُّ جعل بيان التراجم الإشارة المذكورة؛ لأنَّه ليس مراده الإشارة إليها؛ بل بيان الأحكام من كراهة الصلاة وعدمها، كما لا يخفى؛ فافهم.
وقوله: (ليس الجواب لابن حجر ... ) إلى آخره؛ ممنوع وفاسد؛ فإن ابن حجر قال في «فتحه»: (هكذا قلت ... ) إلى آخره، فنسبة الجواب إليه صحيح، كما دلَّ عليه كتابه وكلامه، وهذا يظهر لمن اطلع [3] على كتابه.
وقوله: (ولئن سلم ... ) إلى آخره؛ ممنوع، بل هو وارد عليه؛ لأنَّه قد ادعى في أول كلامه، أنه هو الذاكر لعلة النهي.
وقوله: (لأن «ذكر» ... ) إلخ: كلام بارد من ذهن شارد [4] مقول بالاحتمال، وهو باطل، فإن (ذكر) مبني للفاعل قطعًا؛ لأنَّه فهم من الأحاديث علة النهي، ثم قال: (ومراده _أي: المؤلف_ الإشارة إلى ما _أي: الذي_ ذكر_أي: ذكرناه_ من علة النهي ... ) إلى آخره.
وقوله: (وقد يقال ... ) إلى آخره: هذا تنزل في الجواب، وهو يدل على أنَّ عبارة ابن حجر قاصرة، وفيها تناقض، فإن مراد المؤلف: بيان كراهة الصلاة وعدمها، لا صحتها وعدمها، وعلى كون ابن حجر زاد في الجواب ما ذكره، كذلك فاسد؛ فإن الأحاديث التي ليست على شرطه وإن كان مقتضاها ذلك، لكن المؤلف لم يحتجَّ بها، ولم يستدل بها، وهذا أيضًا ليس بمراد للمؤلف.
وقول ابن حجر: (وقد ثبت أنَّه عليه السَّلام كان يصلي النافلة وهو على بعيره) أخذه من كلام ابن حبان، وقد علمت ردَّه، وهذا دأبه يأخذ كلام غيره، وينسبه لنفسه، فإن كان صوابًا؛ اعتمد عليه، وإن خطأ؛ تبرأ منه، وليس هذا من دأب المحصلين الفاضلين، بل من دأب قليلين البضاعةَ المحاولين؛ فافهم ذلك.
%ص 588%
وقال إمام الشَّارحين: وذكروا أيضًا أنَّ علة النهي فيه من ثلاثة أوجه:
أحدها: عن شريك بن عبد الله أنه كان يقول: (نهي عن الصلاة في أعطان الإبل؛ لأنَّ أصحابها من عادتهم التغوط بقرب إبلهم، والبول أيضًا، فينجسون بذلك أعطان الإبل، فنهي عن الصلاة فيها؛ للنجاسة لا لعلة الإبل، وإنما هو لعلة النجاسة التي تمنع من الصلاة في أي موضع ما كانت، بخلاف مرابض الغنم، فإن أصحابها عادتهم تنظيف مواضعها وترك البول [5] فيها، فأبيحت الصلاة في مرابضها لذلك)، وهذا بعيد جدًّا مخالف لظاهر الأحاديث.
الوجه الثاني: أنَّ علة النهي هي كون أبوالها وأرواثها في معاطنها، وهذا أيضًا بعيد؛ لأنَّ مرابض الغنم تشركها في ذلك.
الوجه الثالث: ذكره يحيى بن آدم: (أنَّ العلة في اجتناب الصلاة في معاطن الإبل؛ الخوف من نفورها وشرودها بخلاف الغنم؛ لأنَّه لا يخاف منها ما يخاف من الإبل) انتهى.
قلت: وهذه الأوجه بعيدة عن النظر كما قال؛ لأنَّ في الوجه الأول يلزم عليه أنَّ كل موضع نجس لا يصلى فيه، وعليه لا يكون فائدة لتخصيص أحاديث [6] الإبل بهذا الحكم، وكلامه عليه السَّلام مُصَان عن عدم الفائدة، ولهذا قال: (وهذا بعيد جدًّا مخالف لظاهر الأحاديث).
وأنَّ الوجه الثاني يلزم عليه؛ أنَّ كل موضع فيه روث أو بول لا يُصلَّى فيه، وقد صرح في الحديث أنَّه يصلَّى في مرابض الغنم، وكذلك البقر مع أنَّه لا تخلو مواضعها عن بول وروث.
ولأن الوجه الثالث يلزم عليه مخالفة الحديث، فإنَّه قد علَّله؛ بأنَّها خلقت من الشياطين، فمكانها كمكان الخلاء وغيره، ولهذا قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (إن كانت العلة هي ما قال شريك؛ فإن الصلاة مكروهة حيث يكون الغائط والبول، سواء كان عطنًا أو غيره، وإن كانت ما قاله يحيى؛ فإن الصلاة مكروهة حيث يخاف على النفوس سواء كان عطنًا أو غيره) انتهى.
قلت: وكذلك يلزم على الوجه الثاني حيث يكون الروث والبول؛ فالصلاة مكروهة كما ذكرنا، وهذا اعتراض على ما ذكر من علة النهي المذكورة.
واعترضه ابن حجر فقال: (إنَّ النظر يقتضي عدم الفرق بين الإبل والغنم في الصلاة وغيرها)، كما هو مذهب أصحابه.
وتعقب بأنَّه مخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة، فهو قياس فاسد الاعتبار.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (هذا الكلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ الطحاوي قطٌّ ما قال: «إن النظر يقتضي عدم التفرقة»، وإنما قال: «حكم هذا الباب من طريق النظر أنَّا رأيناهم لا يختلفون في مرابض الغنم: أنَّ الصلاة فيها جائزة، وإنَّما اختلفوا في أعطان الإبل، فقد رأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم في طهارتها، ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها في طهارتها أو نجاستها، فكان يجيء في النظر أيضًا أن يكون حكم الصلاة في مواضع الإبل؛ كهو في مواضع الغنم قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا»، فمن تأمل ما قاله؛ علم أنَّ القياس الذي ذكره ليس من جهة عدم التفرقة، وليس هو بمخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة، وإنما ذهب؛ لعدم التفرقة من حيث معارضة حديث صحيح لتلك الأحاديث المذكورة، وهو قوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فمفهومه يدل: على جواز الصلاة في أعطان الإبل وغيرها بعد أن كانت طاهرة، وهو مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب الإمام الأعظم أبو حنيفة، ومالك بن أنس، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وآخرون، وكرهها الحسن البصري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وعن أحمد في الرواية المشهورة عنه: أنه إذا صلى في أعطان الإبل؛ فصلاته فاسدة، وهو مذهب أهل الظاهر) انتهى.
وزعم العجلوني أنَّ ظاهر كلامه أنَّ المرجَّح عند أحمد أنَّ الصلاة صحيحة في أعطان الإبل مع الكراهة، مع أنَّه قال في «المنتهى»: (ولا يصح تعبدًا صلاةٌ في أعطان إبل؛ وهي: ما تقيم فيها وتأوي إليها، ولا فرق في المعاطن بين أن تكون فيها إبل عند الصلاة أو لا) انتهى.
ولم أر في مذهبهم القول بأنَّها مكروهة فقط مع صحة الصلاة فضلًا عن أنه مذهب أحمد، انتهى.
قلت: وما زعمه مردود عليه؛ لأنَّ إمام الشَّارحين قد بيَّن أنَّ في رواية عن أحمد: أنَّ الصلاة في معاطن الإبل صحيحة مع الكراهة، وأن في الرواية المشهورة عن أحمد أنَّ الصلاة في معاطنها فاسدة، فهو لم يقل في الرواية الأولى: (مذهب أحمد)، وإنما قال: (وبما ذهب إليه الجمهور موافق لرواية عن أحمد)، وتصريحه بأنَّ الرواية المشهورة عن أحمد بالفساد دليل: على أنه مذهب أحمد.
وقوله: (ولم أر في مذهبهم ... ) إلى آخره: كلام بارد من ذهن شارد، فإنَّه لم يُحط بمذهبهم، ولا بأقوال الإمام أحمد، ومن حفظ حُجة على من لم يحفظ، فإنَّ المجتهدين قد يجتهدون [7] في حكم بالصحة، ثم يزول، ويجتهدون فيه بالصحة، وعدم رؤيته لا يمنع رؤية غيره؛ بل العجلوني لم يُحط بمذهب إمامه فضلًا عن غير مذهبه، وإمام الشَّارحين مشهور بالاطلاع [8] على مذاهب المخالفين، وأقوالهم أكثر من غيره من الشراح، على أنَّ المُثبت مُقدَّم على النافي؛ فافهم.
وفي «شرح الترمذي»: (وحَمَل الشافعي وغيره النهي عن الصلاة في معاطن الإبل على الكراهة إذا كان بينه وبين النجاسة التي في أعطانها حائل، فإن لم يكن بينهما حائل؛ لا تصح صلاته)
وردَّه إمام الشارحين فقال: (إذا لم يكن بين المصلي وبين النجاسة حائل؛ لا تجوز صلاته في أي مكان كان) انتهى.
قلت: يعني فلم يحصل تخصيص في الحكم، مع أنَّ الأحاديث طافحة في بيان الصلاة في مواطن الإبل، فيلزم على ما قاله عدم فائدة
%ص 589%
ذكر المعاطن في الأحاديث، مع أنها مصانة عن عدم الفائدة.
وقال إمام الشَّارحين: (وجواب آخر عن الأحاديث المذكورة؛ وهو أنَّ النهي فيها للتنزيه، كما أن الأمر في مرابض الغنم للإباحة، وليس للوجوب اتفاقًا، ولا للندب) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أنَّ الجواب أخذه من قول ابن حجر: (جمع بعض الأئمة بين عموم قوله: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وبين الأحاديث بحملها على كراهة التنزيه) انتهى.
قلت: تحرك عرق العصبية، فانظر أنَّ ابن حجر نفسه قد أخذ كلامه من كلام بعض الأئمة الناقل عنه، وإمام الشَّارحين قد أخذه أيضًا من كلام هذا البعض، فكيف يقال: إنَّه أخذه من قول ابن حجر؟ فإن ابن حجر ليس هذا الجواب له، بل هو ناقله عن بعض الأئمة كما علمت، فانظر هذا التعصب البارد الذي يمجه من ليس له ذهن شارد.
ومذهب إمامنا الأعظم: أنَّ الصلاة في معاطن الإبل مكروهة، قال صاحب «النهر»: (ومن المكروهات: الصلاة في مظان النجاسة؛ كمعاطن الإبل، والمجزرة، والمغتسل، والحمام)، وجزم في «زاد الفقير» لابن الهمام: بأنَّه إذا غسل موضعًا من الحمام، وصلى فيه؛ فلا بأس به، وكذا لو صلى في موضع نزع الثياب) انتهى.
وصرَّح به الإمام الجليل قاضيخان، والمراد بمعاطنها: مباركها مطلقًا، فإذا لم تكن الإبل في معاطنها؛ فلا تكره الصلاة فيها، كما صرَّح به ابن الملك في «شرحه على الوقاية».
وروى ابن القاسم عن مالك: (أنه لا بأس بالصلاة في معاطن الإبل)، وروى أصبغ عن مالك: (أنه يعيد في الوقت).
وعند الشافعي: (الصلاة في معاطن الإبل والبقر مكروهة؛ لشيئين: خشية النِّفار، وللنجاسة).
وزعم العجلوني أنَّ إمام الشَّارحين لم يفصح عن مذهبه مع أنَّ الحكم مصرَّح به عندهم، انتهى.
قلت: قد أفصح عنه، كما علمت عبارته في ما سبق، غير أنَّه صرَّح بجواز الصلاة، ولم يصرِّح بالكراهة نصًّا، وصرحَّ بها ضمنًا في آخر كلامه، كما علمت عبارته، على أنَّ الحكم في كتب مذهبنا مشهور عند أقلِّ صغير طالب، والكتب طافحة به، فلعلم ذلك اقتصر على ما ذكره، وإنما الجاهل يظنُّ أنه لم يذكر الحكم؛ لعدم معرفته؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: في حديث البراء عند أبي داود: وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: «صلوا؛ فإنَّها بركة»، وعند الطبراني في حديث عبد الله بن مغفل: «فإنَّها بركة من الرحمن»، وفي رواية أحمد «فإنَّها أقرب من الرحمة»، وعند البزار في حديث أبي هريرة: «فإنَّها من دواب الجنة»، فكل هذا يدلُّ على استحباب الصلاة في مرابض الغنم؛ لما فيها من البركة وقُرب الرحمة.
قلت: هذه الأحاديث ذكرت للترغيب في الغنم؛ لإبعادها عن حكم الإبل؛ إذ وَصفُ أصحاب الإبل الغِلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم السكينة، ولا تعلُّق لاستحباب الصلاة في مرابض الغنم في ذلك) انتهى.
قلت: وإنما وصفها عليه السَّلام بالبركة، وقُرب الرحمة؛ لِمَا أنها تلد في الحول ولدًا واحدًا، ومع هذا؛ فهي كثيرة جدًّا، ولأنَّها لا تنام في آخر الليل، بخلاف غيرها؛ كالكلاب؛ فإنَّها تلد في الحول أولادًا خمسة أو أكثر، ومع هذا؛ فهي قليلة، ولأنَّها تنام آخر الليل، وهو مخصوص بنزول الرحمات، والتجليات، والفيوضات.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: مرابد البقر هل ملحقة بمرابد الغنم، أو بمرابد الإبل؟
قلت: ذكر أبو بكر بن المنذر أنَّها ملحقة بمرابد الغنم، فلا تكره الصلاة فيها) انتهى.
قلت: وهو مذهب الإمام الأعظم، وبه قال مالك، وعطاء، والشافعي على ما نقله ابن حجر، يدلُّ عليه حديث عبد الله بن مغفل في «مسند عبد الله بن وهب»: (نهى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، أن يُصلَّى في معاطن الإبل، وأمر أن يُصلَّى في مراح الغنم والبقر)، ويدلُّ عليه حديث: «أينما أدركتك الصلاة؛ فَصلِّ» فهو بعمومه يتناوله.
فإن قلت: في حديث ابن عمر في «مسند أحمد»: (أنه عليه السَّلام كان يصلي في مرابد الغنم، ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر)، فألحقها بالإبل.
قلت: وأجاب إمام الشَّارحين بأن في إسناده عبد الله بن لهيعة، والكلام فيه مشهور، انتهى.
قلت: يعني أن سنده ضعيف لا يحتج به، وهو لا يقاوم الصحيح الذي ذكرناه، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الجعفي)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[2] في الأصل: (محذ)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (سارد)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[5] زيد في الأصل: (والبول)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (للتخصيص الأحاديث)، والمثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (يجتهدوا)، وليس بصحيح، وكذا في الموضع اللاحق.
[8] في الأصل: (بالاضطلاع)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الجعفي)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[2] في الأصل: (محذ)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (سارد)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[5] زيد في الأصل: (والبول)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (للتخصيص الأحاديث)، والمثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (يجتهدوا)، وليس بصحيح، وكذا في الموضع اللاحق.
[1] في الأصل: (الجعفي)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
[2] في الأصل: (محذ)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (سارد)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
[5] زيد في الأصل: (والبول)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (للتخصيص الأحاديث)، والمثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (يجتهدوا)، وليس بصحيح، وكذا في الموضع اللاحق. 

===========

 

8.  مجلد 8. أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري للشيخ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ) 
 (51) [باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله]
هذا (باب) حكم (من صلى) الفرض وغيره (وقدامَه)؛ بالنصب على الظرفية: خبر مقدم؛ أي: بين يديه (تَنُّورٌ)؛ بالرفع مبتدأ مؤخر، والجملة اسمية وقعت حالًا، وهو بفتح المثناة الفوقية، وضم النون المشددة، وهو مشهور، تارة يحفر من الأرض حفيرة، وتارة يتخذ من الطين، ويدفن في الأرض، ويوقد فيه النار إلى أن يحمى فيخبز فيه، وتارة يطبخ فيه، فقيل: هو عربي، وقيل: مُعرَّب توافقت عليه العرب والعجم، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح، غير الكرماني؛ فإنَّه خص التنور بالحفيرة، وهو وهم؛ لأنَّ أكثر ما يكون يتخذ من الطين، ويدفن بعضه في الأرض، ويوقد فيه النار للخبز.
(أو نار) عطف على ما قبله، وإنما ذكر النار بعد ذكر التنور مع أن ذكر النار يغني عن ذكر التنور؛ اهتمامًا به؛ لأنَّ عبدة النار من المجوس لا يعبدون إلا النار المكومة المتوقدة بالجمر الظاهرة؛ كالتي في التنور، وربما لا تظهر النار من التنور؛ لعمقه ولقلة النار، (أو شيء مما يعبد) هذا من عطف العام على الخاص، تقديره: أو صلى وقدَّامه شيء مما يُعبد؛ كالأوثان، والأصنام، والتماثيل، والصور، ونحو ذلك بما يعبده أهل الضلال والكفر، وتمثيل العجلوني ذلك بالشمس فيه نظر؛ لأنَّها وإن كان يعبدها قوم، إلا أنها لا تكون بين يدي المصلي، ولا يمكن ذلك، ولم يصرِّح أحد من المجتهدين بكراهة
%ص 590%
الصلاة في الشمس، وكذلك القمر والنجوم، فمن أين للعجلوني ذلك؟! فتنبه.
(فأراد) أي: المصلي المفهوم من: (صلى) وقدامه شيء من هذه الأشياء (به) أي: بفعله المذكور من صلاته إليها (وجه الله تعالى) أي: ذاته تعالى، وسقط لفظ (تعالى) من نسخة، وكذلك سقط لفظ (وجه) لغير أبوي ذر والوقت، وأشار المؤلف بهذه الترجمة: إلى أنَّ الصلاة إلى شيء مما ذكر لا تكون مكروهة إذا قصد به وجه الله تعالى، ولم يقصد الصلاة إليه، وعند أئمتنا الأعلام يكره ذلك مطلقًا؛ لأنَّ فيه التشبه بعبدة هذه الأشياء المذكورة ظاهرًا، وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ابن سيرين: أنه كره الصلاة إلى التنور، وقال: (بيت نار) انتهى.
قلت: وقد يقال: إن مراد المؤلف بهذه الترجمة: إلى أنَّ الصلاة تكره إلى هذه الأشياء، وإن قصد بها وجه الله تعالى، يدل عليه: أنه خص التنور بالذكر؛ للإشارة إلى ما ذكر عن ابن سيرين آنفًا، فإنَّه مطلق يشمل ما إذا قصد بها وجه الله، وسيأتي بيانه؛ فافهم.
(وقال الزهري): هو محمد بن مسلم ابن شهاب المدني، وهذا تعليق وصله المؤلف في باب: (وقت الظهر عند الزوال) مطولًا (أخبرني) بالإفراد (أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك رضي الله عنه) أنه (قال: قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: عُرضت)؛ بضمِّ العين المهملة مبني للمفعول؛ أي: صورت ومثلت خارج الصلاة (عليَّ) بفتح التحتية (النار) أي: الجهنمية، يحتمل عرضها الله عليه بأن كشف الستر ورفع الحجاب عنه عليه السَّلام حتى رآها كما وقع له صبيحة الإسراء، وفي صلاة النجاشي؛ حيث أزيلت الحُجُب فرأى مسجد بيت المقدس، ورأى جنازة النجاشي، وبينه وبين ذلك مسافة بعيدة، لكن الظاهر: أنه رأى صورتها وصفتها لاحقيقتها؛ فافهم
(وأنا أصلي) جملة حالية؛ أي: وأنا أريد الصلاة؛ لأنَّ العرض لا يكون إلا قبل الصلاة؛ فافهم، ففيه المطابقة للترجمة من حيث إنَّه شاهد النار وهو في الصلاة، وفيه كلام سيأتي، ففيه جواز صلاة [1] المرء وبين يديه نار ونحوها، لكن مع الكراهة عند الإمام الأعظم ومن تبعه؛ لأنَّ فيه التشبه بعبادة المذكورات ظاهرًا.
وزعم الشافعية على ما نقله ابن حجر أن الصلاة صحيحة، ولا كراهة عندهم، وقال العجلوني: (إذا عرضت له في الصلاة ولم يمكنه التنحي عنها؛ فلا كراهة) انتهى.
قلت: ومفهومه أنه إذا أمكنه التنحي عنها، ولم يتنح وصلى؛ فصلاته مكروهة، كما هو في مذهبنا؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (الصلاة)، وليس بصحيح.
==================
(1/722)
[حديث: أُريت النار فلم أر منظرًا كاليوم قط أفظع]
431# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلَمَة)؛ بفتحات: هو القعنبي البصري، (عن مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن زيد بن أسلم)؛ بصيغة الفعل الماضي: هو المدني، مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، (عن عطاء بن يَسَار)؛ بفتح التحتية، وتخفيف المهملة، هو المدني القاص الهلالي مولى أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، (عن عبد الله بن عبَّاس) حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنهماأنَّه (قال: انخسفت الشمس)؛ أي: انكسفت.
روى جماعة أنَّ الكسوف يكون في الشمس والقمر، وروى جماعة فيهما، بالخاء المعجمة، وروى جماعة في الشمس: بالكاف، وفي القمر: بالخاء، وهو الكثير في اللغة، وهو اختيار الفراء، يقال: كسفت الشمس وكسفها الله وانكسفت، وخسف القمر وخسفه الله وانخسف.
قال الأزهري: (خسف القمر، وكسفت الشمس؛ إذا ذهب ضوءها).
وقال أبو عبيدة: (خسف القمر؛ ذهب ضوءه، وقيل: الكسوف: أن يكسف ببعضهما، والخسوف: أن يخسف بكلِّهما قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81]، وقال: الكسوف في الوجه: الصفرة والتغير).
وقال ابن حبيب في «شرح الموطأ»: (الكسوف: تغير اللون، والخسوف: انخسافهما، وكذلك تقول لعين الأعور إذا انخسفت وغارت في جفن العين، وذهب نورها، وضياؤها).
وفي «شرح الفصيح»: (كسفت الشمس: اسودت في رأي العين من ستر القمر إياها عن الأبصار، وبعضهم يقول: كسفت مبنيًّا لما لم يسم فاعله، وانكسفت).
وعن أبي حاتم: (الكسوف: ذهاب ضوء بعض الشمس؛ لخفاء بعض جرمها) وتمامه في «عمدة القاري».
قلت: وسبب الكسوف وكذا الخسوف؛ حيلولة الأرض بينهما؛ لأنَّ الأرض والسماء كلاهما كروية، فالشمس والقمر يدوران في قنطرة البروج، فإذا وصل القمر أو الشمس إلى المنطقة؛ تحول الأرض بينهما؛ فيحصل ذلك وتمامه في محله؛ فافهم.
(فصلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: صلاة الكسوف، وهي سنَّة عند الإمام الأعظم والجمهور، وقيل: واجبة، وهي ركعتان؛ كهيئة النفل من غير أذان ولا إقامة، بركوع واحد، بإمام الجمعة، بدون جهر بالقراءة ولا خطبة، وهذا بيان الأقل، فإن صلى أربعًا، أو أكثر كل شفع بتسليمة أو كل شفعين؛ فهو مخير، لكن الأفضل الأربع كما في «البحر»، وسيأتي في بابه تمامه إن شاء الله (قال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعد فراغه من صلاته (أُرِيت) بضمِّ الهمزة، وكسر الراء، مبني للمفعول؛ أي: أبصرت، وحذفت الهمزة بعد الراء؛ لأجل التخفيف؛ أي: أراني الله تعالى رؤية عين (النار) بالنصب: مفعول ثان لـ (رأى)، بمعنى: أبصر؛ لتعديته له بالهمزة؛ أي أبصرتها بعيني في الصلاة، كما وقع له ليلة المعراج أنه رآها ببصره الشريف، أعاذنا الله منها، والظاهر: أنه رأى صورتها، وصفتها، لا حقيقتها؛ فافهم.
(فلم أر مَنظَرًا) أي: موضع نظر، وهو بفتح الميم وفتح [1] الظاء المشالة، فإن ماضيه: (نظر) كـ (ضرب) و (سمع)، كما في «القاموس»، وأما نظر بمعنى: فكَّر؛ فهو كـ (نصر)، كما فيه أيضًا (كاليوم) الكاف للتشبيه، بمعنى: مثل، وهو صفة للمنظر بمعنى: الزمان، فاليوم صفة له، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف؛ أي: رؤية مثل رؤية اليوم، والأول أظهر؛ فافهم.
(قَطٌّ): هي ظرف لاستغراق زمان مضى؛ فتختص بالنفي مشتقة من قطنطه؛ أي: قطعته؛ فمعنى (مافعلته قَطُّ)؛ أي: ما فعلته فيما مضى من عمري، وهي بفتح القاف، وتشديد الطاء المهملة المضمومة في أفصح اللغات، وقد تكسر على أصل التقاء الساكنين، وقد تتبع قافه طاءه في الضم، وقد تخفف طاؤه مع ضمِّها
%ص 591%
وإسكانها، وبنيت؛ لتضمُّنها معنى: مذ وإلى؛ إذ المعنى: مذ أن خلقت إلى الآن، وإنَّما بنيت على حركة؛ لئلَّا يلتقي ساكنان، وعلى الضَّمَّة تشبيهًا بالغايات، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(أفظعَ)؛ بالنصب، صفة لقوله: منظرًا، وفيه حذف تقديره: فلم أرَ منظرًا أفظع، مثل منظر اليوم، وأفْظَع: بالفاء الساكنة، قبلها همزة، وبالظاء المشالة، آخره عين مهملة؛ أفعل تفضيل، وصلته محذوفة؛ أي: منه، نحو قوله تعالى: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] أو أفظع؛ بمعنى: فظيع، مثل أكبر بمعنى: كبير، والفظيع: الشنيع؛ الشديد المجاوز المقدار، يقال: فظُع الأمر_ بالضمِّ_ فظاعة فهو فظيع؛ أي: شديد شنيع جاوز المقدار، وكذلك: أفظع الأمر فهو منفظع، وأُفظِعَ الأمر _على ما لم يسمَّ فاعله_؛ أي: نزل به أمر عظيم، فإن قلت: أفظع _أفعل_ ولا يستعمل إلا بـ (من)، قلت: أفظع هنا بمعنى: فظيع؛ فلا يحتاج إلى (من) أو يكون على بابه، وحذف منه كما في: (الله أكبر)؛ أي: أكبر من كل شيء، كذا قرره إمام الشَّارحين بزيادة.
ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إنَّه عليه السَّلام شاهد النار وهو في صلاته، وفيه كلام: قال ابن بطال: (الصلاة جائزة إلى كل شيء، إذا لم يقصد الصلاة إليه، بل قصد بها الله تعالى والسجود لوجهه خالصًا، ولا يضره استقبال شيء من المعبودات وغيرها، كما لم يضرَّه عليه السَّلام ما رآه في قبلته) انتهى.
قلت: لم يتعرض لكون ذلك مكروهًا أم لا، كما أنَّ المؤلف أجمل ترجمته، ولم يبيِّن أنَّه يكره ذلك أو لا يكره، لكنَّ إيراده الحديثين المذكورين في الباب يدلُّ: على احتمال عدم الكراهة؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يصلي صلاة مكروهة، وقد يقال عليه: إن صلاته عليه السَّلام لا توصف بالكراهة؛ لكونه هو المشرع، ولهذا قال إمام الشَّارحين: لا يتم الاستدلال بهذا للمؤلف من وجوه:
الأول: ما ذكره القاضي السروجي في «شرح الهداية» فقال: (لا دلالة في هذا الحديث على عدم الكراهة؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «أُريت النار» ولا يلزم أن تكون أمامه متوجهًا إليها، بل يجوز أن تكون عن يمينه أو يساره أو غير ذلك).
الوجه الثاني: ما ذكره هو أيضًا فقال: (ويحتمل أن يكون ذلك وقع له قبل شروعه في الصلاة) انتهى.
الوجه الثالث: ما ذكره الإسماعيلي بقوله: (ليس ما أراه الله تعالى نبيَّه عليه السَّلام من النار حين أطلعه عليها بمنزلة نار يتوجه المرء إليها وهي معبودة لقوم، ولا حكم ما أُري ليخبرهم كحكم من وضع الشيء بين يديه أو رآه قائمًا موضوعًا، فجعله أمام مصلاه وقبلته).
الوجه الرابع: ما ذكره السفاقسي: (ليس في الحديث ما بوب عليه؛ لأنَّه لم يفعله مختارًا، وإنَّما عرض ذلك؛ لمعنى أراده الله تعالى، ورؤيته عليه السَّلام للنار رؤية عين، كشف الله عنها فأراه إياها، وكذلك الجنة، كما كشف له عن المسجد الأقصى) انتهى.
وقد انتهت الجهالة لابن حجر، فأجاب عن ذلك حيث قال: كأنَّ البخاري كوشف بهذا الاعتراض فعجَّل بالجواب عنه حيث صدر الباب بالمعلَّق عن أنس، ففيه: «عرضت علي النار وأنا أصلي»، وثنَّى بحديث ابن عبَّاس وفيه ما يقتضي أنه رآها أمامه؛ حيث قالوا له بعد انصرافه: يا رسول الله؛ رأيناك تناولت شيئًا في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت؛ أي: تأخَّرت إلى خلف، فأجابهم: بأنَّ ذلك بسبب كونه رأى النار، ولا فرق بين القريب والبعيد من المصلي؛ لما في حديث أنس المعلَّق هنا، والموصول في «التوحيد» من قوله: «لقد عرضت علي الجنة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط» انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: هذا كلام تمجُّه الأسماع، وتستمجه الطباع، وانظر إلى هذا الأمر الغريب العجيب؛ شخص يكاشف اعتراض شخص يأتي بعده بمدة مقدار خمس مئة سنة، أو أكثر، ويجيب عنه بتصدير هذا الباب الذي فيه حديث أنس معلقًا، وحديث ابن عبَّاس موصولًا، ومع هذا لا يتم الجواب بما ذكره، ولا يتم الاستدلال به للبخاري، وبيان ذلك: أنَّ قوله: «وأنا أصلي» في حديث أنس، يحتمل أن يكون المعنى: وأنا أريد الصلاة، ولا مانع من هذا التقدير، وأما تناوله الشيء وتأخره إلى خَلْف في حديث ابن عبَّاس؛ لا يستلزم أن يكون ذلك بسبب رؤيته النار أمامه، ولا يستحيل أن يكون ذلك بسبب رؤيته إياها من يمينه أو شماله أو غير ذلك.
وقوله وفي [2] جوابه: (أنَّ ذلك بسبب كونه رأى النار)؛ مسلَّم أن ذلك كان بسبب كونه أُري النار، ولكن لا نسلِّم أنَّه كان بسبب كون رؤيته النار أمامه، ولئن سلمنا؛ فنقول: لنا جوابان آخران غير الأربعة المذكورة:
أحدهما: أنَّه عليه السَّلام أريها في جهنم، وبينه وبينها ما لا يحصى من بعد المسافة، فعدم كراهة صلاته عليه السَّلام كان لذلك.
والآخر: يجوز أن يكون ذلك منه عليه السَّلام، رؤية علم روحي باطلاعه وتعريفه من أمورها تفصيلًا ما لم يعرفه قبل ذلك) انتهى كلامه رضي الله عنه
واعترضه العجلوني، فزاد في الطنبور نغمة حيث قال: (وقوله: «انظر إلى هذا الأمر الغريب ... » إلى آخره، لعلَّه نظير الفنقلة من المؤلفين، وقوله: «يحتمل أن يكون المعنى ... » إلى آخره، انظر ارتكابه خلاف الظاهر، لا سيما في الأول من غير سبب، وقوله: «ولئن سلمنا ... » إلى آخره كأنَّه غفل عما للمؤلف في «التوحيد»، وفيه: «لقد عُرضت عليَّ الجنة والنار أنفًا في عرض هذا الحائط»، فتأمل منصفًا، ولا تكن في الأمور متعسِّفًا) انتهى.
قلت: لقد تعسَّف العجلوني فيما قاله، ولم يُنصِف، فهو مثل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... ............
فقوله: (لعله نظير الفنقلة من المؤلفين)؛ كلام بارد، وكيف ينسب مثل هذا الكلام إلى المؤلفين؟! فإن الفنقلة: الإتيان باللفظ على غير صيغته الأولى بدون تغيير المعنى، وهذا
%ص 592%
ليس كذلك؛ بل هو أمر غريب عجيب، فإنَّ الاطِّلاع على المغيبات لا يكون إلا لله تعالى أو نبيه الأعظم، حيث أطلعه تعالى على ما سيقع في أمته، وقد نصَّ العلماء أن من ادَّعى علم الغيب يكفر، قال تعالى: {قُل لايَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللهُ} [النمل: 65]، فابن حجر قد أثبت للبخاري الاطلاع على الغيب، فهو مردود.
وقوله: (انظر ارتكابه خلاف الظاهر ... ) إلى آخره؛ ممنوع؛ فإنَّ هذا صريح لفظ الحديث، وله نظائر في كلام الله تعالى ورسوله الأعظم، قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أي: أردتم القيام لها، وفيه أحاديث، وكلها تدلُّ على هذا التقدير، وهو ليس بخلاف الظاهر، بل المعنى عليه؛ لأنَّه عليه السلام قال: «عرضت عليَّ النار»، ومعلوم أنَّ العارض له إياها جبريل، والعرض إنَّما يكون قبل الصلاة، فكأنَّ قوله: «وأنا أصلي» أي: وأنا أريد الصلاة، على أنه لو كان رآها في نفس صلاته؛ لكان يقول: رأيت النار، فتصريحه بالعرض قرينة دالة على أنَّه لم يكن في الصلاة حينئذ؛ فافهم.
وقوله: (كأنه غفل عما في «التوحيد» ... ) إلى آخره؛ ممنوع؛ فإن إمام الشَّارحين لم يغفل عنه، بل هو حفظه قبل أن يصير العجلوني منيًا في ظهر أبيه، ولكنه أعرض عنه؛ لأنَّ معناه لا يدلُّ لما نحن فيه؛ فإنَّ قوله عليه السَّلام: «عرضت عليَّ الجنة، والنار أنفًا في عرض هذا الحائط» معناه، مُثِّلت، وصُوِّرت، ورقِّمت صورتها في عرض هذا الحائط، لأنَّ من المعلوم أن وجود الجنة والنار في حائط ما مستحيل، فالمراد لازم ذلك، وهو التمثيل والصورة، وعلى هذا؛ فلا دلالة فيه، وكذلك يجوز أن يكون المعنى في حديث ابن عبَّاس (أريت النار) أي: صفتها وصورتها، لا هي حقيقةً، بل مجازًا؛ فافهم.
وقول ابن حجر: (ولا فرق بين القريب من المصلي والبعيد ... ) إلى آخره: كلام فاسد؛ فإن الفرق بينهما ظاهر لمن له أدنى تأمل، فإنَّ النار في تحت الأرض السابعة السفلى، فكونه رآها أمامه بعيد عن النظر؛ لأنَّ الظاهر يردُّه، بل إنه رآها تحت قدميه، ويدل عليه أنه تأخَّر عن مكانه، وعلى كلٍّ؛ فالرؤية حقيقة مستحيلة، بل إنه رأى صورتها وصفتها، كما علمت، والله أعلم.
وقال ابن التين: (لا حجة في الحديث على الترجمة، لأنَّه عليه السَّلام لم يفعل ذلك اختيارًا، وإنمَّا عرض عليه ذلك للمعنى الذي أراه الله تعالى من تنبيهه للعباد).
واعترضه ابن حجر فقال: (وتُعقب بأن الاختيار وعدمه في ذلك سواء منه).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (لا نُسلِّم التسوية؛ فإن الكراهة تتأكد عند الاختيار، وأما عند عدمه، فلا كراهة؛ لعدم العلة الموجبة للكراهة؛ وهي التشبُّه بعبدة النار)
واعترضه العجلوني، بأنَّه أخذه من قول ابن حجر، وهو لا يرد؛ لأنَّ مناط التسوية في الحقيقة هو التعليل بقوله؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يقرُّ على باطل، وقد حذفه غفلة.
قلت: لم يأخذه إمام الشَّارحين من قول ابن حجر، ولم يغفل عنه، ولم يحذفه، وإنمَّا أعرض عنه؛ لمخالفته الظاهر، فإنَّ هذا الجواب لم يقله ابن حجر، وإنما قاله غيره، فنسبه لنفسه، وعلى كلٍّ؛ فهو وارد عليه، فإن قوله (لأن مناط التسوية ... ) إلى آخره؛ ممنوع؛ فإنَّه عليه السَّلام قد عُرضت عليه، وهو كاره لها بدليل: أنه عليه السَّلام قد تأخر عنها حين رؤيتها، فلو كان غير كاره لها؛ لما تأخر عنها، وبهذا كانت الكراهة متأكدة عند الاختيار، ولا كراهة عند عدمه، وما ذكره من علَّة التسوية؛ من أنه لا يقر على باطل إنَّما هو فيما يفعله بنفسه، فإن كان باطلًا؛ لا يقرُّ عليه، وإن كان حقًّا؛ أقرَّ عليه، وههنا ليس كذلك، فإنَّه عليه السَّلام لم يعرض هو بنفسه النار على نفسه، بل قد عرضت له، وهو كاره من رؤيتها على أنَّ هذا في حقه عليه السَّلام، أمَّا غيره؛ فلو فعل المعاصي كلها؛ أقرَّ عليه، لأنَّه لا وحي بعده عليه السَّلام، فتحصل بذلك عدم التسوية المذكورة؛ فافهم، وكم للعجلوني من تعصُّب بارد، وكثرة كلام فاسد، والله تعالى يحفظنا من التعصب والعناد، والله ولي السداد.
هذا وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: مشروعية صلاة الكسوف، وهي سنة عند الجمهور، وفيه: أنَّ النار مخلوقة اليوم؛ إذ لا قائل بالفرق، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وفيه: من معجزاته عليه السَّلام رؤيته النار رأي [3] عين حيث كشف الله عنه الحجب؛ فرآها معاينة، كما كشف له عن المسجد الأقصى، وفيه: ما بوَّب له البخاري من عدم كراهة الصلاة إذا كان بين يدي المصلي نار ولم يقصد به إلا وجه الله تعالى) انتهى، والله أعلم.
==================
[1] في الأصل: (بكسر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] تكرر في الأصل: (وفي).
(1/723)
(52) [باب كراهية الصلاة في المقابر]
هذا (باب كراهية) وفي بعض الأصول: (كراهة) (الصلاة) أي: الفريضة وغيرها (في المقابر) جمع (مقبُرة)؛ بضمِّ الموحدة، هو المسموع، والقياس فتحها، وفي «شرح الهادي» أن ما جاء على (مفعُلة)؛ بالضم: يراد بها: أنها موضوعة لذلك ومتخذة له، فإذا قالوا (المقبَرة) بالفتح؛ أرادوا: مكان الفعل، وإذا ضمُّوا؛ أرادوا: البقعة التي من شأنها أن يقبر بها، وكذلك المشرُفة والمشرُبة، والتأنيث في هذه الأسماء لإرادة البقعة أو للمبالغة؛ ليدل على أنَّ لها ثباتًا في أنفسها، والكراهة والكراهية كلاهما مصدران، تقول: كرهت الشيء أكرهه كراهة وكراهية، فهو شيء كريه ومكروه.
وبين البابين تناسب من حيث الضديَّة، كذا قرَّره إمام الشَّارحين.
قلت: يعني أنَّ الباب السابق ترجم له المؤلف، واستدل عليه بعدم كراهة الصلاة، وههنا أثبت الكراهة، فالتناسب من حيث الضد، ويقال: كلٌ [1] منهما في حكم من أحكام الصلاة، والمكروه ضد المحبوب، وهو يشمل الكراهة التحريمية والتنزيهية، ولم يبيِّن المؤلف ما مراده منهما، لكن إطلاق الكراهة يفيد: أنها للتحريم، كما سيأتي بيانه؛ فافهم.
==================
(1/724)
[حديث: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورًا]
432# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُسدد): هو ابن مُسرهَد _بضمِّ أولهما_ البصري (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان البصري، (عن عُبيد الله) بضمِّ العين المهملة؛ مصغرًا، زاد الأصيلي (بن عمر): هو العمري (قال: أخبرني) بالإفراد (نافع) هو مولى ابن عمر
%ص 593%
المدني، (عن) عبد الله (ابن عمر) هو ابن الخطاب القرشي، العدوي، رضي الله عنهما، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنَّه (قال: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم)؛ أي: بعضها، قال الكرماني: وهو مفعول الجَعْل، وهو متعدٍّ إلى واحد؛ كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وهو بخلافها بمعنى: التصيير، فإنَّها متعدية إلى اثنين؛ كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر: 39] انتهى.
قلت: ولا مانع من جعلها ههنا بمعنى: المتعدية لاثنين؛ الأول (في بيوتكم)، والثاني: (من صلاتكم)؛ لأنَّها اسم بمعنى: بعض؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (ومعناه: صلُّوا في بيوتكم، ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة؛ والمراد بها: صلاة النافلة؛ أي: صلُّوا النوافل في بيوتكم) انتهى.
قلت: يعني: أنَّ هذا البعض المأمور بجعله في البيوت هو النافلة التي لم تشرع في المسجد، بخلاف نحو التراويح، وركعتي الطواف، ويدلُّ عليه حديث «الصحيحين»: «صلُّوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة».
وقال القاضي عياض: (قيل: هذا في الفريضة، ومعناه: بعض فرائضكم في بيوتكم؛ ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد؛ من نسوة، وعبيد، ومريض، ونحوهم، قال: وقال الجمهور: بل هو في النافلة؛ لإخفائها).
قال إمام الشَّارحين: (فعلى التقدير الأول: تكون «من» في قوله «من صلاتكم»: زائدة، ويكون التقدير: اجعلوا صلاتكم في بيوتكم، ويكون المراد منها: النوافل، وعلى التقدير الثاني: تكون «من» للتبعيض مطلقًا، ويكون المراد من الصلاة: مطلق الصلاة، ويكون المعنى: اجعلوا بعض صلاتكم _وهو النفل من الصلاة المطلقة_ في بيوتكم، والصلاة المطلقة تشمل النفل والفرض؛ على أنَّ الأصح: منع مجيء «من» زائدة في الكلام المثبت، ولا يجوز حمل الكلام على الفريضة، لا كلِّها ولا بعضها؛ لأنَّ الحث على النفل جاء في البيوت، وذلك لكونه أبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك به البيت، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وينفر الشيطان منه، على ما دلَّ عليه حديث الطبراني: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة») انتهى كلامه
قال القرطبي: (من) للتبعيض، والمراد: النوافل، بدليل: رواية مسلم عن جابر مرفوعًا «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده؛ فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته».
واعترضه ابن حجر، فزعم أنه ليس في الحديث ما ينفي احتمال الفريضة.
وردَّه العجلوني؛ بأنَّه في غاية البعد مع قوله: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده»؛ فإن المراد بها: الفرائض قطعًا، ولهذا قال النووي: لا يجوز حمله على الفريضة، بل المراد: الحث على جعل النفل في البيت، انتهى.
قلت: هذا عجيب من العجلوني حيث ردَّ على ابن حجر، ولا عجب؛ فإنَّ الطبع يَمُجُّ ما قاله؛ فافهم، والله أعلم.
(ولا تتخذوها) أي: بيوتكم (قبورًا) أي: كالقبور مهجورة من الصلاة وقراءة القرآن، وهذا من التشبيه البليغ البديع؛ بحذف حرف التشبيه؛ للمبالغة حيث شبَّه البيت الذي لا يصلَّى ولا يقرأ فيه بالقبر الذي لا يتمكن الميت من العبادة فيه، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: ويدلُّ عليه ما في رواية مسلم: «مَثَلُ البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت»، وكذلك ما رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن ابن سابط عن أبيه يرفعه: «نوِّروا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتَّخذوها قبورًا، كما اتخذها اليهود والنصارى؛ فإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتَّسع على أهله، ويكثُر خيره، وتَحضُره الملائكة وتُدْحض عنه الشياطين، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يَضيق على أهله، ويقلُّ خيره، وتنفر منه الملائكة، وتَحْضر فيه الشياطين» انتهى.
قلت: والصلاة تشتمل على قراءة القرآن، وذكر، ونحوها؛ فهي أولى بالمقصود، وإنَّما تَحضر الملائكة؛ لأجل سماعها تلاوة القرآن؛ لأنَّها لا تحفظه، بل تسمعه من بني آدم؛ وفيه حديث.
وقال الخطابي: (يحتمل أن يكون معناه: لا تجعلوا بيوتكم أوطانًا للنَّوم لا تُصلون فيها، فإن النوم أخو الموت، وأمَّا من أوَّله على النهي عن دفن الموتى في البيوت؛ فليس بشيء، فقد دُفِن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته) انتهى.
واعترضه ابن حجر، فزعم أنَّ ماادُّعي أنَّه تأويل هو ظاهر الحديث، ولا سيما أن جعل النهي حكمًا منفصلًا عن الأمر، انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ ظاهر الحديث لا يدلُّ على ما ذكره، فإنَّ الحديث يشتمل على جملتين متعلقتين ببعضهما بعضًا، ولا يجوز إفراد أحدهما عن الأخرى، والثانية دالة: على عدم صلاة المرء في بيته، فقوله: (ولا سيما ... ) إلخ؛ غير صحيح؛ لأنَّ هذا الجعل لا يجوز، ويلزم عليه تغيير مراده عليه السَّلام من عدم صلاة المرء في بيته؛ للقرينة الدالة على ذلك، وهي قوله (اجعلوا ... ) إلى آخره؛ فافهم.
واعترضه أيضًا الكرماني فقال: فيه نظر، ودفن رسول الله عليه السَّلام في بيته لعلَّه كان من خصائصه سيما وقد روي: «الأنبياء يُدفنون حيث يموتون» انتهى.
قال إمام الشَّارحين: هذه الرواية رواها ابن ماجه من حديث ابن عبَّاس عن أبي بكر الصديق مرفوعًا: «ما قُبض نبي إلا دُفن حيث يُقبض»، وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي وهو
%ص 594%
ضعيف، وروى الترمذي في «الشمائل» والنسائي في «الكبرى» من طريق سالم بن عبيد الأشجعي عن أبي بكر الصديق أنه قيل له: وأين دفن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: «في المكان الذي قبض الله روحه فيه، فإنَّه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب»، وإسناده صحيح، ولكنَّه موقوف، وحديث ابن ماجه أكثر تصريحًا في المقصود، انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: وحديث ابن ماجه له طرق أخرى مرسلة، ذكرها البيهقي في «الدلائل»؛ فافهم.
وقال ابن حجر: إذا حُمِل دفنه عليه السَّلام على الاختصاص؛ لم يَبْعد نهي غيره عن ذلك، بل هو متجه، لأنَّ استمرار الدفن في البيوت ربما صيَّرها مقابر، فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر»؛ فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقًا، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: لا نسلِّم هذا الاقتضاء من ظاهر اللفظ، بل المعنى الذي يدلُّ عليه ظاهر اللفظ: لا تجعلوا بيوتكم خالية عن الصلاة؛ كالمقابر، فإنَّها ليست بمحلٍّ للعبادة، ولهذا احتجَّت به طائفة على كراهة الصلاة في المقابر، انتهى.
قلت: فهو نظير حديث الباب بلا فرق، وقول ابن حجر: إذا حُمل دفنه ... إلى آخره؛ ظاهره التبرُّؤ منه مع التردُّد فيه، والحال أنَّ هذا الحمل متعين؛ فإنَّ دليل الخصوصية موجود، كما صرَّح به في حديث ابن ماجه، والترمذي، والنسائي، فلا وجه للتردُّد، ونَهي غيره عن ذلك متعين أيضًا؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: قيل: هذا الحديث لا يطابق الترجمة؛ لأنَّها في كراهة الصلاة في المقابر، والمراد من الحديث: ألَّا يكونوا في بيوتهم كالأموات في القبور؛ حيث انقطعت عنهم الأعمال، وارتفعت التكاليف، وهو غير متعرِّض لصلاة الأحياء في ظواهر المقابر، ولهذا قال: «لا تتخذوها قبورًا»، ولم يقل: مقابر، انتهى.
وقال الخطابي: في الحديث دليل على أنَّ الصلاة لا تجوز في المقابر، وتبعه البغوي، ونقل ابن المنذر عن أهل العلم: أنَّهم استدلوا بهذا الحديث على أنَّ المقبرة ليست بموضع للصلاة، انتهى.
قال العجلوني: وعلى هذا حمله البخاري، فترجم بكراهة الصلاة في المقابر، انتهى.
قلت: وفيه بُعد؛ فإن الحديث لا يدل على ما ذكره؛ لأنَّ معناه: لا تجعلوا بيوتكم خالية عن الصلاة؛ كالمقابر، ولهذا اعترض على الخطابيِّ إمامُ الشَّارحين فقال: الحديث لا يدلُّ على هذا، بل الترجمة تساعده، انتهى.
يعني: لا كلام لنا في الترجمة بدون الحديث، بل لا بدَّ من بيان الاستدلال للترجمة، وما زعمه العجلوني من هذا الحمل ممنوع؛ لأنَّ بين عدم الجواز وبين الكراهة فرقًا، فإن الجوازَ يقال في الذي يحرم فعله، والكراهة فيما يجوز فعله، لكنَّه خلاف الأولى، على أنَّ ما ذكره ابن المنذر ليس بشيء؛ لأنَّه إذا كان استدلالهم بهذا الحديث؛ فالحديث لا يدلُّ لهم؛ لما علمت من معناه، وإن كان بغيره؛ فربما دل عليه أحاديث غيره.
وقال الإسماعيلي: هذا الحديث يدلُّ على النهي عن الصلاة في القبر لا في المقابر، واعترضه ابن حجر بأنَّه قد ورد بلفظ: المقابر، كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر [1]» انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: هذا عجيب! كيف يقال: حديث يرويه غيره بأنَّه مطابق لما يترجم به، انتهى.
قلت: فهو لا ينهض دليلًا؛ لأنَّه قد رواه مسلم، والبخاري لو كان معتمدًا عليه؛ لاحتج به، فعدم ذكره له دليل على أنه لم يستدلَّ به؛ فافهم.
وقال السفاقسي: إن البخاري تأوَّل هذا الحديث على منع الصلاة في المقابر، ولهذا ترجم به، وليس كذلك؛ لأنَّ منع الصلاة في المقابر أو جوازها لا يفهم من الحديث، واعترضه ابن حجر فقال: إن أراد أنَّه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق؛ فمُسلَّم، وإن ادعى نفي ذلك مطلقًا؛ فلا؛ فقد قدمنا وجه استنباطه، انتهى.
قلت: حيث قال: استنبط من الحديث أنَّ القبور ليست بمحل العبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة، وكأنه أشار إلى ما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد مرفوعًا: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» انتهى.
قلت: وقد ردَّه إمام الشَّارحين، فقال: دعواه بأنَّ البخاري استنبط كذا، وأنَّه أشار إلى حديث أبي سعيد أعجب وأغرب من الأول؛ لأنَّ معنى قوله عليه السَّلام: «لا تتخذوها قبورًا»: لا تتخذوها خالية من الصلاة وتلاوة القرآن؛ كالقبور؛ حيث لا يُصلَّى فيها ولا يقرأ القرآن عندها، ويدلُّ على هذا ما رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن ابن سابط عن أبيه يرفعه: «نوِّروا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتَّخذوها قبورًا، كما اتخذها اليهود والنصارى، فإنَّ البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله، ويكثر خيره، وتحضره الملائكة، وتُدحض عنه الشياطين، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يَضيق على أهله، ويقلُّ خيره، وتنفر منه الملائكة، وتحضر فيه الشياطين» انتهى.
وأيضًا، فإنَّ معنى هذا على التشبيه البليغ، فحذفت منه أداة التشبيه؛ لأنَّ معناه: لا تجعلوها مثل القبور؛ حيث لا يصلى فيها، ولا دلالة بهذا أصلًا على أنَّها ليست بمحل للعبادة بنوع من أنواع الدلالات اللفظية، انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: وهو في غاية من الحسن، ويدل عليه أيضًا ما في رواية مسلم: «مَثَل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمَثَل الحي والميت»؛ فافهم.
%ص 595%
وعلى كل حال؛ فلا دلالة في الحديث لما ترجم له المؤلف، وقد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة تدل على كراهة الصلاة في المقبرة، واستدلت بها جماعة على كراهة الصلاة فيها، لكن المؤلف لم يشر إليها ولم يحتج بها؛ لكونها ليست على شرطه، وهي ما روي عن أبي سعيد الخدري، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وابن عبَّاس، وحذيفة، وأنس بن مالك، وأبي أمامة، وأبي ذر.
فروى الترمذي حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام»، ثم قال الترمذي: (وفي الباب: عن علي)، وذكر من ذكرناهم، ففيه كراهة الصلاة في المقبرة والحمام، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وتبعهم مالك والشافعي، يدل عليه عموم قوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وبه قال الأوزاعي والثوري، وزعم أبو ثور أنَّه لا يُصلى في المقبرة والحمام، وزعم أهل الظاهر أنَّه تحرم الصلاة في المقبرة مطلقًا، وقال أحمد: لا تصح الصلاة في المقبرة والحمام، وقد صلى الحسن البصري في المقبرة، وقد سبق بيانه.
وفي حديث الباب دليل على أنَّ من صلى في بيته جماعة؛ فقد أصاب سنة الجماعة وفضلها، وقال إبراهيم النخعي: إذا صلى الرجل مع الرجل؛ فهما جماعة، ولهما التضعيف خمسًا وعشرين درجة، وقال أئمتنا الأعلام: الأفضل في غير الفرائض المنزل، وروي عن جماعة: أنَّهم كانوا لا يتطوعون في المسجد؛ منهم: حذيفة، والسائب بن يزيد، والربيع بن خيثم، وسويد بن غفلة، وروي: أنَّ أحمد، وإسحاق، وابن المديني اجتمعوا في دار أحمد، فسمعوا النداء، فقال أحدهم: اخرج بنا إلى المسجد، فقال أحمد: خروجنا إنَّما هو للجماعة، ونحن جماعة، فأقاموا الصلاة وصلوا في البيت، وروى ابن أبي شيبة بسند جيد عن زيد بن خالد الجهني مرفوعًا: «صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا»، وروى أيضًا عن علي يرفعه: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا».
قلت: وهذا يؤيد القول بأنَّ الحديث ورد في صلاة الفريضة؛ ليقتدي به من لا يستطيع الخروج إلى المسجد؛ فافهم.
وروى الطحاوي من حديث سعد بن إسحاق، عن أبيه، عن جده: أنه عليه السَّلام صلى المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما فرغ؛ رأى الناس يسبحون، فقال: «يا أيها الناس؛ إنَّما هذه الصلاة في البيوت»، وأخرجه أبو داود وابن ماجه أيضًا.
قلت: ومعنى (يسبحون)؛ أي: يصلون النافلة؛ بدليل قوله: (إنَّما هذه الصلاة).
وروى الحافظ الطحاوي أيضًا من حديث عبد الله من حديث عبد الله بن سعد قال: سألت النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد، فقال: «قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد؛ إلا أن تكون صلاة مكتوبة»، وأخرجه الطبراني أيضًا.
وقال الإمام المرغيناني في «الهداية»: (ويستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء، فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات، والسنة فيها الجماعة على وجه الكفاية، حتى لو امتنع أهل مسجد عن إقامتها؛ كانوا مسيئين، ولو أقامها البعض؛ فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة؛ لأنَّ أفراد الصحابة يُروى عنهم التخلف) انتهى.
وقد ترجم الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي (باب القيام في شهر رمضان): هل هو في المنازل أفضل أم مع الإمام؟ وروى حديث أبي ذر قال: صُمت مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ... ؛ الحديث، وفيه: (أنَّ القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة)، وذهب جماعة من أصحاب الإمام الأعظم_وهم: عيسى بن أبان، وبكار بن قتيبة، وأحمد بن أبي عمران، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك_: إلى أنَّ القيام مع الإمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل، استدلالًا بهذه الأحاديث، وتبعهم أحمد، وإسحاق، والمزني، وابن الحكم من أصحاب الشافعي، وهو المروي عن جابر، وعلي، وعبد الله، وابن سيرين، وطاووس، وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخالفهم في ذلك مالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وربيعة، وإبراهيم، والحسن، وعلقمة، فقالوا: صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإمام، وبه قال سالم والقاسم، وروي عن ابن عمر، ولكن الأحاديث تدل للأول، وهي حجة عليهم؛ فافهم، وتمامه في «عمدة القاري» اللهم؛ فرج عني ما أهمني برحمتك يا باري.
==========
[1] في الأصل: (مقابرًا)، وليس بصحيح.
==================
(1/725)
(53) [باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب]
هذا (باب) حكم (الصلاة): فرضها، وواجبها، ونفلها (في مواضع)؛ بالجمع، وللأصيلي: (في موضع)؛ بالإفراد (الخَسف)؛ بفتح الخاء المعجمة؛ أي: في الأمكنة التي خسفت بأهلها من الأمم السابقة (والعذابِ)؛ بالجر عطفًا على ما قبله، من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ الخسف من أفراد العذاب، والخسف للمكان: ذهابه في الأرض؛ والمعنى: وباب حكم الصلاة في مواضع نزل عليها العذاب.
يقال: خَسَف المكان يَخْسف خسفًا: ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسفًا؛ أي: غاب به فيها، ومنه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81]، وخُسُوف العين: ذهابها في الرأس، وخُسُوف القمر: كسوفه، وخسف هو في الأرض، وخسف به.
وتقديرنا لفظ (حكم) تبعًا لإمام الشَّارحين أولى من تقدير (جواز) كما فعل العجلوني؛ لأنَّ الحكم أعم، وعادة المؤلف إطلاق الترجمة حتى تشمل الجواز وعدمه وإن كان المراد منها جواز الصلاة في هذه الأمكنة على خلاف فيه، سيأتي، ولكن بقي الإبهام في الكراهة وعدمها؛ لأنَّ المؤلف كعادته لم يبين ذلك، ولكن تصديره بأَثَرِ عَليٍّ يدل أنَّ الصلاة في هذه الأمكنة مكروهة، كما سيأتي.
والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأنَّ كلًّا منهما في بيان كراهة الصلاة، والأول في المقابر، وهذا في موضع العذاب؛ فافهم.
(ويُذكر): بضمِّ التحتية أوله، تعليق بصيغة التمريض، ومطابقته للترجمة ظاهرة، وهو يدل على أنَّ مراده من عقد الباب
%ص 596%
الإشارة إلى أنَّ الصلاة في مواضع الخسف مكروهة؛ لأنَّه قال: (أن عليًّا): هو الصديق الأصغر ابن أبي طالب رضي الله عنه (كره الصلاة): فرضها، وواجبها، ونفلها (بخسف بابل): اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر، قاله الجوهري، وقال البكري: (بابل بالعراق؛ مدينة السحر معروفة)، وقال الأخفش: (ممنوعة من الصرف؛ للعَلَمِيَّة والتأنيث)، قال إمام الشَّارحين: (وذلك أنَّ اسم كل شيء مؤنث إذا كان أكثر من ثلاثة أحرف؛ فإنَّه لا ينصرف في المعرفة)، قال: وربما سموا العراق: بابلًا، قال عمر بن أبي ربيعة _وأتى البصرة فضافه ابن هلال المعروف بصديق الجن_:
يا أهل بابل ما نَفَست عليكم ... من عيشكم إلا ثلاث خِلال
ماء الفرات وظل عَيْش بارد ... وغِنَى مسمعتين لابن هلال
وذكر الطبري: (أنَّ بابل: اسم قرية، أو موضع من مواضع الأرض، واختُلف فيها؛ فقال السدي: هي بابل دنياوند، وقيل: بالعراق، وورد في ذلك حديث مروي عن عائشة، وإنَّما سميت ببابل؛ لأنَّه بات الناس ولسانهم سرياني، فأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنتين وسبعين لسانًا، كُلٌ يبلبل بلسانه، فسمي الموضع: بابلًا) انتهى.
قلت: والمشهور أنَّ أرض بابل من مدينة حلب وما وراءها؛ كمرعش، وديار بكر، وغيرهما؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة: عن وكيع: حدثنا سفيان: حدثنا عبد الله بن شريك عن عبد الله بن أبي المُحِلِّ العامري قال: «كنا مع علي رضي الله عنه، فمررنا على الخسف الذي ببابل، فلم يُصلِّ حتى أجازه»؛ أي: تعداه، والمُحِلُّ بضمِّ الميم، وكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام) انتهى.
قلت: وقد رواه ابن أبي شيبة من طريق أخرى عن علي قال: (ما كنت لأصلي في أرض خَسَف الله بها ثلاث مرار)، قاله ابن حجر، ثم قال: (والظاهر أنَّ قوله: «ثلاث مرار» ليس متعلقًا بالخسف؛ لأنَّه ليس فيه إلا خسف واحد، وإنَّما أراد الرواي: أنَّ عليًّا قال ذلك ثلاثًا) انتهى.
قلت: وفيه نظر، بل الظاهر أنَّ قوله: (ثلاث مرار)، متعلق بالخسف؛ يعني: أنَّ الخسف وقع لهذه الأرض ثلاث مرار؛ بأن خسف بها أولًا، ثم أعيدت، ثم خسف بها ثانيًا، ثم أعيدت، ثم ثالثًا، ولا مانع من ذلك؛ لأنَّ القدرة صالحة، وفيه تنبيه إلى مبدأ الإنسان ومعاده ومبعثه، فقوله: (لأنَّه ليس فيه إلا خسف واحد)؛ ممنوع؛ لأنَّها دعوى بلا دليل، وهي غير مقبولة.
وقوله: (وإنَّما الراوي ... ) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لكان يقال: (ثلاثًا) بدون تصريح بقوله: (مرار) الدالة على تكرار وقوع الخسف، فصريح قوله: (ثلاث مرار) يدل لما قلناه؛ فليُحفظ.
قال إمام الشَّارحين: (وروى أبو داود في «سننه» من حديث حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري، عن علي رضي الله عنه: «أنَّه مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر، فلما برز منها؛ أتى المؤذن فأقام، فلما فرغ من الصلاة؛ قال: إن حبيبي صلَّى الله عليه وسلَّم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل؛ فإنَّها ملعونة»، قال ابن يونس: «أبو صالح الغفاري سعيد بن عبد الرحمن روى عن علي، وما أظنه سمع منه»، وقال ابن القطان: «في سنده رجال لا يُعرفون»، وقال عبد الحق: «حديث واه»، وقال البيهقي: «إسناده غير قوي») انتهى.
قلت: وحاصله أنَّه ضعيف، وزعم ابن حجر أنَّ اللائق بتعليق المؤلف ما رواه ابن أبي شيبة، انتهى.
ورده العجلوني فقال: (ما رواه أبو داود وابن أبي شيبة كلاهما لائق به، وما رواه أبو داود أليق؛ لأنَّ المؤلف أورده بصيغة التمريض؛ فتأمل) انتهى.
قلت: تأملته؛ فرأيته في غاية من الحسن، بل قلت: إنَّ ما رواه أبو داود هو اللائق قطعًا بتعليق المؤلف؛ لأنَّه قد صرح به: بأنَّها ملعونة؛ يعني: لم ينزل عليها من الرحمات شيء، وقول المؤلف: (ويذكر) صيغة تمريض تدل على ضعف إسناد الحديث، وقد صرَّح الأئمة بضعفه، كما علمت؛ فافهم.
والمراد بالخسف: ما ذكره الله تعالى بقوله: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ... }؛ الآية [النحل: 26]، قال الإمام النسفي: (إنَّ هذا البناء كان لبختنصر)، وقال ابن عبَّاس وزيد بن أسلم: (هو صرح نمرود بن كنعان)، قال ابن عبَّاس: (كان طوله في السماء خمسة آلاف ذراع)، وقال كعب: (كان طوله في السماء فرسخين)، وبه قال مقاتل، انتهى.
وقال أهل الأخبار: إنَّ المراد بذلك ما بناه نمرود بن كنعان؛ فإنَّه بنى ببابل بنيانًا عظيمًا يقال له: المجدل؛ أي: القصر، انتهى.
قال النسفي: (قال مقاتل: فهبت ريح فألقت رأسها في البحر، وخَرَّ عليهم الباقي من فوقهم، وذلك لأنَّهم كانوا يترصدون [1] خبر السماء، فأهب الله الريح، فخرَّ عليه وعلى قومه فهلكوا).
قال الخطابي: (لا أعلم أحدًا من العلماء حَرَّم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو قوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا»، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه أن يتخذها وطنًا ومقامًا، فإذا أقام بها؛ كانت صلاته بها، وهذا من باب التعليق في علم البيان) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (قلت: أراد بها الملازمة الشرعية؛ لأنَّ من لَازِمِ إقامة الشخص بمكان أن تكون صلاته فيه، فيكون من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وإنَّما قيدنا الملازمة بالشرعية؛ لانتفاء الملازمة العقلية) انتهى كلامه، وقد اختصر عبارته العجلوني ونسبها لنفسه؛ فليتنبه.
وقال الخطابي أيضًا: (لعل النهي لعلي خاصة، ألا ترى أنَّه قال: «نهاني»، ولعل ذلك إنذار منه ما لقي من المحنة بالكوفة) انتهى.
قلت: دعواه الخصوصية تحتاج إلى دليل، وقوله: (نهاني) لا يدل عليها؛ لأنَّه عليه السَّلام قال ذلك له عند إرادته السفر، فهو توصية له بذلك، وهي على العموم، ولهذا ترجم المؤلف بـ (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب)، ولم يجعل ذلك خاصًّا بعلي؛ فافهم.
على أنَّ الظاهر: أنَّه نهاه أن يتخذها وطنًا؛ لأنَّه إذا أقام بها كانت صلاته بها؛ فتأمل.
وقال إمام الشَّارحين: (وقد وردت أحاديث فيها النهي عن الصلاة في مواضع؛ منها: حديث ابن عمر: «أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نهى أن
%ص 597%
يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله»، رواه الترمذي وابن ماجه، قال القرطبي: «وإسناده ليس بقوي؛ لأنَّه فيه: زيد بن جبيرة، وقد تكلم فيه من قِبِل حفظه».
وقال ابن العربي: المواضع التي لا يصلى فيها ثلاثة عشر موضعًا، فذكر السبعة المذكورة، وزاد: الصلاة إلى المقبرة، وكذا الصلاة وأمامك جدار مرحاض عليه نجاسة، والكنيسة، والبِيْعة، وفي قبلتك تماثيل، وفي دار العذاب.
وزاد بعضهم: الصلاة في الأرض المغصوبة، وإلى النائم، والمتحدث، والصلاة في بطن الوادي، والصلاة في بطن الضراوي، فصارت الجملة ثمانية عشر، فنقول:
أمَّا المزبلة؛ فهي المكان الذي يلقى فيه الزبل؛ وهو السرجين، وفيها لغتان؛ فتح الموحدة وضمها، والصلاة فيها، فإن كانت فيها نجاسة؛ فلا تصح عليها بدون حائل، وإن فرش عليها حائلًا [2] بينه وبينها وصلى؛ فصلاته مكروهة تحريمًا، وإن لم يعلم فيها نجاسة أم لا وصلَّى فيها بحائل؛ فصلاته مكروهة تنزيهًا.
وأمَّا المجزَرة؛ فهي _بفتح الزاي_: المكان الذي ينحر فيه الإبل، ويذبح فيه البقر والغنم، وهي أيضًا محل الدماء والأرواث، فصلاته فيها على التفصيل في المزبلة، وهذا مذهب الإمام الأعظم، ومالك، وغيرهما، وقال أحمد: الصلاة فيهما لا تصح.
وأمَّا المقبرة؛ فقدمنا الكلام فيها.
وأمَّا قارعة الطريق؛ فلما فيها من شغل الخاطر بمرور الناس ولفظهم، ويلحق بها صلاته في دكانه، فإنَّه مكروه لذلك.
وأمَّا الحمام؛ فالصلاة فيه مكروهة عند الجمهور، وفصَّل أئمتنا الأعلام، فقالوا [3]: إن صلى في داخله بأن غسل موضعًا وصلى فيه؛ فصلاته مكروهة، وإلا؛ فلا، وإن صلى في خارجه عند محل خلع الثياب؛ فلا بأس بذلك، وقال أحمد: لا تصح الصلاة في الحمام، ومن صلى؛ أعاد، والعلة في الكراهة الغُسَالات، وقيل: لأنَّها مأوى الشياطين، فعلى الأول؛ إن صلى في مكان طاهر فيها؛ لا تكره تحريمًا، بل تنزيهًا، وعلى الثاني؛ تكره الصلاة فيه، سواء كان في داخله أو خارجه، ويلزم منه أن تكره الصلاة في غير الحمام أيضًا؛ لعدم خلوِّ الأمكنة من الشياطين.
قلت: وقد يقال: إنَّ الشياطين في الحمام أكثر من غيره.
وأمَّا معاطن الإبل؛ فقد سبق الكلام عليه.
وأمَّا الصلاة فوق ظهر بيت الله؛ ففيه تفصيل، قال في «نور الإيضاح»: (صح فرض ونفل فيها؛ لقوله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ ... }؛ الآية [البقرة: 125]، ولحديث بلال: «أنَّه عليه السَّلام دخل البيت وصلى فيه»، وصح فرض ونفل فوقها وإن لم يتخذ سترة، لكنه مكروه؛ لإساءة الأدب باستعلائه عليها، ومن جعل ظهره إلى غير وجه إمامه فيها أو فوقها؛ صح اقتداؤه، إلا أنَّه يكره إذا قابل وجهه وجه إمامه، وإن جعل ظهره إلى وجه إمامه؛ لا يصح، وصح الاقتداء خارجها بإمام فيها والباب مفتوح، وإن تحلقوا حولها والإمام خارجها؛ صح، إلا أنَّه لا يصح صلاة من كان أقرب إليها من جهة إمامه) انتهى بزيادة من الشرح.
وقال أحمد: لا تصح الصلاة فوقها، وفي «شرح الترمذي»: (لم يصح فيه حديث).
وأمَّا الصلاة إلى جدار مرحاض؛ فلما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ابن عمر قال: (لا يصلى إلى الحش)، وعن علي: (لا يصلى تجاه الحش)، وعن إبراهيم: (كانوا يكرهون ثلاثة أبيات القبلة)، وذكر منها: الحش، وهو حجة على الشافعي؛ حيث قال: لا تكره الصلاة وبين يديه جيفة، وحكى الطبري: أنَّه يكره استقبال الجدار النجس في الصلاة، وقال ابن حبيب المالكي: من تعمَّد الصلاة إلى نجاسة؛ بطلت صلاته، إلا أن يكون بعيدًا جدًّا، ونص علماؤنا الأعلام: على أنَّه تكره الصلاة قريبًا من نجاسة.
وأمَّا الصلاة في الكنيسة والبَيعة؛ فكرهها الحسن البصري، وفي «مصنف ابن أبي شيبة»: أنَّ ابن عبَّاس كره الصلاة في الكنيسة إذا كانت فيها تصاوير، ولم يَرَ الشَّعبي وعطاء بالصلاة في الكنيسة والبيعة بأسًا، وكذلك ابن سيرين، وقال الإمام الأعظم: تُكره الصلاة في الكنيسة والبيعة، وإن تكرر منه الدخول إليهما؛ يعذر بما يليق به، كما صرح به في «البحر».
وأمَّا الصلاة إلى قبلة فيها تماثيل؛ فهي مكروهة كما قدمناه.
وأمَّا الصلاة في دار العذاب؛ فلما تقدم من تعليق المؤلف عن علي.
وأمَّا الصلاة في الأرض المغصوبة؛ فلما فيه من استعمال حق الغير بغير إذنه، وهو حرام، فتحرُم الصلاة فيها، ولا ثواب له، فإن كانت لكافر؛ لا يصلي فيها، ويصلي في الطريق، وإن كانت لمسلم؛ صلى فيها؛ لأنَّ المسلم يعفو عن المسلم.
وأمَّا الصلاة إلى النائم والمتحدث؛ فلما روى ابن عبَّاس النهي عن ذلك، رواه أبو داود وابن ماجه؛ لأنَّه يشغل البال، ويُخلُّ بالخشوع، وربما تفسد صلاته من ظهور شيء من النائم والمتحدث؛ فافهم.
وأمَّا الصلاة في بطن الوادي؛ فهو خوف السيل السالب للخشوع.
وأمَّا الصلاة في مسجد الضِرار؛ فلقوله تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]، وقال ابن حزم: (لا تصح الصلاة فيه؛ لأنَّه ليس موضع صلاة)، وقال: (لا تجوز الصلاة في مسجد يستهزأ فيه بالله، أو رسوله، أو بشيء من الدين، أو في مكان يُكفر فيه بشيء، فإن لم يمكنه الخروج وصلى؛ جازت صلاته) انتهى.
قلت: ولا فرق في ذلك بينها وبين الكنيسة والبيعة، فإنَّ فيهما يكفر بالله ورسوله؛ فلا وجه؛ لعدم صحة صلاته، بل صلاته فيه صحيحة مع الكراهة؛ فافهم ذلك، وسيأتي بقية الكلام على ذلك في آخر الباب.
==========
[1] في الأصل: (يترصدوا)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حائل)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (فقال)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (يترصدوا)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حائل)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (يترصدوا)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حائل)، وليس بصحيح.
(1/726)
[حديث: لا تدخلوا على هؤلاء المُعذَّبين إلا أن تكونوا باكين]
433# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسماعيل): هو ابن أبي أويس بن عبد الله الأصبحي المدني، وتكلم فيه كأبيه، لكن أثنى عليه أحمد ابن حنبل وابن معين (قال: حدثني)؛ بالإفراد خالي (مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن عبد الله بن دِينار)؛ بكسر أوله: هو المدني، (عن عبد الله بن عمر): هو ابن الخطاب القرشي العدوي المدني: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بفتح الهمزة، وجملة: (قال): محلها رفع خبر (أنَّ)؛ أي: لأصحابه حين مروا بالحجر وديار ثمود في حال توجههم إلى تبوك: (لا تَدخُلوا) بفتح الفوقية، وضم الخاء المعجمة (على هؤلاء المعذَّبين)؛ بفتح الذال المعجمة؛ يعني: ديار هؤلاء وهم
%ص 598%
أصحاب الحِجْر قوم ثمود، وهؤلاء قوم صالح عليه السَّلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ ... } الآية [الحجر: 80]، و (الحِجْر)؛ بكسر الحاء المهملة، وسكون الجيم: يطلق على معان؛ منها: الكعبة، ومنها: الحرم؛ لقوله تعالى: {حِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: 22]؛ أي: حرامًا محرمًا، ومنها: العقل؛ لقوله تعالى: {لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5]، والحجر: حجر القميص، ومنها: القوس الأنثى، ومنها: ديار ثمود _وهو المراد ههنا_: وهي ما بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي فيه ثمود، قاله قتادة، وقال الطبري: (هي أرض بين الحجاز والشام، وهم قوم صالح)، وقال الزهري: هو اسم مدينتهم، وإنَّما قال: {المُرْسَلِينَ} _وهو صالح وحده_ إشعارًا بأنَّ من كذب نبيًّا؛ فقد كذب الأنبياء؛ لأنَّهم على دين واحد في الأصول، فلا يجوز التفريق بينهم، وقيل: كذَّبوا صالحًا ومن تقدمه من النبيين، وروى المؤلف في (المغازي) عن ابن عمر: (أنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما نزل الحجر في غزوة تبوك؛ أمرهم ألَّا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنَّا واستقينا، فأمرهم أن يهريقوا الماء، وأن يطرحوا العجين)، وروى أيضًا في (التفسير) عن ابن عمر: (أنَّ الناس نزلوا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الحِجْر في أرض ثمود، فاستقَوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم أن يهريقوا ما استقَوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تَرِدُها الناقة)، وروى أيضًا في (الأنبياء) عن ابن عمر قال: مررنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الحِجْر، فقال لنا رسول الله: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ... »؛ الحديث، قال المهلب: إنَّما قال عليه السَّلام: «لا تدخلوا» من جهة التشاؤم بتلك البقعة التي نزل بها السخط والغضب، يدل عليه قوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [إبراهيم: 45] في مقام التوبيخ على السكون فيها، وقد تشاءم عليه السَّلام بالبقعة التي نام فيها عن الصلاة، ورحل عنها ثم صلى، فكراهة الصلاة في موضع الخسف أولى.
ثم استثنى من ذلك، فقال: (إلا أن تكونوا باكين) حقيقة، أو متباكين حالًا أو مآلًا في ذلك المكان من شدة الخوف، فأباح الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار خوفًا من حلول مثل ذلك بكم، وهذا يدل على أنَّ من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأنَّ الصلاة موضع البكاء والاعتبار، وزعمت الظاهرية أنَّ من صلى في بلاد ثمود وهو غير باك؛ فعليه سجود السهو إن كان ساهيًا، وإن تعمد ذلك؛ بطلت صلاته، قال الشَّارح: (وهو خُلفٌ من القول؛ إذ ليس في الحديث ما يدل على فساد صلاة من لم يبكِ، وإنَّما فيه خوف نزول العذاب به) انتهى.
وزعم ابن حجر: ليس المراد الاقتصار في البكاء على ابتداء الدخول، بل دائمًا عند كل جزء من الدخول، وأمَّا الاستغراق؛ فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولوية، وسيأتي أنَّه عليه السَّلام لم ينزل فيه ألبتة، انتهى.
قلت: وهذا كلام فيه نظر، وبُعدٌ عن الظاهر؛ لأنَّ ظاهر الحديث يدل على إباحة دخولهم إذا كانوا باكين مطلقًا، سواء كانوا حقيقة أو متباكين في حال دخولهم أو في انتهائه، والمراد به الخوف والاعتبار، وهو يحصل بدون بكاء، فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم له، فلا يلزم البكاء دائمًا كما زعمه، بل يلزم دوام الخوف والاعتبار مع البكاء في جزء من الدخول، سواء كان في الابتداء أو في الانتهاء، والبكاء لا يلزم أن يكون حقيقة، بل يجوز أن يكون حكمًا وهو المتباكي، وقوله: (وسيأتي ... ) إلخ: ممنوع، فإنَّا قدمنا عن المؤلف: أنَّه عليه السَّلام نزل على الحجر ... ؛ الحديث، وقد رواه المؤلف من طرق متعددة في أبواب متفرقة، وهو صريح في أنه نزل فيه ألبتة؛ فافهم، والله أعلم.
(فإن لم تكونوا باكين)؛ أي: حالًا أو مآلًا في ذلك المكان من شدة الخوف حقيقة، ولا متباكين ولا خائفين معتبرين، أمرهم بالتفكر في أحوالهم؛ (فلا تدخلوا عليهم)؛ أي: لا تدخلوا ديارهم، قال الخطابي: معنى الحديث: أنَّ الداخل في ديار القوم الذين أهلكوا بالعذاب إذا دخلها ولم يجلب ما يرى من آثار ما نزل بهم بكاءً، ولم يبعث حزنًا، إمَّا شفقة عليهم، وإمَّا خوفًا من حلول مثلها به؛ فهو قاسي القلب، قليل الخشوع، غير مستشعر للخوف والوجل، فلا يأمن إذا كان حاله هكذا أن يصيبه ما أصابهم، وهذا معنى قوله: (لا يصيبُكم)، وللمؤلف في (الأنبياء): (أَن يصيبكم)؛ بفتح الهمزة، وفيه إضمار؛ تقديره: حذرًا أن يصيبكم، أو خشية أن يصيبكم (ما أصابهم)؛ أي: من العذاب، و (يصيبُكم) بالرفع؛ على أن (لا) نافية؛ لأنَّه استئناف كلام، وفسَّره ابن حجر؛ أي: لئلا يصيبكم، وردَّه إمامنا الشَّارح فقال: (الجملة الاستئنافية لا تكون تعليلًا)؛ فافهم، ثم قال ابن حجر: (ويجوز الجزم على أن «لا» ناهية، وهو أوجه)، واعترضه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا مبنيٌّ على صحة الرواية بذلك، وقوله: «وهو أوجه» غير موجَّه؛ فإنَّه لم يبين وجهه) انتهى.
قلت: والظاهر من كلام ابن حجر أنه تفسير إعراب، ولم أر أحدًا من الشراح ذكر الرواية في ذلك، والظاهر: أنَّه بالرفع لا غير؛ لأنَّه استئناف كلام؛ فافهم.
وقال الكرماني: (فإن قلت: كيف يصيب عذاب الظالمين لغيرهم وقال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]؟)
قلت: لا نسلِّم الإصابة إلى غير الظالمين، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وأمَّا الآية الأولى؛ فمحمولة على عذاب يوم القيامة، ولا نسلِّم أنَّ الذي يدخل موضعهم ولا يتضرع ليس بظالم؛ لأنَّ ترك التضرع فيما يجب التضرع فيه ظلمٌ، انتهى.
قلت: يعني: فيُطلب في حقه الخوف والاعتبار؛ لأنَّه تعالى مقلِّب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، ولا [1] يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
قال الكرماني: (فإن قلت: كيف دلالة الحديث على الترجمة؟ قلت: من جهة استلزامه مصاحبة الصلاة بأسرِها للبكاء، وهي مكروهة، بل لو ظهر من البكاء حرفان أو حرف مفهم، أو ممدود؛ تبطل صلاته) انتهى.
قلت: لا يلزم مصاحبة الصلاة بأسرها للبكاء؛ لأنَّ المراد بالحديث: الخوف والاعتبار، وهو يحصل بدون البكاء، ويلزم مصاحبة البكاء في جزء من الدخول، ولا يلزم في الصلاة البكاء؛ لأنَّ الصلاة محلٌّ للبكاء والخشوع؛ ولهذا قال ابن بطال: (والحديث يدلُّ على إباحة الصلاة هناك؛ لأنَّ الصلاة موضع بكاء وتضرع) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فلا مطابقة للحديث على الترجمة، لكن قال إمام الشَّارحين: (هذا الحديث مطابق لأثر عليٍّ من حيث عدم النزول من النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما مرَّ بالحجر ديار ثمود في حالة توجهه
%ص 599%
إلى تبوك، وأثر عليٍّ كذلك من حيث إنَّه لم ينزل لما أتى خسف بابل، فأثر عليٍّ مطابق للترجمة على الوجه الذي ذكرناه، وكذلك حديث ابن عمر مطابق للترجمة؛ لأنَّ المطابق للمطابق للشيء مطابق لذلك الشيء، وعدم نزولهما فيهما يستلزم عدم الصلاة فيهما، وعدم الصلاة لأجل الكراهة، والباب معقود لبيان الكراهة، فحصلت المطابقة) انتهى.
ثم قال: وفي الحديث دلالة على أن ديار هؤلاء لا تُسكَن بعدهم، ولا تتخذ وطنًا؛ لأنَّ المقيم المستوطن لا يمكنه أن يكون دهره باكيًا أبدًا، وقد نُهي أن تُدخل دورهم إلا بهذه الصفة، وروى الحاكم في «الإكليل» بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري قال: (رأيت رجلًا جاء بخاتم وجده بالحِجر في بيوت المعذَّبين، فأعرض عنه النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: «ألقِه»، فألقاه)، وقدمنا أن عند المؤلف في (المغازي) و (التفسير) و (الأنبياء): أنَّه عليه السَّلام نهى أن يُستقى من مياههم ... ؛ إلى آخر ما قدمنا.
وفي الحديث: المنع من المقام بدورهم والاستيطان بها، وفيه: الإسراع عند المرور بديار المعذبين؛ كما فعل عليه السَّلام في وادي محسر؛ لأنَّ أصحاب الفيل هلكوا هناك؛ ولهذا قنَّع النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رأسه لما مرَّ بديار المعذبين، وقد أسرع السير حتى جاز المدينة ولم يصلِّ هناك، وكذلك عليٌّ وضع على رأسه حين مرَّ بابل، وفيه: أمرهم بالبكاء؛ لأنَّه ينشأ عن التفكر في مثل ذلك، وقال ابن الجوزي: (التفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل هذا المقام ثلاثة أقسام:
أحدها: تفكر يتعلق بالله تعالى إذ قضى على أولئك بالكفر.
الثاني: يتعلق بأولئك القوم إذ بارزوا ربهم [2] بالكفر والعناد.
الثالث: يتعلق بالمارِّ عليهم؛ لأنَّه وفق للإيمان، وتمكن من الاستدراك والمسامحة في الزلل) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ ينبغي أيضًا الإسراع عند المرور بمقابر الكفار اليهود والنصارى؛ لأنَّهم معذبين تنزل عليهم اللعنة والغضب؛ خوفًا من أن يصيبه منه شيء.
وفي الحديث: دلالة على كراهة الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، والباب معقود عليه، وفيه: دلالة على كراهة الدخول في تلك المواضع، سواء كانت موضع مقام الكفار أو موضع خسف أو عذاب، وأمر عليه السَّلام بهرق ما استقوا من بئر ثمود، وإلقاء ما عجن وخبز به؛ لأجل أنَّه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به؛ فرارًا من سخط الله تعالى، وقال: «اعلفوه الإبل»، فالوضوء به مكروه.
وأمره عليه السَّلام أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين وإن تقادمت أعصارهم، وخَفِيت آثارهم؛ كما أنَّ في الأول دليلًا [3] على بغض أهل الفساد، وذمِّ ديارهم وآثارهم، هذا وإن كان التحقيق أنَّ الجمادات غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمبغوض مبغوض.
وقال الإمام أحمد ابن حنبل: (ولا تصحُّ الصلاة في بقعة مغصوبة، ومقبرة، وحمام، وحشٍّ، وأعطان إبل، ومجزرة وإن كانت طاهرة، ولا في قارعة الطريق، ولا بأسطحتها، ولا في الكعبة)، قال ابن العربي: (فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»؛ فلا يجوز التيمُّم بترابها، ولا الوضوء بمائها، ولا الصلاة فيها؛ لحديث ابن عمر: «نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُصلَّى في سبع مواطن ... »؛ الحديث، رواه الترمذي)، وقال مالك في «المجموعة»: (لا يصلَّى في أعطان الإبل وإن فرش ثوبًا، ولا على بساط فيه تماثيل، ولا في الدَّار المغصوبة، وذكر بعضهم: أنَّه كره مالك الصلاة في الدار المغصوبة)، قال القرطبي: (والصحيح الذي يدلُّ عليه الخبر والنظر: أنَّ الصلاة بكل موضع طاهر صحيحةٌ جائزة، وما روي من قوله عليه السَّلام: «إنَّ هذا وادٍ به شيطان»، وقول عليٍّ: «نهاني رسول الله أن أصلي [بأرض] بابل»، وقوله: حين مر بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المُعذَّبين»)؛ فإنَّه مردود إلى الأصول المجمع عليها، وما روي من النهي عن الصلاة في تلك المواضع؛ كله منسوخ ومدفوع بقوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فإنَّه قال: «أُعطيت خمسًا لم يؤتهن أحد قبلي ... »؛ الحديث رواه الجماعة، ومن الجائز على فضائله عليه السَّلام الزيادة، وغير جائز النقصان، يدلُّ عليه قوله عليه السَّلام لأبي ذر: «حيث ما أدركتك الصلاة؛ فصلِّ، فإن الأرض كلها مسجدٌ [4]» ذكره المؤلف، ولم يخص موضعًا من موضع.
وأمَّا حديث الترمذي؛ فهو انفرد به زيد بن جبيرة، وأنكروه عليه، ولا يعرف الحديث مسندًا إلا برواية يحيى بن أيوب عن [5] زيد بن جبيرة، وكتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث، فكتب إليه ابن نافع: (لا أعلم من حدَّث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل) ذكره الحلواني عن ابن أبي مريم عن الليث.
وحديث علي: (نهاني ... )؛ إسناده ضعيف.
واتخاذه عليه السَّلام مسجده على مقبرة المشركين دليل: جواز الصلاة في المقبرة، وكذلك وردت السنة باتخاذ البيع والكنائس مساجد، وروى النسائي عن طلق بن علي قال: (خرجنا وفدًا إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فبايعناه وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا ... )؛ الحديث، وفيه: «فإذا أتيتم أرضكم؛ فاكسروا بيعتكم واتخذوها مسجدًا»، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أنه عليه السَّلام أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.
وهذا كله حجة مستقيمة على أحمد ومن تبعه في عدم جواز الصلاة في تلك المواضع.
وقول ابن العربي: (فإن هذه المواضع مستثناة من قوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا») ممنوع؛ فإنَّه دعوى باطلة لا دليل عليها، بل المراد بالأرض كلها، كما جاء في رواية المؤلف، كما سبق، والله تعالى أعلم.
%ص 600%
==========
[1] سقط من الأصل: (ولا).
[2] في الأصل: (بهم)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (مسجدًا)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
==================
[1] سقط من الأصل: (ولا).
[2] في الأصل: (بهم)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (مسجدًا)، وليس بصحيح.
[1] سقط من الأصل: (ولا).
[2] في الأصل: (بهم)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (مسجدًا)، وليس بصحيح.
(1/727)
(54) [باب الصلاة في البيعة]
هذا (باب) حكم (الصلاة): فرضها، وواجبها، ونفلها (في البِيعة) بكسر الموحدة: معبد النصارى، والكنيسة: معبد اليهود.
فإن قلتَ: إذا كان كذلك؛ فكيف عقد الباب للصلاة في البيعة، والمذكور في الحديث هو الكنيسة؟
قلتُ: عقد الباب هكذا على قول من لم يفرِّق بينهما؛ فإن الجوهري قال: (الكنيسة والبيعة للنصارى)، ويقال البيعة: (صومعة الراهب) ذكره في «المحكم»، ويقال: البيعة، والكنيسة: للنصارى، والصلوات: لليهود، والصوامع: للرهبان، وقال الداودي: (البيع: لليهود، والصلوات: للصابئين، وقيل: كالمساجد للمسلمين)، وقال القاضي عياض: (وأنكر بعض أهل اللغة هذه المقالة)، وقال الجواليقي: (جعل بعض العلماء البيعة والكنيسة فارسيتين معرَّبتين)، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وحاصله: أنَّه اختلف أهل اللغة في ذلك، فقال بعضهم: البيعة للنصارى، والكنيسة لليهود، وقال بعضهم: البيعة والكنيسة للنصارى، والصلوات لليهود، والصوامع للرهبان.
وزعم ابن حجر أنَّ المعتمد الثاني، ويدخل في حكم البيعة: الكنيسة وبيت المدراس، والصومعة وبيت الصنم، وبيت النار ونحو ذلك، انتهى.
قلت: ولم يقل أحد من أهل اللغة أنَّ المعتمد الثاني، بل ذكروا هذا وهذا، فهو اعتماد من عنده، وهو مردود، على أن كلامه فيه تناقض؛ لأنَّه قال: (ويدخل في حكم البيعة: الكنيسة)؛ فجعل الكنيسة غير البيعة؛ فافهم.
وفي «القاموس»: (أنَّ الكنيسة والبيعة للنصارى)، وعليه؛ فتحصل المطابقة بين الترجمة والحديث، قال العجلوني: (ويقال قاس البيعة في الترجمة، على الكنيسة في الحديث) انتهى.
قلت: ولم يبين الجامع بينهما، وقد يقال: الجامع بينهما هو وجود التماثيل في كلٍّ، لكن يقال عليه: إنَّ التماثيل في البيعة فقط؛ لأنَّ النصارى هم الذين يصورون صور عبادهم من الرهبان، بخلاف اليهود، فإنَّهم لا يصورون ولا يضعون الصور في كنائسهم؛ فافهم.
والظاهر: هو الأول، يدل عليه قوله تعالى: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] فالصوامع: جمع (صومعة)؛ وهو موضع يتعبد فيه الرهبان، والبيع: جمع (بيعة)؛ وهي للنصارى، وصلوات كنائس اليهود، والصلوات معرَّبة أصلها بالعبرانية: صلواث بالمثلثة، وهي في لغتهم بمعنى: المصلى؛ فافهم.
وقال المهلب: (هذا باب ليس معارضًا لباب: من صلى وقدامه نار أو تنور؛ لأنَّ الاختيار ألَّا يبتدئ بالصلاة إلى شيء من معبودات الكفار، إلا أن يعرض له، كما في حديث صلاة الخسوف، وعرض النار عليه صلَّى الله عليه وسلَّم).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (تقرير معنى المعارضة بين البابين أن في هذا الباب كراهة الصلاة أو تحريمها، وفي ذلك الباب جوازها مع عدم الكراهة، وتقرير الجواب: أن ما كان في ذاك الباب بغير الاختيار، وما في هذا الباب من قول عمر: «إنَّا لا ندخل كنائسكم»؛ يعني: بالاختيار والاستحسان دون ضرورة تدعو إلى ذلك) انتهى.
وأراد المؤلف بهذه الترجمة؛ على أنَّ الصلاة في البيع، والكنائس، ونحوهما مكروهة، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه رضي الله عنهم، وذلك لأنَّ في الصلاة عندهم يجلب الاستهزاء بعبادتنا، ويلزم عليه المجادلة، وقد قال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ ... }؛ الآية [العنكبوت: 46]، ولأن فيها الصور والتماثيل، وقد نهينا عن الصلاة عندها، ولهذا قالوا: إذا تكرَّر منه الدخول للبيع ونحوها؛ يعزَّر بما يليق به، كما صرَّح به صاحب «البحر» وقال الشافعي: (الصلاة في البيع ونحوها مكروهة بشرط وجود التماثيل، وهو مروي عن ابن عبَّاس) والله أعلم.
(وقال عمر): هو ابن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، مما وصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر بن الخطاب قال: لما قَدِم عمر الشام؛ صنع له رجل من النصارى طعامًا، وكان من عظمائهم، وقال: أحبُّ أن تجيبني وتكرمني، فقال له عمر: (إنَّا)؛ بكسر الهمزة، أصله: إننا، فحذفت النون الثانية تخفيفًا، وهي للتأكيد، والمحذوفة: اسمها (لا ندخل كنائسكم)؛ بكاف الخطاب، وميم الجمع، وللأصيلي: (كنائسهم) بضمير الجمع الغائب، والرجل المذكور اسمه قسطنطين، سمَّاه مسلمة بن عبد الله الجهني، عن عمه أبي مسجعة بن ربعي عن عمر في قصة طويلة أخرجها، وقول عمر هذا في حكم المرفوع؛ لأنَّ معناه: نهينا أن [1] ندخل كنائسكم، والناهي هو النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لا غير، فقول الصحابي: إنَّا لا نفعل كذا، ونحوه في حكم المرفوع؛ لأنَّه لا يقال من قبل الرأي، لأنَّه لا مجال للرأي فيه، والنهي يقتضي الكراهة؛ فدل هذا على كراهة الصلاة في البيع، والكنائس، ونحوهما؛ فافهم.
وقوله: (من أجل التماثيل)؛ جمع (تِمثال) بكسر أوله؛ وهو الصورة (التي فيها الصور) بالجمع، قيل: وفي نسخة بالإفراد؛ تعليل لعدم دخوله كنائسهم.
قال إمام الشَّارحين: (الجملة اسمية؛ لأنَّ الصور بالرفع مبتدأ مؤخر، وقوله: «فيها» خبره مقدَّم؛ أي: في الكنائس، والجملة صلة الموصول، وقعت صفة للكنائس لا للتماثيل؛ لفساد المعنى، لأنَّ التماثيل هي الصور، ويروى: «الصورِ»؛ بالجر، فعلى هذا؛ يكون الموصول مع صلته صفة التماثيل، ويكون (الصورِ)؛ بالجر بدلًا من التماثيل، أو عطف بيان، ويجوز نصب الصور على الاختصاص، وفي رواية الأصيلي: «والصور»؛ بواو العطف على التماثيل، والمعنى: ولأجل الصور التي فيها، والصورة أعم من التماثيل) انتهى كلامه
وقال العجلوني: (ويجوز جعل «التي» نعتًا للتماثيل، و «فيها الصور» من مبتدأ وخبر، أو الظرف المقدَّر بـ «استقرَّ»، وفاعله صلة الموصول، و «الصور»؛ بمعنى: المصورات، وبينها وبين التماثيل عموم وخصوص مطلق؛ فكل تمثال صورة، ولا عكس، وضمير «فيها» على هذا للتماثيل، وهو من ظرفية العام في الخاص، أو هو من باب التجريد) انتهى.
قلت: وظاهر كلام إمام الشَّارحين، وكذا الكرماني أن جعل (التي) نعتًالـ (كنائس) متعين؛ لأنَّه قد نفى جعلها صفة للتماثيل؛ لفساد المعنى، وهو كذلك؛ لأنَّ عدم دخوله الكنائس من أجل الصور لا التماثيل؛ لأنَّ التمثال قد يكون على خلاف الصورة، والمراد بالتماثيل: الصلبان المعلقة في الكنائس، فهي ليست بصورة ذي روح، فبين الصور والتماثيل عموم وخصوص وجهي يجتمع أحدهما في مادة، وينفرد أحدهما في مادة أخرى، فيجتمعان في الصورة مطلقًا، وتنفرد الصورة بذي الروح، وتنفرد التماثيل في غير ذي روح؛ مثل الصلبان ونحوها، إذا علمت هذا؛ لم يصح جعلها نعتًا لـ (التماثيل)؛ لفساد المعنى؛ فافهم.
ثم قال العجلوني: (وقوله: «لأن التماثيل هي الصور»؛ فيه أنَّ الصور أعم) انتهى.
قلت: هذا أخذه من كلام إمام الشَّارحين حيث قال: والصورة
%ص 601%
أعم من التماثيل، انتهى.
قلت: فإذا كان هذا كلامه؛ كيف يعترض عليه؟ وقد يقال هذا على المعنى الثاني الذي ذكرناه.
ورواية الرفع لأبي ذر، ورواية النصب صحح عليها في «الفرع» و «أصله»، ويجوز نصبها بإضمار: أعني، فتكون مفعولة لفعل محذوف، وقال في «المصابيح» عن ابن مالك: (إنه يجوز في رواية الجر كونه معطوفًا بواو محذوفة).
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ حروف العطف كأحرف الجر لا تعمل محذوفة، فيتعيَّن كونه بدلًا أو عطف بيان، كما قاله إمام الشَّارحين، وقد صرح أن في رواية الأصيلي: بواو العطف على التماثيل، وعليه؛ فلا حاجة إلى هذا؛ فافهم.
وقد انتهت الجهالة لابن حجر، فزعم أنَّ (الصورُ)؛ بالرفع أي: أنَّ التماثيل مصورة، والضمير في (فيها) على هذا للتماثيل، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين بأنَّ هذا توجيه من لا يعرف من العربية شيئًا، انتهى.
وتبعه العجلوني فقال: (هو غير ظاهر، سواء كان بيان معنى أو إعراب، وقد يقال: إنَّما هو من قلم الناسخ، فأراد أن يقول: أي: أنَّ «الصور»؛ بمعنى: المصورة مظروفة في التماثيل، ولهذا جعل ضمير «فيها» راجعًا إلى التماثيل لا إلى الكنيسة مع أنه لا يستقيم المعنى؛ لأنَّه يلزم عليه أن تكون التماثيل مصورة في التماثيل) انتهى.
قلت: ولا يلزم أن يقال: (هو من قلم الناسخ)؛ لأنَّ كم مرة ظهر عدم معرفته في علم العربية، وهذا منها، فلا تغترَّ بما قاله؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إنَّ عدم دخوله في كنائسهم لأجل الصور التي فيها، ولولا الصور؛ ما كان يمتنع من الدخول، وعند الدخول لا يمنع الصلاة، فحينئذ صحَّ فعل الصلاة في البيعة من غير كراهة إذا لم يكن فيها تماثيل، ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن سهل بن سعد، عن حميد، عن بكر قال: كتبت إلى عمر رضي الله عنه من نجران: إنَّهم لم يجدوا مكانًا أنظف ولا أجود من بيعة؛ فكتب إليه، انضحوها بماء وسدر، وصلوا فيها) انتهى.
قلت: يعني: لأنَّه يغلب عليها النجاسات، وهم لا يفرقون [2] الطهارة من النجاسة، فأفاد أنَّ الصلاة في البيع والكنائس إنَّما تكون صحيحة إذا كان المكان طاهرًا، والصلاة فيها حينئذ غير مكروهة، يدل عليه: أنَّ السنة وردت باتخاذ البيع والكنائس مساجد، وقد يقال: إنَّ الصلاة في البيع والكنائس مكروهة؛ لأنَّها بقعة غضب وسخط، فإنَّها بقعة يُعصَى الله تعالى فيها، ويكفر به، وليس كذلك المقبرة؛ مع أنَّ الجمهور على أنَّ الصلاة في المقبرة مكروهة، وذهب أحمد وغيره: إلى أنها لا تصح، كما قدمناه، ولأنَّ في صلاته في البيع ونحوها يلزم منه استهزاء الكفار بعبادة الإسلام، وقد نُهينا عن مجادلتهم؛ لأنَّه يلزم منه المجادلة في الديانات، وقال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ ... }؛ الآية [العنكبوت: 46]، فليكن الحق أنَّ الصلاة في البيع والكنائس مكروهة مطلقًا، سواء كان فيها تماثيل وصور أم لا؛ فافهم.
(وكان) عبد الله (ابن عبَّاس) حبر هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما (يصلي) أي: الفرض وغيره (في البِيْعة)؛ بكسر الموحدة، وسكون التحتية: معبد النصارى (إلا بيعة فيها تماثيل) جمع (تِمثال)؛ بكسر الفوقية.
وهذا التعليق وصله البغوي في «الجعديات»، وزاد فيه: (فإن كان فيها تماثيل؛ خرج فصلَّى في المطر)، وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند فيه خصيف_وفيه كلام_ عن مقسم عن ابن عبَّاس أنه: كره الصلاة في الكنيسة؛ إذا كان فيها تصاوير، ولم يَرَ عطاء والشعبي وابن سيرين بالصلاة في الكنائس والبيع بأسًا، وهو قول مالك، وروي عنه: أنه كره الصلاة فيها؛ لما يصيب أهلها فيها من الخنازير والخمر، إلا أن يضطر إلى ذلك من شدة طين أو مطر، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ومطابقته للترجمة ظاهرة، وقد يقال: الصلاة في الكنائس والبيع مكروهة؛ لأنَّها مأوى الشياطين، وبقعة غضب الله عليها؛ لأنَّها محل يكفر بالله فيه، وهو مذهب الحسن البصري.
ويدل للكراهة: أنَّ الكنائس والبيع مأوًى لكلٍّ من الخنازير، والكلاب، والخمر، ونحوها من النجاساتالتي يجتنبها المصلي إذا أراد الصلاة، وقد نصَّ أئمتنا الأعلام على أنَّ الصلاة تكره في قرب النجاسات؛ كالمزبلة وحائط نجس.
==========
[1] في الأصل: (ألا)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (لا يوقرون)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ألا)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ألا)، وليس بصحيح.
(1/728)
[حديث: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا]
434# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد): غير منسوب، وفي رواية ابن عساكر: (محمد بن سلَام)؛ بتخفيف اللام: هو البيكندي، وعزاها صاحب «عمدة القاري» لابن السكن؛ فإنَّه صرَّح به في روايته (قال أخبرنا)؛ بالجمع، وللأصيلي بالإفراد (عَبْدة)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحدة آخره هاء، هو لقبه، واسمه عبد الرحمن بن سليمان، (عن هِشام بن عُروة)؛ بكسر الهاء في الأول، وضم العين المهملة في الثاني، (عن أبيه): هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة): هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أن أم سَلَمة)؛ بفتح الهمزة في «أن»، وفتح المهملات في «سلمة»؛ أم المؤمنين، واسمها: هند _على الأصح_ بنت أبي أمية المخزومية، هاجر بها زوجها إلى الحبشة، فلما رجعا إلى المدينة؛ مات زوجها، فتزوجها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
(ذكرتْ) بتاء التأنيث (لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كَنيسة)؛ بفتح الكاف: معبد اليهود، ويقال لها: صِلاة؛ بكسر الصاد المهملة، ويقال: إنَّها معبد النصارى (رأتها)؛ أي: أم سلمة، (بأرض الحبشة) حين كانت مع زوجها الأول أبو سلمة هناك (يقال لها)؛ أي: لتلك الكنيسة، و «يُقال»؛ بضمِّ أوله مبني للمجهول: (مارِيةُ)؛ بتخفيف الراء والتحتية: النقرة، وبتشديدها: القطاة الملساء، قاله إمام الشارحين، وهي بالرفع نائب فاعل «يقال».
(فذكرتْ) أي: أم سلمة (له) أي: للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (ما رأت فيها) أي: في الكنيسة (من الصور)؛ أي: التماثيل المصورة، (فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: لها: (أولئكِ) بكسر الكاف خطابًا للمؤنث، ويجوز فتحها (قوم)؛ أي: من النصارى، (إذا مات فيهم العبد الصالح)؛ أي: من نبي أو غيره، (أو الرجل الصالح): كذلك، وكلمة «أو» للشك من الراوي، والظاهر: أنَّه من هشام؛ (بنوا على قبره مسجدًا) هذا جواب كلمة «إذا»، (وصوروا فيه) أي: في المسجد (تلكِ الصور)؛ باللام، وفي رواية: «تيكِ»؛ بفوقية ثم تحتية، بدل اللام، والكاف فيهما مكسورة، ويجوز فتحها؛ أي: لأجل
%ص 602%
أن يتذكروا عبادته، فيجتهدوا في العبادة.
وقال القرطبي: (وذكر أنَّها صور الأنبياء عليهم السلام والعلماء، وكانت تصوَّر في المساجد؛ ليراها الناس؛ فيزدادوا عبادة واجتهادًا).
(أولئكَِ)؛ بكسر الكاف وفتحها (شِرار الخلق عند الله)؛ بكسر الشين المعجمة، جمع (الشر)؛ كالخيار جمع (الخير)، والتجار جمع (التجر)، وأما الأشرار؛ فقال يونس: (واحدها شر)، أيضًا قال الأخفش: (شرِّير مثل يتيم وأيتام).
قال القرطبي: (إنَّما صوَّروا أوائلهم الصور؛ ليتأنَّسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أفعالهم الصالحة؛ فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خَلَف من بعدهم خلوف وجهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان: إنَّأسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها، فعبدوها، فحذَّر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن مثل ذلك؛ سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وسد الذرائع في قبره عليه السَّلام).
وكان ذلك في مرض موته؛ إشارة إلى أنَّه من الأمر المحكم الذي لا ينسخ بعده، ولمَّا احتاجت الصَّحابة والتَّابعون رضي الله عنهم إلى زيادة مسجده عليه السَّلام؛ بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلَّا يصلِّ إليه العوام، فيؤدِّي إلى ذلك المحذور، ثمَّ بنوا جدارين بين ركني القبر الشمالي، حرَّفوهما حتى التقيا، حتى لا يمكن أحد أن يستقبل القبر، انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: «بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور»؛ لأنَّ الباب معقود في الصلاة في البيعة، وقد مرَّ أنَّها تكره الصلاة في البيعة إذا كانت فيها الصور) انتهى.
وزعم العجلوني والقسطلاني تبعًا لابن حجر أن وجه المطابقة في قوله: (بنوا على قبره مسجدًا)؛ فإن فيه الإشارة إلى نهي المسلم عن أن يصلي في الكنيسة؛ فيتخذها بصلاته مسجدًا، انتهى.
قلت: وهو قاصر؛ لأنَّ الباب معقود؛ لبيان جواز الصلاة في البيعة، مع عدم الكراهة إذا لم يكن فيها صور، وليس المراد منه النهي عن أن يتخذ المسلم الكنيسة بصلاته مسجدًا، فإنَّه لو كان كما قالوا؛ فلا دلالة في الحديث على الترجمة، فما قاله إمام الشَّارحين هو الصواب.
وفي الحديث: كراهة الصلاة في الكنيسة، وهو مذهب الإمام الأعظم، ومثلها البيعة، وبه قال الشافعية، وزعم الحنابلة أنَّ الصلاة غير مكروهة، والحديث حجة عليهم، وفيه النهي عن فعل التصاوير، وأنَّه حرام، سواء كان في حيوان أو غيره.
وفيه: منع بناء المساجد على القبور، وفيه: ذم فاعل المحرمات، وفيه: جواز حكاية ما يشاهده المرء من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به، وفيه: أنَّ الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل.
ومقتضى الأحاديث تدل على أنَّ الصور ممنوعة، ثم جاء: (إلا ما كان رقمًا في ثوب)؛ فخُصَّ من جملة الصور، ثم تثبت الكراهة فيه بقوله عليه السَّلام لعائشة في الثوب: «أخِّريه عني»، وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»: وهو يدلُّ على المنع من التصوير بشيء؛ أي شيء كان، ويستثنى من ذلك لعب البنات؛ لما ثبت عن عائشة: أنَّه عليه السَّلام تزوجها وهي بنت سبع [1]، وزُفَّت إليه وهي بنت تسع، ولُعَبُها معها، ومات عنها، وهي بنت ثمان عشرة، وعنها أيضًا قالت: (كنت ألعب بالبنات عند النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان عليه السَّلام إذا دخل؛ يتقمعن منه، فيسريهن إلي؛ فيلعبن معي) أخرجهما مسلم في «صحيحه»، قال العلماء: وذلك للضرورة الداعية إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن، انتهى.
قلت: هذا أمر باق إلى يومنا هذا؛ فإن البنات يجعلن شيئًا من الخروق وغيره، ويجعلنه كالبنات ويلعبن فيه البنات؛ فهو مستثنًى من النهي للحاجة، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (تسع)، والمثبت هو الصواب.
==================
(1/729)
(55) [باب .... ]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين ثابت لأكثر الرواة، ساقط في رواية الأصيلي، ولم يذكر له ترجمة عند من أثبته، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وله تعلُّق بذاك، ووجه تعلُّقِه أنَّ كلًّا منهما مشتمل على الزجر عن اتخاذ القبور مساجد، والتصوير مذكور هناك، وههنا يشير إلى أن اتخاذ القبور مساجد مذموم، سواء كان فعل ذلك بصور أم لا، كذا قرره إمام الشَّارحين.
==========
%ص 603%
==================
(1/730)
[حديث: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد]
435# 436# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو اليَمان)؛ بفتح التحتية: هو الحَكَم_بفتحتين_ ابن نافع الحمصي، البهراني، مولى امرأة من بهراء، المتوفى سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومئتين (قال أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة؛ بالمهملة، والزاي، دينار القرشي، الأموي، مولاهم: أبو بشر، (عن الزهري) هو محمد بن مسلم ابن شهاب المدني (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عتْبة) بسكون الفوقية، هو ابن مسعود: (أن عائشة)؛ بفتح الهمزة، هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (وعبد الله بن عبَّاس) بالنصب عطفًا على عائشة رضي الله عنهم (قالا) بالتثنية: (لما نزل)؛ بفتحتين، على صيغة المعلوم، في رواية أبي ذر، وفاعله محذوف؛ أي: الموت، وفي رواية غيره: بضمِّ النون، وكسر الزاي على صيغة المجهول.
وقوله: (برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) نائب فاعل، والنزلة كالزكام، قاله العجلوني.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ في تمثيله بالزكام سوء أدب في حقه عليه السَّلام؛ لأنَّه يلزم منه نزول أنفه عليه السَّلام، فربما يأنف منه من رآه، فيقع في محظور، وإنَّما النزلة مثل وجع رأس، أو ظهر، أو قلب، مما لم ينفر من رآه؛ فافهم.
وقوله: (طفِق) جواب (لمَّا) وهي بكسر الفاء، وقد تفتح [1]، وقد تبدل باء موحدة.
قال إمام الشَّارحين: (وهو من أفعال المقاربة: وهي على ثلاثة أنواع؛ منها: ما وضع للدلالة على الشروع في الخبر، وأفعاله: أنشأ وطفق وجعل وعلق واحد، وتعمل هذه الأفعال عمل كان إلا أن خبرهن يجب كونه جملة، وحكى الأخفش طَفَق يَطْفِق، مثل ضرَب يضرِب
%ص 603%
وطَفِق يَطْفَق، مثل علِم يعلَم، ولم يستعمل له اسم فاعل، واستعمل له مصدرًا، حكى الأخفش: طفوقًا؛ عمن قال: طَفق بالفتح، وطِفقًا بالكسر، ومعناه ههنا: جعل) انتهى.
قلت: واسمها عائد للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخبرها جملة قوله: (يطرح خميصة)؛ بالنصب مفعول (يطرح)؛ وهي كساء له أعلام، أو علمان أسود مربع (له) جار ومجرور محله النصب صفة لـ (خميصة) (على وجهه) متعلق بقوله: يطرح، (فإذا اغتمَّ) بالغين المعجمة؛ أي: صار له غم، وأخذ بنفسه من شدة الحر الحاصل من طرحها على وجهه، وفي «القاموس»؛ الغم: شدة الحر كاد يأخذ بالنفس، انتهى.
قلت: فتفسير الشراح له: (تسخن) تفسيرٌ باللازم، قال الكرماني: ويقال: غمَّ يومنا؛ إذا كان يأخذ بالنفس من شدة الحر، انتهى؛ فافهم
(كشفها) أي: الخميصة (عن وجهه) الشريف، قلت: والظاهر أنَّها الكفية التي يستعملها الأعراب، والبغداديون، والمسافرون؛ لأجل دفع حر الشمس؛ فافهم.
(فقال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وهو كذلك) أي: وهو في تلك الحالة؛ أي: حالة الطرح والكشف عن وجهه، وهذا مقول الراوي.
وزعم ابن حجر ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي ذكرت فيه أم سلمة وأم حبيبة أمر الكنيسة التي رأتاها بأرض الحبشة.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا بعيد جدًّا لا يخفى على الفطن) انتهى.
قلت: ووجه بعده: أنَّ ظاهر لفظ الحديث يرده ويخالفه؛ لقوله: (فإذا اغتم؛ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك) حيث أتى بـ (الفاء) التي للتعقيب، فعقب القول بالكشف على أنَّ هذا فيما ذكر في باب (هل تنبش قبور مشركي الجاهلية) والقصة هناك غير القصة ههنا، بدليل أنَّ التي ذكرت هناك هي أم سلمة وأم حبيبة، وههنا ذكرت عائشة وابن عبَّاس، مع اختلاف الألفاظ، فالتباين بينهما ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم؛ فافهم
ولا يقال: إنَّه قد ذكر ذلك في باب (الصلاة في البيعة)؛ لأنَّه حين ذكرت أم سلمة الكنيسة؛ فقال: «أولئك ... » إلى آخره وهذا غير ذاك كما لا يخفى.
(لعنة الله) مبتدأ ومضاف إليه، وخبره: قوله (على اليهود والنصارى) واللعنة: الطرد والإبعاد عن الرحمة، يقال: لعنه الله، يلعنه لعنًا فهو ملعون، ولعين، ويقال: رجل لُعَنة؛ بفتح العين المهملة؛ أي: كثير اللعن، ولعْنة؛ بسكونها؛ أي: تلعنه الناس، وقال مجاهد: في قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159] قال: (دواب الأرض تلعنهم)، وقال ابن عبَّاس: (اللاعنون: كل شيء إلا الإنس والجن)، وقال قتادة: (هم الملائكة)، وقال عطاء: (الإنس والجن)، وقوله عليه السَّلام: «من أخفر مسلمًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»، وقوله عليه السَّلام: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، والظل، وقارعة الطريق»، سميت ملاعن؛ لأنَّ الناس يلعنون فاعل ذلك، فهي مواضع لعن، وقال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31] هي: الشديدة من شدائد الدهر، ثم أتبعه عليه السَّلام ببيان سبب لعنهم فقال: (اتخذوا) أي: اليهود والنصارى (قبور أنبيائهم مساجد) فهي جملة مستأنفة بيانية لموجب لعنهم، وقال إمام الشَّارحين: كأنَّه جواب عن سؤال سائل، ما سبب لعنهم؟ فأجيب عنه بقوله: (اتخذوا)؛ يعني: القبور مساجد يعبدون أنبياءهم المدفونة بها.
وقوله: (يُحذِّر)؛ بتشديد الذال المعجمة المكسورة، وضم التحتية أوله، والفاعل [2] هو النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أمته) أي: أمة الإجابة لا الدعوة؛ بدليل قوله: (ما صنعوا) أي: من اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، جملة مستأنفة أخرى من كلام الراوي، لا من كلامه عليه السَّلام، وإنَّما كان يحذرهم من ذلك الصنيع؛ لئلا يفعل بقبره الشريف مثله، ولعلَّ الحكمة فيه: أنَّه يصير بالتدريج شبيهًا بعبادة الأصنام، وكلمة (ما) موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد إليه محذوف تقديره: (صنعوه)، كما ثبت في نسخة، في محل نصب على المفعول الثاني لـ (يحذر)، ومفعوله الأول: محذوف يقدر بما قلناه، وضمير المرفوع عائد إلى اليهود والنصارى.
فإن قلت: استشكل ذكر النصارى في الحديث؛ لأنَّهم ليس لهم نبي إلا عيسى، ولا قبر له؛ لأنَّه حي في السماء.
قلت: يحتمل أنَّه من باب التغليب؛ حيث غلَّب اليهود على النصارى بجامع الكفر في كل منهما.
ويحتمل كونه على حذف جملة تقديره: اتخذت اليهود قبور أنبيائهم مساجد، واتخذت النصارى أمكنة عيسى مساجد، فإنَّهم قد اتخذوا مكان ولادته في بيت لحم، ومكان النخلة، ومكان مهده، وغير ذلك مساجد.
ويحتمل أنَّهم اتخذوا قبور الأنبياء السابقة مساجد؛ كداود وسليمان.
ويحتمل أنَّ المراد: الأنبياء وصالحو [3] أتباعهم؛ حيث اكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر صالحيهم على حد قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ} [النحل: 81]، ويؤيده ما في رواية مسلم من طريق جندب: «كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم»، ولهذا قال في النصارى حين أفردهم: «إذا مات فيهم الرجل الصالح»، وقال في اليهود حين أفردهم: «اتخذوا قبور أنبيائهم».
ويحتمل أنَّ المراد بالاتخاذ أعم من كونه ابتداعيًّا أو اتباعيًّا؛ لأنَّ اليهود ابتدعت والنصارى اتبعت، ولا ريب أنَّ النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود؛ فتأمل.
وزعم ابن حجر فأجاب: بأنَّ للنصارى أنبياء غير عيسى، لكنهم ليسوا برسل؛ كالحواريين ومريم في قول.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (وفيه نظر؛ لأنَّه جاء في رواية عن عكرمة وقتادة والزهري «أنَّ الثلاثة الذين أتوا إلى أنطاكية المذكورين في قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] كانوا رسلًا من الله تعالى، وهم: صادق ومصدوق وشلوم»، وعن قتادة أنَّهم كانوا رسلًا من عيسى عليه السَّلام، فعلى هذا؛ لم يكونوا أنبياء، فضلًا عن أن يكونوا رسلًا من الله تعالى، وأما مريم؛ فزعم ابن حزم وآخرون أنَّها نبية، وكذلك سارة أم إسحاق وأم موسى عليهم السلام، وعند الجمهور كما حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة أنَّ النبوة مختصة بالرجال،
%ص 604%
وليست في النساء نبية) انتهى.
واعترضه العجلوني تعصبًا لابن حجر، فقال: لا نظر؛ لأنَّ المجيب قال: (في قول)؛ فافهم.
قلت: بل فيه نظر؛ لأنَّ الاعتراض متوجه على هذا القول الذي اعتمده قائله وجزم به؛ لأنَّه لم يذكر غيره؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة التي في باب المترجم، في قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»؛ لأنَّهم إذا اتخذوها مساجد يصلون فيها، ويسمون المساجد البيع والكنائس، والباب معقود في الصلاة في البيع) انتهى.
قلت: وهذا يدلُّ على أنَّ الصلاة في البيع والكنائس مكروهة ولو لم يكن فيها تصاوير، فإنَّ هذا الباب تابع للباب السابق، فالظاهر: أنَّ المؤلف ألحقه؛ لبيان ثبوت الكراهة؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (تكسر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] زيد في الأصل: (نائب)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (وصالحي)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (تكسر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] زيد في الأصل: (نائب)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (تكسر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] زيد في الأصل: (نائب)، وليس بصحيح.
(1/731)
[حديث: قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد]
437# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن مَسلَمة)؛ بفتح الميم واللام، بينهما مهملة ساكنة، هو القعنبي المدني، (عن مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن) محمد بن مسلم (ابن شهاب) الزهري المدني التابعي، (عن سعيد بن المسيّب)؛ بفتح التحتية وكسرها، هو المدني التابعي، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصحابي رضي الله عنه (أنَّ)؛ بفتح الهمزة وتشديد النون (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالنصب: اسمها، وخبرها: جملة قوله (قال: قاتل الله اليهود)؛ أي: قتلهم الله؛ لأنَّ فَاعَل (يجيء) بمعنى فَعل أيضًا، كقولهم سافر وسارع بمعنى: سفر وسرع، ويقال: معناه: لعنهم الله، ويقال: عاداهم الله، ويقال: القتال ههنا: عبارة عن الطرد والإبعاد عن الرحمة، فمؤداه ومؤدى اللعنة واحد، وإنَّما خصص اليهود ههنا بالذكر بخلاف ما تقدم؛ لأنَّهم أسسوا هذا الاتخاذ وابتدؤوا به، واتبعتهم النصارى، فهم أظلم، أو لأنَّهم أشد غلوًّا فيه، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
(اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) جملة مستأنفة، جواب سؤال سائل يقول: ما سبب قوله: قاتل الله اليهود؟ فأجاب بقوله: «اتخذوا ... » إلى آخره.
ومطابقة [1] الحديث لترجمة الباب المترجم ظاهرة مما سبق، وفيه: منع البناء على القبر؛ لأنَّ أبا داود أخرج هذا الحديث، وترجم له: (باب البناء على القبر)، وروي أيضًا عن أحمد ابن حنبل: حدثنا عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج: أخبرني أبو الزبير: أنَّه سمع جابرًا يقول: (سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نهى أن يقعد على القبر وأنيقصَّص، وأن يبنى عليه)، وأخرجه مسلم أيضًا والترمذي، وفي روايته (وأن يكتب عليها)، والنسائي أيضًا، وفي روايته (وأن يزاد عليه) انتهى.
قلت: ففيه النهي عن القعود على القبر، ومقتضاه التحريم، ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور: أنَّ القعود على القبر؛ لقراءة القرآن لا يكره، وكذلك وطؤها؛ لما رواه مالك في «الموطأ»: أنَّ عليًّا رضي الله عنه كان يتوسد القبور ويضطجع عليها، وفي «الصحيح» تعليقًا، قال نافع: (كان ابن عمر يجلس على القبور)، ووصله الحافظ أبو جعفر الطحاوي، ثم أخرج عن زيد بن ثابت مرفوعًا قال: (وإنَّما نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الجلوس على القبور؛ لحدث، أو بول، أو غائط، وأمَّا الجلوس لغير ذلك؛ فلم يدخل في النهي عن ذلك)، وهذا قول الإمام الأعظم وأصحابه، وبه قال مالك.
وفي الحديث الذي عند أبي داود النهي عن أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، ومقتضى النهي التحريم، وقد صرَّح أئمتنا الأعلام بحرمة البناء عليه، وتجصيصه؛ للزينة، وأمَّا الكتابة؛ فقال صاحب «المحيط»: (إن احتيج إليها حتى لا يذهب الأثر، ولا يمتهن به؛ جازت، أما الكتابة من غير عذر؛ فلا) انتهى والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (مطابقته)، وليس بصحيح.
%ص 605%
==================
(1/732)
(56) [باب قول النبي: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا]
هذا (باب) بيان (قول النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) في الحديث المشهور (جعلت لي) أي: ولأمتي (الأرض) أي: جنسها (مسجدًا وطَهورًا)؛ بفتح الطاء المهملة على المشهور، فتجوز الصلاة في أي مكان كان منها، إلا أن يمنع مانع شرعي، وتقدم ذلك في حديث جابر في أوائل (التيمم)، ولا تفاوت بينهما في المعنى.
وفائدة إيراد هذا الباب عقيب الأبواب المتقدمة: الإشارة إلى أنَّ الكراهة فيها ليست للتحريم؛ لأنَّ عموم قوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» يدلُّ على جواز الصلاة على أي جزء كان من أجزاء الأرض، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وقيل: إنَّ الكراهة فيها للتحريم، وعموم الحديث مخصوص بها، والأول هو الأولى عند المحققين؛ لأنَّ الحديث إنَّما سيق في مقام الاستنان، فلا ينبغي أن يكون مخصوصًا، فدخل في عمومه _كما قال ابن بطال_ المقابر والمرابض والكنائس، وغيرها.
قلت: ولا يَرِد المتنجس من الأرض؛ لأنَّه لعارض شرعي؛ فافهم.
==========
%ص 605%
==================
(1/733)
[حديث: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي]
438# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد بن سِنان)؛ بكسر المهملة وتخفيف النون، هو أبو بكر البصري الباهلي العَوَقِي؛ بفتح المهملة والواو مع كسر القاف، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومئتين (قال حدثنا هُشَيْم)؛ بضمِّ الهاء وفتح المعجمة وسكون التحتية: هو ابن بَشِير؛ بفتح الموحدة وكسر المعجمة، السلمي، مولاهم الواسطي، المتوفى سنة ثلاث وثمانين ومئة ببغداد، قال القسطلاني: («بشير» بوزن «عظيم»، الفقيه الثبت، لكنَّه كثير التدليس والإرسال الخفي) انتهى.
قلت: التدليس والإرسال الخفي إذا كان لغرض صحيح؛ غير مذموم، وهو معتبر عند المحدثين، كما عُلم في محله، وقول العجلوني: هشيم بن كثير؛ بالمثلثة، مكبرًَّا خطأٌ ظاهر؛ فليتنبه.
(قال حدثنا سَيَّار)؛ بفتح المهملة أوله وتشديد التحتية، آخره راء، على وزن (فعَّال) بالتشديد: هو ابن أبي سيار، واسمه وردان العنزي الواسطي، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئة، وقوله (هو أبو الحَكَم)؛ بفتحتين لقب سيار، يحتمل أنَّه من كلام محمد بن سنان، ويحتمل أنَّه من كلام المؤلف؛ للتعريف، وجزم العجلوني بالثاني، قلت: وليس له دليل عليه، وإنَّما هو محتمل، بل الظاهر الأول، يدل عليه أنَّ التعريف يكون من شيخه؛ لأنَّه لم يدركه؛ فافهم.
(قال: حدثنا يَزيد)؛ بفتح أوله من الزيادة؛ هو ابن صُهيب؛ بضمِّ الصاد المهملة (الفقير) الكوفي، الثبت، الفقيه، الحجة، التابعي الجليل، أحد مشايخ الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وإنَّما
%ص 605%
اشتهر بالفقير؛ لأنَّه كان يشكو فقار ظهره (قال: حدثنا جابر بن عبد الله) هو الأنصاري، الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: عام غزوة تبوك، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن أحمد: (أعطيت)؛ بضمِّ الهمزة مبنيًّا للمفعول؛ أي: أعطاني الله (خمسًا) أي: خمس خصال، وعند مسلم من حديث أبي هريرة: «فضلت على الأنبياء بست»، ولعله اطلع أولًا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، وإلا؛ فخصوصياته كثيرة، والتنصيص على العدد لا يدل على نفي ما عداه، وتمامه في «عمدة القاري» (لم يعطهن أحد)؛ بالبناء للمفعول؛ كالأفعال بعده؛ أي: لم تجتمع لأحد، قاله الداودي وغيره (من الأنبياء قبلي)؛ أي: ولا نبي بعده، وأمته في بعضها تبع له، وزاد في حديث ابن عبَّاس: «لا أقولهن فخرًا»، وظاهر هذا الحديث أنَّ كلَّ واحد من الخمس لم يكن لأحد قبله، وهو كذلك (نُصِرت)؛ بضمِّ النون، وكسر المهملة (بالرُّعب)؛ بضمِّ الراء أي: الخوف، الخوف يقذف في قلوب أعدائه (مسيرة شهر)؛ بالنصب على الظرفية، وجعل الغاية شهرًا؛ لأنَّه لم يكن بين بلده، وبين أحد من أعدائه أكثر منه (وجُعلت لي)؛ أي: ولأمتي أمة الإجابة؛ لأنَّ أمة الدعوة غير مخاطبين بفروع الإيمان على التحقيق عند الجمهور (الأرض) أي: كلها (مسجِدًا)؛ بكسر الجيم؛ أي: موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون آخر، ويحتمل أنَّه مجاز عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه؛ لأنَّ المسجد حقيقة عرفية في المكان المبني للصلاة، فلمَّا جازت الصلاة في الأرض كلها؛ كانت كالمسجد في ذلك، فأطلق عليها اسمه.
فإن قلت: ما الداعي إلى العدول عن حمله على حقيقته اللغوية، وهي موضع السجود؟
قلت: أجاب في «المصابيح»: بأنَّه إن بني على قول سيبويه: أنَّه إذا أريد به موضع السجود قيل: مسجَد بالفتح فقط؛ فواضح، وإن جوز الكسر فيه؛ فالظاهر أنَّ الخصوصية هي كون الأرض محلًّا لإيقاع الصلاة بجملتها، لا لإيقاع السجود فقط، فإنَّه لم ينقل عن الأمم الماضية أنَّها كانت تخص السجود بموضع دون موضع، انتهى.
قلت: وفيه نظر، فقد نقل ذلك في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا «وكان من قبل إنَّما يصلون في كنائسهم»، وهذا نص في محل النزاع، فتثبت الخصوصية، ويدل عليه ما أخرجه البزار من حديث ابن عبَّاس نحو حديث الباب وفيه: «ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه»؛ فليحفظ.
وعموم ذكر الأرض في حديث الباب مخصوص بما نهى الشَّارع عن الصلاة فيه، ففي حديث ابن عمر عند ابن ماجه والترمذي (نهى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصلى في سبعة مواطن، في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله عز وجل) قال الترمذي: إسناده ليس بالقوي، وقد تُكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه، وفي حديث أبي سعيد الخدري، عند أبي داود والترمذي مرفوعًا: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» قال الترمذي: حديث فيه اضطراب، وقد ضعفه غيره، وفي حديث عليٍّ أنَّه كره الصلاة بخسف بابل، رواه المؤلف تعليقًا، ووصله ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف، وفي حديث ابن عمر كما تقدم، جميع ذلك في الأبواب المتقدمة، فهي محمولة على الكراهة في هذه المواضع، كما قدمناه.
(و) جعلت لي الأرض (طَهورًا)؛ بفتح الطاء على المشهور، والمراد: جميع أجزائها؛ من حجر، ومدر، وتراب، ورمل، وجص، ونحوها؛ لقوله تعالى: {صَعِيدًا} [النساء: 43]: وهو كل ما كان من أجزاء الأرض؛ ففيه جواز التيمم بجميع أجزائها، وهو مذهب الإمام الأعظم، ومالك، والجمهور، وهو حجة على الشافعي؛ حيث شرط التراب استدلالًا برواية مسلم: «وجعلت تربتها لنا طهورًا» فقال: هو خاص يحمل على العام، ورُدَّ بأنَّه لا خصوصية بلفظ التراب؛ لأنَّ تربة كل مكان ما فيه من تراب وحجر ومدر ونحوها، وأجيب: بأنَّه قد ورد الحديث المذكور بلفظ التراب، رواه ابن خزيمة، ورُدَّ بأنَّه إن صح؛ يحمل على الغالب، فإنَّ الغالب على أجزاء الأرض التراب، فذكره؛ لكونه غالبًا لا للاحتراز، وتمامه فيما قدمناه؛ فافهم.
(وأيما) بالواو، وللأصيلي: (فأيما) (رجلٍ) بالجر على الإضافة كائنٍ (من أمتي) والنساء والخناثى كالرجال (أدركته الصلاة) أي: دخل وقتها، والجملة محلها الجر: صفة لرجل و (أي): مبتدأ فيه معنى الشرط، زيد عليها (ما)؛ لزيادة التعميم، و (رجل) مضاف إليه، وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي: «فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة، فلم يجد ماء، وجد الأرض طهورًا ومسجدًا»؛ (فليصل) أي: حيث أدركته الصلاة في أي مكان كان، وهو خبر المبتدأ، (وأحلت لي الغنائم)؛ جمع غنيمة، وفي رواية مسلم: (المغانم)؛ جمع مغنم، وهي ما حصل من الكفار بعد قتالهم، وفي رواية المؤلف السابقة: «ولم تحل لأحد قبلي»؛ لأنَّ منهم من لم يؤذن له في الجهاد أصلًا، فلم يكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانت الغنيمة حرامًا عليهم، بل تجيء نار تحرقها (وكان النبي) أي: غيري من الأنبياء (يبعث إلى قومه) المبعوث إليهم (خاصة)؛ بمعنى: خصوصًا، فهو من المصادر التي جاءت على (فاعلة)، كـ (القافية) و (العافية) منصوب على أنَّه مفعول مطلق بمحذوف تقديره: أخص النبي غيري من الأنبياء بالبعثة إلى قومه خصوصًا؛ بناء على المشهور من جواز حذف عامل المؤكِد؛ بكسر الكاف، خلافًا لابن مالك، و (التاء) فيها للتأنيث أو للمبالغة، ويجوز انتصابها أيضًا على الحال بمعنى: مخصوصًا، كما أوضحته في شرحي على «شرح الأزهرية» الذي سميته «تاج الأسطوانية»؛ فيراجع، (وبعثت إلى الناس كافة) أي: جميعًا، وهو مما يلزمه النصب على الحال، واستهجن إضافتها؛ نحو كافتهم، كذا قاله الشَّارح؛ أي: قومي وغيرهم من العرب، والعجم، والأسود، والأحمر، فـ (الناس): يشمل الإنس والجن، فمن أجاب منهم؛ يقال له: أمة الإجابة، والذي لم يجب؛ يقال له: أمة الدعوة، وفي رواية أبي هريرة عند مسلم: «وأرسلت إلى الخلق كافة»؛ وهي أصرح الروايات وأشملها، وهي تؤيد قول من قال: إنه
%ص 606%
عليه السلام أرسل إلى الملائكة، وهو ظاهر قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، (وأعطيت الشفاعة)؛ أي: العظمى، أو التي لأهل الصغائر والكبائر، أو من ليس له عمل صالح إلا التوحيد، أو لرفع الدرجات في الجنة، أو في إدخال قوم الجنة بلا حساب، انتهى، وتمامه فيما قدمناه في (التيمم)، لكنَّ الشفاعة العظمى لا يشاركه بها أحد من الأنبياء وغيرهم، أمَّا غيرها؛ فيشاركه بها الأنبياء والعلماء وغيرهم؛ فافهم، والله أعلم.
==================
(1/734)
(57) [باب نوم المرأة في المسجد]
هذا (باب) حكم (نوم المرأة في المسجد) سواء كانت حرة أو أمة، فإذا أمِنَت على نفسها، ولم يكن لها مسكن؛ فيجوز نومها فيه، كما يجوز لها السكنى فيه أيضًا، كذا أطلق الشراح، وينبغي تقييده بما إذا لم تكن حائضة، فإنَّ في حال حيضها لا يجوز لها النوم ولا السكنى في المسجد، كما لا يخفى.
==================
(1/735)
[حديث: أن وليدة كانت سوداء]
439# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبيد)؛ بضمِّ أوله؛ مصغرًا غير مضاف، وفي رواية: عبيد الله (بن إسماعيل) هو الكوفي الهَبَّاري، بفتح الهاء وتشديد الموحدة، وعبد الله: اسمه في الأصل كما ثبت في هذه الرواية، وعبيد: لقبه غلب عليه، وعرف به (قال: حدثنا أبو أسامة): هو حماد بن أسامة الهاشمي الكوفي، (عن هِشام)؛ بكسر الهاء هو ابن عروة، (عن أبيه): هو عروة بن الزبير بن العوام المدني، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أنَّ)؛ بفتح الهمزة (وَليدة)؛ بفتح الواو مكبرًا؛ يعني: أمة، والوليدة في الأصل: الطفلة، وقد تطلق على الأَمَة وإن كانت كبيرة، وفي «المخصص»: إذا ولد المولود، فهو وليد ساعة تلده أمه، والأنثى وليدة، وفي «المحكم»: الجمع: ولدان، كذا في «عمدة القاري» (كانت سوداء)؛ يعني: كانت امرأة كبيرة سوداء، ولم يذكر أحد اسمها، قاله إمام الشَّارحين (لحي من العرب) أي: لقبيلة منهم، ومتعلق اللام محذوف تقديره: كانت لحي من العرب، وهي في محل نصب على الوصفية، ولم يذكر أحد اسم الحي التي كانت لهم، قاله إمام الشَّارحين، (فأعتقوها) أي: الوليدةَ قومُها، (فكانت معهم) أي: لم تخرج عنهم، (قالت) أي: الوليدة: (فخرجت صبية) لم يقف على اسمها إمام الشَّارحين (لهم) أي: لهؤلاء الحي، وروى ثابت في «الدلائل» من طريق أبي معاوية عن هشام، فزاد فيه: أنَّ الصبية كانت عروسًا، فدخلت في مغتسلها، وكان (عليها) أي: الصبية (وشاح أحمر)؛ بكسر الواو، وبضمِّها، وتبدل همزة مكسورة، فيقال: الإشاح على البدل من الواو؛ وهو خيطان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، والجمع: أوشحة، ووشح، ووشائح وفي «المخصص»: (الوشاح: من وسط إلى أسفل، ولا يكون الوشاح وشاحًا حتى يكون منظومًا بلؤلؤ أو ودع)، وفي «الجامع»: (الوشاح: خرز تتوشح المرأة به، ويقال له أيضًا: الوشجن)، وفي «المغيث»: (الوشاح: قلادة) (من سُيور)؛ بضمِّ المهملة، جمع سَير؛ بفتحها، وهو ما يقطع من الجلد غالبًا، وفي «المنتهى»: (إشاح: وهو ينسج من أديم عرضًا، وينظم عليه الجواهر، فيكون نظمان؛ أحدهما معطوف على الآخر، والجمع: وشح)، وفي «الصحاح» (الوشاح: ينسج من أديم عرضًا، ويرصع بالجواهر، وتشده المرأة بين عاتقها وكشحها)، وقال الداودي: (الوشاح: ثوب؛ كالبُرد، ونحوه)، قال في «المصابيح»: (هذا يصلح تفسيرًا لما في الحديث) انتهى.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ الوشاح هو من الجلد بدليل قوله: (من سيور) وهو: ما يقطع من الجلد، وكان عليه اللؤلؤ، فهذا يخالف ما زعمه؛ فافهم.
(قالت) أي: الوليدة، وزعم القسطلاني، وتبعه العجلوني؛ أي: عائشة.
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّ عائشة لم تحضر القصة، وإنَّما الوليدة الحاضرة، وهي تقص القصة على عائشة، ويدل عليه ما رواه ثابت في «الدلائل» وفيه: (أنَّ الصبية كانت عروسًا، فدخلت في مغتسلها، فوضعت الوشاح)، فهذا يدل على أنَّ القائل ذلك هي الوليدة، ويدل عليه أيضًا آخر الحديث؛ حيث قالت عائشة: فحدثتني بهذا؛ فافهم.
(فوضعته) أي: الوشاح على الأرض، أو شيء؛ لأجل الاغتسال (أو وقع منها) بالشك من الراوي، والظاهر أنَّه من عائشة، وروى ثابت في «الدلائل»: فوضعت الصبية الوشاح، من غير شك (فمرت به) أي: بالوشاح، وسقطت لفظة (به) للأربعة (حُدَيَّاة)؛ بضمِّ الحاء وفتح الدال المهملتين، وتشديد التحتية، بعدها ألف، وفي آخره تاء، قال إمام الشَّارحين: والأصل فيها أن يقال حُديْأة؛ بهمزة مفتوحة بعد التحتية الساكنة؛ لأنَّها مصغر (حدأة) على وزن (عنبة)، ولكن أبدلت الهمزة ياء، وأدغمت الياء في الياء، فصارت حدية، فقيل: حصلت الألف من إشباع الفتحة، وقيل: إنَّها كلمة موضوعة بلفظ التصغير مرادفة لـ (الحدأة)، وقال أمامنا الشَّارح: (وجمع الحدأة: حدء [1] مقصور [و] مهموز نص عليه ثعلب)، وقال ابن قتيبة: (وجمعه حدان)، وقال ابن سيده: (والحداء أيضًا؛ بالمد والكسر: جمع الحدأة وهو نادر)، وقال ابن عديس: (ومن العرب من يسميها أيضًا الحِدَو؛ بكسر الحاء وفتح الدال المهملتين بعدها واو ساكنة)، قال أبو منصور: (ومنه قول ابن عبَّاس «لا بأس بقتل الحدو»)، وقال ابن عديس: (وهي الحدى؛ مثل العزى، وأهل الحجاز يقولون لها: حديَّة، يشددون التحتية ولا يهمزون، والجمع: حدادي، وعن أبي حاتم أنَّه خطَّأهم في هذا، وقال ابن الأنباري: (الحداء جمع حدأة، وربما فتحوا الحاء فقالوا: حدأة وحداء، والكسر أجود)، وفي «الموعب»: (هي طائر يأكل الجرزان).
قال إمام الشَّارحين: (هي الطائر المعروف الذي هو من الفواسق الخمس المأذون بقتلهن في الحل والحرم) انتهى.
قلت: وهي معروفة يقال لها: شوحة، تأكل الجيف.
(وهو) أي: الوشاح (مُلقًى)؛ بضمِّ الميم: اسم مفعول؛ أي: مرميٌّ على الأرض، أو على السرير ونحوه، والجملة محلها نصب على الحال من الوشاح أو من ضميره، (فحسِبته) أي: ظنت الحدياة الوشاح (لحمًا) أي: سمينًا؛ لأنَّه كان من جلد أحمر، وعليه اللؤلؤ، وهذا لا ينافي كونه مرصعًا باللؤلؤ والجواهر؛ لأنَّ بياض اللؤلؤ والجوهر على حمرة الجلد يصير كاللحم السمين المرغوب فيه لمن يأكله، (فخطَفته)؛ بفتح الطاء المهملة، وزعم القسطلاني وتبعه العجلوني أنَّه بكسر الطاء المهملة على الأفصح، انتهى.
قلت: وفتح الطاء أيضًا فصيح؛ لأنَّه من باب نصر ينصُر؛ فافهم، والخطف: الأخذ بالقوة والقهر بدون حق مترتب.
(قالت) أي: الوليدة: (فالتمسوه) أي: طلب هؤلاء الحي الوشاح المذكور بالسؤال والتفتيش عنه، (فلم يجدوه)؛
%ص 607%
أي: الوشاح عند الصبية، وفي الكلام حذف وهو: أنَّ الصبية التمست وشاحها أولًا، فلم تجده فسألت عنه الحي المذكور، فالتمسوه ثانيًا، فلم يجدوه؛ فافهم.
(قالت) أي: الوليدة: (فاتهموني به) أي: بأخذ الوشاح المذكور؛ يعني: بسرقته (قالت) أي: الوليدة لا عائشة كما زعم القسطلاني وتبعه العجلوني: (فطفقوا) أي: شرعوا (يفتشون)؛ أي: يكشفون عن ثيابها وينظرون ثيابها، هل الوشاح معها؟ ويؤيد ما قلناه رواية الأصيلي وابن عساكر: (يفتشوني)؛ بضمِّير المتكلم، فهو يدل على أنَّ هذا قول الوليدة، وزعم العجلوني أنَّ هذه الرواية على حكاية لفظ الوليدة، انتهى.
قلت: هو غير ظاهر؛ لأنَّ هذا ليس بقول عائشة، بل هو قول الوليدة؛ لأنَّها المخبرة عن حالها في ذلك، وهذا هو الحقيقة، وما زعمه محاولة وخروج عن الظاهر؛ فافهم.
(حتى) أي: إلى أن (فتشوا قبُلها)؛ بضمِّ القاف والموحدة؛ أي: فرجها، فإن قلت كان القياس أن يقال: (قبلي)، بياء المتكلم.
قلت: إن كان هذا من كلام عائشة؛ فهو على الأصل، وإن كان من كلام الوليدة؛ فهو من باب الالتفات، أو من باب التجريد، فكأنَّها جردت من نفسها شخصًا وأخبرت عنه، والظاهر: أنَّه من كلام الوليدة، كذا قاله إمام الشَّارحين، وكذا استظهر أنَّه من كلام الوليدة ابن حجر العسقلاني في «فتحه».
قلت: وهذا هو الظاهر، ويدل عليه رواية الأصيلي وابن عساكر السابقة، وكذلك رواية المؤلف في (أيام الجاهلية): (حتى فتشوا قبلي) بياء المتكلم؛ فليحفظ
(قالت) أي: الوليدة (والله إني لقائمة معهم) أي: مع هؤلاء الحي (إذ مرت الحدياة) أي: المذكورة، وكلمة (إذ) على أربعة أقسام؛ أحدها: أن تكون اسمًا للزمن الماضي، والثالث في استعمالها: أن تكون ظرفًا، و «إذ» ههنا من هذا القبيل، وتمامه في موضعها، قاله إمام الشارحين.
قلت: وهي وإن كانت ظرفًا إلا أنَّها ههنا للمفاجأة؛ فافهم.
زاد ثابت في «الدلائل»: (قالت: فدعوت الله أن يبرئني، فجاءت الحدياة، وهم ينظرون) (فألقته) أي: رمت الحدياة الوشاح المذكور (قالت) أي: الوليدة: (فوقع) أي: الوشاح (بينهم) أي: بين هؤلاء الحي (قالت) أي: الوليدة: (فقلت) أي: لهؤلاء الحي: (هذا) أي: الوشاح المذكور هو (الذي اتهمتموني به) أي: نسبتموني إلى سرقته (زعمتم) أي: أني أخذته، فحذف مفعول (زعمت)؛ للقرينة الدالة عليه، بل صرح به في نسخة، قال الأصمعي: (الزعم: الكذب)، وقال الواحدي: (وأكثر ما يستعمل بمعنى فيمالا يتحقق)، قال ابن المظفر: (أهل العربية يقولون: زعم فلان؛ إذا شك فيه ولم يدر لعله كذب أو باطل)، وقال شريح: (زعموا: كنية الكذب) انتهى.
فقولها: (زعمتم) تريد: كذبتم علي (وأنا منه بريئة)؛ الجملة حالية، والضمير في (منه) يرجع إلى الزعم الذي يدل عليه (زعمتم) ويجوز أن يرجع إلى الوشاح؛ أي: من أخذه؛ قاله إمام الشَّارحين.
قلت: والذي يظهر أنَّ المعنى الثاني أوفق للمقام، وإن كان المعنى الأول صحيحًا؛ فتأمل.
(وهو ذا هو) قال إمام الشَّارحين: فيه أوجه من الإعراب:
الأول: أن يكون (هو) الأول مبتدأً و (ذا) خبره، و (هو) الثاني خبر بعد خبر، ويكون (هو) الأول راجعًا [2] إلى الوشاح و (ذا) إشارة إلى المُلقى.
الثاني: أن يكون (هو) الثاني تأكيدًا للأول.
الثالث: أن يكون تأكيدًا لـ (ذا).
الرابع: أن يكون بيانًا له.
الخامس: أن يكون (ذا) مبتدأ ثانيًا، وخبره (هو) الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول.
السادس: أن يكون (هو) ضمير الشأن، ويكون (ذا) مع (هو) الثاني جملة، أو الثاني خبرًا [3] محذوفًا والجملة تأكيدًا للجملة.
السابع: أن يكون (ذا) منصوبًا على الاختصاص.
ووقع في رواية أبي نعيم (وها هو ذا)، وفي رواية ابن خزيمة (وهو ذا) كما ترون، انتهى.
(قالت) أي: عائشة، قاله الشَّارح وتبعه الشرَّاح: (فجاءت)؛ أي: الوليدة؛ أي: بعد ما هاجرت من بلاد هؤلاء الحي (إلى رسول الله) وللأصيلي: (إلى النبي الأعظم) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: إلى مدينته المنورة حتى تشرفت برؤيته، (فأسلمت)؛ أي: على يديه، (قالت)؛ أي: عائشة: (فكانت)؛ أي: الوليدة، وللكشميهني (فكان)، قلت: والظاهر: أنها بمعنى: وجد، وقوله (لها خباء) خبر ومبتدأ، و (في المسجد) متعلق بـ (وجد).
وزعم العجلوني أن (كان) في هذه الرواية على إسناد (كان) إلى خباء في (لها خباء) و (لها) خبرها مقدم، والأقرب جعله حالًا والخبر (في المسجد) [4] انتهى.
قلت: وهو غير ظاهر مع ما فيه من التعسف؛ فافهم، و (الخِباء): بكسر الخاء المعجمة وتخفيف الموحدة، وبالمد؛ وهي خيمة تكون من وبر، أو صوف، وهي على عمودين أو ثلاثة وما فوقها.
وقال أبو عبيدة: (الخباء لا يكون إلا من شعر).
قلت: وفيه نظر، ففي «المخصص»: (الخباء: يكون من وبر، أو صوف، ولا يكون من شعر).
وقال الكلبي: (بيوت العرب ستة: مظلة من شعر، خباء من صوف، بجاد من وبر، خيمة من شجر، أقنة [5] من حجر، قبة من أدم).
وقال ابن دريد: (الأخبية: بيوت الأعراب، فإذا ضخم الخباء؛ فهو بيت، والخباء مشتق من خبأت خبيئًا، ويقال: تخبأت).
وعن الفارسي: (أصل هذه الكلمة التغطية)، وعن ابن السكيت: (أخبينا خباء: نصبناه، واستخبيناه: نصبناه ودخلنا فيه) انتهى.
(في المسجد)؛ أي: النبوي، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حال و (ال) في (المسجد) للعهد؛ أي: المعهود عن عائشة، وهو مسجده عليه السَّلام (أو حِفْش) بكسر الحاء المهملة، وسكون الفاء آخره شين معجمة؛ وهو بيت صغير قريب السمك، مأخوذ من الانحفاش؛ وهو الانضمام، وذكر ابن عديس: أنه الصغير من بيوت الأعراب، وقيل الحفش: بالفتح والكسر والاسكان: وبفتح الفاء: البيت القريب السمك من الأرض وجمعه: أحفاش وحفاش، وفي «المخصص»: (أنه من الشعر، لا من الآجر)، وفي «المغرب»: (استعير من حفش المرأة؛ وهو درجها)، وقال أبو عبيد: (هو البيت البردي، وقيل: الخرب)، وقال الجوهري: (وهو وعاء المغازل).
قلت: (لكنه استعير للبيت الصغير) قاله إمام الشَّارحين.
وكلمة (أو) للشك من عائشة (قالت)؛ أي: عائشة: (فكانت)؛ أي: الوليدة (تأتيني فتحدِّث عندي)؛ بلفظ المضارع، أصله: تتحدث من التحدث، فحُذفت إحدى التاءين، فعند سيبويه: المحذوف التاء الثانية؛ لأنَّ الثقل نشأ منها، وقيل: هي الأولى؛ لأنَّها زائدة، كذا في
%ص 608%
«عمدة القاري».
قلت: والأظهر: الأول، والعلة في الحذف التخفيف.
(قالت)؛ أي: عائشة (فلا تجلس)؛ أي: الوليدة المذكورة (عندي مجلسًا إلا قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا)؛ بمثناة فوقية، قبل العين، كذا في رواية أبوي ذر والوقت، والأصيلي، وابن عساكر، وفي رواية غيرهم (من أعاجيب) بالهمزة بدل التاء، وأعاجيب جمع (أعجوبة)، كأحدوثة، وكذلك تعاجيب، فلا واحد له من لفظه، كما قاله ابن سيده، والجوهري، وقال الزركشي: (لا واحد له من لفظه، ومعناه: عجائب)، قال في «المصابيح»: (ولا أدري لم لا يُجعل جمعًا لتعجيب مع أنَّه ثابت في اللغة؟ يقال: عجَّبت فلانًا تعجيبًا إذا جعلته يعجب، وجمع المصدر باعتبار أنواعه لا يمتنع) انتهى.
قلت: ولم أر من الشراح من تكلم فيه، والظاهر: أنَّه وجيه، لكن أهل اللغة كالجوهري، وابن سيده، وغيرهما، لم يسلموه؛ فافهم.
(ألا)؛ بتخفيف اللام للضرورة؛ استفتاحية (إنَّه)؛ بكسر الهمزة؛ أي: الله تعالى (من بلدة الكفر أنجاني)، وهذا البيت من البحر الطويل، وأجزاؤه ثمانية، وهي فعولن مفاعيلن، ثمان مرات، وفيه القبض في الجزء الأول، وهو حذف الخامس الساكن قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن حجر إن أشبعت حركة الحاء من (الوشاح)؛ صار سالمًا أو قلت: (ويوم وشاحٍ)؛ بالتنوين، وبحذف (أل): من الوشاح صار في أول جزء من البيت، وهو أخفُّ من الأول، واستعمال القبض في الجزء الثاني وكذا السادس في أشعار العرب؛ كثيرٌ، وأما أشعار المولدين؛ فيندر استعماله، انتهى.
قلت: هذا قياس علم العروض، لكنَّ الرواية ههنا تخالفه؛ فافهم.
(قالت: عائشة)؛ أي: الصديقة رضي الله عنها: (فقلت لها) أي: للوليدة: (ما شأنك لا تقعدين)؛ بضمِّ العين المهملة (معي مَقعدًا)؛ بفتح الميم (إلا قلت هذا)؛ أي: إلا أنشدت هذا البيت، (قالت)؛ أي: عائشة: (فحدثتني بهذا الحديث)؛ أي: المتضمن للقصة المذكورة، أو المراد بالحديث القصة المعروفة.
ومطابقته للترجمة في قولها: (وكان لها خباء في المسجد)؛ لأنَّها لم تنصب (خباء) فيه إلا للبيتوتة، والنوم فيه.
قال ابن بطال: (وفي الحديث: أنَّ من لم يكن له مسكن، ولا مكان مبيت؛ أن يباح له المبيت في المسجد سواء كان رجلًا أو امرأة عند حصول الأمن من الفتنة) انتهى.
قلت: ومن كان بهذه الحالة؛ فهو المسافر، أمَّا المقيم؛ فيكره له النوم في المسجد سواء كان ليلًا أو نهارًا، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور.
وفي الحديث جواز استظلال الشخص في المسجد بالخيمة ونحوها مما لم يكن فيه تضييق على المصلين.
وفيه أنَّ السنة الخروج من بلدة جرت فيها فتنة على الإنسان؛ تشاؤمًا بها، وربما كان الذي جرى عليه من المحنة سببًا لخير أراده الله بها في غير تلك البلدة كما جرى لهذه السوداء، أخرجتها فتنة الوشاح إلى بلاد الإسلام، ورؤية سيد الأنام عليه السَّلام، قال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً} [النساء: 97]، وفيه فضل الهجرة من دار الكفر، انتهى.
وزعم العجلوني أنَّ فيه إجابة دعوة المظلوم ولو كان كافرًا؛ لأنَّ في السياق ما يدل على أن إسلامها كان بعد قدومها المدينة، انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ ظاهر السياق يدلُّ على أنَّ إسلامها كان قبل قدومها، ولئن سلم؛ فيحتمل أنَّها أسلمت قبل، ثم جدَّدت إسلامها بعد قدومها، لكن ليس في السياق ما يدلُّ على دعوتها أيضًا، وعلى كلٍّ؛ فهو غير ظاهر؛ والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (حدة).
[2] في الأصل: (راجع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (خبر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (بالمسجد).
[5] في الأصل: (أفتتة)، ولعله تحريف.
==================
[1] في الأصل: (حدة).
[2] في الأصل: (راجع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (خبر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (بالمسجد).
[1] في الأصل: (حدة).
[2] في الأصل: (راجع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (خبر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (بالمسجد).
(1/736)
(58) [باب نوم الرجال في المسجد]
هذا (باب) حكم (نوم الرجال): ليلًا أو نهارًا (في المسجد) (أل) فيه للجنس.
قال إمام الشَّارحين (فإن قلت: لم ما قال: نوم الرجل؛ مثل ما قال في الباب السابق: نوم المرأة على الإفراد؟
قلت: أمَّا الإفراد هناك؛ فلأجل أنَّ الحديث الذي فيه في قصة امرأة واحدة، وأمَّا الجمع ههنا؛ فلأن الأثر الذي ذكره في أول هذا الباب في الجماعة، على أنَّ في بعض النسخ: باب «نوم الرجل») انتهى.
قلت: يعني: بالإفراد وهو للجنس، فيساوي الجمع، وتقديرنا الحكم أولى من تقدير غيرنا الجواز؛ لأنَّ الحكم أعم؛ فيشمل الجائز المكروه وغيره؛ فافهم.
وإن كان مراد المؤلف الجواز على ما فيه، كما سيأتي؛ فافهم.
(وقال أبو قِلَابة)؛ بكسر القاف، وتخفيف اللام، واسمه عبد الله بن زيد، قال إمامنا الشَّارح: هذا التعليق قطعة من قصة العرنيين، وقد تقدم حديثهم في (الطهارة)، وهذا اللفظ أورده المؤلف موصولًا في (المحاربين) من طريق وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، (عن أنس) زاد الأصيلي (ابن مالك): هو الأنصاري أنَّه قال: (قدِم) بكسر الدال المهملة (رَهط)؛ بالراء المهملة: هو ما دون العشرة من الرجال، ولا يكون فيهم امرأة (من عُكْل) بضمِّ المهملة وسكون الكاف وبلام: قبيلة من العرب معروفة (على النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم، فكانوا) أي: الرهط (في الصُفَّة)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وتشديد الفاء؛ وهي موضع في أخريات المسجد النبوي، عليه سقائف مظلله، تأوي إليه الفقراء والمساكين، فنُسبوا إليها، فيقال لهم: أصحاب الصُفَّة، وقيل سموا بأصحاب الصفة؛ لأنَّهم كانوا يصفون على باب المسجد.
ومطابقته للترجمة ظاهرة؛ لأنَّهم كانوا ينامون في الصفة على عهده عليه السَّلام، وهو يدلُّ على الجواز من غير كراهة؛ لأنَّهم كانوا غرباء مسافرين، أمَّا المقيمون؛ فكره ذلك لهم؛ لأنَّ المقيم لابدَّ له من مسكن، أمَّا الغريب المسكين؛ فليس له مسكن، فيباح له ذلك؛ فافهم.
(وقال عبد الرحمن بن أبي بكر) زاد الأصيلي: (الصديق) رضي الله عنه، شهد عبد الرحمن بدرًا مع المشركين، ثم أسلم، وهاجر قبل الفتح، وكان أشجع قريش، مات قريب مكة سنة ثلاث وخمسين، وقيل: بعدها، وحمل على رقاب الرجال إلى مكة، وهو شقيق عائشة أم المؤمنين، ولمَّا أخبرت بموته؛ خرجت من المدينة حاجَّة حتى وقفت على قبره، فبكت وتمثلت بقول الشاعر:
%ص 609%
وكنا كندمان جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكًا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وقالت: أما والله لو حضرتك؛ لدفنتك حيث مت.
وزعم العجلوني أن عبد الرحمن هذا ليس هو المدفون بمرج الدحداح_ مقبرة من مقابر دمشق الشام_ بل ذاك من نسله على ما قيل، انتهى.
قلت: وقد اشتهر هذا المكان بقبر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وعليه قبة عظيمة ومكان مبارك يقصد بالزيارة، ويستجاب فيه الدعاء.
(كان أصحاب الصُفَّة)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وتشديد الفاء: موضع مظلل من المسجد، تأوي إليه المساكين، ولهذا قال: (الفقراء)؛ بالتعريف لغير الأربعة ولهم (فقراء)؛ بالتنكير، وعليه؛ فهو خبر (كان) لا غير، بخلافه على التعريف؛ فهو إما اسم (كان) مؤخرًا، و (أصحاب) خبرها مقدم؛ لأنَّهما معرفتان أو بالعكس وهو أولى.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق أول حديث طويل يأتي ذكره في باب: «السَمَر مع الأهل»، وأوله: حدثنا أبو النُّعمان قال: حدثنا معتمر قال: حدثنا أبو [1] سليمان قال: حدثنا أبو عثمان عن عبد الرحمن بن أبي بكر: أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء وأن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «من كان عنده طعام اثنين؛ فليذهب بثالث ... »؛ الحديث) انتهى.
قلت: ووجه مطابقته للترجمة من حيث إنَّ قوله: (أصحاب الصفة)؛ مشعر بنومهم في المسجد؛ لأنَّها من المسجد؛ ففيه جواز النوم في المسجد للفقراء الغرباء الذين ليس لهم مسكن ولا مأوًى، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، كما رواه عنهما ابن أبي شيبة، وسيأتي تمامه، إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
==================
(1/737)
[حديث ابن عمر: أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد]
440# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد): هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا يحيى): هو ابن سعيد القطان، (عن عُبيد الله)؛ بضمِّ العين المهملة؛ مصغرًا: هو ابن عمر العمري (قال: حدثني) بالإفراد (نافع): هو مولى ابن عمر المدني (قال أخبرني) بالإفراد أيضًا (عبد الله بن عمر): هو ابن الخطاب القرشي العدوي، وسقط (ابن عمر) لغير أبي ذر: (أنه كان ينام وهو شاب) جملة اسمية حالية (أعزب) نعت لشاب، أو خبر بعد خبر، و (أعزب): بالهمزة رواية الأكثرين وهي لغة قليلة، بل أنكرها القزاز حيث قال في «الجامع»: (العزب: الذي لا امرأة له، وكذلك المرأة التي لا زوج لها، كل واحد منهما عزب، وعزبة، وقد عزب الرجل يعزب عزوبة فهو عزب، ولا يقال: أعزب).
وردَّ أبو إسحاق الزجَّاج على ثعلب في «الفصيح» في قوله: (امرأة عزبة) فقال: (هذا خطأ، وإنَّما يقال: رجل عزب وامرأة عزب، ولا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث؛ لأنَّه مصدر، قال الشاعر:
يا من يدل عزبًا على عزب ... على فتاة مثل نبراس الذهب)
والنِبْراس؛ بكسر النون وسكون الموحدة: المصباح.
والمشهور: عَزَب؛ بفتحتين، كذا ضبطه الدمياطي، وقال صاحب «المنتهى»: (العزب؛ بالتحريك نعت للذكر والأنثى، لكن قد ثبت في رواية أبي ذر: عزِب؛ بكسر الزاي وبدون الهمز).
قال البرماوي: (وهي اللغة الفصيحة).
وقال الكسائي: (العزبة التي لا زوج لها، والأول أشهر).
وقال ابن درستويه: (العامة تقول: عزبة؛ وهو يجوز في المصادر إذا غلبت على الصفة حتى جرت مجرى الأسماء، وليس بالمختار).
وفي «المحكم»: (رجل عزب ومعزابة: لا أهل له، وامرأة عزبة وعزب، والجمع «أعزاب»، وجمع العازب: «عزاب»، والعزب: اسم للجمع، وكذلك العزيب: اسم للجمع).
وقال في «القاموس»: (العزب؛ محركة: من لا أهل له؛ كالمعزابة والعزيب، ولا تقل: أعزب أو قليل، والجمع «أعزاب»، وهي عزبة وعزب، والاسم العزبة والعزوبة، والفعل كنصر، وتعزَّب: ترك النكاح).
وزعم العجلوني: أن في القسطلاني تبعًا «للمصابيح»، وفي رواية أبي زيد: (عزب)، قال: أقول: هو أبو زيد المروزي وهو محتمل؛ فإن القسطلاني ذكره في (الخطبة) انتهى.
قلت: وهو فاسد؛ لأنَّ العجلوني نقل عن هذه النسخة المصحَّفة، وإنما نسخ القسطلاني جميعها، (ولأبي ذر ... ) إلخ. وإذا كان صاحب «المصابيح» روى عن أبي زيد؛ لا يلزم أن يكون هو الراوي ههنا؛ فإنَّا لم نعهد رواية عن أبي زيد المروزي ههنا، ولا يلزم من ذكر القسطلاني له في (الخطبة) أن يكون راويًا عن المؤلف ههنا، وليس في ذلك احتمال، كما لا يخفى؛ فافهم.
(لا أهل له)؛ أي: لا زوجة لابن عمر، وهو إن كان مفهومًا من قوله: (أعزب) إلا أنَّه قد ذكره؛ لأجل التأكيد، أو التأسيس، أو التعميم، فإنَّه من العام بعد الخاص؛ لأنَّ الأهل يشمل الأقارب والزوجة؛ فافهم.
(في مسجد النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) الجار والمجرور متعلق بقوله (ينام) وقد أخرج المؤلف هذا الحديث في أواخر (الصلاة) في باب (فضل قيام الليل مطولًا)، وفيه: (وكنت غلامًا شابًّا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ... )؛ الحديث، وأخرجه مسلم وابن ماجه، ولفظ مسلم: (كنت أبيت في المسجد ولم يكن لي أهل)، ولفظ ابن ماجه: (كنا ننام في المسجد على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، ففيه: جواز النوم في المسجد لمن هو أعزب غير غريب، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، وابن سيرين، وهو أحد قولي الشافعي.
ومذهب الإمام الأعظم: أنَّ النوم في المسجد لغير الغريب مكروه؛ لأنَّ المساجد إنَّما بنيت للعبادة لا للنوم، وهو مذهب ابن عبَّاس، فإنَّه قال: (لا تتخذوا المسجد مرقدًا)، وروي عنه أنه قال: (إن كنت تنام فيه لصلاة؛ فلا بأس)،
%ص 610%
وقال مالك: (لا أحب لمن له منزل أن يبيت في المسجد)، وبه قال أحمد وإسحاق، وكره النوم فيه: ابن مسعود، وطاووس، ومجاهد، وهو قول الأوزاعي.
والظاهر: أنَّ نوم ابن عمر فيه كان نهارًا لا ليلًا؛ لأنَّ قوله: (كان ينام)، أو (كنت أنام)، أو (كنا ننام) على اختلاف الروايات؛ محتمل للوجهين؛ أرجحهما: الأول، فلا دلالة فيه على ما ذكر، وسُئِل ابن المسيب وسليمان بن يسار عن النوم فيه فقالا: (كيف تسألون عنه وقد كان أهل الصُفَّة ينامون فيه وهم قوم كان مسكنهم المسجد).
قلت: وهذا يدلُّ على الإباحة للغريب الفقير الأعزب، ويدلُّ على كراهته لغيره، كما لا يخفى، وذكر الطبري عن الحسن قال: (رأيت عثمان بن عفان نائمًا فيه ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين).
قلت: لعله كان نائمًا نهارًا لا ليلًا، ويحتمل أنَّه كان ينتظر الصلاة، ومثل النوم فيه الأكل، والشرب، والجلوس؛ فهو مكروه إلا لمعتكف؛ لأنَّ المساجد قد بنيت للعبادة، كما لا يخفى؛ فافهم، والصحيح عند الشافعي: عدم الكراهة، وما ذكرناه حجة عليه؛ فافهم.
==================
(1/738)
[حديث: قم أبا تراب قم أبا تراب]
441# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قتيبة بن سعِيد)؛ بكسر العين المهملة: هو ابن جميل الثقفي البلخي، و (قتيبة): لقبه، غلب عليه وعرف به، واسمه يحيى (قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم)؛ بالحاء المهملة، والزاي: هو المدني، ولم يكن بالمدينة أفقه منه بعد مالك المتوفى سنة أربع وثمانين ومئة، (عن) أبيه (أبي حازم) واسمه سَلَمَة _بفتحات_ ابن دينار الأعرج المدني الزاهد، (عن سهل بن سعْد)؛ بسكون العين المهملة: هو ابن مالك الساعدي الأنصاري الصحابي آخر من مات من الصحابة رضي الله عنه (قال: جاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيت فاطمة)؛ أي: الزهراء ابنته عليه السَّلام، و (بيت) منصوب: مفعول (جاء)؛ لأنَّه متعدٍّ، (فلم يجد عليًّا)؛ أي: ابن أبي طالب الصديق الأصغر زوج فاطمة رضي الله عنهما (في البيت) وهل البيت لعلي أو لفاطمة؟ ظاهر اللفظ: يدل للثاني، ويحتمل أنَّه لعلي، وعبَّر به باعتبار سكناها فيه؛ فافهم.
(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لابنته فاطمة: (أين ابن عمكِ؟)؛ بكسر الكاف: أراد به: علي بن أبي طالب، وفي الحقيقة: هو ابن عم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنَّما اختار هذه العبارة ولم يقل: أين زوجك؟ أو أين علي؟ لأنَّه عليه السَّلام فهم أنَّه جرى بينهما شيء؛ فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة النسبية التي بينهما) قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وفيه إطلاق ابن العم على أقارب الأب؛ لأنَّه ابن عم أبيها، ويحتمل أنَّه أراد بهذه العبارة ظاهرها، وهو أنَّه يقال لوالد الزوج: عم في العرف؛ فأراد ابن عمها في الزوجية؛ فافهم.
(قالت) ولابن عساكر (وقالت)؛ بالواو، وللأصيلي (فقالت)؛ بالفاء؛ أي: فاطمة: (كان بيني وبينه شيء)؛ أي: أمر يقتضي المنافرة بين الزوجين عادة، (فغاضبني) من باب المفاعلة الموضوع لمشاركة الاثنين، لكنه ابتدأ هو بالمغاضبة، (فخرج)؛ أي: علي، (فلم)؛ بالفاء، وللأصيلي (ولم)؛ بالواو (يَقِل)؛ بفتح التحتية، وكسر القاف: من القيلولة، وللأصيلي وابن عساكر (يُقل)؛ بضمِّ أوله من (الإقالة)؛ بمعنى: (القيلولة)، والقائلة: وهو النوم في نصف النهار، وقال الزمخشري: (الهاء في القائلة تدل على الساعة؛ كقولهم: الهاجرة)، وقال الفراء: (قلت: وأنا أقيل قيلًا ومقيلًا وقيلولة وقائلة)، وفي «نوادر اللحياني»: (أنا قائل، والجمع قائلون وقيال)، وفي «المخصص»: (قوم قيَّل؛ بالتشديد)، وفي «الصحاح»: (قيل؛ بالتخفيف مثل صاحب وصحب)، كذا في «عمدة القاري».
(فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لإنسان) وللطبراني: (فأمر إنسانًا معه، فوجده مضطجعًا في فيء الجدار، وقال بعضهم: هو عمران بن حصين).
وزعم ابن حجر أنَّه ظهر له أنَّه سهل راوي الحديث؛ لأنَّه لم يذكر أنَّه كان معه غيره.
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّه لو كان هو الراوي؛ لكان يقول: فقال لي، ولم يقل: لإنسان، وظاهر اللفظ: يدل على أنَّ سهلًا لم يحضر القصة، بل كان في المسجد؛ فسمع هذه القصة من عمران، وقوله: (لأنَّه لم يذكر ... ) إلخ: تردُّه رواية الطبراني: (فأمر إنسانًا معه)؛ فهي تدلُّ على أنَّ (الإنسان) هو عمران بن حصين، وهو الصواب؛ فافهم.
(انظر أين هو)؛ أي: في أي مكان علي؟
فإن قلت: ينافيه ما للمؤلف في «الأدب»: (أنه عليه السَّلام قال لفاطمة: «أين ابن عمك؟» قالت: في المسجد).
قلت: لا ينافيه؛ لأنَّه يحتمل أن يكون المراد من قوله: «انظر أين هو»: المكان المخصوص من المسجد، أو هل بقي فيه، أو تحول منه؟ فافهم.
(فجاء)؛ أي: فذهب ذلك الإنسان الذي أمره، فرأى عليًّا في المسجد، ثم جاء إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (فقال: يا رسول الله؛ هو) أي: علي (في المسجد)؛ أي: النبوي والجار والمجرور متعلق بقوله: (راقدٌ)؛ أي: نائم، وهو بالرفع خبر لقوله: (هو)، ويحتمل أنَّه خبر أول، و (راقد) خبر ثان، (فجاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: إلى المسجد المدني؛ ليراضي عليًّا، ولا يخفى ما فيه من غاية التواضع واللطف منه عليه السَّلام؛ حيث إنَّه لم يستحضر عليًّا للمنزل، بل ذهب بنفسه الشريفة إليه؛ فرآه (وهو مضطجع): جملة اسمية محلها نصب على الحال، وكذلك قوله: (قد سقط) أي: وقع (رِدَاؤه)؛ بكسر الراء، وفتح الدال المهملتين: وهو ما يستر أعلى البدن، جملة حالية (عن شِقه)؛ بكسر الشين المعجمة؛ أي: جانبه الأيسر؛ لأنَّه كان ينام على الأيمن، كما هو السنة (وأصابه) أي: عليًّا (تراب)؛ أي: من تراب المسجد، والجملة حالية، (فجعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم): ملاطفًا ومؤانسًا لعلي (يمسحه) أي: التراب (عنه)؛ أي: عن علي (ويقول) له: (قم؛ أبا تراب، قم أبا تراب)؛ بتكرار الجملة للتأكيد، إيقاظًا لعلي من نومه، و (أبا تراب): منادى حذف منه حرف النداء تقديره: يا أبا تراب، على حد قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]
ومطابقة الحديث للترجمة، ظاهرة وظاهر الحديث: يدل على أنَّ
%ص 611%
نوم علي في المسجد إنَّما كان نهارًا لا ليلًا، يدل عليه قولها: (فخرج، فلم يَقِل)؛ يعني: وأنَّه أقال في المسجد، والقيلولة: النوم في نصف النهار؛ ففيه: دليل على جواز النوم نهارًا في المسجد لغير الغريب، ولغير الفقير، ولغير الأعزب، وهذا القيد وهو كونه (نوم النهار) قد غفل عنه العجلوني.
وقد يقال: لا دلالة فيه لجواز النوم في المسجد لغير الغريب؛ لأنَّ عليًّا لما كان ممنوعًا من النوم في البيت من أجل المغاضبة؛ فكأنه كالغريب الأعزب؛ حيث إنَّه منع من البيت والزوجة طبعًا؛ لعدم الائتلاف الحاصل بينهما؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز دخول الوالد بيت ولده بغير إذن زوجها.
الثاني: فيه استعطاف الشخص غيره بذكر ما بينهما من القرابة.
الثالث: فيه إباحة النوم في المسجد لغير الغريب، أو لغير الفقير، وكذلك القيلولة في المسجد؛ فإنَّ عليًّا لم يقل عند فاطمة ونام في المسجد، وروى أبو نعيم في كتاب (المساجد) بسنده إلى جبير بن مطعم عن أبيه يرفعه: «لاتمنعوا القائلة في المسجد مقيمًا ولا ضعيفًا»
الرابع: فيه جواز الممازحة للغاضب بالتكنية بغير كنية، إذا كان ذلك لا يغضبه، بل يؤنسه.
الخامس: فيه مداراة الصهر، وتسلية أمره في غيابه.
السادس: فيه جواز التكنية بغير الولد؛ لأنَّه عليه السَّلام كناه: (أبا تراب)، وعند المؤلف في (الاستئذان): (ما كان لعلي اسم أحبُّ إليه من أبي تراب، وأنَّه كان يفرح بها).
السابع: فيه فضيلة عظيمة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، انتهى.
وزعم العجلوني أنَّ فيه: أنَّه لا بأس بإبداء المنكبين في غير الصلاة، انتهى.
قلت: بل لا بأس بذلك في الصلاة أيضًا؛ لأنَّه ليس فيه كشف العورة؛ فافهم.
وفيه إباحة الأكل والشرب في المسجد قياسًا على النوم فيه إذا لم يضر المسجد، والظاهر: أنَّه مباح للغريب، والمسافر، والفقير، أمَّا المقيم الذي له مسكن؛ فيكره ذلك له؛ لأنَّ منزله أولى في ذلك.
وفيه جواز النوم على التراب إذا لم يضر جسده، والله أعلم.
==================
(1/739)
[حديث: رأيت سبعين من أصحاب الصفة]
442# وبالسند إليه قال: (حدثنا يوسف بن عيسى): هو ابن يعقوب المروزي (قال حدثنا ابن فُضَيْل)؛ بضمِّ الفاء وفتح المعجمة؛ مصغرًا: هو محمد بن فضيل بن غزوان أبو عبد الرحمن الكوفي، المتوفى سنة خمس وتسعين ومئة، (عن أبيه) هو فضيل المذكور، (عن أبي حازم)؛ بالحاء المهملة، والزاي: هو سلْمان؛ بسكون اللام: الأشجعي الكوفي المدني.
قال إمام الشَّارحين: (وأبو حازم هذا أكبر من أبي حازم الذي قبله في السن واللقاء وإن كانا جميعًا مدنيين، تابعيين، ثقتين، ويحتاج الواقف هنا أن يكون على التيقُّظ؛ لئلَّا يقع التلبيس؛ لأجل التشابه) انتهى.
وذكر نحوه ابن حجر، واعترضه العجلوني فقال: (يفترقان بأنَّ الأول اسمه سلمة بن دينار ويروي عن سهل بن سعد، وهذا اسمه سلمان الأشجعي ويروي عن أبي هريرة؛ فاعرف الامتياز بينهما) انتهى.
قلت: هذا التفريق يحتاج إلى التأمل والتفحص عن أسماء الرجال، والمؤلف ذكر الأول والثاني بلفظ: (أبو حازم)، ولا ريب أنَّ فيه اشتباهًا، ولا يلزم من رواية الأول عن سهل ألَّا يروي عن أبي هريرة أو بالعكس؛ لأنَّ كلًّا منهما تابعي يروي عن الصحابي، فما زعمه العجلوني ليس في محله، وهو غير ظاهر، كما لا يخفى؛ فافهم.
(عن أبي هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر؛ الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه أنَّه (قال: رأيت) وفي رواية الأربعة: (لقد رأيت) (سبعين) أي: شخصًا (من أصحاب الصُّفَّة)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وتشديد الفاء: موضع في مسجد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم تأوي إليه الفقراء والمساكين، كما مر.
وهذا يشعر بأنَّهم كانوا أكثر من سبعين وهو كذلك، ولهذا قال إمامنا الشَّارح: (وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم النبيُّ الأعظم عليه السَّلام في غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصُّفَّة أيضًا، لكنَّهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة) انتهى.
قلت: وقد جمع ابن الأعرابي، والسلمي، والحاكم، وأبو نعيم: أصحاب الصفة وعند كل منهم ما ليس عند الآخر؛ فيراجع.
وقوله: (ما منهم رجل عليه رِدَاء)؛ بكسر الراء وفتح الدال المهملتين، والمد: هو ما يستر أعلى البدن، جملة حالية من (سبعين)، ويحتمل أنَّها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا؛ فتأمل.
(إمَّا) بكسر الهمزة؛ للتفصيل (إزار)؛ بكسر الهمزة، والمعجمة والمهملة: هو ما يستر النصف الأسفل من البدن؛ يعني: إمَّا عليه إزار فقط، فـ (إزار): خبر لمبتدأ محذوف، كما قدرناه (وإِمَّا كِساء)؛ بكسر الهمزة، وكسر الكاف مع المدِّ، لكنَّه على الهيئة المذكورة في قوله: (قد ربطوا)؛ أي: الأكسية، وهي صفة لـ (الكساء) والعائد إليه محذوف للعلم به، تقديره: (ربطوه)، وجمع الضمير في (ربطوا) العائد إلى (الرجل) و (الكساء)؛ لأنَّ المراد به: الجنس؛ كالضمير في قوله: (في أعناقهم)؛ لأنَّ المراد به الجنس، (فمنها)؛ أي: الأكسية، وجمع باعتبار أنَّ المراد بـ (الكساء) الجنس أيضًا (ما يبلغ نصف الساقين) ولم يُثنَّى لفظ: (النصف)؛ للعلم بأنَّ المراد منه التشبيه؛ حيث أضيف إلى الساقين؛ قاله العجلوني.
قلت: ليس كذلك، فإنَّه لو أريد به التثنية لم تسقط الألف، بل النون فقط للإضافة، فلم يبق علامة تدل على التثنية، بل لفظ: (نصف) مفرد، ولم يُثنِّه؛ للعلم بأنَّ لكل رجل منهم ساقين؛ فافهم
(ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه)؛ أي: يجمع الواحد منهم الكساء بيده، وزاد الإسماعيلي في روايته: (أنَّ ذلك في حال كونهم في الصلاة) قاله إمامنا الشَّارح، وعزا هذه الرواية القسطلاني للأصيلي، انتهى.
قلت: والظاهر: أنَّه خطأ، بل هي
%ص 612%
رواية الإسماعيلي، كما ذكرها الشَّارحون؛ فافهم
(كراهية)، بتخفيف التحتية، وفي رواية: (كراهة) بحذفها، وفي رواية: (مخافة)، وهي بالنصب مفعول لأجله (أن تُرى) بضمِّ الفوقية (عورته)؛ أي: من تحت الإزار والكساء، والمعنى: أنَّه لم يكن لأحد منهم ثوبان، ويدلُّ عليه قول جابر بن عبد الله: (وأيُّنا كان له ثوبان على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟)، كما سبق في باب (عقد الإزار على القفا).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (من أصحاب الصفة)؛ لأنَّه يشعر بأنَّهم كانوا ينامون فيها، واستوطنوها.
وفيه: جواز النوم للفقير الغريب الأعزب في المسجد، وهو يفيد أنَّه يكره النوم في المسجد للمتزوج، وكذلك من له مسكن، وهو كذلك؛ فإنَّ المساجد إنَّما بنيت للعبادة؛ كصلاة، وتلاوة قرآن، وتدريس فقه أو حديث ونحوها مما لم يشغل المصلين، فما يفعله بعض المتصوفة: من إقامة الأذكار في المساجد مع رفع الصوت والتغني؛ فهو أمر منكر مذموم لا أصل له في السنة، بل هو بدعة منكرة، كيف وقد ثبت عن صاحب الرسالة العظمى والنبوة الكبرى: «خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي»؛ فيجب على كل من له قدرة أن يغير المنكرات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي الحديث: افتراض ستر العورة في الصلاة وخارجها، وفيه: جواز الأكل والشرب في المسجد للغريب والفقير الأعزب؛ كالهنود، والأغوان الذين في رواق المسجد الأموي في ديارنا الشريفة الشامية.
==================
(1/740)
(59) [باب الصلاة إذا قدم من سفر]
هذا (باب) حكم (الصلاة) في المسجد، وغيره (إذا قدم)؛ بكسر الدال المهملة؛ أي: الرجل (من سفر)؛ بالتنكير، وظاهره: الإطلاق؛ أي: سواء كان طويلًا، أو قصيرًا في طاعة أو لا، وزعم العجلوني أنَّ المتبادر منه الطويل، انتهى.
قلت: ليس كذلك، بل المتبادر منه الإطلاق؛ لأنَّ الإتيان بالصلاة بعد القدوم من السفر إنَّما هي لأجل الشكر على نعمة السلامة، وهي لا تخص سفرًا دون سفر، كما لا يخفى، ويدلُّ عليه تنكيره السفر في الترجمة؛ فإنَّه يفيد الإطلاق وهو الأولى؛ فافهم
(وقال كعب بن مالك): هو الأنصاري الشاعر، أحد الثلاثة الذين أنزل الله فيهم آية: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] وشهد العقبة مع السبعين، المتوفى بالمدينة سنة خمسين: (كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قدم) بكسر الدال المهملة (من سفر)؛ بالتنكير، وقوله (بدأ)؛ بالهمز في آخره؛ جواب (إذا) (بالمسجد)؛ أي: النبوي (فصلى فيه)؛ أي: في المسجد قبل ذهابه لبيته، وأقلُّ الصلاة فيه: ركعتان ينوي بهما سنة القدوم من السفر، ويحصل بها تحية المسجد؛ لأنَّ النفل يتداخل بعضه في بعض، كما لو نوى سنة الوضوء، وسنة تحية المسجد وغيرهما من النوافل في صلاة واحدة؛ كفى ذلك وحصل ثواب الجميع.
قال إمام الشَّارحين: وهذا التعليق ذكره البخاري مسندًا في غزوة تبوك، وهو حديث طويل يرويه عن يحيى ابن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: سمعت كعب بن مالك يحدثني حين تخلف عن غزوة تبوك ... ؛ الحديث بطوله، وفيه: (وأصبح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد؛ فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس ... )؛ الحديث، ومطابقته للترجمة ظاهرة، انتهى.
==================
(1/741)
[حديث: صل ركعتين]
443# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا خَلَّاد بن يحيى)؛ بفتح الخاء المعجمة، وتشديد اللام على وزن (فعَّال)؛ بالتشديد: هو ابن صفوان الكوفي السلمي سكن مكة، وتوفي سنة سبع عشرة ومئتين (قال: حدثنا مِسْعَر)؛ بكسر الميم، وسكون السين، وفتح العين المهملتين: هو ابن كدام الكوفي (قال: حدثنا مُحَارِب) بضمِّ الميم، وفتح الحاء المهملة، وكسر الراء، آخره موحدة (بن دِثار)؛ بكسر الدال المهملة، وبالمثلثة، وبالراء: هو السدوسي قاضي الكوفة؛ (عن جابر بن عبد الله): هو الأنصاري الصحابي رضي الله عنه أنَّه (قال: أتيت النبيَّ)؛ الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وقوله: (وهو في المسجد)؛ أي: المدني، جملة محلها نصب على الحال من (النبي) (قال: مِسْعَر): المذكور (أُراه)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: أظنُّ محاربًا شيخه (قال: ضحًى)؛ أي: وقت الضحوة؛ أي: زاد جابر لفظة: (ضحى)؛ لكن هل زادها عقب أتيت أو عقب وهو في المسجد؟ توقف فيه العجلوني.
قلت: والظاهر: الثاني، يدلُّ عليه تأخير كلام مِسْعَر المشعر بأنَّه زادها عقب قوله: (وهو في المسجد)؛ فهو كلام مدرج من الراوي، وأن ضمير (أراه) المنصوب يرجع لـ (محارب).
(فقال)؛ أي: لي النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (صل ركعتين)؛ أي: للقدوم من السفر وليستا بتحية المسجد، وإن حصل بهما التحية، بل تحصل بكل صلاة عقب دخوله ما لم يوجد قاطع، ولا يتقيَّد فعل هاتين الركعتين بالمسجد؛ بل يجوز فعلهما [1] في المنزل، لكن المسجد أفضل؛ لأنَّه المأثور، ويشترط لصحة هذه الصلاة ونحوها ألَّا يؤديها في وقت منهيٍّ عنه كالأوقات الثلاث المشهورة؛ وهي عند الطلوع، وعند الاستواء، وعند الغروب؛ فإنَّ هذه الأوقات تكره فيها النافلة، وكذلك كل ما وجب في الذمة _فرضًا كان أو واجبًا_ قبل دخولها؛ فلا يصحُّ؛ فافهم؛
%ص 613%
كما دلَّ عليه هذا الحديث، وأمَّا الصلاة في ابتداء السفر؛ فالسنة فعلها في المسجد.
وقوله: (وكان لي عليه)؛ أي: على النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (دين) هو أوقيَّة ثمن بعير (فقضاني)؛ أي: فقضانيه عند قدومه من السفر (وزادني)؛ أي: على الدين، من كلام جابر، وفي رواية الحموي: (وكان له)؛ أي: لجابر عليه؛ أي: على النبي، (فقضاني)، وعلى هذه الرواية ففيه التفات، وزعم ابن حجر أنَّ رواية غير الحموي أيضًا فيه التفات، وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (الالتفات لا يجيء إلا في رواية الحموي، لا مطلقًا)؛ فافهم.
وفي الحديث استحباب قضاء الدين زائدًا، وهو من باب المروءة.
وفي الحديث دليل على أنَّه لا يصحُّ في الأوقات الثلاثة شيء من الفرائض والواجبات التي لزمت في الذمة قبل دخول هذه الأوقات، وأمَّا النافلة؛ فتكره كراهة تحريم في هذه الأوقات ولو كان لها سبب؛ كالمنذور وركعتي الطواف وتحية المسجد ونحوها؛ لقوله في الحديث: (ضحًى)؛ أي: وقت الضحى؛ وهو ارتفاع الشمس قدر رمحين؛ لأنَّه عليه السَّلام حضر في المسجد مع طلوع الشمس، فلم يصلِّ حتى ارتفعت الشمس، وبعد ارتفاعها صلَّى؛ ولهذا قال مسعر: (ضحًى).
وزعم ابن حجر أنَّ الحديث لا حجة فيه؛ لأنَّها واقعة عين، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ عادته عليه السَّلام سفرًا وحضرًا عدم الصلاة في هذه الأوقات، ويدلُّ عليه حديث عقبة بن عامر: (ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نصلي فيها، وأن نقبر موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند استوائها حتى تزول، وحين تضيف [2] للغروب حتى تغرب)، رواه مسلم وغيره، ونحوه للنسائي ومالك في: «الموطأ»، ولعل ابن حجر لم يطَّلع على هذا، ولا ريب أنَّ النهي يقتضي الكراهة التحريمية، ولأنَّ الصلاة وجبت في وقت كامل؛ فلا تؤدَّى في وقت ناقص؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت؛ فارقها ... » الحديث، رواه النسائي، ولنا أحاديث كثيرة في ذلك.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إنَّ الترجمة في بيان الصلاة عند القدوم من السفر، ومشروعية هذه الصلاة أعمُّ من أن يكون بفعله عليه السَّلام وأن يكون بقوله، فبيَّن الأول بالحديث المعلق، والثاني بحديث جابر) انتهى.
وزعم ابن حجر: أنَّ ذكر حديث جابر بعد المطلق ليجمع بين فعله عليه السَّلام وأمره، فلا يظن أن ذلك من خصائصه، انتهى، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: فلا يظن أن ذلك من خصائصه) ليس كذلك؛ لأنَّه يشعر أن كل فعل يصدر منه عليه السَّلام يظن فيه أنَّه من خصائصه، وليس كذلك؛ فإنَّ مواضع الخصوص لها قرائن تدل على ذلك، انتهى.
قلت: على أن ما ذكره ابن حجر اقتصار على مجرد النقل من غير معرفة حق الكلام.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» بأنَّه ليس في الكلام إشعار بما قال، انتهى.
قلت: وهو كلام فاسد، بل في كلامه إشعار، كما قاله إمامنا الشَّارح؛ لأنَّه جعل الجمع بين الفعل والأمر ينفي ظنَّ أنَّ الفعل من خصائصه، ومفهومه أنَّه لولا الجمع بينهما؛ لظن ذلك في كل فعل؛ إذ لا فرق بين هذه المسألة وغيرها؛ فليحفظ.
وقال الكرماني: فإن قلت: ما وجه دلالته على الترجمة؟ قلت: هذا الحديث مختصر من مطول ذكره في (البيوع) وغيره، وفيه: أنَّه قال: (كنت مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في غزاة واشترى مني جملًا بأوقية، ثم قدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبلي، وقدمت بالغداة، فوجدته على باب المسجد، فقال: «الآن قدمت؟» قلت: نعم، قال: «فادخل فصلِّ ركعتين»)، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (هذا في الحقيقة وجه الترجمة على ما ذكرناه، ولكنَّه اقتصر على مجرد النقل، ولم يوفِ حق الكلام)، وقال صاحب «التلويح»: (وليس فيه ما بوب عليه هذا؛ لأنَّ لقائل أن يقول: إن جابرًا لم يقدم من سفر؛ لأنَّه ليس فيه ما يشعر بذلك)، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (هذا كلام عجيب، وكيف هذا والحديث مختصر من مطول؟ وفيه التصريح بقدومه من السفر، وقد جرت عادة البخاري في مثل هذا الإحالة على أصل الحديث؛ فافهم) انتهى.
وقد اعترضه العجلوني بأنَّ هذه الاعتراضات غير واردة على ما ذكره إلا على ما ذكره ابن حجر.
قلت: بل هي واردة على جميع ما ذكر، كما علمت من عبارتهم، والحق أحقُّ أن يتبع، ولا يقول هذا إلا من لم يكن عنده شيء من الفهم؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (فعلها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (تضيق)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (فعلها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (فعلها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/742)
(60) [باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين]
هذا (باب) بالتنوين (إذا دخل)؛ أي: الداخل المفهوم من دخل (المسجد): (أل) فيه للجنس؛ فيشمل كل مسجد، وفي رواية الأصيلي وكريمة: (إذا دخل أحدكم المسجد)، وقوله: (فليركع) جواب (إذا)؛ ولذا دخلته الفاء، وقوله: (ركعتين) ثابت في أكثر الروايات، ساقط في بعضها، والمراد بها: تحية المسجد؛ فإنَّه يسنُّ فعلها في وقت غير مكروه، وإنَّما اقتصر على الركعتين؛ لأنَّها المذكورة في حديث الباب، فلا يطلب في حقِّه الزيادة عليهما؛
%ص 614%
فلو زاد عليهما بتسليمة واحدة؛ جاز، وتصير الصلاة جميعها نفلًا، وتكفي عن التحية؛ لأنَّ المراد الصلاة، وقد حصلت؛ فافهم، (قبل أن يجلس)؛ فإذا جلس؛ هل تفوت أم لا؟ ومفهوم الترجمة: أنَّها تفوت، لكن هذا التقييد اتفاقي أغلبي، فإذا جلس؛ لا تفوت، فيصليهما، ولكن الأفضل فعلهما قبله، كما صرَّح بذلك أئمتنا الأعلام، وسيأتي بيانه، وقوله: (فليركع)؛ المراد به: فليُصلِّ؛ فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل؛ فافهم، وقوله: (قبل أن يجلس) ثابت عند ابن عساكر، ساقط عند غيره.
==================
(1/743)
[حديث: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس]
444# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل، المتوفى سنة ثمان عشرة ومئتين، وفي (يوسُف): تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني (عن عامر بن عبد الله بن الزُّبَير)؛ بضمِّ الزاي، وفتح الوحدة: هو ابن العوام القرشي المدني أبو الحارث؛ بالمثلثة، كان عالمًا عابدًا (عن عَمْرو)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الميم (ابن سُلَيْم)؛ بضمِّ السين المهملة، وسكون التحتية (الزُّرَقي)؛ بضمِّ الزاي، وفتح الراء: هو الأنصاري المدني (عن أبي قَتادة)؛ بفتح القاف: هو الحارث _بالمثلثة_ ابن رِبْعيٍّ؛ بكسر الراء، وسكون الموحدة، وبالعين المهملة، وبالتحتية المشددة (السَّلَمي)؛ بفتح السين المهملة واللام، كذا للأصيلي والجياني، وقال القاضي عياض: (أهل العربية يفتحون اللام؛ كراهة توالي الكسرات، وأمَّا الأكثرون من أصحاب الحديث؛ فضبطوها بكسر اللام؛ نسبة إلى سِلمة؛ بكسرها)، فارس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المتوفى بالمدينة سنة أربع وخمسين، قاله ابن الأثير، وقال في «التقريب»: (أبو قتادة الأنصاري: هو الحارث، ويقال: أبو عمرو، أو النعمان، بن ربعي بن بلدمة، السَّلَمي المدني، شهد أُحدًا وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرًا).
وقال إمام الشَّارحين: (وقال الدارقطني: رواه شيخ يقال له: سعيد بن عيسى، عن عبد الله بن إدريس، عن زكريا، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبي قتادة، ولم يتابع عليه، وسعيد هذا ضعيف، وليس هو من حديث زكريا، ولا من حديث الشعبي، والمحفوظ قول مالك ومن تابعه: وقال سهيل بن أبي صالح، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم، عن جابر بن عبد الله؛ فَوَهِم بذكره جابرًا)، وقال الطوسي في «الأحكام»، والترمذي في «الجامع»: (حديث سهيل غير محفوظ)، وقال علي بن المديني: (حديث سهيل خطأ)، وقال ابن ماجه: (رواه الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن عامر، عن أبي قتادة، وهو وهم) انتهى.
قلت: والحاصل: أنَّ سهيلًا [1] رواه عن جابر بدل عن أبي قتادة، وهو خطأ، والمحفوظ عن أبي قتادة؛ فافهم.
(أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إذا دخل أحدكم المسجد)؛ أي: وهو متوضئ، أو هو مُحدث، لكنه توضَّأ قبل جلوسه وبعده، كما سيأتي، و (أل) فيه للجنس؛ فيشمل كلَّ مسجد ولو مُصلَّى عيد وجنازة؛ (فليركع)؛ أي: فليصلِّ، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، والأمر فيه ليس للفرض، بل للسنيَّة والاستحباب (ركعتين) تحية المسجد؛ فإنَّها حقُّ المسجد.
فإن قلت: الشرط: سبب للجزاء؛ فما السبب ههنا؟ هل هو الركوع، أم الأمر بالركوع؟
قلت: إن أريد بالأمر تعلُّق الأمر؛ فهو الجزاء، وإلا؛ فالجزاء هو لازم الأمر؛ وهو الركوع، والمراد من الركعتين: تحية المسجد، ولا يتأدَّى هذا بأقل من الركعتين؛ لأنَّ هذا العدد المفهوم لأكثره بالاتفاق، واختلف في أقله، والصحيح: اعتبارهما، قاله إمام الشَّارحين.
(قبل أن يجلس)؛ تعظيمًا للبقعة، فلو جلس؛ هل يشرع له التدارك أو لا؟ صرَّح أئمتنا الأعلام بأنَّها لا تفوت بالجلوس، فيصليها ولو جلس، ولكنَّ الأفضل فعلها قبله، ولهذا قال عامة العلماء: يصليها كلما [2] دخل، وقال بعضهم: يجلس ثم يقوم، فيصليها، ويدلُّ لما قلناه: ما أخرجه ابن حبان في «صحيحه»: عن أبي ذر قال: (دخلت المسجد؛ فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جالس وحده، فقال: «يا أبا ذر؛ إنَّ للمسجد تحيةً، وإنَّ تحيته ركعتان، فقم فاركعهما»، قال: فقمت، فركعتهما).
قال صاحب «البحر»: (وإذا تكرر دخوله؛ يكفيه ركعتان في اليوم، وقال في «الإمداد»: (وأداء الفرض ينوب عنها)، قاله فخر الدين الزيلعي، وذلك بأن دخل المسجد، فرأى القوم شرعوا في صلاة الفرض، أو قَرُب قيام القوم، وهو يريد الصلاة معهم، فإنَّه يصلي معهم، وتندرج التحية في الفرض وإن لم ينوِها، وصرَّح في «البدائع»: أن كل صلاة صلاها فقد حصَّل التحية، انتهى.
قلت: إلا أنَّه يُستثنى سجدة التلاوة، وصلاة الجنازة، فإنَّها لا تكفي؛ لأنَّها ليست [3] صلاةً حقيقية، وتكره التحية للداخل والخطيبُ على المنبر؛ لأنَّه ممنوع من الصلاة وقتئذٍ، وكذلك يكره فعلها عند إقامة الصلاة المكتوبة؛ لقوله عليه السَّلام: «إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة»، رواه الشيخان، ولا تسنُّ لداخل المسجد الحرام؛ لاشتغاله بالطواف، واندراجها تحت ركعتيه، وإنَّما تسنُّ التحية إذا دخل في غير وقت كراهة، أما إذا دخل في الأوقات الثلاثة المنهي عن الصلاة فيها؛ فلا يصليها، بل يؤخرها؛ ولهذا قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (من دخل المسجد في أوقات النهي؛ فليس بداخل في أمره عليه السَّلام بالركوع عند دخوله المسجد) انتهى.
قلت: يعني: فإن الأمر لا يشملها؛ لأنَّ حديث الباب وإن كان مطلقًا [4] إلا أنَّه مقيَّد في الأحاديث غيره؛ ففي حديث عقبة بن عامر: (ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند استوائها حتى تزول، وحين تضيف [5] للغروب حتى تغرب)، رواه مسلم وغيره.
قال ابن حجر: (وهما عمومان تعارضا؛ الأمر بالصلاة لكل داخل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة؛ فلا بد من تخصيص أحد العمومين، فذهب جمع إلى تخصيص الأمر وتعميم النهي، وهو قول الحنفية والمالكية، وذهب جمع إلى عكسه، وهو الأصحُّ عند الشافعية) انتهى.
قلت: وبقول الحنفية قالت الحنابلة، وقد يقال: إنَّ الأمر بالصلاة لكل داخل وإن كان مطلقًا [6] فهو محمول على المقيد في أحاديث [7] النهي؛ فليس فيهما عمومان، بل عموم واحد؛ وهو الأمر بالصلاة لكل داخل سوى الأوقات المنهية.
وقال ابن بطال: (اتفق أئمة الفتوى على أنَّ الأمر محمول على الندب، والاستحباب، والإرشاد، مع استحبابهم الركوع لكل من دخل المسجد؛ لما روي: أنَّ
%ص 615%
كبار أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون)، وأوجب أهل الظاهر فرضًا على كلِّ مسلم داخل في وقت تجوز فيه الصلاة الركعتين، وزعم ابن حجر: واجب في كل وقت؛ لأنَّ فعل الخير لا يُمنع منه إلا بدليل لا معارض له، انتهى.
قلت: وهو كلام فاسد الاعتبار؛ فإن الصلاة في الأوقات المنهي عنها ليس هو فعل خير، ألا ترى إلى قوله عليه السَّلام: «إنَّ الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت؛ فارقها، ثم إذا استوت؛ قارنها، فإذا زالت؛ فارقها، فإذا دَنَت للغروب؛ قارنها، فإذا غربت؛ فارقها»، ونهى عن الصلاة في تلك الساعات، رواه مالك في «الموطأ»، والنسائي، وغيرهما، ولا ريب أنَّ هذا دليل لا معارض له؛ لأنَّه قطعي، كما علم فيالأصول، وقال الحافظ الطحاوي: ويدلُّ لعدم الوجوب: قوله عليه السَّلام للذي رآه يتخطى: «اجلس، فقد آذيت»، ولم يأمره بصلاة، انتهى.
واعترضه ابن حجر بأنَّ الأمر بالجلوس حتى لا يتخطى؛ فلا ينافي أنَّه يصلي في مجلسه، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ فقد حفظ شيئًا وغاب عنه أشياء؛ فإنَّ أمره عليه السَّلام بالجلوس أعم من ألَّا يتخطى وألَّا يصلي في مجلسه؛ لأنَّه لو كان مراده الصلاة؛ لقال له عليه السَّلام: صلِّ مكانك، على أنَّ فيه أنَّه لم يأمره بالصلاة، فهو دليل واضح لما قلناه، فإنَّه لو كان الوقت وقت صلاة؛ لأمره بالصلاة، فقُدِّم ذلك دليل على أنَّه ليس بواجب عليه؛ فافهم.
وزعم ابن حجر معترضًا على ابن بطال بنقله الوجوب عن أهل الظاهر؛ فقال: الذي صرَّح به ابن حزم عدمه، انتهى.
قلت: ابن حزم_وإن كان لا يقول بالوجوب_ لا ينافي أنَّه ليس واجبًا عند أهل الظاهر، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، والمُثبِت مُقدَّمٌ على النافي؛ فافهم.
واعلم أن حديث الباب قد ورد على سبب؛ وهو أن أبا قتادة دخل المسجد، فوجد النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم جالسًا بين أصحابه، فجلس معهم، فقال له: «ما منعك أن تركع؟» قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس، قال: «فإذا دخل أحدكم المسجد؛ فلا يجلس حتى يركع ركعتين»، أخرجه مسلم وغيره، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» من وجه آخر حسن عن أبي قتادة: «أعطوا المساجد حقَّها»، قيل: يا رسول الله؛ وما حقها؟ قال: «ركعتين قبل أن تجلس»، وزاد أبو أحمد الجرجاني: (وإذا دخل بيته؛ فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن الله جاعل له من ركعتيه في بيته خيرًا)، لكن قال: (وإسناده منكر)، ونقل أبو محمد الإشبيلي عن البخاري: أن هذه الزيادة لا أصل لها، وأنكر ذلك ابن قطان، وزعم أنَّه لا يصحُّ نسبته إليه، وروى ابن حبان في «صحيحه» حديث التحية عن أبي قتادة يرفعه بزيادة: (قبل أن يجلس أو يستخير)، قال العجلوني: (ولينظر معنى: «أو يستخير») انتهى.
قلت: معناه: قبل أن يستخير موضعًا لصلاته وجلوسه؛ لأنَّ الداخل في المسجد ينظر موضعًا يكون نظيفًا خاليًا عن الزحمة وغيرها، فأمره عليه السَّلام قبل أن يجلس أو يستخير موضعًا لصلاته المفروضة ولجلوسه: أن يركع ركعتين، هذا ما ظهر لي، والعلم عند الله.
وقال السفاقسي: (وفقهاء الأمصار حملوا الأمر في الحديث على الندب؛ لقوله عليه السَّلام للذي سأله عن الصلوات الخمس: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع»، ولو قلنا بوجوب الركعتين؛ لحرم على المحدث الحدث الأصغر دخول المسجد حتى يتوضأ، ولا قائل بذلك، فإذا جاز دخول المسجد على غير وضوء؛ لزم منه أنَّه لا يجب عليه سجودهما، فإن قصد دخول المسجد ليصلي فيه في الأوقات المكروهة؛ فلا يجوز له ذلك عند الشافعي)، وردَّه النووي فقال: (هي سنة بالإجماع؛ فإن من دخل في وقت كراهة؛ يكره له أن يصليهما في قول أبي حنيفة وأصحابه، وحكي ذلك عن الشافعي، والصحيح: أنه لا كراهة) انتهى.
قلت: وفي دعواه الإجماع نظر، فقد قال القاضي عياض: وظاهر مذهب مالك: أنَّهما من النوافل، وقيل: من السنن، فإذا دخل مجتازًا؛ فهل يؤمر بهما؟ خفف مالك في ذلك، وعن بعض أصحابه: أنَّ من تكرَّر دخوله المسجد سقطتا عنه، انتهى، وهذا يدلُّ على أنَّها ليست سنة، فأين الإجماع؟!
واستدلَّ ابن حجر بقوله: (قبل أن يجلس) على أنَّه إذا خالف وجلس؛ لا يشرع له التدارك، ونقله القسطلاني عن جماعة من الشافعية.
قلت: وردَّه إمام الشَّارحين بما رواه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي ذر: (أنَّه دخل المسجد، فقال له النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «أركعت ركعتين؟» فقال: لا، قال: «قم فاركعهما»)، وترجم عليه ابن حبان: (باب تحية المسجد لا تفوت بالجلوس)، وقال الطبري: (يحتمل أن يقال: فِعلُهما قبل الجلوس فضيلة، وبعده جواز، ويحتمل أن يقال: فعلهما قبله أداء، وبعده قضاء، ويحتمل أنَّ مشروعيتهما بعد الجلوس إذا لم يَطُل الفصل) انتهى.
قلت: الاحتمال الأول هو الصواب، أمَّا الثاني؛ ففيه نظر؛ لأنَّ النفل لا يوصف بأداء ولا قضاء، فإذا فات وقت النافلة؛ لا تقضى، وأمَّا الثالث؛ ففيه نظر أيضًا؛ لأنَّ ظاهر الأحاديث أن مشروعيتهما من وقت الدخول، ويستمر إلى ما بعد الجلوس إلى أن يؤديها أو يصلِّي فريضة أو نافلة غيرها، أو يخرج من المسجد، وقال فقهاؤنا الأعلام: ومن دخل المسجد ولم يتمكن من صلاة التحية؛ فليقل أربع مرات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنَّها الباقيات الصالحات، وصلاة الحيوانات والجمادات.
ويكره دخول المسجد على سبيل المرور من غير صلاة؛ فإن اضطرَّ إلى ذلك؛ فلينو الاعتكاف ويدخل، فإنَّه يجوز وإن لم يجلس؛ لأنَّ بوضع القدم على الأرض يحصل ذلك، فإنَّ أدنى الاعتكاف لحظة من الزمن، وهي فائدة عظيمة تخفى على كثير ممن يدَّعي العلم، وأمَّا الجلوس في المسجد للمحدث [حدثًا] أصغر؛ فيجوز إجماعًا ولو لغير غرض، ولا كراهة فيه، وحديث: «إنما بُنِيت المساجد لذكر الله»؛ فضعيف، وهذا بخلاف ما يفعله أهل زماننا من الجلوس في المسجد والتكلم بكلام الناس مع الغيبة وغيرها؛ فحرام قطعًا؛ لأنَّ الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات؛ كما تأكل النار الحطب، كما ورد في الحديث، فهذا في المباح، فما بالك في الغيبة التي صارت في زماننا فاكهة المجالس؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
==========
[1] في الأصل: (سهيل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (كما).
[3] في الأصل: (ليس).
[4] في الأصل: (مطلق)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (تضيق)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (مطلق)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (الأحاديث).
==================
[1] في الأصل: (سهيل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (كما).
[3] في الأصل: (ليس).
[4] في الأصل: (مطلق)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (تضيق)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (مطلق)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (سهيل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (كما).
[3] في الأصل: (ليس).
[4] في الأصل: (مطلق)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (تضيق)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (مطلق)، وليس بصحيح.
(1/744)
(61) [باب الحدث في المسجد]
هذا (باب) حكم (الحدث) الحاصل (في المسجد)
%ص 616%
والمراد منه: الحدث الناقض للوضوء؛ كالريح ونحوه، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: الحدث لغة: الشيء الحادث، وأمَّا شرعًا؛ فمانعية شرعية رافعة للطهارة إلى استعمال المطهر؛ كالريح ونحوه، وزعم العجلوني أنَّ الحدث يُطلق شرعًا على أمور؛ منها: الأمر الناقض للوضوء، انتهى.
قلت: وهو فاسد؛ فإن الحدث هو المعنى الحالُّ بصاحبه، الرَّافعُ للطهارة إلى استعمال المطهِّر، وليس له إطلاقات، بل هو أصل وتحته أمور معنوية، وليست هي أمورًا [1] حقيقية؛ فافهم.
وقال المازري: أشار البخاري إلى الرد على مَنْ مَنَع المُحدِث من دخول المسجد والجلوس فيه، وجعله كالجُنُب، وهو مبني على أنَّ الحدث ههنا الريح ونحوه، وبذلك فسره أبو هريرة، كما سبق في كتاب (الطهارة)، وزعم ابن حجر: قيل: المراد بالحدث هنا أعم؛ أي: مالم يحدث سواء، ويؤيده رواية مسلم: «ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه» على أنَّ الثانية تفسير للأولى، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (لا نسلِّم أنَّ الثانية تفسير للأولى؛ لعدم الإبهام، غاية ما في الباب ذكر فيه شيئين؛ أحدهما: حدث الوضوء، والآخر: حدث الإثم، على أنَّ مالكًا وغيره قد فسَّروا الحدث بنقض الوضوء) انتهى.
ثم قال: فإن قلت: قد ذكر ابن حبيب عن إبراهيم النخعي: أنه سمع عبد الله بن أبي أوفى يقول: «هو حدث الإثم»، قلت: لا منافاة بين التفسيرين؛ لكونهما مصرحين في رواية مسلم، وروايةالبخاري مقتصرة على تفسير مالك وغيره، ولهذا جاء في رواية أخرى للبخاري: «ما لم يُؤذِ؛ يُحدِث فيه»؛ فهذه تصرِّح بأن المراد من الأذى: هو الحدث الناقض للوضوء، ومن هذا قالوا: إنَّ رواية الجمهور: (ما لم يحدث) في الحديث؛ بالتخفيف: من الإحداث، لا بالتشديد: من التحديث، كما رواه بعضهم، وليست بصحيحة، ولهذا قال السفاقسي: (لم يذكر التشديد أحد) انتهى.
قلت: ومراده بقوله: (بعضهم): ابن حجر العسقلاني؛ فإنَّه قد زعم أن (يحدِّث) بالتشديد، ولا معنى له ههنا، وهو كلام من لم يذق شيئًا من الفهم، ولهذا قال الزركشي: (المراد به: الحدث الناقض للوضوء)، وهو تفسير أبي هريرة راوي الحديث، انتهى.
يعني: فلا عبرة بتفسير غيره؛ فافهم
==========
[1] في الأصل: (أمور)، وليس بصحيح.
==================
(1/745)
[حديث: الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه]
445# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن أبي الزِّنَاد)؛ بكسر الزاي، وفتح النون: هو عبد الله بن زكوان المدني، (عن الأعرج): هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، (عن أبي هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصحابي رضي الله عنه: (أنَّ)؛ بفتح الهمزة، وتشديد النون (رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالنصب اسمها، وخبرها جملة قوله: (قال: الملائكة) وفي رواية الكشميهني: (أنَّ الملائكة) وهي جمع (ملاك)، على الأصل؛ كالشمائل جمع (شمال)، وهو مقلوب (مألك) من (الألوكة)؛ وهي الرسالة؛ لأنَّهم وسائط بين الله وبين الناس، فهم رسل الله أو كالرسل إليهم، كذا قيل.
والمشهور: أن أصل ملائكة: ملأك على وزن (فعلل)، نقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحذفت الهمزة تخفيفًا؛ فصار ملك، فلما رجع؛ ردت الهمزة المحذوفة، فقيل: ملائك، والتاء فيه؛ لتأنيث الجمع؛ لكونه بمعنى: الجماعة، كما في الصياقلة في جمع (صيقل)، وإنَّ أصله: مألك على وزن (مفعل) من (ألك)؛ بمعنى: أرسل، وفاؤه همزة، وعينه لام، و (الألوكة): الرسالة، و (مألك): موضع الرسالة أو مصدر بمعنى المفعول؛ فيكون (ملاك) مقلوبًا من (ملأك) نقلت همزة (مألك) إلى مكان اللام وقدمت اللام، فقيل: (ملأك) على وزن (مفعل)، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحذفت الهمزة تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، فصار: (ملك) على وزن (معل)؛ بحذف الفاء، فلما جمع؛ ردت الهمزة المحذوفة، فقيل: (ملائك) على وزن (معافل) بالقلب؛ لأنَّ التكسير يردُّ الأشياء إلى أصولها، فعلى هذا؛ تكون ميم (ملك) زائدة ويكون وزنه (معلًا)، وذهب بعضهم إلى أنَّ الميم في (ملك): أصلية والهمزة زائدة، واختاره ابن كيسان.
واختلف الناس في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنَّها ذوات موجودة قائمة بأنفسها؛ فذهب أكثر المسلمين إلى أنَّها أجسام لطيفة هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، مستدلِّين بأنَّ الرسل كانوا يرونهم كذلك، وقالت طائفة من النصارى: هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان، وزعم الحكماء أنَّها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، منقسمة إلى قسمين:
قسم: شأنهم الاستغراق في معرفة الله والتنزُّه عن الاشتغال بغيره، كما وصفهم في محكم التنزيل فقال: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]: وهم العليون والمقربون.
وقسم: يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء، وجرى به القلم الإلهي، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم المدبِّرات أمرًا؛ فمنهم سماوية، ومنهم أرضية على تفصيل في ذلك مذكور في كتاب «الطوالع».
(تصلي على أحدكم): قال إمامنا الشَّارح: («الملائكة»: جمع محلًّى باللام؛ فيفيد الاستغراق) انتهى؛ يعني: يشمل الحفظة، والسيارة، وغيرهما، وتبعه الكرماني، والقسطلاني، وغيرهما، وخالفهم ابن حجر فقال: (المراد بالملائكة الحفظة أو السيارة، أو أعم من ذلك) انتهى.
قلت: وفيه قصور؛ لأنَّ لفظ: (الملائكة) جمع محلًّى باللام؛ فيفيد العموم ولا مخصص، ولا وجه لتخصيص العام من غير مخصص؛ فيشمل جميع الملائكة الذين قدمنا ذكرهم؛ لأنَّ اللفظ عام؛ فافهم.
(مادام) أي: أحدكم؛ أي: مدة دوامه (في مُصلاه)؛ بضمِّ الميم، وهو اسم مكان، قاله إمام الشَّارحين؛ يعني: في مكان صلاته (الذي صلى فيه) وهو المسجد يدلُّ على ذلك رواية البخاري، فيما يتعلق بالمساجد على ما يأتي، ولفظه: «فإنَّ أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء، وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة؛ لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة أو حطَّ عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد؛ كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، وتصلي عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه ... »؛ الحديث.
والأحاديث تفسِّر بعضها بعضًا، فعلم أنَّ المراد بقوله: (في مصلاه): هو المكان الذي يصلَّى فيه في المسجد، وإن كان بحسب اللغة يطلق على المُصلَّى الذي في غير المسجد، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
قلت: وعلى هذا؛ يقال فيما رواه المؤلف في باب (من جلس في المسجد ينتظر الصلاة) ولفظه: «ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة»؛ فإن المراد: مكان الصلاة؛ وهو المكان الذي يصلِّي
%ص 617%
فيه، فقوله: «ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه»؛ قيد؛ لصلاة الملائكة عليه، ومفهومه: إذا انصرف من مكانه الذي يصلي فيه في المسجد؛ لا تصلي عليه الملائكة، وليس كذلك؛ لأنَّه صرح في الحديث، كما نقله إمامنا الشَّارح قريبًا ولفظه: «كان في صلاة ما كانت تحبسه ... »؛ الحديث، وعلى هذا؛ فالمراد به: أنَّه تصلي عليه الملائكة ما دام منتظرًا للصلاة، سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد، أو تحوَّل إلى غيره ما لم يخرج من المسجد، فإذا خرج منه؛ فلا تصلي عليه؛ فالمراد بقوله: «في مصلاه»: إنَّما هو المسجد، كما قرره إمام الشَّارحين قريبًا.
وقال ابن حجر: (يمكن حمل «في مصلاه» ههنا على المكان المُعدِّ للصلاة لا الموضع الخاص بالسجود، فلا تخالف بين حديث الباب والحديث [1] الأتي في باب «من جلس في المسجد») انتهى.
قلت: إن كان مراده بالمكان المعد للصلاة: المسجد؛ فمسلَّم، كما ذكرناه، وإن كان مراده غير ذلك؛ فغير مسلَّم، كما بيناه قريبًا، والله أعلم.
وقوله: (ما لم يُحْدِث): قيد ثان لصلاة الملائكة عليه، وهو بضمِّ التحتية أوله، وسكون الحاء المهملة، والمراد به: الحدث الناقض للوضوء، والمعنى: تصلِّي عليه مدة دوامه في المسجد، ومدة دوامه لم يحصل منه حدث.
قال إمام الشَّارحين: (رواية الجمهور؛ بالتخفيف من الإحداث، لا بالتشديد من التحديث، كما رواه بعضهم وليست بصحيحة، ولهذا قال السفاقسي: «لم يذكر التشديد أحد») انتهى.
قلت: مراده بقوله: (بعضهم): ابن حجر العسقلاني؛ فإنَّه رواها بالتشديد من التحديث، وليست هذه الرواية بصحيحة؛ لأنَّ المراد بالحدث: الناقض للوضوء، ولهذا نفى السفاقسي عن جميع الرواة ذكرها.
وقال الزركشي في «التنقيح»: (قصد البخاري بهذا الباب تفسير الحدث بالناقض للطهارة، وهو تفسير أبي هريرة راوي الحديث، وفسره غيره بالحديث في غير ذكر الله) انتهى.
قلت: ولا ريب أن تفسير أبي هريرة هو الصواب؛ لأنَّ صاحب الدار أدرى، ولهذا قال الداودي: (روي: «يحدِّث»؛ بتشديد الدال، وهو غريب) انتهى.
وقوله: (تقول) أي: الملائكة: (اللهم؛ اغفر له)؛ يعني: يا ألله؛ اغفر له ذنوبه (اللهم؛ ارحمه)؛ يعني: يا ألله؛ أنزل عليه رحمتك؛ بيان وتفسير لقوله: (تصلي) السابق.
قال إمام الشَّارحين: (والفرق بين المغفرة والرحمة أن المغفرة: ستر الذنوب، والرحمة: إفاضة الإحسان إليه) انتهى.
وقال العجلوني: (وذكر غيره أنَّ المغفرة لا تستدعي سبق ذنب) انتهى.
قلت: وهو ممنوع، ويردُّه قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]؛ فإنَّه يدلُّ على أن المغفرة ستر الذنوب الحاصلة سابقًا ولاحقًا؛ لأنَّ معنى الآية قيل: (ما تقدم): قبل الوحي (وما تأخر): بعد الوحي، وقيل: قبل الهجرة وبعدها، وقيل: قبل المعراج، وقيل: (ما تقدم): من ذنب آدم وحواء، (وما تأخر): من ذنب الأُمَّة، وقيل: ما كان قبل النبوة، (وما تأخر): عصمته من ذلك، وقيل: المراد ذنوب أمته، وعلى كل حالٍ؛ فهو دليل على أن المغفرة لا تكون إلا بعد سبق الذنوب؛ فالمغفرة سترها.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة مما سبق، والحاصل في معناه: أنَّ الملائكة تصلي على العبد ما دام في المسجد متوضئًا، فإذا خرج من المسجد؛ فلا تصلي عليه، وإنَّهم يصلون عليه ما لم تُنقض طهارته، فإذا أحدث؛ حُرِم صلاتهم، ولو كان مستمرًّا جالسًا ينتظر الصلاة.
وقال السفاقسي: (الحدث في المسجد خطيئة يُحرَم به المُحدِث الاستغفار من الملائكة، ولما لم يكن الحدث فيه الكفارة ترفع أذاه عنهم، كما يرفع الدفن أذى النخامة فيه؛ عوقب العبد بحرمان الاستغفار من الملائكة؛ لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة).
وقال ابن بطال: (من أراد أن تحطَّ عنه الذنوب بغير تعب؛ فليغتنم ملازمة مصلاه بعد الصلاة؛ ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجوٌّ إجابته؛ لقوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]).
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث بيان فضيلة من انتظر الصلاة مطلقًا، سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد، أو تحول إلى غيره، وفيه: أن الحدث في المسجد يبطل ذلك ولو استمر جالسًا، وفيه أن الحدث في المسجد أشد من النخامة فيه) انتهى.
قلت: إنَّما كان أشد؛ لأنَّ النخامة كفارتها دفنها، وأما الحدث؛ فلا كفارة له.
وقال إمام الشَّارحين: (اختلف السلف في جلوس المحدث في المسجد؛ فروي عن أبي الدرداء: أنَّه خرج من المسجد فبال، ثم دخل وتحدث مع أصحابه ولم يمس ماء، وعن عليٍّ مثله، وروي ذلك عن عطاء، والنخعي، وابن جبير، وكَرِه ابن المسيب والحسن البصري أن يتعمد الجلوس في المسجد على غير وضوء) انتهى.
قلت: وهل إذا أحدث في المسجد، ثم توضأ وانتظر، يعود استغفار الملائكة عليه أم لا؟ والظاهر: أنَّه يعود؛ لأنَّ المراد: انتظاره متطهرًا وقد حصل وإن كان قد وقع منه الحدث؛ لأنَّ هذا من باب زوال المانع؛ فتأمل، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (حديث)، وليس بصحيح.
==================
(1/746)
(62) [باب بنيان المسجد]
هذا (باب) بيان صفة (بُنيان)؛ بضمِّ أوله: مصدر (المسجد)؛ أي: النبوي، فاللام فيه للعهد، وجوَّز البرماوي كونها للجنس، قال العجلوني: (وهو غير ظاهر).
قلت: بل الظاهر: كونها للعهد؛ فافهم.
قال في «القاموس»: (البني: نقيض الهدم [1]، بناه يبنيه بنيًا، وبناءً، وبنيانًا، وبنيةً، وبنايةً، والبناء: المبني والجمع «أبنية»، وجمع الجمع: «أبنيات»، والبُِنية _بالكسر والضم_: ما بنيته، والجمع «بُِنًى»؛ بالضم والكسر، ثم قال: والبنية؛ كغنية: الكعبة، وبنى فلانًا: اصطنعه [2]، وعلى أهله، وبها: زفها؛ كابتنى) انتهى.
وقال الجوهري: (البنيان: الحائط يقال: بنى فلانٌ [3] بيتًا، من البنيان، وبنى على أهله بناء؛ أي: زفها، والعامة تقول: بنى بأهله، وهو خطأ) انتهى.
(وقال أبو سعيد): هو سعْد _بسكون العين_ ابن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر _بالموحدة والجيم_ وهو خدرة الذي ينسب إليه أبو سعيد، فيقال: الخدري، وهو ابن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي الخدري، وغزا أبو سعيد أُحدًا، وبعد ذلك مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثنتي عشرة غزوة، وكان أبوه سعد بن مالك صحابيًّا استشهد يوم أُحد، ولم يكن في أصحابه أفقه أو أعلم من أبي سعيد، كذا قاله سهل بن سعد، كما رواه حنظلة الجمحي، توفي بالمدينة يوم الجمعة سنة أربع وستين، أو أربع وسبعين، ودفن بالبقيع (كان سقف المسجد)؛ أي: مسجد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في زمنه، فاللام فيه للعهد، وزعم الكرماني أنَّها للجنس، قال إمام الشَّارحين: (وهو بعيد) انتهى.
قلت: ووجهُ بعده أنَّ هذا التعليق رواه المؤلف مسندًا في (الاعتكاف)، وأبواب (صلاة الجماعة)، فهو مختصر من مطول، ولفظه: (قال أبو سعيد: جاءت سحابة فمطرت حتى سال السقف ... ) إلى أن قال: (فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته)؛ فهذا يدلُّ على أن المسجد إنَّما هو المسجد النبوي المدني؛ فافهم.
(من جَريد النخل)؛ بفتح الجيم: هو الذي يجرد عنه الخوص، فإن لم يجرد؛ يسمى سعفًا، ومطابقة
%ص 618%
هذا التعليق للترجمة ظاهرة، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
(وأَمَرَ) بفتحات (عمر): هو ابن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه؛ أي: في زمن خلافته (ببناء المسجد)؛ أي: مسجد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وقال)؛ أي: عمر للصانع الذي يبنيه: (أكِنَّ الناس من المطر): قال إمام الشَّارحين: فيه أوجه:
الأول: (أَكِنَّ)؛ بفتح الهمزة، وكسر الكاف، وفتح النون، على صورة الأمر: من الإكنان، وهي رواية الأصيلي؛ يعني: اصنع لهم كنًّا يسترهم عن المطر والشمس، وهذه الرواية هي الأظهر، يدلُّ عليه أنَّه ذكر قبله قوله: (أمر عمر) وقوله بعده: (وإياك) وذلك؛ لأنَّه أولًا أمَر بالبناء، وخاطب أحدًا بذلك، ثم حذَّره من التَّحمير والتصفير بقوله: «وإياك أن تحمِّر أو تصفِّر» والإكنان: من أكننت الشيء إذا صنته وسترته، وحكى أبو زيد والكسائي: كننته من الثلاثي؛ بمعنى أكننته، وقال ثعلب: (أكننت الشيء إذا أخفيته، وكننته: إذا سترته بشيء، ويقال: أكننت الشيء: سترته وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي: أسررته)، وقال أبو عبيدة: (قالت تميم: كننت الجارية أكِنها كِنًّا _بكسر الكاف_ وأكننت العلم والسر، وقالت قيس: كننت السر والعلم؛ بغير ألف، وأكننت الجارية؛ بالألف)، وقال ابن الإعرابي: (أكننت السر وكننت وجهي من الحر وكننت سيفي، قال: وقد يكون هذا بالألف أيضًا).
الوجه الثاني: (أُكِنُّ الناس): بضمِّ الهمزة، وكسر الكاف، وتشديد النون المضمومة، بلفظ المتكلم من المضارع، قال ابن التين: (هكذا رويناه، وهي رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي)، وفي هذا الوجه التفات، وهو أنَّ عمر أخبر عن نفسه، ثم التفت إلى الصانع، فقال: (وإياك)، ويجوز أن يكون تجريدًا، فكأن عمر بعد أن أخبر عن نفسه جرَّد عنها شخصًا؛ ثم خاطبه بذلك.
الوجه الثالث: قاله القاضي عياض: (كِنَّ الناس): بحذف الهمزة، وكسر الكاف، وتشديد النون من: كنَّ يكن وهو صيغة أمر، وأصله: (أكن)؛ بالهمزة، لكنها حذفت تخفيفًا على غير قياس، وهذه رواية غير أبي ذر، والأصيلي.
الوجه الرابع: (كُنَّ) بضمِّ الكاف: من (كنَّ) فهو مكنون وهذا له وجه، ولكن الرواية لا تساعده، انتهى كلام إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
قلت: وهذا الوجه الأخير ذكره أيضًا ابن مالك، ومعناه: صانه، لكن الرواية لا تساعده، كما قال؛ فافهم.
واعترض العجلوني الوجه الثاني؛ فقال: التجريد ذكره ابن حجر، وأما الالتفات؛ فليتأمل في صحته، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ فإن ما ذكره ابن حجر من التجريد هو قد أخذه من كلام إمام الشَّارحين ونسبه لنفسه، فلله درُّ إمامنا الشَّارح ما أغزر علمه وفهمه! وقوله: (وأما الالتفات ... ) إلخ: ممنوع؛ لأنَّ معناه صحيح، كما لا يخفى على أهل التحقيق، ولا يلزم من عدم ذكر ابن حجر للالتفات ألا يكون صحيحًا؛ لأنَّ ابن حجر ليس عنده إحاطة بجميع المعاني، بل ما ذكره هو مَبْلَغه من العلم، على أنَّ وجه الالتفات ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم، وليس للعجلوني كلام مع إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(وإياك) تحذير للصانع (أن تُحَمِّر أو تُصَفِّر)؛ بضمِّ أولهما، وفتح ثانيهما، وتشديد الثالث مكسورًا، ومفعولهما محذوف؛ أي: (احذر من أن تحمِّر المسجد، أو تصفِّره)؛ فكلمة: (أن) مصدرية، ومراده: الزخرفة، وروى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر مرفوعًا: «ما ساء عملُ قومٍ قط إلا زخرفوا مساجدهم»، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(فَتَفْتِن الناس)؛ بفتح المثناة الفوقية، وسكون الفاء من (فتن يفتن)، من باب ضرب يضرِب، فتنًا وفتونًا؛ إذا امتحنه.
وضبطه ابن التين؛ بضمِّ المثناة الفوقية من (أفتن)، والأصمعي أنكر هذا، وأبو عبيدة أجازه وقال: فتن وأفتن بمعنًى وهو قليل، والفتنة: اسم وهو في الأصل من الافتتان والاختبار، ثم كثر استعمالها؛ بمعنى: الإثم والكفر، والقتال، والإحراق، والإزالة، والصَّرف عن الشيء، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وقد تبع ابن التين الزركشي، فضبطه بضمِّ الفوقية.
وقال الكرماني: وتفتن من «الفتنة»، وفي بعضها من «التفتين».
واعترضه إمام الشَّارحين فقال: إذا كان من (التفتين)؛ يكون من باب التفعيل، وماضيه فتَّن بتشديد التاء الفوقية، وعلى ضبط ابن التين يكون من باب الإفعال وهو: الإفتتان بكسر الهمزة، وعلى كل حال؛ فهو بفتح النون؛ لأنَّه معطوف على منصوب بكلمة (أن)، انتهى.
ومطابقته للترجمة ظاهرة، والمراد بالمسجد: مسجده عليه السَّلام، ويأتي في هذا الباب: أنه روي من حديث نافع إلى آخره ورواه أبو داود، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني أنَّ هذا الأثر المروي عن عمر طرفٌ من قصة في ذكر تجريده المسجد؛ فافهم.
وقال ابن بطال: (كأنَّ عمر فهم ذلك من الشَّارع؛ حيث ردَّ خميصة أبي جهم من أجل أعلامها، وقوله فيها: «إنها ألهتني عن صلاتي»، ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص بهذه المسألة؛ فقد روى ابن ماجه بسنده إلى عمر مرفوعًا: «ما ساء عمل قوم قطٌّ إلا زخرفوا مساجدهم»، ورجاله ثقات إلا شيخه جبارة بن المفلس، ففيه مقال) انتهى.
قلت: فعلى الأول: يكون عمر قاس أعلام الخميصة على زخرفة المساجد بجامع الإلهاء في كلٍّ عن الخشوع في الصلاة، وعلى الثاني: يكون الاستدلال من الحديث، لكن الاحتمال الأول أظهر؛ لأنَّ حديث أبي جهم مذكور في «الصحيحين»؛ فافهم. والله أعلم.
(وقال أنس): هو ابن مالك الأنصاري خادم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (يَتباهَون)؛ بفتح أوله والهاء: من المباهاة، وهي المفاخرة؛ أي: يتفاخرون (بها)؛ أي: بالمساجد، والسياق يدلُّ عليه؛ يعني: أنَّهم يزخرفون المساجد ويزيِّنونها بأنواع البناء والزينة، ثم يتعدون فيها ويتمارون، (ثم لا يُعمِّرونها)؛ بضمِّ أوله، وتشديد الميم، ويجوز فتح أوله التحتية، وضم الميم، ويجوز كسرها: من التعمير، والضمير يرجع إلى المساجد؛ يعني: لا يشتغلون بما بنيت المساجد له من الصلاة، وتلاوة القرآن، والذكر، والتدريس، ونحوها (إلا قليلًا)؛ بالنصب على الاستثناء، ويجوز الرفع من جهة النحو على أنَّه بدل من ضمير الفاعل، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: ضمير الفاعل يرجع إلى الناس؛ كالضمير في (يتباهون) المدلول عليه، وضمير (بها) يرجع إلى المساجد، كما قدمنا؛ للقرينة الحالية والمقامية، وأفاد إمامنا الشَّارح أنَّ الرفع يجوز من جهة القواعد النحوية، ولكن الرواية لا تساعده؛ لأنَّها بالنصب؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق مرفوع في «صحيح ابن خزيمة» عن محمد: حدثنا سعيد عن أبي عامر قال: قال أبو قلابة: انطلقنا مع أنس نريد الزاوية_يعني: قصر أنس_ فمررنا بمسجد، فحضرت صلاة الصبح، فقال أنس: لو صلينا في هذا المسجد، فقال بعض القوم: نأتي المسجد الآخر، فقال أنس: إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمِّرونها إلا قليلًا أو قال: يعمِّرونها قليلًا»، ورواه أبو يعلى الموصلي أيضًا في «مسنده»، وروى أبو داود في «سننه» عن أنس:
%ص 619%
أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد»، وأخرجه ابن ماجه، والنسائي أيضًا، وروى أبو نعيم في كتاب «المساجد» من حديث علي بن حرب عن سعد بن عامر عن الخزاز: «يتباهون بكثرة المساجد»، ومن حديث محمد بن مصعب القرقساني عن حماد: «يتباهى الناس ببناء المساجد») انتهى.
قلت: والحديث الأول أولى، وأنسب بمراد البخاري، وروى البغوي عن أنس بلفظ: «سيأتي على أمتي زمان يتباهون في المساجد، ولا يعمِّرونها إلا قليلًا».
قلت: وفي حديث أنس عَلَمٌ من أعلام نبوته؛ لإخباره عليه السَّلام بما سيقع في أمته، فوقع كما قال، والله أعلم، وفيه: أن نقش المسجد وتزيينه مكروه، وهو قول الإمام الأعظم رأس المجتهدين رضي الله عنه، وتمامه سيأتي، والله أعلم.
(وقال ابن عبَّاس): هو عبد الله أحد العبادلة الأربعة، وحَبْرُ هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما: (لِتُزَخْرِفُنها)؛ باللام المكسورة أو المفتوحة، وضم الفوقية وفتح الزاي، وسكون المعجمة، وكسر الراء، وضم الفاء؛ لإسناده إلى واو الضمير المحذوفة؛ لالتقائها ساكنة مع نون التأكيد، والضمير المنصوب يعود على المساجد، والضمير المرفوع إلى المذكورين، وهو من التزخرُّف، وهو التزين، يقال: زخرف الرجل كلامه: إذا موَّهه وزيَّنه بالباطل، والزُّخرف: الذهب ونحوه.
وأما اللام فيه؛ فذكر الطيبي في «شرح المشكاة» فيه وجهين؛ الأول: أن تكون مكسورة، وهي لام التعليل؛ للنفي قبله والمعنى: ما أُمرت بتشييد المساجد لأجل زخرفتها، والتشييد: _من شيَّد [4] يشيِّد_ رفع البناء والإحكام، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، والوجه الثاني: فتح اللام على أنها جواب القسم، انتهى.
واعترضه ابن حجر فزعم أنَّ هذا الوجه الثاني هو المعتمد، والأول لم تثبت به الرواية أصلًا.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (الذي قاله الطيبي هو الذي يقتضيه الكلام ولا وجه لمنعه، ودعوى عدم ثبوت الرواية يحتاج إلى برهان) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ ما قاله الطيبي محتمل إن جعله من كلام ابن عبَّاس تعليلًا للحديث قبله، وإن ادَّعى أنَّه من كلام النبيِّ عليه السَّلام؛ فلا وجه له، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، ولا يذهب عليك أن كلام الطيبي مبني على كلام ابن عبَّاس؛ لأنَّه صرَّح بقوله؛ تعليلًا للنفي قبله، وليس الطيبي يدَّعي أنَّه من كلام النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، على أنه إذا كان من كلامه؛ فما المانع من عدم وجهه؟ لأنَّ كلام ابن عبَّاس وإن كان في الظاهر مفعولًا؛ إلا أنه متعلق بما قبله وعلى الانفعال يظهر المعنى أيضًا؛ فافهم، ولا تغترَّ بما زعمه العجلوني؛ لأنَّه مشهور بالتعصُّب، والمعنى ههنا: تمويه المساجد بالذهب، ونحوه.
(كما زخرفت)؛ أي: زينت (اليهود)؛ أي: كنائسهم (و) زخرفت (النصارى)؛ أي: بيعهم؛ فالمفعول في كلٍّ منهما محذوف للعلم به، قال الخطابي: (إنَّما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم وبيعهم حين حرَّفت الكتب وبدَّلتها؛ فضيَّعوا الدين وعرَّجوا على الزخارف والتزين) انتهى.
وقال البغوي: (إنَّهم زخرفوا المساجد عندما بدَّلوا دينهم، وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم وسيصير أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة بتزبينها) انتهى.
قلت: وقول الخطابي والبغوي: (إنَّ التَّزخرف وقع حين تبديل الكتب والدين)؛ يحتاج إلى حجة وبرهان؛ لأنَّه لا يلزم من تبديل الكتب زخرفة معابدهم، وقول البغوي: (بالمساجد): غير مناسب؛ لأنَّ المساجد للمسلمين، ولليهود الكنائس، وللنصارى البيع، فكان عليه أن يقول: زخرفوا معابدهم، كما لا يخفى.
وقال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق رواه أبو داود موصولًا عن ابن عبَّاس هكذا موقوفًا، وروى معه مرفوعًا من حديث الثوري عن يزيد بن الأصم عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما أُمرت بتشييد المساجد»، قال ابن عبَّاس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، وإنما اقتصر البخاري على الموقوف منه ولم يذكر المرفوع منه؛ للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله، وإرساله، ويزيد هذا روى له مسلم والأربعة) انتهى.
وزعم ابن حجر _بعد أن ذكر مثل هذا آخذًا من كلام إمام الشَّارحين_ فزعم أن كلام ابن عبَّاس فيه مفصول من كلام النبيِّ عليه السَّلام في الكتب المشهورة، انتهى.
قلت: وهو ممنوع؛ فإن ظاهر اللفظ يدل على أنه موصول بكلام النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كما صرح به أبو داود، كما قدمناه.
وقد روي الحديث من طريقين عن ابن عبَّاس موقوفًا ومرفوعًا، فالموقوف مفصول ظاهرًا، لكنه متعلق بما قبله، والمرفوع موصول، وقد خفي هذا على ابن حجر حتى زعم هذا الكلام.
وفي الحديث المرفوع وهذه الآثار المذكورة دليلٌ واضح لمذهب أئمتنا الأعلام حيث قالوا: إن نقش المسجد وتزيينه مكروه، ولا يجوز من مال الوقف، فإن فعل؛ يغرم الذي يخرجه سواء كان ناظرًا أو غيره، ووجه الكراهة إذا كان من مال الناظر شيئان؛ أحدهما: اشتغال المصلين بذلك، فيُخل بالخشوع، وربما يجرهم إلى فساد الصلاة، وثانيهما: إخراج المال في غير وجهه، فيكون تبذيرًا وإسرافًا وهو مكروه، وعند الشافعي كذلك، قال في «الروض» و «شرحه»: (ويُكره نقش المسجد واتخاذ الشرفات له؛ للأخبار الصحيحة في ذلك، فإن كان ذلك من ريع الوقف؛ فحرام) انتهى.
وقد خفي على ابن حجر الحكم عند الشافعي؛ فزعم في «المنحة» أنه لا بأس بنقش المسجد إذا كان المال من غير بيت المال على سبيل التعظيم، واعترضه العجلوني فقال: (هذا جارٍ على غير مذهبه) انتهى.
قلت: بل هو ليس جاريًا على مذهبه، ولا على مذهب غيره، بل هو قول بالرأي، ولعله جَنَح إلى قول بعض أئمتنا الأعلام: (لا بأس بنقش المسجد للتعظيم)، وهذا القول معناه: أن تركه أولى؛ كما صرَّح به الشراح، ومنهم إمام الشَّارحين؛ فابن حجر قد خفي عليه هذا المعنى، وخفى الصحيح في مذهب الإمام الأعظم، وخفي عليه أيضًا مذهب إمامه الشافعي، فلا تغترَّ بكلامه، وعرِّج عنه، وانظر الصحيح
%ص 620%
ودع الفاسد.
وزعم ابن حجر أنَّ التشييد: من شيَّد يشيِّد؛ رفع البناء والإحكام، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] انتهى.
قلت: الحصر المذكور فاسد، فإنَّه يجوز أن يكون من شاد الحائط بالشيد؛ طينه، وقال في «القاموس»: (شاد الحائط يشيده: طلاه بالشيد؛ وهو ما طلي به حائط من جص ونحوه).
وقول الجوهري: (من طين أو بلاط بالموحَّدة غلط، والصواب بالميم؛ لأنَّ البلاط حجارة لا يطلى بها، وإنما يطلى بالملاط: وهو الطين، والمَشيْد: المعمول به، وكمؤيَّد [5]: المطول) انتهى؛ فافهم، ثم رأيت العجلوني اعترض بنحو ما ذكرته؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (العدم)، والمثبت موافق لما في «القاموس».
[2] في الأصل: (اصطفه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (فلانًا)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (شدَّ)، والمثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (كمريد)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (العدم)، والمثبت موافق لما في «القاموس».
[2] في الأصل: (اصطفه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (فلانًا)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (شدَّ)، والمثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (العدم)، والمثبت موافق لما في «القاموس».
[2] في الأصل: (اصطفه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (فلانًا)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (شدَّ)، والمثبت هو الصواب.
(1/747)
[حديث: أن المسجد كان على عهد رسول الله مبنيًا باللبن]
446# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله): هو ابن جعفر بن نجيح أبو الحسن المشهور بالمديني المصري (قال: حدثنا) كذا للأصيلي، ولغيره (حدثني) بالإفراد (يعقوب بن إبراهيم)، زاد الأصيلي: (ابن سعْد)؛ بسكون العين المهملة (قال: حدثنا أبي): هو إبراهيم المذكور، ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني الأصل العراقي الدار (عن صالح بن كيسان)؛ بفتح الكاف: هو أبو محمد مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز الأموي (قال: حدثنا نافع): هو مولى ابن عمر المدني، ففي السند رواية الأقران: وهي رواية صالح عن نافع؛ لأنَّهما من طبقة واحدة، وفيه رواية التابعي عن التابعي؛ لأنَّ صالحًا ونافعًا كلاهما تابعيان، قاله إمام الشَّارحين: (أنَّ) بفتح الهمزة (عبد الله) زاد الأصيلي (ابن عمر): هو ابن الخطاب القرشي العدوي (أخبره) أي: أخبر نافعًا (أنَّ) بفتح الهمزة أيضًا (المسجد)؛ أي: النبوي، فالألف واللام فيه للعهد (كان) أي: المسجد (على عهد) أي: أيام وزمان (رسول الله)، وللأصيلي: (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم مَبْنيًّا)؛ بفتح الميم، وسكون الموحدة، وتشديد التحتية، من البناء؛ وهو وضع شيء على شيء بصفة يراد بها الثبوت والدوام (باللَّبِن)؛ بفتح اللام، وكسر الموحدة، ويجوز فيه تسكين الموحدة مع كسر اللام أيضًا: وهو الطوب النيء قبل أن يشوى، فإذا شوي؛ فهو الآجرُّ؛ بالمد، (وسقفه الجريد)؛ أي: جريد النخل؛ وهو الذي يجرد عنه الخوص، وإذا لم يجرد؛ يسمى: سعفًا، والجملة محلها نصب على الحال، ويحتمل عطف سقفه على اسم (كان) المستتر؛ لوجود الفاصل، فتنصب (الجريد) عطفًا على خبرها، وهذا الاحتمال ذكره العجلوني، ولكن فيه نظر، على أن الرواية لا تساعده؛ فافهم، وذكر مثله مع ما فيه من الركاكة وعدم مساعدة الرواية له في قوله: (وعُمُده خشب النخل): الجملة حالية كالأولى على الأظهر و (العُمُد)؛ بضمَّتين، أو بفتحتين: كخشب، قال العجلوني: (ويجوز تسكين الثاني في المضمومتين منهما، فيجوز فيهما ستة أوجه؛ فتدبر) انتهى، قلت: يتأمل توجيهها، والظاهر أنَّها أربعة أوجه؛ فافهم، قال الجوهري: (العمود: عمود البيت، وجمع القلة: «أعمدة» وجمع الكثرة: «عُمُد» و «عَمد»، وقرئ بهما في قوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 9])، وقال الكرماني: (والخشب: مفردًا وجمعًا) وظاهره: في جميع وجوهه؛ فتأمل، (فلم يزد فيه) أي: المسجد (أبو بكر): هو الصديق الأكبر رضي الله عنه (شيئًا)؛ المراد به: أنه لم يغير فيه شيئًا زمن خلافته لا بزيادة ولا نقصان، (وزاد فيه) أي: المسجد (عمر) هو ابن الخطاب رضي الله عنه؛ أي: في زمن خلافته يعني: في الطول والعرض، وهذه الزيادة وكذا زيادة عثمان قد بيَّنها مفصلة السمهودي في «تاريخه»، (وبناه) أي: عمر حين زاد فيه (على بنيانه) أي: الأصلي الذي كان (في عهد) أي: زمن (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) والجار والمجرور: صفة للبنيان، أو حال منه.
قال الكرماني: (فإن قلت: إذا بنى على ذلك البنيان؛ فكيف زاد فيه؟ قلت: لعلَّ المراد بالبنيان: بعضها أو الآلات، أو بزيادة رفع سمكها، أو المراد على هيئة بنيانه ووصفها) انتهى.
قلت: والذي يظهر من السياق أن الصواب هو المعنى الأخير؛ لأنَّ بنيان بعضها غير ظاهر، وكذلك الآلات غير ظاهر أيضًا، وكذلك زيادة رفع سمكها؛ لأنَّه في هذه الأوجه لا يقال: إنَّه بناه على بنيانه، فالمراد: أنه بناه على هيئة بنيانه ووصفها الأصلية مع زيادة طوله وعرضه، ويدل لهذا قوله: (باللبن والجريد): متعلق بقوله: (وبناه)؛ يعني: في حيطانه وسقفه؛ كما كان على عهده عليه السَّلام بهما (وأعاد) أي: عمر رضي الله عنه (عمده خشبًا)؛ أي: كما كانت؛ لأنَّها تَلِفَت وبَلِيَت، فلم يغير فيه شيئًا من هيئته إلا توسعته وبناه بجنس آلاته الأصلية، قال السهيلي: (نخرت عمده في خلافة عمر، فجددها) انتهى.
(ثم غَيَّره)؛ بفتح العين المعجمة، وتشديد التحتية (عثمان بن عفان): أمير المؤمنين رضي الله عنه؛ أي: زمن خلافته فوسعه وغير آلاته، (فزاد) أي: عثمان (فيه) أي: في المسجد النبوي (زيادة): كثيرة؛ أي: من جهة التوسيع، (وبنى جداره)؛ بالإفراد، والظاهر: أنَّ المراد: جدرانه الأربع، وقد يقال: إنه بنى جداره الذي زاده (بالحجارة المنقوشة)؛ بالتعريف فيهما، هكذا رواية غير الحموي والمستملي، وفي روايتهما: (بحجارة منقوشة)؛ بالتنكير؛ أي: بدلًا عن اللبن كذا في «عمدة القاري»، (والقَصَّةِ)؛ بالجر، بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة، وهو الجص بلغة أهل الحجاز، يقال: قصَّص جداره؛ أي: جصَّصَه، وزعم الخطابي: القصَّة: تشبه الجص، وليست هي، وقال إمام الشَّارحين: (القصة: الجص، لغة فارسية معربة، وأصلها: كج، وفيه لغتان: فتح الجيم وكسرها، وهو الذي تسميه أهل مصر: جيرًا، وأهل البلاد الشامية يسمونه: كِلْسًا) انتهى، قلت: هو بكسر الكاف وسكون اللام آخره مهملة، وهو الحجارة الكدانة تحرق فتصير كلسًا، وقوله: (وجعل عمده): عطف على قوله: (وبنى جداره) (من حجارة منقوشة)،وقوله (وسَقَفَه)؛ بلفظ الماضي: من التسقيف، من باب التفعيل عطفًا على (جعل)، وفي رواية «فرع اليونينية»: (وسقْفَه): بلفظ الاسم عطف على (عمده)، أفاده إمام الشَّارحين، قلت: فهو بإسكان القاف، وفتح الفاء، وضبطه البرماوي: (وسقَّفه): بتشديد القاف، انتهى، قلت: التشديد؛ للمبالغة ولا مبالغة في السقف، على أن [1] الرواية لا تساعده؛ لأنَّها إما بلفظ الماضي مخففًا أو الاسم؛ فافهم، وقوله: (بالساج): متعلق بقوله: (وسَقَفَه)، وزعم العجلوني أنَّه متعلق بقوله: (وجعل)، قلت: والظاهر: ما ذكرناه؛ فافهم، و (الساج)؛ بالسين المهملة، والجيم؛ وهو ضرب من الخشب معروف يؤتى به من الهند، وله قيمة، قاله إمام الشَّارحين، أي: عظيمة، الواحدة: ساجة.
قال إمامنا الشَّارح: ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
وقال ابن بطال: (ما ذكره البخاري في هذا الباب يدل على أنَّ السنة في بنيان المساجد القصد، وترك الغلو في تشييدها وتحسينها؛ خشية الفتنة والمباهاة ببنائها، وكان عمر مع الفتوحات التي كانت في أيامه وتمكنه
%ص 621%
من سعة المال لم يغير المسجد عن بنيانه الذي كان عليه في عهد النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنَّما احتاج إلى تجديده؛ لأنَّ جريد النخل قد كان نخر في أيامه وبلي، ثم جاء الأمر إلى عثمان والمال في زمانه أكثر؛ فحسنه بما يقتضي الزخرفة، فلم يزد فيه على أن جعل مكان اللبن حجارة وقصة، وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يقصر هو وعمر رضي الله عنهماعن البلوغ في تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علمهما بكراهة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك، وليُقتدى بهما في الأخذ من المقاصد بالقصد والكفاية، والزهد في معالي أمورها، وإيثار البلغة منها، ولهذا فقد أنكر على عثمان بعض الصحابة) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك؛ صونًا من الفتنة) انتهى.
قلت: وذكر النووي وغيره أن أول من وسَّع المسجد واتخذ له جدارًا دون القامة عمر بن الخطاب، وذلك؛ لأنَّه اشترى دورًا وضمَّها إليه، ثم وسَّعه عثمان واتَّخذ له الأروقة وبناه بالأحجار المنقوشة، ثم وسعه عبد الله بن الزبير، ثم عبد الملك بن مروان، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم المنصور، ثم المهدي، ثم المأمون، وعليه استقرَّ بناؤه إلى الآن على الصحيح، انتهى، قلت: وقد وسَّعه أيضًا السلطان عبد المجيد العثماني في زمن خلافته سنة نيف وسبعين ومئتين وألف.
وقال ابن المُنيِّر: (لما شيَّد الناس بيوتهم وزخرفوها؛ ناسب أن يُصنع ذلك بالمساجد صونًا لها عن الاستهانة، وقد حدث عند الناس مؤمنهم وكافرهم تشييد بيوتهم وتزيينها ولم يمكن أن يمنعوا من ذلك؛ فكان بيت الله أولى، وذلك لو أنا بنينا مساجدنا باللبن النيء وسقفناها بالسعف، وجعلناها متطامنة بين الدور الشاهقة، وفعلها أهل الذمة؛ لكانت مستهانة، فحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا، ولو أنَّ المسجد الشريف أعيد بالطين والسعف، وشيدت دور المدينة إلى جنبه؛ لكان ذلك إهمالًا من المسلمين؛ فالذي اختاره الله تعالى الآن للمسلمين خيرًا إن شاء الله تعالى، ولو كان الزمان كما كان؛ لما عدل منه عن إعادة المسجد إلى ما يناسب حال القوم من التواضع والتقنع) انتهى.
واعترضه بعضهم _على ما نقله ابن حجر_ بأن المنع إن كان للحثِّ على اتِّباع السلف وترك الرفاهية؛ فهو كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة؛ فلا؛ لبقاء العلة، انتهى.
واعترضه العجلوني فقال: (المقرر في مذهبهم التفصيل بين كونه في القبلة؛ فيكره، وإلا؛ فلا)، قال الشيخ خليل في «مختصره»: (وكره تزويق قبلة المسجد) انتهى؛ فاعرفه، انتهى.
وزعم ابن حجر: ورخَّص في ذلك بعضهم وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (مذهب أصحابنا: أنَّ ذلك مكروه، وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقش المسجد؛ معناه: تركه أولى، وقدمرَّ الكلام فيه عن قريب) انتهى.
قلت: وعبارته فيما تقدم، وبهذا استدل أصحابنا على أن نقش المسجد وتزيينه مكروه، وقول بعض أصحابنا: لا بأس بنقشه؛ معناه: أنَّ تركه أولى، ولا يجوز من مال الوقف، ويغرم الذي يصرفه سواء كان ناظرًا أو غيره، انتهى.
واعترضه العجلوني بعبارة «النهر» منتصرًا لابن حجر؛ فإنَّها يعلم منها أنَّه قيل: بندبه، لا كما يُفهمه كلامه، وعبارة «النهر»: (ولا يُكره أيضًا نقشه بالجِصِّ _بالكسر والفتح، معرَّب كج_ وبالذهب ونحوه)، قيل: هذه العبارة مساوية لقول «الجامع»: (لا بأس بذلك)؛ بناءً على أنَّ المنفي كراهة التحريم، وأنَّ لفظ: (لا بأس) لا يلزم استعماله فيما تركه أولى.
وقال السرخسي: (إن ما في «الجامع» فيه إشارة إلى أنه لا يأثم، ولا يؤجر، وقيل: يندب، والكلام في غير المحراب: أمَّا هو؛ فيكره نقشه، وفي داخل المسجد، أما خارجه؛ فيكره) انتهى.
قلت: وكلام العجلوني فاسد الاعتبار؛ فإن المصرَّح به في كتب المذهب المعظم كـ «التنوير» و «شروحه»: أنه لا بأس بنقش المسجد _خلا محرابه_ بجص وماء ذهب لو بماله لا من مال الوقف، وضمن متولِّيه لو فعل، قال صاحب «النهاية»: (أفاد أنَّ المستحب غيره؛ لأنَّ البأس الشدَّة؛ فلفظ: «لا بأس»: دليل على أنَّ المستحب غيره)، انتهى، وقال في «المضمرات»: (الصرف إلى الفقراء أفضل، وعليه الفتوى)، ومثله في: «الهندية»، وقيل: إنه مكروه؛ للحديث الصحيح: «إن من أشراط الساعة أن تزيَّن المساجد ... » الحديث؛ فإن العلة في الكراهة: هو إلهاء [2] المصلين، وقد صرَّح صاحب «البدائع» وغيره أن الخشوع في الصلاة مستحب، ومثله في «الأشباه» فأفاد أن الكراهة للتنزيه، وهي أمارة قولهم: (لا بأس)، فإنَّها تدل على أن تركه أولى؛ وهي مفادة كراهة التنزيه، ولا فرق في جدرانه؛ لأنَّ المحراب يلهي الإمام، وجدار القبلة بتمامه يلهي المصلين خلفه، وكذا حائط الميمنة والميسرة يلهي القريب منه، بخلاف السقف والمؤخر؛ لأنَّه لا يلهي، وإذا كان الإلهاء موجودًا في حائط القبلة والميمنة والميسرة؛ للمصلين؛ فات الخشوع، وتكون الصلاة مكروهة تنزيهًا، ففعل النقش في هذه الحيطان مكروهة تنزيهًا؛ كما لا يخفى، وهذا معنى عبارة «النهر» وهو الموافق لعبارة إمام الشَّارحين، فما فهمه العجلوني غير صحيح؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الإلهاء)،ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/748)
(63) [باب التعاون في بناء المسجد]
هذا (باب) حكم (التعاون)؛ أي: تعاون الناس بعضهم بعضًا (في بناء المسجد)؛ بالإفراد، والألف واللام فيه للجنس، وهي رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر عن المستملي والحموي: (في بناء المساجد)؛ بالجمع.
و (التعاوُن)؛ بضمِّ الواو: مصدر تعاون القوم؛ تساعدوا، وتقدير الحكم في الترجمة أولى من تقدير الجواز؛ كما فعله العجلوني؛ لأنَّ الحكم أعم والثاني أخص، ومراد المؤلف: العموم كما هي عادته في جميع التراجم، وأشار المؤلف بهذه الترجمة إلى أنَّ التعاون في فعل الخير بين الناس مطلوب مرغوب فيه؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فتعاون الناس بعضهم بعضًا مندوب كبناء المساجد، وتعمير السُّبُلات وغير ذلك، فمن زاد في معاونته؛ زاد أجره، وهو شامل للمعاونة بالمال أو البدن، أما الصلاة والصوم؛ فليس فيهما معاونة؛ لأنَّهما عبادة قاصرة على صاحبها، فلا يجوز التعاون فيها؛ كما لا يخفى؛ فافهم.
%ص 622%
(وقول الله عزَّ وجلَّ) كذا في رواية الكشميهني على ما قاله القسطلاني، لكن قال إمام الشَّارحين: (إنها رواية الأكثرين)، وزاد فيه: (إلى قوله: {المهتدين})، وتبعه ابن حجر في «الفتح» و «العمدة»، وقال إمام الشَّارحين أيضًا: (وفي رواية أبي ذر: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ} إلى قوله: {المُهْتَدِينَ} [التوبة: 17 - 18]، ولم يقع في روايته لفظ: «وقول الله عز وجل») انتهى، وفي رواية ابن عساكر: (قوله تعالى)، كذا ذكرها القسطلاني بدون عطف، وفي رواية بالعطف، والله تعالى أعلم: ({مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ})؛ أي: بالله؛ أي: ما ينبغي لهم وما استقام لهم ({أَن يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللهِ})؛ بالإفراد في رواية الأكثرين، وهي قراءة يعقوب، وأبي عمرو، وابن كثير، وأراد به: المسجد الحرام، يدل عليه قوله تعالى: {وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [التوبة: 19]، وقوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ} [التوبة: 28]، وفي رواية الأصيلي وأبي ذر: ({مساجد})؛ بالجمع على ما في القسطلاني، وقد اشتبه عليه العجلوني عبارته؛ فزعم أن رواية أبي ذر: ({مسجد})؛ بالإفراد وليس كذلك، وهذه الرواية هي قراءة الآخرين، والمراد بقراءة الجمع: المسجد الحرام أيضًا، ولهذا قال الحسن البصري: (إنما قال: {مساجد}؛ لأنَّه قبلة المساجد كلها)، وقال القزاز: (إنما ذهبت العرب بالواحد إلى الجميع، وبالجميع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون، فيقول: أخذت في ركوب البراذين، ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار، ويريد: الدراهم والدنانير)، وقال صاحب «الكشاف»: (والمراد بـ «المسجد»؛ بالإفراد: المسجد الحرام، يدل عليه أن سبب نزول الآية: أنَّ المهاجرين والأنصار أقبلوا على أسارى بدر، فعيَّروهم بالشرك، وطفق علي بن أبي طالب يوبِّخ العبَّاس بقتال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقطيعة الرحم، وأغلظ عليه في القول، فقال العبَّاس: تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا، فقالوا: أوَلكم محاسن؟ فقالوا: نعم، ونحن أفضل منكم جدًّا، إنَّا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني؛ فنزلت)، ولا يرد على هذا قراءة: (المساجد)؛ بالجمع التي هي قراءة الأكثرين؛ لأنَّهم جوزوا أنَّ المراد بها: المسجد الحرام، وإنَّما جمع؛ لأنَّه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر سائر المساجد، أو لأنَّ كل بقعة منه مسجد، أو أنَّ المراد به الجنس؛ أي: جنس المساجد، فإذا لم يصلحوا أن يعمروا جنسها؛ دخل تحت ذلك ألَّا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته، وهو آكد؛ لأنَّ طريقه طريق الكناية؛ كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله؛ أنفى لقراءة القرآن من تصريحك بذلك، انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ المؤلف ذكر هذه الآية لمصيره إلى ترجيح أحد الاحتمالين من الآية؛ لأنَّ قوله: {مساجد الله}: يحتمل أن يراد بها: موضع السجود، وأن يراد بها: المساجد، وعلى الثاني يحتمل أن يراد بعمارتها: بنيانها، وأن يراد بها: الإقامة فيها لذكر الله تعالى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (ما قاله هذا القائل لا يناسب معنى هذه الآية أصلًا، وإنَّما يناسب معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ... } الآية [التوبة: 18]، على أن أحدًا من المفسِّرين لم يذكر هذا الوجه الذي ذكره هذا القائل، وإنما هذا تصرُّف منه بالرأي في القرآن؛ فلا يجوز ذلك، ويجب الإعراض عنه، قال المفسرون: معنى هذه الآية؛ ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده [لا شريك له، ومن قرأ {مسجد الله} أراد به: المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض] [1] الذي [2] بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأسَّسه خليل الرحمن عليه السَّلام، ثم ساق عبارة الزمخشري ... ) إلى آخر كلامه رضي الله عنه.
واعترضه العجلوني؛ فقال: (دعواه عدم مناسبة ما قاله ابن حجر لمعنى هذه الآية وحصره المناسبة لمعنى الثانية؛ غير ظاهر، وكذا دعواه أن ما قاله لم يذكره أحد من المفسرين؛ لأنَّه قد ذكر هذا المعنى البغوي في «تفسيره» وعبارته: «أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأنَّ المساجد إنَّما تعمر لعبادة الله تعالى وحده، فمن كان كافرًا بالله؛ فليس من شأنه أن يعمرها؛ فذهب جماعة إلى أنَّ المراد منه: العمارة المعروفة من بناء المسجد ومرمته عند الخراب؛ فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا يمتثل، وحمل بعضهم العمارة ههنا على دخول المسجد والقعود فيه» انتهى، فانظر إلى قوله: «فذهب جماعة ... » إلخ؛ تجده دافعًا لاعتراضه، وما نقله عن الزمخشري لا ينافي ما ذكره ابن حجر، على أنَّ الكرماني وغيره قال في كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم، وفيه إرشاد إلى أن للعالم الفَهِم أن يستخرج من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولًا عن المفسرين بشرط موافقته للأصول الشرعية، انتهت؛ فأعجب من قوله وتشنيعه) انتهى.
قلت: وما ذكره العجلوني فاسد الاعتبار؛ لأنَّ قوله (دعواه عدم مناسبة ما قاله ... ) إلى آخره،؛ ممنوع؛ فقد ذكر ذلك القاضي البيضاوي، وعبارة البيضاوي: ({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ... } الآية؛ أي: إنَّما يستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر ودرس العلم فيها، وصيانتها عما لم تُبنَ له: كحديث الدنيا، وعن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: قال الله تعالى: «إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زوَّاري فيها عُمَّارها؛ فطوبى لعبد تطهَّر في بيته ثم زارني في بيتي؛ فحقعلى المَزُور أن يكرم زائره») انتهى، فهذا دليل ظاهر على أن ما ذكره مناسب لمعنى الآية الثانية؛ كما قاله إمام الشَّارحين، لكن فيه أن ما زعمه ابن حجر تلفيق وخلط؛ لأنَّ بعضه يوافق معنى ما ذكره البيضاوي، وبعضه لا يوافق أصلًا؛ بل ولا يوافق أحدًا، فهو خبط في الكلام؛ فكأنَّه قال ولا يدري ما يقول؛ فافهم.
وقوله: (وكذا دعواه أن ما قاله لم يذكره أحد ... ) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ فإن عبارة البغوي لا تدل على ما قاله؛ لأنَّه لم يقل: إنَّ المراد من الآية: أن يراد بها موضع السجود، فهو قول بالرأي بعينه، وكذا لم يقل البغوي: وأن يراد بها المساجد.
وقوله: (فانظر إلى قوله: فذهب جماعة ... ) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه وإن كان ظاهره أنَّه موافق لما قاله ابن حجر، لكنه في الحقيقة مخالف له ومباين؛ لأنَّ عبارة البغوي مبنية على مرمة المساجد؛ لأنَّه قال: (من مرمته عند الخراب)، وما زعمه ابن حجر أنَّه يراد بعمارتها: بنيانها؛ لأنَّ منطوق الآية ومفهومها أنه يجب على المسلمين منعهم من بناء المساجد؛ كما قاله البغوي وغيره؛ فلا شك أن ما قاله ابن حجر تصرُّف من عنده وهو القول بالرأي
%ص 623%
بعينه، وإنَّما اقتصرنا على عبارة البغوي؛ لأنَّ العجلوني جعلها سندًا ومستندًا له، والحال أن ابن حجر قد تصرَّف في عبارة البغوي، وخبط وخلط، ونسبها لنفسه، وليس في ذلك دفع لما قاله إمام الشَّارحين، بل الصواب هو ما قاله إمام الشَّارحين.
وقول العجلوني: (وما نقله عن الزمخشري لا ينافي ما قاله ابن حجر)؛ ممنوع، فإن المنافاة بينهما ظاهرة لمن كان عنده شيء من العلم، كما علمت من عبارته، وما قاله إمام الشَّارحين من معنى الآية هو ما قاله الإمام مفتي الثقلين العلامة أبو السعود ونجم الدين النسفي والبيضاوي وغيرهم، وهو خلاف ما زعمه ابن حجر؛ لأنَّ قوله: (وأن يراد بها الإقامة فيها لذكر الله): هذا توجيه معنًى بالرأي بعينه أيضًا؛ فإن الكافر المشرك لا يوحِّد الله، ولا يصلي في مسجد، ولم يقل أحد من المفسرين ذلك، وعلى كلٍّ فما ذكره العجلوني لا ينهض دليلًا لصحة كلام ابن حجر؛ فليحفظ.
وما نقله عن الكرماني ... إلى آخره؛ ممنوع؛ لأنَّ ما ذكره خاص بالمجتهد المطلق كإمامنا الإمام الأعظم رئيس المجتهدين ومن جرى مجراه، وابن حجر لم يبلغ رتبة الاجتهاد، بل ولا رتبة المؤلفين المتقنين، وإنما هو من المؤلفين الغير المتقنين، على أنَّ ما ذكره مقيَّد بأن يكون موافقًا للأصول الشرعية، وما ذكره ليس كذلك، بل هو قولٌ بالرأي بعينه؛ لأنَّه لم يذكره أحد من المفسِّرين؛ فيجب الإعراض عنه.
وقوله: (فأعجب من قوله وتشنيعه)، لا عجب ولا تشنيع، بل ما ذكره إمام الشَّارحين هو الصواب الموافق لقول العلماء الراسخين، وليس له في ذلك حظ نفس ولا هوًى، وإنما هو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يخل ذلك بمعنى القرآن العظيم، وأعجب من قول العجلوني حيث درج على هذا الكلام الذي يرده أهل العلم العظام.
({شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ}) الظرفان متعلقان بـ {شاهدين} وهو حال من فاعل {يعمروا}؛ أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين؛ عمارة بيت الله وكفرهم بالله بعبادة غيره، وقال الحسن: (لم يقولوا: نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر)، وقال الضحاك، عن ابن عبَّاس: (شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك لأنَّ كفار قريش كانوا ينصبون أصنامهم على البيت الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكلما طافوا شوطًا؛ سجدوا لأصنامهم ولم يزدادوا بذلك من الله إلا بعدًا)، وقال السُّدي: (شهادتهم على أنفسهم بالكفر: هو أنَّ النصراني يُسأل من أنت؟ فيقول: نصراني، واليهودي يقول: يهودي، والمشرك يقول: مشرك)، وقال النسفي: (هو قولهم: لبيك لا شريك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك؛ أي: ليس لهم أن يحجوها وهم قائلون ذلك في الحج).
({أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ})؛ أي: بطل ثوابها لشركهم، والمراد بالأعمال: ما ذكروه من محاسنهم، كذا قاله نجم الدين النسفي، وقال جار الله الزمخشري: هي العمارة والحجابة، وفك العاني، والسقاية ونحوها، انتهى، قلت: وهي بمعنى ما تقدم.
واعترضه العجلوني فزعم أنَّ الأولى العموم؛ لأنَّ أعمال الكفار كلها مردودة لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، انتهى.
قلت: العموم موجود في كلام الزمخشري؛ لأنَّه بيَّن أعمالهم التي يفتخرون بها، وعمم بقوله: وغيرها، وما ذكره من الآية فيه نظر؛ لأنَّ الآية مخصوصة بالدار الآخرة، فلا يجازون عليها في الآخرة وإنما المجازاة تكون في الدنيا، فإن الكفار إذا عملوا خيرًا؛ يجازون عليه في الدنيا بكثرة الأموال والأولاد، أو دفع الضرر والشدة وغير ذلك، فإذا وصلوا للدار الآخرة؛ لم يجدوا من أعمالهم شيئًا؛ فافهم.
({وَفِي النَّارِ})؛ أي: الجهنمية؛ أي: لا في غيرها ({هُمْ خَالِدُونَ})؛ أي: لكفرهم لا غيرهم من المسلمين؛ فافهم، وإن عُذِّب منهم من يعذب، فإنَّهم إلى الجنة صائرون، ومهما طالت مدتهم لا بد من دخولهم الجنة، وقول المتصوفة: (إن الكفار يعتادون عذاب النار فلم يحصل لهم بعد ذلك ألم العذاب) مردود بنصوص القرآن؛ لأنَّ الله وصف العذاب بكونه مؤلمًا، وإذا كان كما زعمه؛ يلزم في ذلك ألَّا يكونوا معذبين، وهو خلاف إخبار الله عنهم، وهو لا يخلف الميعاد.
({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ}) في قراءة {مسجد الله} بالإفراد كما في «الكشاف» ({مَنْ آمَنَ بِاللهِ}) وحده، والإيمان بالنبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنما لم يذكره؛ لأنَّه إذا جرى ذكر الله تعالى؛ يكون ذكره عليه السَّلام مقارنًا لذكره تعالى، كما في كلمة الشهادة، والأذان، والإقامة وغيرها، فلما كانا مزدوجين صارا كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن الآخر، فكان الإيمان به عليه السَّلام مندرجًا تحت ذكر الإيمان بالله تعالى، ويحتمل أنه لم يذكره لدلالة قوله: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}؛ لأنَّهما ذكرتا بلام العهد والمعهود من الصلاة والزكاة عند المسلمين ليس إلا الأعمال التي أتى بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإتيان تلك الأعمال يستلزم الإيمان به عليه السَّلام؛ فافهم، ({وَالْيَوْمِ الآخِرِ}) {من} الموصولة أو النكرة الموصوفة فاعل {يعمر} المقدم عليه المفعول؛ اعتناءً بالمساجد، ({وَأَقَامَ الصَّلاةَ})؛ أي: أداها وحافظ عليها في أوقاتها، وهو معطوف على قوله: {آمن} ({وَآتَى الزَّكَاةَ})؛ أي: أداها لأربابها، والمعنى: إنَّما يستحق القيام بعمارة المساجد من كان متصفًا بهذه الأوصاف المذكورة ({وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ})؛ أي: لم يخف في الدين غير الله، ولم يترك أمر الله لخشية غيره، قاله البغوي، وقال صاحب «الكشاف»: (فإن قلت: المؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك ألَّا يخشاها، قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وألَّا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه حق الله وحق نفسه؛ قدم حق الله على حق نفسه، وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم، وهذه الآية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا كالمؤكدة
%ص 624%
بمضمون السابقة؛ ومعناه: إنَّما يستقيم عمارة المساجد لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها: تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج والمصابيح، ورَمِّ [3] ما وَهَى منها وإصلاحه، وقمِّها، وتنظيفها، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومنه: درس العلم؛ بل هو أجلُّه وأعظمه، وصيانتها مما لم تبنَ له من أحاديث الدنيا، فضلًا عن فضول الحديث) انتهى.
قلت: وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13]، وقوله: {فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران: 175] فإن الخوف من المضار النفسانية أمر جبلِّي لا محذور فيه، وإنما المحذور ترجيح حق نفسه على حق الله تعالى، وأن يجعل فوات حظ نفسه كعذاب الله تعالى.
({فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ}) [التوبة: 18] جمع؛ مراعاة لمعنى {من} بعد الإفراد لمراعاة لفظها، قال البيضاوي: (ذكره بصيغة التوقع؛ قطعًا لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخًا لهم بالقطع بأنَّهم مهتدون، فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائرًا بين «عسى» و «لعل»، فما ظنك بأضدادهم؟! ومنعًا للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم ويتكلوا على أعمالهم) انتهى، وقال الإمام نجم الدين النسفي: («عسى» من الله إطماع، وإطماع الكريم إيجاب؛ أي: المستكملون هذه الأوصاف والخصال ثابتون على الهداية خارجون عن الضلالة)، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد؛ فاشهدوا له بالإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ} ... » الآية [التوبة: 18]، وقال القشيري: (عمارة المساجد التي هي مواقف العبودية لا تتأتى إلا بتخريب أوطان البشرية، فالعابد يعمِّر المسجد بتخريب أوطان شهوته، والزاهد يعمِّره بتخريب أوطان مُنْيَته، والعارف يعمِّره بتخريب أوطان عِلاقَته، والموحِّد يعمِّره بتخريب أوطان ملاحظته، ولكلٍّ منهم صنف مخصوص، وكذلك رتبتهم في الإيمان مختلفة، فإيمان من حيث البرهان، وإيمان من حيث البيان، وإيمان من حيث العيان، وشتَّان ما هم) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (ثمَّ إنَّ البخاري ذكر هذه الآية من جملة الترجمة، وحديث الباب لا يطابقها، ولو ذكر قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} الآية؛ لكان أجدر وأقرب للمطابقة، ولكن يمكن أن يوجه ذلك وإن كان فيه بعض تعسُّف؛ وهو أن يقال: إنَّه أشار به إلى أنَّ التعاون في بناء المساجد المعتبر الذي فيه الأجر إنَّما يكون للمؤمنين، ولم يكن ذلك للكافرين وإن كانوا بنوا مساجد ليتعبدوا فيها بعبادتهم الباطلة، ألا ترى أنَّ العبَّاس لما أُسِر [4] يوم بدر وعيَّره علي بن أبي طالب بكفره وأغلظ له؛ ادَّعى أنَّهم كانوا يعمرون المسجد الحرام، فبيَّن ذلك الله تعالى أنَّه غير مقبول منهم؛ لكفرهم؛ حيث أنزل على نبيه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ} الآية [التوبة: 17]، ثم أنزل في حق المسلمين الذين يتعاونون في بناء المساجد قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} ... ؛ الآية، والمعنى: إنِّما العمارة المعتدة بها: عمارة من آمن بالله، فجعل عمارة غيرهم كلا عمارة؛ حيث ذكرها بكلمة الحصر، وروى عبد بن حميد في «مسنده» عن أنس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ عمَّار المسجد هم أهل الله» ورواه أبو بكر البزَّار، ولا شكَّ أنَّ أهل الله هم المؤمنون) انتهى.
واعترضه العجلوني فزاد في الطنبور نغمة، فزعم أنَّ الآيتين [5] مذكورتان في رواية أبي ذر التي ذكرها، وهما دالتان على فضيلة تعمير المساجد ومدح العامرين بها، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، وليس لقائله مسٌّ بفهم المعاني، فإنَّ كون الآيتان مذكورتين [6] في رواية أبي ذر لا ينافي أنَّ الآية الأولى من جملة الترجمة، وأنَّها لا تطابق حديث الباب، فكم ذكر المؤلف آية أو حديثًا في باب مترجم وهو لا يطابق الترجمة؟! لكن يجب على المؤلف أن يصدِّر بآية: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ}؛ لأنَّ مراد المؤلف: الاستدلال على ما ترجم له، وهذه الآية صريحة في الدلالة على ذلك، وأن الآية الأخرى لا يُستدلُّ بها؛ لأنَّ العمارة المقبولة إنَّما هي من المؤمنين، وأمَّا الكفار؛ فلا يُعتدُّ بفعلهم، كيف يجعل فعل الكفار دليلًا على حكم من أحكام الله مع أنَّه تعالى قد ذمَّ فعلهم ذلك بقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 17]؟!، فهذا ذمٌّ وعدم رضًا بهذا الفعل منهم فالآية الأولى تطابق الترجمة، وأمَّا الثاني؛ فإنَّها قريبة من التطابق لما ذكره إمام الشَّارحين من الوجه المذكور، على أنَّ الحديث المروي عن أنس صريح في أنَّ الذي يمدح في عمارة المسجد إنَّما هو المؤمن لا الكافر، فكيف يقول: (وهما دالَّتان ... ) إلخ؟ فمن أين جاءت الدلالة المذكورة؟ ومن أين جاء المدح للعامرين؟ نعم؛ مدح الله المؤمنين في الآية الثانية، وذمَّ ومنع المشركين في الآية الأولى، وما هذا إلا قول أضعف من [بيت] العنكبوت، فلا تغتر بكلام العجلوني، فإنَّه مشهور بالتعصب على إمام الشَّارحين، ولم يصل إلى مرتبة علمه في العالمين؛ فافهم.
وروى البغوي «بسنده» إلى أبي هريرة أنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «من غدا إلى المسجد وراح؛ أعدَّ الله له منزلة من الجنة كلَّما غدا وراح»، وروى أيضًا بسنده إلى عثمان بن عفان أنَّه أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك وأحبُّوا أن يدعه، فقال عثمان: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «من بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له قصرًا كهيئته في الجنة»، وفي لفظ له من طريق آخر: «بنى الله له بيتًا في الجنة»، وقال صاحب «الكشاف»: وعن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد، يقعدون فيها حِلَقًا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم، فليس لله فيهم حاجة»، وعنه عليه السَّلام: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش»، وقال عليه السَّلام: «من أَلِفَ المساجد؛ أَلِفَه الله»، وعن أنس بن مالك: «من أَسْرَج في مسجد سراجًا؛ لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك
%ص 625%
المسجد ضوءه» انتهى.
==================
[2] في الأصل: (التي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (وذم)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (أسرى).
[5] في الأصل: (الآيتان)، وليس بصحيح.
(1/749)
[حديث: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة]
447# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد): هو ابن مسرهد الأسدي البصري، (قال: حدثنا عبد العزيز بن مختار) أبو إسحاق الدباغ البصري الأنصاري، وفي بعض الأصول: (المختار)؛ باللام؛ للمح الأصل، (قال: حدثنا خالد الحَذَّاء)؛ بفتح المهملة، وتشديد المعجمة، هو ابن مهران البصري، (عن عكرمة): هو مولى ابن عبَّاس، المفسِّر المشهور، وقد سكن البصرة (قال لي)؛ أي: قال: قال لي: (ابن عبَّاس): هو عبد الله، حَبر هذه الأمة وترجمان القرآن، قال إمام الشَّارحين: (وهذا الإسناد كلُّه بصري؛ لأنَّ ابن عبَّاس أقام على البصرة أميرًا مدة وعكرمة معه) انتهى، (ولابنه): معطوف على الياء بإعادة الجار؛ ليكون جائزًا اتفاقًا، والضمير فيه يرجع إلى ابن عبَّاس، وقوله: (عليٍّ)؛ بالجر بدل من ابنه، أو عطف بيان، هو ابن عبد الله بن عبَّاس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، وكنيته أبو الحسن، ويقال: أبو محمد، وكان مولده ليلة قتل علي بن أبي طالب؛ فسمي باسمه وكني بكنيته، وكان غاية في العبادة، والزهادة، والعلم، والعمل، وحسن الشكل، والثقة، وكان يدعى السجَّاد_بتشديد الجيم_؛ لكونه كثير الصلاة، فقد كان يصلِّي كلَّ يوم ألف ركعة، وكان له خمس مئة أصل زيتون، فيصلي في كل يوم عند أصل كل شجرة ركعتين، وهو جدُّ السفاح والمنصور الخليفتين، المتوفى قبل العشرين ومئة، إمَّا سنة أربع عشرة، أو سبع عشرة، أو عشرة، عن ثمان أو تسع وسبعين سنة، أفاده إمامنا الشَّارح، قلت: وقول العجلوني: (مات بعد العشرين ومئة) خطأ ظاهر: (انطلِقا)؛ بكسر الهمزة واللام: فعل أمر مثنَّى (إلى أبي سعيد): هو سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي، (فاسمعا) ولأبي ذر: (واسمعا) بالواو (من حديثه)؛ أي: المطلق الذي يسمعه الناس، وزعم العجلوني: أنَّه يحتمل أنَّه عيَّن لهما الحديث يسألانه عنه أو أطلق، انتهى، قلت: ظاهر اللفظ يدل على الإطلاق، ويدل عليه أنَّه أتى به بصيغة التنكير، والاحتمال الأول بعيد جدًّا؛ لأنَّه لو كان مراده التعيين لعيَّن لهما الحديث لأجل السؤال عنه، وظاهر اللفظ يخالفه؛ فافهم، وقوله: (فانطلقنا) من مقول عكرمة؛ (فإذا هو) أي: أبو سعيد، وكلمة (إذا) ههنا للمفاجأة (في حائط) أي: بستان له وسمِّي به؛ لأنَّه لا سقف له كذا في «عمدة القاري» (يصلحه) جملة محلها الرفع؛ لأنَّها خبر لقوله: (هو)، وهل المراد بالإصلاح السقي أو الزراعة وحفر الأرض ونحوها؟ فإن اللفظ عام، وقد بيَّن المؤلف في (الجهاد) أنَّ المراد به الأول، ولفظه: (فأتيناه وهو وأخوه في حائطهما يسقيانه)، قال إمام الشَّارحين: (قيل: أخوه هذا لأمه وهو قتادة بن النعمان، ورُدَّ بأن هذا لا يصح؛ لأنَّ علي بن عبد الله بن عباس ولِد في آخر خلافة علي بن أبي طالب ومات قتادة بن النعمان قبل ذلك في أواخر خلافة عمر بن الخطاب، وليس لأبي سعيد أخ شقيق ولا أخ من أبيه ولا من أمه إلا قتادة، فيحتمل أن يكون المذكور هو أخوه من الرَّضاعة، والله أعلم) انتهى، (فأخذ رِدَاءه)؛ بكسر الراء وفتح الدال المهملتين، وهو ما يستر النصف الأعلى؛ أي: فأخذ أبو سعيد رداء نفسه.
قال العجلوني: كأنَّه بعد أن سألاه الحديث أو اتفق له ذلك، انتهى.
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّ المراد: سماع الحديث لا السؤال عنه، فإنَّه لم يقل لهما ابن عبَّاس: اذهبا فاسألانه؛ بل أَخْذُ الرداء قد اتفق له في هذه الحالة كما ذكرنا؛ فافهم.
(فاحتَبَى)؛ بالحاء المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وفتح الموحدة؛ يقال: احتبى الرجل؛ إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته، وقد يحتبي بيديه، كذا في «عمدة القاري».
قال العجلوني: ويحتمل أنَّه احتبى بردائه.
قلت: واحتباء الرجل أن يقعد على أليتيه، وينصب ساقيه ملتفًّا في ثوبه الواحد، والظاهر أنَّه احتبى بردائه؛ لأنَّه كان في حائطه يصلحه، والغالب أن يكون غير محبيٍّ به، فلما فرغ من ذلك؛ أخذ ردائه، فاحتبى به، وهذه الاحتمالات من أجل عدم وجود لفظة (به)، فلو كانت؛ لتعين ما قلناه؛ فافهم.
(ثم أنشأ)؛ أي: شرع أبو سعيد، قال إمام الشَّارحين: وهي بمعنى: طفق، وهما من أفعال المقاربة، وضعا للدلالة على الشروع في الخبر، ويعملان عمل (كان) إلا أنَّ خبرهما يجب أن يكون جملة، ويشاركهما في هذا: (جعل) و (علق) و (أخذ)، انتهى، فقوله: (يحدثنا)؛ جملة محلها النصب خبر (أنشأ) (حتى أتى) أي: أبو سعيد (ذِكْرَ)؛ بالنصب مفعول (أتى)، وفي رواية كريمة والأربعة: (حتى إذا أتى على ذِكْرِ)، وفي رواية الأصيليوأبي ذر عن المستملي والكشميهني: (حتى أتى على ذكر) (بناء المسجد) أي: النبوي، فالألف واللام فيه للعهد (فقال) أي: أبو سعيد (كنا) أي: معشر الصحابة (نحمل لَبِنةً)؛ بفتح اللام، وكسر الموحدة، بعدها نون، وهي: الطوب النيئ، فإذا شوي بالنار؛ فهو الآجر؛ بالمد، وانتصابها على المفعولية لـ (نحمل)، وقوله: (لبنةً) بالتكرار؛ منصوب على التأكيد، وأفاد التكرار أنَّ كل واحد يحمل في كل مرة لبنة، (وعمَّار)؛ بتشديد الميم: هو ابن ياسر (لبنتين لبنتين)؛ بالتكرار أيضًا؛ يعني: يحمل عمَّار في كلِّ مرة لبنتين، وزاد معمر في روايته: (لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، وفيه زيادة أيضًا لم يذكرها البخاري، ووقفت عليها عند الإسماعيلي وأبي نعيم في «المستخرج» من طريق خالد الواسطي، عن خالد الحذَّاء؛ وهي: (فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا عمَّار؛ ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد من الأجر»)، قاله إمام الشَّارحين، قلت: يعني: يريد الزيادة في الثواب بحمله أكثر من أصحابه، (فرآه النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ الضمير المنصوب فيه يرجع إلى عمَّار رضي الله عنه، (فينفض)؛ بالمضارع موضع الماضي؛ لاستحضار صورة النفض في نفس السامع حتَّى كأنَّه شاهده، ولابن عساكر وأبي الوقت: (فنفض)؛ بالماضي، وللأصيلي وعزاها إمام الشَّارحين للكشميهني: (فجعل ينفض) (التراب عنه)؛ أي: عن عمَّار، وزاد المصنف في (الجهاد): (عن رأسه)، وكذا هي رواية مسلم، (ويقول)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الحالة (ويح عمَّار!)؛ بفتح الحاء المهملة لا غير، يحتمل أنَّه منادى بحذف حرف النداء على حد: {يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ} [يس: 30]، و (ويح): كلمة رحمة، بخلاف (ويل)؛ فإنَّها كلمة عذاب، لكن كلام الجوهري وغيره صريح في أنَّ نصبه بفعل مقدَّر، فإنَّه قال: (تقول: ويحٌ لزيد وويلٌ له، برفعهما على الابتداء، ولك أن تقول: ويحًا لزيد وويلًا له، فتنصبهما بإضمار فعل، ولك أن تقول: ويحك وويلك، وويل زيد وويحه
%ص 626%
بالإضافة، فتنصبهما لا غير بإضمار فعل)؛ فافهم، (تقتله الفئة) أي: الجماعة (الباغية)؛ أي: المخالفة للإمام بتأويل، الخارجة عن طاعته بتأويل باطن ظنًّا وبمتبوع مطاع، قيل: هم الشاميون أصحاب معاوية رضي الله عنه الذين قتلوه في وقعة صفين (يدعوهم إلى الجنة)؛ أي: يدعو عمَّارٌ الفئة الباغية إلى سبب دخول الجنَّة؛ وهو إطاعة الإمام الواجب اتِّباعه؛ وهو علي بن أبي طالب، وأعيد الضمير إليهم وهم غير مذكورين صريحًا (ويدعونه إلى النار)؛ أي: تدعوا هؤلاء الفئة الباغية عمَّارًا إلى النار؛ أي: إلى سبب دخولها، فإنَّ الطاعة سبب دخول الجنَّة، كما أنَّ المعصية سبب دخول النار؛ وهي المخالفة، لكنَّهم معذورون؛ لتأويلهم الذي ظهر لهم، وسقط في رواية الأكثرين: (تقتله الفئة الباغية)، فأشكل عليها مرجع الضمير في (يدعوهم)، فإنَّه أعيد الضمير عليهم مع أنَّهم غير مذكورين صريحًا، لكن ثبت في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما هذه الزيادة، وكذلك ثبتت في نسخة الصغاني المقابلة على نسخة الفربري التي بخطه، ولهذا أثبتُّها تبعًا لإمام الشَّارحين.
ثم قال: (فإن قلت: كان قتل عمَّار بصفين، وكان مع علي بن أبي طالب، وكان الذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز أن يدعونه إلى النار؟! وأجاب ابن بطال فقال: «إنما يصح هذا في الخوارج الذين بَعَثَ إليهم عليٌّ عمَّارًا يدعوهم إلى الجماعة، وليس يصح في أحد من الصحابة؛ لأنَّه لا يجوز أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل»).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (تبع ابن بطَّال في ذلك المهلَّب، وتابعه على ذلك جماعة في هذا الجواب، ولكن لا يصحُّ هذا الجواب؛ لأنَّ الخوارج إنَّما خرجوا على علي بن أبي طالب بعد قتال عمَّار بلا خلاف بين أهل العلم بذلك؛ لأنَّ ابتداء أمرهم كان عقيب التحكيم بين علي ومعاوية، ولم يكن التحكيم إلا بعد انتهاء القتال بصفِّين، وكان قتل عمَّار قبل ذلك قطعًا) انتهى.
ويقال أيضًا: إنَّ المبعوث إليهم عمَّار إنَّما هم أهل الكوفة ليستنفرهم [1] على قتال عائشة ومن معها في وقعة الجمل، وكان فيهم من الصحابة كثيرون.
وزعم ابن حجر فأجاب: بأن المراد بالذين يدعونه إلى النار: كفار قريش.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (وهذا لا يصح؛ لأنَّه وقع في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما زيادة توضح بأن الضمير يعود على قتلة عمَّار، وهم أهل الشام).
قال الحميدي: لعل هذه الزيادة لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها عمدًا، ولم يذكرها في «الجمع بين الصحيحين»، قال: وقد أخرجها الإسماعيلي، والبرقاني في هذا الحديث، انتهى.
ثم قال إمام الشَّارحين: (والجواب الصحيح في هذا أنَّهم كانوا مجتهدين ظانين أنَّهم يدعونه إلى الجنَّة، وإن كان في نفس الأمر خلاف ذلك، فلا لوم عليهم في اتِّباع ظنونهم، فإن قلت: المجتهد إذا أصاب؛ فله أجران، وإذا أخطأ؛ فله أجر، فكيف الأمر ههنا؟ قلت: الذي قلنا جواب إقناعي فلا يليق أن يذكر في حق الصحابة خلاف ذلك؛ لأنَّ الله أثنى عليهم وشهد لهم بالخيرية والفضل بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال المفسرون: هم أصحاب النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم) انتهى.
قلت: ويؤيده قوله عليه السَّلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، ولأن معاوية رضي الله عنه كان أمين الوحي وكاتبه، وثبت أنه عليه السَّلام قال له: «إذا ولِّيت؛ فاعدل»، فلهذا طلب الولاية لنفسه؛ حيث إنَّه بشَّره عليه السَّلام بها، فلا تغتر بقول الزنادقة الملحدين الذين يقذفون في حق معاوية رضي الله عنه، فهو بريء مما قالوا، فلو أنفق أَحَدٌ مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ فضلهم، كما صرح به الحديث وتمامه في «شرح الشفا» لمنلا علي القاري قُدِّس سره.
قال الحميدي: ويظهر لي أنَّ البخاري حذف هذه الزيادة وهي: «تقتله الفئة الباغية»؛ لنكتة، وهي أن أبا سعيد اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فدل على أنَّها في هذه الرواية مدرجة، والرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري، وأخرجها البزار بسنده إلى أبي سعيد، لكن فيه: قال أبو سعيد: فحدثني أصحابي ولم أسمعه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «يا ابن سميَّة؛ تقتلك الفئة الباغية»، وقد عين أبو سعيد من حدَّثه بذلك؛ ففي «مسلم» و «النسائي» عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني أبو قتادة، فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد منه عليه السَّلام دون غيره.
(قال) أي: أبو سعيد: (يقول عمَّار: أعوذ بالله من الفِتن)؛ بكسر الفاء، جمع فِتنة؛ بكسرها أيضًا، وهي الامتحان والاختبار كقوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، يقال: افتتن الرجل؛ إذا أصابته فتنة، فذهب عقله أو ماله؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: أنَّ التعاون في بنيان المسجد من أفضل الأعمال؛ لأنَّه مما يجري للإنسان أجره بعد مماته، ومثل ذلك حفر الآبار، وكري الأنهار، وتحبيس الأموال التي يعم العامة نفعها.
وفيه: الحث على أخذ العلم من كل أحد وإن كان الآخذ أفضل من المأخوذ منه، ألا ترى أن ابن عبَّاس مع سعة علمه أمر ابنه عليًّا بالأخذ عن أبي سعيد الخدري؟ قيل: يحتمل أن يكون إرسال ابن عبَّاس إليه؛ لطلب علو الإسناد؛ لأنَّ أبا سعيد أقدم صحبة وأكثر سماعًا من النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، قلت: ومع هذا لا ينافي ذلك ما ذكرناه.
وفيه: أنَّ العالم له أن يتهيأ للحديث، ويجلس له تعظيمًا.
وفيه: ترك التحديث في حالة المهنة؛ إعظامًا للحديث وتوقيرًا لصاحبه، وهكذا كان السلف.
وفيه: أن للإنسان أن يأخذ من أفعال البِر ما يشق عليه إن شاء كما أخذ عمَّار لبنتين.
وفيه: إكرام العامل في سبيل الله والإحسان إليه بالفعل والقول.
وفيه: علامة النبوة؛ لأنَّه عليه السَّلام أخبر بما يكون، فكان كما قال.
وفيه: إصلاح الشخص ما يتعلق بأمر دنياه، كإصلاح بستانه وكَرْمِه بنفسه، وأنَّه كان السلف على ذلك؛ لأنَّ فيه إظهار التواضع ودفع الكبر، وهما من أفضل الأعمال الصالحة.
%ص 627%
وفيه: فضيلة ظاهرة لعليٍّ وعمَّار رضي الله عنهما.
وفيه: ردٌّ على النواصب الزاعمين أن عليًّا لم يكن مصيبًا على حروبه.
وفيه: استحباب الاستعاذة من الفتن؛ لأنَّه لا يدري أحد في الفتنة أمأجور أم مأزور؟ إلا بغلبة الظن، ولو كان مأجورًا؛ لما استعاذ عمَّار من الأجر) انتهى.
وقال ابن بطال: (وفيه: ردٌّ للحديث الشائع: «لا تستعيذوا بالله من الفتن فإنَّ فيها حصاد المنافقين»).
قال الشَّارح: (ويروى: «لا تكرهوا الفتن»، ولكن لم يصح هذا فإن عبد الله بن وهب قد سئل عن هذا فقال: إنَّه باطل) انتهى.
قلت: وقد قال غيره كالسخاوي: إنه باطل، لكن له وجه صحيحومعنى صريح: في أن وجود الفتن تجرُّ بعض المنافقين للوقوع في الهلاك، فيتخلص [2] منهم الصالحون المتقون ويستريحون من إيذائهم، وإنِّما استعاذ عمَّار؛ لأنَّه بسبب وجود الفتنة ربما الإنسان لا يصبر فيحصل له الضجر، وربما يقع في محظور وغير ذلك، أمَّا الذي يحفظ دينه وعرضه وماله؛ فهو في الفتنة مأجور؛ لأنَّها من قبيل الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (ليستفرهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (فتتخلص)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ليستفرهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (ليستفرهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/750)
(64) [باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد]
هذا (باب) حكم (الاستعانة) أي: طلب الإعانة (بالنَّجَّار)؛ بفتح النون، وتشديد الجيم على وزن «فعَّال»، وهو الذي يعمل صنعة النجارة (والصُّنَّاع)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وتشديد النون جمع: صانع، وهو من قبيل عطف العام على الخاص، قاله إمام الشَّارحين، (في أعواد المنبر والمسجد) متعلق بـ (الاستعانة)، فهو متعلق معنًى بـ (النجار والصناع)، و (المسجد): عطف على (المنبر) أو على (أعواد)، قاله الكرماني، وتبعه البرماوي، واعترضه العجلوني فقال: (عطفه على «المنبر» لا يخلو من توقف) انتهى، قلت: لا توقف فيه أصلًا، بل المعنى فيه صحيح، كما لا يخفى.
وزعم ابن حجر فيه لف ونشر، فقوله: (في أعواد المنبر) يتعلق بالنَّجار، وقوله: (والمسجد) يتعلق بـ (الصُّنَّاع)؛ أي: والاستعانة بالصُنَّاع في بناء المسجد.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (لا يصح ذلك من حيث المعنى؛ لأنَّ النَّجار داخل في الصُّنَّاع، وشرط اللف والنشر أن يكون من متعدد) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن ما ذكره ابن حجر مقابل لعطف العام على الخاص، وعليه فلا يكون النَّجار داخلًا في الصُّنَّاع، على أنَّه وإن كان داخلًا فيه؛ فالتعدد موجود، انتهى.
قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ كونه من عطف العام على الخاص يلزم عليه أن يكون النَّجار داخلًا في الصُّنَّاع؛ لأنَّ النَّجار صانع من جملة الصُّنَّاع.
وقوله: (على أنَّه ... ) إلخ: هذا تنزل في الجواب، وهو ليس بشيء أيضًا، فإن التعدد غير موجود، فإن النَّجار يقال له: صانع، وهو من جملة الصُّنَّاع؛ فإن الذي يحتاج في بناء المسجد النَّجار وغيره من الصُّنَّاع، وكذلك المنبر؛ فافهم، على أنَّه وإن كان بحسب الظاهر من اللفظ أنَّه متعدد، لكن من حيث المعنى غير متعدد، بل هو شيء واحد؛ لأنَّ لفظ (الصُّنَّاع) ومعناه واحد وتحته أفراد، وعلى كل حال فما زعمه ابن حجر والعجلوني غير صحيح، كما لا يخفى.
==================
(1/751)
[حديث: بعث رسول الله إلى امرأة أن مري غلامك النجار يعمل لي]
448# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قتيبة) زاد الأصيلي: (ابن سعِيد) بكسر العين المهملة (قال: حدثنا عبد العزيز): هو ابن أبي حازم (عن أبي حازم): هو سلمة بن دينار، ولأبوي ذر والوقت: (حدثني) بالإفراد (أبو حازم) (عن سهل): هو ابن سعْد؛ بسكون العين المهملة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه (قال: بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: أرسل (إلى امرأة): هي عائشة الأنصارية، كما صرَّح الطبراني: (أن مري غلامكِ)؛ بكسر الكاف؛ وكلمة: (أن) مفسرة بمنزلة (أي)، كما في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ} [المؤمنون: 27] ويحتمل أن تكون مصدرية؛ بأن يقدر قبلها حرف الجر، وعن الكوفيين: إنكار (أن) التفسيرية ألبتة، ويروى: (مري) بدون (أن)، و (مري): أمرٌ من (أمر يأمر)، والياء التحتية علامة الخطاب للمؤنث، كذا قرره إمام الشَّارحين، قلت: وعلى مذهب الكوفيين يتعين جعلها مصدرية، و (مري) أفصح من (اؤمري)؛ لأنَّه في ابتداء الكلام؛ فافهم.
وهذا الغلام هو مولى هذه المرأة، واسمه باقوم_بالميم_ الرومي، وقيل: باقول: باللام، فيما رواه عبد الرزاق، وقيل: قبيصة المخزومي، وقيل: مينا، وقيل: صالح مولى العبَّاس، وقيل: ميمون، كما تقدم ذلك في باب (الصلاة في السطوح والمنبر والخشب).
(يعملْ): مجزوم في جواب الأمر؛ أي: يصنع لي (أعوادًا)؛ أي: منبرًا مركبًا منها (أجلسُ عليهن)؛ بالرفع؛ أي: أنا أجلس عليها، والجملة صفة (أعوادًا) مقدرة أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
قال إمام الشَّارحين: (وههنا مسألة وهي: أنَّ الأمر بالأمر بالشيء أمرٌ بذلك الشيء أم لا؟ وهل الغلام مأمور من قبل النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أم لا؟ وفيه خلاف، والأصح عدمه) انتهى.
قلت: الأصوليون منعوا ذلك، وعليه فلا يكون النَّجار مأمورًا من جهته عليه السَّلام، ونظيره قوله عليه السَّلام: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين».
وهذا الحديث أخرجه المؤلف في (البيوع) بهذا الإسناد بتمامه، وههنا اختصره، وفيه: الاستعانة بأهل الصنعة فيما يشمل المسلمين نفعه، وفيه: التقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير، وفيه: استحباب الجلوس على شيء مرتفع لأجل الوعظ والدرس ونحوه، والله أعلم.
==========
%ص 628%
==================
(1/752)
[حديث: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه]
449# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا خَلَّاد)؛ بفتح الخاء المعجمة، وتشديد اللام: هو ابن يحيى صفوان السلمي الكوفي نزيل مكة (قال: حدثنا عبد الواحد بن أَيْمَن)؛ بفتح الهمزة، وسكون التحتية، وفتح الميم، آخره نون؛ هو الحبشي المكي القرشي المخزومي، (عن أبيه): هو أيمن المذكور (عن جابر) زاد الأصيلي: (ابن عبد الله): هو الأنصاري الصحابي رضي الله عنهما: (أن امرأة): هي عائشة الأنصارية، كما صرح بها الطبراني، وهي المذكورة في حديث سهل (قالت: يا رسول الله؛ ألا):
%ص 628%
هي مخففة مركبة من همزة الاستفهام و (لا) النافية، وليست حرف تنبيه، ولا حرف تحضيض، كذا قاله إمام الشَّارحين، قلت: فهي للعرض، (أجعل لك شيئًا) أي: منبرًا (تقعد عليه) أي: حين الخطبة (فإن لي غلامًا نَجَّارًا)؛ بفتح النون، وتشديد الجيم: صانع النِّجارة، وفي «عمدة القاري»: أن في رواية الكشميهني: (فإن لي غلامٌ نجارٌ) انتهى؛ يعني: برفع (غلام) على أن اسم (أن) ضمير الشأن، وزعم العجلوني أن في بعض نسخ القسطلاني: (فإني لي غلام)، وهي ظاهرة، قلت: جميع نسخ القسطلاني: (فإن لي) بدون تحتية، فمن أين أتى بها شيخ عجلون؟! فافهم، والمراد به: المملوك (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (إن شئتِ)؛ بكسر التاء الفوقية؛ خطاب المؤنث؛ يعني: إن شئت؛ فافعلي لي ذلك، وقال إمامنا الشَّارح: الجزاء محذوف؛ تقديره: إن شئت؛ عملت، ويروى: «إن شئت فعلت»، فلا حذف؛ فافهم، (فعملت) أي: المرأة المذكورة (المنبر)؛ أي: النبوي، وإضافة العمل إلى المرأة مجاز؛ كإضافة الجعل إليها؛ لأنَّ العامل إنَّما هو الغلام، وهي الآمرة بذلك، فالإضافة باعتبار أنَّها آمرة العامل حقيقة، فهو كقولهم: كسا الخليفة الكعبة.
فإن قلت بين هذين الحديثين تخالف؛ لأنَّه عليه السَّلام في حديث سهل سأل المرأة، وفي حديث جابر: أنَّ المرأة سألته عليه السَّلام.
قلت: لا تخالف؛ لأنَّه عليه السَّلام أرسل إلى المرأة وأمرها بأن تأمر غلامها يعمل له أعوادًا يجلس عليهن، فظنت أنَّ المراد به لأجل القعود فقط، فسألته عليه السَّلام أنَّ الغلام يجعل له أعوادًا لأجل المنبر يخطب [1] عليه، فالسؤال منها كان بيانًا لسؤاله عليه السَّلام، ويحتمل تعدد القصة؛ لأنَّ الغلام اختُلف باسمه، فيحتمل أن كل واحد منهم عمل منبرًا، ويحتمل أنَّهم اشتركوا في عمله، وسأل مولاته أن تسأله عليه السَّلام عن صفته؛ فافهم.
وأجاب ابن بطال: (بأن تكون المرأة ابتدأت بالسؤال، فلما أبطأ الغلام في عمله؛ أرسل إليها عليه السَّلام يستنجزها إتمامه؛ لعلمه بطيب نفسها بما بذلته من صنعة غلامها، ويمكن أن يكون إرساله عليه السَّلام إلى المرأة؛ ليُعرِّفها صفة ما يصنع الغلام في الأعواد) انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ المصنف أخرجه في (علامات النبوة) من هذا الوجه بلفظ: (ألا أجعل لك منبرًا)، فلعل التعريف وقع بصفة مخصوصة للمنبر، ويحتمل أنَّه لما فوَّض إليها بقوله لها: (إن شئت) كان ذلك سبب البطء، لا أنَّ الغلام كان شرع وأبطأ، ولا أنَّه جهل الصفة، وهذا أوجه الأوجه في نظري، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، فإن التعريف إنَّما وقع لأجل بيان الشيء الذي يقعد عليه وهو المنبر؛ لأنَّ قولها: (أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟) يوهم أن يكون ذلك الشيء كرسي أو تخت، وهذه الرواية عرَّفت أنَّ المراد به: المنبر.
وقوله: (وقع بصفة مخصوصة ... ) إلخ: ممنوع؛ لأنَّ المنبر ليس له أوصاف متعددة حتى يبين الصفة المخصوصة؛ بل هو معلوم بصفة واحدة؛ فافهم.
وقوله: (ويحتمل أنه لمَّا فوَّض ... ) إلخ: ممنوع أيضًا، فإنَّ قوله: (إن شئت) ذكره لأجل تطييب خاطرها تواضعًا منه ورحمة بها، مع علمه [2] بها أنها تريد خدمة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، على أنها قالت له: (ألا أجعل؟) فكانت هي السائلة لذلك، وإذا كان الأمر هكذا؛ فلا يحصل منها ولا من غلامها بطء، غاية الأمر أن غلامها قد شرع في عمل المنبر، فاشتبه عليه أنَّ المراد بذلك الشيء هل هو شيء يقعد عليه كالتخت والسرير أو المنبر؟ فأبطأ حتى استفهم عنه؛ لأنَّه كان جاهلًا تلك الصفة؛ لأنَّها لم تكن معهودة عنده، بدلالة قرينة الحال والمقال من الحديثين المذكورين؛ فافهم.
فإن قلت: حديثي الباب لا يدلان على الترجمة بتمامها، بل على الشق الأول منها، وهو الاستعانة بالنَّجار في أعواد المنبر، ولا يدلان على الشق الثاني منها، وهو الاستعانة بالصُّنَّاع في المسجد.
قلت: أجاب الكرماني: (بأنَّه إمَّا اكتفى بالنَّجار والمنبر؛ لأنَّ الباقي يعلم منه، وإمَّا أنَّه أراد أن يُلحِق إليه ما يتعلق بذلك ولم يتفق له، أو لم يثبت عنده بشرطه حديثٌ يدل عليه)، قال إمام الشَّارحين: (الجواب الأول أوجه من الثاني) انتهى.
قلت: ويحتمل أنَّه أراد أنَّ عمل المنبر يحتاج إلى الصُّنَّاع؛ لأنَّه لا بد فيه من عمل الخشب، والرفوف، والمسامير، والنجار، وكل ذلك يعمله الصُّنَّاع المتفاوتون في الصناعة؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنه أشار به إلى حديث طلق بن علي قال: بنيت المسجد مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فكان يقول: «قربوا اليمامي من الطين، فإنَّه أحسنكم له مسًّا، وأشدكم له سكبًا»، رواه أحمد، وفي لفظ له: فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: «دعوا الحنفي والطين، فإنَّه أضبطكم للطين»، ورواه ابن حبان في «صحيحه» بلفظ: فقلت: يا رسول الله أنا أنقل كما ينقلون، فقال: «لا، ولكن اخلط لهم الطين فأنت أعلم به» انتهى.
قلت: وهذا بعيد جدًّا، فإن المؤلف لم يتفق له ذكر ترجمة ويشير بها إلى حديث لم يذكره أصلًا وليس على شرطه، وهو كلام غير موجه وبعيد عن الأذهان؛ لأنَّه معيب في الصناعة، والبخاري دقيق النَّظر، وإنَّما هذا من فتور ذهن ابن حجر، فإنَّه من دأبه ذكر كلام لا طائل تحته، ولا معنى عنده، بل هو كلام من لم يشم شيئًا من رائحة العلم؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: قيل: هذا الحديث لا يدل على الاستعانة؛ لأنَّ هذه المرأة قالت ذلك من تلقاء نفسها، وأجيب: بأنَّها استعانت بالغلام في نجارته المنبر، ومن فوائد هذا الحديث: قبول البذل إذا كان بغير سؤال، واستنجاز الوعد ممن يعلم منه الإجابة، والتقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير، انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (تخطب).
[2] في الأصل: (عمله)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (تخطب).
[1] في الأصل: (تخطب).
(1/753)
(65) [باب من بنى مسجدًا]
هذا (باب) بيان فضل (من بنى) أي: الذي عمَّر (مسجدًا) لله تعالى؛ أي: تقربًا إليه، وطلبًا لثوابه، وهربًا من عقابه.
==========
%ص 629%
==================
(1/754)
[حديث: من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة]
450# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى بن سُلَيْمان)؛ بضمِّ السين المهملة، وفتح اللام، وسكون التحتية: هو ابن يحيى الجعفي المكي، المتوفى بمصر يوسف عليه السَّلام، سنة ثمان وثلاثين ومائتين (قال: حدثني) بالإفراد، ولابن عساكر: (حدثنا) بالجمع (ابن وهب)؛ مكبَّرًا: هو عبد الله المصري القرشي الثقة (قال: أخبرني) بالإفراد (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة: هو ابن الحارث
%ص 629%
أبو أمية المؤدب الأنصاري المصري الفقيه، المتوفى بمصر سنة ثمان وأربعين ومئة، المعروف: بدرة الغواص: (أَنَّ) بفتح الهمزة (بُكَيْرًا)؛ بضمِّ الموحدة، وفتح الكاف، وسكون التحتية: هو ابن عبد الله الأشج المدني، خرج قديمًا إلى مصر فنزل بها (حدثه) وللأصيلي: (أخبره)؛ أي: حدَّث عمرًا: (أَنَّ) بفتح الهمزة (عاصم بن عُمر) بضمِّ العين المهملة (بن قَتادة)؛ بفتح القاف، الأوسي الأنصاري، المتوفى بالمدينة سنة عشرين ومئة (حدثه)؛ أي: حدَّث بكيرًا: (أَنَّه) بفتح الهمزة؛ أي: عاصمًا (سمع عُبيد الله)؛ بضمِّ العين المهملة، مصغَّرًا: هو ابن الأسود الخَوْلاني؛ بفتح المعجمة، وسكون الواو، وبالنون؛ نسبة إلى خولان قبيلة، وهو ربيب ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنهما: (أنه سمع عثمان بن عفان)؛ بمنع الأول، وصرف الثاني، وقال في «القاموس»: («عفان» كشدَّاد، اسم ويصرف) انتهى، ولك أن تأخذه من العفِّ، فتمنعه من الصرف، فتأمل.
قال إمام الشَّارحين: وفي هذا الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق واحد، وهم بكير وعاصم وعبيد الله، وفيه ثلاثة من أول الإسناد مصريون، وثلاثة في آخره مدنيون، وفي وسطه مدني سكن مصر؛ وهو بكير، انتهى.
(يقول): جملة محلها نصب؛ لأنَّها وقعت حالًا من عثمان رضي الله عنه (عند قول الناس فيه)؛ أي: في عثمان رضي الله عنه، وذلك أن بعضهم أنكروا عليه عند تغييره بناء المسجد، وجعله بالحجارة المنقوشة والقصة، وتسقيفه بالساج، ووقع بيان ذلك عند مسلم؛ حيث أخرجه من طريق محمود بن لبيد الأنصاري_ وهو من صغار الصحابة_ قال: (لمَّا أراد عثمان بناء المسجد؛ كره الناس ذلك، وأحبوا أن يَدَعوه على هيئته)؛ أي: في عهد النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وكان ذلك سنة ثلاثين على المشهور، وقيل: في آخر سنة خلافته، ففي كتاب «السر» عن ابن وهب: أخبرني مالك: أنَّ كعب الأحبار كان يقول عند بناء عثمان المسجد: (لوددت أنَّ هذا المسجد لا ينجز، فإنَّه إذا فرغ من بنائه؛ قُتل عثمان)، قال مالك: (فكان كذلك) انتهى.
وجمع ابن حجر بين القولين: بأن الأول كان تاريخ ابتدائه، والثاني كان تاريخ انتهائه. انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ المدة بينهما كثيرة، فإن القول الثاني شاذ، وإن أول خلافته كانت سنة ثلاث وعشرين، ووفاته كانت سنة خمس وثلاثين؛ فافهم.
(حين بنى) أي: أمر ببنائه (مسجد الرسول)، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني والحموي: (مسجد رسول الله)، وفي رواية: (مسجد النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: بنى جداره بحجارة منقوشة وبالقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج، كما بينته رواية ابن عمر في باب (بنيان المسجد)، كما مر، وكذلك رواية مسلم السابقة.
قال إمام الشَّارحين: (ولم يبن عثمان المسجد إنشاء، وإنما وسَّعه)، وقال البغوي: (لعل الذي كره الصحابة من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة لا مجرد توسعته) انتهى، قلت: وهو كذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: (مسجدي هذا مسجد، ولو مد إلى صنعاء)، كما سيأتي في «الصحيح»، ولأن زخرفة المساجد غير مطلوبة، وروى ابن خزيمة في «صحيحه» عن أنس مرفوعًا: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يأتي على النَّاس زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا»، وروى أبو داود عن أنس أنَّه عليه السَّلام قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى النَّاس في المساجد»، وأخرجه النسائي وابن ماجه، وروى أبو داود عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما أُمرت بتشييد المساجد»، قال ابن عبَّاس: (لتزخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى)، كما قدمناه.
وزعم ابن حجر أنه يؤخذ منه: إطلاق البناء في حق من جدد، كما يطلق في حق من أنشأ، أو المراد بـ (المسجد) هنا: بعض المسجد من إطلاق الكل على البعض، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (ذكر هذا القائل شيئين: الأول: مستغنًى عنه فلا حاجة إلى ذكره، والثاني: لا يصح؛ لأنَّه ذكر في «باب بنيان المسجد» حديث عبد الله بن عمر، وفيه: «ثم غيَّره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج» انتهى، فهذا يدلُّ على أنَّه غيَّر الكل وزاد فيه؛ يعني: في الطول والعرض، وكان المسجد مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النَّخل، وبناه عثمان بالحجارة، وجعل عمده من الحجارة، وسقفه بالساج، فكيف يقول هذا القائل: «أو المراد بالمسجد هنا: بعضه»، فهذا كلام من لم يتأمل ويتصرف من غير وجه) انتهى كلام إمامنا الشَّارح.
وقوله: (إنكم أكثرتم): مقول لقوله: (يقول) ومفعوله محذوف؛ للعلم به، والتقدير: إنكم أكثرتم الكلام في الإنكار على ما فعلته، (وإني سمعت النبي) الأعظم، ولأبوي ذر والوقت: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وقوله: (يقول) جملة محلها نصب على الحال أو مفعول ثانٍلـ (سمعت) على القولين المشهورين: (من بنى مسجدًا) التنوين فيه للشيوع، فيتناول من بنى مسجدًا صغيرًا أو كبيرًا، يدل عليه حديث أنس بن مالك أخرجه الترمذي مرفوعًا: «من بنى لله مسجدًا صغيرًا كان أو كبيرًا؛ بنى الله له بيتًا في الجنة»، وروى ابن أبي شيبة حديث الباب عن عثمان من وجه آخر، وزاد فيه: (ولو كمفحص قطاة)، وروى مسلم عن ابن عبَّاس مثله، وزاد فيه: (ولو كمفحص قطاة)، وروى ابن خزيمة عن جابر مرفوعًا: «من حفر ماء لم يشرب منه كبد حي من جن ولا أنسولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجدًا كمفحص قطاة أو أصغر؛ بنى الله له بيتًا في الجنة».
وللعلماء في توجيه هذا قولان؛ فقال أكثرهم: هذا محمول
%ص 630%
على المبالغة؛ لأنَّ المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع فيه بيضها وترقد عليه، لا يكفي مقداره للصلاة فيه، ويؤيده حديث جابر الذي ذكرناه، وقال آخرون: هو على ظاهره، والمعنى على هذا: أن يزيد في مسجد قدرًا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد، فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر.
قيل: هذا كله بناءًا [1] على أنَّ المراد بالمسجد ما يتبادر إليه الذهن؛ وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد: موضع السجود؛ وهو ما يسع الجبهة؛ فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر.
قلت: قوله (من بنى) يقتضي وجود بناء على الحقيقة مشتمل على المسجد المعهود بين الناس، ويؤيد ذلك حديث أم حبيبة عند الطبراني في «الأوسط» مرفوعًا: «من بنى لله بيتًا»، وحديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «من بنى مسجدًا لله؛ بنى الله له بيتًا في الجنة»، رواه الطبراني في «معجمه»، وفي لفظ: «من بنى مسجدًا يذكر فيه اسم الله»، وكل ذلك يدل على أنَّ المراد بالمسجد: هو المكان المتخذ لا موضع السجود فقط، وهو الذي ذهب إليه الفرقة الأولى، ولكن لا يمنع إرادة موضع السجود مجازًا، فيدخل فيه المواضع المحوطة إلى جهة القبلة، وفيها هيئة المحراب في طرقات المسافرين والحال أنها ليست كالمساجد المبنية بالجدران والسقوف، وربما يجعل منها موضع في غاية الصغر، يدل عليه حديث أبي قرصافة عند الطبراني في «الكبير»: أنه سمع النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها، فمن بنى مسجدًا لله؛ بنى الله له بيتًا في الجنة»، قال رجل: يا رسول الله؛ وهذه المساجد التي تبنى في الطريق؟ قال: «نعم، وإخراج القمامة منها مهور الحور العين»، واسم أبي قرصافة: جندرة بن خيشنة، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري» رحمه الباري.
قلت: ويدل لما قاله إمامنا الشَّارح حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: «من بنى مسجدًا يصلى فيه؛ بنى الله له بيتًا في الجنة أفضل منه»، رواه الطبراني في «معجمه الكبير»، وهو يدل على أنَّ المراد بالمسجد: المسجد المعهود بين الناس؛ فافهم.
ويشترط أن يكون البناء من المال الحلال؛ لأنَّ المسجد قربة إلى الله تعالى، والمال الحرام لا يتقرب به، ولا يحصل له هذا الثواب المخصوص إلا إذا كان من الحلال، يدل عليه حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من بنى بيتًا يعبد الله فيه حلالًا؛ بنى الله له بيتًا في الجنة من الدُّر والياقوت»، رواه البيهقي في «الشعب» والطبراني في «الأوسط»، وحديث أنس مرفوعًا: «كل بناء وَبَاله على صاحبه يوم القيامة إلا المسجد؛ فإنَّ له به قصرًا في الجنَّة من لؤلؤ»، رواه أبو نعيم، وهذا يدل على أنَّ المسجد الذي يكون عليه هذا الأجر هو من بُني من المال الحلال، أما الذي بُني من أموال الناس، كبعض المساجد والمدارس في ديارنا الشامية؛ بنتها الوزراء؛ فهي عليهم وزر، ولا يثابون عليها، ولهذا تراها مظلمة مأوى غير أهلها؛ فافهم.
و (المَفحَص): بفتح الميم والحاء المهملة كـ (مقعَد)، هو مجثمها؛ لتضع فيه بيضها وترقد عليه، كأنها تفحص عنه التراب؛ أي: تكشفه، والفحص: البحث والكشف.
(قال بكير) هو ابن عبد الله الأشج المذكور: (وحسبت) أي: ظننت (أنَّه) أي: عاصمًا شيخه الذي روى عنه هذا الحديث (قال) في روايته: (يبتغي)؛ أي: يطلب (به)؛ أي: ببنائه المسجد (وجه الله) تعالى؛ أي: ذاته.
قال إمام الشَّارحين: وهذه الجملة مدرجة معترضة، وقعت في البين ولم يجزم بها بكير، فلذلك ذكرها بالحسبان، وليست هذه الجملة في رواية جميع من روى هذا الحديث، فإن لفظهم فيه: «من بنى لله مسجدًا، بنى الله له مثله في الجنة»، فكأن بكيرًا نسي لفظة «لله» فذكرها بالمعنى، فإن معنى قوله «لله»: يبتغي به وجه الله؛ لاشتراكهما في المعنى المقصود؛ وهو الإخلاص، ثم إن لفظة «يبتغي به» على تقدير ثبوتها في كلامه عليه السَّلام؛ تكون حالًا من فاعل «من بنى»، والمراد بـ «وجه الله»: ذاته تعالى، وابتغاء وجه الله: هو الإخلاص؛ وهو أن يكون بنيَّةٍ مخلصةٍ في ذلك طلبًا لمرضات الله تعالى من دون رياء وسمعة، حتى قال ابن الجوزي: «من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه؛ كان بعيدًا من الإخلاص».
فإن قلت: فعلى هذا لا يحصل الوعد المخصوص لمن يبنيه بالأجرة؛ لعدم الإخلاص؟
قلت: الظاهر هذا، ولكنَّه يؤجر في الجملة، يدل عليه ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «إنَّ الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة؛ صانعه المحتسب في صنعته، والرامي به، والممد به»، فقوله: «المحتسب في صنعته»: هو من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعًا بذلك أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يكون إلا من المتطوع.
فإن قلت: قوله: «من بنى» حقيقته أن يباشر البناء بنفسه؛ ليحصل له الوعد المخصوص فلا يدخل فيه الأَمْرُ بذلك.
قلت: يتناول الأمرَ أيضًا بنيَّتِه، والأعمال بالنيات، لا يقال: يلزم من ذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ممتنع؛ لأنَّا نقول لا امتناع [2] فيه عند الشافعي، وأمَّا عند الأئمة الحنفية؛ فهو من باب عموم المجاز، وهو أن يحمل الكلام على معنًى مجازيٍّ يتناول الحقيقة، وهذا يسمى عموم المجاز، ولا نزاع في جواز استعمال اللفظ في معنًى مجازيٍّ يكون المعنى الحقيقي من أفراده، كاستعمال (الدابة) عرفًا فيما يدب على الأرض، ومثال ذلك: فيمن أوصى لأبناء زيد مثلًا، وله أبناء أبناء أبناء يستحق الجميع عند الإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ عملًا بعموم المجاز؛ حيث يطلق الأبناء على الفريقين) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
وزعم الكرماني أن من كتب اسمه على المسجد الذي بناه؛ يريد به: التذكير بالدعاء له؛ فإنَّه لا يكون بعيدًا من الإخلاص.
قلت: وكأنه مراده الاعتراض على ابن الجوزي فيما ذكره قريبًا، ولا ريب أنَّه بعيد عن الإخلاص؛ لأنَّه وإن كان مراده التذكير بالدعاء له، لكنه مشوب بالرياء والسمعة، والإخلاص: هو الخالي عن الرياء والسمعة، وليس هذا منه؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنه يدخل في بناء المسجد من حوَّط بقعة من الأرض مسجدًا، أو وقف بناء كان يملكه مسجدًا، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، وهو مشتمل على شيئين؛ الأول: أنه من حوَّط بقعة من الأرض مسجدًا، وهذا لا يسمى مسجدًا؛ لأنَّ التحويط لا يقال له: بناء، ولأن المراد من المسجد: هو الذي يبقى مسجدًا إلى يوم القيامة، أما هذا؛ فهو قريب التغيير، ولا يعلم أنه مسجد؛ لأنَّ الذي يعلم أنه مسجد هو ما يبنى مسجدًا ويجعل له محراب وغيره من صفة المساجد، والثاني: أنَّه من وَقف بناء كان يملكه مسجدًا، وهذا أيضًا لا يسمى مسجدًا؛ لأنَّ المراد بالبناء مسجدًا: البناء قصدًا لجعله مسجدًا، أما هذا؛ فهو ليس مراده ببنائه مسجدًا؛ بل إنَّما عرض له أن يجعله مسجدًا، وهو وإن كان له ثواب في الجملة، لكن ليس كالثواب الموعود به المخصوص، فإن الأحاديث تدل على أنَّ المراد به: البناء قصدًا، ودلت أيضًا على أنَّ المراد بـ (المسجد):
%ص 631%
المسجد المعهود عند الناس، فالأرض المحوطة ليست مسجدًا داخلة في بناء المسجد؛ لأنَّها تقبل التغيير، كما لا يخفى؛ فافهم.
وقوله: (بنى الله له مثلَه في الجنة): جواب الشرط، وإسناد البناء إلى الله مجاز اتفاقًا قطعًا، وإنما أظهر الفاعل فيه؛ لأنَّ في تكرار اسمه تعظيم له، وتلذُّذ للذاكر كقوله:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كرَّرته يتضرَّع
قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن حجر: لئلا تتنافر الضمائر أو يتوهَّم عوده على باني المسجد.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (كلا الوجهين غير صحيح، أمَّا الأول؛ فلأنَّ التنافر إنَّما يكون إذا كانت الضمائر كثيرة، وليس هنا كذلك، وأمَّا الثاني؛ فممنوع قطعًا؛ للقرينة الحالية والمقالية) انتهى.
و (مثلَه): منصوب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: بناءً مثلَه في الجنة، متعلِّق بمحذوف وقع صفة لـ (مثله)، والتقدير: بنى الله له مثله كائنًا في الجنة.
وزعم ابن حجر أنَّه متعلق بـ (بنى) أو هو حال من مثله.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (ليس كذلك، وكيف يكون حالًا من مثله، وشرط الحال أن يكون من معرفة، كما عرف في موضعه، ولفظة «مثل» لا تتعرف وإن أضيفت [3]) انتهى.
واعترضه العجلوني، فزعم أنَّ (مثل) يتخصص، وهو كافٍ في مجيء الحال منه.
قلت: وهو فاسد؛ لأنَّ النحاة نصُّوا على أن (مثل) لا يتعرف، وإن أضيف فهو على التنكير أبدًا، ولم ينصَّ أحد على أنَّه يتخصَّص، ولا على أنَّه كافٍ، فهو قول لا دليل عليه؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (و «المثل» في اللغة: الشبه، يقال: هذا الشيء على مثل هذا؛ أي: شبهه، وقال الجوهري: «مثل»: كلمة تسوية، يقال: هذا مِثله؛ بكسر الميم، ومَثله؛ بفتحها، كما يقال: شِبهه؛ بالكسر، وشَبهه؛ بالفتح، وعند أهل المعقول المماثلة بين الشيئين: هو الاتحاد في النوع، كاتحاد زيد وعمرو في الإنسانية، وإذا كان في الجنس يسمى مجانسة، كاتحاد الإنسان مع الفرس في الحيوانية.
وقد اختلفوا في المراد بالمثلية ههنا؛ فقال قوم_ منهم ابن العربي_: يعني مثله في القدر والمساحة، قلت: يردُّ هذا حديث عبد الله بن عمرو عند أبي نعيم الأصبهاني بلفظ: «بنى الله له بيتًا أوسع منه»، ورواه الإمام أحمد أيضًا، وكذلك في حديث أسماء وأبي أمامة عند الطبراني وأبي نعيم، وقال قوم: يعني مثله في الجودة، والحصانة، وطول البقاء، قلت: هذا ليس بشيء على ما لا يخفى، مع أنَّه قد ورد في حديث واثلة بن الأسقع عند أحمد والطبراني: «بنى الله له بيتًا في الجنة أفضل منه») انتهى كلام إمام الشَّارحين.
وقال صاحب «المفهم»: (هذه المثلية ليست على ظاهرها، وإنَّما يعني أنَّه يبني له بثوابه بيتًا أشرف وأعظم وأرفع منه).
وقال النووي: (يحتمل قوله: «مثله» أمرين؛ أحدهما: أن يكون معناه: بنى الله له مثله في مسمى البيت، وأمَّا صفته في السعة وغيرها، فمعلوم فضلها؛ فإنَّها «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، والثاني: أنَّ معناه: أنَّ فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا) انتهى.
واعترضه إمام الشَّارحين، فقال: (الوجه الثاني لا يخلوعن بُعد) انتهى.
قلت: يعني: أنَّ الوجه الأول له وجه، وأما الثاني؛ فليس له وجه صحيح؛ لأنَّ البيوت في الجنة تشمل بيوت الأنبياء، والأصحاب، والأولياء، والمجتهدين، والصديقين، فمن بنى مسجدًا لله تعالى؛ لا يسع أحدًا أن يقول: بنى الله له بيتًا مثل بيوت الأنبياء أو أفضل منها، وما هذا إلا قول صادر من غير تأمل، ولا تصرف كما لا يخفى، فقد ورد في «الصحيح»: أنَّ من أنفق مثل أُحد ذهبًا ما بلغ فضل أصحابه عليه السَّلام؛ فكيف يبلغ ببنائه المسجد بيتًا أفضل من بيته عليه السَّلام في الجنة، فهذا قول غير صحيح أصلًا، كما لا يخفى.
وقال بعض شرَّاح «الترمذي»: ويحتمل أنَّه أراد أن ينبِّه بقوله: (مثله) على الحض على المبالغة في إرادة الانتفاع به في الدنيا، في كونه ينفع المصلين ويكنُّهم عن الحر والبرد، ويكون في مكان يحتاج إليه ويكثر الانتفاع به؛ ليقابل الانتفاع به في الدنيا انتفاعه هو بما يبنى له في الجنة.
وقال صاحب «المفهم»: (هذا البيت _والله أعلم_ مثل بيت خديجة رضي الله عنها الذي بُشرت به «ببيت في الجنة من قصب»؛ يريد: من قصب الزمرد والياقوت).
واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (قد ذكرنا حديث أبي هريرة عند الطبراني في «الأوسط» والبيهقي في «شعب الإيمان»: «بنى الله له بيتًا في الجنة من در وياقوت») انتهى، قلت: يعني: فلا خصوصية لبيت خديجة، بل هو عام لكل من بنى لله مسجدًا، ويدل على العموم حديث أنس عند أبي نعيم: «كل بناء وباله على صاحبه يوم القيامة إلا المسجد؛ فإن له به قصرًا في الجنة من لؤلؤ»، ومثله حديث ابن عبَّاس عند أبي مسلم الكجي، فهو يدل على أن ذلك عام، وإفادة هذه الرواية أنَّ المثل المراد به: القصر؛ لأنَّه ينتفع به أكثر؛ لأنَّه يطلُّ على أنهار الجنة وثمارها، وغير ذلك من أنواع النعيم.
وقال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فما معنى التقييد بـ «مثله»؟
قلت: أجابوا عن هذا بوجوه؛ الأول: ما قاله بعضهم أنه عليه السَّلام قاله قبل نزول هذه الآية، قلت: وهذا بعيد ولا يعلم ذلك إلا بالتأريخ، الثاني: أنَّ المثليَّة إنَّما هي بحسب الكميَّة، والزيادة تحصل بحسب الكيفية، قلت: المثلية بحسب الكمية تسمى مساواة؛ كاتحاد مقدار مع آخر في القدر، وفي الكيفية تسمى مشابهة، الثالث: أن التقييد به لا ينفي الزيادة، واستبعده بعضهم، وليس ببعيد، الرابع: أن المقصود منه بيان المماثلة في أن أجزاء هذه الحسنة من جنس العمل لا من غيره، وعندي جواب آخر فتح لي به من الأنوار الإلهية؛ وهو أنَّ المجازاة بالمثل عدلٌ منه، والزيادة عليه بحسب الكيفية والكمية فضلٌ منه) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) ابن حجر العسقلاني، فإنَّه قد ذكر هذا الجواب في «شرحه»، وهو غير صحيح؛ لأنَّه إنَّما يعلم ذلك بثبوت التاريخ، ولم يوجد، فهو قول بالرأي، والجواب الثالث: قاله الكرماني أيضًا، وهو صحيح؛ لأنَّ القاعدة أنَّ التنصيص على عدد لا ينفي الزيادة عليه، وهو قول المحققين، فكيف يقول ابن حجر: (وهو بعيد)، والظاهر أنَّ معناه بعيد عن فهمه لا عن فهم غيره؛ فافهم، والذي أجاب به إمامنا الشَّارح هو الصواب، ويكون المعنى فيه: بنى الله له عشرة أبنية مثله بحكم الفضل وأوسع بما «لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، وإن كان الأصل أن يكون واحدًا بحكم العدل، وفضل الله أوسع.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ لأنَّ الباب معقود في بيان فضل من بنى المسجد؛ ففيه دليل على استحباب بناء المساجد؛ لأنَّها بيوت الله تعالى وقد أضافها تعالى لنفسه بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ ... } الآية [التوبة: 18]، وحسبك بهذا شرفًا لها، وقد تفضَّل الله على بانيها بأن له بيتًا في الجنة، وثواب المسجد جارٍ مستمرٌّ لمن بناه في حياته وبعد مماته ما دامت السماوات والأرض؛ لأنَّه مسجد إلى يوم القيامة ولو خرب ودثر؛ لأنَّ مراد الواقف الدوام والاستمرار، وزعم ابن بطال أنه إذا خرب ولم يذكر الله فيه؛ لا يكون له ثوابه، وهو ممنوع، فإن الثواب حاصل له مطلقًا؛ لأنَّه مسجد ولو صار
%ص 632%
كومًا من تراب؛ فافهم.
وفي الآية دليل على أنَّ الباني يختم له بالإيمان، وفي الحديث دليل على أنَّ الباني يدخل الجنة؛ لأنَّ المراد بالبناء له أن يسكنه فيه، وهو لا يكون إلا بعد دخول الجنة، رزقنا الله ذلك بفضله.
ومما يدل على فضل المسجد، ما رواه أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب «العلل» من حديث معاذ مرفوعًا: «من بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له بيتًا في الجنة، ومن علَّق فيه قنديلًا؛ صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يطفئ ذلك القنديل، ومن بسط فيه حصيرًا؛ صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يتقطع ذلك الحصير، ومن أخرج منه قذاة؛ كان له كِفلان من الأجر»، قال إمام الشَّارحين: (وفيه كلام كثير) انتهى، قال العجلوني: (ولينظر هل المراد الطعن فيه أم لا؟) انتهى، قلت: لا محل للطعن هنا؛ لأنَّ المقام في فضائل الأعمال، وهو يعمل فيه بالحديث الضعيف، ولكن مراده: أنَّ الأحاديث الواردة في فضل المساجد كثيرة، واقتصر على ما ذكره منها مع أنه _رحمه الله_ قد أطال في شرحه «عمدة القاري»، وأخرج حديث الباب عن ثلاثة وعشرين صحابيًّا؛ فارجع إليه إن شئت، وقد خفي هذا على العجلوني وغيره ممن تصدر لشرح «الصحيح»؛ فافهم، {وفوق كل ذي علم عليم}.
==================
[1] في الأصل: (بناء)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (لامتناع)، وليس بصحيح.
(1/755)
(66) [باب يأخذ بنصول النبل إذا مر في المسجد]
هذا (بابٌ) _بالتنوين_ ثابت عند الأكثرين، ساقط عند الأصيلي (يأخذ) أي: شخص (بنصول النبل) كذا في رواية الأكثرين، ولابن عساكر: (يأخذ بنصال النبل) بالموحدة فيهما، ولأبي ذر: (يأخذ نصول النبل) بحذف الموحدة.
و (النصول): جمع نصل، ويجمع أيضًا على نصال، كما في لفظ حديث الباب، وقال الجوهري: (النصل: نصل السهم والسيف والرمح، والجمع نصول ونصال)، وقال في «القاموس»: (النصل والنصلان: حديدة السهم والرمح والسيف ما لم يكن مقبض، والجمع: أنصل ونصال ونصول).
و (النَّبْل)؛ بفتح النون، وسكون الموحدة، آخره لام: السهام العربية، مؤنثة، ولا واحد لها من لفظها، وفي «القاموس»: (النَّبل: السهام بلا واحد أو نبلة، والجمع: أنبال ونبال ونبلان، والنَّبَّال: صاحبه وصانعه؛ كالنَّابل، وحرفته النبالة) انتهى.
وقوله: (إذا مر في المسجد) يجوز في (إذا) أن تكون لمجرد الظرفية متعلقة بـ (يأخذ)، وأن تكون شرطية وجوابها محذوف مقدَّر بـ (يأخذ بنصول النبل)؛ لدلالة (يأخذ) المتقدم عليه.
وقال إمام الشَّارحين: (وجواب «إذا»: هو قوله «يأخذ» مقدمًا)، واعترضه العجلوني بأنَّه ضعيف مذهب للكوفيين، أو مقدر بيستحب لمن معه نبل أن يأخذ بنصولها.
قلت: كونه ضعيفًا ممنوع؛ لأنَّه مذهب مستقل صحيح للأئمة الكوفيين، ولم ينص أحد على ضعفه من النحاة في هذه المسألة، وقوله: (أو مقدر ... ) إلخ؛ لا يلزم هذا التقدير؛ لأنَّ المعنى على عدمه صحيح، وإذا وجد التقدير وعدمه؛ فعدمه أولى عند المحققين فإن عادة المؤلف إطلاق تراجمه، وإحالة الحكم على الحديث الذي يذكر بعدها؛ فافهم.
نعم؛ يقدر الحكم المطلق ويحال بيانه على الحديث، ولهذا قال إمام الشَّارحين: (هذا باب فيه بيان أنَّ الشخص يأخذ بنصول السهم إذا مرَّ في مسجد من المساجد، وإنما قدَّرنا هكذا؛ لئلا يقع لفظ: «باب» ضائعًا، وأيضًا فيه بيان أنَّ الضمير المرفوع في «يأخذ» يرجع إلى هذا المقدر؛ لئلا يكون إضمارًا قبل الذكر، وليلتئم التركيب، ولم أر أحدًا من الشراح يذكر شيئًا في مثل هذه المواضع، مع أن فيهم من يدعي دعاوى عريضة في هذا الباب، وليس له حظٌّ من هذه الدقائق) انتهى.
قلت: فأفاد أن ذكر الشخص مقدمًا على (يأخذ) أولى؛ لأنَّ فيه التئام [1] الباب معه، وعليه فلا يحتاج لتقدير في لفظ (باب)، وهذا معنى صحيح، وأفاد أيضًا: أنَّ الضمير في (يأخذ) يرجع على الشخص المدلول عليه: بـ (يأخذ)، أو مر عليه أو لاختصاره، ولا ريب أن هذه دقائق وحقائق من المعاني المفردة، وبهذا ظهر أن تقدير إمام الشَّارحين أولى من تقدير العجلوني، على أنه قد أخذه منه ونسبه إلى نفسه، وقال: هو أولى، وليس كذلك، فمن تأمل كلامه؛ علم أنه مأخوذ من كلام إمامنا الشَّارح، فحقيق بأن يسمى إمام الشَّارحين رضي الله عنه، ورحمه أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (ائتلام)، وهو تحريف.
%ص 633%
==================
(1/756)
[حديث: أمسك بنصالها]
451# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قُتيبة) بضمِّ القاف، زاد الأربعة: (ابن سعيد): هو ابن جميل بن طريف الثقفي البغلاني (قال: حدثنا سفيان): هو ابن عيينة الكوفي ثم المكي، فإن قلت: قد تغير حفظه وربما دلَّس؛ قلت: إنَّما تغير حفظه في آخر عمره، وإنَّما يدلِّس عن الثقات، وهذا لا يقدح فيه؛ فافهم، (قال: قلت لعَمرو)؛ بفتح العين المهملة، هو ابن دينار: (أسمعت) بهمزة الاستفهام (جابر بن عبد الله): هو ابن عمرو بن حرام_بمهملتين_ الأنصاري ثم السَّلَمي؛ بفتحتين، وقوله: (يقول) جملة محلها نصب على أنَّها حال أو مفعول ثان لـ (سمعت): (مر رجل) لم يعلم اسمه (في المسجد)؛ أي: النبوي، فـ (أل) فيه للعهد (ومعه سِهام)؛ بكسر السين المهملة: جمع سهم؛ يعني: قد أبدى وأظهر نصولها، وعند مسلم في (الأدب) من طريق أبي الزبير عن جابر: (أن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أمر رجلًا كان يتصدق بالنَّبل في المسجد ألَّا يمر بها إلا وهو آخذ بنصولها)، (فقال له) أي: للرجل (رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: حين رآه يفعل ذلك: (أمسك بنصالها)؛ أي: مخافة أن تخدش أحدًا من المسلمين، جمع (نصل)؛ وهو رأس الرمح من الحديد، ويقال لها: الحربة.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ لأنَّه عليه السَّلام أمره بإمساك النصال عند المرور في المسجد.
قال إمام الشَّارحين: (وفيه_أي الحديث_: السؤال عن السماع بطريق الاستفهام، ولم يذكر له جواب؛ يعني: لم يذكر قتيبة جواب عمرو عن الاستفهام).
قال ابن بطال: (فإن قيل: حديث جابر لا يظهر فيه الإسناد؛ لأنَّه لم يقل سفيان: إن عمرًا قال له: نعم؛ قلنا: قد ذكر البخاري في غير كتاب «الصلاة» أنه قال له: نعم؛ فبان بقوله: «نعم» إسناد الحديث).
وقال صاحب «التلويح»: (هذه المسألة اختلف فيها المحدثون؛ فمنهم من شرط النطق إذا قال له التلميذ: أخبرك فلان بكذا؟ ومنهم من لم يشترطه، وذكره البخاري في موضع آخر عن علي بن عبد الله عن سفيان فقال: نعم) انتهى.
قال إمامنا الشَّارح: (المذهب الراجح الذي عليه أكثر المحققين _منهم البخاري_ أن قول الشيخ: «نعم» لا يشترط، بل يكتفى بسكوت الشيخ إذا كان متيقظًا، فعلى هذا فالإسناد في حديث جابر ظاهر، ومع ذلك فقد جاء في رواية الأصيلي أنه قال له: «نعم»، فانقطع النزاع) انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّه لم ير هذه الزيادة في رواية الأصيلي، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (عدم رؤيته لا يستلزم عدم الرواية عنه، فإن لم يره هو، فقد حكى من هو أكبر منه أنه روى عنه لفظ: «نعم») انتهى، قلت: فمن روى هذه الزيادة وحكاها هو أكبر من ابن حجر في العلم والفضل؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين في «شرحه»: (وأخرج الطبراني في «معجمه الأوسط» من حديث أبي البلاد عن محمد بن عبد الله قال: كنَّا عند أبي سعيد الخدري، فقلب رجل نبلًا، فقال أبو سعيد: «أما كان هذا يعلم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن تقليب السلاح، وسله؟!»؛ يعني: في المسجد، وروى ابن ماجه من حديث زيد بن جبير _وهو ضعيف_ عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر يرفعه: «خصال لا تنبغي في المسجد؛ لا يتخذ طريقًا، ولا يشهر فيها سلاح، ولا يُنْبَضُ فيه بقوس،
%ص 633%
ولا ينثر فيه نبل، ولا يمرُّ فيه بلحم نيء، ولا يضرب فيه حدٌّ، ولا يقتص فيه من أحد، ولا يتخذ سوقًا»،وروي أيضًا من حديث الحارث بن نبهان؛ وهو متروك الحديث، عن عتبة بن يقظان؛ وهو غير ثقة، عن أبي سعيد؛ وهو مجهول الحال والعين، عن مكحول، عن واثلة؛ وأنكر سماعه منه ابن مسهر والحاكم، وقال البخاري في «تاريخه الأوسط» سمع منه: أنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «جنبوا مساجدنا صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلَّ سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمِّروها في الجُمَع»، وعنده أيضًا من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «نزِّهوا المساجد ولا تتخذوها طرقًا، ولا تمر فيه حائض، ولا يقعد فيه جنب إلا عابري سبيل، ولا ينثر فيه نبل، ولا يسلُّ فيه سيف، ولا يضرب فيه حد، ولا ينشد فيه شعر، فإن أنشد؛ فقل: فضَّ الله فاك».
ويستفاد من الحديث تأكيد حرمة المسلمين؛ لأنَّ المساجد مورودة بالخلق لا سيما في أوقات الصلوات، وهذا التأكيد من النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه خشي أن يؤذى بها أحد، وفيه: كريم خلقه ورأفته عليه السَّلام بالمؤمنين، وفيه: التعظيم لقليل الدم وكثيره، وفيه: أنَّ المسجد يجوز فيه إدخال السلاح) انتهى، والله أعلم.
==================
(1/757)
(67) [باب المرور في المسجد]
هذا (باب) حكم (المرور) بالنبل (في المسجد): الألف واللَّام فيه للجنس، فيشمل كلَّ مسجد، وتقدير الحكم أولى من تقدير الجواز؛ كما فعله العجلوني؛ لأنَّ الحكم أعمُّ، وإن كان المراد به الجواز؛ والتقدير: باب جواز المرور بالنبل في المسجد إذا أمسك نصالها.
قال إمام الشَّارحين: (وفي هذه التَّرجمة نوعُ قصورٍ على ما لا يخفى) انتهى، قلت: وجه القصور: أنَّ المؤلف أطلق ترجمته وكان عليه أن يقيِّدها بقوله: بابالمرور في المسجد بالنبل إذا أمسك نصالها؛ فافهم.
==========
%ص 634%
==================
(1/758)
[حديث: من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها]
452# وبالسند إلى المؤلِّف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل): هو المنقري التَّبوذكي البصري (قال: حدثنا عبد الواحد): هو ابن زياد، العبدي مولاهم، البصري (قال: حدثنا أبو بُرْدة)؛ بِضَمِّ الموحَّدة، وسكون الرَّاء: هو بُريد؛ مصغَّر بَرْد، ضدُّ الحَرِّ (بن عبد الله): هو ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي (قال) أي: أبو بردة (سمعت) جدي (أبا بردة): هو عامر، فأبو بردة الأصغر يروي عن جده أبي بردة الأكبر؛ وهو يروي (عن أبيه): هو أبو موسى، واسمه عبد الله بن قيس الأشعري الصَّحابي الجليل رضي الله عنهما.
وزعم العجلوني أنَّه وقع في القسطلاني تسمية أبي موسى بعامر، وهو سبق قلم؛ فاعرفه.
قلت: لم يسبق قلم القسطلاني إلى ذلك، وإنَّما قال: (سمعت جدي أبا بردة عامرًا عن أبيه أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس): هكذا عبارته في جميع النُّسخ، وكأنَّ العجلوني سبق قلمه إلى هذا الكلام، وهو غير صواب؛ فافهم.
(عن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنَّه (قال: من مر في شيء) أي: مسجد (من مساجدنا) أي: المسلمين (أو) مر في سوق من (أسواقنا)؛ أي: المسلمين، وهذا يدل على أنَّ المسلم إذا مر بها في كنيسة أو بيعة أو سوق كفار؛ لا يطلب منه أن يأخذ بنصالها؛ لأنَّ الكافر لا حرمة له، وقد يقال: إنَّ لهم مالنا، وعليهم ما علينا، ويمكن أن يقال: المراد من عدم الأخذ بنصالها: هو بيان استعلاء المسلمين على الكافرين، وحرمتهم عليهم، وتذكيرًا لهم بعدم المخالفة، وتنبيهًا على أنَّهم إن خالفوا؛ فدواؤهم السيف في أعناقهم؛ فليحفظ، قال إمامنا الشَّارح: (وكلمة «من» موصولة تضمنت معنى الشرط في محل رفع على الابتداء، وخبره قوله: «فليأخذ»، وكلمة «أو» للتنويع من الشَّارع، وليست للشك من الراوي) انتهى، وقوله (بنبل): متعلق بـ (مر)، والباء فيه للمصاحبة؛ ومعناه: من مر مصاحبًا للنبل، وليست الباء فيه للإلصاق؛ مثل: مررت بزيد، كذا في «عمدة القاري»، ويحتمل أن الجار والمجرور حال من ضمير قوله: (مرَّ)؛ فتأمل، و (النَّبل)؛ بفتح النُّون وسكون الموحَّدة: السهام العربية، مؤنثة لا واحد لها من لفظها، كما قدمناه، وقوله: (فليأخذ على نصالها): جواب (مَنْ) الموصولة أو خبرها، زاد الأصيلي: (بكفه)، و (على نصالها) متعلق بـ (يأخذ) لتضمنه معنى الاستعلاء للمبالغة، فعديت بـ (على)، وإلا فالوجه تعديته بالباء، ويحتمل أن (على) بمعنى الباء؛ كما هي في رواية حمَّاد بن عمرو من طريق ثابت عن أبي بردة، (لا يعقرُ)؛ أي: لا يجرح، وهو مرفوع، ويجوز الجزم نظرًا إلى أنَّه جواب الأمر، قاله إمام الشَّارحين، وجوز القسطلاني تبعًا لـ «المصابيح» جزمه بـ (لا) الناهية، والظَّاهر: أن الرواية بالرفع، ويحتمل أنها بالجزم؛ فافهم، وفي «القاموس»: (العقر: الجرحُ وأثرٌ كالحز في قوائم الفرس والإبل، والعقيرة: ما عقر من صيد أو غيره، واعتقر الظهر من الرحل والسرج) انتهى، (بكفه مسلمًا): الباء فيه تتعلق بقوله: (فليأخذ) لا بقوله: (لا يعقر)، فإن العقر بالكف لا يتصور.
ووقع في رواية الأصيلي: (فليأخذ على نصالها بكفه لا يعقر مسلمًا)، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وقال الكرماني: (يحتمل أن يراد منه: كف النفس؛ أي: لا يعقر بكفه نفسه عن الأخذ؛ أي: لا يجرح بسبب تركه أخذ النصال).
واعترضه إمام الشَّارحين، فقال: لا يبعد هذا الاحتمال، ولكن الأول راجح، ويؤيده رواية مسلم من حديث أبي أسامة: «فليمسك على نصالها بكفه أن يصيب أحدًا من المسلمين»، وله من طريق ثابت عن أبي بردة: «فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها» انتهى.
قلت: وعلى هذا يتعين المعنى الأول، ويكون هو الصَّواب، وما ذكره الكرماني بعيد عن الصَّواب، فإن الأول قد تبعه فيه صاحب «التنقيح» والقسطلاني وغيرهما، فليكن هو الصَّواب؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وجه مطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «مَن مرَّ»؛ فإنَّه صرح فيه بلفظ المرور، وجعله شرطًا، ورتَّب عليه الجزاء، وهو قوله: «فليأخذ»، فدلَّ هذا على جواز المرور في المسجد بنبل يأخذ نصالها، وبهذا التقدير: يحصل الجواب عن سؤال الكرماني حيث قال: «فإن قلت: ما وجه تخصيص هذا الحديث _يعني: حديث أبي موسى_ بهذا الباب، وتخصيص الحديث السَّابق _يعني: حديث جابر المذكور_ بالباب السَّابق مع أن كلًّا من الحديثين يدل على كل من التَّرجمتين؟»، وتقدير الجواب: هو أنَّه نظر إلى لفظ الرسول عليه السَّلام، حيث لم يكن في الأول لفظ المرور في لفظ الرسول عليه السَّلام، وفي الثاني ذكره معقودًا بالوجه الذي ذكرناه) انتهى كلام إمام الشَّارحين، وانتهت الجهالة لابن حجر، فذكر كلامًا لا يليق بهذا المقام؛ فاجتنبه.
==========
%ص 634%
==================
(1/759)
(68) [باب الشِّعر في المسجد]
هذا (باب) حكم إنشاد (الشِّعْر في المسجد)؛ بكسر [الشين المعجمة، وإسكان] العين المهملة، وهو الكلام الموزون المقفَّى، والألف واللَّام في (المسجد): للجنس، فيشمل مسجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وغيره
%ص 634%
من المساجد، قال إمام الشَّارحين: وفي بعض النُّسخ: (باب إنشاد الشعر في المسجد).
==================
(1/760)
[حديث: يا حسان أجب عن رسول الله اللهم أيده بروح القدس]
453# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو اليَمان) بفتح التحتية (الحَكَم) بفتحتين (بن نافع) هو البهراني الحمصي، وسقط للأصيلي: (أبو اليمان) (قال: أخبرنا شعيب): هو ابن أبي حمزة _بالمهملة والزاي_ الأموي، واسم أبي حمزة: دينار الحمصي (عن الزهري) هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب التَّابعي المدني (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سَلَمَة)؛ بفتحات، هو عبد الله، وقيل: إسماعيل (بن عبد الرحمن بن عوف) هو الزهري المدني؛ هكذا رواه شعيب عن الزهري بلفظ: (أخبرني أبو سلمة)، وتابعه إسحاق بن راشد عن الزهري كذلك؛ كما أخرجه النسائي، لكن أخرجه البخاري في (بدء الخلق) من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري بلفظ: (عن سعيد بن المسيب) بدل (أبي سلمة)، وتابعه معمر عند مسلم، وإبراهيم بن سعيد وإسماعيل بن أمية عند النسائي، وهذا الاختلاف غير قادح؛ لأنَّ الزهري من أصحاب الحديث، فالراجح عنده أنَّه عنهما معًا، فكان يحدث به تارة عن هذا، وتارة عن هذا، وهو لا يضر؛ لأنَّ الزهري إمام تابعي ثقة، فلا يقدح ذلك فيه؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أن في الإسناد نظر؛ لأنَّ لفظ سعيد بن المسيب: (مر عمر في المسجد وحسان ينشد الشعر فيه، فزجره، فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله ... )؛ الحديث، ورواية سعيد لهذه القصة مرسلة؛ لأنَّه لم يدرك زمن المرور.
قلت: وقد رده إمام الشَّارحين فقال: (يحتمل أن سعيدًا سمع ذلك من أبي هريرة بعد، أو من حسان، أو وقع استشهاد أبي هريرة لحسان مرة أخرى، فحضر سعيد ذلك، ويؤيده سياق حديث الباب، فإن فيه: أن أبا سلمة سمع حسانًا يستشهد أبا هريرة، وأبو سلمة لم يدرك زمن مرور عمر أيضًا، فإنَّه أصغر من سعيد، فدل ذلك على تعدد الاستشهاد، ويحتمل أن يكون التفات حسان إلى أبي هريرة واستشهاده به إنَّما وقع متأخرًا؛ لأنَّ كلمة «ثم» لا تدل على الفورية، والأصل عدم التعدد، غاية الأمر: أن يكون سعيد أرسل قصة المرور، ثم سمع بعد ذلك استشهاد حسان لأبي هريرة، وهو المقصود؛ لأنَّه المرفوع، وهو موصول بلا تردد) انتهى.
(أنه) أي: أبا سلمة (سمع حسان بن ثابت): هو ابن المنذر بن حرام؛ ضد الحلال (الأنصاري) المدني، شاعر النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، من فحول شعراء الإسلام والجاهلية، وعاش كل واحد منهم مئة وعشرين سنة، وقال أبو نعيم: لا يعرف بالعرب أربعة تناسلوا من صلب واحد، واتفقت مددأعمارهم هذا القدر غيرهم، وعاش حسان في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام كذلك، مات سنة خمسين بالمدينة.
فإن قلت: حسان منصرف أو غير منصرف؟ قلت: إن كان مشتقًا من (الحسن)؛ فهو: منصرف، وإن كان من (الحس)؛ فغير منصرف؛ فافهم كذا في «عمدة القاري».
قلت: وعلى منع الصرف يكون فيه العلمية، وزيادة الألف والنُّون، وحاصله: أنَّه يجوز فيه الصرف وعدمه على ما علمت، وقول العجلوني: يجوز في (حسان) الصرف وعدمه، ليس على إطلاقه، بل على هذا التفصيل؛ فافهم.
(يستشهد أبا هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي المدني رضي الله عنه؛ يعني: يطلب منه الشهادة، والجملة محلها النصب على الحال من (حسان).
فإن قلت: لا بد للشهادة من نصاب، فكيف يثبت غرض حسان بشهادة أبي هريرة فقط؟
قلت: أجيب بأن هذه رواية حكم شرعي، وفيها يكفي عدل واحد، وأطلق الشهادة على سبيل التجوز؛ لأنَّه في الحقيقة إخبار، فيكفي فيه عدل واحد كما بين في موضعه، قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: (فإن قلت: هذا الحديث يعد من مسند حسان، أو من مسند أبي هريرة؟
قلت: لم يذكر أبو مسعود [1] والحميدي وغيرهما أن لحسان رواية في هذا الحديث، ولا ذكروا له حديثًا مسندًا، وإنَّما أوردُوا هذا الحديث في مسند أبي هريرة، وخالف خلفٌ فذكره في مسند حسان، وأنه روى عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وذكر في مسند أبي هريرة: أن البخاري أخرجه في «الصلاة» عن أبي اليمان، وذكر ابن عساكر لحسان حديثين مسندين؛ أحدهما هذا، وذكر أنَّه في «سنن أبي داود» من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: وليس في حديثه استشهاد حسان به، وأنه في «النسائي» مرة بالاستشهاد، ومرة من حديث سعيد عن عمر بعدمه، ثم أورده في مسند أبي هريرة من طريق أبي سلمة عنه، وفي «كتاب ابن منده» من حديث عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة قال: «مرَّ عمر بحسان ... »؛ الحديث، وقال المنذري: وسعيد لم يصح سماعه من عمر، وإن كان سمع ذلك من حسان؛ فمتصل، وأخرج النسائي الحديث في «القضاء»، عن ابن بزيع، عن ابن زريع، عن شعبة، عن عدي، عن البراء بن عازب، عن حسان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهجهم أو هاجهم _يعني: المشركين_ وجبريل معك»، رواه سفيان عن شعبة، فجعله من مسند البراء بن عازب رضي الله عنه) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
(أَنشُدك اللهَ)؛ بفتح الهمزة، وضم الشين المعجمة، ونصب الجلالة؛ ومعناه: سألتك الله، قاله إمام الشَّارحين، وزعم العجلوني تبعًا لغيره أن معناه: ذكَّرتك الله، وفي رواية كما في «التنقيح»: (بالله)، قلت: أما المعنى الذي ذكره؛ فغير صحيح، وأما الرواية؛ فلم يَعزُها لأحد من الرواة، ولم يذكرها الشَّارح، ولا غيره، فالله أعلم بصحتها، وإنما كان المعنى غير صحيح؛ لما في «عمدة القاري»: (قال الجوهري: «نشدت فلانًا أنشده نشدًا: إذا قلت له: نشدتك الله؛ أي: سألتك بالله»، وقال ابن الأثير: يقال: نشدتك الله، وأنشدك الله وبالله، وناشدتك الله؛ أي: سألتك وأقسمت عليك، ونشدته نشدة ونشدانًا ومناشدة، وتعديته إلى مفعولين؛ إما لأنَّه بمنزلة «دعوت»؛ حيث قالوا: نشدتك الله وبالله؛ كما قالوا: دعوت زيدًا وبزيد، أو لأنَّهم ضمَّنوه معنى «ذكرت»، فأما أنشدتك بالله؛ فخطأ) انتهى، قلت: وبهذا ظهر أن ما قاله العجلوني تبعًا لما زعمه ابن حجر من أن النشد: التذكير [2]؛ فغير صحيح؛ لأنَّ مراد حسان: القسم والسؤال بالله على صحة كلامه، وأما التذكير؛ فهو يسبقه النِّسيان، وهو غير صحيح، كما لا يخفى؛ فافهم، ويدل عليه ما في «القاموس»: (فلان نشد؛ قال له: نشدتك الله؛ أي: سألتك بالله، وقد ناشده مناشدة ونشادًا: حلفه) انتهى، قلت: وبهذا علم أن المراد به: التحليف للمخاطب، لا التذكير؛ فليحفظ.
(هل سمعت النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) وقوله: (يقول) جملة فعلية محلها نصب على الحال، أو مفعول ثان لـ (سمعت)؛ فافهم: (يا حسان؛ أجب عن [3] رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سعيد: (أجب عني)، ومعنى الأول: أجب الكفار عن جهة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولفظ: الجهة مقدر، ويجوز أن يُضمَّن (أجب) معنى: ادفع، والمعنى: ادفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا عدَّاه بـ (عن)، وليس هو من إجابة السؤال، ولا هو منه، ويحتمل أن يكون الأصل رواية سعيد وهي: (أجب
%ص 635%
عني)، ثم نقل حسان ذلك بالمعنى، وزاد فيه لفظ: (رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ تعظيمًا له، ويحتمل أن تكون تلك لفظه عليه السَّلام بعينه؛ لأجل المهابة، وتقوية لداعي الأمور، كما قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران: 159]، وكما يقول: (الخليفة أمير المؤمنين يرسم لك)؛ لأنَّ فيه تعظيمًا له، وتقوية للمأمور ومهابة، بخلاف قوله: (أنا أرسم)، والمراد بالإجابة: الرد على الكفار الذين هجوه عليه السَّلام، وروى ابن ماجه، عن البراء بن عازب، عن حسان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهجهم أو هاجهم _يعني المشركين_ وجبريل معك»، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري»؛ فافهم، (اللهم) أي: يا الله (أيِّده)؛ بفتح الهمزة، وتشديد التحتية؛ أي: قوِّيه، قال الشَّارح: وهذا دعاء منه عليه السَّلام لحسان، دعا له بالتأييد؛ وهو القوة على الكفار (بروح القُدُس): الباء فيه تتعلق بقوله: (أيده)، والمراد به هنا: جبريل عليه السَّلام، يدل عليه ما رواه البخاري من حديث البراء بلفظ: (وجبريل معك).
و (القُدُس): بِضَمِّ القاف والدَّال؛ بمعنى: الطهر، وسمي جبريل بذلك؛ لأنَّه خلق من الطهر، وقال كعب: القدس: الرب عز وجل، ومعنى روح القدس: روح الله، وإنما سمي بالروح؛ لأنَّه يأتي بالبيان عن الله تعالى، فتحيا [4] به الأرواح، وقيل: معنى القدس: البركة، ومن أسماء الله تعالى: القدوس؛ أي: الطاهر المنزه عن العيوب، ومنه: الأرض المقدسة وبيت المقدس؛ لأنَّه الموضع الذي يُتقَدَّس فيه؛ أي: يُتطَهَّر فيه من الذنوب، كذا قاله الشَّارح.
قلت: وقيل: روح القدس: مَلَك عظيم، أعظم الملائكة خلقًا، وقيل: مَلَك أشرف الملائكة، وقيل: خلق كهيئة الناس، وقيل: أرواح بني آدم، وبيت المَقْدِس؛ يقال: بفتح الميم، وإسكان القاف، وكسر الدَّال، ويقال: بِضَمِّ الميم، وفتح القاف، وفتح الدَّال المشددة؛ لغتان مشهورتان، قال في «الصِّحاح»: بيت المقدس؛ يشدد ويخفف، والذي يفهم من كلام الجوهري وإمامنا الشَّارح أنَّه اسم ومصدر، قال أبو علي: وأما بيت المقدس؛ فلا يخلو إما أن يكون مصدرًا أو مكانًا، فإن كان مصدرًا؛ كان كقوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [يونس: 4] ونحوه من المصادر، وإن كان مكانًا؛ فالمعنى: بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة، أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره: على معنى إخلائه من الأصنام وإبعاده منها، وقال الزَّجاج: البيت المقدس؛ أي: المكان الذي يطهر فيه من الذنوب، انتهى، والله أعلم.
(قال أبو هريرة: نعم)؛ أي: سمعته يقول ذلك، بل روى الترمذي مُصححًا عن عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب لحسان منبرًا في المسجد، فيقوم عليه يهجو الكفار).
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للتَّرجمة غير ظاهرة ههنا؛ لأنَّه ليس فيه صريحًا أنَّه كان في المسجد، والتَّرجمة هو الشعر في المسجد، ولكن البخاري روى هذا الحديث في «بدء الخلق» وفيه التصريح أنَّه كان في المسجد، فقال: حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: مرَّ عمر في المسجد وحسان ينشد، فلحظ إليه، فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله؛ أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس»، قال: نعم، وهما حديث واحد، ويقال: إن الشعر المشتمل على الحق مقبول؛ بدليل دعاء النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لحسان على شعره، فإذا كان كذلك؛ لا يمنع في المسجد، كسائر الكلام المقبول، ومراد البخاري من وضع هذه التَّرجمة: هو الإشارة إلى جواز الشعر المقبول في المسجد، والحديث يدل على هذا بهذا الوجه، فيقع التطابق بين الحديث والتَّرجمة لا محالة) انتهى.
ثم قال: (ففيه الدلالة: على أنَّ الشعر الحق لا يحرم في المسجد، والذي يحرم فيه الخنا، والزور، والكلام الساقط).
وقد اختلف العلماء في جواز إنشاد الشعر مطلقًا:
فذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: لا بأس بإنشاد الشعر الذي ليس فيه هجاء، ولا نَكْتُ عِرض من المسلمين، ولا فحش، وبه قال الإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد بن الحسن، والشعبي، وابن سعد البجلي، وابن سيرين، وابن المسيب، والقاسم، والثَّوري، والأوزاعي، ومالك، والشَّافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد؛ لحديث الباب، وحديث الترمذي عن عائشة المارِّ قريبًا، وحديث ابن ماجه، عن البراء، عن حسان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهجهم أو هاجهم _يعني: المشركين_ وجبريل معك».
وذهب الحسن البصري إلى أنَّه يكره رواية الشعر وإنشاده، وبه قال: مسروق بن الأجدع، وإبراهيم النخعي، وسالم بن عبد الله، وعمرو بن شعيب؛ لما رواه ابن خزيمة في «صحيحه» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المساجد)، وحسَّنه الترمذي، والطوسي، وما رواه أبو داود عن زُفر بن وثيمة عن حكيم بن حزام مرفوعًا: (نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يستفاد في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود)، وما رواه عبد الرزاق في «مصنفه» من حديث ابن المنكدر عن أُسيد بن عبد الرحمن: أن شاعرًا جاء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد قال: أنشدك يا رسول الله؟ قال: «لا»، قال: بلى، فقال له عليه السَّلام: «فاخرج من المسجد»، فخرج، فأنشد، فأعطاه عليه السَّلام ثوبًا، وقال: «هذا بدل ما مدحت به ربك»، وما رواه الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي من حديث عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا»، ورواه البزار وابن أبي شيبة، وأخرجه المؤلف عن ابن عمر، ولما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا يريه؛ خير من أن يمتلئ شعرًا»، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجه والطَّحاوي والطَّبراني عن عوف بن مالك وأبي الدرداء.
وأجاب الجمهور: بأن حديث عمرو بن شعيب صحيفة، حتى قال ابن حزم: إنَّه لا يصح، وأما حديث حكيم بن حزام؛ فإنَّه ضعيف، كما قاله الإشبيلي، وقال ابن القطان: لم يبين أبو محمَّد من أمره شيئًا، وعلته الجهل بحال زفر؛ فلا يعرف، قلت: أما زفر؛ فإن حاله معروف، وقد وثقه عثمان الدارمي، ويحيى، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وصحح له الحاكم، وإنما العلة في حكيم بن حزام، وأما حديث أسيد؛ ففي سنده ابن أبي نجيح، شيخ الشَّافعي، وفيه كلام شديد، وهو ضعيف، فلا يعول عليه.
%ص 636%
وقالوا: إن هذه الأحاديث قد وَرَدت على خاص من الشعر، وهو أن يكون فيه فحش وخنا.
وقال أبو نعيم الأصبهاني: (نُهِي عن تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين في المسجد، فأما أشعار الإسلام والمحقين؛ فواسع غير محظور).
وقال الشعبي: (المراد من الشعر الممنوع: هو الذي هجي به النَّبي عليه السَّلام)، وقال أبو عبيد: (عندي غير ذلك؛ لأنَّ ما هجي به عليه السَّلام لو كان شطر بيت؛ لكان كفرًا، ولكن وجهه: أن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه، فيشغله عن القرآن والذكر)، قيل: فيه نظر؛ لأنَّ الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كفارًا، وهم في حال هجوهم موصوفون بالكفر من غير هجو، غاية ما في الباب قد زاد كفرهم وطغيانهم بهجوهم، والذي قاله الشعبي أوجه، وقال الإمام الطَّحاوي: (لو كان أريد بذلك ما هجي به رسول الله عليه السَّلام من الشعر؛ لم يكن لذلك الامتلاء معنًى؛ لأنَّ قليل ذلك وكثيره كفر، ولكن ذكر الامتلاء يدل على معنى في الامتلاء ليس فيما دونه، فهو على الشعر الذي يملأ الجوف فلا يكون فيه قرآن ولا ذكر ولا تسبيح ولا غيرها، فأما من كان في جوفه القرآن والشعر مع ذلك؛ فليس ممن يمتلئ جوفه شعرًا، فهو خارج من قوله عليه السَّلام: «لأن يمتلئ جوف أحدكم ... »؛ الحديث).
وقال أبو عبد الملك: (كان حسان ينشد الشعر في المسجد في أول الإسلام، وكذا لعب الحبش [5]، وكان المشركون إذ ذاك يدخلون المسجد، فلما كمل الإسلام؛ زال ذلك كله)، قلت: أشار بذلك إلى النَّسخ، ولم يوافقه أحد على ذلك، كذا قاله في «عمدة القاري».
ثم قال: (وقوله في حديث عمر: «قيحًا»؛ منصوب على التمييز، وهو الصديد الذي يسيل من الدمل والجرح، وقوله: «حتى يريه»: من الوَرْي، وهو الداء، يقال: وَرِيَ يَرِي [6]، فهو مَوْرِيٌّ إذا أصاب جوفه الداء، وقيل: معناه: حتى يصيب رئته [7]، قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه خلاف السياق.
وفي حديث الباب: جواز الانتصار من الكفار، وينبغي ألا يبدأ المشركون بالسب والهجاء؛ مخافةً من سبهم الإسلام وأهله، قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا} [الأنعام: 108]، ولتنزيه ألسنة المسلمين عن الفحش، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة كابتدائهم به؛ فيكف أذاهم أو نحوه كما فعله عليه السَّلام.
وفيه: استحباب الدعاء لمن قال شعرًا، مثل قصة حسان، وفيه: فضيلة حسان رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
وفي «المنحة»: (والحاصل: أن إنشاد الشعر جائز بلا كراهة إن كان حقًّا، ومكروه تحريمًا إن كان باطلًا، ومكروه تنزيهًا إذا غلب عليه اشتغال به عن القرآن والذكر) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ الشعر لا يخلو [8] إما أن يكون جائزًا أولا، والثاني مكروه تحريمًا، فكراهة التنزيه ليس لها محل؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (سعيد)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (التذكر)، ولعل المثبت هو الصواب، وكذا في الموضع اللاحق.
[3] في الأصل: (على)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (فيجيء)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (الجيش)، وهو تصحيف.
[6] في الأصل: (يورى).
[7] في الأصل: (ريبة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (يخل)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (سعيد)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (التذكر)، ولعل المثبت هو الصواب، وكذا في الموضع اللاحق.
[3] في الأصل: (على)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (فيجيء)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (الجيش)، وهو تصحيف.
[6] في الأصل: (يورى).
[7] في الأصل: (ريبة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (سعيد)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (التذكر)، ولعل المثبت هو الصواب، وكذا في الموضع اللاحق.
[3] في الأصل: (على)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (فيجيء)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (الجيش)، وهو تصحيف.
[6] في الأصل: (يورى).
[7] في الأصل: (ريبة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/761)
(69) [باب أصحاب الحراب في المسجد]
هذا (باب) حكم لعب (أصحاب الحِراب) بحرابهم (في المسجد)؛ أي: في أي مسجد من المساجد، فـ (أل) فيه: للجنس، و (الحِراب): بكسر الحاء المهملة: جمع حربة، كالقصاع جمع قصعة، والحِراب أيضًا: مصدر من حارب يحارب محاربة وحرابًا، والمراد هنا الأول، ونصال حرابهم: مشهورة، والمراد من أصحاب الحراب هنا: هم الذين يتشاققون بالسلاح كالحراب ونحوها؛ للاشتداد والقوة على الحرب مع أعداء الدين.
وما قدَّرنا أولى من تقدير العجلوني الجواز؛ لأنَّ الحكم أعم وأشمل، وكذا هو أولى من تقدير ابن حجر والقسطلاني: جواز دخولهم، كما لا يخفى؛ لأنَّ دخول أصحاب الحراب المسجد لا يسع أحدًا أن يقول: غير جائز، وإنما المقصود هنا: بيان حكم لعبهم بالحراب في المسجد، هل هو جائز أم لا؟ وحديث الباب يدل على جوازه في المسجد وغيره؛ لأنَّه يعين على قتال أعداء الدين.
وقال المهلب: (المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال الجامعة لمنفعة الدين وأهله؛ فهو جائز في المسجد وغيره، واللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معاني الحروب، وهو من الاستعداد للعدو، والقوة على الحرب) انتهى.
وذكر نحوه ابن بطال، وذلك لتكون كلمة الله العليا [1]، وهو على نصرهم إذا يشاء قدير.
وزعم ابن حجر أن البخاري أشار إلى تخصيص الحديث السَّابق في النَّهي عن المرور في المسجد بالنصل غير معمود، والفرق بينهما: أن التحفظ في هذه الصورة سهل، بخلاف مجرد المرور، فإنَّه قد يقع بغتة، فلا يتحفظ منه، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، فإن البخاري ليس مراده بهذا الباب تخصيص الحديث السَّابق، وليس في كلامه الإشارة إلى ذلك أصلًا، فمن أين علم ذلك؟ بل قصد البخاري في هذا الباب والتَّرجمة: بيان حكم مستقل لا تعلق فيه بما قبله، وما ذكره من الفرق ممنوع؛ لأنَّ التحفظ باللعب بالحراب أمر صعب كما هو مشاهد لكل بصير؛ لأنَّه تارة يقف، وتارة يرجع يمينًا، وتارة شمالًا، وتارة جنوبًا، وتارة خلفًا، ولابد من وجود أناس معهم، فالغالب في ذلك وجود العطب، أما حال المرور في المسجد؛ فالتحفظ ممكن؛ لأنَّه ليس له شيء يشغله، فدائمًا متحفظ وآخذ بالنصل؛ مخافة أن يصيب أحدًا من المسلمين؛ فانظر إلى ما زعمه هذا القائل تجده غير صواب، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (العلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 637%
==================
(1/762)
[حديث: لقد رأيت رسول الله يومًا على باب حجرتي]
454# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد العزيز بن عبد الله): هو ابن يحيى أبو القاسم القرشي العامري المدني (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد)؛ بسكون العين المهملة: هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، (عن صالح) زاد الأصيلي: (ابن كيسان): هو أبو محمَّد المؤدب التَّابعي، [مؤدب] ولد عمر بن عبد العزيز الأموي، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني التَّابعي (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزُّبير)؛ بِضَمِّ العين المهملة في الأول، وضم الزاي المعجمة في الثاني: هو ابن العوام المدني التَّابعي: (أن) بفتح الهمزة (عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (قالت: لقد رأيت)؛ أي: والله لقد أبصرت (رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفُهِم معنى القسم من اللَّام و (قد) اللتان تدلان على التأكيد، و (رأيت) بمعنى: أبصرت؛ فلذلك اقتصر على مفعول واحد (يومًا) بالنصب على الظرفية (على باب حجرتي)؛ بِضَمِّ الحاء المهملة، وفي رواية: (في باب حجرتي)؛ وهي البيت الذي يُنَام فيه، وهي: الأدورة [1] (والحبشة): هي جنس من السودان مشهور (يلعبون في المسجد)؛ أي: بحرابهم، والجملة محلها نصب على الحال من الفاعل أو المفعول، وجملة (ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني) محلها نصب على الحال أيضًا، قال إمام الشَّارحين: (وهذا يدل على أنَّ هذا كان بعد نزول
%ص 637%
الحجاب) (برِدائه)؛ بكسر الرَّاء: هو ما يستر النصف الأعلى من البدن؛ حتى لا يراني أحد من الأجانب (أنظر إلى لعبهم)؛ أي: بحرابهم، وهو يستلزم النَّظر إلى ذواتهم، ففيه دليل واضح على [2] جواز نظر النساء إلى الرجال، ووجوب استتارهن عنهم، وهذا مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنه، والجمهور من العلماء، وخالفهم الشَّافعي؛ فزعم أن نظر الأجنبية إلى الأجنبي حرام، والحديث حجة عليه.
وزعم ابن حجر أن حديث الباب لا يدل على جواز النَّظر؛ لأنَّ عائشة نظرت لعبهم وحرابهم لا وجوههم وأبدانهم، ولا يلزم منه تعمد نظر البدن، وإن وقع بلا قصد؛ صَرَفَتْه حالًا، ويحتمل أن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب، أو عائشة لم تبلغ مبلغ النساء، ولأنه عليه السَّلام أمر ميمونة وأم سلمة وقد رآهما تنظران لابن أم مكتوم بالاحتجاب منه، فقالت له أم سلمة: أليس هو أعمى لا يبصر؟ فقال: «أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟» كذا زعمه العجلوني.
قلت: وهذا الاستدلال فاسد وبعيد عن الأفهام؛ لأنَّ عائشة كانت تنظر إلى لعبهم بالحراب، وهو يستلزم النَّظر إلى أبدانهم وذواتهم ضرورة، والنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لم ينهها أن تنظر ذواتهم وأبدانهم، بل أطلق لها إباحة النَّظر في لعبهم وأبدانهم وذواتهم، فبقي الحكم على العموم، ويدل لذلك ما ذكره البخاري في باب (إذا كان الثوب ضيقًا)، عن سهل الساعدي، وفيه قال النَّبي صلى الله عليه وسلم للنساء: «لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسًا»، وعند أحمد، وأبي داود بلفظ: «فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم»؛ كراهة أن يرين عورات الرجال، انتهى، فهذا يدل على إباحة نظر النساء للرجال؛ لأنَّه لو كان غير جائز؛ لما أباح لهن الصلاة خلف الرجال، وبين في الحديث أن النَّهي في رفع رؤوسهن؛ خشية رؤيتهن عورات الرجال، وهو يدل على أنَّ رؤية ذوات الرجال وأبدانهم للنساء جائز لا محظور فيه، ويدل لذلك إباحة خروج النساء للجماعات في المساجد، وكذلك خروجهن للحمامات ولأجل شراء الأكل ونحوه من الرجال الأجانب في الأسواق، ويلزم على ما زعمه الحرج في ذلك، وهو مدفوع بالنص.
وقوله: (ويحتمل أن ذلك كان قبل نزول الحجاب): ممنوع؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما كان عليه السَّلام يسترها، فستره لها دليل على أنَّه كان ذلك بعد نزول الحجاب، ولهذا كان يدخل على زوجاته عليه السَّلام البر والفاجر في ابتداء الإسلام كما قال عمر بن الخطاب، وسأله أن يحجب نساءه، فأنزلت آية الحجاب، فلو كان ذلك قبل نزولها؛ لما سترها عليه السَّلام بردائه.
وقوله: (أو عائشة لم تبلغ مبلغ النساء): ممنوع أيضًا؛ لأنَّ قولها: (يسترني بردائه) يدل على أنَّها كانت وقتئذ بالغة مبلغ النساء.
وقوله: (ولأنه عليه السَّلام أمر ميمونة ... ) إلى آخره؛ هذا حديث ضعيف، كما قاله الثقات، ولئن صح؛ فهو لا يقاوم الصَّحيح على أنَّه محتمل؛ لأنَّ أم سلمة وميمونة كانتا غير متسترتين [3] كما يستتر النساء من الرجال، فأمرهما بالاحتجاب؛ لكونهما كانتا مكشوفتين، ويدل لذلك قول أم سلمة: (أليس هو أعمى؟)؛ أي: لا يبصرنا، ونحن كذلك، ويحتمل أنَّه أمرهما بذلك؛ لأجل أن الخلوة بالمرأة الأجنبية حرام، فالنَّهي إنَّما كان لأجل الخلوة، لا لأجل النَّظر إليه، ويحتمل أن ابن أم مكتوم كان ذا [4] ثوب واحد مستتر فيه، فخشي عليه السَّلام أن ينظرن إلى عورته، ويحتمل غير ذلك، والدليل إذا طرقه الاحتمالات؛ سقط الاستدلال به، فبقي الحكم؛ وهو حل نظر النساء للرجال بدون شهوة، وهو الصَّواب، وما عداه مكابرة وعناد، والحق أحق أن يتبع.
وفي الحديث: دليل على جواز النَّظر إلى اللعب باللهو المباح، بل هذا في الحقيقة طاعة؛ لأنَّه مما ينتفع به في الجهاد وإن كان لعبًا صورة، ولهذا جاز اللعب في المسجد، وقد ترك عليه السَّلام عائشة تنظر إلى لعبهم؛ لتضبط السُّنَة في ذلك، وتنقل تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتي من أبناء المسلمين، وتعرفهم بذلك.
وفيه: حسن خلقه عليه السَّلام، ومعاشرته لأهله، وفضيلة عائشة، وعِظَم منزلتها عنده عليه وعليها السَّلام، والله أعلم.
455# (زاد) ولأبي الوقت: (وزاد) (إبراهيم بن المنذر): هو ابن عبد الله الأسدي الحزامي؛ نسبة لجده حزام، وقول العجلوني والقسطلاني: الحازمي؛ خطأ ظاهر، كما لا يخفى؛ فاعرفه، (قال: حدثنا) ولأبي الوقت وابن عساكر: (حدثني)؛ بالإفراد، وفي القسطلاني: وفي رواية: (حدثه)، قال العجلوني: هو عليها من الالتفات على رأي السكَّاكي، قلت: لكن لم يعزها لأحد من الرواة، فالظَّاهر أنها تحريف، ولئن صحت؛ فهو من باب التجريد؛ بأن جرد من نفسه شخصًا فخاطبه؛ فافهم، (ابن وهب): هو عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي مولاهم، المصري، وقول العجلوني: هو عبد الله بن مسلم، خطأ؛ فاجتنبه، (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس): هو ابن يزيد الأيلي، (عن ابن شهاب): هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني (عن عروة) هو ابن الزُّبير بن العوام، (عن عائشة)؛ أي: الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهماأنها (قالت: رأيت) أي: أبصرت (النَّبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في المسجد النَّبوي (والحبشة): هم جنس من السودان (يلعبون بحرابهم) الجار والمجرور مفعول لقوله: (زاد ابن المنذر)؛ وهو فاعل (قال)، يعني: أن رواية إبراهيم بن المنذر مثل رواية صالح بن كيسان لكن بزيادة لفظة: (بحرابهم)، فيحصل بها المطابقة للتَّرجمة.
وقال الكرماني: (يحتمل قوله: «زاد إبراهيم» التَّعليق)، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (هو تعليق بلا احتمال، وقد وصله الإسماعيلي من طريق عثمان بن عمر عن يونس) انتهى.
وفي هذا دليل على جواز نظر النساء إلى الرجال، ووجوب استتارهنَّ عنهم.
وفيه: جواز اللعب بالحراب في المسجد على الوجه الذي ذكرناه، وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي: أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة؛ أما القرآن؛ فقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ} [النور: 36]، وأما السنة؛ فحديث واثلة بن الأسقع الذي أخرجه ابن ماجه: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم»، ورُدَّ بأنَّ الحديث ضعيف، وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادَّعاه، ولا عُرف التاريخ حتى يثبت النَّسخ، انتهى.
قال العجلوني: (وقد يقال: إن الحديث بنحو ما رواه البخاري في «التاريخ الأوسط» بلفظ: «جنبوا مساجدنا صبيانكم، ومجانينكم، وشرائكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم،
%ص 638%
وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمِّروها في الجُمَع) انتهى.
قلت: وهو وإن كان بنحوه، لكنه أيضًا لا يدل على منع لعبهم في المسجد؛ لأنَّ الحديثان ليس فيهما منع اللعب، بل فيهما منع المقاتلة بالسيوف.
وزعم ابن حجر عن مالك: (أن لعبهم كان خارج المسجد، وكانت عائشة فيه، وهذا لا يثبت؛ لأنَّ مالكًا صرح في طرف هذا الحديث بخلافه، وفي بعضها: أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد، فقال النَّبي عليه السَّلام: «دعهم»،فإن اللعب بالحراب ليس لعبًا مجردًا، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو) انتهى.
قلت: والظَّاهر أن مذهب مالك منع اللعب بالحراب في المسجد كما يؤخذ من كلام أبي الحسن اللخمي؛ وهو غير صحيح؛ لأنَّ حديث الباب صريح في الجواز، فيكون حجة عليه، وقوله: (إن لعبهم كان خارج المسجد) يرده قول عائشة: (والحبشة يلعبون في المسجد).
وزعم ابن حجر أن البخاري قصد بالتَّرجمة أصل الحديث لا خصوص السياق الذي يورده، ولم أقف على طريق يونس من رواية إبراهيم بن المنذر موصولة، انتهى.
قلت: وهذا غير صحيح، فإن البخاري قصده الإشارة بالتَّرجمة للسياق الذي يورده؛ لأنَّه يجعله دليلًا على التَّرجمة؛ لأنَّ الحديث وإن كان ليس فيه تصريح بأن لعبهم كان بحرابهم، لكن اللعب لا يكون إلا بالحراب، وساق التَّعليق بعده؛ ليدل على هذا القيد فيكون دليلًا على ترجمته.
وقوله: (ولم أقف ... ) إلى آخره؛ ممنوع؛ فإن من هو أكبر منه _إمام الشَّارحين_ قد وقف على وصله عند الإسماعيلي من طريق عثمان بن عمر عن يونس، وعند مسلم عن أبي طاهر عن ابن وهب؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الأوددة)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (متسترين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الأوددة)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (متسترين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الأوددة)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (متسترين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/763)
(70) [باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد]
هذا (باب) حكم (ذكر البيع والشراء)؛ أي: الإخبار بوقوعهما من غير كراهة في الخطبة (على المنبر) الكائن (في المسجد)؛ أي: النَّبوي وغيره، بخلاف فعل البيع والشراء، فإنَّه منهي عنه فيه، وليس المراد: أنَّه أوقعهما فيه كما توهمه بعضهم؛ حيث زعم أنَّه لا مطابقة بين الحديث والتَّرجمة، كما نبَّه عليه إمام الشَّارحين، فقوله: (على المنبر): متعلق بقوله: (ذِكرُ)، وقوله: (في المسجد): صفة للمنبر أو حال منه، وفي رواية تقديم (المسجد) على (المنبر)، وفي رواية أبي ذر: (على المنبر والمسجد)؛ بالواو العاطفة، وعليها فيشكل تعدية (ذكر) بـ (على) بالنسبة للمسجد؛ لأنَّ التقدير يكون: وعلى المسجد، وأجاب إمام الشَّارحين: (بأنه ضمَّنه معنى الاستعلاء؛ عكس قوله تعالى: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وبأنه يغتفر بالتَّابع ما لا يغتفر في المتبوع، وبأنه من باب قولهم: علفتها تبنًا وماء باردًا؛ فإن تقديره: وسقيتها ماء باردًا؛ لأنَّه لا يعلف بالماء) انتهى بزيادة.
وقال المازري: اختلفوا في جواز ذلك في المسجد مع اتفاقهم على صحة العقد لو وقع، انتهى.
قلت: فيه نظر، فإن العقد حال الخطبة جائز مع الحرمة عند الإمام الأعظم وأصحابه، وغير صحيح عند مالك ومن تبعه، وأما العقد في المسجد في غير حال الخطبة من غير إحضار السلعة؛ فجائز غير مكروه، وبها؛ مكروه؛ فافهم.
وقد خبط هنا العجلوني وخلط، وأطلق في محل التقييد، وغير العبارة، ولم يفهم الإشارة؛ فافهم.
==========
%ص 639%
==================
(1/764)
[حديث: ابتاعيها فأعتقيها فإن الولاء لمن أعتق]
456# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله)، هو المديني ابن جعفر السعدي مولاهم، المدني البصري (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عيينة (عن يحيى) هو ابن سعيد الأنصاري، وفي «مسند الحميدي»: (عن سفيان: حدثنا يحيى) (عن عَمْرة)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الميم: هي بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية، المدنية الموثقة، المتوفاة قبل المئة، ويقال: بعدها، كذا في «التقريب»، قلت: وقد كان ابن المديني يفخم أمرها، وهي إحدى الثقات العلماء، المتوفاة سنة ثمان وتسعين على الأصح، كما قاله الكرماني، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (قالت) أي: عائشة: (أتتها بريرة)، فاعل (قالت): يحتمل أن يكون عمرة، ويحتمل أن يكون عائشة، فإن كان عمرة؛ فلا التفات، وإن كان عائشة؛ ففيه التفات من الحاضر إلى الغائب.
و (بَرِيْرَة)؛ بفتح الموحَّدة، وكسر الرَّاء الأولى، وفتح الثانية، بينهما تحتية ساكنة، وزعم القرطبي: أن وزنها: «فعيلة»، من البر، ويحتمل أن يكون بمعنى: مفعولة؛ أي: مبرورة؛ كـ (أكيلة السبع)؛ أي: مأكولة، ويحتمل أن تكون بمعنى: فاعلة؛ كرحيمة؛ بمعنى: راحمة، وهي بنت صفوان، كانت لقوم من الأنصار، أو مولاة لأبي أحمد بن جحش، وقيل: مولاة لبعض بني هلال، وكانت قبطية، وزعم الكرماني: أنها مولاة لعائشة كانت لعتبة بن أبي لهب.
قلت: ذكرها الذهبي في «الصَّحابيات» وقال: يقال: إن عبد الملك بن مروان سمع منها، وفي «معجم الطَّبراني» من حديث عبد الملك بن مروان قال: (كنت أجالس بريرة بالمدينة، فكانت تقول لي: يا عبد الملك؛ إني أرى فيك خصالًا، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن وليته؛ فاحذر الدنيا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الرجل يدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملء محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق») انتهى، وعبد الملك اختلف في مولده، فقال خليفة بن خياط: سنة ثلاث، وقال أبو حسان الزيادي: سنة خمس، وقال محمَّد بن سعد: سنة ست وعشرين، وولاه معاوية رضي الله عنه ديوان الخراج [1]، وعمره ست عشرة سنة، فعلى هذا؛ تكون بريرة موجودة بعد سنة أربعين.
وقد اختلف في اسم زوج بريرة، ففي الصَّحيح: أنَّه مُغِيْث؛ بِضَمِّ الميم، وكسر الغين المعجمة، وسكون التحتية، آخره مثلثة، وعند الصريفيني عن العسكري: معتِب؛ بعين مهملة، وكسر المثناة الفوقية، آخره موحَّدة، وعند أبي موسى الأصبهاني: أنَّه مقسم؛ بميم، ثم قاف، ثم سين مهملة، آخره ميم، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
وقال القسطلاني: (بريرة: بعدم الصرف؛ لأنَّه منقول من بريرة؛ واحدة البرير؛ وهو ثمر الأراك، وهي بنت صفوان فيما نقل عن النَّووي في «التهذيب»، قال البلقيني: لم يقله غيره، وفيه نظر) انتهى.
(تسألها)؛ أي: تستعطي بريرة عائشة (في كتابتها)؛ أي: في شأنها، والجملة محلها نصب على الحال من (بريرة)، والأصل في السؤال أن يعدَّى بـ (عن)؛ كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} [الأنفال: 1]، ولكن لما كان سؤالها بمعنى: الاستعطاء؛ بمعنى: تستعطيها في أمر كتابتها؛ عُدِّي بكلمة الظرف، ويجوز أن يكون معنى (تسأل): تستعين بالتضمين، على أنَّ في رواية جاءت
%ص 639%
هكذا.
والكتابة: لغة: مصدر كتب، من الكَتْب؛ وهو الجمع، ومنه: كتبت القربة إذا خرزتها، وسمي هذا العَقْد كتابة ومكاتبة؛ لأنَّ فيه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة، أو لأنَّ فيه جمعًا بين نجمين فصاعدًا، أو لأنَّ كلًا منهما يكتب الوثيقة، وفي الشرع: تحرير المملوك يدًا في الحال، ورقبة في المآل؛ لأنَّ المكاتب لا يتحرر رقبة إلا إذا أدى المال، وهو بدل الكتابة، وأما في الحال؛ فهو حر من جهة اليد فقط، حتى يكون أحق بكسبه، ويجب على المولى الضمان بالجناية عليه أو على ماله، ولهذا قيل: (المكاتب طار عن ذل العبودية، ولم ينزل في ساحة الحرية، فصار كالنعامة إن استطيرت؛ تباعدت، وإن استحملت؛ تطايرت)، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
(فقالت)؛ أي: عائشة مخاطبة لبريرة: (إن شئتِ)؛ بكسر التَّاء؛ لأنَّه خطاب المؤنث؛ (أعطيتُ) بلفظ المتكلم (أهلَكِ) بكسر الكاف؛ أي: مواليك، وهو منصوب على أنَّه مفعول أول لـ (أعطيت)، ومفعوله الثاني محذوف وهو ثمنك؛ لدلالة الكلام عليه، كذا قاله إمامنا الشَّارح، (ويكون الوَلاء)؛ بفتح الواو، هو في عرف الفقهاء: تناصر يوجب الإرث والعقل؛ لأنَّ الولاء لغة: النصرة والمحبة، إلا أنَّه اختص في الشرع بولاء العتق والموالاة، واشتقاقه من (الولي) وهو القربوحصول الثاني بعد الأول من غير فصل، انتهى، (لي) أي: لا لأهلك، (وقال أهلها) أي: موالي بريرة لعائشة رضي الله عنهما: (إن شئتِ) بكسر التَّاء؛ (أعطيتِها)؛ بكسر التَّاء أيضًا؛ أي: بريرة، وهو مقول القول (ما) أي: الذي (بقي) من مال الكتابة في ذمة بريرة.
قال إمام الشَّارحين: (ومحل هذه الجملة النصب؛ لأنَّها وقعت مفعولًا ثانيًا لقوله: «أعطيتها»، ومفعوله الأول الضمير المنصوب في «أعطيتها») انتهى.
واعترضه العجلوني بأن محل (ما) الموصولة النصب، لا الجملة على الصَّحيح، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّ دأب المؤلفين التسامح في مثل هذا في عباراتهم، ومعلوم أن محل الموصول النصب؛ فافهم، وقد يقال أيضًا: إن جمهور النحاة جوزوا أن يكون محل الجملة بتمامها النصب، وقال بعضهم: وهو الأصح، وعلى هذا فالاعتراض غير وارد من أصله؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: كم كان مال الكتابة على بريرة؟
قلت: ذكر في باب «الكتابة» من حديث يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: «إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق نُجمت عليها في خمس سنين ... »؛ الحديث.
فإن قلت: ذكر في باب «سؤال الناس»: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية، فأعينيني، فقال: «خذيها فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق»، فبين الروايتين تعارض.
قلت: هذا الحديث أصح؛ لاتصاله ولانقطاع ذاك، ولأن راوي هذا عن أمه، وهو أعرف بحديث أمه وخالته.
وقيل: يحتمل أن تكون هذه الخمسة الأواق التي قد استحقت عليها بالنجوم من جملة التسعة، أو أنها أعطت نجومًا وفَضُلَ عليها خمسة.
قلت: هذا يرده ما رواه البخاري في «الشروط في البيع»: «ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا».
والأواق: جمع أُوقيَّة؛ بِضَمِّ الهمزة، وتشديد التحتية، والجمع يشدد ويخفف، مثل أثفية وأثافي وأثافٍ، وربما يجيء في الحديث: «وقية» [2]، وليست بالعالية، وهمزتها زائدة، وكانت الأوقية قديمًا عبارة عن أربعين درهمًا، ثم إنها تختلف باختلاف اصطلاح البلاد)، انتهى كلام إمام الشَّارحين.
واعترضه العجلوني فزعم أن قوله: (هذا الحديث أصح؛ لاتصاله ولانقطاع ذاك): كلٌّ منهما متصل، كما يعلم من الوقوف عليه، وعبارته غير محررة، وقوله: (بحديث أمه وخالته)؛ أين الأم والخالة؟ وقوله: (يرده ما رواه ... ) إلخ؛ لا ينافيه؛ لاحتمال أنها جاءت مرتين، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإن البخاري ذكر في باب (المكاتب ونجومه) تعليقًا عن اللَّيث: حدثني يونس، عن ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: (إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها، وعليها خمسة أواق، نُجمت عليها في خمس سنين ... )؛ الحديث، ولا ريب أنَّه منقطع، وأن عروة ابن أخت عائشة، فهي خالته، كما لا يخفى، وفي بعضها: عن أسماء؛ وهي أخت عائشة وأم هشام وعروة؛ لأنَّ المؤلف قد ذكر هذا الحديث في أربعة عشر [3] موضعًا، وقوله: (لا ينافيه ... ) إلخ؛ ممنوع؛ فإن المنافاة بينهما ظاهرة كما لا يخفى؛ فافهم.
والأوقية في ديارنا الشامية: سبعة وستين درهمًا، وكذلك في حلب، إلا أنها في سنة تسع وسبعين صارت في حلب فقط ثمانين درهمًا، وفي المدينة: عشرين درهمًا، والله تعالى أعلم.
(وقال سفيان) هو ابن عيينة، أحد الرواة المذكورين في الحديث (مرة) أي: أخرى، فهو موصول غير معلق، وأشار بذلك إلى أن سفيان حدَّث به على وجهين، فمرة قال: (إن شئتِ؛ أعطيتِها ما بقي)، ومرة قال: (إن شئتِ) بكسر التَّاء (أعتقتِها)؛ أي: بدل (أعطيتِها)، والمثناة الفوقية فيهما مكسورة بلا تحتية بعدها على الأفصح، (ويكون الوَلاء) بفتح الواو (لنا) أي: عليها، (فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لحجرة عائشة رضي الله عنها؛ (ذكَّرتْهُ) بتشديد الكاف، وسكون التَّاء بعدها هاء؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (ذلك)؛ أي: الشرط المذكور.
وقال إمام الشَّارحين: («ذكرته» يحتمل أربعة وجوه؛ الأول: «ذكَّرته»: بالتشديد، وبالضمير المنصوب، الثاني: «ذكَّرت»: بالتشديد بدون الضمير، والثالث: «ذَكَرت»: على صيغة الماضي للمؤنث الواحدة بالتخفيف بدون الضمير، والرابع: «ذَكَرته»: بالتخفيف والضمير؛ لأنَّ «ذَكَر» بالتخفيف يتعدى؛ يقال: ذَكَرت الشيء بعد النِّسيان، وذَكَرته بلساني وبقلبي، وتذكرته وأذكرته غيري وذكرته بمعنًى) انتهى.
قلت: ولم يبين الرواية ههنا، لكن الذي يظهر من كلامه وكذا من كلام صاحب «التنقيح»: أن الرواية ههنا: بتشديد الكاف، وبهاء الغيبة للمنصوب، وهو المفهوم من كلام القسطلاني؛ حيث قال: بتشديد الكاف، وسكون تائها [4]؛ كما في (الفرع) و (أصله)، وقال الكرماني: («ذَكَرتُه»؛ بلفظ التكلم، والمتكلم به عائشة، والراوي نقل لفظها بعينه،
%ص 640%
وبالغيبة؛ كأن عائشة جردت من نفسها شخصًا، فحكت عنه، فالأول: حكاية الراوي عن لفظ عائشة، والثاني: حكاية عائشة عن نفسها) انتهى، قلت: ولم يبين وجه الرواية.
وقال القسطلاني: («ذَكَّرَتْه»؛ بتشديد الكاف، وسكون التَّاء، كما في «الفرع» و «أصله»، فيكون من كلام الراوي بمعنى ما وقع من عائشة، أو بِضَمِّها مع سكون الرَّاءبلفظ التكلم [5]، ويكون من كلام عائشة) انتهى.
وزعم ابن حجر: «ذكَّرته ذلك»: كذا وقع هنا بتشديد الكاف، فقيل: الصَّواب ما وقع في رواية مالك وغيره بلفظ: ذكرت؛ لأنَّ التذكير يستدعي سبق علم بذلك، ولا يتجه تخطئة هذه الرواية؛ لاحتمال السبق على وجه الإجمال، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (لم يبين أحد ههنا راوي التشديد، ولا راوي التخفيف، واللَّفظ يحتمل أربعة أوجه ... ) إلى آخر [6] ما قدمناه عنه قريبًا، انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن راوي التشديد هنا الجميع، وراوي التخفيف مالك وغيره، وما ذكره من الوجوه، لا داعي إليها، بل لا يصح بعضها، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّه لم يعلم الرواية في لفظ (ذكرته)، فمن أين يزعم أن راوي التشديد هنا الجميع؟ لأنَّه لم ينص أحد من الشراح على أنَّ الرواية عند الجميع بالتشديد، غير أن القسطلاني قال: بتشديد الكاف في (الفرع) و (أصله)، وهو لا يدل على أنَّه عند الجميع، وكون راوي التخفيف مالك وغيره؛ كلام من لم يمس شيئًا من المعاني؛ لأنَّه لا يخفى أن رواية مالك وغيره ليست في «الصَّحيح» هنا، بل في غير «الصَّحيح»، فلا داعي لذكرها هنا؛ فافهم، وما زعمه من أنَّه (لا داعي لذكره الوجوه)؛ ممنوع؛ لأنَّه لما كانت [7] الرواية هنا غير معلومة صريحًا؛ احتاج إلى بيان احتمالات اللَّفظ، وهو أكبر داعٍ لذكرها؛ وكون لا يصح بعضها؛ ممنوع أيضًا، بل هي جميعًا صحيحة، ولم يبين وجه عدم صحة بعضها، ولو كان لها وجه صحيح؛ لذكره، وما هذا إلا من كثرة تعصبه، وشدته في كلامه.
وحاصله: أن الأوجه الأربعة صحيحة المعنى سواء كانت الرواية بالتشديد أو بالتخفيف، على أنَّ أمام الشَّارحين قد ذكر وجه كل وجه منها، وهو يدل على صحتها عند أهل المعاني والعرفان، لا عند أهل الغفلة والنِّسيان؛ فافهم.
وأشار ابن حجر بقوله: (فقيل: الصَّواب ما وقع في رواية مالك بالتخفيف) إلى ما قاله الزركشي من أن الصَّواب: (ذكرت له ذلك) انتهى.
واعترضه الدماميني فقال: وكأنَّه فهم أن الضمير المنصوب عائد إلى النَّبي عليه السَّلام و (ذلك) مفعول، فاحتاج إلى تقدير الحرف ضرورةَ أنَّ (ذكر) إنَّما يتعدى بنفسه، وليس الأمر كما ظنه، بل الضمير المنصوب عائد إلى الأمر المتقدم، و (ذلك) بدل منه، والمفعول الذي يتعدى إليه هذا الفعل بحرف الجر حذف مع الحرف الجار له؛ لدلالة ما تقدم عليه، فآل الأمر إلى أنَّها قالت: فلمَّا جاء رسول الله عليه السَّلام ذكرت ذلك الأمر له، وليت شعري! ما المانع من حمل هذه الرواية الصَّحيحة على الوجه السائغ، ولا غبار عليه؟! انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أنَّه لا يتأتَّى هذا إلا مع التخفيف، مع أن فيه كثرة حذف، وقوله: (ليت شعري ... ) إلخ، فيه أنَّ الرواية بالتخفيف، على هذا المنوال لم نر أحدًا أثبتها هنا في هذا الموضع، نعم؛ هي رواية مالك المعلقة، ولو جعل (ذكر) المشدد بمعنى المخفف، وأعرب اسم الإشارة بدلًا من الضمير الراجع إلى الأمر؛ لكان وجهًا، انتهى.
قلت: وهذا كلام غير صحيح؛ لأنَّ قوله: (لا يتأتَّى هذا ... ) إلخ؛ ممنوع، فما المانع من إجرائه في رواية التشديد؟
وقوله: (مع أن فيه كثرة حذف)؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه ليس فيه كثرة حذف، ألا ترى إلى قوله: (فآل الأمر ... ) إلخ، فأين كثرة الحذف؟ فافهم.
وقوله: (فيه أنَّ الرواية ... ) إلخ؛ ممنوع، بل الرواية على هذا المنوال بالتشديد أيضًا، فكما يجوز توجيه التشديد بذلك، كذلك يجوز توجيه التخفيف.
وقوله: (لم نر أحدًا أثبتها ... ) إلخ؛ ممنوع، فإن إمام الشَّارحين ورئيس المحققين قد أثبتها في الأوجه الأربعة التي ذكرها في «شرحه»، مع أنَّها ثابتة في رواية مالك وغيره، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمُثْبِت مقدَّم على النافي.
وقوله: (ولو جعل «ذكر» ... ) إلخ؛ هذا التوجيه هو عين ما ذكره الدماميني، فكيف يعترض عليه ويذكر مثله، وينسبه لنفسه، ويعتمد عليه؟! وما هو إلا تناقض وعدم معرفة بمعاني الكلام.
وحاصله: أنَّ ما زعمه العجلوني بعيد عن النَّظر، وتعصب وعناد؛ فاجتنبه، والله أعلم.
(فقال) وقوله (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ثابت عند أبي ذر ساقط عند غيره؛ أي: قال لعائشة: (ابتاعيها) أي: اشتري بريرة، (فأعتقيها) بهمزة القطع في الثاني، والوصل في الأول، (فإنَّ الوَلاء)؛ بفتح الواو مع المد؛ أي: الإرث، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: (فإنما الولاء) (لمن أعتق)، وهذا مما لا خلاف فيه عند العلماء، واختلفوا فيمن أعتق على أنلا ولاء له؛ وهو المسمى بالسائبة؛ ومذهب الجمهور: أن الشرط باطل، والولاء لمن أعتق، وعند أحمد: أنَّه لم يكن له الولاء عليه، فلو أخذ من ميراثه شيئًا؛ رده في مثله، وقال مالك، ومكحول، وأبو العالية، والزهري، وعمر بن عبد العزيز: يُجعل ولاؤه لجماعة المسلمين؛ كما فعله بعض الصَّحابة، كذا في «عمدة القاري».
(ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)؛ أي: خطيبًا يوم الجمعة، ولهذا أتى بـ (ثم) التي للتراخي حتى يكون الحكم عامًّا، وكان عليه السَّلام من عادته أنَّه إذا لم يعجبه أمر من أصحابه؛ قام على المنبر خطيبًا، وذكره مبهمًا؛ تطييبًا لخاطرهم، فمن كان فعل شيئًا منه؛ انتهى عنه ورجع.
(وقال سفيان) هو ابن عيينة أحد الرواة المذكورين في الحديث (مرة: فصعِد) بكسر العين المهملة، وقد تفتح بِقلَّة؛ أي: بدل (قام) (رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)؛ أي: خطيبًا، وأراد أنَّه روي بوجهين مرة قال: (ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)، ومرة قال: (فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)؛ يعني: أنَّه روي عنه اللَّفظان في مرتين، وذكر في باب (الشراء والبيع
%ص 641%
مع النَّساء): قال لي النَّبي صلى الله عليه وسلم: «اشتري وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام من العشيِّ، فأثنى على الله بما هو أهله ... »؛ الحديث (فقال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في خطبته: (ما بال أقوام)؛ أي: ما حالهم وشأنهم، وفي باب (الشراء والبيع مع النَّساء): «ما بال أناس»، وإنَّما لم يصرح عليه السَّلام بالقائل؛ لأنَّه من خلقه العظيم؛ لأنَّه لا يواجه شخصًا معينًا بمكروه، ولا يذكره بين الناس بشيء لا يوافق الشرع، بل يأتي بلفظ مبهم، فصاحب الأمر يفهم ذلك ويرتدع عنه، (يشترطون شروطًا) جمع شرط؛ أي: في عقودهم وبيعهم وشرائهم (ليس) التذكير باعتبار جنس الشرط، أو باعتبار المذكور، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال الكرماني: (التذكير باعتبار الاشتراط)، قال إمام الشَّارحين: وفيه نظر لا يخفى، انتهى، قلت: وهو كذلك لأنَّ الاشتراط قول غير مذكور، فلا يصح عليه المعنى؛ فافهم، وفي رواية الأصيلي: (ليست) بالتأنيث؛ أي: الشروط (في كتاب الله) عز وجل ولا في سنة رسوله، فأجاب عليه السَّلام عن ذلك بقوله: (من اشترط) أي: من الناس (شرطًا) في بيعه أو شرائه (ليس) أي: الشرط (في كتاب الله) ولا في سنة رسوله عليه السَّلام؛ (فليس) أي: ذلك الشرط (له) أي: لا يستحقه (وإن) وصلية (اشترط) في عقده (مئة مرة)، وعند المؤلف في باب (الشراء والبيع مع النَّساء): «وإن اشترط مئة شرط، وشرط الله أحق وأوثق»، وكذا في رواية ابن ماجه، وذكر (المئة) للمبالغة في الكثرة، لا أنَّ [8] هذا العدد بعينه هو المراد، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن حجر أنَّ لفظ (المئة) للمبالغة، فلا مفهوم له، وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (لم يدر هذا القائل أنَّ مفهوم اللَّفظ في اللُّغة هو معناه، وعلى قوله؛ يكون هذا اللَّفظ مهملًا، وليس كذلك، وإن كان قال ذلك على رأي الأصوليين؛ حيث فَرَّقوا بين مفهوم اللَّفظ ومنطوقه، فهذا الموضع ليس محله) انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين: يحتمل أن يريد بـ «كتاب الله»: حكم الله، ويراد بذلك: نفي كونها في كتاب الله بواسطة أو بغير واسطة، فإنَّ الشريعة كلها في كتاب الله إما بغير واسطة كالمنصوصات في القرآن من الأحكام، وإما بواسطة قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، و {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54] انتهى.
وقال الخطابي: (ليس المراد: أنَّ ما لم ينص عليه في كتاب الله باطل، فإن لفظ «الولاء لمن أعتق» _أي: مثلًا_ من قوله عليه السَّلام، لكنَّ الأمر بطاعته في كتاب الله، فجاز إضافته إلى الكتاب)، واعتُرض بأن ذلك لو جاز؛ لجازت إضافة ما اقتضاه كلامه عليه السَّلام إليه، ورُدَّ بأنَّ الإضافة إنَّما هي بطريق العموم، وهذا بناء على أنَّ المراد بكتاب الله تعالى: القرآن، نظير قول ابن مسعود لأم يعقوب في الواشمة: (مالي لا ألعن من لعن رسولُ الله عليه السَّلام، وهو في كتاب الله بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}).
وأجاب إمام الشَّارحين: بأنه يحتمل أن يكون المراد بكتاب الله: حكم اللهسواء ذكر في القرآن أو السنة، أو المراد من الكتاب: المكتوب، يعني: المكتوب في اللوح المحفوظ، انتهى.
قلت: وهذا الجواب هو الصَّواب، ولهذا اقتصر عليه القسطلاني وغيره من الشراح؛ فافهم.
قال إمامنا الشَّارح: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة تُعلم من قوله عليه السَّلام: «ما بال أقوام يشترطون ... » إلى آخره؛ لأنَّه عليه السَّلام ذكر هذا عقيب قضية مشتملة على بيع وشراء، وعتق وولاء؛ لأنَّه عليه السَّلام لمَّا قال: «ابتاعيها فأعتقيها، فإنَّ الولاء لمن أعتق» قبل صعوده المنبر؛ دلَّ على حكم هذه الأشياء، ثم لمَّا قال على المنبر: «ما بال أقوام ... » إلى آخره؛ أشار به إلى القضية التي وقعت، فكأنَّ إشارته به إليها كوقوعها على المنبر في المسجد، وهذا هو الوجه، لا ما ذكره أكثر الشراح بما تنفر عنه الطباع وتمج عنه الأسماع، وسيعلم ذلك من يقف عليه) انتهى، قلت: وأشار بهذا إلى ما زعمه ابن حجر العسقلاني، فإنَّه قد قام وقعد، وخلط وخبط، وقال ولا يدري ما يقول، من فهمه السقيم وذهنه الفاتر العميم؛ فافهم ذلك.
وفي الحديث أحكام ذكرها إمامنا الشَّارح:
الأول: فيه دليل على جواز الكتابة، فإنْ كاتب رجلٌ عبده أو أمته على ما شرط عليه، وقَبِلَ العبد ذلك؛ صار مكاتبًا، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فَكَاتِبُوَهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، ودلالة هذا على مشروعية العقد لا تخفى على عارفٍ بلسان العرب سواء كان الأمر للوجوب أو لغيره، وهذا ليس أمر إيجاب بإجماع بين الفقهاء، سوى ما ذهب إليه داود الظَّاهري ومن تبعه، وروي نحوه عن عمرو بن دينار، وعطاء، وأحمد في رواية، والشَّافعي في رواية.
فإن قلت: ظاهر الأمر للوجوب، كما ذهب إليه هؤلاء.
قلت: هذا في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، وأما ههنا؛ فالأمر مقيد بقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}، وهو قرينة صارفة عن الوجوب، فيكون الأمر للندب.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنَّه أمر إباحة، وفيه نظر؛ لأنَّ الحمل على الإباحة إلغاء الشرط؛ لأنَّه مباح بدونه بالاتفاق، وكلامه تعالى منزَّه عن ذلك.
والمراد بالخير المذكور: ألا يضر المسلمين بعد العتق، فإن يضرهم؛ فالأفضل ألَّا يكاتبه وإن كان يصح، وعن ابن عبَّاس وابن عمر وعطاء: الخير: الكسب خاصة، وعن الثَّوري والحسن: أنه الأمانة والدِّين خاصة، وقيل: هو الوفاء والصلاح، وإذا فقد الأمانة والكسب؛ لا يكره عندنا، وبه قال مالك والشَّافعي، وقال أحمد وإسحاق وابن القطان من الشَّافعية: يكره.
ولا يعتق المكاتب إلا بأداء الكلِّ عند الجمهور؛ لما رواه أبو داود وغيره من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «المكاتب عبد ما بقي من كتابته درهم»، وروى الشَّافعي في «مسنده»: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أن زيد بن ثابت قالفي المكاتب: (هو عبد ما بقي عليه درهم)، واختاره لمذهبه، وهو مذهب أئمتنا الأعلام، وفيه اختلاف الصَّحابة، ومذهب ابن عبَّاس: أنَّه يعتق كما أخذ الصحيفة من مولاه؛ يعني: يعتق بنفس العقد، وهو غريم المولى بما عليه من بدل الكتابة، ومذهب ابن مسعود: أنَّه يعتق إذا أدى قيمة نفسه، ومذهب زيد: ما ذكرناه وإنما اختاره الأربعة؛ لأنَّه مؤيد بالحديث المذكور، انتهى.
قلت: بقي على الشَّافعي أنَّ ما رواه لا ينهض دليلًا لمذهبه؛ لأنَّ في سنده ابن أبي نجيح؛ وهو ضعيف، ولأنَّه موقوف؛ وهو لا يحتج به؛ فافهم.
الثاني من الأحكام: جواز تزويج الأمة المزوجة؛ لأنَّ بريرة كانت مزوجة، وقد ذكرنا اسمه والاختلاف فيه.
فإن قلت: كان زوجها حرًّا أو عبدًا؟ قلت: في رواية البخاري عن ابن عبَّاس قال: (رأيته عبدًا_يعني: زوج بريرة_ كأنَّي أنظر إليه يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لعمه العبَّاس: «ألا تعجب من حب [9] مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا؟!» فقال عليه السَّلام: «لو راجعْتِه»، قالت: يا رسول الله؛ تأمرني، قال: «إنما أنا شافع»، قالت: فلا حاجة لي فيه).
فإن قلت: ذكر في (الفرائض): (قال الحَكَم: كان زوجها حرًّا)، قلت: وقول الحكم مرسل، وذكر في (ميراث السائبة): قال الأسود: (وكان زوجها حرًّا)، قال: وقول الأسود منقطع، وقول ابن عبَّاس أصح، وفي «مسلم» أيضًا عن عبد الرحمن: (وكان زوجها عبدًا).
الثالث من الأحكام: فيه دليل على تنجم الكتابة؛ لقولها: (كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية).
وقال الشيخ تقي الدين: وليس فيه تعرض للكتابة [10] الحالَّة فنتكلم عليه،
%ص 642%
قلت: يجوز عند أصحابنا الأعلام أن يشترط المال حالًّا ومنجَّمًا؛ لظاهر قوله تعالى: {فَكَاتِبُوَهُمْ} من غير شرط التنجيم والتأجيل، فلا يزاد على النصِّ بالرأي، وبه قال مالك، وفي «الجواهر» قال أبو بكر: ظاهر قول مالك: أنَّ التنجيم والتأجيل شرط فيه، ثم قال: وعلماؤنا النظار يقولون: إنَّ الكتابة الحالَّة جائزة، ويسمونها قطاعة، وهو القياس، وقال الشَّافعي: لا تجوز الكتابة حالًّا، ولابد من نجمين، وبه قال أحمد في رواية، وأخرى عنه؛ كما ذهب إليه أئمتنا الأعلام، وهو الصَّواب.
الرابع من الأحكام: اشتراط الولاء للبائع، هل يفسد العقد؟ فيه خلاف، وظاهر الحديث يدل على أنَّه لا يفسده؛ لما قال في الحديث المذكور: «واشترطي لهم الولاء»، ولا يأذن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في عقد باطل، وقال الشيخ تقي الدين: إذا قلنا: إنَّه صحيح: فهل يصح الشرط؟ فيه خلاف عند الشَّافعي، والقول ببطلانه موافق للحديث، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين.
فإن قلت: كيف يأذن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن في البيع حتى يقع على هذا الشرط ويُقدم البائع عليه، ثم يبطل اشتراطه؟
قلت: أجيب عنه بأجوبة:
الأول: ما قاله الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي: وهو أنَّه لم يوجد اشتراط الولاء في حديث عائشة إلا من رواية مالك عن هشام، فأما من سواه، وهو اللَّيث بن سعد وعمرو بن الحارث؛ فإنَّهما رويا عن هشام أن [11] السؤال لولاء بريرة إنَّما كان من عائشة لأهلها بأداء مكاتبتها إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعك ذلك عنها، ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق»، وهذا خلاف ما رواه مالك عن هشام: «خذيها واشرطي، فإنَّما الولاء لمن أعتق»، مع أنَّه يحتمل أن يكون معنى (اشرطي): أظهري؛ لأنَّ الاشتراط في كلام العرب: الإظهار، ومنه قول أوس بن حجر:
~فأشرط فيها نفسه وهو مُعصم .........
أي: أظهر نفسه، أي: أظهري الولاء الذي يوجبه إعتاقك أنَّه لمن يكون العتاق منه دون من سواه.
الثاني: أن معنى (اشترطي لهم)؛ أي: عليهم، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، قيل: فيه نظر؛ لأنَّ سياق الحديث وكثيرًا من ألفاظه ينفيه، ورُدَّ بأنَّ القرينة الحالية تدل على هذا مع أن مجيء اللَّام بمعنى (على) كثير في القرآن، والحديث، والأشعار، كما لا يخفى.
الثالث: أنَّه على الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النَّهي، كما في قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} [الإسراء: 64]، ألا ترى أنَّه عليه السَّلام صعد المنبر وخطب، وقال: (ما بال أقوام ... ) إلى آخره.
الرابع: أنَّه عليه السَّلام قد كان أخبرهم بأنَّ الولاء لمن أعتق، ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه، فوَرَد هذا اللَّفظ على سبيل الزجر، والتوبيخ، والتنكير؛ لمخالفتهم الحكم الشرعي.
الخامس: أنَّ إبطال هذا الشرط عقوبة ونكال؛ لمعاندتهم في الأمر الشرعي فصار هذا من باب العقوبة بالمال؛ كحرمان القاتل من الميراث، وكان عليه السَّلام بيَّن لهم حكم الولاء، وأن هذا الشرط لا يحل، فلما لحُّوا وعاندوا؛ أبطل شرطهم.
السَّادس: أنَّ هذا خاص بهذه القضية، لا عام في سائر الصور، ويكون سبب التخصيص بإبطال هذا الشرط: المبالغة في زجرهم عن هذا الاشتراط المخالف للشرع، كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصًّا بتلك الواقعة؛ مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج.
وقال القاضي عياض: (المشكل في هذا الحديث: ما وقع في طريق هشام ههنا، وهو قوله عليه السَّلام: «اشتريها وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء»، فكيف أمرها عليه السَّلام بهذا وفيه عقد بيع على شرط؛ وهو لا يجوز وتغرير [12] بالبائعين إذا شرط لهم ما لا يصح؟ ولما صعب الانفصال عن هذا على بعض الناس؛ أنكر هذا الحديث أصلًا، وحكي ذلك عن يحيى بن أكتم، وقد وقع في كثير من الروايات سقوط هذه اللَّفظة، وهذا الذي شجع يحيى على إنكارها) انتهى.
الخامس من الأحكام: ما زعمه الخطابي أنَّ فيه دليلًا على جواز بيع المكاتب رضي به أو لم يرض، عجز عن أداء نجومه أو لم يعجز، أدى بعض النجوم أم لا، وقال الشيخ تقي الدين: اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب: المنع، والجواز، والفرق بين أن يُشتَرى للعتق؛ فيجوز، أو للاستخدام؛ فلا يجوز، أما من أجاز بيعه؛ فاستدل بهذا الحديث، فإنَّه ثبت أنَّ بريرة كانت مكاتبة، وهو قول عطاء، والنخعي، وأحمد، ومالك في رواية، وقال أبو حنيفة والشَّافعي ومالك في رواية: لا يجوز بيعه، وهو قول ابن مسعود وربيعة، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة وأصحابه: أنَّه لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبًا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته [13] بحال، وهو قول الشَّافعي بمصر، وكان بالعراق يقول: يجوز بيعه، وقال النَّووي: (قال بعض العلماء يجوز بيعه للعتق لا للاستخدام) انتهى.
السَّادس من الأحكام: ما زعمه الخطابي: فيه جواز بيع الرقبة بشرط العتق؛ لأنَّ القوم قد تنازعوا الولاء، ولا يكون الولاء إلا بعد العتق، فدل على أنَّ العتق كان مشروطًا في البيع.
واعترضه إمامنا الشَّارح فقال: إذا اشترط البائع على المبتاع إيقاع معنًى من معاني البر، فإن اشترط عليه من ذلك ما يتعجل، كالعتق المعجل؛ فذلك جائز عند الشَّافعي، وغير جائز عند الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه.
فإن امتنع البائع من إنفاذ العتق؛ فقال أشهب: يجبر على العتق، وقال ابن كنانة: لو رضي البائع بذلك لم يكن له ذلك ويعتق عليه، وقال ابن القاسم: إن كان اشتراه على إيجاب العتق؛ فهو حر، وإن اشتراه من غير إيجاب عتق؛ لم يجبر على عتقه، والإيجاب: أن يقول: [إن] اشتريته منك؛ فهو حر، وإن لم يقل ذلك وإنما اشترط أن يستأنف عتقه [14] بعد كمال ملكه؛ فليس بإيجاب، وقال الشَّافعي: (البيع فاسد، ويمضي العتق اتباعًا للسنة)، وروي عنه: (البيع جائز والشرط باطل)، وروى المزني عنه: (لا يجوز تصرف المشتري بحال في البيع الفاسد)، وهو قول الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم، واستحسن الإمام الأعظم والإمام محمَّد بن الحسن أن يجيز له العتق، ويجعل عليه الثمن، وإن مات قبل أن يعتقه؛ كانت عليه القيمة، وقال الإمام أبو يوسف: (العتق جائز وعليه القيمة).
والحجة القوية للإمام الأعظم في هذا الباب وأمثاله: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف، وعن شرطين في بيعة)، وعنه أيضًا: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع»، أخرجه الأربعة والطَّحاوي بأسانيد صحاح، وفسروا قوله عليه السَّلام: (وعن شرطين في بيع)؛ بأن البيع في نفسه شرط، فإذا شرط فيه شرط آخر؛ فقد
%ص 643%
صار شرطين.
وقول الخطابي: (فدل على أنَّ العتق كان مشروطًا في البيع)؛ لا دليل له فيه ظاهرًا، والحكم به على جواز البيع بالشرط غير صحيح؛ لأنَّه مخالف لظاهر الحديث الصَّحيح؛ فليحفظ.
السَّابع من الأحكام: ما زعمه الخطابي أيضًا: فيه أنَّه ليس كل شرط يشترط في بيع كان قادحًا في أصله ومفسدًا له، وأن معنى ما وَرَد من النَّهي عن بيع وشرط منصرف إلى بعض البيوع وإلى نوع من الشروط، وقال القاضي عياض: (الشروط المقارنة للبيع ثلاثة أقسام؛ أحدها: أن يكون من مقتضى العقد؛ كالتسليم وجواز التصرف في البيع، وهذا لا خلاف في جواز اشتراطه؛ لأنَّه يقضى به وإن لم يشترط، والثاني: ألا يكون من مقتضاه، لكنها من مصلحته؛ كالحيل، والرهن، واشتراط الخيار، فهذا أيضًا يجوز اشتراطه؛ لأنَّه من مصلحته فأشبه ما كان من مقتضاه، الثالث: أن تكون خارجة عن ذلك مما لا يجوز اشتراطه في العقود، بل يمنع من مقتضى العقد، أو يوقع فيه غررًا [15] أو غير ذلك من الوجوه الممنوعة، وهذا موضع اضطراب العلماء) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: وعند أصحابنا الأعلام البيع بالشرط على ثلاثة أوجه:
الأول: البيع والشرط كلاهما جائزان، وهو على ثلاثة أنواع؛ أحدها: أنَّ كل شرط يقتضيه العقد ويلائمه؛ فلا يفسده؛ بأن اشترى أمة بشرط أن تخدمه أو يغشاها، أو دابة بشرط أن يركبها، ونحو ذلك، النوع الثاني: كل شرط لا يقتضيه العقد، ولكنه يلائمه بأن شرط أن يرهنه بالثمن رهنًا وسماه، أو يعطيه كفيلًا وسماه، والكفيل حاضر، فقبله، وكذلك الحوالة؛ جاز ذلك استحسانًا، خلافًا للإمام زفر رحمه الله تعالى، النوع الثالث: كل شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولكن وَرَد الشرع بجوازه؛ كالخيار والأجل، أو لم يرد الشرع به ولكنه متعارف متعامل بين الناس به؛ بأن اشترى نعلًا على أنْ يحذوه البائع أو قلنسوة بشرط أن يبطنها؛ جاز ذلك استحسانًا، خلافًا للإمام زفر رضي الله عنه.
الوجه الثاني: البيع والشرط [16] كلاهما فاسدان، وهو كل شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه وفيه منفعة لأحدهما أو للمعقود عليه؛ بأن اشترى حنطة على أنْ يطحنها البائع، أو عبدًا على ألا يبيعه، وكذا على ألا يعتقه، خلافًا للشافعي فيه، فإن أعتقه ضَمِنَ الثمن استحسانًا عند الإمام الأعظم، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمَّد بن الحسن: عليه قيمته.
الوجه الثالث: البيع جائز والشرط باطل، وهو على ثلاثة أنواع؛ الأول: كل شرط لا يقتضيه العقد وليس فيه منفعة، بل فيه مضرة؛ بأن باع ثوبًا أو دابة بشرط ألا يبيعه ولا يهبه، أو طعامًا بشرط ألا يأكل منه ولا يبيعه [17]؛ جاز البيع وبطل الشرط، الثاني: كل شرط لا يقتضيه العقد، وليس فيه منفعة ولا مضرة لأحد؛ بأن باع طعامًا بشرط أن يأكله؛ جاز البيع وبطل الشرط، الثالث: كل شرط يوجب منفعة لغير المتعاقدين والمبيع؛ نحو: البيع بشرط أن يقرض أجنبيًّا؛ لا يفسد البيع، انتهى.
الثامن من الأحكام: ما زعمه الخطابي: فيه دليل على أنَّه لا ولاء لمن أسلم على يديه ولا لمن حالف إنسانًا على المناصرة، وقال الشيخ تقي الدين: فيه حصر الولاء للمعتق فيقتضي ذلك أن لا ولاء بالحلف والموالاة، وبإسلام الرجل على يدي الرجل، ولا بالتقاطه للقيط، وكل هذه الصور فيها خلاف بين الفقهاء، ومذهب الشَّافعي: لا ولاء في شيء منها؛ للحديث، انتهى.
قال إمام الشَّارحين: الولاء عند أصحابنا الأعلام نوعان؛ أحدهما: ولاء العتاقة، والآخر: ولاء الموالاة، وقد كانت العرب تتناصر بأشياء؛ بالقرابة، والصداقة، والحلف، والمؤاخاة، والعصبة، وولاء العتاقة، وولاء الموالاة، وقد قرر النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم تناصرهم بالولاء بنوعيه؛ وهما: العتاقة وولاء الموالاة، وقال عليه السَّلام: «إنَّ مولى القوم منهم وحليفهم منهم»، رواه أربعة من الصَّحابةرضي الله عنهم، فالإمام أحمد ابن حنبل في «مسنده» من حديث إسماعيل بن عبيد بن رفاعة بن رافع الزرقي، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم، وابن أختهم منهم، وحليفهم منهم»، والبزار في «سننه» من حديث أبي هريرة عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: «حليف القوم منهم، وابن أختهم منهم»، والدارمي في «مسنده» من حديث عمرو بن عوف: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ابن أخت القوم منهم، وحليف القوم منهم»، والطَّبراني في «معجمه» من حديث عتبة بن غزوان عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ نحوه، والمراد بالحليف: مولى الموالاة [18]؛ لأنَّهم كانوا يؤكدون الموالاة [19] بالحلف، انتهى.
قلت: وهذه الأحاديث صحيحة الأسانيد، وهي حجة على الشَّافعي وغيره ممن [20] منع ذلك؛ فافهم.
التاسع من الأحكام: ما قاله إمامنا الشَّارح: فيه أنَّه يستحب للإمام عند وقوع بدعة أن يخطب الناس، ويبين لهم حكم ذلك وينكر عليهم، كما فعل النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.
العاشر من الأحكام: فيه أنَّه يستحب للإمام أن يحسن العشرة مع رعيته، ألا ترى أنَّه عليه السَّلام لما خطب الناس؛ لم يواجه صاحب الشرط بعينه؛ لأنَّ المقصود يحصل له ولغيره بدون فضيحة وشهرة عليه.
الحادي عشر: فيه المبالغة في إزالة المنكر والتغليظ في تقبيحه.
الثاني عشر: فيه جواز كتابة الأمَة دون زوجها.
الثالث عشر: فيه أنَّ زوج [21] الأمة ليس له منعها من السعي في كتابتها.
وقال أبو عمرو: لو استدل من هذا المعنى بأن الزوجة ليس عليها خدمة زوجها؛ كان حسنًا، انتهى، قلت: ليس هذا بحسن أصلًا، فإن الحسن ما استحسنه الشَّارع، وقد فرض الخدمة داخل الدار على الزوجة، وخارج الدار على الزوج، وهو حكمة بالغة من الشَّارع وحس عظيم؛ فافهم.
الرابع عشر: فيه دليل على أنَّ العبد زوج الأمة ليس له منعها من الكتابة التي تؤول إلى عتقها، وفراقها له، كما أنَّ لسيد الأمة عتق أمته تحت العبد وإن أدى ذلك إلى إبطال نكاحه، وكذلك له أن يبيعها من زوجها الحر وإن كان في ذلك بطلان عقده.
الخامس عشر: فيه دليل على أنَّ بيع الأمة ذات الزوج ليس بطلاق لها؛ لأنَّ العلماء قد اجتمعوا _ولم يُختلف في تلك الأحاديث أيضًا_: أن بريرة كانت حين اشترتها عائشة ذات زوج، وإنما اختلفوا في زوجها هل كان حرًّا أو عبدًا؟ وقد أجمع علماء المسلمين على أنَّ الأمة إذا أُعتقَتْ وزوجها عبد أنَّها تُخير، واختلفوا إن كان زوجها حرًّا هل تخير أم لا؟
السَّادس عشر: فيه دليل على جواز أخذ السيد نجوم المكاتب من مسألة الناس؛ لترك النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم زجرها عن مسألة عائشة؛ لأنَّها كانت تستعينها في أداء نجمها، وهذا يرد قول من كره كتابة المكاتب الذي يسأل الناس، وقال: يطعمني أوساخ الناس.
السَّابع عشر: فيه دليل على جواز نكاح العبد الحرة؛ لأنَّها إذا خيرت فاختارته؛ بقيت معه وهو عبد وهي حرة.
%ص 644%
الثامن عشر: قالوا: فيه دليل على ثبوت الولاء في سائر وجوه [22] العتق؛ كالكتابة والتَّعليق بالصِّفة وغيرها.
التاسع عشر: فيه دليل على قبول خبر العبد والأمة؛ لأنَّ بريرة أخبرت أنَّها مكاتبة، فأجابتها عائشة بما أجابت، انتهى.
(قال علي) هو ابن عبد الله المديني شيخ البخاري: (قال يحيى) هو ابن سعيد القطان (وعبد الوهاب) هو ابن عبد المجيد الثقفي وهو معطوف على يحيى، وفي رواية ابن عساكر: (قال أبو عبد الله _يعني: البخاري_ قال: يحيى وعبد الوهاب)، وعليها فيكون معلقًا، وقد وصله الإسماعيلي من طريق محمَّد بن بشار عنهما، (عن يحيى) هو ابن سعيد الأنصاري، (عن عمرة)؛ أي: المذكورة في السند السَّابق زاد الأصيلي: (نحوه)؛ يعني: نحو رواية مالك من صورة الإرسال، وعدم ذكر (المنبر) و (عائشة)، (وقال جعفر بن عَون) بالنُّون آخره قبلها واو ساكنة، وعين مفتوحة مهملة، مما وصله النسائي والإسماعيلي، (عن يحيى) هو ابن سعيد الأنصاري (قال: سمعت عمرة قالت: سمعت عائشة)، ففي هذا الطريق التصريح بسماع كل من يحيى وعمرة، فأُمِنَ بذلك الإرسال بخلاف السَّابق، فإنَّه بالعنعنة مع إسقاط عائشة، وإنما أفرد المؤلف رواية سفيان؛ لمطابقتها للتَّرجمة بذكر المنبر فيها، ويؤيده أنَّ التَّعليق عن مالك متأخر في رواية كريمة عن طريق جعفر بن عون؛ فافهم، وتمامه في «عمدة القاري».
(رواه) ولأبي ذر، والأصيلي: (ورواه) بالواو؛ أي: حديث الباب، وهذه رواية (الفرع) وفي رواية تقديمه عن قوله: (قال علي) (مالك): هو ابن أنس الأصبحي، فيما وصله المؤلف في باب المكاتب، (عن يحيى) هو ابن سعيد، (عن عمرة) هي بنت عبد الرحمن المذكورة: (أن بريرة)؛ يعني: فذكر الحديث، لكنه لم يسنده إلى عائشة، (ولم يذكر) مالك فيه قوله: (فصعد المنبر)، وفي رواية: (ولم يذكر صعد على المنبر)، فصورة سياقه الإرسال، وقد وصله النسائي والإسماعيلي من رواية جعفر بن عون، وفيه عن عائشة قالت: (أتتني بريرة ... )؛ فذكر الحديث، وليس فيه ذكر المنبر أيضًا، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الجراح)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (بقية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أربع عشرة)، ولا يصح.
[4] زيد في الأصل: (بلفظ المتكلم)، ولعل الصواب حذفها.
[5] (بلفظ المتكلم): جاء في الأصل بعد قوله: (بتشديد الكاف وسكون التاء)، ولعل الصواب إثباتها هنا.
[6] في الأصل: (آخره)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (كان)، ولعله تحريف.
[8] في الأصل: (الكثرة، لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (محب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (لكتابة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (عن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (وتقدير)، وهو تحريف.
[13] في الأصل: (كتابية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] في الأصل: (عنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[15] في الأصل: (غرورًا)، وليس بصحيح.
[16] في الأصل: (والشراء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[17] في الأصل: (يبيع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[18] في الأصل: (المولاة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[19] في الأصل: (المولاة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[20] في الأصل: (مما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[21] في الأصل: (الزوج).
[22] في الأصل: (الوجوه).
==================
[1] في الأصل: (الجراح)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (بقية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أربع عشرة)، ولا يصح.
[4] زيد في الأصل: (بلفظ المتكلم)، ولعل الصواب حذفها.
[5] (بلفظ المتكلم): جاء في الأصل بعد قوله: (بتشديد الكاف وسكون التاء)، ولعل الصواب إثباتها هنا.
[6] في الأصل: (آخره)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (كان)، ولعله تحريف.
[8] في الأصل: (الكثرة، لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (محب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (لكتابة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (عن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (وتقدير)، وهو تحريف.
[13] في الأصل: (كتابية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] في الأصل: (عنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[15] في الأصل: (غرورًا)، وليس بصحيح.
[16] في الأصل: (والشراء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[17] في الأصل: (يبيع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[18] في الأصل: (المولاة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[19] في الأصل: (المولاة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[20] في الأصل: (مما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[21] في الأصل: (الزوج).
[1] في الأصل: (الجراح)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (بقية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أربع عشرة)، ولا يصح.
[4] زيد في الأصل: (بلفظ المتكلم)، ولعل الصواب حذفها.
[5] (بلفظ المتكلم): جاء في الأصل بعد قوله: (بتشديد الكاف وسكون التاء)، ولعل الصواب إثباتها هنا.
[6] في الأصل: (آخره)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (كان)، ولعله تحريف.
[8] في الأصل: (الكثرة، لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (محب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (لكتابة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (عن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (وتقدير)، وهو تحريف.
[13] في الأصل: (كتابية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] في الأصل: (عنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[15] في الأصل: (غرورًا)، وليس بصحيح.
[16] في الأصل: (والشراء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[17] في الأصل: (يبيع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[18] في الأصل: (المولاة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[19] في الأصل: (المولاة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[20] في الأصل: (مما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[21] في الأصل: (الزوج).
(1/765)
(71) [باب التقاضي والملازمة في المسجد]
هذا (باب) بيان حكم (التقاضي) بالضَّاد المعجمة؛ أي: مطالبة الغريم بقضاء الدَّين (و) حكم (الملازمة)؛ أي: ملازمة الغريم في طلب الدَّين، وقوله: (في المسجد) متعلق بـ (التقاضي)، وبـ (الملازمة) أيضًا بالتقدير؛ لأنَّه معطوف عليه، قاله إمام الشَّارحين، قلت: فهو على سبيل التنازع أو حذف من الأول بناء على ما اختاره البصريون، والألف واللَّام في (المسجد) للجنس، فيشمل كل مسجد من مساجد المسلمين، وجوَّز العجلوني أن يكون (في المسجد) حال من التقاضي ومن الملازمة، قلت: الأول أظهر كما لا يخفى؛ فافهم.
==========
%ص 645%
==================
(1/766)
[حديث: ضع من دينك هذا]
457# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا) بالجمع، ولابن عساكر: (حدثني) بالإفراد (عبد الله بن محمَّد) هو ابن عبد الله بن جعفر بن اليمان الجعفي البخاري، المعروف بالمسندي، المتوفى يوم الخميس لست ليال بقين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عثمان بن عُمر)؛ بِضَمِّ العين المهملة: هو ابن فارس البصري العبدي (قال: أخبرنا يونس) هو ابن يزيد الأيلي، (عن الزهري) هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب المدني، (عن عبد الله بن كعب بن مالك) هو الأنصاري السلمي المدني (عن كعب)؛ أي: أبيه ابن مالك الأنصاري الشاعر، أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم حين تخلفوا عن غزوة تبوك، وأنزل فيهم: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ... } الآية [التوبة: 118]، المتوفى بالمدينة سنة خمسين، وكان ابنه عبد الله قائده حين عمي رضي الله عنهم: (أنه) بفتح الهمزة؛ أي: كعبًا (تقاضى)؛ بالضَّاد المعجمة؛ أي: طالب، وهو على وزن (تفاعل)، وأصل هذا الباب لمشاركة أمرين فصاعدًا؛ نحو: تشاركا، قاله الشَّارح، وقوله: (ابنَ أبي حدرد) بنصب (الابن) مفعول لـ (تقاضى)؛ لأنَّه متعد إلى مفعول واحد وهو الابن، قاله الكرماني، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: إذا كان (تفاعل) من (فاعل) المتعدي إلى مفعول واحد كضارب؛ لم يتعد، وإن كان من المتعدي إلى مفعولين كجاذبته الثوب؛ يتعدى إلى واحد، انتهى، قلت: فقد أطلق الكرماني في محل التقييد، والمراد: الثاني، كما لا يخفى.
وقوله: (دينًا): منصوب بنزع الخافض؛ أي: بدين؛ قاله الكرماني.
قال الشَّارح: إنَّما وُجِّه بهذا؛ لأنَّا قلنا أن (تفاعل) إذا كان من المتعدي إلى مفعولين؛ لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، انتهى.
قلت: وعلى هذا فليس (دينًا) منصوب بـ (تقاضى)؛ لأنَّ (تقاضى) مطاوع (قاضى) المتعدي إلى اثنينن فيتعدى لواحد، وقول «القاموس»: من تقاضاه الدين؛ بمعنى: أقبضه لا طالبه، كما ذكره المؤلف في باب (الصلح).
وقول العجلوني: (ويجوز أن يكون بمعنى: سأله الدين، فيصح أن ينصب مفعولين)؛ ممنوع؛ لأنَّ اللَّفظ يرده، فإن المقاضاة غير السؤال، كما لا يخفى.
واسم أبي حدرد: عبد الله بن سلامة، كما صرح به البخاري في إحدى رواياته، وهو صحابي على الأصح، شهد الحديبية وما بعدها، توفي سنة إحدى أو اثنتين وسبعين عن إحدى وثمانين سنة، وقال الذهبي: عبد الله بن سلامة بن عُمَيْر؛ هو عبد الله ابن أبي حدرد الأسلمي، أُمِّر على غير سرية، وحروف (حَدْرَد) كلها مهملات، والحاء والرَّاء مفتوحتان، والدَّال ساكنة، وقال الجوهري: حدرد: اسم رجل، ولم يأت من الأسماء على «فعلع»؛ بتكرار العين غيره، كذا في «عمدة القاري»، قلت: وهو في الأصل: القصير، ثم جعل عَلمًا؛ فافهم.
وقوله: (كان له عليه): جملة محلها النصب صفة لقوله: (دينًا)؛ أي: كان لكعب على ابن أبي حدرد، وكان الدين أوقيتين، كما أخرجه الطَّبراني من طريق الزهري عن كعب: أنَّه عليه السَّلام مر به وهو ملازم رجلًا في أوقيتين، فقال له عليه السَّلام: «هكذا»؛ أي: ضع الشطر، فقال الرجل: نعم يا رسول الله، فقال: «أد إليه ما بقي من حقه»، (في المسجد)؛ أي: الشريف النَّبوي، والجار والمجرور متعلق بـ (تقاضى)، قاله الشَّارح، قلت: فالألف واللَّام فيه للعهد.
وجوز العجلوني أن يكون الجار والمجرور حال من فاعله أو مفعوله أو منهما، انتهى.
قلت: الأول أظهر؛ لأنَّ ذلك صفة لازمة سيق به؛ لأجل مطابقته للتَّرجمة، أما الحال؛ فصفة غير لازمة، فكونه حالًا هنا غير ظاهر، والأظهر الأول كما لا يخفى؛ فافهم.
(فارتفعت)؛ أي: عَلَتْ عن الأصل (أصواتهما) بالجمع، وهو فيه من قبيل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، ويجوز اعتبار الجمع في صوتيهما باعتبار أنواع الصوت، قاله إمامنا الشَّارح (حتى سمعهما)؛ أي: الرجلين باعتبار الأصوات
%ص 645%
أو باعتبار الصوتين نظرًا إلى أنَّه المراد، ويدل عليه أنَّه عند أبي ذر والأصيلي في روايتهما: (حتى سمعها)؛ أي: الأصوات (رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقوله: (وهو) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (في بيته) جملة اسمية في محل نصب على الحال من رسول الله عليه السَّلام، (فخرج) أي: النَّبي الأعظم عليه السَّلام من بيته (إليهما)؛ أي: إلى الرجلين؛ ليفصل بينهما، والفاء للتعقيب، وفي رواية الأعرج: (فمر بهما النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم).
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: كيف التوفيق بين الروايتين؛ لأنَّ الخروج غير المرور؟ قلت: وفَّق قوم بينهما بأنَّه يحتمل أن يكون مرَّ بهما أولًا، ثم إنَّ كعبًا لما أشخص خصمه للمحاكمة فتخاصما، وارتفعت أصواتهما، فسمعها عليه السَّلام، وهو في بيته فخرج إليهما).
واعترضه ابن حجر فزعم أن فيه بعدًا؛ لأنَّ في الطريقين أنَّه عليه السَّلام أشار إلى كعب بالوضيعة، وأمر غريمه بالقضاء، فلو كان أمره بذلك تقدم؛ لما احتاج إلى الإعادة، والأولى فيما يظهر لي أن يحمل المرور على أمر معنوي لا حسي.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: وقوله: «وفيه بعد» الذي استبعد هذا فقد أبعد؛ لأنَّ إعادة ذلك قد تكون للتأكيد؛ لأنَّ الوضيعة أمر مندوب، والتأكيد بها مطلوب.
وقوله: «والأولى ... » إلخ؛ إن أراد بالأمر المعنوي: الخروج؛ ففيه إخراج اللَّفظ عن معناه الأصلي بلا ضرورة، والأولى أن يكون اللَّفظ على معناه الحقيقي، ويكون المعنى أنَّه عليه السَّلام لما سمع أصواتهما؛ خرج من البيت لأجلهما، ومر بهما، والأحاديث يُفسر بعضها بعضًا، ولا سيما في حديث واحد روي بوجوه مختلفة، وفي رواية الطَّبراني من حديث زمعة بن صالح، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه: (أنه عليه السَّلام مر به، وهو ملازم رجلًا [1] في أوقيتين، فقال له عليه السَّلام: «هكذا»؛ أي: ضع الشطر، فقال الرجل: نعم يا رسول الله، فقال: «أدِّ إليه ما بقي من حقه») انتهى.
قلت: وهذا هو الصَّواب، وما زعمه ابن حجر باطل ممنوع.
وقوله: (فيه بُعد)؛ ممنوع؛ لأنَّه لا يلزم من ذكر الإشارة إلى كعب بالوضعية في الطريقين ألا يكون عليه السَّلام مر بهما، مع أنَّه قد ثبت في رواية الطَّبراني: (أنه عليه السَّلام مر بهما) كما ساقها إمام الشَّارحين، والعناد بعد ذلك مكابرة، وإعادته عليه السَّلام الأمر له بالوضيعة ظنًّا منه عليه السَّلام باحتمال عدم الوضع؛ لأنَّ الأمر فيه للندب، فأعاده؛ للتأكيد ولخوف الغفلة والنِّسيان.
وقوله: (والأولى ... ) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّه لم يبين ما معنى هذا الأمر المعنوي؟ وكيف يحمل عليه واللَّفظ في الأحاديث صريح في المعنى الحقيقي؟! فالحمل عليه متعين؛ لأنَّه لا يعدل عن المعنى الحقيقي إلا لضرورة، وههنا يتعين الحمل على الحقيقي، والحمل على المعنوي هنا مخالف لصريح لفظ الأحاديث، فلا يعول عليه مع أن معناه غير ظاهر؛ فافهم.
وزاد في الطنبور نغمة العجلوني فزعم معترضًا على إمام الشَّارحين فقال: (أقول: لا شك في استبعاده، واحتمال التأكيد خلاف الأصل، ومراده «والأولى ... » إلى آخره؛ أي: من هذا الوجه المستبعد، وإن كان الأولى منهما بقاء اللَّفظ على حقيقته) انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، بل الصَّواب أنَّه غير بعيد عن الأفهام، والمعنى الصَّحيح الموافق للأحاديث هو ما ذكره إمام الشَّارحين؛ لأنَّه لم يُخلَّ بمعنًى من المعاني ويلزم على ما ذكره الزاعم فوت بعض معاني الأحاديث بدون فائدة، وكلامه عليه السلام مصان ومنزه عن عدم الفائدة.
وقوله: (واحتمال التأكيد ... ) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّ التأكيد ههنا لازم؛ حيث إنَّ الأمر المذكور للندب لا للفرضية، فلو كان الأمر فرضًا؛ لا يلزم التأكيد، لكن لما كان الأمر فيه للندب؛ كان التأكيد فيه لازمًا، لاسيما أنَّه عليه السَّلام قد ظنَّ أنَّه نسي أو غفل بسبب المخاصمة، فأعاده؛ لأجل التأكيد والتذكير وغير ذلك مما يفيد إتيانه بالوضيعة.
وقوله: (ومراده ... ) إلخ؛ هذا تَنزُّلٌ منه، والمحققون قالوا: لا يجوز العدول عن المعنى الحقيقي إلا لضرورة، ولا ضرورة ههنا، فالحمل على المعنى الحقيقي ههنا متعين؛ لأنَّه الأصل في الكلام، والمعنى عليه في الروايات، وعلى ما زعمه الزاعم؛ يلزم منه الخلل في المعاني والألفاظ، وخلو الأحاديث عن المعنى، وهو غير جائز؛ فاجتنب ذلك ولا تكن من الغافلين، والله أعلم؛ فافهم.
(حتى كَشَفَ)؛ بفتحات؛ أي: رفع (سِجْف)؛ بكسر السين المهملة وفتحها، بعدها جيم ساكنة وفاء، قاله إمام الشَّارحين، قلت: وظاهره أن الكسر والفتح سواء، وزعم ابن حجر أنَّه بكسر السين، وقد تفتح فجعل الفتح أقل من الكسر، وهو مخالف لما في «القاموس»؛ لأنَّه قال: السَّجفويكسر، وككِتَاب، وهو صريح في أن الكسر مساوي للفتح أو أقل من الفتح، وهو يَرد ما زعمه ابن حجر، ويدل لما قاله إمامنا الشَّارح؛ فافهم، ولا تكن من الغافلين، أي: ستر (حُجرته)؛ بِضَمِّ الحاء المهملة: حظيرة الإبل، ومنه: حجرة الدار، تقول: احتجر حجرة؛ أي: اتخذها، والجمع: حُجَر _كغُرْفَة وغُرَف_ وحُجُرات؛ بِضَمِّ الجيم، وهو غاية لقوله: (فارتفعت أصواتهما)، ووجه جعله غاية أنَّه عليه السَّلام لما سمع صوتهما؛ إما أنَّه رفع صوته حتى أسمعهما أنَّه سيخرج إليهما؛ لأجل الفصل بينهما، وأنه علم بحالهما، وإما أنَّه قام من مجلسه ومشى حتى انتهى إلى باب حجرته حتى كشف سجفها، فقوله: (فخرج إليهما) يحتمل المعنيين المذكورين، فهذا وجه جعله غاية لقوله: (فخرج إليهما).
وقد خفي هذا على العجلوني فزعم: (وانظر وجه جعله غاية لقوله: «فخرج إليهما» ولو قال: حين كشف؛ لكان أظهر، فكأنَّه أوَّل «فخرج إليهما» بـ «أراد»؛ فتأمل) انتهى.
قلت: أما قوله: (وانظر ... ) إلى آخره؛ قد علمت وجهه مما ذكرناه، وقوله: (ولو قال ... ) إلى آخره؛ ممنوع، ولا حاجة إليه مع ظهور وجهه؛ لأنَّه إذا أمكن العمل بالحقيقة؛ لا يصار إلى المجاز عند المحققين، وعدم التأويل أولى من التأويل، ولا ريب أن كلام الراوي أظهر وأولى؛ لأنَّه متضمن لمعانٍ قد خفيت على كثير؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (قال ابن سيده: السجف: الستر، وقيل: هو الستران المقرونان بينهما فرجة، وكل باب ستر بسترين مقرونين؛ فكل شق منه سجف، والجمع: أسجاف وسجوف، وربما قالوا: السجاف والسجف والتسجيف: إرخاء السجف، زاد في «المخصص» و «الجامع»: وبيت مسجف، وفي «الصِّحاح»: أسجفت الستر؛ أي: أرسلته، وقال:
%ص 646%
القاضي عياض: لا يسمى سجفًا إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين، قلت: الذي قاله ابن سيده يرده) انتهى كلام إمامنا الشَّارح.
قلت: ووجه الرد أنَّه قال: السَّجف: الستر، وهو الأشمل بما قاله القاضي، وكذلك قول «الصِّحاح»: أسجفت الستر: أرسلته، فإنَّه أيضًا أشمل، وكذلك قول «القاموس»: السجف: الستر.
وزاد في الطنبور نغمة العجلوني معترضًا على الشَّارح بأن قول ابن سيده: (وقيل: هو الستران ... ) إلخ، وكذا وقع في قول «القاموس»؛ هو عين ما قاله القاضي عياض، والشيء إذا كان فيه خلاف؛ لا يرد أحد القولين بالآخر إلا إذا كان منه، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ قول ابن سيده: (وقيل) قول ضعيف عند اللغويين؛ لأنَّه صيغة تمريض يأتي بها المؤلفون؛ للإشارة لضعف قول قائله وشذوذه، فهو غير مُعْتد به؛ لأنَّ الذي عليه أئمة اللُّغة هو الأول، وهو ظاهر في الرَّد على القاضي عياض، وكذلك عبارة «القاموس»؛ لأنَّه قال: (السجف: الستر، سجوف وأسجاف)، ثمَّ قال: (والسجف: الستران)، وهو عين كلام ابن سيده، وعلى كلِّ حال فإنَّ القول الثاني شاذ أو ضعيف، والصَّحيح الأول، وهو ظاهر في الرد عليه، فكأنَّه لا خلاف؛ لضعف القول الثاني، فحينئذ صح القول بالرد؛ فافهم.
(فنادى) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (يا كعبُ) بالبناء على الضم (قال)؛ أي: كعب: (لبيك يا رسول الله) تثنية اللب؛ وهو الإقامة، وهو مفعول مطلق يجب حذف عامله، وهو من باب الثنائي [2] الذي للتأكيد والتكرار، ومعناه: لبًّا بعد لب؛ أي: أنا مقيم على إجابتك وطاعتك إقامة بعد إقامة، أفاده إمام الشَّارحين، (فقال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (ضعْ) على وزن (فع) أمر من وضع يضع، والمراد به: الحط من الدين؛ أي: حط عن غريمك (من دينك)، والأمر فيه للندب، قاله الشَّارحون، قلت: الأصل في الأمر الوجوب إلا أن يصرفه صارف عنه، وههنا جاء الدليل على الندب كما يفهم من كلامهم، (هذا) مفعول قوله: (ضع)، وهو إشارة إلى الشطر الآتي (وأومأ) بهمز أوله وآخره؛ أي: أشار عليه السَّلام (إليه) أي: إلى كعب، وقوله: (أي الشطرَ)؛ أي: النصف، تفسير من الراوي لقوله: (هذا)، وجاء تفسير (الشطر) بالنصف في رواية الأعرج، كما سيأتي عند المؤلف، و (الشطر): منصوب تفسير لقوله: (هذا) المنصوب، وضمير (إليه) راجع إلى كعب كما ذكرناه، (قال) أي: كعب: والله (لقد فعلت يا رسول الله)؛ أي: ما أمرت به، وأخرجت منه الشطر، إنَّما أتى به ماضيًا مؤكدًا باللَّام والقسم المدلول عليه بها وبـ (قد)؛ مبالغة في امتثال ما أمره به، ولأبي ذر وابن عساكر والمستملي: (قد فعلت) بإسقاط اللَّام و (يا رسول الله)، (قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد: (قم) خطاب لابن أبي حدرد؛ (فاقضه)؛ أي: حقه، وهو الشطر على الفور والأمر على جهة الوجوب، لأنَّ رَبَّ الدين لما أطاع بوضع ما أُمر به؛ تعيَّن على المديان أن يقوم بما بقي عليه؛ لئلا يجتمع على رَبِّ الدين وضيعة ومطل، قاله إمام الشَّارحين.
وفيه إشارة إلى أنَّه لا يجتمع الوضيعة والتأجيل؛ لأنَّ صاحب الدين يتضرر _كما ذكرناه_ إلا أن يرضى رَبَّ الدين بالتأجيل، فيكون جائزًا؛ لأنَّه قد رضي بماله مؤجلًا، فلا عذر له.
قال إمام الشَّارحين: وجه مطابقة الحديث للتَّرجمة في التَّقاضي ظاهرة، وأما في الملازمة؛ فبوجهين؛ أحدهما: أن كعبًا لما طالب ابن أبي حدرد بديْنه في مسجده عليه السَّلام؛ لازمه إلى أن خرج النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وفصل بينهما، والآخر: أنَّه أخرج هذا الحديث في عدة مواضع كما سنذكرها، فذكر في باب (الصلح) وفي باب (الملازمة) عن عبد الله بن كعب عن أبيه: (أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد مال فلزمه ... )؛ الحديث، فكأنه أشار بلفظ الملازمة هنا إلى الحديث المذكور، على أنَّ ما ذكره في عدة مواضع كلها حديث واحد، وله عادة في بعض المواضع يذكر التَّرجمة بهذه الطريقة، انتهى.
ثم قال: (وفي الحديث دلالة على إباحة رفع الصوت في المسجد ما لم يتفاحش؛ لعدم الإنكار منه عليه السَّلام، وقد أفرد له البخاري بابًا يأتي عن قريب.
فإن قلت: قد وَرَد في حديث واثلة عند ابن ماجه يرفعه: «جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم»، وحديث مكحول عند أبي نعيم الأصبهاني عن معاذ مثله، وحديث جبير بن مطعم، ولفظه: «ولا يرفع فيه الأصوات»، وكذا حديث ابن عمر عند [3] أحمد.
قلت: أجيب بأن هذه الأحاديث ضعيفة، فبقي الأمر على الإباحة من غير معارض، ولكن هذا الجواب لا يعجبني؛ لأنَّ الأحاديث الضعيفة تتعاضد وتتقوى إذا اختلفت طرقها ومخرجها، والأولى أن يقال: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشًا، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش، وقال مالك: «لا بأس أن يقضي الرجل في المسجد دينًا، وأمَّا التجارة والصرف؛ فلا أحبه») انتهى كلام إمامنا الشَّارح.
وزعم ابن بطال: وفيه إنكار رفع الصوت في المسجد بغير القراءة إلا أنَّه عليه السَّلام لم يُعنفهما على ذلك؛ إذ كان لا بد لهما منه، انتهى.
قلت: وفيه بُعد؛ لأنَّه ليس في الحديث الإنكار في رفع الصوت في المسجد، وإنما كان خروجه عليه السَّلام إليهما؛ لأجل الفصل بينهما، ولاحتمال وقوع مشاتمة بينهما توجب التعزير [4] فبادر عليه السَّلام للفصل بينهما، ولهذا قال المهلب: لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز؛ لما تركهما النَّبي عليه السَّلام، ولبيَّن لهما ذلك، انتهى.
واعترضه ابن حجر فزعم بأنَّ لِمَن منع ذلك أن يقول: لعله تقدم نهيه عن ذلك، فاكتفى به واقتصر على الصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّه لو كان تقدم نهيه عن ذلك؛ لما كان يحصل بينهما مخاصمة ورفع صوت، ولكان عليه السَّلام يعيد النَّهي لهما على سبيل التأكيد والتذكير، واقتصاره على الصلح إنَّما كان لأجل تطييب خاطرهما، وحتى لا يحصل بينهما مشاتمة ومنافرة توجب التعزير، فاقتصاره على الصلح كان لأجل هذا لا لأجل ترك المخاصمة، فإن المخاصمة؛ لإظهار الحقوق غير مذمومة سواء كانت في المسجد أو غيره؛ فافهم.
وقال إمامنا الشَّارح: (وفي الحديث جواز الاعتماد على الإشارة؛ لقوله «هكذا»، وأنها بمنزلة الكلام إذا فهمت؛ لدلالتها عليه، فيصح على هذا يمين الأخرس، وشهادته، وأمانه، وعقوده؛ إذا فهم عنه ذلك.
%ص 647%
وفيه: إشارة الحاكم إلى الصلح على جهة الإرشاد، وههنا وقع الصلح على الإقرار المتفق عليه؛ لأنَّ نزاعهما لم يكن في الدَّين، وإنَّما كان في التقاضي، وأمّا الصلح على الإنكار؛ فأجازه الإمام الأعظم وكذا مالك بن أنس، وهو قول الحسن وغيره، ومنعه محمَّد بن إدريس، وبه قال ابن أبي ليلى.
وفيه: الملازمة في الاقتضاء، وفيه: الشفاعة إلى صاحب الحق والإصلاح بين الخصوم وحُسن التوسط بينهم، وفيه: قبول الشفاعة في غير معصية، وفيه: إسبال الستور عند الحجرة) انتهى.
وقال ابن بطال: (وفيه: المخاصمة في المسجد في الحقوق والمطالبة، وفيه: الحض على الوضع عن المعسر والقضاء بالصلح إذا رآه صلاحًا، والحكم عليه بالصلح إذا كان فيه صلاح له؛ لقوله: «قم فاقضه») انتهى.
==========
[1] في الأصل: (رجل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الثنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] زيد في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (التعذير)، وهو تحريف، وكذا في الموضع اللاحق.
==================
[1] في الأصل: (رجل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الثنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] زيد في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (رجل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الثنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] زيد في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
(1/767)
(72) [باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان]
هذا (باب) بيان فضل (كَنس المسجد)؛ بفتح الكاف، مصدر كَنَسَ؛ كـ (نَصَرَ): إزالة الكُناسة _بالضم_ وهي القمامة منه، قال الدماميني: (نبه به على مشروعية مثل هذا ولا يتخيل أنَّه ترفُّه للمصلين واشتغال بالدنيا وزينتها) انتهى، قلت: يعني: أنَّه نبَّه بهذا على أنَّه يستحب تنظيف محل الصلاة كالمسجد ونحوه التي هي أفضل العبادة ومناجاة الرب عز وجل، فيكون على أكمل الحالات وأحسن الهيئات، (والتقاط الخِرَق)؛ بكسر الخاء المعجمة، وفتح الرَّاء: جمع خِرْقَة _كسِدْرَة وسِدَر_ وهي قطع الثوب البالي الممتهن، قال إمام الشَّارحين: (والالتقاط هو أن تعثر على الشيء من غير قصد وطلب) انتهى.
واعترضه العجلوني (بأنَّه لم يعثر عليه في اللُّغة، لكنه قد يوافق الاصطلاحي، واستند لما في «القاموس»: الالتقاط: مصدر التقط؛ وهو أخذ الشيء من الأرض) انتهى.
قلت: وهذا كلام بارد من ذهن شارد، فإنَّه لا يلزم من عدم اطلاعه [1] عدم اطلاع غيره عليه لاسيما وقد أثبته مثل هذا الإمام فلا ينبغي القول بعدم وجوده؛ لأنَّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، والمُثبِت مقدَّم على النافي، على أنَّه ما ذكره عن «القاموس» غير صحيح؛ لأنَّ عبارة «القاموس» هكذا: (لقطه: أخذه من الأرض ... ) إلى أن قال: (والتقطه: عثر عليه من غير طلب) ثم قال: (واللُّقاطة [2]؛ بالضم: ما كان ساقطًا مما لا قيمة له) انتهى، ومثله في «مختار الصِّحاح»، وزاد فيه: (من باب «نصر») انتهى، فهذا كما رأيت يوافق ما قاله إمام الشَّارحين، ويخالف ما زعمه شيخ عجلون، وكأنَّه لم يفهم عبارة «القاموس» حتى قال هذا الكلام، أو أنَّ نسخته غير مصححة، ويلزمه النقل عن نسخة صحيحة، ثم إنْ كان فيه كلام؛ يتكلم، وإلا فما بلغ رتبة هذا أن يتكلم على إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(و) التقاط (القَذَى) كذا في رواية الأربعة، وفي رواية غيرهم تأخيره عن قوله: (العيدان)، و (القَذَى)؛ بفتح القاف والذَّال المعجمة: جمع قذاة، وجمع الجمع: أقذية، قال الجوهري: (القذى في العين والشراب: ما يسقط فيه)، قلت: المراد منه ههنا: كِسر الأخشاب، والقش ونحو ذلك، قاله إمامنا الشَّارح رضي الله عنه، قلت: فالمراد به هنا: كل ما يسقط في البيت ونحوه إذا كان يسيرًا، كالقش وكسر الخشب ونحوها، (والعِيدان)؛ بكسر العين المهملة: جمع عُود؛ بالضم، فقلبت الواو ياء في الجمع؛ لانكسار ما قبلها، ويجمع أيضًا على أعواد، والمراد به: أعواد الخشب والشجر ونحوها، وقوله: (منه) ثابت في رواية الأصيلي ساقط عند غيره، ولكن يُقدَّر فيه، وهو يتعلق بـ (الالتقاط)، وعطف الالتقاط وما بعده على ما قبله من عطف الخاص على العام؛ لأنَّ الكنس أعم من الالتقاط؛ لأنَّه يزيل الخرق والقذى والعيدان، وكذا التراب ونحوه، فهو أعم كما لا يخفى، ووهم العجلوني تبعًا لابن حجر في «المنحة»، فزعم أنه من عطف العام على الخاص، ووجه الوهم ما ذكرناه؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (اضطلاعه)، وكذا في الموضع اللاحق.
[2] في الأصل: (والالتقاطة)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 648%
==================
[1] في الأصل: (اضطلاعه)، وكذا في الموضع اللاحق.
[1] في الأصل: (اضطلاعه)، وكذا في الموضع اللاحق.
(1/768)
[حديث: أفلا كنتم آذنتموني به دلوني على قبره]
458# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سليمان بن حرب)؛ ضد الصلح، هو البصري الأزدي القاضي بمكة، الواشحي؛ بمعجمة فمهملة؛ نسبة إلى واشح؛ بطن من الأزد، (قال: حدثنا حمَّاد بن زيد) هو ابن درهم الأزدي الحمصي البصري، (عن ثابت) هو أبو محمَّد البناني البصري، قال بكر بن عبد الله: (من سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ثابت، يظل يراوح بين قدميه وجبهته)، وكان يقوم الليل خمسين سنة رحمه الله تعالى، (عن أبي رافع) هو نُفَيْع؛ بِضَمِّ النُّون، وفتح الفاء، وسكون التحتية، الصائغ التَّابعي الكبير، قال إمام الشَّارحين: ولقد وهم من قال إن أبا رافع صحابي وقال: وهو رواية صحابي عن صحابي، وليس كما قاله، فإن ثابتًا البناني لم يدرك أبا رافع الصَّحابي، انتهى، قلت: فإن أبا رافع الصَّحابي مولى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، واختلف في اسمه فقيل: إبراهيم، وقيل: أسلم، قاله في «الاستيعاب»؛ فافهم، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصَّحابي الجليل رضي الله عنه: (أنَّ) بفتح الهمزة (رجلًا أسود أو امرأة سوداء) كلمة (أو) فيه للشك.
قال إمام الشَّارحين: (الشك فيه إمَّا من ثابت أو من أبي رافع، ولكن الظَّاهر أنَّه من ثابت؛ لأنَّه رواه عنه جماعة هكذا، وأخرج البخاري أيضًا عن حمَّاد بهذا الإسناد قال: «ولا أراه إلا امرأة»، وأخرجه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، فقال: «امرأة سوداء» من غير شك، ووقع في رواية البيهقي من حديث ابن بريدة عن أبيه: أن اسم المرأة أم محجن) انتهى كلامه، قلت: وحديث ابن بريدة سنده حسن، ورواية ابن خزيمة تعيَّن أنَّ الشك من ثابت، وبه جزم أبو الشيخ في كتاب «الصلاة» بسند مرسل، فالأرجح أنَّ الشك من ثابت؛ فليحفظ.
قال ابن حجر: فإن كان محفوظًا؛ فهذا اسمها، وكنيتها أم محجن، انتهى، قلت: لاشك أن كون اسمها أم محجن؛ لأنَّه رواه البيهقي بسند حسن هكذا كما رأيت، ولا ريب أنَّه هو المحفوظ.
وفي «المنحة»: (اسمها أم محجن، وقيل: محجنة، وأما الرجل؛ فلم يُسمَّ) انتهى، قلت: وعلى هذا فاسمها محجنة، وكنيتها أم محجن؛ فتأمل.
وذكر ابن منده في الصَّحابة: خرقاء: امرأة كانت تَقُم المسجد، انتهى، قلت: يحتمل أنَّ هذه المرأة غيرها، وأن اللاتي [1] يقمن المسجد غير واحدة؛ لأنَّ مرادهن الثواب والفضل، فكل واحدة تباشر يومًا، والله أعلم.
وزعم في «المنحة» تبعًا للكرماني أنَّ الشك من أبي هريرة، قلت: وهو بعيد عن النَّظر، ويدل عليه ما أخرجه ابن خزيمة الذي ذكره قريبًا إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(كان) أو كانت (يقُم)؛ بِضَمِّ القاف، من قمَّ الشيء يقُمُّ قمًّا، من باب (نَصَرَ ينْصُر)؛ ومعناه: كنس (المسجد)؛ أي: النَّبوي من القُمامة؛ بالضم، وهي الزبالة، وقال إمام الشَّارحين: القمامة؛ بالضم: الكناسة، قاله ابن سيده، وقال اللحياني: قمامة البيت ما كسح منه فألقى بعضه على بعض، وهي لغة حجازية، والمِقمَّة؛ بكسر الميم: المكنسة، وفي «الصِّحاح»: والجمع: القمام.
وتقديرنا: (أو كانت) هو المناسب لسابقه أو يجعل اسم (كان) ضمير المذكور أو الشخص؛
%ص 648%
فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «كان يقم المسجد»؛ أي: يكنسه، فإن قلت: و «التقاط الخرق ... » إلى آخره من جملة التَّرجمة، وليس في الحديث ما يدل عليه، قلت: أجاب الكرماني: بأنه لعل البخاري حمله بالقياس على الكنس والجامع بينهما التنظيف) انتهى.
قلت: ويدل عليه أنَّ الكنس أعم من التقاط الخرق ونحوها، والتكنيس يستلزم التقاط الخرق؛ لأنَّه إذا كنس التراب والقشَّ؛ فبالأولى أن يكنس الخرق؛ فافهم.
وأجاب ابن حجر، فزعم أنَّ الذي يظهر من تصرف البخاري أنَّه أشار بكل ذلك إلى ما وَرَد في بعض طرقه صريحًا، ففي طريق العلاء المتقدم: (كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد)، وفي حديث بريدة المتقدم: (كانت مولعة بلقط الأذى من المسجد)، ثم زعم وتكلف من لم يطلع [2] على ذلك، فزعم أنَّه يؤخذ من إتيان النَّبيِّ القبرَ حتى صلى عليه، فيؤخذ من ذلك الترغيب في تنظيف المسجد، انتهى.
قلت: وهذا كلام صادر من غير تأمل؛ لأنَّه كيف يترجم المؤلف بشيء، ويشير في ترجمته إلى طريق لم يذكره هو تحت ترجمته ولا في بابه، وهذا من أبعد البعيد؛ لأنَّه لو كان مراده الإشارة إليه؛ لكان يضعه في الباب تحت تلك التَّرجمة.
فإن قلت: عدم ذكره له؛ لكونه غير موافق لشرطه؛
قلت: إذا كان غير موافق لشرطه؛ يكون غير محتج به، ولا يصلح دليلًا لما ترجم له، ولهذا ترك ذكره وإنما أراد بقوله: (والتقاط الخرق) بالقياس على الكنس؛ لأنَّ كلًّا منهما المراد به: التنظيف، ولأنَّ الكنس أعم وأشمل.
وقوله: (وتكلف ... ) إلخ؛ مراده به: ابن بطال الشَّارح؛ لأنَّه ذكره في «شرحه»، وسنذكر عبارته، وهو غير تكلف [3]، فإنَّ صلاته عليه السَّلام على قبره؛ إكرامًا وتعظيمًا له؛ حيث إنَّه كان ينظف المسجد، فيؤخذ منه الترغيب في تنظيف المسجد، ويدل عليه أنَّه عليه السَّلام سأل عنه ولم يسأل عن غيره من الناس ممن دُفن ولم يعلم به، وإن علم بدفن أحد؛ لم ينقل أنَّه صلَّى عليه، ولم يقل لهم: (أفلا آذنتموني به)، فسؤاله عليه السَّلام وصلاته عليه إنَّما كان لأجل كونه كان يكنس المسجد، وينظفه فجعل ذلك إكرامًا له وتعظيمًا؛ فافهم، ولا تغتر بعصبية ابن حجر، فإنَّه مشهور.
(فمات)؛ أي: الرجل، أي: أو ماتت المرأة، (فسأل النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عنه)؛ أي: أو عنها؛ أي: عن حاله أو حالها، ومفعول (سأل) محذوف؛ أي: سأل الناس عنه، (فقالوا)؛ أي: الناس؛ يعني: الصَّحابة (مات)؛ أي: أو ماتت، وفي «عمدة القاري»: وفي رواية البيهقي: أنَّ الذي أجاب النَّبي صلى الله عليه وسلم عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، انتهى، قلت: لكن يعكر عليه قوله ههنا: (فقالوا)؛ بصيغة الجمع الذكور، إلا أن يقال: إنَّهم اشتركوا في الجواب، ونص على أبي بكر؛ لكونه أفضل الصَّحابة وأعظمهم منزلة؛ فتأمل.
(قال): ولأبوي ذر والوقت: (فقال)؛ بالفاء؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (أفلا): الهمزة إما مقدمة من تأخير؛ لدلالة الآتي عليه، أو في محلها، لكن قال إمام الشَّارحين: ولابد من مقدر بعد الهمزة، والتقدير: أدفنتم؟ [4] فلا (كنتم آذنتموني)؟؛ بفتح الهمزة مع المد؛ أي: أعلمتموني (به) أو بها؛ أي: بموته أو بموتها حتى أصلي عليه، وعند المؤلف في (الجنائز): (فحقروا شأنه)، ولابن خزيمة: (قالوا: مات من الليل، فكرهنا أن نوقظك).
وفي «عمدة القاري»: وإنما قال ذلك؛ لأنَّ صلاته عليه السَّلام عليهم رحمة ونور في قبورهم، على ما جاء في رواية مسلم: (أن امرأة أو شابًّا ... )؛ الحديث، وزاد في آخره: «إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإنَّ الله ينورها لهم بصلاتي عليهم»، قيل: لم يخرِّج البخاري هذه الزيادة؛ لأنَّها مدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت، بيَّن ذلك غير واحد من أصحاب حمَّاد بن زيد.
قلت: قال البيهقي: الذي يغلب على القلب أن هذه الزيادة في غير رواية أبي رافع عن أبي هريرة [5]، فإمَّا أن يكون عن ثابت عنه عليه السَّلام مرسلًا، كما رواه أحمد بن عبدة ومن تابعه، أو عن ثابت، عن أنس، عنه عليه السَّلام، رواه غير حمَّاد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع فلم يذكرها، ووقع في «مسند أبي داود الطيالسي» عن ثابت بهذه الزيادة، وزاد بعدها: (فقال رجل من الأنصار: إن أبي أو أخي مات أو دفن؛ فصلِّ عليه، فانطلق معه عليه السَّلام ... )؛ الحديث، انتهى.
(دلوني على قبره، أو قال: على قبرها) كلمة (أو) للشك، يحتمل من ثابت، ويحتمل من أبي رافع، والأظهر الأول كما سبق، (فأتى) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (قبره) ولابن عساكر: (قبرها)، (فصلى عليه) وفي رواية: (عليها)، وفي «صحيح ابن حبان» من حديث خارجة بن زيد بن ثابت، عن عمه يزيد بن ثابت قال: خرجنا مع النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم فلما وَرَد البقيع؛ إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه، فقيل: فلانة، فعرفها، وقال: «ألا آذنتموني بها، فإنَّ صلاتي عليها رحمة لها»، ثم أتى القبر فصفنا خلفه، فكبَّر عليه، انتهى.
قال صاحب «التلويح»: وهذا يحتاج إلى تأمل ونظر؛ لأنَّ يزيد قُتل باليمامة سنة ثنتي عشرة، وخارجة توفي سنة مئة أو أقل من ذلك، وسنه سبعون سنة، فلا يتجه سماعه منه بحال، كذا في «عمدة القاري».
قال ابن بطال: (وفي الحديث الحض على كنس المساجد، وتنظيفها؛ لأنَّه عليه السَّلام إنَّما خصه بالصلاة عليه بعد دفنه من أجل ذلك، وقد روي أنَّه عليه السَّلام كنس المسجد) انتهى، وسلمه إمام الشَّارحين، واعترضه ابن حجر تعصبًا بأنه تكلف، وقد سبق رده قريبًا، فلا تغفل.
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: استحباب الإعلام بالموت.
وفيه: أن على الراوي التنبيه على شكه فيما رواه مشكوكًا.
وفيه: خدمة الصالحين، والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب وافتقاده.
وفيه: المكافأة بالدعاء والترحم على من وقف نفسه على نفع المسلمين ومصالحهم.
وفيه: الرغبة في شهود جنائز الصالحين.
وفيه: جواز الصلاة على القبر، وهي مسألة خلافية؛ فجوَّزها طائفة؛ منهم: علي، وأبو موسى، وابن عمر، وابن مسعود، وعائشة، وهو قول الأوزاعي، وإسحاق، وأحمد، والشَّافعي، ومنعها طائفة؛ منهم: النخعي، والحسن البصري، والثَّوري، وهو قول الإمام الأعظم أبي حنيفة، واللَّيث، ومالك، ومنهم من قال: إنَّما يجوز إذا لم يصلِّ الولي أو الوالي، ثم اختلف من قال بالجواز إلى كم يجوز؟ فقيل: إلى شهر، وقيل: ما لم يَبْلَ جسده، وقيل: أبدًا) انتهى.
%ص 649%
وقال الكرماني: (وفي الحديث: جواز الصلاة على القبر، وأنَّها لا تجوز عليه إلا عند حضور قبره) انتهى، قلت: فالحديث حجة على الشَّافعي في جوازه الصلاة على الغائب؛ لأنَّه عليه السَّلام سأل عنه حتى دلوه على قبره، فقام فصلى عليه، ولم يصلِّ في مسجده عليه صلاة الغائب، كما لا يخفى.
وزعم العجلوني أنَّ مذهب الشَّافعي أنَّه تصح الصلاة عليه، ولو بعد بلائه على الصَّحيح؛ لبقاء عجب الذنب، انتهى.
قلت: ويردُّ هذا أنَّه عليه السَّلام صلى عليه قبل ثلاثة أيام؛ لما رواه ابن حبان من حديث خارجة بن زيد المتقدم، وفيه: (فلما وَرَد البقيع؛ إذا هو بقبر جديد ... )؛ الحديث، ومن المعلوم أن الجديد: ما دفن يومه إلى دون الثلاثة أيام، ويدل على ذلك حديث الباب؛ لأنَّه قال: (فمات، فسأل النَّبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات ... )؛ الحديث، فأتى بالفاء التعقيبية بألفاظه الدَّالة على أنَّهم لمَّا رجعوا من دفنه سألهم عليه السَّلام عنه، ثم بادروا إلى الصلاة على قبره، وهذا يدل على أنَّ الصلاة بعد ثلاثة أيام لا تجوز، كما لا يخفى.
ومذهب إمامنا الأعظم رئيس المجتهدين أنَّه إذا صُلِّي على جنازة؛ لا تعاد الصلاة عليها ثانيًا؛ لأنَّها غير مشروعة، وصلاته عليه السَّلام إنَّما كانت خصوصية ورحمة به، يدل عليه قوله عليه السَّلام: «إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإنَّ الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم»، رواه مسلم، وقوله عليه السَّلام: «فإنَّ صلاتي عليه رحمة له»، رواه ابن حبان في «صحيحه»، فهذا دليل واضح على أنَّ صلاته عليه كانت خصوصية ورحمة للميت، كما صرح به الحديث، وله عليه السَّلام أن يخصَّ ما شاء بمن شاء؛ لأنَّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ فافهم.
واستثنى أئمتنا الأعلام ما إذا صلى على جنازةٍ غير الوليِّ ثم حضر الوليُّ بعد الصلاة؛ فله أن يعيد الصلاة عليها، وإذا لم يصلِّ عليه حتى دفن؛ صلى على قبره مالم ينتفخ أو ينفسخ، وقدَّره المتأخرون بثلاثة أيام، ومذهبنا هو الصَّواب، وحديث الباب يدل عليه، وكذلك حديث مسلم وحديث ابن حبان، كما رأيت بيانه، وسيأتي تمام الكلام عليه في (الجنائز) إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (التن)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (يضطلع).
[3] في الأصل: (تكليف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (إذ دفنتم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (رافع)، وهو سبق نظر.
==================
[1] في الأصل: (التن)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (يضطلع).
[3] في الأصل: (تكليف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (إذ دفنتم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (التن)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (يضطلع).
[3] في الأصل: (تكليف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (إذ دفنتم)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/769)
(73) [باب تحريم تجارة الخمر في المسجد]
هذا (باب) بيان (تحريم تجارة الخمر في المسجد): الجار والمجرور متعلق بالتحريم لا بالتجارة، ولابد من تقدير مضاف؛ لأنَّ المراد: بيان ذلك وبيان أحكامه، وليس المراد أن تحريمها مختص بالمسجد؛ لأنَّها حرام سواء كانت في المسجد أو في غيره؛ كذا قاله إمام الشَّارحين.
==========
%ص 650%
==================
(1/770)
[حديث: لما أنزل الآيات في الربا من سورة البقرة في الربا]
459# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحَّدة، بصورة المثنى، فيجوز إعرابه كإعرابه وكإعراب المفرد، وهذا لقب له كما سبق، واسمه عبد الله بن عثمان المروزي، وأصله من البصرة، توفي سنة إحدى وعشرين ومئتين، (عن أبي حمزة)؛ بالمهملة والزاي: هو محمَّد بن ميمون السكري، (عن الأعمش): هو سليمان بن مهران الكوفي التَّابعي، (عن مسلم): هو ابن صُبَيح؛ بِضَمِّ المهملة، وفتح الموحَّدة، مصغر صبح، أبي الضُّحى الكوفي التَّابعي، (عن مسروق): هو ابن الأجدع الكوفي التَّابعي، وسمِّي مسروقًا؛ لأنَّه سرقه سارق في صغره، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهماأنها (قالت: لما أُنْزِل) بِضَمِّ الهمزة، وسكون النُّون، وكسر الزاي، ولأبي ذر وابن عساكر: (أُنْزِلَت)؛ بالتَّاء مع البناء للمفعول أيضًا، ولابن عساكر أيضًا: (نَزَلَت)؛ بالبناء للفاعل مخففًا (الآياتُ)؛ بالرفع: فاعل أو نائبه (من سورة) وفي رواية: (في سورة) (البقرة)؛ أي: في السورة التي ذكرت فيها البقرة، والجار والمجرور صفة لـ (الآيات)، أو حال منها ويحتمل تعلقه بالفعل، لكنه بعيد؛ فتأمل، (في الربا) بالقصر؛ أي: في تحريمه، والجار والمجرور يحتمل [1] أنَّه متعلق بالفعل، ويحتمل كونه صفة لـ (الآيات) أو حالًا منها، والأول أظهر.
قال إمام الشَّارحين: (والربا: مقصور من ربا يربو؛ إذا زاد، فيكتب بالألف، وأجاز الكوفيون كتبه بالياء؛ بسبب الكسرة في أوله، وقد كتب في المصحف بالواو، قال الفراء: إنَّما كتبوه بالواو؛ لأنَّ أهل الحجاز تعلموا الخطَّ من أهل الحيرة، ولغتهم: الربو، فعلموهم صورة الخط على لغتهم، قال: ويجوز كتبه بالألف وبالواو وبالياء) انتهى، وزعم العجلوني أن ظاهر كلام الفراء: أنَّ هذه تجري في المصحف وفي غيره؛ فيراجع، انتهى، قلت: الظَّاهر أنَّها لا تجري في المصحف؛ لأنَّ رسم الكلام القديم سنَّة متَّبعة، والمتواتر أنَّ رسمه هكذا بالواو، فلا يجوز كتبه بغيرها، وكلام الفراء مبني على اللُّغة العربية والقواعد الرسمية، وهو لا ينافي ذلك، قال الكرماني: (إنَّما رُسم في القرآن بالواو، كالصلاة؛ لتغليظه وتفخيمه في لغة، وأما في غير القرآن؛ فيكتب بالألف) انتهى، وقال القسطلاني: (زيدت الألف بعدها تشبيهًا بواو الجمع، والمراد بـ «الآيات»: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَايَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ... } إلى آخر العشر؛ أي: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} [البقرة: 275 - 281]، والمراد من الأكل: الأخذ والتناول، وإنما خصَّ الأكل بالذكر؛ لأنَّه أعظم منافع المال، ولأنَّ الربا شائعٌ في المطعومات) انتهى.
وقوله (خرج النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أي: من بيته (إلى المسجد) جواب (لمَّا)، و (أل) في (المسجد): للعهد؛ أي: المعهود؛ وهو المسجد النَّبوي (فقرأهنَّ) أي: الآيات المذكورة (على الناس)؛ أي: الصَّحابة، والمراد: من كان حاضرًا منهم،) (ثم حرَّم) بالتشديد؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: ذكر تحريم (تجارة الخمر)؛ أي: في المسجد، والمراد: أنَّه بيَّن أن تجارة الخمر حرام، فهو تأكيد للأمر بالتحريم، أعاده؛ لاحتمال عدم فهم تحريمها من الآيات، فأعاده بيانًا وإيضاحًا لما تلاه، قال إمام الشَّارحين: (تجارة الخمر؛ أي: بيعها وشرائها) انتهى.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة، وقال صاحب «التوضيح» آخذًا من كلام ابن بطال: (وغرض البخاري في هذا الباب أن المسجد لمَّا كان للصلاة ولذكر [2] الله، منزهًا عن الفواحش والخمرُ والرِّبا من أكبر الفواحش؛ يمنع من ذلك، فلمَّا ذكر الشَّارع تحريمهما في المسجد؛ ذكر أنَّه لا بأس بذكر المحرمات والأقذار في المسجد على وجه النهي عنها والمنع منها) انتهى.
وأخذ
%ص 650%
ابن حجر من كلامه فقال: («باب تحريم تجارة الخمر في المسجد»؛ أي: جواز ذكر ذلك) انتهى.
وردَّ هذا كله إمامنا الشَّارح، فقال: (كلُّ هذا خارج عن المهيع، وتصرفات بغير تأمُّل؛ لأنَّه لا فائدة في بيان جواز ذكر ذلك في المسجد؛ إذ هو مبيَّن من الخارج، وليس غرض البخاري ذلك، وإنما غرضه بيان أنَّ تحريم تجارة الخمر وقع في المسجد؛ لأنَّ ظاهر حديث الباب يصرح بذلك؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: «لما نزلت الآيات في سورة البقرة في الربا؛ خرج النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ... »؛ الحديث، فهذا ظاهره أن تحريم تجارة الخمر بعد نزول آيات الربا.
فإن قلت: كان تحريم الخمر قبل نزول آيات الربا بمدة طويلة، كما صرحوا به، فلما حُرِّمت الخمر؛ حُرِّمت التجارة فيها أيضًا قطعًا، فما الفائدة في ذكر تحريم تجارتها ههنا؟
قلت: يحتمل كون تحريم التجارة فيها قد تأخر عن وقت تحريم عينها، ويحتمل أن يكون ذكره ههنا تأكيدًا ومبالغة في إشاعة ذلك، أو يكون قد حضر المجلس من لم يبلغه تحريم التجارة فيها قبل ذلك، فأعاد عليه السَّلام ذكر ذلك للإعلام لهم، وكان ذلك لرسول الله عليه السَّلام في المسجد، وهذا أيضًا هو موقع التَّرجمة، وليس ذلك مثل ما قال بعضهم: «وموقع التَّرجمة أن المسجد منزه عن الفواحش فعلا وقولًا، لكن يجوز ذكرها فيه للتحذير منها» انتهى، قلت: إذا كان ذكر الفواحش جائزًا في المسجد؛ لأجل التحذير، فما وجه تخصيص ذكر صاحبه تحريم الخمر بالمسجد؟ وجواب هذا يلزم هذا القائل، فعلى ما ذكرناه لا يَرِد سؤال، فلا يحتاج إلى جواب) انتهى كلام إمام الشَّارحين، قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) ابن حجر؛ فإنَّه القائل لهذا، آخذًا من كلام صاحب «التوضيح»؛ فاعرفه.
وزعم العجلوني: إن كان النَّبي عليه السَّلام لم يذكر تحريم التجارة في الخمرة قبل هذه القصة؛ فالحقُّ ما قاله صاحب «عمدة القاري»، وإلا؛ فالحقُّ ما قاله ابن حجر وابن الملقن، ويكون ذكر تحريمها ثانيًا؛ لمزيد التأكيد، وإن لم يعلم واحد من الأمرين بخصوصه؛ فالأمر محتمل، والتَّرجمة كذلك، لكنَّها ظاهرة فيما قاله صاحب «عمدة القاري»، ويدل للأخير كل [3] منهم) انتهى.
قلت: هذا كلام متناقض، والحقُّ أحق أن يتَّبع، فإنَّ الحق ما قاله إمام الشَّارحين، ولا ريب أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لم يذكر تحريم تجارة الخمر قبل هذه القصة؛ لأنَّ حديث الباب صريح في ذلك؛ لأنَّ قول عائشة: (فقرأهن على الناس، ثم حرم تجارة الخمر) صريح في ذلك قطعًا، وقوله: (وإلا فالحقُّ ... ) إلخ؛ غير صحيح كما ذكرنا، وقوله: (ويكون ذكر ... ) إلخ؛ غير صحيح أيضًا؛ لأنَّه عليه السَّلام؛ إذا ذكر أمرًا أو نهيًا لشيء؛ يذكره مرة واحدة، فإنَّ تجارة الخمر حرام، فذكر حرمتها حين قرأ الآيات، ومن عادته عدم الإعادة، ولا فائدة في التأكيد هنا؛ لأنَّ الحكم واحد لم يتغير؛ حيث إنَّه قد ذكره عند قراءته الآيات، وقوله: (وإن لم يعلم ... ) إلخ؛ لا احتمال في الأمر ولا في التَّرجمة، ومقصود البخاري هو ما قاله إمام الشَّارحين قطعًا، والعناد بعد ذلك مكابرة.
وزعم العجلوني أن قول إمام الشَّارحين: (فإن قلت ... ) إلخ، قد سبقه إليه القاضي عياض: فنسبه لنفسه، انتهى.
قلت: هذا تعصب بارد من ذهن شارد، فإنَّ إمامنا الشَّارح قد اشتهر فضله وعلمه في الآفاق، وعُلم عند المحققين أن مثل هذا الكلام يقوله من تلقاء نفسه من علمه وفضله، ولا كلام لنا مع القاضي إذا كان قال مثل قوله؛ فقد صادف الرأيان على السواء، وهذا لا يعد نقصًا في حق إمام الشَّارحين، بل هو دال على كثرة علمه، وغزارة فهمه، وقوة استحضاره، فرحم الله تعالى هذا الشَّارح، وحقيق بأن يلقَّب بإمام الشَّارحين؛ فافهم، ولا تكن من المتعصبين.
وقال ابن كثير في «تفسيره»: (قال بعض من تكلم على هذا الحديث: لما حرَّم الربا ووسائله؛ حرَّم [4] الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك)، قال إمامنا الشَّارح: (ظاهر هذا يدل على أنَّ تحريم الخمر كان مع تحريم الربا، ولكن قالوا: إن تحريم الخمر قبل تحريم الربا بمدة طويلة كما ذكرنا عن قريب) انتهى.
وفي الحديث أحكام؛ الأول: فيه تحريم الرِّبا، وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عبَّاس رضي الله عنهماأنَّه قال: (آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق)، وروى ابن جرير عن ابن عبَّاس قال: (يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقرأ: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} [البقرة: 275]، قال: وذلك حين يقوم من قبره)، الثاني: فيه تحريم تجارة الخمر، الثالث: فيه تحريم الخمر، والعلة فيه: النَّجاسة الخفيفة في رواية عن الإمام الأعظم، أو الغليظة في رواية أخرى، والإسكار، وعند الشَّافعي كذلك، وسيأتي مزيد كلام لذلك في محلِّه إن شاء الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (فيحتمل)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (وكذكر)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (كلًّا)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (وحرَّم)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (فيحتمل)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (وكذكر)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (كلًّا)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فيحتمل)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (وكذكر)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (كلًّا)، وليس بصحيح.
(1/771)
(74) [باب الخدم للمسجد]
هذا (باب) في بيان أمر (الخَدَم)؛ بفتحتين: جمع خادم، ويجمع أيضًا على خُدَّام؛ بِضَمِّ المعجمة، وتشديد المهملة (للمسجد)؛ باللَّام رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة: (في المسجد)، وكان المناسب أن يكون هذا الباب عقيب باب (كنس المسجد) على ما لا يخفى، كذا قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
(وقال ابن عبَّاس) هو عبد الله بن عبَّاس بن عبد المطلب، حبر هذه الأمَّة، ويسمَّى البحر؛ لغزارة علمه، وكان يفتي في عهد الصديق والفاروق، ويشاورانه مع أهل بدررضي الله عنهم، توفي بالطَّائف سنة ثمان وستين، عن إحدى وسبعين سنة.
وهذا التَّعليق وصله الضحاك في «تفسيره» عنه، ووصله أيضًا ابن أبي حاتم _لكن بمعناه_ في تفسير قوله تعالى حكاية عن حَنَّة _بفتح المهملة، وتشديد النُّون آخره هاء_ بنت فاقوذا _بالفاء أوله بعد ألف، ثم قاف بعد واو، ثم ذال معجمة ثم ألف_ وهي: امرأة عمران بن ماثان، وهي أم مريم والدة عيسى النَّبي الذي ينزل في ديارنا آخر الزمان، وليس هو عمران بن يصهر؛ لأنَّه والد موسى الكليم وهارون الكريم، وكان بين العمرانين ألف
%ص 651%
وثمان مئة سنة، كما قاله أبو السعود، وكانت حَنَّة عاقرًا، فرأت يومًا طائرًا يزق فرخه، فاشتهت الولد، فسألت الله تعالى أن يهبها ولدًا، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها، فحملت منه، فلما تحقَّقت الحمل؛ قالت ما أخبر الله تعالى عنها بقوله: {رَبِّ إِنِّي} ({نَذَرْتُ}): النَّذر: ما كان وعدًا على شرط، كما في «القاموس»، والنَّذر: واحد النُّذور، وقد نذر لله كذا، من باب (ضرب) و (نصر)، ويقال: نذر على نفسه نذرًا، ونذر ماله نذرًا، وتناذر القوم كذا؛ خوف بعضهم بعضًا، كذا في «مختصر الصِّحاح»، والنَّذر: إيجاب عين الفعل المباح على نفسه تعظيمًا لله تعالى، كذا في «تعريفات السيد»، قلت: وهذا أولى مما في «القاموس»؛ فافهم، فعلي ({لَكَ})؛ أي: قاصدًا بالنذر ابتغاء وجهك؛ أي: ذاتك ({مَا فِي بَطْنِي}): إنَّما عبرت بـ (ما) الموضوعة لمن لا يعقل؛ لأنَّه مبهم لم تعلمه أذكر أم أنثى ({مُحَرَّرًا}) [آل عمران: 35]، كذا في رواية الأكثرين، وهو بالنصب على الحال، أي: معتقًا، وفي رواية الأصيلي: (تعني: محررًا)، وعليها؛ فهو منصوب بـ (تعني) على المفعولية، والضمير في (تعني) يرجع إلى حنة أم مريم، (للمسجد)؛ أي: الأقصى، فاللَّام للعهد، وهو بيت المقدس بالاتفاق، قالوا: وسمِّي الأقصى؛ لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام (تخدُمه)؛ بِضَمِّ الدَّال، وفي أوله مثناة فوقية أو تحتية للمؤنث الغائب؛ أي المسجد: لا أُشغله بشيء سوى الخدمة، أو مخلصًا للعبادة، وفي رواية أبي ذر: (تخدمها)؛ أي: المساجد، أو الصخرة، أو الأرض المقدسة.
قال البيضاوي: (روي أنَّ أمَّ مريم كانت عاقرًا عجوزًا، فبينا هي في ظل شجرة؛ إذ رأت طائرًا يطعم فرخه، فحنَّت إلى الولد وتمنَّته، فقالت: اللهم إنَّ لك نذرًا إن رزقتني ولدًا؛ أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من خَدَمِه، فحملت بمريم، ومات عمران، وهذا النذر كان مشروعًا عندهم في الغلمان، فلعلَّها بَنَتِ الأمر على التقدير أو طلبت ذكرًا، فلما وضعتها؛ قالت: {رب إني وضعتها أنثى}، قالته تحسرًا وتحزنًا لما فاتها مما كانت ترجوه من ذكر؛ لتحرره لخدمة المسجد الأقصى، {فتقبَّلها ربها} [آل عمران: 37]: فرضيها في النذر مكان الذكر) انتهى.
قلت: والظَّاهر أن قولها: {رب إنِّي وضعتها أنثى} ليس للتحسُّر والتحزُّن لما فاتها من ذكر، بل لكون المسجد يدخل فيه الكبير والصغير، والذكر، والبرُّ والفاجر، فخافت من خدمتها الفتنة والعار، ووقوعها في المحظور؛ لأنَّ الذكر إذا خالط الذكور وغيرهم؛ لا يقع في الفتنة، بخلاف الأنثى، فقوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} يعني: حفظها ورضيها للنذر مكان الذكر، وأنَّه حفظها مما يُتوهم وقوعه من الفتنة؛ فيراجع.
وقال إمام الشَّارحين: (أشار البخاري بهذا التَّعليق إلى أن تعظيم المسجد بالخدمة كان مشروعًا في الأمم الماضية، ألا ترى أن الله تعالى حكى عن حَنَّة أمِّ مريم أنَّها لمَّا حَبلَت؛ نذرت لله تعالى أن يكون ما في بطنها محرَّرًا، يعني: عتيقًا يخدم المسجد الأقصى، ولا يكون لأحد عليه سبيل، ولولا أنَّ الخدمة للمساجد مما يتقرب به إلى الله تعالى؛ لمَا نذرت به، وهذا موضع التَّرجمة) انتهى، قلت: وهذا مبني على أنَّ شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأنَّه تعالى قصَّه علينا ورسوله عليه السَّلام من غير إنكار، فصارت خدمة المسجد مطلوبة.
بقي أنَّه هل يصح النذر بخدمة المسجد؟ والظَّاهر: أنَّه غير صحيح؛ لأنَّه ليس من جنسه واجبًا؛ فيراجع.
وزعم ابن حجر أن مناسبة هذا التَّعليق لحديث الباب؛ من جهة صحَّة تبرع المرأة بإقامة نفسها لخدمة المسجد لتقرير النَّبي صلى الله عليه وسلَّم لها على ذلك، انتهى.
قلت: وأراد بالمرأة التي أقامت نفسها لخدمة المسجد: المرأة السَّوداء، فإنَّه عليه السَّلام أقرَّها ولم ينكر عليها، لكنَّ فيه أنَّ مريم لم تتبرَّع بنفسها، بل أمها نذرت أن تكون خادمة للمسجد، والنذر من الشَّخص لا يجري على غيره ولو كان ولدًا له، فما قاله غير ظاهر.
وزعم العجلوني أنَّه لا يقال: حقه أن يقول: بإقامة ولدها؛ لأنَّ النَّاذرة هي أمُّ مريم لا مريم نفسها، ولعله أراد: أن مريم أقامت نفسها بعد أن بلغت مبلغًا يصح منها الإقامة، انتهى.
قلت: وفيه بعد؛ لأنَّ أمَّ مريم وإن كانت هي النَّاذرة، لكنَّها لم تنذر نفسها، بل نذرت ولدها، وهي لا تملك منعه من الاشتغال بغير خدمة المسجد.
ولو قيل: (حقه أن يقول: بإقامة ولدها) لا يصح أيضًا؛ لأنَّ المرأة السوداء ليس لها ولد، ولو كان؛ فهي لم تقمه لأجل خدمة المسجد، بل تولت خدمته بنفسها؛ فهذا الجواب غير صحيح.
وأما قوله: (ولعله أراد ... ) إلخ؛ فله وجه، لكن إن ثبت أنَّ مريم كانت بالغة، مع أن الذي ذكره المفسِّرون أن حَنَّة وضعت مريم في المسجد قبل بلوغها مبلغًا يصح منها الإقامة، ويلزم أيضًا ثبوت تبرُّع مريم بالخدمة في المسجد؛ لاحتمال عدم رضاها بالمكث فيه، وأمها لم تملكها، والذي يجنح للقلب أن المناسبة بين التَّعليق والحديث: هو مجرد خدمة مريم في المسجد مع قطع النَّظر عن النِّذر الذي وقع من أمها حَنَّة، كما أنَّ المرأة السوداء تبرَّعت بالخدمة من غير نذر منها ولا من أمها إن لو كانت، ولهذا أشار البخاري بالتَّعليق إلى أنَّ تعظيم المساجد بالخدمة مطلوب، وهو مشروع في الأمم السَّالفة، وقد أقرَّه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره؛ فليحفظ.
==================
(1/772)
[حديث: أن امرأةً كانت تقم المسجد]
460# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد ابن واقد)؛ بالقاف والدَّال المهملة، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا فهو أحمد بن عبد الملك بن واقد الحرَّاني البصري، أبو يحيى، المتوفى ببغداد سنة إحدى وعشرين ومئتين، وفي «التقريب»: (أنَّه ثقة تُكلم فيه بلا حجة) (قال: حدثنا حمَّاد)؛ بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم، زاد الأصيلي: (ابن زيد) هو ابن درهم الأزدي الحمصي البصري، (عن ثابت)؛ بالمثلَّثة: هو أبو محمَّد البناني البصري، (عن أبي رافع) هو نُفيع الصائغ التَّابعي الكبير، كما سبق؛ فافهم، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصَّحابي الجليل رضي الله عنه: (أنَّ) بفتح الهمزة (امرأة أو رجلًا) وكلمة (أو) للشك من أبي رافع، أو أبي هريرة، أو ثابت (كانت تقم)؛ أي: أو كان يقم؛ بِضَمِّ القاف، من قمَّ الشيء يقُمُّ قمًّا، من باب (نصر ينصر)؛ أي: يكنس (المسجد)؛ أي: النَّبوي _فاللَّام للعهد_ من القُمامة، وهي الزبالة والكناسة، فحذف في هذا الباب ما يتعلق بالمذكر، عكس ما سبق في باب (كنس المسجد)، وكلٌّ منهما جائز.
وزعم العجلوني أن ما هنا أولى.
قلت: لم يبين وجه الأولوية، ولا وجه لما زعمه، بل كل [1] منهما جائز، وليس أحدهما أولى من الآخر، وقال الدماميني: (حذف «أو كان» كما سبق، فحذف من الأول خبر المؤنث، وهنا خبر المذكر؛ اعتبارًا بالسَّابق؛ ليكون جاريًا على المهيع الكثير، وهو الحذف
%ص 652%
من الثاني؛ لدلالة الأول) انتهى.
قال القسطلاني: (نعم؛ في رواية أبي ذر: «كان يقم المسجد»؛ بالتذكير) انتهى، واستدل العجلوني بهذه الرواية على أولوية ما هنا، كما سبق، قلت: وهو لا يدلُّ لما قاله؛ لأنَّ هذه الرواية ذكرت كبقية الروايات، فليست تدل على الأولوية، كما لا يخفى؛ فافهم، على أنَّه أكثر الروايات: (كانت) بالتأنيث؛ فليحفظ.
وقوله: (ولا أراه) بِضَمِّ الهمزة؛ أي: لا أظنه (إلا امرأة) من كلام أبي رافع، ويحتمل أن يكون من كلام أبي هريرة، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: والضَّمير في (أراه) يرجع إلى الشَّخص المذكور الذي كان يقمُّ المسجد.
وأمَّا قوله: (فذكر) أي: أبو هريرة (حديث النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أي: الذي تقدم ذكره قريبًا: (أنَّه) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (صلَّى)؛ أي: صلاة الجنازة (على قبره)؛ أي: الرجل، فهو من كلام أبي رافع لا غير، وفي رواية أبي الوقت والأصيلي: (قبرها)؛ أي: المرأة، وفي رواية: (على قبر)؛ بالتنكير.
وزعم الكرماني أن لفظة: (أنَّه) يحتمل أن يكون تفسير الحديث، فلا يكون المذكور إلا الصلاة، وأن يراد به ذكر الحديث الذي فيه: (أنَّه صلى على قبرها)، فالمذكور جميع الحديث الذي تقدم في باب كنس المسجد، انتهى، قلت: وهذا كله صادر من غير تأمُّل؛ لأنَّ قوله: (فذكر حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم) صريح في أنَّه ذكره بتمامه، وأن من جملة الحديث أنَّه عليه السَّلام صلَّى على قبرها، فالضَّمير في (أنَّه) يتعين رجوعه إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ثم رأيت البرماوي قال: (والضمير في «أنَّه» راجع إلى النَّبي عليه السَّلام) انتهى، قلت: فلا حاجة إلى ما زعمه الكرماني؛ لأنَّ لفظ السياق يردُّه، كما لا يخفى؛ فافهم.
ففي الحديث المطابقة للتَّرجمة، وفيه: الحضُّ على كنس المسجد وتنظيفه؛ لأنَّه عليه السَّلام إنَّما خصَّه بالصَّلاة عليه بعد دفنه من أجل ذلك، وقد روي عنه عليه السَّلام: (أنَّه كنس المسجد)، وفيه: الترغيب في شهود الجنائز لا سيما الصَّالحون.
وفيه: جواز الصلاة على القبر، وهو مروى عن علي وأبي موسى، وهو قول الأوزاعي وأحمد والشَّافعي، ومنعها الإمام الأعظم، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والثَّوري، واللَّيث، ومالك، وأجابوا عن حديث الباب ونحوه: بأنه خصوصية ورحمة للميت؛ يدل عليه ما رواه مسلم في «صحيحه»: (إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)، وما رواه ابن حبان في «صحيحه» عن يزيد بن ثابت قال: (خرجنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلما وَرَد البقيع؛ إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه؛ فقيل: فلانة، فعرفها وقال: «ألا آذنتموني بها، فإنَّ صلاتي عليها رحمة لها» ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أنَّ صلاته كانت خصوصية، وقد سبق بقية الكلام عليه في الباب السَّابق؛ فيراجع، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (كلًّا)، وليس بصحيح.
==================
(1/773)
(75) [باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد]
هذا (باب) في بيان حكم (الأسير): (فعيل) بمعنى (مفعول)، من أسره: شده بالأساري، وهو القِد، ومنه سمِّي الأسير؛ لأنَّهم كانوا يشدُّونه بالقِد، فسمِّي كلُّ أخيذٍ أسيرًا وإن لم يشدَّ به، كذا في «عمدة القاري»، (أو) حكم (الغريم)؛ وهو الذي عليه الدَّين، وقد يكون الغريم الذي له الدَّين، والمراد هنا: الأول، قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: وكلمة (أو) فيه للتنويع، وهي رواية الأكثرين، وفي رواية ابن السكن وابن عساكر: (والغريم) بواو العطف، انتهى، وقوله: (يُربَط)؛ بِضَمِّ أوله مبني للمجهول (في المسجد): اللَّام فيه للجنس؛ أي: أي مسجد كان، جملة وقعت حالًا من كل واحد من الأسير والغريم، بتقدير جملة أخرى نحوها للمعطوف عليه، كذا قاله إمامنا الشَّارح.
واعترضه العجلوني بأنه لا حاجة إليه، وجوَّز كون جملة (يربط في المسجد) حال من المضاف إليه، قال: (ويجوز جعلها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وحقه تثنية ضمير «يربط» على الروايتين؛ لأنَّ «أو» التنويعية كالواو، ولعله أراد كلًّا منهما أو المذكور) انتهى.
قلت: وهذا تعصب بارد، فإنَّ ما قاله إمامنا الشَّارح صحيح المعنى، كما لا يخفى؛ لأنَّ البخاري أتى بكلمة (أو) إشارة إلى أن حكم الأسير كحكم الغريم، وأن كلًّا منهما يربط في المسجد، ولا ريب أنَّ الأسير غير الغريم لكنَّ حكمهما واحد، وعلى هذا فالجملة تكون حالًا من كل منهما بالتقدير المذكور.
وما زعمه العجلوني غير ظاهر؛ لأنَّه على جعل الجملة حالًا من المضاف إليه _وهو الأسير_ لا يكون للغريم حكم، ويصير الضمير في (يربط) للأسير، وهو باطل؛ لأنَّه يكون حكم الغريم مسكوتًا عنه، وهو خلاف المقصود.
وقوله: (وحقه ... ) إلخ: غير صحيح؛ لأنَّ ضمير (يربط) على كون الجملة من الأسير والغريم يعود على كل واحد منهما، فيقال: حكم الأسير حال كونه يربط في المسجد، وحكم الغريم حال كونه يربط في المسجد، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم، على أنَّ كلمة (أو) هنا المراد بها: تنويع الجنس لا الحكم، فإن الحكم فيهما واحد، والجنس مختلف؛ لأنَّ الأسير غير الغريم، فمراد المؤلف: بيان أن حكم الأسير كحكم الغريم.
وقوله: (ولعله ... ) إلخ: لا حاجة لما زعمه بعدما علمت ما ذكرناه، وتقديرنا الحكم عند قوله: (أو الغريم) لازم ظاهر المعنى، وذلك حتى يعود الضمير في (يربط) إلى كل واحد منهما؛ فافهم.
وزعم العجلوني أنَّه يجوز تنوين (باب)، وما بعده: مبتدأ ومعطوف عليه، والجملة في (يربط في المسجد) خبره.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه يلزم عليه فوتَ حكم الغريم، وخلوَّ ضمير في (يربط) يعود على الغريم، فيصير قوله: (أو الغريم) لا فائدة فيه، وهو غير ظاهر؛ فافهم.
ثم قال العجلوني: (وأمَّا قول القسطلاني: «باب» حكم «الأسير أو الغريم» حال كونه «يربط في المسجد» الإباحة؛ فلعله تقدير معنى لا إعراب) انتهى.
قلت: هو ممنوع، بل هو تقدير معنى وإعراب أيضًا؛ لأنَّ قوله: (باب): خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب، وقوله: (حكم): مبتدأ، وقوله: (الإباحة): خبره، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم؛ فافهم ذلك، ولا تكن من المتعصبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
%ص 653%
والمراد بالحكم: الإباحة، وسيأتي أن القاضي شريح كان يأمر بربط الغريم في سارية من سواري المسجد.
==================
(1/774)
[حديث: إن عفريتًا من الجن تفلت علي البارحة]
461# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم) هو أبو يعقوب الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهويه، وهو من مشايخ الشَّافعي كما ذكره الرازي، وقال أحمد ابن حنبل: (إسحاق عندي إمام، وما عبر الجسر أفقه منه)، ولد سنة إحدى وستين ومئة، وتوفي بنيسابور سنة ثمان أو سبع وثلاثين ومئتين، وإنما لقب براهويه؛ لأنَّه ولد في طريق مكة، ومعنى الطريق بالفارسية: (راه)، ومعنى: (ويه): وجد، فكأنَّه وجد في الطريق، (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (رَوح)؛ بفتح الرَّاء آخره حاء مهملة: هو ابن عُبادة؛ بِضَمِّ العين المهملة، وتخفيف الموحَّدة، ابن العلاء البصري، المتوفى سنة خمس ومئتين (ومحمَّد بن جعفر) هو الهذلي البصري، المشهور بغُندر؛ بِضَمِّ الغين المعجمة؛ كلاهما (عن شعبة) هو ابن الحجاج الواسطي ثم البصري (عن محمَّد بن زِيَاد)؛ بكسر الزاي، وتخفيف التحتية، هو القرشي الجمحي المدني التَّابعي الجليل، وقول العجلوني: (مولى آل عثمان بن مظعون) خطأ ظاهر؛ فاجتنبه، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصَّحابي الجليل رضي الله عنه، (عن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنَّه (قال: إن عِفريتًا)؛ بكسر العين المهملة: على وزن: (فِعليت)، قاله ابن الحاجب، وفي «المحكم»: (رجل عفر وعفرية وعفارية وعفريت: بيِّن العفارة خبيث منكر)، وقال الزجاج: (العفريت: النافذ في الأمر المبالغ فيه مع خبث ودهاء، وقد تعفرت)، وفي «الجامع»: (والشَّيطان: عفريت وعفرية، وهم العفاريت والعفارية، قال تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ} [النمل: 39]، وقرأ بعضهم: «عفرية من الجن»)، قال الجوهري: (إذا سكنت الياء؛ صيرت الهاء تاء، وإذا حركتها؛ فالتَّاء هاء في الوقف)، كذا في «عمدة القاري»، (من الجن) احترازًا عن العفريت من غيرهم، قال ابن سيده: (الجن: نوع من العالم، والجمع: جنان، وهم الجِنَّة، والجني؛ منسوب إلى الجن أو الجنة، والجنة: طائفة الجن، والمجنة والجن، وأرض مجنة: كثيرة الجن، والجان: أبو الجن، وهم اسم جمع) انتهى، وفي «القاموس»: (والجان: اسم جمع للجن وحية أكحل العينين لا تؤذي، كثيرة في الدور، والجِن؛ بالكسر: الملائكة كالجِنة، ومن الشباب وغيره: أوله وحدثانه، ومن النبت: زهره ونوره، والجِني؛ بالكسر: نسبة إلى الجن أو الجنة) انتهى هذه عبارة «القاموس» الصَّحيحة، وقد نقل العجلوني عبارته بتصحيف ظاهر مُخلٍّ بالمعنى من عدم معرفته؛ فافهم.
ويطلق الشَّيطان على كل عاتٍ متمرد من الإنس والجن، والشَّيطان من الجن إذا أعياه المؤمن وعجز عن إغوائه؛ ذهب إلى متمرد من الإنس، فأغراه على المؤمن ليفتنه، وقال مالك بن دينار: (شياطين الإنس أشدُّ عليَّ من شياطين الجن؛ لأنَّي إذا تعوذت بالله من شياطين الجن؛ ذهبوا عني، وشياطين الإنس تجيئني فتجرني إلى المعاصي عيانًا)، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [الأنعام: 112].
قال إمام الشَّارحين: واعلم أنَّ الموجود الممكن الذي ليس بمتحيز ولا صفة للمتحيز هم الأرواح، وهي إما سفلية أو علوية؛ فالسفلية؛ إمَّا خيرة؛ وهم صالحوا الجن، أو شريرة؛ وهم مردة الشياطين، والعلوية؛ إما متعلقة بالأجسام؛ وهي الأرواح الفلكية، أو غير متعلقة بالأجسام؛ وهي الأرواح المطهرة المقدسة، وقال ابن دريد: الجن خلاف الإنس، يقال: جنه الليل وأجنه وجن عليه وغطاه في معنَّى واحد: إذا ستره، وكل شيء استتر عنك؛ فقد جن عنك، وبه سميت الجن، وقال ابن عقيل: إنَّما سمي الجن جنًّا؛ لاستجنانهم واستتارهم عن العيون، ومنه سمي الجنين جنينًا، انتهى.
ثم قال إمام الشَّارحين: ثم اعلم أنَّ الجن يتطورون في صور شتى، ويتشكلون في صورة الإنس، والبهائم، والحيات، والعقارب، والإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والبغال، والحمير، وفي صور الطير.
وقال القاضي أبو يعلى: (ولا قدرة للشياطين ولا للجن ولا الملائكة على تغيير خلقهم والانتقال في الصور، إنَّما يجوز أن يعلِّمهم الله تعالى كلمات وضربًا من ضروب الأفعال إذا فعلهوتكلم به؛ نقله الله من صورة إلى صورة أخرى، وأمَّا أن يصوِّر نفسه؛ فذلك محال؛ لأنَّ انتقالهم من صورة إلى صورة [إنما يكون]
==================
بنقض [1] البنية وتفريق الأجزاء، وإذا انتقضت؛ بطلت الحياة، والقول في تشكيل الملائكة كذلك) انتهى.
(تَفلَّت)؛ بفتح المثناة الفوقية، وتشديد اللَّام؛ أي: تعرض فلتة؛ أي: بغتة، وفي «المحكم»: أفلت الشيء: أخذه بغتةً في سرعة، وكان ذلك فلتة؛ أي: فجأة، والجمع: فلتات، لا يجاوز بها جمع السَّلامة، والفلتة: الأمر يقع من غير إحكام، وفي «المنتهى»: تفلت علينا وإلينا، وفي «الصِّحاح»: أفلت الشيء تفلت وانفلت بمعنًى، وأفلته غيره، كذا في «عمدة القاري»، وقال القزاز: تفلت؛ أي: توثب (عليَّ) بتشديد الياء المفتوحة (البارحةَ)؛ بالنصب على الظرفية لـ (تفلت)، وهي أقرب ليلة مضت، وفي «المنتهى»: كل زائل بارح، ومنه سميت البارحة أدنى ليلة زالت عنك، تقول: لقيته البارحة والبارحة الأولى، ومنه ثلاث ليالٍ، وفي «المحكم»: البارحة: هي الليلة الحالية [2]، ولا تحقر، وقال قاسم في «الدلائل»: يقال: بارحة الأولى: يضاف الاسم إلى الصِّفة، كما يقال: مسجد الجامع، ومنه الحديث: «كانت لي شاة فعدا [3] عليه الذئب بارحة الأولى»، كذا في شرح إمام الشَّارحين.
قلت: وظاهره أنَّها لا تطلق على الليلة البعيدة، بقي أنَّ ظاهر كلام «المحكم» أنَّها تطلق على الليلة الحالية، وهو خلاف المتبادر من كلامهم، وخلاف الاستعمال، إلا أن يقال: إنَّها الحالية بمعنى المتصلة بالليلة الحالية لكنَّه بعيد؛ فافهم.
(أو قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (كلمة)؛ أي: جملة كما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]، وقد قال هو جملة من كلمات (نحوَها)؛ بالنصب صفة لـ (كلمة)؛ أي: نحو قوله: (تفلت عليَّ البارحة) والمراد أنَّها تشبهها، كما في الرواية الآتية للمؤلف آخر (الصلاة): «عرض لي فشد علي»، ووقع في رواية عبد الرزاق: «عرض لي في صورة هر»، ووقع في رواية مسلم: «جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي»، فضمير (نحوها) يرجع إلى قوله: (تفلت عليَّ البارحة)، كما ذكرنا، وبه علم أنَّ قول العجلوني: (فضمير «نحوها» لجملة «تفلت علي البارحة») ليس على إطلاقه؛ لأنَّ الضمير في (نحوها) ليس عائدًا على الجملة، بل على قوله: (تفلت علي البارحة)؛ فافهم، وأمَّا قول الكرماني: (فضمير «نحوها» يرجع إلى «البارحة»)؛ فغير ظاهر؛ لأنَّ صريح اللَّفظ يدل على أنَّه قال نحو قوله: (تفلت علي البارحة)، ويدل عليه رواية البخاري ومسلم وعبد الرزاق كما علمتها آنفًا؛ فافهم، (ليَقْطَع) بفتح التحتية، والطاء المهملة، وسكون القاف (عليَّ) بتشديد التحتية المفتوحة (الصلاة) قال العجلوني: لم أقف على تعيين الصلاة، ولعلها نافلة الليل، انتهى، قلت: ويحتمل أنَّها نافلة النهار، ويحتمل أنَّها فريضة الليل أو النهار، ولا مانع منه؛ فليحفظ، (فأمكنني) بعدم الإدغام (الله منه)؛ يعني: قوَّاني وعصمني الله منه، وقد جاء في تفسير ذلك في رواية النسائي حيث قال: «فأخذته، فصرعته، فخنقته حتى وجدت برد لسانه على يدي» انتهى، (فأردت) بالفاء، ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: (وأردت)؛ بواو العطف (أن) بفتح الهمزة
%ص 654%
(أربِطه) بكسر الموحَّدة الخفيفة وضمها (إلى سارية) أي: مع سارية (من سوار المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام للعهد، والسارية: الأسطوانة؛ أي: من أسطوانة من أساطين المسجد النَّبوي، قال القليوبي: وجملتها الآن مئتان وست وتسعون أسطوانة، انتهى، وقد زاد في عمارته السلطان عبد المجيد العثماني زيادة لم أرها، ونسأل الحنان المنان أن يرزقنا زيارة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بالصحة والأمان، آمين، (حتى تصبحوا)؛ أي: تدخلوا في الصباح، فهي تامة لا تحتاج إلى خبر (وتنظروا إليه) أي: إلى العفريت (كلُّكم) بالرفع تأكيد للضمير المرفوع.
قال إمام الشَّارحين: يحتمل أن يكون ربطه بعد تمام الصلاة، أو يربطه بوجه كان شغلًا يسيرًا، فلا تفسد به الصلاة، انتهى.
قال العجلوني: (والأرجح كون ربطه خارج الصلاة؛ لأنَّ ربطه بالسارية يحتاج إلى عمل كثير لا يسير كما قاله، على أنَّ في رواية النسائي السَّابقة أنَّها تدل على كثرة العمل؛ فتأمل) انتهى.
قلت: بل هما احتمالان، والأرجح أنَّه عليه السَّلام أراد ربطه وهو في الصلاة، يدل عليه صريح لفظ الحديث؛ حيث قال: «فأمكنني الله منه فأردت ... » إلخ، فأتى بالفاء المفيدة للتعقيب؛ يعني: أنَّه وقت إمكانه منه أراد ربطه؛ لأجل ألا يفر منه، فيفوت المقصود وهو نظرهم إليه.
وقوله: (لأنَّ ربطه ... ) إلخ: ممنوع؛ لأنَّه يحتمل أنَّه عليه السَّلام كان قريبًا من السارية، أو أشار إليها لتقرب منه، وربطه لا يحتاج إلى عمل كثير؛ لأنَّ الكثير ما يستكثره الناظر، أو ما يفوَّض إلى رأي المصلي، والربط لا يكون كذلك، بل هو عمل يسير غير مفسد للصلاة، ورواية النسائي السَّابقة لا تدل على العمل الكثير؛ لأنَّه قال فيها: «فأخذته، فصرعته، فخنقته حتى وجدت برد لسانه»، فهي ظاهرة في أنَّها عمل يسير لا كثير، ويحتمل تعدد القصة، فكل رواية في قصة بانفرادها، وهو الأظهر، ويحتمل أنَّ على رواية النسائي يكون المعنى: فأخذته بيدي من رقبته حتى خنقته ووجدت برد لسانه، فهو عمل واحد يسير لا كثير كما زعمه؛ فليحفظ.
(فذكرت) أي: تذكرت (قول أخي) أي: في النُّبوة أو الدِّين (سليمان) هو ابن داود عليهما السَّلام الذي قال الله تعالى في حقه: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]؛ أي: مطيع رجَّاع، وسئل سفيان عن عبدين ابتلي أحدهما فصبر وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء؛ لأنَّ الله تعالى قد أثنى على عبدين أحدهما صابروالآخر شاكر ثناءًا واحدًا، فقال: في وصف أيِّوب: {نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، وقال في وصف سليمان: {نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} انتهى، قلت: وعلى هذا لا فضل للغني الشاكر على الفقير الصابر، بل هما في الفضل سواء، وفيه خلاف؛ والجمهور على أنَّ الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأنَّ نفعه عام لنفسه ولغيره فهو أولى بالفضل، وأمَّا الفقير الصابر؛ فنفعه قاصر على نفسه فقط؛ فليحفظ: ({رب اغفر لي})؛ أي: ذنبي، وهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ({وهب لي}) [ص: 35] كذا لأبي ذر، ولغيره: (رب هب لي) وإسقاط ({رب اغفر لي}) سوى ابن عساكر، فإنَّه رواه بلفظ (هب لي) فقط كما في (الفرع) و (أصله)، ووقع في رواية مسلم كرواية أبي ذر على نسق التلاوة.
قال ابن حجر: (والظَّاهر أنَّ غير رواية أبي ذر من تغيير بعض الرواة) انتهى.
قلت: وعليه فهو تصحيف من بعض الرواة، وليس كذلك؛ لأنَّ أكثر الرواة رووا: (ربِّ هب لي)، ولا يمكن اجتماع الجمهور على تصحيف الرواية، وكل راوٍ روى على ما سمعه فهذه الجرأة مذمومة؛ ولهذا قال الكرماني: (لعله ذكره على قصد الاقتباس من القرآن، لا على قصد أنَّه قرآن) انتهى، قلت: يعني: أنَّ رواية أبي ذر على قصد أنَّه قرآن، ورواية غيره على قصد الاقتباس من القرآن، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم، ولا تغتر بما زعمه ابن حجر؛ لأنَّه صادر من غير تأمل؛ فليحفظ.
({مِلكًا}) بكسر الميم مفعول {هب}، وزعم العجلوني أنَّه بِضَمِّ الميم، قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ القاعدة عند المحققين أنَّ المُلك إذا أضيف لله تعالى بِضَمِّ الميم؛ كقوله: {المُلْكُ اليَوْمَ [4] لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} [غافر: 16]، وإذا أضيف إلى العبد بكسر الميم؛ كقولنا: الدار مِلك زيد؛ فليحفظ.
فإن قلت: كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا مع ذمها من الله تعالى وبغضه فيها وحقارتها لديه؟
قلت: هو محمول على أداء الحقوق لله تعالى وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده، وظهور عبادته، ونظم قانون الحكم النافذ على خلقه منه، وتحقيق الموعود في أنَّه يعلم مالا يعلم أحد [5] من خلقه حسب ما صرح بذلك لملائكته؛ حيث قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وحاشى سليمان عليه السَّلام أن يكون سؤاله طلبًا لنفس الدنيا؛ لأنَّه هو والأنبياء عليهم السَّلام أزهد خلق الله في الدنيا، وإنَّما كان سؤاله مملكتها لله تعالى؛ كما سأل نوح دمارها وهلاكها، وكانا محمودين مجابين إلى ذلك، فأجيب نوح فأهلك من عليها، وأعطي سليمان المملكة، وقد قيل: إنَّ ذلك كان بأمر من الله عز وجل على الصِّفة التي علم الله أنَّه لا يضبطه إلا هو وحده دون سائر عباده.
قال الحسن البصري: (ما من أحد إلا ولله عليه تبعة في نعمة غير سليمان فإنَّه قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا .. } الآية [ص: 39])، قلت: وهذا يردُّ ما رُوي في الخبر أنَّ آخر الأنبياء دخولًا الجنة سليمان بن داود؛ لمكان ملكه في الدنيا، وفي بعض الأخبار: يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفًا ذكره صاحب «القوت»، قلت: وقد نص الحفاظ الثقات أنَّ هذا الحديث باطل لا أصل له؛ لأنَّه سبحانه إذا كان عطاؤه لا تبعة فيه؛ لأنَّه من طريق المنة، فكيف يكون آخر الأنبياء دخولًا الجنة وهو سبحانه يقول: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40]، ويدل عليه ما عند المؤلف في «الصَّحيح»: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته ... »؛ الحديث، فجعل له من قبيل السؤال حاجة مقضية، فلهذا لم تكن عليه تبعة، والله تعالى أعلم.
({لا ينبغي}) أي: لا يطلب ({لأحد من بعدي})؛ أي: من البشر أو أعم؛ أي: أن يسأله فكأنَّه عليه السَّلام سأل منع السؤال لأحد من بعده حتى لا يتعلق به أمل لأحد،
%ص 655%
ولم يسأل منع الإجابة، وقيل: إنَّ سؤاله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده؛ ليكون محله وكرامته من الله ظاهرًا في خلق السماوات والأرض؛ لأنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لهم تنافس في المحل عنده، فكل يحب أن تكون له خصوصية يستدل بها على محله عنده، ولهذا لما أخذ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم العفريت المذكور، وأراد ربطه ثم تذكر قول أخيه سليمان؛ تركه مع القدرة عليه؛ حرصًا على إجابة الله دعوة سليمان وأنَّه مما اختص به، فلو أعطي أحد بعده مثله؛ ذهبت هذه الخصوصية، فكأنَّه عليه السَّلام كره أن يزاحمه في تلك الخصوصية بعد أن علم أنَّه شيء هو الذي خص به من سحرة الشياطين، وأنَّه أجيب إلى ألا يكون لأحد بعده، والله أعلم؛ فليحفظ.
وقال القاضي عياض: (امتنع عليه السَّلام من ربطه؛ إمَّا لأنَّه لم يقدر عليه؛ لأنَّه قد رده الله خاسئًا، وإما لأنَّه لما ذكر دعوة سليمان؛ لم يتعاطَ ربطه؛ لظنه أنَّه لا يقدر عليه أو تواضعًا وتأدبًا) انتهى.
قلت: يرد هذا ما جاء في رواية النسائي بقوله: «فأخذته، فصرعته، فخنقته حتى وجدت برد لسانه على يدي»، وعند ابن أبي الدنيا: «فأخذت بحلقه، فوالذي بعثني بالحق؛ ما أرسلته حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة أخي سليمان؛ لأصبح طريحًا في المسجد»؛ فافهم، وأجاب العلامة القاري: (إنَّما تركه إيماء لكونه معجزة مختصة بسليمان)، قلت: وهو الظَّاهر؛ فتأمَّل.
قال القسطلاني: (وزاد في حاشية «الفرع» و «أصله» بعد قوله: «{بعدي}» مما ليس عليه رقم أحد من الرواة: «{إنَّك أنت الوهاب}»).
(قال روح) هو ابن عبادة المذكور في سند الحديث دون رفيقه محمَّد بن جعفر، فهو موصول لا غير، كما قاله إمام الشَّارحين، وقد تردد الكرماني في كونه معلقًا أو موصولًا، قلت: ولا وجه لتردده، بل هو موصول قطعًا بدليل رواية البخاري في (أحاديث الأنبياء) عن محمَّد بن بشار عن محمَّد بن جعفر وحده، فزاد في آخره أيضًا: «فرددته خاسئًا»، وفي رواية مسلم: «فرده الله خاسئًا»، فعلى هذا دلَّ على أنَّ قوله: (قال روح) داخل تحت الإسناد، كما لا يخفى، ولعل الكرماني لم يطلع على ذلك؛ فافهم: (فرده) أي: رد النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم العفريتَ حال كونه (خاسئًا)؛ أي: مطرودًا بعيدًا، وفي «الصِّحاح»: خسأت الكلب: طردته، وخسأ الكلب نفسه، يتعدى ولا يتعدى، ويكون الخاسئ بمعنى: الصاغر الذليل، وفي «المحكم»: (الخاسئ من الكلاب والخنازير والشياطين بالبعد: الذي لا يترك أن يدنو من الناس، وخسأ الكلب يخسأ خسئًا وخسوءًا، فخسأ وانخسأ، ويقال: أخسأُ إليك وأخسأْ عني) انتهى.
قلت: فعلى ما شرحنا يكون فاعل (رده) النَّبي الأعظم عليه السَّلام، ويؤيده رواية المؤلف في (الأنبياء) لكن عن محمَّد بن جعفر وحده: «فرددته خاسئًا»، ويحتمل أن يكون فاعل (رده) الله تعالى، ويؤيده رواية مسلم من طريق النضر عن شعبة بلفظ: «فرده الله خاسئًا»، قيل: وفي بعض النُّسخ هنا: (فرده الله خاسئًا)؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وجه مطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «الأسير» ظاهرة، وأمَّا قوله: «والغريم»؛ فبالقياس عليه؛ لأنَّ الغريم مثل الأسير في يد صاحب الدين، ففي الحديث: دليل على إباحة ربط الأسير والغريم في المسجد، وعلى هذا بوَّب البخاري، ومن هذا قال المهلب: إنَّ في الحديث جواز ربط من خشي هروبه بحقٍّ عليه أو دين والتوثق منه في المسجد وغيره) انتهى.
وقال الخطابي: (فيه دليل على أنَّ رؤية البشر الجنَّ غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة، والجسم وإن لطف؛ فدركه غير ممتنع أصلًا، وأمَّا قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]؛ فإنَّ ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم الله بذلك وابتلاهم؛ ليفزعوا إليه، ويستعيذوا به من شرهم، ويطلبوا الأمان من غائلتهم، ولا ينكر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفين من عباده بخلاف ذلك) انتهى، واعترضه الكرماني فقال: (لا حاجة إلى هذا التأويل إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقًا، إذ المفاد منها أنَّ رؤيته إيانا مقيدة بهذه الحيثية، فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا فقط، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت) انتهى، قلت: وقد تبعه البيضاوي؛ حيث قال: (ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا يقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا) انتهى، يعني: في بعض أحوالهم، وهو حال بقائهم على صورهم الأصلية؛ لأنَّ حديث الباب وغيره يدل على رؤيتهم، وهو جواب عنه؛ فافهم.
وقال الإمام جار الله الزمخشري في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} فيه دليل بيِّن على أنَّ الجن لا يُرون، ولا يظهرون للإنس، وأنَّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأنَّ زعْمَ من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة) انتهى، واعترضه العجلوني فقال: (حديث الباب وغيره من الأحاديث يرده) انتهى، قلت: ما بلغ هذا رتبة الرد على مثل هذا الإمام؛ لأنَّ الآية صريحة فيما قاله، وأما الحديث وغيره؛ فليس فيه ردٌّ لما قاله؛ لأنَّ رؤية النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم العفريتَ خاص به دون غيره من أمته، كما أنَّ رؤيته الملائكةَ خاص به، يدل عليه أنَّه عليه السَّلام لما خرج في جنازة بعض أصحابه؛ مشى على رؤوس رجليه، فسئل عن ذلك، فقال: «لازدحام الملائكة»، فأصحابه لم يروا الملائكة وقتئذٍ، وكذلك الجن؛ فإن رؤيتهم كانت خاصة به عليه السَّلام دون غيره من الأُمَّة، ويدل على الخصوصية أنَّ أحدًا من أصحابه لم ير أحدًا منهم، إلا أنَّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وذلك لأنَّهم لا قدرة لهم على تغيير خلقهم والانتقال في الصور، وإنَّما يظهرون إذا فعلوا ضروبًا من الأفعال أو قرأوا كلمات علمهم الله إياها، إذا فعلوها أو تكلموا بها؛ نقلهم الله من صورة إلى صورة أخرى، ولا يمكن أن يصوروا أنفسهم؛ لأنَّ ذلك محال؛ لأنَّه يلزم منه نقض البُنية؛ وهو يستلزم تفريق الأجزاء؛ وهو يستلزم إبطال الحياة، فالصورة الحقيقية التي لهم لا ترى للأنس أصلًا، إنَّما يرى صورة أخرى كما ذكرنا، هذا معنى كلام الإمام جار الله، وقد خفي هذا على العجلوني حتى قال ما قال ولم يدر المقال؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري»: (قال ابن بطال: ورؤيته عليه السَّلام العفريتَ هو مما خُصَّ به كما خصَّ برؤية الملائكة، وقد أخبر عليه السَّلام: أنَّ جبريل عليه السَّلام له ست مئة جناح، ورأى النَّبي عليه السَّلام الشَّيطان في هذه الليلة، وأقدره الله عليه لتجسمه؛ لأنَّ الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنَّه ألقى في روعه ما وهب سليمان عليه السَّلام، فلم ينفِّذ ما قوي عليه من حبسه؛ رغبة عما أراد سليمان الانفراد به وحرصًا على إجابة الله دعوته، وأمَّا غير النَّبي عليه السَّلام من الناس؛ فلا يُمكَّن منه، ولا يرى أحدٌ الشَّيطانَ على صورته غيره عليه السَّلام؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ ... }؛ الآية، لكن يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته في صورة حية فقتله، فمات الرجل به، وبيَّن النَّبي عليه السَّلام ذلك بقوله: «إنَّ بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم من هذه الهوام شيئًا فآذنوه ثلاثًا، فإن بدا لكم؛ فاقتلوه»، رواه الترمذي والنسائي في «اليوم والليلة» من حديث أبي سعيد الخدري) انتهى، قلت: وهذا يؤيد ما قلناه آنفًا؛ فافهم.
وحديث الباب رواه مسلم، قال النَّووي في «شرحه»: فيه دليل على أنَّ الجن موجودون وأنَّهم قد يراهم بعض المؤمنين، وأمَّا قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ ... }؛ الآية؛ فمحمول على الغالب، فلو كانت رؤيتهم محالة لما قال النَّبي عليه السَّلام
%ص 656%
ما قال من رؤيته إياهم، ومن أنَّه كان يربطه لتنظروا إليه ويلعبوا به ولدان أهل المدينة) انتهى.
قلت: قوله: (وأنَّهم قد يراهم بعض المؤمنين): المراد بهم: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وسليمان دون أمة [6] نبينا عليه السَّلام، وكذلك قوله: (وأمَّا الآية ... ) إلخ: خاصٌّ بالنَّبي الأعظم وسليمان دون أمة نبينا، وقوله: (ومن أنه ... ) إلخ: هذا يدل على أنَّه عليه السَّلام أحب أن تنظر إليه أصحابه، لكن منعه من ذلك دعوة سليمان مع أنَّ الجن مستورون عن الإنس، ولا يمكن رؤية البشر الجن على الصِّفة الأصلية، بل إذا تصوروا بصورة أخرى يمكن، وقوله: (ويلعبوا به ... ) إلخ: هذه دعوى لا دليل عليها فهي مردودة؛ فافهم.
وقال القاضي عياض: (وقيل: إنَّ رؤيتهم على خلقهم وصورهم الأصلية ممتنعة؛ لظاهر قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ ... }؛ الآية، إلا للأنبياء ومن خرقت له العادة، وإنَّما يراهم بنو آدم في صور غير صورهم كما جاء في الآثار) انتهى.
واعترضه النَّووي فقال: هذه دعوى مجردة، فإن لم يصح لها مستند؛ فهي مردودة، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإنَّ قوله: (إن رؤيتهم ... ) إلخ: دليلها صريح الآية ظاهرًا، وقوله: (إلا للأنبياء) دليله حديث الباب فإنَّ رؤية العفريت مما اختص به عليه السَّلام دون أحد من أصحابه وكذلك سليمان، وقوله: (ومن خرقت له العادة)، هم الأبدال والنجباء؛ لما في الحديث أنَّه كل واحد منهم على قدم نبي من الأنبياء، وما كان معجزة لنبي؛ جاز أن يكون كرامة لولي، وفيه أحاديث يطول سردها، وقوله: (وإنما يراهم ... ) إلخ: دليلها الآثار التي ذكرها، فكيف قال النَّووي ما قال؟! فافهم.
وقد ذكر سيدي العارف الشيخ عبد الغني النابلسي أنَّه كان يجتمع بالقاضي شمهورش، ويقرأ عليه، ويدارسه، وهو كان قاضي الجن، وقيل: إنَّه صحابي؛ لأنَّه بلغ من العمر مدة طويلة، قيل: من جن نصيبين أو من غيرهم.
وقد اشتهر عند علماء الروحاني أنهم قالوا: إذا قرأ الإنسان كلمات وأسماء سريانية عددًا مخصوصًا بصفة مخصوصة؛ أنَّه يجتمع بالجن الخادم لهذه الكلمات، كما ذكر ذلك أحمد البوني في «شمس المعارف»، والله أعلم أن الظَّاهر أن الممتنع رؤيتهم على صورتهم الأصلية من غير طلب وقصد، أمَّا على صورة أخرى بطلب من عزيمة ونحوها؛ فغير ممتنع؛ فليحفظ.
وقد حدثني شيخي عن شيخه الشيخ محمَّد الكزبري: أنَّه كان عنده مرة الشيخ عبد القادر القباني فأخبره: أنَّ له شيخًا من الجن، فاستأذنه بالاجتماع به، فأذن له، فاستأذن الشيخ الجني، فأذن له لكن بشرط أن يكون الوقت ليلًا وأن يكون بغير نور، فاجتمعوا في مكان، وسمع صوته ولم ير شخصه، وأنَّ صوته رقيقٌ [7]، هكذا قال، والله أعلم.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث دليل على أنَّ أصحاب سليمان عليه السَّلام كانوا يرون الجن، وهو من دلائل نبوته، ولولا مشاهدتهم إياهم؛ لم تكن تقوم الحجة له؛ لمكانته عليهم) انتهى، واعترضه العجلوني فزعم أنَّ في دلالته على ما ذكر خفاء، انتهى، قلت: وهو ممنوع؛ لأنَّ الحديث فيه أنَّه عليه السَّلام أحبَّ أن يربط العفريت، وتنظر إليه أصحابه ويشاهدوه، فتذكَّر قول سليمان؛ حيث إنَّه كانت أصحابه تشاهد الجن؛ فلم يفعل وترك ذلك؛ حرصًا على إجابة دعوة سليمان؛ فافهم، وفي «تفسير القرطبي»: (قال علي: بينا سليمان على شاطئ البحر، وهو يعبث بخاتمه؛ إذ سقط منه في البحر، وكان ملكه في خاتمه، قال جابر: قال عليه السَّلام: «كان نقش خاتم سليمان: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله»، وحكى يحيى الشيباني عن ابن عبَّاس: أنَّ الذي أخذ خاتمه صخر من الشياطين، ثم إنَّه وجد الخاتم في عسقلان، قال علي رضي الله عنه: لما أخذ سليمان الخاتم؛ أقبلت إليه الشياطين، والجن، والإنس، والطير، والوحش، والريح، وهرب الشَّيطان، فاستشارهم حتى أرسل إليه، وأوثقه في جبل الدخان) انتهى، قلت: فهذا يدل على أنَّ أصحاب سليمان يشاهدون الجن والشياطين، ويدل عليه قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ ... }؛ الآية [النمل: 17]، وبهذا كفاية، والله أعلم.
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث دليل على أنَّ الجن ليسوا باقين على عنصرهم النَّاري، ولأنَّه عليه السَّلام قال: «إنَّ عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهتي»، وقوله عليه السَّلام: «رأيت ليلة أسري بي عفريتًا من الجن يطلبني بشعلة من نار، كلما التفت إليه رأيته»، ولو كانوا باقين على عنصرهم النَّاري، وأنهم نار محرقة؛ لما احتاجوا إلى أن يأتي الشَّيطان أو العفريت منهم بشعلة من نار، ولكانت يد الشَّيطان أو العفريت أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه، كما يحرق الآدميَّ النَّارُ الحقيقية بمجرد اللمس، فدل هذا على أنَّ تلك النَّارية انغمرت [8] في سائر العناصر حتى صار البرد، ويؤيده قوله عليه السَّلام: «حتى وجدت برد لسانه على يدي»، وفي رواية: «برد لعابه») انتهى، قلت: وهذا كلام في غاية من التحقيق.
وقال البغوي: (وفي الجن مسلمون وكافرون، ويحيون ويموتون، وأمَّا الشياطين؛ فليس فيهم مسلمون، ويموتون إذا مات إبليس)، وذكر وهب: أنَّ من الجن من يولد لهم، ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومن الجن من هم بمنزلة الريح لا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، من نار السموم: ريح حارة تدخل مسام الإنسان فتقتله، ويقال: السموم بالنهار، والحرور بالليل، وعن الكلبي: السموم: نار لا دخان لها، والصواعق تكون منها، وهي نار بين السَّماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمرًا خرقت الحجب فهوت إلى ما أمرت، فالهدة التي تسمع هي خرق [9] ذلك الحجاب، وقيل: نار السموم: لهب النَّار، وقيل: من نار السموم؛ أي: من نار جهنم.
وعن الضحاك عن ابن عبَّاس: (كان إبليس من حي من الملائكة يقال لهم: الجن، خُلقوا من نار السموم، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وأما الملائكة؛ فخلقوا من النور) انتهى، قلت: وهذا يؤيد ما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
قلت: وما يزعمه الناس من أنَّ الجن تصرع بعض الإنس بكلمات يقرؤها المشايخ؛ فباطل، ولهذا قال الإمام الجبائي: الناس يقولون: المصروع إنَّما حصلت له تلك الحالة؛ لأنَّ الشَّيطان يمسه ويصرعه؛ وهو باطل؛ لأنَّ الشَّيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس، ويدل عليه وجوه:
أحدها: قوله تعالى حكاية عن الشَّيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]، وهذا صريح في أنَّه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء.
وثانيها: أنَّ الشَّيطان ليس كثيف الجسم، وإلا لوجب أن نشاهده؛ إذ لو كان كثيفًا ويحضر ثم لا يرى؛ لجاز أن يكون بحضرتنا شموس، ورعود، وبروق، وجبال، ونحن لا نراها، وذلك جهالة؛ لأنَّه لو كان جسمًا كثيفًا؛ كيف يمكن أن يدخل الشَّيطان في باطن بدن الإنسان؟ ولو لم يكن جسمًا كثيفًا؛ لكان جسمًا لطيفًا كالهواء، ومثل ذلك يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة، فيمتنع أن يكون قادرًا على الصرع للإنسان وقتله.
ثالثها: لو كان الشَّيطان يقدر على أنْ يصرع ويقتل؛ لصحَّ أن يفعل مثل معجزات الأنبياء، وذلك يجر إلى الطعن في النُّبوة.
رابعها: أنَّ الشَّيطان لو قدر على ذلك فلمَ لا يصرع جميع المؤمنين؟ ولمَ لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان؟ ولم لا ينصب أموالهم، ويفسد أحوالهم، ويزيل عقولهم؟ وكل هذا ظاهر الفساد.
وزعم قوم أنَّ الشَّيطان يقدر على ذلك لما روي: (أنَّ الشياطين في زمان سليمان كانوا يعملون له ما شاء من محاريب وتماثيل)، ولقوله تعالى {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} [البقرة: 275]، وهذا صريح في ذلك.
وأجيب عن الأول: بأنَّه تعالى كثَّف [10] أجسامهم في زمان سليمان، فلما صارت كثيفة؛ قدرت على الأعمال الشاقة، وهو من معجزاته.
وعن الثاني: أنَّ الشَّيطان يمسه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الصرع، وهو قول أيِّوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، وإنَّما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة؛ لأنَّ الله خلقه عند ضعف الطبع وغلبة السوداء عليه، فلا جرم يخاف ويفزع عند تلك الوسوسة، ولهذا لا يوجد في الفضلاء.
وقد أفرد بيان الجن وأحكامها الإمام العلامة بدر الدين الشبلي الحنفي في كتاب سماه «آكام المرجان في أحكام الجان»، فعليك به؛ لأنَّه لم يُسبق بمثله، وقد أودع فيه من التحقيقات الرَّائقة والتدقيقات الفائقة بما لم يسمع بمثله، فلله دره ما أعلمه، وفيه من أحكامهم: ولا خلاف في أنَّهم مكلفون، مؤمنهم في الجنة وكافرهم في النَّار، واختلفوا في ثواب الطائعين؛ ففي «الفتاوى البزازية»
%ص 657%
معزوًّا [11] لـ «الأجناس» عن الإمام الأعظم أنَّه قال: (ليس للجن ثواب) انتهى، وذلك؛ لأنَّه جاء في القرآن فيهم {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 11] والمغفرة لا تستلزم الإثابة؛ لأنَّه ستر؛ منه: المغفر للبيضة [12]، والإثابة بالوعد فضل، فثوابهم النَّجاة من النَّار، وإليه ذهب جماعة، وبه قال اللَّيث وأبو الزناد، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن: (لهم ثواب كما عليهم عقاب)، وبه قال مالك وابن أبي ليلى.
قال في «الفتاوى السراجية»: (ولا تجوز المناكحة بين بني آدم والجن وإنسان الماء؛ لاختلاف الجنس) انتهى، وتبعه في «منية المفتي»، و «الفيض»؛ لقول الله تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72] أي: من جنسكم، ونوعكم، وعلى خلقكم، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] أي: من الآدميين، ولما رواه حرب الكرماني في «مسائله» عن الزهري قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن) وهو مرسل، لكنَّه حجة عند الجمهور لا سيما وقد اعتضد بأقوال العلماء؛ فروي المنع عن الحسن البصري، وقتادة، والحاكم، وابن [13] قتيبة، وإسحاق بن راهويه، وعقبة [بن] الأصم، وغيرهم، فإذا تقرر المنع من نكاح الأنسي الجنية، فالمنع من نكاح الجني الأنسية أولى.
وسئل مالك عن نكاح الجن، فقال: (ما أرى بذلك بأسًا في الدين، ولكن أكره إذا وجد امرأة حامل، قيل لها: من زوجك؟ قالت: من الجن، فيكثر الفساد في الإسلام) انتهى.
قال الإمام الجليل قاضيخان في «فتاواه»: (امرأة قالت: معي جني يأتيني في النَّوم مرارًا، وأجد منه في نفسي ما أجد لو جامعني زوجي، قال: لا غسل عليها) انتهى، وقيده المحقق الكمال بن الهمام بما إذا لم تُنزل، أمَّا إذا أَنزلت؛ وجب الغسل؛ لأنَّه احتلام.
ويصح الصلاة خلف الجني؛ لأنَّه مكلف بلا خلاف، وتنعقد الجماعة بهم؛ لما رواه أحمد في «مسنده» عن ابن مسعود في قصة الجن وفيه: (لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي؛ أدركه شخصان منهم فقالا: يا رسول الله؛ إنَّا نحب أن تؤمنا في صلاتنا، فقال: فصفهما خلفه، ثم صلى بنا، ثم انصرف).
ورواية الجني مقبولة، وقال السيوطي: لا شك في جواز روايتهم عن الإنس ما سمعوه سواء علم الإنسي بهم أولا، وأمَّا رواية الإنسي عنهم؛ فالظَّاهر منعها؛ لعدم حصول الثِّقة بعدالتهم.
وذبيحة الجني لا تؤكل؛ لأنَّه عليه السَّلام نهى عن أكل ذبائح الجن كما في «الملتقط».
والجمهور على أنَّه لم يكن من الجن نبي، وذهب الضحاك وابن حزم على أنَّه كان منهم نبي، وتمامه في «آكام المرجان».
ولم يعرف العجلوني مذهب إمامه، فلم يتعرض لأحكامهم مع أنَّه لازم؛ تتميمًا للفائدة حتى لا تشتاق النفس إلى ذلك؛ فليحفظ والله أعلم.
==================
[2] كذا في الأصل، وفي «المحكم»: (الخالية).
[3] في الأصل: (فغدا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] {اليوم}: سقطت من الأصل.
[5] في الأصل: (أحدًا)، وليس بصحيح.
[6] في الأصل: (أمتي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (رقيقًا)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (انغمزت)، وهو تصحيف.
[9] في الأصل: (حرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (كشف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (معزيًّا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (المغفرة لأبيضة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/775)
(76) [باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضًا في المسجد]
(باب الاغتسال إذا أسلم)؛ أي: هذا باب في بيان حكم اغتسال الكافر إذا أسلم؛ أي: في المسجد (و) بيان حكم (ربط الأسير) (فعيل) بمعنى (مفعول) قال في «الصِّحاح»: أسره؛ أي: شده بالأساري، وهو القد، ومنه سمي الأسير؛ لأنَّهم كانوا يشدونه بالقد، كما مر، (أيضًا) مصدر (أضَّ) بمعنى: رجع، وقوله: (في المسجد) اللَّام فيه للجنس، والجار والمجرور متعلق بـ (الاغتسال) و (ربط الأسير) على سبيل التنازع، أو حال منهما، أو صفة لهما؛ فافهم، وفي رواية أبي ذر: (ويربط الأسير أيضًا في المسجد) وعليها؛ فالجار والمجرور متعلق بـ (يربط)، ويجوز تنوين (باب) خبرًا لمبتدأ محذوف، وجعل (الاغتسال) مرفوعًا مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: مندوب، فيقال: بابٌ _بالتنوين_ الاغتسال على الكافر إذا أسلم مندوب، وقوله: (وربط الأسير) بالرفع معطوف على الاغتسال، وقوله: (في المسجد) متعلق أيضًا: بـ (الاغتسال)، وبـ (يربط)، أو حال منهما أو صفة لهما.
قال إمام الشَّارحين: (وهذه التَّرجمة وقعت هكذا في أكثر الروايات، وليس في رواية كريمة والأصيلي قوله: «وربط الأسير أيضًا في المسجد») انتهى، وقال القسطلاني: (إنَّ قوله: «وربط الأسير ... » إلى أول السند ساقط عند ابن عساكر، وأبوي ذر والوقت).
وقال إمام الشَّارحين: (ووقع عند البعض لفظ «باب» بلا ترجمة، وهو الصَّواب لأنَّ حديث الباب من جنس حديث الباب الذي قبله، ولكن لما كانت بينهما مغايرة ما؛ فصل بينهما بلفظ «باب» مفردًا، وهو أنَّ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم همَّ بربط العفريت بنفسه ولكنه لم يربطه؛ لمانع ذكرناه، وههنا ربطه غيره، فلذلك فصل البخاري بينهما بلفظ «باب» مفردًا، وهذا أصوب من النُّسختين المذكورتين؛ لأنَّ في نسخة الجمهور، ذكر الاغتسال إذا أسلم، وليس في حديث الباب ذكر لذلك ولا إشارة إليه، وفي نسخة الأصيلي: «ربط الأسير» غير مذكور، وحديث الباب يصرح بذلك) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ ما أوردَه على نسخة الجمهور غير وارد إن لم نجعل (في المسجد) متعلقًا بـ (الاغتسال) أيضًا، وحديث الباب مصرح فيه بالاغتسال، لكنه خارج المسجد، وظاهره وإن كان قبل الإسلام، لكنَّ المراد: بعد الإسلام؛ لما في حديث ابني خزيمة وحبان من التصريح بأنه بعد الإسلام، ويمكن حمل ما هنا على أنَّه أظهر الإسلام بين الصَّحابة وإن كان أسلم قبلُ عند خروج النَّبي عليه السَّلام إليه في المرة الثالثة؛ فتأمَّل) انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، وقول صادر من غير اعتبار؛ لأنَّ كون (في المسجد) متعلقًا بـ (الاغتسال) و (ربط الأسير) متعين كما أوضحناه قريبًا، وذلك لصحة المعنى، وحديث الباب غير مصرح بالاغتسال في المسجد، بل صرح بالاغتسال خارج المسجد وهو غير مراد، وصريح الحديث أنَّ الاغتسال منه وقع قبل الإسلام، وكونه بعد الإسلام يحتاج لدليل، وما ذكره عن ابن حبان وابن خزيمة، لا ينهض دليلًا؛ لأنَّ فيه (فمرَّ عليه النَّبي عليه السَّلام يومًا فأسلم فحله وبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل ... )؛ الحديث، ويأتي بتمامه قريبًا، وهو يقتضي أنَّ القصة متعددة، ويحتمل أنَّ معنى: (أسلم) انقاد للإسلام؛ لأنَّ في أول الحديث أنَّه عليه السَّلام كان يهدده، ويقول ثمامة: (إن تقتل تقتل)، وفي آخر الحديث قال عليه السَّلام لأصحابه: «لقد حسن إسلام أخيكم»، وهذا يدل على أنَّ إسلامه الحقيقي كان بعد الاغتسال، وعلى كل حال؛ فالاغتسال إنَّما كان خارج المسجد، وإمكان كونه أظهر الإسلام بين الصَّحابة ممنوع؛ لأنَّه لو كان كما ذكر؛ لكانت الصَّحابة أخبرت النَّبي عليه السَّلام بإسلامه ولما قالوا له: (ما تصنع بقتل هذا؟) كما عند ابني خزيمة وحبان، وهو كان يهدده وهم شاهدون، وهذا ظاهر في مرات متعددة، ولم يكن إسلامه قبل خروجه عليه السَّلام، بل إنَّما كان بعد حله وبعثه لأجل الاغتسال، كما هو صريح حديث الباب، وحديث ابني خزيمة وحبان.
والحاصل: أنَّ ما قاله إمام الشَّارحين هو الصَّواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وما زعمه العجلوني باطل صادر من فكر عاطل؛ فافهم، والله أعلم.
وقال ابن المُنَيِّر: (ولم يورد المؤلف قصة ثمامة في باب «الأسير يربط في المسجد» مع أنَّها أليق بحسب الظَّاهر؛ لاحتمال أنَّ المؤلف آثر الاستدلال بقصة
%ص 658%
العفريت على قصة ثمامة، لأنَّ الذي همَّ بربط العفريت هو النَّبي عليه السَّلام، والذي ربط ثمامة غيره، ولمَّا رآه مربوطًا قال: «أطلقوا ثمامة»، فهو بأن يكون إنكار الربط أولى من [أن] يكون تقريرًا) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا قول صادر من غير تأمل؛ لأنَّ ابن إسحاق صرح في «المغازي» أنَّ النَّبي عليه السَّلام هو الذي أمرهم بربط ثمامة، فإذا كان كذلك؛ كان حديث ثمامة من جنس حديث العفريت، ولكن لما كان بينهما مغايرة ما؛ فصل بينهما بلفظ «باب») انتهى.
وتبعه ابن حجر حيث قال: (وكأنَّ ابن المُنَيِّر لم ينظر سياق هذا الحديث تامًّا لا في «البخاري» ولا في غيره، فقد أخرجه البخاري في «المغازي» من هذا الوجه مطولًا، وفيه أنَّه عليه السَّلام مرَّ على ثمامة ثلاث مرات، وهو مربوط في المسجد، وإنَّما أمر بإطلاقه في اليوم الثالث، وكذا أخرجه مسلم وغيره، وإني لأتعجب منه كيف جوز أنَّ الصَّحابة يفعلون في المسجد أمرًا لا يرضى به النَّبي عليه السَّلام؟! فهو كلام فاسد مبني على فاسد) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ التَّرجمة وقعت لابن المُنَيِّر كما ذكر، فاحتاج إلى توجيهها، ولم ينظر لما وقع في غيرها، فإن نظر إليه؛ اتجه اعتراض ابن حجر عليه بما ذكره وإن كان فيه تكلف، انتهى.
قلت: وقوع التَّرجمة هكذا غير عذر؛ لأنَّه كان يمكنه تصحيحها بالمقابلة على نسخة صحيحة، على أنَّ توجيهها بما ذكر غير صواب؛ لأنَّه مخالف لصريح الأحاديث مع الجرأة على الصَّحابة الكرام، ولا مانع من نظره لما وقع في غيرها وعدم فهم معناها؛ لأنَّ الذي يقول هذا الكلام لا يفهم المعنى المرام، فصح قول ابن حجر: (فهو كلام فاسد مبني على فاسد)، وصح قول إمام الشَّارحين: (هذا قول صادر من غير تأمل)؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وأبعد من الكل النُّسخة التي ذكرها ابن المُنَيِّر وهي: «باب ذكر الشراء والبيع» فيه: «أبو هريرة بعث رسول الله عليه السَّلام خيلًا ... »؛ الحديث، ثم قال: وجه مطابقة حديث ثمامة للبيع والشراء في المسجد أنَّ الذي تخيل المنع مطلقًا إنَّما أخذه من ظاهر أنَّ هذه المساجدإنَّما بنيت للصلاة ولذكر الله، فبيَّن البخاري تخصيص هذا العموم بإجازة فعل غير الصلاة في المسجد، وهو ربط ثمامة؛ لأنَّه مقصود صحيح، فالبيع كذلك، انتهى، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقال صاحب «التلويح» بعد أن نقل هذا الكلام منكرًا عليه ومستبعدًا وقوعه منه:
وذاك لعمري قول من لم يمارس ... كتاب «الصَّحيح» المنتقى في المدارس
ولم ير ما قد قاله في الوفود من ... سياق حديث واضح متجانس
وكان الشيخ قطب الدين الحلبي تبع ابن المُنَيِّر في ذلك، وأنكر عليه تلميذه صاحب «التوضيح»، وهو محل الإنكار؛ لأنَّ التَّرجمة التي ذكرها ليست في شيء من نسخ «البخاري») انتهى كلام إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
وقال ابن حجر: (يحتمل أن يكون البخاري بيَّض للتَّرجمة فسدَّ بعضهم البياض بما ظهر له، ويدل عليه أنَّ الإسماعيلي ترجم عليه بـ «باب دخول المشرك المسجد»، وأيضًا فالبخاري لم تجرِ عادته بإعادة لفظ ترجمة عقب الأخرى، و «الاغتسال إذا أسلم» لا تعلق له بأحكام المساجد إلا على بُعْد بأن يقال: الكافر جنب غالبًا، والجُنب ممنوع من المسجد إلا لضرورة، فلما أسلم؛ لم تبق ضرورة للبثه في المسجد جنبًا فاغتسل؛ لتُسوَّغ له الإقامة في المسجد) انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ احتمال كون البخاري بيَّض للتَّرجمة ممنوع؛ لأنَّه لو كان كذلك لم يذكر تعليقًا وحديثًا، وهذا أبعد البعيد أن يذكر التَّعليق والحديث، ويبيض للتَّرجمة، واحتمال أن بعضهم سد هذا البياض أبعد منه؛ لأنَّ رواة «البخاري» كلهم عدول، ولم يحصل من العدل جرأة على مثل «البخاري»، فهذا يعد نقصًا في رواة «البخاري»، وهو غير صحيح، وكون الإسماعيلي ترجم له بما ذكر؛ لعلَّ هذه التَّرجمة مثل ترجمة ابن المُنَيِّر لم توجد في نسخ البخاري، وكون البخاري لم تجر عادته بإعادة ترجمة عقب أخرى؛ ممنوع؛ لأنَّ عادته إعادة الأحاديث مرات في أبواب متعددة وهذا مثله، والعادة تثبت بمرة، وكون الاغتسال لا تعلق له بأحكام المساجد؛ ممنوع؛ لأنَّ تعلقه ظاهر، فإنَّ الكافر جنب في الغالب، وهو ممنوع من دخول المسجد، فلمَّا أسلم؛ احتاج إلى الصلاة في المسجد، فيغتسل ثم يدخل، فهو حكم من أحكام المساجد، والله أعلم.
(وكان شُرَيْح)؛ بِضَمِّ الشين المعجمة، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة، هو ابن الحارث الكندي، كان من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، وكان في زمن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه، قضى بالكوفة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن بعده ستين سنة، مات سنة ثمانين، كذا قاله إمام الشَّارحين، وفي «التقريب»: (شريح بن الحارث بن قيس الكوفي النخعي القاضي أبو أمية، مخضرم ثقة، وقيل: له صحبة، مات قبل الثمانين أو بعدها، وله مئة وثمان سنين أو أكثر، يقال: حكم سبعين سنة) انتهى، (يأمر الغريم)؛ أي: الذي عليه الدين، وقد يكون الغريم الذي له الدين، والمراد هنا الأول؛ فافهم، (أن يُحبَس)؛ بِضَمِّ أوله مبني للمجهول؛ أي: يأمره بأن يحبس نفسه في المسجد (إلى) أي: مع (سارية) أي: أسطوانة (المسجد)؛ أي: مسجد الكوفة، فاللَّام فيه للعهد، ويحتمل أنَّه ضَمَّن (يحبس) معنى (يضم) فعدي بـ (إلى)، قيل: وفي نسخة (أن يَحبِس) بالبناء للفاعل، قال ابن مالك: (وفي إعراب هذا وجهان؛ أحدهما: أن يكون الأصل «بالغريم»، و «أن يحبس» بدل اشتمال، ثم حذفت الباء كما في قول الشاعر:
~أمرتك الخير ...
والثاني: أن يريد: كان يأمره أن ينحبس، فجعل المطاوَع موضع المطاوِع لاسلتزامه إياه) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا تكلف، وحذف الباء في الشعر للضرورة، ولا ضرورة ههنا، وهذا التركيب ظاهر، فلا يحتاج إلى مثل هذا الإعراب، ولا شك أنَّ المأمور هو الغريم، أمر بأن يحبس نفسه
%ص 659%
في المسجد، فإن قضى ما عليه من الدينح ذهب في حاله، وإلا أُمِر به في السجن، و «أن يحبس» أصله: بأن يحبس، و «يحبس» على صيغة المجهول؛ يعني: أمره أن يحبس نفسه في المسجد أولًا، وعند المُطل يحبس في السجن) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم: يتأمل دعواه ظهور التركيب مع جريانه على القواعد من غير ما قاله ابن مالك، فإنَّ المراد أنَّ شريحًا يأمر غيره بأن يحبس الغريم، ويربطه بسارية المسجد، على أنَّ الباء في الغريم موجودة في بعض الأصول الصَّحيحة؛ فتأمل.
قلت: تأملته فوجدته فاسد الاعتبار، فإنَّ ظهور التركيب مع جريانه على القواعد غير ما زعمه ابن مالك ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم، كما بيَّنها إمام الشَّارحين، كما رأيت، فيقال: (كان شريح) (كان) واسمها، و (يأمر الغريم): فعل وفاعل ومفعول، والجملة خبر (كان)، و (أن) حرف مصدري، و (يحبس): فعل مضارع منصوب بها، وهي في تأويل مصدر؛ تقديره: بحبس نفسه ... إلخ.
وقوله: (فإنَّ المراد ... ) إلخ؛ ممنوع، فإنَّ ظاهر اللَّفظ أنَّ شريحًا يأمر الغريم بحبس نفسه في المسجد، وليس في هذا التَّعليق ذكر غير شريح والغريم كما رأيت، فإنَّ في وقتهم لم يكن حاجب ولا شرطي، بل بمجرد علمه الحق وأنَّه يجب عليه كذا؛ يفعل ذلك الغريم وحده، ولا يقاس زمانهم على زماننا، فإنَّه قياس مع الفارق؛ فافهم.
وقوله: (على أنَّ الباء ... ) إلخ، الله أعلم بصحة هذا الأصل الموجودة فيه، لأنَّ أحدًا من الشراح لم يذكرها أصلًا، لا من نسخة صحيحة ولا غيرها، والظَّاهر أنَّها تحريف من الناسخ، فلا يعول عليها، على أنَّ من القواعد أنَّ حذف الباء في الشعر جائز؛ للضرورة، وأمَّا ههنا؛ فلا يجوز؛ لعدم الضرورة، فقياس النثر على الشعر قياس مع الفارق؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: ومطابقة هذا الأثر للجزء الثاني من التَّرجمة ظاهرة، وهو تعليق من البخاري، وقد وصله معمر عن أيِّوب عن ابن سيرين قال: (كان شريح إذا قضى على رجل بحق؛ أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم بما عليه، فإن أعطى الحق، وإلا أمر به في السجن) انتهى.
==================
(1/776)
[حديث: بعث النبي خيلًا قبل نجد فجاءت برجل]
462# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل، وفي (يوسف)؛ تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قال: حدثنا اللَّيث)؛ بالمثلَّثة: هو ابن سعد الفهمي، المصري، القلقشندي المولد، الحنفي المذهب على التحقيق (قال: حدثني) بالإفراد رواية الأربعة، ولغيرهم: (حدثنا) بالجمع (سعيد بن أبي سعيد) بكسر العين المهملة فيهما، واسم أبي سعيد: كيسان، هو المقبري المدني، المتوفى بعد اختلاطه بأربع سنين سنة خمس وعشرين ومئة، لا يقال: إنَّه مدلس؛ لاحتمال التحديث والسَّماع قبل الاختلاط؛ فافهم: (أنَّه) بفتح الهمزة؛ أي: سعيدًا (سمع أبا هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصَّحابي الجليل رضي الله عنه، ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: (حدثني أبو هريرة) (قال) أي: أبو هريرة: (بعث النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست، قاله ابن إسحاق، أو على رأس تسعة وخمسين شهرًا من الهجرة، قاله ابن سعد، إلى القُرَطَاء؛ بِضَمِّ القاف، وفتح الرَّاء والطاء المهملة، وهم نفر من بني أبي بكر بن كلاب، وكانوا ينزلون البَكرات؛ بفتح الموحَّدة في الأصل؛ جمع بكرة، وهي ماء بناحية ضَرِيَّة؛ بفتح الضَّاد المعجمة، وكسر الرَّاء، وتشديد التحتية؛ وهي أرض كثيرة العشب، وإليها ينسب الحمى، وضريَّة في الأصل: بنت ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وسمي الموضع المذكور باسمها، وبين ضريَّة والمدينة: سبع ليال، كذا قرره إمام الشَّارحين، (خيلًا)؛ أي: فرسانًا، قاله الجوهري، والخيل أيضًا: الخيول، قاله إمامنا الشَّارح.
وزعم ابن حجر (أي: رجالًا على خيل)، وردَّه في «عمدة القاري»: (بأنَّ هذا تفسير من عنده، وهو غير صحيح، بل المراد ههنا من الخيل: هم الفرسان، ومنه قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] أي: بفرسانك ورجالتك، والخيَّالة: أصحاب الخيول) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أنَّ تفسيره (خيلًا) هنا بـ (رجالًا على خيل) صحيح على أنَّ الذي رأيناه في نسخ ابن حجر: خيلًا؛ أي: فرسانًا، والأصل أنَّهم كانوا رجالًا على خيل، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّ المراد بالخيل _كما قاله إمام اللُّغة الجوهري_: الفرسان، وقد جاء ذلك في القرآن، ومثله في «مختصر الصِّحاح»؛ حيث قال: (والخيل: الفرسان، ومنه قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}؛ أي: بفرسانك ورجالتك) انتهى، ومثله في «القاموس» حيث قال: (الخيل: جماعة الأفراس، لا واحد له، والفرسان) انتهى، وعلى هذا فتفسير ابن حجر غير صحيح؛ لأنَّه مخالف لأهل اللُّغة، وهو تفسير من عنده، وهو مردود، والذي يفهم من «القاموس» أنَّ الرجل الراكب على فرس يقال له: فارس، وجمعه: فرسان، فالفارس: اسم للرجل والدَّابة معًا؛ فافهم.
وقوله: (على أنَّ الذي ... ) إلخ؛ ممنوع، فإنَّ جميع نسخ ابن حجر هكذا: (خيلًا؛ أي: رجالًا على خيل) فكيف يدعي هذا هربًا من الاعتراض؟
وقوله: (والأصل ... ) إلخ؛ لا عبرة بهذا؛ لأنَّه غير مراد، بل المراد تفسير أئمة اللُّغة، وهو يخالفه، على أنَّه وإن كان الأصل فيه ذلك لا يقال له ذلك؛ لأنَّه خلاف اللُّغة؛ فافهم.
(قِبَل نَجْد)؛ بكسر القاف وفتح الموحَّدة، وهو الجهة، يقال: جلس قُبالته؛ بالضم؛ أي: تجاهه والمقابلة: المواجهة، ونَجْد؛ بفتح النُّون وسكون الجيم؛ وهي الأرض المرتفعة، ضد الغور، وهي تهامة إلى العراق، وهي من جزيرة العرب.
قال المدائني: (جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة، ونجد، وحجاز، وعروض، ويمن، أمَّا التهامة؛ فهي الناحية الجنوبية من الحجاز، وأمَّا نجد؛ فهي الناحية التي بين الحجاز والعراق، وأمَّا الحجاز؛ فهو جبل يقبل من اليمن حتى يتصل بالشام، وفيه المدينة وعمان، وأمَّا العروض؛ فهي اليمامة إلى البحرين).
وقال الواقدي: (الحجاز من المدينة إلى تبوك ومن المدينة إلى طريق الكوفة، ومن وراء ذلك إلى أن يشارف [1] أرض البصرة؛ فهو نجد، وما بين العراق وبين وجرة وعمرة الطَّائف؛ نجد، وما كان من وراء وجرة إلى البحر؛ فهو تهامة، وما كان بين تهامة ونجد؛ فهو حجاز، سمي به؛ لأنَّه يحجز بينهما) انتهى.
(فجاءت)؛ أي: الخيل، وهذا المبعث هو سرية كان أميرها محمَّد بن مسلمة، أرسله عليه السَّلام في ثلاثين راكبًا إلى القُرَطَاء، وكانت غيبته بها تسع عشرة ليلة، وقدم آخر ليلة من المحرم، (برجل من بني حَنيفة)؛ بفتح الحاء المهملة قبيلة مشهورة (يقال له) أي: للرجل: (ثُمَامة بن أُثَال) بالمثلَّثة فيهما مع ضم أولهما، وتخفيف ثانيهما ورابعهما، وهو في الأول ميم، وفي الثاني لام؛ فافهم، (فربطوه)؛ أي: فربط الخيلُ الرجلَ بأمر من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم كما صرح به ابن إسحاق في «مغازيه»، وزعم العجلوني أنَّه يحتمل غيرهم، قلت: وهذا الاحتمال بعيد عن النَّظر؛ فافهم، (بسارية) أي: أسطوانة (من سواري) أي: من أساطين (المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد، وعلى هذا؛ فيكون حديث ثمامة من جنس حديث العفريت غير أنَّ بينهما فرقًا؛ من حيث إنَّ هناك حصل من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم همٌّ وإرادةٌ لربطه، وإنَّما امتنع لمانع، وههنا أمرهم بربطه، كما رواه ابن إسحاق كما ذكرناه، وزعم العجلوني أنَّ هنا حصل ربطه منهم، فأقره عليه السَّلام، كما تقدم فيما رواه ابن إسحاق، انتهى، قلت: الذي تقدم عن ابن إسحاق أنَّه عليه السَّلام هو الذي
%ص 660%
أمرهم بربطه كما صرح به إمام الشَّارحين، وابن حجر، والقسطلاني، وغيرهم، فما نقله العجلوني غير صحيح؛ فليحفظ.
(فخرج النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من حجرته بعدما أمرهم بربطه، ودخل حجرته (فقال)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لأصحابه، أو للذين ربطوه، وذلك في اليوم الثالث لما تقدم أنَّ الحديث أخرجه المؤلف في «المغازي»، وفيه أنَّه عليه السَّلام مرَّ على ثمامة ثلاث مرات، وهو مربوط في المسجد، ففي المرة الثالثة قال لهم: (أطلقوا) بفتح الهمزة، وهي همزة قطع (ثمامة)؛ أي: من القيد، إنَّما أمرهم بإطلاقه؛ منًّا عليه؛ إما للتآلف، وإما لأنَّه أسلم لمَّا مر عليه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما رواه ابني خزيمة وحبان من حديث أبي هريرة.
وقال الكرماني: (يحتمل أنَّه عليه السَّلام أطلقه لما علم أنَّه آمن بقلبه وسيظهره بكلمة الشهادة، وقال ابن الجوزي: لم يسلم تحت الأسر؛ لعزة نفسه، وكان عليه السَّلام أحس بذلك منه، فقال: «أطلقوه»، فلما أُطلق؛ أسلم) انتهى.
وردَّهما إمام الشَّارحين، فقال: (يرد هذا حديث أبي هريرة الذي رواه ابن خزيمة وابن حبان، وفيه: «فمرَّ صلى الله عليه وسلم عليه يومًا فأسلم فحلَّه»، فهذا يصرح بأنَّ إسلامه كان قبل إطلاقه، فيُعذر الكرماني في هذا؛ لأنَّه قال بالاحتمال، ولم يقف على حديث أبي هريرة، وأمَّا ابن الجوزي؛ فكيف غفل عن ذلك مع كثرة اطلاعه في الحديث؟!) انتهى.
قلت: أي: في الموضوع لا الصَّحيح حتى أفرط في أحاديث صحاح، وحكم عليها بالوضع، وقد قال الحفاظ: لا عبرة بوضع ابن الجوزي ورفع الحاكم، فيحتمل أنَّه لم يطلع على حديث أبي هريرة، لا يقال: يمكن حمل كلامهما _كما زعمه العجلوني_ على أنْ يريد بقوله سيظهره بعد إطلاقه بين جمع الصَّحابة؛ لأنَّا نقول: صريح حديث أبي هريرة: أنَّه أسلم حين مرَّ عليه النَّبي عليه السَّلام، وكان بين جمع الصَّحابة، فأمرهم عليه السَّلام بإطلاقه؛ لإسلامه صريحًا بين الصَّحابة، فإسلامه كان بعد إطلاقه؛ فليحفظ.
(فانطلق) وفي رواية: (فذهب)؛ أي: ثمامة، وهذا تفريع على قوله: (فأطلقوه) يعني: فأطلقوه، فانطلق (إلى نَجْلٍ) بفتح النُّون، وسكون الجيم، آخره لام، وهو الماء النابع من الأرض، وقال الجوهري: (استنجل الموضع؛ أي: كثر به النجل، وهو الماء يظهر من الأرض)، وهكذا وقع في النُّسخة المقروءة على أبي الوقت، وكذا زعم ابن دريد.
وفي أكثر الروايات: (إلى نخل)؛ بالخاء المعجمة، وكذا في رواية مسلم، ويؤيد هذا ما رواه ابن خزيمة في «صحيحه» من حديث أبي هريرة: (أنَّ ثمامة أُسِر، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يغدو إليه فيقول: «ما عندك يا ثمامة؟» فيقول: إن تقتل؛ تقتل ذا دم، وإن تمنَّ؛ تمنَّ على شاكر، وإن تُرِد المال؛ نعطك منه ما شئت، وكان أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا؟ فمرَّ عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فأسلم، فحله، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لقد حسن إسلام أخيكم»)، وبهذا اللَّفظ أيضًا خرَّجه ابن حبان في «صحيحه».
وأخرجه البزار أيضًا بهذا الطريق وفيه: (فأمره النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر)، وفي بعض الروايات: (أنَّ ثمامة ذهب إلى المصانع، فغسل ثيابه واغتسل)، وفي «تاريخ البرقي»: (فأمره أن يقوم بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما)، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وهذا كله يؤيد الرواية بالخاء المعجمة؛ لأنَّ (الحائط) البستان، والغالب فيه الماء.
وذكر ابن حجر حديث أبي هريرة وأيد به رواية الخاء المعجمة.
واعترضه العجلوني بأنّه لا تأييد فيه؛ لأنَّه يجوز أن يكون انطلاقه إلى حائط أبي طلحة إلى حاجة، فرأى فيه النجل الذي هو الماء، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، بل فيه تأييد ظاهر؛ لأنَّ (الحائط) البستان الذي فيه الماء، والنجل؛ بالجيم: موضع الماء النابع.
وكون ثمامة انطلق لحاجة في حائط أبي طلحة فرأى فيه الماء؛ يحتاج إلى دليل، بل إنَّما ذهب لحائطه؛ لأنَّ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بعث به إليه، وأمره أن يغتسل فيه، كما تقدم في حديث أبي هريرة قريبًا.
وعند البزار: (فأمره عليه السَّلام أن يغتسل بماء وسدر)، فهذا دليل على أنَّ ثمامة إنَّما ذهب لأجل الاغتسال، كما هو صريح الحديث، وإنَّما أمره عليه السَّلام وبعث به إلى الحائط؛ لأجل الاغتسال، ولا حاجة لثمامة غير الاغتسال وغسل الثياب، ولا يمكن من ثمامة قضاء حاجة غير الاغتسال؛ لأنَّ النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم بعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، كما في حديث أبي هريرة، وهو ظاهر في أنَّه عليه السَّلام بعث [معه] بعضًا من الصَّحابة حتى لا يهرب إلى أهله، ومعلوم أنَّ الأسير يكون بيد الناظر عليه كالطير في القفص، وأصحابه عليه السَّلام لا يخالفون أمره عليه السَّلام، فلا يمكن منهم ذلك كما لا يخفى؛ فافهم.
(فاغتسل)؛ أي: ثمامة، وفي رواية البزار: (أنَّه عليه السَّلام أمره أن يغتسل بماء وسدر)، وفي بعض الروايات: (فغسل ثيابه واغتسل)، وفي «تاريخ البرقي»: (فأمره أن يقوم بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما)، والظَّاهر أنَّه لأجل أن يعلِّموه كيفية الاغتسال، وغسل الثياب، والطهارة وغير ذلك من فروع الإيمان، وفي رواية أبي هريرة في «صحيحي ابني [2] خزيمة وحبان»: (أنه اغتسل وصلى ركعتين) (ثم دخل المسجد)؛ أي: النَّبويَّ، فاللَّام فيه للعهد، وفيه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، (فقال)؛ أي: ثمامة (أشهد)؛ أي: أقر وأذعن بقلبي، وأصدق بلساني: (أن لا إله إلا الله) وإنَّما قدَّم النَّفي على الإثبات، ولم يقل: الله لا إله إلا هو؛ بتقديم الإثبات على النَّفي؛ لأنَّه إذا نفى أن يكون هناك إله غير الله؛ فقد فرغ قلبه مما سوى الله بلسانه ليواطئ القلب وليس مشغولًا بشيء سوى الله تعالى، فيكون نفي الشريك عن الله بالجوارح الظَّاهرة والباطنة؛ فافهم.
(وأنَّ محمَّدًا رسول الله)؛ أي: وأشهد أنَّه رسول الله؛ لأنَّ المراد بالشهادة: تصديق الرسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكره من الاعتقادات، ولهذا قال في «الأشباه»: الإيمان: تصديق محمَّد صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به من الدين ضرورة، والكفر: تكذيبه عليه السَّلام فيما جاء به من الدين ضرورة، انتهى.
قلت: وعلى هذا فلا بدَّ من إعادة (أشهد) في صحة الإسلام عند الحنفية، وهو المرجح عند الشَّافعية؛ فيراجع.
قال العجلوني: (ولم نرَ من ذكر من الشراح أنَّ هذا الحديث من مراسيل أبي هريرة مع أنَّ إسلامه سنة سبع، وهذه القضية وقعت قبل، كما تقدم، لكنَّ مرسل الصَّحابي حكمه الوصل على الصَّواب؛ فليعرف) انتهى.
قلت: ولكون حكم مرسل الصَّحابة الوصل؛ لم يتعرض أحد من الشراح لذلك؛ لكونه معلومًا ضرورة؛ فليحفظ.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الحديث للجزء الثاني من التَّرجمة ظاهرة، كما في الأثر المذكور) انتهى.
قلت: بقي على المؤلف أنَّه لم يذكر حديثًا يطابق الجزء الأول من التَّرجمة؛ لأنَّ من المعيب على كلِّ مصنف أن يترجم لشيء ولم يتعرض له
%ص 661%
بذكر حديث يطابقه.
وقد يقال: إنَّ هذا الحديث مصرح به بالاغتسال، لكنَّه خارج، وظاهره أنَّه كان قبل إسلامه، لكن المراد أنَّه بعد إسلامه؛ لحديث أبي هريرة عند ابني حبان وخزيمة من التصريح بأنَّه بعد إسلامه، فيحتمل أنَّ المؤلف أراد حمل حديث الباب على هذا، ويحتمل أنَّه أراد أنَّ ثمامة أظهر إسلامه بين الصَّحابة، وإن كان أسلم قبلُ عند خروجه عليه السَّلام إليه في المرة الثالثة لكنه بعيد؛ لأنَّه عليه لا يكون الاغتسال وقع في المسجد، والتَّرجمة أنَّه كان في المسجد، فالصَّواب من القول: أنَّ لفظ (باب) مجردًا من غير ترجمة أحسن، ولا احتياج إلى التكلفات والتعسفات؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث فوائد؛ الأولى: جواز دخول الكافر المسجد، وقال ابن التين: وعن مجاهد وابن محيريز: جواز دخول أهل الكتاب فيه، وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة ومالك والمزني: لا يجوز، وقال الإمام الأعظم أبو حنيفة: يجوز للكتابي دخول المسجد دون غيره، واحتج بما رواه أحمد ابن حنبل في «مسنده» بسند جيد عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد») انتهى.
قلت: وحديث الباب يدل لما قاله؛ فافهم.
واعترضه العجلوني بأنَّ المحفوظ عن الحنفية الجواز مطلقًا، ولعله قول للإمام، انتهى.
قلت: ما آن لهذا أن يحفظ مذهب الأئمة الحنفية فضلًا عن مذهبه، بل هذا الذي قاله إمام الشَّارحين هو مذهب الإمام الأعظم؛ لما في «الأشباه والنظائر» من أحكام الذمي: (ولا يمنع من دخول المسجد جنبًا بخلاف المسلم، ولا يتوقف جواز دخوله على إذن مسلم عندنا، ولو كان المسجد الحرام) انتهى.
فهذا هو المحفوظ، لا ما زعمه هذا القائل؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (واحتج مالك بقوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ} [التوبة: 28]، وبقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، ودخول الكفار فيها مناقض لرفعها، وبقوله عليه السَّلام: «إنَّ هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر»، والكافر لا يخلو عن ذلك، وبقوله عليه السَّلام: «لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب» والكافر جنب) انتهى.
قلت: ولا حجة له في ذلك؛ لأنَّ قوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} معناه كما قاله المفسرون: أنجاس في اعتقادهم، وأفعالهم، وأقوالهم؛ لأنَّهم يشركون بالله غيره، ويريدون بأعمالهم سواه، فالآية في دخولهم للحج؛ لأنَّهم كانوا يعملون في الحج أعمال المشركين، فأمر الله بتنزيه المسجد الحرام والحرم عن ذلك، فأمَّا نفس الدخول للمسجد ولو المسجد الحرام؛ فغير ممنوع؛ لأنَّ الجمهور اتفقوا على أنَّ الكفر لا يؤثر في نجاسة بدن الكافر نجاسة حقيقية، وإنَّما يؤثر في نجاسة باطنه، فكأنَّ صفة الكفر القائم بهم بمنزلة النَّجاسة الملتصقة بالشيء في باطنه، والنَّجاسة إذا كانت في معدنها لا تؤثر في الظَّاهر، ألا ترى أنَّ المسلم حاملٌ للنجاسة في باطنه، وهي غير مؤثرة في ظاهره، كما لا يخفى.
ولأنَّ قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ} معناه كما قاله المفسرون: ترفع بالصلوات وتلاوة القرآن، {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي: الأذكار من تسبيح، وتهليل، وذكره تعالى وغير ذلك، هذا هو المراد برفعها، فلا تناقض بدخول الكفار المساجد لرفعها؛ لأنَّهم لا يؤثرون في الظَّاهر، ولا يلزم من دخولهم إبطال الصلوات والأذكار، فدخولهم ليس بممنوع، كما لا يخفى.
وقال مجاهد: {أَن تُرْفَعَ} معناه: تبنى، وعليه أيضًا فلا تناقض في ذلك، لأنَّ دخول الكافر لا ينافي عمارتها وبناءها، كما لا يخفى.
وقال الحسن: معناه: تعظَّم، وعليه فدخوله لا ينافي تعظيمها، والجمهور على الأول؛ فافهم.
ولأنَّ قوله عليه السَّلام: «إنَّ هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر»؛ المراد به: حقيقة النَّجاسة، ولا شكَّ أنَّ المسجد يجب تنزيهه عنها، وأمَّا الكافر؛ فليس بنجس حقيقة ولا حكمًا.
وقوله: (والكافر لا يخلو عن ذلك) ممنوعٌ؛ لأنَّ هذا من الأمور الوهمية، والأحكام لا تبنى على الوهم؛ لأنَّه يجوز أن يكون الكافر نظيفًا ومغتسلًا من النَّجاسات ليس عليه شيء منها.
ولأنَّ قوله عليه السَّلام: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» أي: حقيقة، وكون الكافر جنبًا أمر موهوم، والأحكام لا تبنى عليه، على أنَّ حديث الباب يدل صريحًا على جواز دخول الكافر المسجد؛ لأنَّ الصَّحابة لما جاؤوا بثمامة؛ أمرهم النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يربطوه في المسجد، كما صرح به ابن إسحاق، وثمامة كان وقتئذٍ كافرًا، فلو كان الكافر نجسًا أو يناقض لرفع المسجد؛ لما أمرهم بربطه، وكون الكافر لا يخلو عن الأقذار والجنابة أمر موهوم فلم يلتفت إليه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأمر به فربط في المسجد، وبقي على ذلك أيامًا.
والحاصل: أنَّ ما استدل به مالك من المنع غير ظاهر، ولا ينهض دليلًا لما قاله؛ فليحفظ.
وقال الشَّافعي وأحمد ابن حنبل: يجوز دخول الكافر سواء كان كتابيًا أو غيره المسجد لحاجة وإذن مسلم ولو حكمًا، إلا المسجد الحرام فلا يمكَّن الكافر منه؛ لحديث الباب، ولأنَّ ذات الكافر ليست بنجسة.
قلت: وحديث الباب يدل على جواز دخول الكافر المُعاهِد؛ لأنَّ ثمامة كان من خدمة أهل العهد، واشتراط الإذن من المسلم زائد على النص؛ لأنَّه غير مذكور في الحديث؛ لأنَّ ثمامة كان بأيديهم مغلولًا، وجاؤوا به وربطوه في المسجد، أمَّا لو جاء وحده ودخل بإذن منهم؛ ينبغي أن يكون دليلًا مع أنَّه غير مصرح به في الأحاديث، فهو شرط زائد على النص؛ فلا يقبل.
واستثناء المسجد الحرام ممنوع، ويرده قوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والخطاب إنَّما كان للمشركين كما هو صدر الآية، فالمعاهد خارج عن الآية، فيجوز له الدخول في الحرم كما هو صريح الآية؛ فافهم.
وفي الحديث: طلب الاغتسال إذا أسلم الكافر، فإن أسلم طاهرًا؛ يندب له الاغتسال، وإن أسلم جنبًا؛ فُرض عليه الاغتسال، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور؛ لأنَّ ثمامة يحتمل أن يكون طاهرًا أو جنبًا، فإن كان طاهرًا؛ فأمره عليه السَّلام له بالاغتسال محمولٌ على الندب؛ لأنَّه للتنظيف، يدل عليه ما رواه البزار وغيره من حديث أبي هريرة، وفيه: (فأمره عليه السَّلام أن يغتسل بماء وسدر)، فإنَّما كان السدر؛ لأجل النظافة، والاغتسال؛ لأجل أن يألف العبادات ويتعلمها، ويدل عليه أنَّ في بعض الروايات: (أمره أن يقوم بين أبي بكر وعمر)، وما ذاك إلا لأجل أن يتعلم ثمامة منهما كيفية الاغتسال، وإن كان جنبًا؛ فيحتمل أنَّه عليه السلام علم حاله فأمره بالاغتسال على سبيل الوجوب، ويدل عليه ما في «صحيح ابن حبان» أنَّه أمره أن يغتسل ويصلِّي ركعتين.
وقال ابن بطال: (أوجب أحمد الغسل على من أسلم مطلقًا).
قلت: الأمر عند الجمهور للندب، بل هو على التفصيل، فإن أسلم طاهرًا؛ يندب في حقه الاغتسال، وإن جنبًا؛ افترض عليه، فلو أسلم طاهرًا متوضئًا أو مغتسلًا حال الكفر وأراد الصلاة بعد الإسلام؛ جازت صلاته بذلك الوضوء أو الغسل؛ لأنَّ وضوء الكافر واغتساله صحيح، هذا مذهب
%ص 662%
الإمام الأعظم رئيس المجتهدين.
وزعم الشَّافعية الأفضل أن يغتسل إن لم يكن جنبًا، وإلا؛ وجب الغسل وإن اغتسل في الكفر؛ لعدم صحة الغسل منه عندهم.
وزعم ابن بطال وقال مالك: إذا أسلم النصراني؛ فعليه الغسل؛ لأنَّهم لا يتطهرون، فقيل: معناه: لا يتطهرون من النَّجاسة في أبدانهم؛ لأنَّه استحيل عليهم التطهير من الجنابة وإن نووها؛ لعدم الشرع، وقال: وليس في الحديث أنَّه عليه السَّلام أمره بالاغتسال، ولذلك قال مالك: لم يبلغنا أنَّه عليه السَّلام أمر أحدًا أسلم بالغسل، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ الكفار يتطهرون من النَّجاسة في أبدانهم؛ لأنَّهم يغتسلون بالصيف بالمياه الباردة، وفي الشتاء بالمياه الحارة في الحمامات، كما هو مشاهد من حالهم، لكن ليس اغتسالهم على الوجه المخصوص، بل يعممون البدن بالماء، وهو كاف في صحة الغسل، ولم يلزم لهم نية؛ لأنَّ وضوء الكافر واغتساله صحيح، فلو أسلم بعده؛ جازت صلاته به؛ فافهم.
وقوله: (وقال: وليس في الحديث ... ) إلخ: رده إمام الشَّارحين، فقال: (قد مر في حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن حبان، وابن خزيمة، والبزار، وفيه: «فأمره عليه السَّلام أن يغتسل»، وفي «تاريخ نيسابور» للحاكم من حديث عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن أبيه، عن جده قال: «لما أسلمت؛ أمرني النَّبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال»، وفي «الحلية» لأبي نعيم عن واثلة قال: «لما أسلمت؛ قال لي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: اغتسل بماء وسدر، واحلق عنك شعر الكفر»، وفي كتاب «القرطبي» روى عبد الرحيم بن عبيد الله بن عمر، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا أسلم أن يغتسل بماء وسدر) انتهى.
قلت: إذا علمت ذلك؛ ظهر لك أنَّ في الحديث أنَّه عليه السَّلام أمره بالاغتسال، فلا عبرة بكلامه؛ لأنَّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، والمُثبِت مقدم على النافي، وإنما ذكر ذلك ترويجًا لمذهبه.
وقول مالك: (لم يبلغنا ... ) إلخ: يرده ما ذكره إمام الشَّارحين؛ لأنَّه قد ثبت أنَّه عليه السَّلام أمر بذلك، وهو لا ينافي بلوغه لغيره؛ لأنَّ الحفاظ قد أثبتوه في كتبهم الصِّحاح.
وزاد في الطنبور نغمة العجلوني فزعم أنَّه يحمل كلام مالك على عدم بلوغ الخبر إليه بحسب ظنه، أو لأنَّه لم يثبت عنده، فلا ينافي ما مر، انتهى.
قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّ مالكًا قد نفى بلوغ الخبر إليه قطعًا، ولم يقل: بحسب ظني، وكونه لم يثبت عنده؛ ممنوع؛ لأنَّه قال: لم يبلغنا، ولم يقل: لم يثبت عندنا.
وقوله: (فلا ينافي ما مر)؛ أي: الأحاديث الدَّالة على أمره بالاغتسال، بل هو مناف لكلامه؛ لأنَّه قد نفى ذلك، وهو ثابت في الأحاديث الصِّحاح، فكيف لا ينافيه وما ذا إلا تعصب بارد من ذهن شارد؛ فليحفظ.
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: أسر الكافر وجواز إطلاقه، وللإمام في حق الأسير العاقل القتل، أو الفداء، أو الاسترقاق، أو الإطلاق منًّا عليه.
وفيه: جواز ربط الأسير في المسجد، وزعم القرطبي يمكن أن يقال: إنَّ ربطه بالمسجد؛ لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، فيأنس ذلك).
قلت: يوضح هذا ما رواه ابن خزيمة في «صحيحه» عن عثمان بن أبي العاص: أنَّ وفد ثقيف لما قدموا؛ أنزلهم النَّبيُّ عليه السَّلام المسجد؛ ليكون أرق لقلوبهم، وقيل: يمكن أن يكون ربطه في المسجد؛ لأنَّه لم يكن له موضع يربط فيه إلا المسجد.
ثم قال: (وأخذ ابن المنذر من هذا الحديث: جواز دخول الجنب المسلم المسجد، وأنَّه أولى من المشرك؛ لأنَّه ليس بنجس بخلاف المشرك) انتهى.
قال العجلوني: (وهذا القول في غاية الضعف والغرابة) انتهى.
قلت: ليس هذا القول بأضعف من قول إمامه الشَّافعي: في جواز دخول المسلم الجنب المسجد على وجه المرور، بل هو غريب أيضًا؛ لأنَّ المرور دخول وزيادة، وقد قال عليه السَّلام في الحديث الصَّحيح: «لا أُحِل المسجد لحائض ولا جنب»، وهو محكم لا يحتمل غيره، وقوله تعالى: {إِلَّاعَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]؛ فمعناه: أي: مسافرين، باتفاق المفسرين؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (يشارق)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (ابن)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (يشارق)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (يشارق)، وهو تحريف.
(1/777)
(77) [باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم]
هذا (باب): حكم نصب (الخَيْمة)؛ بفتح الخاء المعجمة، وسكون التحتية: البيت المستدير، أو الذي على ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام، ويستظل بها في الحر والمطر، أو هي كل بيت يبنى من عيدان الشجر، والجمع: خيمات، وخيام، وخيم؛ بالفتح، وكعنب كما في «القاموس»، (في المسجد للمرضى)؛ أي: لأجلهم، وهو جمع مريض من نزل به المرض (وغيرهم)؛ أي: من ذوي العاهات والحاجات، وتقديرنا الحكم أولى من تقدير الجواز كما فعل العجلوني، وإن كان المراد بالحكم الجواز؛ لحديث الباب، إلا أنَّ الحكم أعم؛ لشموله الجواز وغيره؛ فافهم.
==========
%ص 663%
==================
(1/778)
[حديث: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل]
463# وبالسند إلى المؤلف: (حدثنا زكريا): يجوز فيه المد والقصر (ابن يحيى): هو ابن عمر أبو السكين الطائي الكوفي، قاله إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر، وقال القسطلاني: (هو البلخي اللؤلؤ الحافظ) انتهى، وتقدم في باب (إذا لم يجد ماءً ولا ترابًا) أنَّه اختلف فيه، ومال الغساني والكلاباذي هناك: أنَّه زكريا بن يحيى بن صالح اللؤلؤ البلخي، المتوفى سنة ثلاثين ومئتين، ومال إمام الشَّارحين وابن حجر: أنَّه زكريا بن يحيى بن عمر الطائي الكوفي أبو السكين، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئتين، فالخلاف هناك جارٍ ههنا؛ فليحفظ، وكل [1] منهما شيخ للبخاري، ويروي عن عبد الله المذكور؛ فليحفظ.
(قال: حدثنا عبد الله بن نُمَيْر) بِضَمِّ النُّون، وفتح الميم، وسكون التحتية، هو الكوفي (قال: حدثنا هشام) هو ابن عروة، (عن أبيه) هو عروة بن الزُّبير بن العوام المدني، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: أنَّها (قالت: أُصيب) بِضَمِّ الهمزة، مبنيًّا للمجهول (سَعْد)؛ بسكون العين المهملة: هو ابن معاذ أبو عمرو سيد الأوس، بدري كبير، قال أبو نعيم: مات سنة خمس في شوال، وكذا قال ابن إسحاق، ونزل في جنازته سبعون ألف مَلَك ما وطئوا الأرض قبل، واهتز له عرش، وفي رواية: العرش.
فإن قلت: ما وجه اهتزاز العرش له؟
قلت: أجيب عنه بأجوبة؛ الأول: أنَّه اهتز استبشارًا لقدوم روحه، الثاني: أن المراد: اهتزاز حملة العرش ومن عنده من الملائكة، الثالث: المراد بالعرش: الذي وضع عليه، وسيأتي عند البخاري: أنَّ رجلًا قال لجابر بن عبد الله: إنَّ البراء بن عازب يقول: اهتز السرير، فقال: إنَّه كان بين هذين الحيين ضغائن، قال ابن الجوزي وغيره: يعني بالحيين: الأوس والخزرج، وكان سعد من الأوس، والبراء من الخزرج، وكل منهم لا يقر بفضل صاحبه عليه، قال صاحب «التلويح»: وفيه نظر من حيث إنَّ سعدًا والبراء كل منهما أوسي، وإنما أشكل عليهم فيما أرى أنَّه رأى في نسب البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج، وسعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث الأوسي، فظن أنَّ الخزرج الأول هو أبو الخزرجيين ففرق بينهما، وإنما هو الخزرج أبو الحارثين المذكورين في نسبهما، وهو ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة،
%ص 663%
كذا ذكر نسبهما ابن سعد، وابن إسحاق، وخليفة، وآخرين.
(يوم الخندق) ويسمى: الأحزاب، وكان في ذي القعدة، ذكره ابن سعد، وقال موسى بن عقبة: (في شوال سنة أربع)، وقال ابن إسحاق: (في شوال سنة خمس)، وذكر أبو عمرو أن سعدًا مات بعد الخندق بشهر، وبعد قريظة بليال، كذا في «عمدة القاري»، (في الأَكْحل)؛ بفتح الهمزة، والحاء المهملة، بينهما كاف ساكنة، على وزن (الأفعل): عرق في اليد، ويقال له: النساء في الفخذ، وفي الظَّهر: الأبهر، قاله في «المخصص» و «المجمل»، وقيل: الأَكحل: عرق الحياة، ويدعى: نهر البدن، وفي كل عضو منه شعبة لها اسم على حدة، فإذا قطع من اليد؛ لم يرق الدم، وفي «الصِّحاح»: (هو عرق في اليد يفصد، ولا يقال: عرق الأكحل)، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: فقول العجلوني: (هو عرق في وسط الذراع)؛ غير ظاهر؛ لأنَّه مخالف لكلام أهل اللُّغة؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: رماه رجل من قريش يقال له: حبان ابن العرقة، وهو حبان بن أبي قيس من بني معيص [2] بن عامر بن لؤي، والعرقة: هي أم عبد مناف، واسمها قلابة بنت سعد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص، سميت العرقة؛ لطيب ريحها، فيما ذكره الكلبي، وقال أبو عبيد بن سلام: (العرقة: هي أم حبان، وتكنى: أم فاطمة)، قال السهيلي: (وهي جدة خديجة، أم أمها هالة) انتهى؛ فليحفظ.
(فضرب النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد، و (ضرب) يستعمل لمعاني كثيرة، وأصل التركيب يدل على الإيقاع، والباقي يستعمل ويحمل عليه، وههنا المعنى: نصب خيمة وأقامها على أوتاد مضروبة في الأرض، والخيمة: بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر، والجمع: خيمات وخيم؛ مثل: بدرة وبدر، والخيم مثل الخيمة، والجمع: خيام؛ مثل: فرخ وفراخ، وعند أبي نعيم الأصبهاني: (ضرب له النَّبي صلى الله عليه وسلم خباء في المسجد)، والخباء: واحد الأخبية، هو من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك؛ فهو بيت، كذا قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: وضرب الخيمة إنَّما كان لسعد؛ (ليعوده) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (من قريب)؛ أي: من مكان قريب له عليه السَّلام، وذلك لمحبته لسعد ولعيادة المرضى؛ فليحفظ، (فلم يَرُعْهم)؛ بِضَمِّ الرَّاء، وفتح التحتية أوله، وسكون العين المهملة، من الروع؛ وهو الفزع، يقال: رعت فلانًا، وروعته فارتاع؛ أي: أفزعته ففزع، وقال الخطابي: الروع: إعظامك الشيء وإكباره فترتاع، قال: وقد يكون من خوف، وفي «المحكم»: الروع، والرواع، واليروع: الفزع، راعني الأمر روعًا ورووعًا _عن ابن الأعرابي كذلك حكاه بغير همز، وإن شئت؛ همزت_، وارتاع منه وله، وروَّعه فتروَّع، ورجل روع ورائع متروع، كلاهما على النسب.
والمعنى ههنا: فلم يرعهم؛ أي: لم يفزعهم إلا الدم، وقال الخطابي: (والمعنى: أنَّهم بينا هم في حال طمأنينة وسكون حتى أفزعهم رؤية الدم فارتاعوا له)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
وزعم العجلوني أنَّه يجوز في (يرعهم) ضم أوله، وكسر الرَّاء، على أنَّه من أراع؛ بمعنى: أفزع، انتهى.
قلت: هو غير ظاهر؛ لأنَّ الرواية لا تساعده، ولأنَّ المعنى عليه غير ظاهر؛ فتأمل.
(وفي المسجد) أي: النَّبوي (خيمة) أي: أخرى (من بني غِفار)؛ بكسر الغين المعجمة، وتخفيف الفاء، آخره راء: هم من كنانة رهط أبي ذر الغِفاري، والجملة معترضة بين الفعل _أعني: (لم يرعهم) _ والفاعل؛ أعني: قوله: (إلا الدم)، وجوز العجلوني كون الجملة حالًا.
قلت: هو غير ظاهر، وكونها معترضة هو الصَّواب، ولهذا اقتصر عليها إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(يسيل إليهم)؛ أي: إلى بني غِفار؛ لأنَّ خيمتهم كانت أنزل من خيمة سعد، قال إمامنا الشَّارح: (وهذه الخيمة كانت لرقية الأنصارية، وقيل: الأسلمية، وكانت تداوي الجرحى، وتحتسب بخدمتها من كانت به ضيعة من المسلمين) انتهى.
(فقالوا) أي: بنو غِفار: (يا أهل الخيمة؛ ما هذا الذي يأتينا من قِبَلكم؟)؛ بكسر القاف، وفتح الموحَّدة؛ أي: من جهتكم، وكلمة (ما) استفهامية، والإشارة إلى الذي يسيل، فاستفهامهم إنَّما كان عن ذات الذي يسيل إليهم؛ لأنَّهم لم يعلموا كونه دمًا أو غيره؛ لوقوعه ليلًا؛ يعني: فإن كان نجسًا؛ احترزنا منه، وإلا؛ فنحفظ ثيابنا منه أيضًا لتلوثها.
وقول العجلوني: (واستفهامهم إمَّا عن ذات الآتي، وإمَّا عن سببه إن علموه)؛ لا وجه لتردده، والاحتمال الثاني بعيد؛ لأنَّ استفهامهم إنَّما كان عن ذاته ما هو؟ أنجسٌ أم ماء طاهر؟ لأجل الاحتراز عنه، ويدل عليه الإشارة في قوله: (ما هذا؟)؛ فافهم.
(فإذا سعد يغذو)؛ بالغين والذَّال المعجمتين؛ أي: يسيل، وهو فعل مضارع، من غذا العرق نفسه، يغذوغذوًا [3] غذوانًا؛ إذا سال، وكل ما سال؛ فقد غذا، والغذوان: المسرع، كذا في «عمدة القاري».
وقيده الخطابي بالدوام، فقال: (غذا الجرح: سال ودام سيلانه) انتهى.
قلت: وهذا القيد غير لازم؛ لأنَّ أئمة اللُّغة لم يقيدوه بالدوام، فإنَّ مجرد السيلان كاف، كما هو ظاهر لفظ الحديث، فهذا القيد من عنده، وهو غير مقبول؛ فافهم.
وقوله: (جُرحُه) بِضَمِّ الجيم، مرفوع؛ لأنَّه فاعل (يغذو) (دمًا) منصوب على التمييز، (فمات) أي: سعد (فيها)؛ أي: في الخيمة، أو في الجراحة التي الجرح بمعناها، أو في المرضة على أنَّ (في) للسببية، وفي رواية الأربعة: (منها)؛ أي: الجراحة أو المرضة، ونسب هذه الرواية إمام الشَّارحين للكشميهني والمستملي، ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: أن السلطان أو العالم إذا شق عليه النهوض إلى عيادة المريض، يزوره ممن يهمه أمره؛ ينقل المريض إلى موضع يخف عليه فيه زيارته ويقرب منه) انتهى.
قلت: وفي الحديث: استحباب عيادة المريض للحديث، ومما وَرَد في الحديث الصَّحيح في حق الزائر قوله عليه السَّلام: «عائد المريض على مخارف الجنة حتى يرجع»، والمخارف: جمع مخرفة؛ كمرسلة البستان؛ يعني: من فَعَل عيادة المريض؛ فهو على بساتين الجنة.
وقال ابن بطال: (في الحديث: جواز سكن المسجد للعذر، والباب مترجم به).
وقال إمام الشَّارحين: (استدل بالحديث مالك وأحمد على أنَّ النَّجاسة ليست إزالتها بفرض، ولو كانت فرضًا؛ لما أجاز عليه السَّلام للجريح أن يسكن في المسجد، وبه قال الشَّافعي في القديم.
قلت: لقائل أن يقول: إنَّ سَكَنَ سعد في المسجد كان بعد ما اندمل جرحه، والجرح إذا اندمل؛ زال ما يخشى من نجاسته) انتهى كلامه.
قلت: واستدلالهم بذلك فيما ذكر فاسد؛ لأنَّ هذه القصة واقعة حال، فعليه يحتمل أنهم غسلوه، وهو الظَّاهر من حالهم من حيث استفهام بني غِفار وسؤالهم عن الذي سال إليهم، هل هو نجس أم ماء طاهر؟ فانتظروا بذلك الجواب عن الحال، وأنهم إذا قالوا: نجس؛ يغسلوه؛ فافهم.
ولنا أدلة أخرى على وجوب إزالة النَّجاسة.
وزعم العجلوني أنَّ ما ذكره إمام الشَّارحين هو أحد قولي مالك: أنَّ إزالة النَّجاسة للصلاة سنة، والصَّحيح عنده خلافه، ولا نعرف قولًا فيه لأحمد والشَّافعي في القديم، نعم؛ في رواية عن أحمد: أنَّها واجبة، والصَّحيح: أنَّها شرط، كما في «المنتهى»، انتهى.
قلت: وما زعمه هذا القائل هو ظاهر الفساد؛ لأنَّ المشهور عن مالك: أنَّ النَّجاسة ليست إزالتها بفرض، وهو المعتمد عندهم، وفي
%ص 664%
قول ضعيف عندهم: أنَّها واجبة، ولهذا قال ابن بطال المالكي: (وفي الحديث: أنَّ النجاسات ليست إزالتها بفرض، ولو كانت فرضًا؛ لما أجاز عليه السَّلام للجريح أن يسكن في المسجد) انتهى.
فهذا _كما رأيت_ نص على أنَّ المعتمد عند مالك عدم الوجوب، وصاحب الدار أدرى، ثم رأيت القرطبي المالكي صرَّح بذلك، فما زعمه العجلوني فاسد.
وقوله: (ولا نعرف ... ) إلى آخره: انظر هذا القائل هل أحاط علمه بمذهب الشَّافعي الجديد حتى يكون أحاط علمه بمذهبه القديم، وهل أحاط بمذهب أحمد بعد الإحاطة بمذهبه، على أنَّ قول إمام الشَّارحين معتمد، بل هو أوثق من غيره من الشراح، فإنَّ عدم معرفة هذا القائل بمذهبه [4] القديم لا ينفي معرفته عن غيره، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمثبِت مقدَّم على النافي، وكون الرواية عن أحمد: أنَّها واجبة؛ ضعيفة، وكون الصَّحيح: أنَّها شرط عندهم؛ إنَّما هو عند المتأخرين، أمَّا عند المتقدمين؛ فليست بشرط، وهو الصَّحيح كما نص عليه في «الغاية» و «شرحها»؛ فانظر تعصب العجلوني البارد، ولا غروًا، فإن الشَّافعية هذا حالهم.
واعلم أنِّي أكثر النقل عن إمام الشَّارحين لا للتبري، بل لكونه أوثق من غيره من الشراح، وحتى يعرف الحاسدون أنَّ جميع الشراح عيال على شرحه، ألا ترى أنَّك إذا نظرت إلى الشروح الموجودة؛ تجدها كلها مأخوذة منه، وهذا شيء محقق؛ لأنَّه مبني على المشاهدة والعيان، فلله دره من إمام، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (وكلًّا).
[2] في الأصل: (تعيص).
[3] في الأصل: (نفسه وغذوًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (بمذهب)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (وكلًّا).
[2] في الأصل: (تعيص).
[3] في الأصل: (نفسه وغذوًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (وكلًّا).
[2] في الأصل: (تعيص).
[3] في الأصل: (نفسه وغذوًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/779)
(78) [باب إدخال البعير في المسجد للعلة]
هذا (باب) حكم (إدخال البعير) يشمل الجمل والناقة؛ كالإنسان للرجل والمرأة (في المسجد) اللَّام فيه للجنس، فيشمل كل مسجد (للعلة)؛ أي: الحاجة، وهي أعم من أن يكون الضعف أو غيره، وقيل: المراد بالعلة: الضعف.
واعترض عليه بأنَّ هذا ظاهر في حديث أم سلمة دون حديث ابن عبَّاس.
وأجيب: بأنَّ أبا داود روى عنه: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة، وهو يشتكي فطاف على راحلته، ومع هذا كله؛ فتقييد العلة بالضعف لا وجه له؛ لأنَّا قلنا: إنَّها أعم، فيتناول الضعيف، وأن يكون طوافه على بعيره؛ ليراه الناس، كما جاء عن جابر: أنَّه إنَّما طاف على بعيره؛ ليراه الناس وليسألوه، فإنَّ الناس غشوه، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(وقال ابن عبَّاس) هو عبد الله المطلبي، حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن: (طاف النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم على بَعيره)؛ بفتح أوله يشمل الجمل والناقة؛ كالإنسان للرجل والمرأة، وإنما سمي بعيرًا إذا أجدع، والجمع أبعرة، وأباعر، وبعران، كذا في «مختصر الصِّحاح»، وفي رواية: (على بعير)؛ أي: في المسجد؛ لأنَّه لا يصح الطواف خارجه.
وقال إمامنا الشَّارح: (ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّ فيه إدخال البعير في المسجد للعلة؛ لأنَّه عليه السَّلام لما قدم مكة؛ كان يشتكي على ما رواه أبو داود عنه، فذكره البخاري معلقًا، وذكره مسندًا في باب «من أشار إلى الركن» في كتاب «الحج») انتهى.
==================
(1/780)
[حديث: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة]
464# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المنزل [1]، الدمشقي الأصل (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن محمَّد بن عبد الرحمن) هو ابن الأسود (ابن نَوفَل) بفتح النُّون والفاء، المعروف بيتيم عروة بن الزُّبير، (عن عروة) زاد ابن عساكر: (ابن الزُّبير) هو ابن العوام المدني، (عن زينب) وفي رواية: (بَرة)؛ بفتح الموحَّدة، وتخفيف الرَّاء، وهو اسمها الأصلي قبل تغيير النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم له (بنت أبي سَلَمَة)؛ بفتحات: هو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، (عن) أمها (أم سلمة) هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية.
قال إمام الشَّارحين: (وفي إسناده رواية تابعي عن تابعي، وهما: محمَّد وعروة، ورواية عروة عن صحابية، وهي زينب؛ لأنَّها سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري، وفيه رواية صحابية عن صحابية، وهما: زينب وأم سلمة، وفيه أنَّ رواته مدنيون ما خلا شيخ البخاري) انتهى.
أنَّها (قالت) أي: أم سلمة: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقوله: (إنِّي أَشتكي)؛ بفتح الهمزة، محله نصب؛ لأنَّه مفعول (شكوت)، يقال: اشتكى عضوًا من أعضائه؛ إذا توجع منه، وشكوت فلانًا؛ إذا خبرت عنه بسوء فعله بك، قاله إمامنا الشَّارح، (قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لها: (طوفي) أي: حول الكعبة (من وراء الناس وأنتِ) بكسر التَّاء (راكبة) الواو للحال، والجملة حالية؛ والمعنى: طوفي من ورائهم حال كونك راكبة على البعير، وإنَّما أمرها بالطواف من وراء الناس؛ لأنَّها إذا طافت معهم ربما تؤذي الدَّابة أحدًا أو تدوس عليه، والإيذاء حرام، قالت: (فطفت) أي: كما أمرها عليه السَّلام؛ أي: راكبة على بعير من وراء الناس، قال إمام الشَّارحين: (ففيه المطابقة للتَّرجمة، وفيه: جواز إدخال البعير في المسجد لعلة الضعف) انتهى، وجملة: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي) أي: الصبح _كما في الكفيري_ (إلى جنب) وفي نسخة: (جانب) (البيت)؛ أي: الكعبة، محلها نصب؛ لأنَّها حالية، والواو للحال.
وزعم العجلوني أنها مستأنفة.
قلت: وهو بعيد، كما لا يخفى.
و (البيت): عَلَم على الكعبة شرفها الله تعالى، قال الكرماني: (وفائدة ذكر البيت: أنَّه كان يصلِّي منها إلى الجَنْب؛ يعني: قريبًا من البيت لا بعيدًا منه).
وقال ابن عبد البر: (وصلاته إلى جنب البيت من أجل أنَّ المقام كان حينئذٍ ملصقًا بالبيت قبل أن ينقله عمر رضي الله عنه من ذلك المكان إلى صحن المسجد) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (والوجه في ذلك أنَّ البيت كله قبلة، فحيث صلى المصلي منه إذا جعله أمامه؛ كان حسنًا جائزًا) انتهى.
قلت: فإن الذي يفهم من كلام ابن عبد البر تخصيص الصلاة، وتعيينها إلى المقام، ولا وجه له؛ لأنَّ البيت كله قِبلة؛ فافهم.
وزعم العجلوني أنَّه لا يفهم من كلامه تعيين الصلاة إلى المقام، انتهى.
قلت: لا يخفى على أولي الأفهام والبصائر أنَّ كلامه يفيد تخصيص الصلاة وتعيينها إلى المقام، كما هو ظاهر؛ لأنَّه جعل علة صلاته إلى جانب البيت من أجل أن المقام كان ملصقًا بالبيت، وهو ظاهر في التَّعيين، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، ولا عبرة بما يفهمه الغبي صاحب الفهم القاصر؛ فافهم.
وجملة (يقرأ) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بالطور وكتاب مسطور) محلها نصب على الحال من فاعل (يصلِّي)، ويحتمل أنَّ محلها رفع خبر بعد خبر، ويحتمل كونها مستأنفة، لكنه بعيد، والأول أظهر، وقولها: (بالطور)؛ أي: بسورة {والطور}، ولعلها لم تذكر واو القسم؛ لأنَّ لفظ (الطور) كأنَّه صار علمًا للسورة، قاله إمام الشَّارحين، ومثله في «الكرماني».
قال العجلوني: (ولعل مراده: كالعَلَم الأصلي، وإلا؛ فهو علم لها بالغلبة) انتهى.
قلت: وكلامه يحتمل أنَّه صار عَلَمًا أصليًّا للسورة، ويحتمل أنَّه صار علمًا بالغلبة على السورة، وكل منهما محتمل، وهو ظاهر، فلا حاجة لما زعمه هذا القائل؛ فافهم.
و {الطور} معناه _كما قاله البيضاوي وغيره_: طور سينين، جبل بمدين، سمع موسى فيه كلام الله، والطور: الجبل بالسريانية، أو ما طار من أوج الإبعاد إلى حضيض المواد أو وقف عالم الغيب إلى عالم الشهادة، و {كتاب}: المكتوب، و (المسطور): ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد بـ (الكتاب): القرآن، أو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، أو ألواح موسى، أو في مكتوب
%ص 665%
أوليائه من المعارف والحكم، أو ما يكتبه الحفظة، انتهى.
قال ابن بطال: (وفي الحديث: جواز دخول الدَّواب التي يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج لذلك؛ لأنَّ بولها ليس بنجس، بخلاف غيرها من الدَّواب؛ فلا يجوز، وهو قول مالك).
واعترضه ابن حجر بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز في غيرها عند الحاجة، بل الأمر دائر على التلويث وعدمه، فحيث خيف التلويث؛ امتنع الإدخال، وإلا؛ فلا.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (وفيه نظر؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «طوفي وأنت راكبة» لا يدل على أنَّ الجواز وعدمه دائران مع التلويث، بل ظاهره يدل على الجواز مطلقًا عند الضرورة) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنه مصروف عن الظَّاهر؛ لدلائل أخرى؛ منها: الخبر المار: «جنبوا مساجدكم .. »؛ فتأمل، انتهى.
قلت: هذا الحديث مقيد بالضرورة، وأمَّا: «جنبوا مساجدكم»؛ فليس مقيدًا بالضرورة، فيحمل المطلق على المقيد على القاعدة المشهورة، وعلى هذا؛ فالحديث ليس مصروفًا عن الظَّاهر كما زعمه هذا القائل، على أنَّه قد جاء عند البخاري: (أنه عليه السَّلام أمر أناسًا [2] من عكل بلقاح وأن يشربوا من أبوالها ... )؛ الحديث، وهو ظاهر في أنَّه يدل على الطهارة، لكنه مقيد بالضرورة كما هنا.
والحاصل: أنَّ حديث الباب يدل على الجواز مطلقًا عند الضرورة، وكذا حديث عكل، وكذلك حديث: «جنبوا مساجدكم»، فإنَّه محمول على المنع إلا للضرورة، وهذا توفيق حسن بين الأحاديث، فلا تعارض؛ فافهم ولا تكن من الغافلين.
وزعم ابن حجر أنَّ ناقته عليه السَّلام كانت مدربة معلمة، فيؤمن منها ما يخاف من التلويث وهي سائرة، فيحتمل أنَّ بعير أم سلمة كان كذلك، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (سلمنا هذا في ناقة النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما يقال في الناقة التي كانت عليها أم سلمة وهي طائفة، ولئن قيل: إنَّها كانت ناقته عليه السَّلام؛ قيل له: يحتاج إلى بيان ذلك بالدليل) انتهى.
قلت: واحتمال كون بعير أم سلمة كان معلمًا بعيد عن الظَّاهر؛ لأنَّه ليس جميع الإبل معلمة، ومع هذا يحتاج ذلك إلى دليل وبرهان، وإلا؛ فهو مردود لا يقبله النعسان.
وزعم العجلوني أنَّه غير وارد لمن تأمل.
قلت: بل هو وارد عليه؛ لأنَّه قائل بالاحتمال بلا دليل، فهو قول بالرأي؛ فاجتنبه.
وقال إمام الشَّارحين: (ومن فوائده: أنَّ النساء ينبغي لهنَّ أن يطفن من وراء الرجال؛ لأنَّ للطواف شبهًا للصلاة، ومن سنن النساء فيها أن يكنَّ خلف الرجال، فكذلك في الطواف.
ومنها: أنَّ راكب الدَّابة ينبغي له أن يجتنب ممر الناس ما استطاع، ولا يخالط الرجالة.
ومنها: جواز الطواف راكبًا للمعذور، ولا كراهة فيه، فإن كان غير معذور؛ يعتبر عندنا، وعند الشَّافعي: لا يجوز؛ لقوله عليه السَّلام: «الطواف بالبيت صلاة»، ولنا إطلاق قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29]، وهو مطلق، والحديث للتشبيه، فلا عموم له، وبقولنا قال ابن المنذر وجماعة، وقال القرطبي: الجمهور على كراهة ذلك، قلنا: نحن أيضًا نقول بالكراهة حتى إنَّه يعيده ما دام بمكة، وسيجيء مزيد لذلك في «الحج») انتهى.
قلت: وهذه العبارة بتمامها لإمامنا الشَّارح، فذكرها شيخ عجلون، ونسبها لنفسه، واعترضه: بأنَّ عند الشَّافعي إن ركب بلا عذر؛ لم يكن، قال: ولعله قول ضعيف لم أقف عليه، انتهى.
قلت: فقد نص الإسنوي وجماعة: على أنَّه مكروه، وبحث الأذرعي واعتمد أنَّه لا يجوز كما ذكره في «التحفة»، فقد حفظ شيئًا وغاب عنه أشياء، وهو وإن كان لم يقف عليه؛ لقصور علمه؛ فقد وقفنا عليه ونص عليه أصحاب الشَّافعي؛ فليحفظ، ولا تكن من الغافلين؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أناس)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.
(1/781)
(79) [بابٌ]
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة، وبهذا التقدير صار معربًا، ولهذا قال إمام الشَّارحين: (إن لم نقدِّر شيئًا [1] قبل لفظ: «باب» أو بعده؛ لا يكون معربًا؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، ثم إنَّ البخاري جرت له عادة، وهي أنَّه إذا ذكر لفظ: «باب» مجردًا عن التَّرجمة؛ يدل ذلك على أنَّ الحديث الذي يذكره بعده يكون له مناسبة بأحاديث الباب الذي قبله، وههنا لا مناسبة بينهما أصلًا بحسب الظَّاهر على ما لا يخفى، لكن تُكُلِّف في ذلكفقيل: تعلقه بأبواب المساجد من جهة أنَّ الرجلين تأخرا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في تلك الليلة المظلمة؛ لانتظار صلاة العشاء معه، وقال بعضهم: فعلى هذا كان يليق أن يترجم له: فضل المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة، قلت: كل واحد من الكلامين غير موجه؛ لأنَّ حديث الباب لا يدل عليهما أصلًا؛ لأنَّ حديث الباب في الرجلين اللذين خرجا من عند النَّبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة حتى أتيا أهلهما) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
ومراده بقوله: (فقيل) هو قول ابن رشيد، وبقوله: (بعضهم) ابن حجر، واعترضه العجلوني، فزعم أنَّه لا وجه لاعتراضه عليهما، فإنَّهما أبديا مناسبة لذكره في أبواب المساجد أخذًا من كلام ابن بطال، انتهى.
قلت: ليس كل من أبدى [2] مناسبة يقبل منه، وأي مناسبة ههنا، والحديث الذي ذكره في الباب لا يدل عليها، فإنَّ الباب الذي قبله في إدخال البعير المسجد، وههنا في الرجلين الذين خرجا من عنده عليه السَّلام في ليلة مظلمة حتى أتيا أهلهما، فما المناسبة بينهما؟ كما لا يخفى، على أنَّ كلام ابن بطال فيه بُعد كما ستقف عليه قريبًا.
وزعم ابن حجر أنَّ المؤلف بيَّض لهذا الباب، فاستمر كذلك، وكأنَّه تلجج بحديث أبي داود وغيره عن بريدة من قوله عليه السَّلام: «بشر المشائين في الظُّلَم إلى المساجد يوم القيامة بالنور التام» انتهى.
قلت: كون المؤلف بيَّض له فاستمر كذلك يدل على أنَّ المؤلف لم ير مناسبة لحديث الباب مع أحاديث الباب الذي قبله؛ لأنَّه لو كان فيه أدنى مناسبة؛ لذكر ترجمة تناسبه، وكونه تلجج بحديث أبي داود بعيد عن الأفهام؛ لأنَّه لو كان مراده هذا؛ لترجم له وذكره تحت ترجمته، ومن البعيد أن يترجم لشيء من الأحاديث ولم يذكرها؛ لأنَّه معيب عند المؤلفين، كما لا يخفى، ولأنَّ فيه تشتيت الأذهان بلا برهان؛ لأنَّ عادته ذكر الأحاديث حتى يستدل بها، وما لم يذكره يكون غير موافق لشرطه، فلا يعتمد عليه، فكيف يترجم أو يجنح إليه، وهو لا يستدل به؛ فافهم ذلك.
وقال ابن بطال: (إنَّما ذكر البخاري هذا الحديث في باب أحكام المساجد؛ لأنَّ الرجلين كانا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وهو موضع جلوسه مع أصحابه، وأكرمهما الله بالنور في الدنيا ببركته عليه السَّلام، وفضل مسجده وملازمته، وذلك آية للنبي عليه السَّلام وكرامة له) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (هذا أيضًا فيه بُعد، والوجه أن يقال: إنَّهما لما كانا في المسجد مع النَّبي صلى الله عليه وسلم وهما ينتظران صلاة العشاء معه؛ أُكرما
%ص 666%
بهذه الكرامة، وللمسجد في حصول هذه الكرامة دخل، فناسب ذكر حديث الباب ههنا بهذه الحيثية) انتهى.
واعترضه العجلوني بأن ما ذكره هو كلام ابن بطال، وابن رشيد، وابن حجر، ولا وجه لاعتراضه على ابن بطال، انتهى.
قلت: ليس من عادة إمام الشَّارحين أن يأخذ كلام غيره، وينسبه لنفسه، بل هذه عادة ابن حجر، وما ذكره ليس كلام هؤلاء، بل هو كلام من نفسه لم يسبقه إليه أحد، فهو من فيض الوهاب في مناسبة ذكر حديث الباب ههنا.
واعتراضه على ابن بطال وجيه؛ لأنَّه قال: (لأنَّ الرجلين كانا معه عليه السَّلام في المسجد، وهو موضع جلوسه مع أصحابه ... ) إلخ، فما معنى هذا الكلام؟ وأي مناسبة في موضع جلوسه مع أصحابه بما سبق؟ وما هذا إلا تعصب بارد.
ونقل العجلوني عنهم: أنَّه يستدل له بأنَّ الله يجعل لمن يسبح في تلك المساجد نورًا في قبورهم وفي جميع أعضائهم، وكان الأولى بالبخاري أن يترجم لهذا الحديث بـ (باب قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}) [النور: 40] انتهى.
قلت: وهذا كلام غير ظاهر؛ لأنَّه إنْ أراد بقوله: (يستدل له ... ) إلخ: وجه المناسبة بين حديث الباب وبين الذي قبله؛ فلا شك في منعه، وأنَّه بعيد؛ لأنَّ الحديث السَّابق ليس فيه ما ذكر ولا إشارة إليه، وإنْ أراد به: فضل حضور الجماعة معه عليه السَّلام؛ فلا شك في ذلك، ومع هذا فهو غير مناسب لما قبله، كما لا يخفى.
وقوله: (وكان الأولى ... ) إلخ؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّ هذه الكرامة ليست عامة في جميع الناس، فكم شخص يصلِّي وليس له نور، على أنَّ المراد بالنور: الإيمان، فمن لم يجعل الله له إيمانًا؛ فما له من إيمان وإن صلى وصام، والظَّاهر أن يقال في وجه المناسبة: إنَّ حديث الباب لما كان فيه أنَّ الرجلين كانا في مسجده عليه السلام؛ ناسب أن يذكر في (أبواب المساجد)، ومناسبته بما قبله من حيث إنَّ الرجلين كانا قد صليا معه صلاة العشاء في المسجد، وفي الحديث السَّابق: أنَّ أم سلمة كانت في المسجد، وصلت معه عليه السَّلام صلاة الصبح في المسجد وسألته، وكان الأولى أن يترجم البخاري له بـ (باب فضل الصلاة مع الجماعة)، أو (باب فضل الصلاة معه عليه السَّلام)، أو (باب فضل صلاة العشاء)؛ فتأمَّل، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (شيءٌ).
[2] في الأصل: (أيد)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (شيءٌ).
[1] في الأصل: (شيءٌ).
(1/782)
[حديث: أنَّ رجلين من أصحاب النبي خرجا من عند النبي في ليلة مظلمة]
465# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن المثنى) بلفظ المفعول من التثنية، هو ابن عبيد العنزي البصري (قال: حدثنا معاذ بن هشام) هو ابن أبي عبد الله الدستوائي البصري (قال: حدثني) بالإفراد (أبي) هو هشام المذكور، (عن قتادة) هو ابن دعامة السدوسي البصري (قال: حدثنا أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك) هو الأنصاري، خادم النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ رجلين) بفتح الهمزة (من أصحاب النَّبي) الأعظم، وفي نسخة: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: الأنصار، وهما: عباد بن بشر وأسيد بن حضير، كما عند المؤلف في (مناقب الأنصار)، وقال حمَّاد: حدثنا ثابت عن أنس: (كان أسيد وعباد بن بشر عند النَّبي صلى الله عليه وسلم)، وقال السفاقسي: (هما عباد بن بشر وعويم بن ساعدة) انتهى.
قلت: يرده ما ذكرناه عن المؤلف.
و (عَبَّاد): بفتح العين المهملة، وتشديد الموحَّدة، و (بِشْر): بكسر الموحَّدة، وسكون المعجمة، الأنصاري، قُتل يوم اليمامة، و (أُسيد): بِضَمِّ الهمزة، مُصغَّر أسد، و (حُضَيْر): بِضَمِّ الحاء المهملة، وفتح الضَّاد المعجمة، وسكون التحتية، آخره راء، و (عُوَيم): بِضَمِّ العين المهملة، وفتح الواو، مصغر عوم، انتهى.
(خرجا) أي: الرجلان (من عند النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بعدما صليا صلاة العشاء معه عليه السَّلام في مسجده النَّبوي، كما يدل عليه السياق؛ فافهم، (في ليلة مظلِمة)؛ بكسر اللَّام، اسم فاعل، من أظلم الليل؛ بمعنى: ظهر، وقال الفراء: (ظلِم _بالكسر_ وأظلم بمعنًى) انتهى، (ومعهما مثل المصباحين)؛ أي: نور مثل نور المصباحين، والجملة محلها نصب على الحال بالواو والضمير، وجملة: (يضيئان بين أيديهما): محلها نصب على الحال من (المصباحين)، أو صفة لهما، لكنه بعيد، و (يضيئان): من أضاء، تقول: ضاءت النَّار، وأضاءت مثله، وأضاءته النَّار، يتعدى ولا يتعدى، قاله الشَّارح، وقال الإمام الزمخشري: (أضاء؛ بمعنى: نور، متعد، وبمعنى: لمع، لازم، و «أظلم» يحتمل التَّعدي، ويحتمل عدمه، وهو الظَّاهر)، فـ (بين أيديهما) _أي: أقدامهما_: مفعول فيه إن كان (أضاء) لازمًا، ومفعول به إن كان متعديًا؛ فليحفظ.
(فلما افترقا) أي: الرجلان؛ أي: كل واحد (صار مع كل واحد منهما) أي: من الرجلين (واحد)؛ أي: نور واحد يضيء له وحده، وارتفاعه على أنَّه فاعل (صار) (حتى أتى أهله)؛ أي: منزلهم؛ أي: وانتهى؛ لانتهاء الحاجة.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: دلالة ظاهرة لكرامة الأولياء، ولا شك فيه، وفيه رد على من ينكر ذلك) انتهى.
قلت: وذلك لأنَّ الإضاءة لهما كرامة ببركة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومعجزة له، وخصهما بهذه الكرامة؛ لاحتياجهما إلى النور حيث خرجا من عنده في ليلة مظلمة، ولإظهار سر قوله عليه السَّلام فيما رواه أبو داود وغيره: «بَشِّر المشائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»، فجعل الله لهما في الدنيا بعض ما ادَّخر لهما في الآخرة.
ثم قال إمام الشَّارحين: (وقد وقع مثل هذا قديمًا وحديثًا، أمَّا قديمًا؛ فمن ذلك ما ذكره ابن عساكر وغيره عن قتادة بن النعمان: «أنَّه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عرجون، فأضاء له العرجون».
وفي «دلائل البيهقي» من حديث ميمون بن زيد بن أبي عبس: حدثني أبي: «أنَّ أبا عبس كان يصلِّي مع النَّبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، ثم يرجع إلى بني حارثة يخرج في ليلة مظلمة مطيرة، فنورت له عصاه حتى دخل دار بني حارثة».
ومن حديث كثير بن زيد، عن محمَّد بن حمزة بن عمرة الأسلمي، عن أبيه قال: «كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفرنا في ليلة مظلمة، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم، وما هلك منهم، وإن أصابعي لتنير»، وفي لفظ: «نفرت دوابنا ونحن في مشقة ... »؛ الحديث.
وأمَّا حديثًا؛ فمن ذلك ما يثبت بالتواتر عن جماعة من طلبة العلم الثقاة: أنَّهم كانوا مع الشيخ الإمام العلامة حسام الدين الرهاوي _مصنف «البحار» وغيره_ في وليمة بمدينة عينتاب في ليلة مظلمة شاتية، فلما تفرقوا؛ أراد جماعة أن ينوروا على الشيخ إلى باب داره؛ لشدة الظلمة، فما رضي بذلك فردهم، فرجعوا، وتبع الشيخ جماعة من بُعْد، فقالوا وهم يحلفون: إنَّهم شاهدوا نورين عظيمين مثل الفوانيس؛ أحدهما عن يمين الشيخ، والآخر عن شماله، فلم يزالا معه إلى أن وصل إلى باب داره، فلما فتح الباب ودخل الشيخ؛ ارتفع النوران، ولقد أخبرني عنه جماعة بكرامات أخرى غير ذلك، وهو أحد مشايخي الذين انتفعت بهم، وأخذت عنهم) انتهى كلام إمامنا الشَّارح رضي الله عنه.
ووجه مطابقة الحديث ومناسبته قد ذكرناها فيما سبق أول الباب مع مزيد كلام، والله أعلم.
%ص 667%
==================
(1/783)
(80) [باب الخوخة والممر في المسجد]
هذا (باب) بيان أمر (الخَوْخَة) بفتح الخاءين المعجمتين، وبينهما واو ساكنة؛ وهي باب صغير في الجدار مثل الطاقة، قال في «القاموس»: (الخَوْخَة: كوة تؤدي الضوء إلى البيت، ومخترق ما بين كل دارين ما عليه باب) انتهى، وقال في «الصِّحاح»: (الخَوْخَة: كوة في الجدار تؤدي الضوء)، وقال في «مختصره»: (الخَوْخَة: كوة [1] في الجدار تؤدي الضوء) انتهى، وقال ابن قرقول: (هي باب صغير قد يكون بمصراع وقد لا يكون، وأصلها فتح في حائط) انتهى.
قلت: وبهذا ظهر فساد ما زعمه العجلوني من أنَّ (الخَوْخَة: باب صغير في باب كبير على المشهور، لكن كلام الكرماني يقتضي أنَّها الباب الصغير مطلقًا سواء كان في كبير أم لا) انتهى.
قلت: والكرماني قال: (هي الباب الصغير) انتهى، وهو قاصر، وليس فيه اقتضاء لما زعمه على أنَّه متى وجد النقل عن أئمة اللُّغة؛ فلا يعدل عنه، وهو الذي يكون مشهورًا، لا ما زعمه من أنَّه مشهور، فإنَّه لا أصل له في اللُّغة فضلًا عن أن يكون مشهورًا، وما هذا إلا قول من لم يمس شيئًا من العلوم؛ فليحفظ.
(والمَمَرِّ)؛ بفتح الميمين، وتشديد الرَّاء؛ أي: موضع المرور، وقوله: (في المسجد) متعلق بـ (الخَوْخَة والمَمَرِّ) على سبيل التنازع، ويحتمل أنَّه حال منهما، أو صفة لهما، والأول أظهر؛ فافهم.
قال إمامنا الشَّارح: (والظَّاهر أنَّ مراد البخاري من وضع هذه التَّرجمة: الإشارة إلى جواز اتخاذ الخَوْخَة والمَمَرِّ في المسجد؛ لأن حديث الباب يدل على ذلك) انتهى.
قلت: وعلى هذا فيكون المعنى: باب جواز اتخاذ الخوخة والممر في المسجد، فكانت التَّرجمة لشيئين، وزعم العجلوني أنَّ التَّرجمة لشيء واحد، وهو اتخاذ الخَوْخَة، وهو بعيد عن النَّظر؛ لأنَّ المؤلف صرح بترجمته للشيئين؛ فافهم.
قال الدماميني في «المصابيح»: (نبَّه المؤلف بذلك على أنَّ المرور في المسجد لما يعرض للإنسان من شؤونه جائز، وهو من قبيل الاتفاق بما لا يضر كبير مضرة، ولا يقال: إنَّ المساجد لم توضع طرقات، فإنَّ التشديد في ذلك تنطع، والمسجد والطرقات كلها لله مرافق للمسلمين، فيستعان ببعضها على بعض؛ كمجامع مصر، وجامع الإسكندرية الوسط، وقد كان ممر أبي بكر إلى داره في المسجد) انتهى.
واعترضه العجلوني: بأنَّ الذي يستفاد من حديث الباب أنَّ جواز الخَوْخَة والمَمَر في المسجد خاص بنحو الخليفة والإمام، وأمَّا جواز المرور فيه لغير من ذكر بكراهة أو بدونها؛ فمعلوم من دليل آخر، انتهى.
قلت: وفيه نظر، فإنَّ صريح حديث الباب يدل على الجواز مطلقًا، وكونه خاص بنحو الخليفة والإمام يحتاج إلى دليل، وبمجرد الدعوى لا يقبل، على أنَّ أبا بكر لم يكن إذ ذاك خليفةً ولا إمامًا، فكيف يدعي ذلك؟ ولو كان كما زعمه؛ لكان ذلك خاصًّا بالنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه هو الخليفة والإمام دون أبي بكر، والحديث صريح بخلافه.
وقوله: (وأمَّا جواز المرور ... ) إلخ؛ فيه نظر أيضًا؛ لأنَّ هذا الحديث يدل على الجواز مطلقًا، وهو يفيد عدم الكراهة، فلا احتياج لدليل آخر لما ذكر؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (كورة)، وليس يصحيح.
%ص 668%
==================
(1/784)
[حديث: إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند]
466# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن سِنان) بكسر السين المهملة، ثم نونين، بينهما ألف (قال: حدثنا فُلَيْح)؛ بِضَمِّ الفاء، وفتح اللَّام، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة، ذكره بلقبه؛ لشهرته به، وإلا؛ فاسمه عبد الملك بن سليمان (قال: حدثنا أبو النَّضْر)؛ بفتح النُّون، وسكون الضَّاد المعجمة، ذكره بكنيته؛ لشهرته به، وإلا؛ فاسمه سالم بن أبي أمية، (عن عُبيد بن حنين) بِضَمِّ العين المهملة، مصغر العبد، ضد الحر، و (حُنَيْن): بِضَمِّ الحاء المهملة، وفتح النُّون، وسكون التحتية، آخره نون، هو أبو عبد الله المدني، المتوفى بالمدينة سنة مئة وخمس، (عن بُسْر) بِضَمِّ الموحَّدة، وسكون المهملة، آخره راء (ابن سَعِيد) بكسر العين المهملة، المدني الزاهد، المتوفى بالمدينة سنة مئة، (عن أبي سعيد) هو سعد بن مالك (الخدري) الصَّحابي الجليل رضي الله عنه، هكذا في أكثر الروايات، وفي رواية الأصيلي وأبي ذر: (عن عُبيد بن حُنَيْن، عن أبي سعيد)؛ بإسقاط (بُسْر).
وقال الكرماني: (وقع في بعض النُّسخ: «عن عُبيد بن حُنَيْن، عن أبي سعيد»، وفي بعضها: «عن بُسْر بن سعيد، عن أبي سعيد»، وفي بعضها: «عن عُبيد وعن بُسْر، عن أبي سعيد»؛ بالجمع بينهما بواو العطف، وفي بعضها: «عن عُبيد، عن بُسْر، عن أبي سعيد»؛ بدون الواو بينهما) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: قال ابن السكن عن الفربري: قال محمَّد بن إسماعيل: هكذا رواه محمَّد بن سِنان، عن فليح، عن أبي النَّضْر، عن عُبيد، عن بُسْر، عن أبي سَعِيد، وهو خطأ، وإنما هو عن عُبيد بن حُنَيْن وعن بُسْر بن سعيد [1]؛ يعني: بواو العطف، وكذا خرجه مسلم: عن سعيد بن منصور، عن فُلَيح، عن أبي النَّضْر، عن عُبيد وبُسْر، عن أبي سعيد، ورواه عن فُلَيح كرواية سعيد بن يونس بن محمَّد عند ابن أبي شيبة، ورواية أبي زيد المروزي في «صحيح البخاري»: حدثنا محمَّد بن سِنان: حدثنا فُلَيح: حدثنا أبو النَّضْر، عن عُبيد، عن أبي سعيد، ورواه البخاري في (فضل أبي بكر): عن عبيد الله بن محمَّد، عن ابن عامر: حدثنا فُلَيح: حدثنا سالم، عن بُسْر بن سعيد، عن أبي سعيد، وفي (هجرة النَّبي صلى الله عليه وسلم): عن إسماعيل بن عبد الله: حدثني مالك، عن أبي النَّضْر، عن عُبيد بن حُنَيْن، عن أبي سعيد بلفظ: «أن يؤتيه الله من زهرة الدنيا ما شاء»، وفيه: (فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا)، وكذا رواه عن مالك عبد الله بن مسلمة، وابن وهب، ومعن، ومطرف، وإبراهيم بن طهمان، ومحمَّد بن الحسن، وعبد العزيز بن يحيى، قال الدارقطني: (لم أره في «الموطأ» إلا في كتاب «الجامع» للقعنبي، ولم يذكره في «الموطأ» غيره، ومن تابعه؛ فإنما رواه في غير «الموطأ»).
قال إمام الشَّارحين: وكأنَّ هذا الاختلاف إنَّما أتى من فُلَيح؛ لأنَّ الحديث حديثه وعليه يدور، وهو عند بعضهم هو لين الرواية، وحاصل الكلام: أنَّ فُلَيحًا كان يروي تارة عن عُبيد وعن بسر كليهما، وتارة يقتصر على أحدهما، والخطأ من محمَّد بن سِنان؛ حيث حذف الواو العاطفة.
وعلى هذا؛ فانتقاد الدارقطني عليه هذا الحديث بقوله: (رواية من رواه عن أبي النَّضْر، عن عُبيد، عن بُسْر غير محفوظة)؛ لا وجه له مع إفصاحه بما ذكره؛ إذ ليست هذه بعلة قادحة؛ فليحفظ.
(قال) أي: أبو سعيد الخدري: (خطب النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في مرضه الذي توفي فيه، كما يفيده حديث ابن عبَّاس الآتي، (فقال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في خطبته: (إنَّ الله) سبحانه وتعالى (خيَّر) ماضي التخيير (عبدًا)؛ أي: فوض إليه الخيار بين الشيئين، وإنَّما ذكره منكرًا للإبهام على السامعين؛ ليظهر فهم
%ص 668%
أهل المعرفة، ونباهة أصحاب الشرف، وإلا؛ فهو عليه السَّلام العبد المخيَّر (بين الدنيا)؛ أي: البقاء فيها إلى وقت يعلمه، وسميت دنيا؛ لدنوها وقربها من الزوال (وبين ما عنده)؛ أي: عند الله؛ وهو الدار الآخرة وما أعد له فيها من النعيم المقيم، وسميت آخرة؛ لتأخرها عن الدنيا، أو لعدم زوالها، فهي آخرة حقيقة.
وقوله: (فاختار) أي: العبد المخيَّر (ما) أي: الذي (عند الله)؛ أي: من النعيم الدائم، ساقط عند الأصيلي وابن عساكر، وضرب عليه أبو الوقت، (فبكى أبو بكر) زاد الأصيلي: (الصديق)؛ أي الأكبر رضي الله عنه، والفاء للسببية.
وقوله: (فقلت في نفسي) ... إلى قوله: (أعلمنا) من كلام أبي سعيد الخدري: (ما يبكي) كلمة (ما) استفهامية مبتدأ، وقوله: (هذا الشيخ)؛ يعني: أبا بكر الصديق، منصوب على المفعولية، وما بعده بالتبعية، و (يبكي): من الإبكاء لا من البكاء؛ لأنَّ بكيته؛ بمعنى: بكيت عليه، وهنا المعنى: أي شيء يجعل هذا الشيخ باكيًا؛ فافهم.
وقوله: (إنْ يكنِ اللهُ خيَّرَ عبدًا؟) قيد للاستفهام؛ أي: إن كان الله خيَّر بعض عباده بين ما ذكر، وهذا رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (إنْ يكنْ لله عبدٌ خُيِّر).
قال إمام الشَّارحين: (وإعراب الأولى هو أنَّ «إن» بالكسر: شرطية، و «يكن»: فعل الشرط، وهو مجزوم، ولكنه لما اتصل بلفظ «الله»؛ كسر؛ لأنَّ الأصل في الساكن إذا حُرك؛ حُرك بالكسر، قال الكرماني: «والجزاء محذوف، يدل عليه السياق»، قلت: لا حاجة إلى هذا، بل الجزاء قوله: «فاختار ما عند الله») انتهى كلام [إمام] الشَّارحين.
واعترضه العجلوني، فزعم أنَّ فيه نظر؛ لأنَّه ليس المعنى عليه، انتهى.
قلت: واعتراضه ونظره مردودان عليه، بل المعنى عليه صحيح، ويدل عليه دخول الفاء، وهي لا تدخل إلا على الجزاء كما هنا؛ فافهم، ولا تغتر بهذه العصبية الزائدة.
ثم قال إمام الشَّارحين: (و «خَيَّر» على صيغة المعلوم من التخيير، و «عبدًا»: مفعوله، والضمير في «فاختار» يرجع إلى العبد، و «ما عند الله»: في محل النصب، مفعوله، وإعراب الرواية الثانية: هو أنَّ «إنْ» أيضًا: كلمة شرط، و «يكنْ»: مجزوم به، وقوله: «عبد»: مبتدأ، وخبره قوله: «لله» مقدمًا، وقوله: «خُيِّر» على صيغة المجهول في محل رفع؛ لأنَّه صفة لـ «عبد»، والجزاء هو قوله: «فاختار») انتهى.
قال العجلوني: (ولم يتعرض لاسم «يكن» أو فاعلها، ولعله ضمير الشأن، والمناسب جعل «عبد» مرفوع «يكن» تامة أو ناقصة، و «لله»: حال منه على جعلها تامة أو ناقصة، وجملة «خير» صفة لـ «عبد»، أو خبرًا لـ «يكن»؛ مثل قولك: إن يكن في الدار رجل قائمًا؛ فالأمر كذا؛ فتأمَّل) انتهى.
قلت: وهذا فيه تكلف وتعسف لا حاجة إليه.
وقوله: (ولم يتعرض لاسم «يكن» ... ) إلخ؛ ممنوع، فإنَّه قد صرح بأنَّ الجزاء قوله: (فاختار)، ولهذا دخلته الفاء، وإذا وجد فعل الشرط وجزاؤه؛ لا حاجة إلى غيره؛ لأنَّه اسمها وفاعلها في الحقيقة.
وقوله: (ولعله ضمير الشأن): كلام غير موجه؛ لأنَّ كلمة (إن) شرطية، فكيف تجعل للشأن؟! وهو خلاف القواعد.
وقوله: (والمناسب ... ) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّ فيه تكلفًا لا حاجة إليه، مع كونه غير موافق للمعنى المراد منه؛ فافهم.
وقال الدماميني: (ووقع في بعض النُّسخ: «أن يكون اللهُ عبدًا خيَّر»؛ بتقديم المفعول مع فتح «أن» وكسرها).
وقال السفاقسي: (ويصح أن تكون الهمزة _يعني: همزة «إن» _ مفتوحة)، قال ابن التين: (على أنَّها تعليلية)، وقال إمام الشَّارحين: بأن [2] يكونمنصوبًا بـ (أن)، ويكون المعنى: ما يبكيه لأجل أن يكون الله خيَّر عبدًا؟
قال ابن حجر: (وفيما قاله ابن التين نظر)، ولم يذكر وجهه.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (في نظره نظر؛ لأنَّ التعليل هنا لأجل فراقه عليه السَّلام، لا على كونه خُيِّر بين الدنيا وبين ما عنده).
واعترضه العجلوني، فزعم بل النَّظر في نظره؛ لأنَّه علل بعكس ما قاله، انتهى.
قلت: هذا محاولة وخروج عن الظَّاهر؛ لأنَّه لم يذكر وجه النَّظر بل ذكره رجمًا بالغيب، وعلى فرض كون التعليل بالمعنى المذكور؛ إنَّما هو بحسب ظاهر الأمر، وإنما هو في الحقيقة لأجل الفراق، وهو يستلزم أن يكون خيِّر بين الأمرين، فما زعمه ليس في محله وإنما هو من تحريك عرق العصبية؛ فافهم.
واستشكل جزم (يكن) على فتح (أن)، وأجاب الكرماني قياسًا على توجيه ابن مالك في حديث: (لن ترع): بأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف، فسكن النُّون له، وحذف الواو؛ لالتقاء الساكنين.
وقال العجلوني: (يحتمل أنَّها جازمة؛ كقوله: تعالوا إلى أن يأتنا العيد) انتهى.
قلت: يحتمل كونها جازمة في الشعر للضرورة، ولا ضرورة ههنا، والذي يفهم من كلام إمام الشَّارحين: أنَّه على الفتح بالنصب لا غير؛ لأنَّه قال: بأن [3] يكون منصوبًا بـ (أن) كما ذكرنا عبارته، وظاهر اقتصاره على النصب أنَّه لا يجوز غيره وهو الرواية، واقتصار الكرماني على الجزم وتوجيهه قياسًا كما مر؛ غير ظاهر؛ لأنَّه قياس مع الفارق، والرواية لا تساعده، وعلى هذا فلا يلزم توجيه الجزم، ولا التعرض إليه؛ لأنَّه غير محتاج إليه؛ فافهم، ولا تغتر بعصبية العجلوني؛ لأنَّه قد تحرك عرقه؛ فافهم.
(بين الدنيا) متعلق بقوله: (خيِّر) (وبين ما عنده) أي: الله تعالى من النعم الدائمة، (فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبدَ)؛ أي: المخير بين الأمرين، و (العبدَ): منصوب؛ لأنَّه تابع لاسم (كان)، وهو الرواية.
وزعم العجلوني أنَّه يحتمل النصب والرفع، كما يحتمل (هو) المحل وعدمه، انتهى.
قلت: احتمال النصب مع احتمال المحل في (هو) هو الصَّواب؛ لأنَّه الرواية والمعنى عليه، وأمَّا الاحتمال الثاني؛ فبعيد؛ لأنَّ الرفع لا وجه له صحيح، وكون (هو) لا محل له بعيد أيضًا؛ لأنَّه يخل في المعنى، والرواية لا تساعد هذا؛ فليحفظ.
وسقط هنا أيضًا: (فاختار ما عند الله) للأصيلي وابن عساكر، وضرب عليه أبو الوقت.
(وكان أبو بكر) أي: الصديق الأكبر رضي الله عنه (أعلمنا) أي: أكثرنا علمًا؛ حيث فهم أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى حزنًا على فراقه وقال: (بل نفديك بآبائنا وأموالنا وأولادنا)، وإنما كان أبو بكر أعلم الصَّحابة؛ لأنَّه لم ينكر عليه أحد
%ص 669%
ممن حضر من الصَّحابة حين قال أبو سعيد: (وكان أبو بكر أعلمنا)، اختصه الشَّارع بالخصوصية العظمى، وأظهر أنَّ للصديق من الفضائل والحقوق ما لا يشاركه في ذلك مخلوق، ولهذا (قال) وللأصيلي وأبي ذر: (فقال)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر؛ لا تَبك)؛ بفتح الفوقية؛ أي: على فراقي، وهذا أمر منه له بالصبر، وأعقبه بتسلية نفسه، وسكون روعه، وعلل ذلك بقوله: (إنَّ أمنَّ الناس)؛ بنصب (أمنَّ) اسم (إنَّ)، هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية كما في «التنقيح»: (إنَّ من أمن الناس) على حذف اسمها والمجرور صفته؛ أي: رجلًا من أمن، وجوز الدماميني أن يكون على حد قوله عليه السَّلام: «إنَّ من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»، فأمَّا (من) زائدة في الإيجاب والتعريف على رأي الأخفش، وأمَّا اسمها؛ فضمير الشأن محذوف [4]، انتهى، (عليَّ) بتشديد ياء المتكلم (في صحبته وماله أبو بكر)؛ أي: أكثرهم جودًا وسماحة لنا بنفسه وماله، من المن؛ بمعنى: العطاء من غير استثابة، ومنه: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ} [ص: 39]، وقوله: {لاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، وليس هو من المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة؛ لأنَّه مبطل للثواب، لأنَّ المنة لله ولرسوله في قبول ذلك، قاله الخطابي، وقال القرطبي: ووزن «أمن»: «أفعل» من المنة؛ أي: الامتنان؛ أي: أكثر منةً؛ ومعناه: أنَّ أبا بكر له من الحقوق ما لو كان لغيره؛ لامتن بها، وذلك لأنَّه بادر بالتصديق، ونفقة الأموال، وبالملازمة، والمصاحبة إلى غير ذلك بانشراح صدر ورسوخ علم بأنَّ الله ورسوله لهما المنة في ذلك والفضل، لكن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بجميل أخلاقه وكرم أعرافه، اعترف بذلك عملًا بشكر المنعم، ليسنَّ [5]؛ كما قال للأنصار، وفي «جامع الترمذي» من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «ما لأحد عندنا يد إلا كافيناه ما خلا أبا بكر، فإنَّ له عندنا يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة» انتهى.
(ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي) كذا في رواية الأربعة، وفي رواية غيرهم: (ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا)، قال إمام الشَّارحين: الاتخاذ: (افتعال) من الأخذ، و (اتخذ) يتعدى إلى مفعول واحد، ويتعدى إلى مفعولين؛ أحدهما بحرف الجر، فيكون بمعنى: أختار وأصطفي، وههنا سكت عن أحد مفعولهما، وهو الذي دخل عليه حرف الجر، فكأنَّه قال: لو كنت متخذًا من الناس خليلًا؛ (لاتخذت) منهم (أبا بكر) يعني: خليلًا، كما هو ثابت في رواية الأصيلي دون غيره؛ فافهم، والخليل: المخال؛ وهو الذي يخالك؛ أي: يوافقك في خلالك، أو يسايرك في طريقتك، من الخِل؛ وهو الطريق في الرمل، أو يسد خللك كما تسد خلله، أو يداخلك خلال منازلك [6]، وقيل: أصل الخلة: الانقطاع، فخليل الله: المنقطع إليه، وقال ابن فورك: (الخلة: صفاء المودة بتخلل الأسرار، وقيل: الخليل: من لا يتسع قلبه لغير خليله)، وقال القاضي عياض: أصل الخلة: الافتقار والانقطاع، فخليل الله؛ أي: المنقطع إليه؛ لِقَصْرِهِ حاجته عليه، وقيل: الخلة: الاختصاص بأصل الاصطفاء، وسمي إبراهيم خليل الله؛ لأنَّه والى فيه وعادى فيه، وقيل: سمي به؛ لأنَّه تخلل بخلالٍ حسنة، وأخلاق كريمة، وخله الله: نصره وجعله إمامًا لمن بعده.
وزَعْمُ السفاقسي أنَّه كان اتخذ خليلًا من الملائكة، ولهذا قال: «لو كنت متخذًا خليلًا من أمتي»؛ يرده قوله عليه السَّلام: «ولكن صاحبكم خليل الرحمن»، وفي رواية: «لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي»؛ أي: أنَّ حب الله لم يُبقِ في قلبي موضعًا لغيره تعالى.
ومعنى الحديث: أنَّ أبا بكر متأهل لأن يتخذه عليه السَّلام خليلًا لولا المانع المذكور، وهو أنَّه امتلأ قلبه بما تخلله من معرفة الله تعالى، ومحبته، ومراقبته، حتى كأنَّها مزجت أجزاء قلبه بذلك، فلم يتسع قلبه لخليل آخر، وعلى هذا فلا يكون الخليل إلا واحدًا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن يَعْلَق القلب به؛ فهو حبيب، ولذلك أثبت لأبي بكر وعائشةأنهما أحب الناس إليه، ونفى عنهما الخلة التي هي فوق المحبة.
وقد اختلف أرباب القلوب في ذلك؛ فذهب الجمهور إلى أن الخلة أعلا؛ تمسكًا بهذا الحديث، وذهب ابن فورك إلى أنَّ المحبة أعلا؛ لأنَّها صفة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من الخليل، وقيل: هما سواء؛ فلا يكون الخليل إلا حبيبًا ولا الحبيب إلا خليلًا.
وزعم الفراء أنَّ معناه: فلو كنت أخص أحدًا بشيء من العلم دون الناس؛ لخصصت به أبا بكر؛ لأنَّ الخليلك من تفرد بخله من الفضل لا يشركه فيها أحد.
وقيل: معنى الحديث: لو كنت منقطعًا إلى غير الله؛ لانقطعت إلى أبي بكر، لكن هذا ممتنع؛ لامتناع ذلك، وقول بعض الصَّحابة: (سمعت خليلي يقول) لا بأس به؛ لأنَّ انقطاعه إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم انقطاع إلى الله عز وجل، والممتنع انقطاعه عليه السَّلام إلى غير الله تعالى لا انقطاع غيره إليه، كذا قرره إمام الشَّارحين، وأخذ عبارته العجلوني ونسبها لنفسه، ولهذا عزوتها إليه؛ فافهم.
وقال الخطابي: (الخليل: الفقير، كأنَّهم غيروا فقره إلى محبته، والاسم منه: الخَلة؛ بالفتح، ومن المحبة: الخُلة؛ مضمومة، وقيل: الخليل: مشتق من خلة المرعى؛ وهو نبات تستحليه الماشية فتستكثر منه) انتهى.
(ولكن أُخُوَّة الإسلام)؛ بِضَمِّ الهمزة والخاء المعجمة، مع تشديد الواو، كذا في رواية الأكثرين، وللأصيلي: (ولكن خُوَّة الإسلام)؛ بحذف الهمزة.
قال الكرماني: (وتوجيهه أن يقال: نقلت حركة الهمزة إلى النُّون في «لكن»، وحذفت الهمزة، فعرض بعد ذلك استثقال ضمة من كسرة وضمة، فسكَّن النُّون تخفيفًا، فصار: «ولكن خوة»، وسكون النُّون بعد هذا العمل غير سكونه الأصلي [7]، ثم نقل عن ابن مالك أنَّ فيه ثلاثة أوجه؛ سكون النُّون وثبوت الهمزة بعدها مضمومة، وضم النُّون وحذف الهمزة، فالأول أصل، والثاني فرع، والثالث فرع فرع) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (كل هذا تكلف خارج عن القاعدة، ولكن الوجه أن يقال: إنَّ «لكنْ» على حالها ساكنة النُّون، وحذفت الهمزة من «أخوة» اعتباطًا، ولهذا قال ابن التين: رويناه بغير همزة، ولا أصل لهذا، وكأنَّ الهمزة سقطت هنا، وهي ثابتة في باقي المواضع، وقوله: «أخوة الإسلام»: كلام إضافي مبتدأ، وخبره محذوف؛ تقديره: ولكن أخوة الإسلام أفضل أو نحوه، ويؤيده أنَّ في حديث ابن عبَّاس الذي بعده وقع هكذا) انتهى كلامه.
قال العجلوني: (ليتأمل في دعواه الكلية، وهل القاعدة الحذف الاعتباطي أو القياسي؟ والمقرر الأول) انتهى.
قلت: مراد الكرماني وابن مالك: أنَّ الحذف هنا قياسي مع أنَّ القاعدة أنَّه اعتباطي، على أنَّ ما قالاه تكلف وتعسف بلا فائدة، والحق ما قاله إمام الشَّارحين، وهو الصَّواب، ولا تغتر بما يزعمه أهل التعصب البارد،
%ص 670%
فإنَّه من توغلهم الشارد.
(ومودته)؛ أي: مودة الإسلام، وهو معطوف على (أخوة) الواقع مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: أفضل، قال العجلوني: (ويجوز العكس) انتهى.
قلت: هو غير ظاهر، بل الظَّاهر الأول، ويدل عليه تصريح حديث ابن عبَّاس الآتي بذلك؛ فافهم.
قال إمامنا الشَّارح: (والفرق بين الخلة والمودة باعتبار المتعلق مع أنَّهما بمعنى واحد، وهو أنَّه أثبت المودة؛ لأنَّها بحسب الإسلام والدين، ونفى الخلة؛ للمعنى الذي ذكرناه، والدليل على أنَّهما بمعنى واحد: قوله في الحديث الذي بعده: «ولكن خلة الإسلام»، بدل لفظ المودة، وقد قيل: إنَّ الخلة أخص وأعلى مرتبة من المودة، فنفى الخاص وأثبت العام.
فإن قيل: المراد من السياق أفضلية أبي بكر، وكل الصَّحابة داخلون تحت أخوة الإسلام، فمن أين لزم أفضليته؟
قلت: بأنَّها تعلم مما قبله ومما بعده) انتهى.
وقال الكرماني: (ليس المراد تفضيل المودة على الخلة، فـ «أفضل» المقدر _كالآتي_ بمعنى: الفاضل)، ثم قال: (والمودة الإسلامية متفاوتة بحسب تفاوتهم في إعلاء كلمة الله، وتحصيل كثرة الثواب، وذلك معنى الأفضلية، ولا شك أنَّ الصديق أفضل الصَّحابة من هذه الحيثية، أو «أفضل» ليس على حقيقته، أو معناه: أنَّ مودة الإسلام معه أفضل من مودته مع غيره) انتهى.
(لا يبقينَّ)؛ بالنُّون المشددة؛ للتأكيد، قال الكرماني: (بلفظ المجهول، ويروى بلفظ المعروف أيضًا) انتهى.
(في المسجد): متعلق بـ (يبقى)، واللَّام فيه للعهد؛ أي: النَّبوي، والمراد به العام، (باب)؛ بالرفع، قال إمام الشَّارحين: (في صيغة المجهول يكون لفظ «بابُ» مرفوعًا على أنَّه مفعول ناب عن الفاعل؛ والتقدير: لا يبقي أحد في المسجد، وفي صيغة المعلوم يكون «باب» مرفوعًا على أنَّه فاعل، ولا يقال: كيف ينهى الباب عن البقاء وهو غير مُكلَّف؛ لأنَّا نقول: إنَّه كناية؛ لأنَّ عدم البقاء لازم للنَّهي عن الإبقاء، فكأنَّه قال: لا يبقيه أحد حتى لا يبقى، وذلك كما يقال: لا أريتك ههنا؛ أي: لا تقعد عندي حتى لا أراك) انتهى.
وقد أخذ العجلوني عبارته، وتصرف بها، ونسبها لنفسه؛ فافهم.
والباب في الأصل: فرجة في حائط صغيرًا كان أو كبيرًا، والمراد به ههنا: الخَوْخَة؛ لأنَّها كوة [8] في جدار ترى الضوء، كما قاله أهل اللُّغة، وهذا تفسير لما في التَّرجمة من الخَوْخَة، فالمراد بها: الباب في الجدار، وهو المراد به هنا: الخَوْخَة الآتية في لفظ الحديث الثاني، فإنَّها المأمور بسدها، فلا تغاير بين التَّرجمة والحديثين؛ فليحفظ.
(إلا سدَّ)؛ بالنصب، استثناء مفرغ؛ تقديره: لا يبقى باب بوجه من الوجوه إلا بوجه السد، ويحتمل أن يكون إلا بابًا سُدَّ، والجملة صفة لـ (بابًا) المقدر، مستثنًى من كلام تام غير موجب، فيجوز رفعه اتباعًا (إلا بابَ أبي بكر)؛ بالنصب على الاستثناء من (بابًا) المقدر، فيجوز فيه الوجهان؛ فـ (بابًا) المقدر مستثنًى أولًا، ومستثنًى منه ثانيًا، فلا يلزم كون الفعل مستثنًى ومستثنًى منه.
وحاصل المعنى: لا يبقى باب غير مسدود إلا باب أبي بكر رضي الله عنه.
قال الخطابي: (إنَّ أمره عليه السَّلام بسد الأبواب غير الباب الشَّارع إلى المسجد إلا باب أبي بكر يدل على اختصاص شديد لأبي بكر وإكرام له؛ لأنَّهما كانا لا يفترقان) انتهى.
وقال إمام الشَّارحين: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّ الخَوْخَة هي الباب الصغير، وقد يكون بمصراع واحد وبمصراعين، وأصلها: فتح في حائط.
فإن قلت: التَّرجمة شيئان؛ أحدهما: الخَوْخَة، والآخر: المَمَر، ومطابقته للخَوْخَة ظاهرة، وليس فيه ذكر المَمَر.
قلت: المَمَر من لوازم الخَوْخَة، فذكرها يغني عن ذكره) انتهى.
ثم قال: (وفي الحديث دلالة على أنَّه قد أفرده في ذلك بأمر لا يشاركه فيه غيره، فأولى ما انصرف إليه التأويل فيه الخلافة، وقد أكثر الدلالة عليها بأمره إياه بالإمامة في الصلاة التي بنى لها المسجد).
قال الخطابي: (ولا أعلم في إثبات القياس أقوى من إجماع الصَّحابة على استخلاف أبي بكر مستدلين في ذلك باستخلافه عليه السَّلام في أعظم أمور الدين؛ وهو الصلاة، فقاسوا عليها سائر الأمور، ولأنه عليه السَّلام كان يخرج من باب بيته وهو في المسجد للصلاة، فلما غلَّق الأبواب إلا باب أبي بكر؛ دلَّ على أنَّه يخرج منه إليه للصلاة، فكأنَّه عليه السَّلام أمر بذلك على أنَّه من بعده يفعل ذلك هكذا.
فإن قلت: روي عن ابن عبَّاس: أنَّه عليه السَّلام قال: «سدوا الأبواب إلا باب علي رضي الله عنه».
قلت: قال الترمذي: هو حديث غريب، وقال البخاري: حديث: «إلا باب أبي بكر»؛ أصح، وقال الحاكم: تفرد به مسكين بن بكير الحراني عن شعبة، وقال ابن عساكر: وهو وهم، قال صاحب «التوضيح»: وتابعه إبراهيم بن المختار) انتهى.
قال العجلوني: (قيل: الحديث على طرق يقوي بعضها بعضًا، بل قال ابن حجر: في بعضها إسناده قوي، وفي بعضها رجاله ثقاة) انتهى.
قلت: هذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ قول الترمذي: (غريب)، وقول الحاكم: (تفرد به مسكين)، وقول ابن عساكر: (وهم)؛ يرد هذا، ومن القواعد: أنَّ الجرح مقدم على التَّعديل، ويحتمل أنَّه عليه السَّلام قال لعلي هذا خصوصية له، وتطييبًا لخاطر ابنته فاطمة، وإلا فالقرائن في الأحوال والأقوال تدل على أنَّه خاص بأبي بكر، وأنَّ الخلافة له، يدل عليه أنَّه أمره بالصلاة مقامه، ولم يأمر عليًّا كما ثبت في «البخاري»، فما زعمه العجلوني وابن حجر يوافق قول الشيعة الفرقة الضالة، فلا ينبغي القول بذلك، ولذلك أجمعت الصَّحابة على استخلاف أبي بكر دون علي؛ لعلمهم ذلك منه عليه السَّلام بالقرائن بالقول والفعل، ولم يلتفتوا إلى حديث علي؛ لعلمهم أنَّه خصوصية له؛ لأجل خاطر فاطمة رضي الله عنهما؛ فافهم ذلك ولا تكن من الغافلين.
وقال ابن بطال: (وفي الحديث التعريض بالعلم للناس، وإن قل فهماؤهم؛ خشية أن يدخل عليهم مساءة أو حزن) انتهى.
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: أنَّه لا يستحق أحد العلم حقيقة إلا من فهم، والحافظ لا يبلغ درجة الفهم، وإنما يقال للحافظ: عالم بالنص لا بالمعنى.
وفيه: دليل على أنَّ أبا بكر أعلم الصَّحابة رضي الله عنهم.
وفيه: الحض على اختيار ما عند الله تعالى، والزهد في الدنيا، والإعلام بمن اختار ذلك من الصالحين.
وفيه: أنَّ على السلطان شكر من أحسن صحبته ومعونته بنفسه وماله، واختصاصه بالفضيلة التي لم يُشارَك فيها كما خصه عليه السَّلام بما لم يشركه غيره، وذلك أنَّه جعل بابه في المسجد؛ ليخلفه في الإمامة فيخرج من بيته إلى المسجد، كما كان عليه السَّلام يخرج، ومنع الناس كلهم من ذلك دليل على خلافته بعده عليه السَّلام.
وفيه: إئتلاف النفوس بقوله: «ولكن أخوة الإسلام أفضل».
وفيه: أنَّ المساجد تصان عن تطرق الناس إليها في خوخات ونحوها إلا من أبوابها إلا من حاجة مهمة.
وفيه: أنَّ الخليل
%ص 671%
فوق الصديق والأخ) انتهى.
==================
[1] في الأصل: (سعد)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (فإن)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (فإن)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (محذوفًا).
[5] في الأصل: (ليس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (من أزلك)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (الأصيلي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/785)
[حديث: إنه ليس من الناس أحد أَمنَّ عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر]
467# وبالسند إليه قال: (حدثنا عبد الله بن محمَّد الجُعْفي) بِضَمِّ الجيم، وسكون العين المهملة، هو المسندي (قال: حدثنا وهب بن جَرير) بفتح الجيم (قال: حدثنا أبي) هو جَرير بن حازم _بالحاء المهملة والزاي_ العتكي (قال: سمعت يَعْلى) بفتح التحتية أوله، وسكون العين المهملة (بن حَكِيم)؛ بفتح الحاء المهملة، وكسر الكاف، هو الثقفي المكي، سكن البصرة، ومات بالشام، قال البازلي: (أدرك زمن الصَّحابة، ولم يثبت أنَّه أدرك أحدًا منهم) انتهى، (عن عِكرمة) بكسر العين المهملة، مولى ابن عبَّاس رضي الله عنهما، (عن ابن عبَّاس) هو عبد الله بن عبَّاس بن عبد المطلب القرشي رضي الله عنهما: أنَّه (قال: خرج رسول الله) وللأصيلي: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من حجرته للصلاة، والظَّاهر أنَّها صلاة الجمعة، كما يدل عليه السياق؛ فافهم، (في مرضه الذي مات فيه) والظَّاهر أنَّه كان وجع رأس من شدة الحرارة، وقوله: (عاصبًا) بالنصب على الحال، وهو الشد، وقوله: (رأسَه) بالنصب أيضًا، مفعوله، وقوله: (بخِرْقة) بكسر الخاء المعجمة، وسكون الرَّاء المهملة: قطعة من القطن المسدود، والمراد بها: المنديل، متعلق بـ (عاصبًا).
قال إمام الشَّارحين: (ويروى: «عاصب رأسه»؛ بالإضافة، وقال ابن التين: «المعروف: عصب رأسه تعصيبًا»، قلت: ذكر صاحب «دستور اللُّغة» «عصب» بالتخفيف أيضًا، فقال: «عصب: شدَّ» ذكره في باب «فعَل يفعِل»؛ بفتح العين في الماضي، وكسرها في المستقبل) انتهى.
قلت: وعلى الرواية الثانية يحتمل قوله: (عاصب) الرفع والنصب؛ فافهم.
قيل: وفي رواية الفرع: (عاصب رأسه)؛ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، والجملة حال، والله أعلم.
(فقعَد)؛ بفتح العين المهملة؛ أي: على المنبر لأجل الخطبة للناس، (فحمد الله)؛ أي: على وجوه الكمال، والمراد: أنَّه عليه السَّلام قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات»، كما وَرَد عنه، (وأثنى عليه)؛ أي: على ذاته بعدم النقصان فيه، والمراد: أنَّه عليه السَّلام وصف ذاته بصفات الكمال، ونزهه عن صفات النقص والمستحيلة، (ثم قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (إنَّه) أي: الشأن (ليس من الناس) أي: الصَّحابة، فغيرهم من باب أولى (أحد أمنَّ)؛ بتشديد النُّون خبر (ليس)؛ أي: أكثر عطاء وبذلًا، من منَّ عليه منًّا: أنعم، ومنه: المنان من أسمائه الحسنى (عليَّ) بتشديد ياء المتكلم (في نفسه وماله): فقد بذلهما في حبه عليه السَّلام، ومن بَذلِ نفسه: ما وقع له في الغار، كما نطق بها القرآن، ولم يكن معه عليه السَّلام غير أبي بكر بالإجماع (من أبي بكر بن أبي قُحَافة)؛ بِضَمِّ القاف، وتخفيف الحاء المهملة، وبعد الألف فاء، واسمه عثمان بن عامر التيمي، أسلم يوم الفتح، وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، ومات بالمدينة، وله سبع وتسعون سنة، وليس في الصَّحابة من في نسله ثلاثة بطون صحابيون إلا هو، قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (وفي حديث أبي سعيد السَّابق: «إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر»، والفرق بين العبارتين: أنَّ الأولى أبلغ؛ لأنَّ الثانية تحتمل أن يكون له من يساويه في المنة؛ إذ المنفي هو الأفضلية لا المساواة) انتهى، ومثله في الكرماني.
واعترضه العجلوني بأنَّ المقام مقام المدح وهو يأباها، فصار المقصود منهما واحدًا؛ فافهم، انتهى.
قلت: لا ريب أنَّ المقام في كل منهما للمدح، لكن الأولى أبلغ في المدح بخلاف الثانية، وما المانع من وجود المساواة؟ فإنَّ الصَّحابة كلهم قد أفدوه عليه السَّلام بأنفسهم وأموالهم، فيكون هو مثلهم لكن بزيادة، ويزاد أيضًا على ما في الرواية الأولى فإنَّها قد نطقت بالزيادة التامة، وليس المقام يأباها، ولا المقصود منهما واحد؛ لأنَّه عليه السَّلام أولًا قد ساواه مع بقية الصَّحابة، ثم استثناه منهم، وخصه بالزيادة في الفضل، فليس مراد العبارتين واحدًا كما زعمه؛ فليحفظ.
(ولو كنت متخذًا من الناس) أي: الصَّحابة وغيرهم بالأولى (خليلًا)؛ أي: موافقًا ومسايرًا في الطريق، أو من لا يسع قلبه لغير خليله، أو لو كنت أخص أحدًا بشيء من العلم دون الناس؛ لخصصت به أبا بكر، ولذا قال: (لاتخذت أبا بكر)؛ أي: خليلًا منهم، فمفعوله الثاني محذوف إن أخذ من المتعدي لاثنين، وإلا؛ فلا حذف؛ فافهم، (ولكن خلة الإسلام أفضل)؛ أي: فاضلة؛ لأنَّ المراد: أنَّ الخلة بالمعنى الأول أعلى مرتبة وأفضل من كل خلة من المحبة على ما عليه الجمهور؛ استدلالًا بهذا الحديث وأمثاله، كما قدمناه قريبًا، والخُلَّة _بضم الخاء المعجمة، وتشديد اللَّام_ في الأصل: ما خلا عن النبت كما في «الصِّحاح»، وقال في «القاموس»: (الخُلة _بالضم_: الخليلة [1] والصداقة المحضة لا خلل فيها، تكون في عفاف وفي دعارة، والجمع: خلال؛ ككتاب)، وهي بهذا المعنى أنسب ههنا مما ذكرناه عن «الصِّحاح»، وأمَّا قول الكرماني نقلًا عن الجوهري: الخلة: الخليل؛ فلا يناسب هنا، كما لا يخفى إن كان الخليل بمعنى: الشخص المخالل؛ فتدبره، كذا زعمه العجلوني.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ ما قاله الجوهري وجهه ظاهر؛ لأنَّ الخليل: الشخص: المخال، وهو الذي يخالك؛ أي: يوافقك [2] في خلالك، أو يسايرك في طريقتك، من الخل؛ وهو الطريق في الرمل، أو يسد خللك كما تسد خلله، أو يداخلك خلال منازلك [3]، كما صرح به أهل اللُّغة؛ فليحفظ، فما زعمه العجلوني؛ ليس يشيء؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين نقلًا عن ابن بطال: (إنَّه وقع في الحديث _أي: الأول_: «ولكن أخوة الإسلام»، ولا أعرف معناه)، قال: (وقد وجدت الحديث بعده «خلة» بدل «أخوة»، وهو الصَّواب؛ لأنَّه عليه السَّلام صرف الكلام على ما تقدمه من ذكر الخلالة، فأتى بلفظ مشتق منها، ولم أجد «خوة» بمعنى «خلة» في كلام العرب) انتهى.
(سُدُّوا) بِضَمِّ السين المهملة، والدَّال المهملة المشددة (عني) أي: عن مسجدي (كل خُوخة)؛ بِضَمِّ الخاء المعجمة؛ أي: باب (في هذا المسجد) أي: النَّبوي (غير خوخة) أي: باب (أبي بكر)؛ أي: الصديق الأكبر رضي الله عنه، وفي رواية الكشميهني: (إلا) بدل (غير)، قال الكرماني: (لفظ «هذا المسجد» لا يتناول إلا مسجده الشريف) انتهى.
بناءً على أنَّ اللَّام فيه للعهد، لكن الحكم فيه عام قياسًا عليه، كما لا يخفى، كما سبق أنَّ المساجد تصان عن تطرق الناس إليها في خوخات ونحوها إلا لحاجة مهمة؛ فافهم.
وفي الحديث المطابقة للتَّرجمة؛ لأنَّ فيه الأمر بسد كل خوخة إلا خوخة أبي بكر، وأمَّا المَمَر، فإن جعل اسم موضع والمراد به: الخوخة؛ فهو ظاهر، وإن كان المراد به الأعم منها؛ فبالقياس عليها، وإن
%ص 672%
جعل مصدرًا بمعنى: المرور؛ فدلالته عليه باللزوم، ولهذا قال إمامنا الشَّارح: (المَمَر من لوازم الخَوْخَة، فذِكرها يغني عن ذكره) انتهى.
ثم قال: (والظَّاهر من وضع هذه التَّرجمة: الإشارة إلى جواز اتخاذ الخوخة والممر في المسجد؛ لأنَّ حديث الباب يدل على ذلك) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّه إن أراد بـ (يدل على) جواز اتخاذ الخوخة والممر لنحو الإمام؛ فمُسلَّم، وإن أراد العموم؛ فلا؛ لأنَّ الشَّارع أمر بسد كل خوخة غير خوخة أبي بكر؛ فافهم.
قلت: وهو غير ظاهر، فإنَّ كون جواز اتخاذ الخوخة والممر لنحو الإمام يحتاج لدليل، والحديث لا يدل عليه؛ لأنَّ أبا بكر لم يكن إذ ذاك إمامًا، بل المراد بجواز اتخاذ الخوخة والممر على العموم مطلقًا، سواء كان مدرسًا، أو ناظرًا، أو متوليًّا، أو مؤذنًا، أو غير ذلك؛ لأنَّ حديثي الباب مطلق، فيحمل على العموم.
ولهذا قال الدماميني في «المصابيح»: (نبَّه بذلك على أنَّ المرور في المسجد لما يعرض للإنسان من شؤونه جائز، وهو من قبيل الاتفاق بما لا يضر كبير مضرة، ولا يقال: إنَّ المساجد لم توضع طرقات؛ فإنَّ التشديد في ذلك تنطع، والمسجد والطرقات كلها لله مرافق للمسلمين، فيستعان ببعضها على بعض؛ كمجامع مصر، وقد كان ممر أبي بكر إلى داره في المسجد) انتهى.
وقال صاحب «المنحة»: (أي: جوازهما فيه) انتهى؛ فهو ظاهر في العموم، ويحتمل أنَّ الشَّارع أمر بسد كل خوخة تطل على حجرته؛ لأنَّ قوله في الحديث: (سُدُّوا عني)؛ أي: عن حجرتي، أو عن بابي حتى لا أحد ينظر إليه عليه السَّلام؛ لكونه كان في مرضه الذي مات فيه؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (ويستفاد من هذا الحديث: جواز الخطبة قاعدًا، قاله الكرماني، قلت: هذه الخطبة لم تكن واجبة، وباب التطوع واسع) انتهى.
قلت: والظَّاهر أنَّ هذه الخطبة كانت خطبة جمعة، ويحتمل أنَّها لم تكن للجمعة بل للتذكير، وعلى الأول؛ فتجوز الخطبة الواجبة قاعدًا أو مضجعًا، كما في «التاترخانية»؛ لأنَّ القيام حال الخطبة سنة لا واجب، فلو قعد فيهما أو في أحدهما؛ أجزأه وكره من غير عذر، فلو كان مريضًا؛ أجزأه من غير كراهة، هذا مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه والجمهور، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الخلية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (يوافق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (خلالًا من أزلك)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (الخلية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (يوافق)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الخلية)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (يوافق)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/786)
(81) [باب الأبواب والغلق للكعبة والمساجد]
هذا (باب) حكم اتخاذ (الأبواب) جمع باب؛ وهو الفرجة في الحائط (والغَلَق)؛ بفتح الغين المعجمة واللَّام؛ وهو المغلاق؛ وهو ما يغلق به الباب، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: وبه صرح في «الصِّحاح» و «مختصره» و «القاموس»، والظَّاهر أنَّه الخشبة، أو العصاة، أو القفل، والغال؛ مما يغلق به الباب؛ كالمفتاح للغال ونحوه، ويدل لهذا حديث الباب؛ فافهم.
ويحتمل أنَّ المراد: حكم غلق الأبواب في غير وقت صلاة، فيكون الغلق شاملًا للفتح والغلق في وقت الصلاة وفي غير وقتها، والمقصود منه الصيانة والحفظ؛ فافهم.
وقوله: (للكعبة والمساجد) بيان لاتخاذ الأبواب وغلقها؛ يعني: باب حكم اتخاذ الأبواب وغلقها الكائن للكعبة والمساجد، فهو بيان وتفسير للسابق، فقول العجلوني: (من عطف العام على الخاص)؛ غير ظاهر؛ لأنَّ الكلام الأول لم يتم إلا بلاحقه، وليس فيه عطف، بل هو بيان وتفسير لذلك؛ فافهم، على أنَّ الكعبة تابعة للمسجد الحرام، فذكر المساجد يغني عنها، لكن لما كان لها أحكام مختصة بها؛ نص عليها بانفرادها؛ تفسيرًا لما سبق، وهي ليس لها أبواب بل واحد فقط كما هو المعهود منها.
والمراد بالحكم: الوجوب، ولهذا قال ابن بطال: (اتخاذ الأبواب للمساجد واجب؛ لتصان عن مكان الريب وتنزه عما لا يصلح فيها؛ أي: ولأجل حفظها من أيدي العادية وغيرها، فاتخذت الأبواب؛ لحفظها مما يدانسها).
وتقدير (الحكم) أولى من تقدير العجلوني (الجواز)؛ لأنَّه خاص والحكم أعم، وهو أولى؛ فافهم.
وقوله: (قال أبو عبد الله)؛ أي: محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري الجعفي، جامع هذا «الصَّحيح»، ثابت عند الأكثرين، ساقط عند الأصيلي وابن عساكر: (وقال لي عبد الله بن محمَّد) هو الجعفي المسندي مذاكرةً: (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عينية، (عن ابن جريج) بجيمين مصغرًا، هو عبد الملك بن عبد العزيز (قال: قال لي ابن أبي مُلكية)؛ بِضَمِّ الميم؛ بالتصغير، هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ملكية، واسمه زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي المكي القاضي: (يا عبد الملك) هو اسم ابن جريج؛ (لو رأيتَ) بفتح التَّاء (مساجد ابن عبَّاس وأبوابها)؛ أي: لرأيت عجبًا أو حسنًا؛ لإتقانها، فجزاء (لو) محذوف، كما قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (ويحتمل أن تكون «لو» للتَّمني، فلا تحتاج إلى الجزاء، وهذا الكلام يدل على أنَّ هذه المساجد كانت لها أبواب وأغلاق بأحسن ما يكون، ولكن كانت في الوقت الذي قال ابن أبي مُليكة لابن جريج: «خربت واندرست»، ومطابقته للتَّرجمة في قوله: «وأبوابها») انتهى.
قلت: يعني: وإنَّ الغالب أنَّ لأبوابها أغلاقًا.
قال العجلوني: (وهل الجمع مراد فيها؛ لأنَّها كانت متعددة أو هي اسم لمسجد واحد عمَّره في الكوفة أو غيرها؛ فليحرر) انتهى.
قلت: قول ابن أبي مليكة: (لو رأيت مساجد ابن عبَّاس) يدل على أنَّ الجمع الحقيقي مراد فيها؛ لأنَّه الأصل في الكلام، فهي متعددة؛ لأنَّه لا مانع من أنَّه عمَّر مسجدًا في الكوفة، ومسجدًا في الطَّائف، ومسجدًا في غيرهما؛ لأنَّه قد سكن الطَّائف وتوفي فيه، ومسجده هناك مشهور؛ كما هو في الكوفة وغيرهما؛ فليحفظ.
==========
%ص 673%
==================
(1/787)
[حديث: أن النبي قدم مكة فدعا عثمان بن طلحة ففتح]
468# وبالسند إلى المؤلف قال: ([حدثنا] أبو النُّعمان) بِضَمِّ النُّون، هو محمَّد بن الفضل السدوسي البصري (وقتيبة) زاد أبو ذر: (ابن سعيد): هو المنقري (قالا) بالتثنية: (حدثنا حمَّاد) زاد أبوا ذر والوقت: (ابن زيد) هو ابن درهم الأزدي الحمصي البصري، (عن أيوب) هو السختياني، (عن نافع) هو مولى ابن عمر، (عن ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما: (أن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قدِم)؛ بكسر الدَّال المهملة (مكة) أي: المكرمة عام الفتح، (فدعا) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (عثمان بن طلحة) هو ابن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى العبدري الحجبي، قتل أبوه وعمه يوم أُحُد كافرين في جماعة من بني عمهما، وهاجر هذا مع خالد بن الوليد وعمرو، ودفع النَّبيُّ عليه السَّلام له وإلى ابن عمه شيبة بن عثمان مفتاح الكعبة، كذا في «عمدة القاري».
وقال الكرماني: (أسلم عثمان يوم هدنة الحديبية، وجاء يوم الفتح بمفتاح الكعبة وفتحها، فقال عليه السَّلام: «خذوها _يعني: المفتاح_ يا آل أبي طلحة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم»، ثم نزل المدينة، فأقام بها إلى وفاة النَّبي عليه السَّلام، ثم تحول إلى مكة ومات بها سنة اثنتين وأربعين) انتهى.
وقال البيضاوي وغيره: (أسلم عثمان يوم الفتح، وأتى يوم الفتح بمفتاح الكعبة وفتحها، ودفع رسول الله مفتاح الكعبة إليه وإلى ابن عمه شيبة بن عثمان لما نزلت آية: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}) [النساء: 58] انتهى.
وهو مخالف لما زعمه الكرماني من أنَّه أسلم يوم الحديبية؛ فيحرر.
وقال العجلوني: (ورجوع ضمير «خذوها» إلى
%ص 673%
المفتاح صرح به الكرماني، والعيني، وغيرهما، وكأنَّه أثبته باعتبار أنَّه آلة الفتح، ولا يمتنع رجوعه إلى السدانة؛ فتأمل) انتهى.
قلت: ويحتمل أنَّه أراد بقوله: «خذوها»؛ أي: الكعبة، وأخذ المفتاح قرينة إلى أنَّها تكون بأيديهم ولا تنزع منهم؛ فتأمل.
وكون الإمام العيني صرح به؛ ممنوع، بل نقل عبارة الكرماني وظاهره التبري منها، حيث لم يتعرض لمرجع الضمير، وانظر ما معنى السدانة التي [1] ذكرها العجلوني.
وفي «مختصر الصِّحاح»: (السادن: خادم الكعبة وبيت الأصنام، والجمع: السدنة) انتهى، وعلى هذا فالضمير يرجع إلى الكعبة؛ لأنَّها كانت بيت الأصنام.
وفي «القاموس»: (السدانة: خدم الكعبة، وسَدَنَ ثوبه: أرسله) انتهى، وعلى هذا فيكون السدانة: ثياب الكعبة، ومرجع الضمير إليها ظاهر؛ فتأمل مع ما سبق.
(ففَتَحَ البابَ)؛ أي: باب الكعبة، وظاهر كلام الشراح أنَّ الرواية بالبناء للفاعل؛ أي: أنَّه عليه السَّلام فتح الباب، وهو منصوب، ويحتمل أن يكون مبنيًا للمفعول؛ لأنَّه عليه السَّلام قد سلَّم المفتاح إلى آل أبي طلحة، فيحتمل أنَّ الفاتح عثمان أو غيره؛ فافهم، (فدخل النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أي: في الكعبة (وبلال) عطف على قوله: (النَّبي)؛ أي: ودخل بلال أيضًا مع النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو المؤذن، ابن رباح مولى الصديق الأكبر رضي الله عنهما، واسم أمه: حمامة، أسلم قديمًا، فعذبه قومه، وجعلوا يقولون له: ربك اللات والعزى، وهو يقول: أَحدٌ أَحد، فأتى عليه الصديق فاشتراه بسبع أواق، وأعتقه، فشهد بدرًا، والحديبية، والمشاهد كلها مع رسول الله عليه السَّلام، وهو أول من أذَّن لرسول الله، وكان يؤذن له سفرًا وحضرًا، توفي بالشام سنة عشرين، عن بضع وستين سنة، وقبره بمقبرة باب الصغير، عليه قبة عظيمة، يزار ويتبرك به، وغير ذلك فيه نظر؛ فافهم، (وأُسَامة بن زيد)؛ بِضَمِّ الهمزة، وفتح السين المهملة: حِبُّ رسول الله عليه السَّلام الذي ولاه عليه السَّلام وكان صغيرًا، (وعثمان بن طلحة) هو العبدري الحجبي، المار آنفًا، قال إمام الشَّارحين: (وإدخاله عليه السَّلام هؤلاء الثلاثة معه لِمعَانٍ تخص كل واحد منهم، فأمَّا دخول بلال؛ فلكونه مؤذنه وخادم أمر صلاته، وأمَّا أسامة؛ فلأنه كان يتولى خدمة ما يحتاج إليه، وأمَّا عثمان؛ فلئلا يتوهم الناس أنَّه عليه السَّلام عزله عن ولايته، ولأنَّه كان يقوم بفتح الباب وإغلاقه) انتهى.
(ثم أُغلِق البابَ)؛ بِضَمِّ الهمزة، وكسر اللَّام، مبنيًا للمفعول، كذا في رواية الأكثرين، وفي روايةٍ_كما في القسطلاني من غير عَزوٍ_: (ثم أَغلَق) بفتح الهمزة واللَّام، مبنيًا للفاعل، و (البابَ) منصوب على المفعولية، وعليها فيكون الفاعل النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وعلى الأولى يكون واحدًا من هؤلاء الثلاثة؛ فافهم.
والحكمة في غلق الباب ما قاله الخطابي وابن بطال: إنَّ إغلاق باب الكعبة كان لئلا يَكْثُر الناس عليه، فيصلُّون بصلاته عليه السَّلام، ويكون ذلك عندهم من المناسك، كما فعل في صلاة الليل حين لم يخرج إليهم؛ خشية أن يكتب عليهم.
وقيل: إنَّما كان ذلك لئلا يزدحموا عليه؛ لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه.
وقيل: ليكون ذلك أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه، كذا في «عمدة القاري».
وفي العجلوني: (وقيل: للتمكن من الصلاة في جميع جهاتها؛ لأنَّ الصلاة إلى الباب لا تصح إذا كان مفتوحًا من غير شاخص مرتفع) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ فتح الباب غير مانع للصلاة، فإن شرط صحة الصلاة: استقبال جزء من بقعة الكعبة أو هوائها، فإن القبلة اسم لبقعة الكعبة المحدودة وهوائها إلى عنان السَّماء، وليس بناؤها قبلة، ولهذا حين أزيل البناء زمن عبد الله بن الزُّبير رضي الله عنه؛ صلى الصَّحابة رضي الله عنهم إلى البقعة أو هوائها دون البناء وإن كان البناء المرتفع يسمى كعبة؛ لأنَّه مأخوذ من الارتفاع، ومنه: الكاعب، فكان هذا إجماع من الصَّحابة على ذلك، فهذه العلة غير ظاهرة، وما قدمناه آنفًا أولى بالصَّواب؛ فافهم.
(فلبث)؛ بالمثلَّثة، من اللبث؛ وهو المكث؛ أي: مكث (فيه)؛ أي: في البيت العتيق النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن سبق (ساعة)؛ أي: مقدار ساعة زمانية، وهي خمس عشرة درجة، وهي المعروفة بستين دقيقة؛ لأنَّ هذا المقدار من الزمن هو الذي يسع الصلاة، والدعاء، ونحوهما.
وقول العجلوني: (أي: لغوية)؛ ممنوع؛ لأنَّها حصة من الزمن ولو لحظة، وهي لا تسع الصلاة والدعاء ونحوها؛ فافهم.
(ثم خرجوا)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ومن دخل معه ممن [2] سبق، وأتى بـ (ثم) المفيدة للتراخي؛ لأنَّه كان لبثهم ساعة زمانية كما ذكرنا، وهو يؤيد ما قلناه؛ فافهم.
قال العجلوني: (وفي نسخة: «ثم خرج») انتهى.
قلت: الله أعلم بصحتها، وليس المعنى عليها بظاهر؛ لأنَّ الذي خرج ليس فردًا بل جمعًا؛ فليحفظ.
(قال ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (فبَدَرتُ)؛ بفتح الموحَّدة والدَّال المهملة؛ أي: أسرعت؛ يعني: أنَّ ابن عمر لما رآهم خرجوا من البيت؛ بادر للسؤال عن صلاة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، (فسألت بلالًا)؛ أي: قلت له: هل صلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في البيت أم لا؟ (فقال) أي: بلال: (صلى فيه) أي: صلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في البيت المعظم، (فقلت: في أيٍّ؟) بتنوين (أيٍّ)؛ يعني: في أيِّ نواحيه؟ كما ثبت في بعض النُّسخ، (قال) أي: بلال: (بين الأسطوانتين) تثنية الأُسطوانة؛ بِضَمِّ الهمزة، ووزنها: أفعوانة، وقيل: فعلوانة، قاله إمامنا الشَّارح، زاد الكرماني: (وقيل: أفعلانة).
وفي «عمدة القاري»: (وسيجيء في كتاب «الحج» عن ابن عمر: «أنَّه سأل بلالًا: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم؛ بين العمودين _وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة_ ثم صلى»، وفي لفظ: «فمكث في البيت نهارًا طويلًا، ثم خرج فابتدر الناس الدخول، فسبقتهم فوجدت بلالًا قائمًا وراء الباب، فقلت له: أين صلى؟ فقال: بين ذينك العمودين المقدمين، قال: ونسيت أن أسأله كم صلى؟ وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء») انتهى.
قلت: وهذان العامودان هما المعبَّر عنهما ههنا بـ (الأسطوانتين)؛ فافهم.
(قال ابن عمر: فذهب عليَّ) بفتح ياء المتكلم؛ أي: أُنْسِيت (أَن أَسأله) بفتح همزة (أَن) المصدرية، وهي في محل رفع فاعل (ذهب)؛ أي: ذهب عليَّ سؤال بلال: (كم صلى) النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في البيت؟ أي: فاتني أن أسأله عن مقدار ما صلى؛ لأنَّ (كم) الاستفهامية للسؤال عن الكمية.
وفي «عمدة القاري»: (وروى أحمد من حديث عثمان بن طلحة بسند صالح: «أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت فصلى فيه ركعتين بين الساريتين [3]».
وفي «فوائد سمويه»: «أنَّ عبد الرحمن بن الوضاح قال: قلت لشيبة: زعموا أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصلِّ فيها، قال: كذبوا،
%ص 674%
والله لقد صلى ركعتين بين العمودين، ثم ألصق بهما بطنه وظهره».
ومطابقته للتَّرجمة في قوله: «ففتح الباب»، وفي قوله: «ثم أغلق».
وفي الحديث: أنَّ اتخاذ الأبواب للمساجد واجب.
وفيه: أنَّ المستحب لمن يدخل الكعبة أن يصلِّي فيها بين الأسطوانتين، كما فعل النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم) انتهى.
قلت: وفي الحديث: دليل على جواز الصلاة داخل البيت فرضًا كانت أو نفلًا؛ لأنَّ صلاته عليه السَّلام وإن كانت نفلًا فالفرض في معناه فيما هو من شرائط الجواز دون الأركان، ولأنها صلاة استجمعت شرائطها بوجود استقبال القبلة، ويدل عليه قوله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]؛ لأنَّ الأمر بالتطهير للصلاة فيه ظاهر في صحتها فيه؛ إذ لا معنى لتطهير المكان لأجل الصلاة وهي لا تجوز في ذلك المكان؛ فليحفظ، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب».
وقال ابن بطال: (الحكمة في غلق الباب لئلا يظن الناس أنَّ الصلاة في البيت سُنَّة).
واعترضه ابن حجر، فقال: (ولا يخفى ما فيه).
قال العجلوني: (ولعله لما قال البرماوي من أنَّ ذلك سنَّة لكن في النفل دون الفرض؛ فقيل بعدم جوازه) انتهى.
قلت: وكلام ابن بطال ظاهر لا غبار عليه؛ لأنَّ صلاته عليه السَّلام في البيت أمر مستغرب؛ لأنَّه لم يكن عادة له عليه السَّلام، فلا ريب أنَّ الناس يظنوا أنَّ الصلاة فيه سنة، ويدل عليه أنَّه عليه السَّلام حين خرج لصلاة الليل، فلما رأى الناس كثروا وظنوا أنَّ صلاة الليل سنة؛ لم يخرج إليهم؛ خشية أن تكتب عليهم، فما زعمه ابن حجر؛ باطل غير ظاهر كما لا يخفى.
وقول البرماوي: في الفرق بين النفل والفرض، وأنَّه قيل بعدم جوازه؛ لا وجه لذلك؛ لأنَّه لا فرق بين النفل والفرض؛ لأنَّ الفرض في معنى النفل حيث هو من شرائط الجواز دون الأركان، والآية المطهرة تدل على ذلك، فالآية وكذا الحديث حجة على من منع الصلاة في الكعبة؛ لأنَّ الصلاة أحق بأن تكون في بيت الله؛ لأنَّها عبادة الله تعالى، فلا وجه لهذا الكلام الصَّادر من غير مرام؛ فافهم، والله أعلم.
==================
[1] في الأصل: (الذي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مما)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/788)
(82) [باب دخول المشرك المسجد]
هذا (باب) بيان حكم (دخول المشرك المسجد) اللَّام فيه للجنس، فيشمل كل مسجد، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله مع ذكر مفعوله على حد قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ} [البقرة: 251]، وهذه التَّرجمة هنا ترد على الإسماعيلي حيث ترجم بها بدل ترجمة: (باب الاغتسال إذا أسلم) هناك، وعليه ففيه تكرار ظاهر، ويحتمل أنَّه أسقط هذه التَّرجمة هنا مع حديثها؛ لعلمها مما سبق؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: هذه التَّرجمة مكررة؛ لأنَّه ذكر هناك وربط الأسير أيضًا في المسجد، وربطه فيه يستلزم إدخاله.
قلت: أجيب: بأن هذا أعم؛ لأنَّ المشرك أعم من أن يكون أسيرًا أو غير أسير.
قلت: هذا غير مقنع؛ لأنَّ الأسير أيضًا أعم من أن يكون مشركًا أو غير مشرك) انتهى كلامه.
قلت: ولم يذكر جوابًا مقنعًا.
وأجاب العجلوني: (بأنَّ الدخول عُلِم من الباب السَّابق بطريق اللزوم، وأمَّا هنا؛ فبالقصد) انتهى.
قلت: وهذا أيضًا غير مقنع؛ لأنَّه لما علم الدخول من الباب السَّابق، وإن كان بطريق اللزوم؛ فقد علم حكمه، فإعادته مرة ثانية وإن كان بالقصد؛ يكون تكرارًا لا محالة.
وقد يقال: إنَّه لما ذكر ربط الأسير تبعًا لاغتسال الكافر إذا أسلم وكان في بيان دخول الكافر المسجد خفاء؛ ترجم له بما فيه إيضاح وبيان لحكمه على طريق الاستقلال بدون التبعية؛ فافهم، وعليه فلا تكرار في التراجم كما لا يخفى؛ فاحفظ.
==================
(1/789)
[حديث: بعث رسول الله خيلًا قبل نجد فجاءت]
469# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قتيبة)؛ تصغير قتبة، وكنيته: أبو رجاء، واسمه علي بن سعيد بن جميل البغلاني، قرية من قرى بلخ، المتوفى سنة أربعين ومئتين (قال: حدثنا اللَّيث) هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي، من أتباع الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، (عن سعِيد بن أبي سعِيد)؛ بكسر العين المهملة فيهما، واسم أبي سعيد: كيسان، هو المقبري المدني، المتوفى بعد اختلاطه بأربع سنين سنة خمس وعشرين ومئة: (أنَّه) أي: سعِيدًا (سمع أبا هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصَّحابي الجليل (يقول) جملة فعلية محلها نصب؛ إمَّا مفعول ثان [1] لـ (سمع)، وإمَّا حال على الخلاف: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعشر خلون من محرم سنة ست إلى القرطاء (خيلًا)؛ أي: فرسانًا، وهم ثلاثون، أميرهم: محمَّد بن مسلمة، وكانت غيبته تسع عشرةليلة (قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحَّدة؛ أي: الجهة، يقال: جلس قُبالته _بالضم_؛ أي: تجاهه (نَجْد)؛ بفتح النُّون، وسكون الجيم: وهي الأرض المرتفعة، ضد الغور، وهي تهامة إلى العراق، وهي من جزيرة العرب، (فجاءت) أي: الخيل (برجل من بني حَنيفة)؛ بفتح الحاء المهملة: قبيلة مشهورة (يقال له) أي: للرجل: (ثُمَامَة بن أُثَال)؛ بالمثلَّثة فيهما مع ضم أولهما، وتخفيف ثانيهما ورابعهما، وهو في الأول ميم، وفي الثاني لام، (فربطوه)؛ أي: بإذنه عليه السَّلام وأمره، كما صرح به ابن إسحاق كما تقدم (بسارية) أي: أسطوانة (من سواري) أي: من أساطين (المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد، وإنما فعل به ذلك؛ لينظر حسن صلاة المسلمين، واجتماعهم عليها، فيرق قلبه ويألف الإسلام، وهذا الحديث قد سبق في باب (الاغتسال إذا أسلم)، واختصره المؤلف هنا مقتصرًا على مطابقة التَّرجمة؛ وهو دخول المشرك المسجد، والمراد به: الذمي؛ لأنَّ ثمامة كان ذميًّا.
فقال الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز دخول الكتابي المسجد ولو المسجد الحرام، لا الحربي؛ لحديث الباب وحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم»، رواه أحمد بسند جيد.
وقال مالك وقتادة والمزني وعمر بن عبد العزيز: لا يجوز دخول الكافر المسجد؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ... }؛ الآية [التوبة: 28]، ولا حجة لهم فيها؛ لأنَّ معناه: أنجاس في اعتقادهم، وأقوالهم، وأفعالهم؛ لأنَّهم يشركون بالله غيره، ويريدون بأعمالهم سواه، فالآية في دخولهم للحج [2]، أمَّا نفس الكافر؛ فغير نجس؛ لأنَّ الكفر لا يؤثر في بدنه.
وقال الشَّافعي وأحمد: يجوز دخول الكافر المسجد لحاجة وإِذْنِ مسلم سواء كان كتابيًّا أو غيره إلا المسجد الحرام؛ لحديث الباب، ولا حجة لهما فيه؛ لأنَّ ثمامة كان إمَّا ذميًّا أو خدمًا لأهل العهد كما هو صريح الحديث، واشتراط الإذن شرط زائد على النص؛ لأنَّه غير مذكور؛ لأنَّ ثمامة كان مغلولًا بأيديهم، واستثناء المسجد الحرام يرده قوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ... }؛ الآية [التوبة: 28]، والخطاب إنَّما كان للمشركين كما هو صدر الآية، فالمعاهد خارج عن الآية؛ فافهم.
وتمامه تقدم في الباب السَّابق بأبسط من هذا، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الحج)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 675%
==================
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/790)
(83) [باب رفع الصوت في المساجد]
هذا (باب) حكم (رفع الصوت في المساجد) ولأبي ذر: (في المسجد)؛ بالإفراد، قال إمام الشَّارحين: (وهو أعم من أن يكون ممنوعًا أو غير ممنوع، فذكر المؤلف الحديثين فيه إشارة إلى بيان تفصيل فيه مع الخلاف، فالحديث الأول يدل على المنع، والحديث
%ص 675%
الثاني يدل على عدمه، وقد ذكرنا الخلاف فيه فيما تقدم، وهو «باب التقاضي والملازمة في المسجد») انتهى، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
==================
(1/791)
[قول عمر: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما]
470# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو المديني (قال: حدثنا يحيى بن سعِيد) بكسر العين المهملة، هو القطان (قال: حدثنا الجُعَيْد)؛ بِضَمِّ الجيم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، آخره دال مهملة، ويقال له: جعيد أيضًا؛ بدون الألف واللَّام، ويقال له: الجعد أيضًا؛ بدون التصغير، وهو اسمه الأصلي، وكذا وقع في رواية الإسماعيلي: (الجعد) (بن عبد الرحمن) بن أوس، وهو ثقة (قال: حدثني) بالإفراد (يَزِيد) بفتح التحتية أوله، وكسر الزاي (ابن خُصَيْفة)؛ بِضَمِّ الخاء المعجمة، وفتح الصَّاد المهملة، وسكون التحتية، وبالفاء: ابن أخي السائب المذكور فيه، وخُصَيْفة جده، وأبوه عبد الله بن خُصَيْفة، وقد نُسب إلى جده، (عن السائب) بالسين المهملة (بن يَزِيد)؛ بفتح التحتية أوله، من الزيادة: هو الكندي الصَّحابي، وهو عم يزيد ابن خُصَيْفة، وروى الجعيد عن السائب بدون واسطة في باب (استعمال فضل وضوء الناس)، وهنا روى عنه بواسطة يزيد، وروى حاتم بن إسماعيل هذا الحديث عن الجعيد عن السائب بلا واسطة، أخرجه الإسماعيلي، وصح سماع الجعيد من السائب كما ذكرنا الآن، فلا يكون هذا الاختلاف قادحًا، وروى عبد الرزاق هذا من طريق أخرى عن نافع قال: كان عمر يقول: لا تكثروا اللغط، فدخل المسجد؛ فإذا هو برجلين قد ارتفعت أصواتهما، فقال: إنَّ مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت ... ؛ الحديث، وهذا فيه انقطاع؛ لأنَّ نافعًا لم يدرك هذا الزمان، كذا قاله إمام الشَّارحين، (قال) أي: السائب بن يَزِيد: (كنت قائمًا)؛ بالقاف للأكثرين، وفي رواية: (نائمًا)؛ بالنُّون، ويؤيد هذه الرواية ما ذكره الإسماعيلي عن أبي يعلى: حدثنا محمَّد بن عباد: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن الجعد، عن السائب قال: (كنت مضطجعًا)، قاله إمام الشَّارحين، وقال في «المنحة»: (وروي: «مضطجعًا»، وظاهره هنا أنَّه مُدْرَج) انتهى.
قلت: هذا الظَّاهر ليس بظاهر؛ لأنَّه رواية هنا أيضًا، وليس فيه دليل على الإدراج؛ فافهم، واعرفه.
(في المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد، (فحَصَبَني)؛ بفتحات، من حصبت الرجل أحصِبه _بالكسر_؛ أي: رميته بالحصباء، قاله إمام الشَّارحين، ومثله في «الصِّحاح» (رجلٌ) بالتنوين، (فنظرت) أي: إلى الرجل الحاصب؛ (فإذا هو عمر بن الخطاب) أمير المؤمنين القرشي رضي الله عنه، قال إمامنا الشَّارح: (كلمة «إذا» للمفاجأة، وهو مبتدأ، و «عمر» خبره، ويروى: «فإذا عمر بن الخطاب»، فعلى هذا «عمر» مبتدأ، وخبره محذوف؛ تقديره: فإذا عمر حاضر أو وقف) انتهى.
(فقال) أي: عمر للسائب: (اذهب فائتني بهذين)؛ يعني: بهذين الشخصين، وكانا ثقفيين [1]، كذا في رواية عبد الرزاق، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني: لم يعلم اسمهما، وهو كذلك؛ فافهم.
(فجئته بهما) أي: فأتيت عمر بالشخصين، (قال): ولأبوي ذر والوقت: (فقال) أي: عمر رضي الله عنه: (مَن) ولأبي الوقت وابن عساكر: (ممن) (أنتما؟ أو من أين أنتما؟) كلمة (أو) فيه للشك من الراوي، والأولى استفهام عن ذات الشخصين، والثانية عن قبيلتهما، والثالثة عن مكانهما، (قالا) أي: الشخصان: (من أهل الطَّائف)، وهذا يصلح جوابًا عن الأخيرين بلا ريب، وعن الأول بتكلف؛ فافهم.
والطَّائف: بلد بالحجاز من أعمال مكة المشرفة على يومين منه، قيل: بينهما ستون ميلًا، نسب إليها كثير من العلماء، وهي مدينة صغيرة منحصرة، مياهها عذبة، وهواؤها معتدل صحيح، وضياعها متصلة البطيح، باردة الماء، كثيرة الفواكه، وبها مآثر نبوية، كذا في «القاموس».
وقال الأمساطي: ومن أرض الحجاز: الطَّائف، وهي مدينة صغيرة على ظهر جبل قريب من مكة، فيها فواكه ومياه جارية، ويحمد فيه الماء، وليس في الحجاز مكان يحمد فيه الماء سواها).
وقد سكنها ثقيف، وهو قسي بن منبه بن معد بن يقدم بن أقصى بن إياد بن نزار [2] بن معد بن عدنان، ومن فضلهم ما رواه النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت ألَّا أقبل هدية إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي».
وفي «الجامع الصغير» للأسيوطي: «أول من أشفع له من أمتي: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل الطَّائف»، وأخرجه الطَّبراني في «الكبير» من حديث عبد الله بن جعفر.
وفي حديث طويل: «الطَّائف قرية يونس بن متى عليه السَّلام»، وأشار إليه في قوله تعالى: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، قالوا: هما مكة والطَّائف، ومن فضلها [3] ما في «البيضاوي» في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ} [القلم: 48]: نزلت حين هم عليه السَّلام بالدعاء على ثقيف.
وروى صاحب «الفائق»: أنَّه عليه السَّلام قال: «لا يحب ثقيفًا إلا مؤمن، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، ولا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من ثقيف أحد»؛ تكرمة لهم، وتمامه في «الطيف الطَّائف بفضل الطَّائف» للشيخ محمَّد بن علان الصديقي؛ فيراجع.
(قال) أي: عمر رضي الله عنه: (لو كنتما من أهل البلد) أي: المدينة المنورة؛ (لأوجعتكما)؛ أي: جَلْدًا، كما هو في رواية الإسماعيلي؛ يعني: لعدم عذركما، ففيه _كما قاله إمام الشَّارحين_: ما يدل على جواز قبول اعتذار أهل الجهل بالحكم إذا كان في شيء يخفى مثله، انتهى.
قال العجلوني: (وهو يدل على أنَّه تقدم نهيه عن ذلك) انتهى.
قلت: هذا فاسد الاعتبار، فإنَّه ليس فيه ما يدل على تقدم النَّهي؛ لأنَّه يجوز أن يكون ذلك أول الأمر بالنَّهي، ويدل عليه أنَّهما جهلا الحكم؛ لأنَّه لم يصدر، ولم يتقدم، فلو كان النَّهي معلومًا؛ لما فعلا ذلك؛ فليحفظ.
ثم بيَّن سبب الجلد بقوله: (ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله) وللأصيلي: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) وهذا خطاب لهذين الشخصين، وهي جملة مستأنفة لا محل لها، وهي في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، كأنَّهما قالا: لم توجعنا؟ قال: لأنَّكما ترفعان ... إلخ.
فإن قلت: ما وجه الجمع في (أصواتكما) مع أن الموجود صوتان لهما؟
قلت: المضاف المثنى معنًى إذا كان جزء ما أضيف إليه الأفصح أن يذكر بالجمع كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، ويجوز إفراده؛ نحو: أكلت رأس شاتين، والتثنية مع أصالتها قليلة الاستعمال، وإن لم يكن جزؤه؛ فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية؛ نحو: سلَّ الزيدان سيفهما، فإن أمن اللبس؛ جاز جعل المضاف بلفظ الجمع؛ كما في قوله عليه السَّلام: «يعذبان في قبورهما».
وفي رواية الإسماعيلي: (برفعكما أصواتكما)؛ أي: بسبب رفعكما أصواتكما، كذا قرره إمام الشَّارحين.
وزعم ابن حجر أنَّ هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأنَّ عمر لا يتوعد الرجلين بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي، انتهى.
وردَّه إمامنا الشَّارح فقال: (لا نسلم ذلك؛ لأنَّه يجوز أن يكون ذلك باجتهاده ورأيه) انتهى.
%ص 676%
قلت: وهذا هو الظَّاهر؛ لأنَّه لم يتقدم نهي عن ذلك أصلًا، ولهذا قال العجلوني: وما ذكره ابن حجر؛ فيه وقفة؛ أي: من حيث إنَّ الظَّاهر أنَّ ذلك كان منه بطريق الاجتهاد والرأي، لا من طريق السَّماع من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه أنَّه لو كان بطريق السَّماع؛ لكان يقول: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو أَمَرَ، أو نَهَى، فحيث لم يذكر شيئًا من ذلك؛ عُلِم أنَّه بطريق الاجتهاد كما لا يخفى؛ فافهم.
وفي هذا الحديث دلالة على منع رفع الصوت في المساجد، وأنَّه غير جائز؛ لأنَّه بني للصلاة وتلاوة القرآن، وهي تكون بالسَّكينة، والوقار، والتدبر لمعاني القرآن، ورفع الصوت ينافي ذلك، ويشغل المصلين، ويلهيهم؛ فهو لا يجوز.
وقال ابن بطال: (قال بعضهم: أمَّا إنكار عمر رضي الله عنه؛ فلأنَّهما رفعا أصواتهما فيما لا يحتاجان إليه من اللغط الذي لا يجوز في المسجد، وإنَّما سألهما من أين أنتما؟ ليعلم أنَّهما إن كانا من أهل البلد، وعلما أنَّ رفع الصوت في المسجد باللغط فيه غير جائز؛ زجرهما وأدبهما، فلما أخبراه أنَّهما من غير البلد؛ عذرهما بالجهل) انتهى.
وقال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للتَّرجمة في أحد احتماليها وهو المنع، وفيه: جواز تأديب الإمام من يرفع صوته في المسجد باللغط، ونحو ذلك) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (ثقفيان)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (نوار)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (فضله)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ثقفيان)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (نوار)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (ثقفيان)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (نوار)، وهو تحريف.
(1/792)
[حديث: أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا له عليه]
471# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد) هو ابن صالح المصري، كما وقع في رواية ابن شبويه عن الفربري، وجزم به ابن السكن والحاكم في «المدخل»، وقال الكلاباذي: (قال ابن منده الأصفهاني: كل ما قال البخاري في «الجامع»: أحمد عن ابن وهب؛ فهو ابن صالح المصري، وقيل: إنَّه أحمد بن عيسى التستري، ولا يخلو أن يكون واحدًا منهما؛ كذا قرره إمامنا الشَّارح (قال: حدثنا) ولأبي الوقت وابن عساكر: (أخبرنا) (ابن وهب) هو عبد الله بن وهب المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس بن يزيد) هو الأيلي، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني التَّابعي (قال: حدثني) بالإفراد (عبد الله بن كعب بن مالك) هوالأنصاري: (أَنَّ) _بفتح الهمزة_ أباه (كعب بن مالك) هوالأنصاري السلمي المدني الشاعر، أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، وأنزل فيهم: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]، مات بالمدينة سنة خمسين، وكان ابنه عبد الله قائده حين عَمِي رضي الله عنهما (أخبره) أي: أخبر كعبُ ابنَه عبد الله (أنَّه) أي: أنَّ كعبًا (تقاضى) أي: طالب (كعب بن أبي حدرد) بمهملات: هو عبد الله بن سلامة، كما صرح به المؤلف في إحدى رواياته، وهو صحابي على الأصح، و (تقاضى) على وزن (تفاعل)، وأصله لمشاركة أمرين فصاعدًا؛ نحو: تشاركا، قال الكرماني: (هو متعد إلى مفعول واحد، وهو الابن)، قال إمام الشَّارحين: (إذا كان «تفاعل» من «فاعل» المتعدي إلى مفعول واحد؛ كضارب؛ لم يتعد، وإن كان من المتعدي إلى مفعولين؛ كجاذبته الثوب؛ يتعدى إلى واحد) انتهى، (دينًا) منصوب بنزع الخافض؛ أي: بدين، قاله الكرماني، وإنما وجه بهذا؛ لأنَّا قلنا: إنَّ (تفاعل) إذا كان من المتعدي إلى مفعولين؛ لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، قاله الشَّارح، (له عليه) ولأبوي ذر والوقت: (كان له عليه)؛ أي: كان الدين لكعب بن مالك على كعب بن أبي حدرد، والجملة محلها نصب صفة (دينًا) (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في زمن حياته (في المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد، وهو متعلق بـ (تقاضى)، (فارتفعت) أي: علت (أصواتهما) من قبيل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، ويجوز اعتبار الجمع في صوتيهما باعتبار أنواع الصوت، قاله الشَّارح، (حتى سمعها)؛ أي: أصواتهما، وللأصيلي: (حتى سمعهما)؛ أي: كعبًا وابن أبي حدرد باعتبار صوتيهما (رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقوله: (وهو في بيته) جملة اسمية بالواو محلها النصب على الحال من الرسول الأعظم عليه السَّلام.
قال القسطلاني: (ولم ينكر عليهما رفع أصواتهما في المسجد؛ لأنَّ ذلك لطلب حق ولا بد فيه من رفع الصوت كما لا يخفى) انتهى.
قلت: إنَّما لم ينكر عليهما ذلك؛ لأنَّهما في حال المخاصمة؛ فخشي أن يقذف الشَّيطان في قلوبهما شيئًا، وطلب الحق لا يلزم أن يكون بعنف ورفع صوت؛ لأنَّه يجوز أن يكون بسهولة وسكينة، لا سيما في المسجد بحضرة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما دل عليه أحاديث يأتي بيانها، والمطلق محمول على المقيد، والحاظر مقدم على المبيح؛ فافهم.
(فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعل المراد بـ (فخرج) [1]: أراد الخروج إليهما ليظهر جعل قوله: (حتى كشف سجف حجرته) _أي: ستر باب بيته_ غاية له، ويحتمل تعلقه بقوله: (فارتفعت أصواتهما)، وقد سبق أنَّه عليه السَّلام مر بهما، فيكون المعنى: أنَّه عليه السَّلام لما سمع صوتهما؛ خرج من البيت لأجلهما، ومر بهما، فلا تنافي بين الروايتين؛ فافهم.
وقال ابن سيده: (السجف؛ بالسين المهملة، والجيم، والفاء: الستر، وقيل: الستران المقرونان بينهما فرجة)، كما قدمناه؛ فافهم.
(ونادى) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (يا كعبُ بنَ مالك)؛ بِضَمِّ (كعب)؛ لأنَّه علم مفرد، ويجوز فتحه إتباعًا، وأمَّا (بنَ)؛ فهو منصوب لا غير؛ لأنَّه مضاف، ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: (ونادى كعب بن مالك) قال: يا كعب؛ (قال): وللأصيلي (فقال)؛ بالفاء؛ أي: كعب: (لبيك يا رسول الله)؛ تثنية اللب؛ وهو الإقامة، وهو مفعول مطلق يجب حذف عامله، وهو من باب الثنائي الذي للتأكيد والتكرار، ومعناه: لبًّا بعد لبٍّ، أي أنا مقيم على طاعتك وإجابتك بعد إجابة، (فأشار) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بيده) بالإفراد؛ أي: إليه (أن ضع): على وزن (فع)؛ أمر من وضع يضع (الشطر)؛ أي: النصف، كما صرح به الأعرج في روايته (من دينك) وفي رواية الطَّبراني من حديث زمعة بن صالح، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم مرَّ به، وهو ملازم رجلًا [2] في أوقيتين ... ؛ الحديث، فعُلِم منه أنَّ الدَّين كان أوقيتين؛ فافهم.
(قال كعب: قد فعلت يا رسول الله)؛ أي: وضعت عنه الشطر، وهذا مبالغة في الامتثال بالأمر؛ لأنَّه أتى بـ (قد) المفيدة لتحقيق الأمر وتأكيده، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) مخاطبًا لابن أبي حدرد على سبيل الأمر: (قم فاقضه)؛ أي: فادفع له الشطر الثاني الذي هو حقه بعد الوضع، وإنَّما أمره بذلك؛ لئلا يجتمع على رب الدَّين الحط والتأجيل.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للتَّرجمة في الاحتمال الثاني، وهو عدم المنع) انتهى، أي: يدل على جواز رفع الصوت في المسجد؛ لأنَّهما لما رفعا أصواتهما فيه؛ لم ينكره النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم عليهما؛ لأنَّه كان لحاجة، وأنَّ حديث عمر يدل على عدم الجواز، فيحمل على ما لا يحتاج إليه، ولهذا أنكر عليهما عمر، وأراد ضربهما، لكن عَذَرهما للجهل.
قال إمام الشَّارحين: (وقد وَرَد في حديث واثلة عند ابن ماجه يرفعه:
%ص 677%
«جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم»، وحديث مكحول عند أبي نعيم الأصبهاني عن معاذ مثله، وحديث جبير بن مطعم، ولفظه: «ولا ترفع [فيه] الأصوات»، وكذا حديث ابن عمر عند أحمد.
وأجيب: بأن هذه الأحاديث ضعيفة، فبقي الأمر على الإباحة، وفيه نظر؛ لأنَّ الأحاديث الضعيفة تتعاضد وتتقوى إذا اختلفت طرقها ومخرجها، والأولى أن يقال: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشًا، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش، وقال مالك: لا بأس أن يقضي الرجل في المسجد دينًا، وأمَّا التجارة والصرف؛ فلا أحبه) انتهى.
وقال ابن بطال: (وفيه دلالة على إباحة رفع الصوت في المسجد ما لم يتفاحش؛ لعدم إنكاره عليه السَّلام) انتهى.
وزعم العجلوني عنه أنَّ مالكًا كرهه مطلقًا سواء كان في العلم أو غيره، انتهى.
قلت: وهو مخالف لما نقله إمام الشَّارحين وابن بطال عنه، ولعله قول شاذ عنده؛ لأنَّ مالكًا كان يلقي الحديث في مسجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ويحضره الجم الغفير، فيحتاج إلى رفع صوته؛ فافهم.
وأباح رفع الصوت في المسجد الإمام الأعظم رضي الله عنه، قال ابن عيينة: (مررت بأبي حنيفة وهو مع أصحابه في المسجد، وقد ارتفعت أصواتهم، فقلت: يا أبا حنيفة؛ الصوت لا ينبغي أن يرفع فيه، فقال: دعهم، فإنَّهم لا يفقهون إلا بهذا).
وقال ابن الملقن: (وفي خبر لا يُقوَّى: أنَّه عليه السَّلام نهى عن رفع الصوت في المساجد، وإنشاد الشعر، وطلب الضالة، والصفقة في البيوع) انتهى.
والحاصل: أنَّ أحاديث النَّهي كلها ضعيفة لا يحتج بها، فبقي الأمر على التفصيل الذي ذكره إمام الشَّارحين، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (بيخرج)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (رجل)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (بيخرج)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (بيخرج)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/793)
(84) [باب الحلق والجلوس في المسجد]
هذا (باب) حكم (الحِلَق) وقوله: (والجلوس) من عطف العام على الخاص (في المسجد) اللَّام فيه للجنس؛ أي: في أي مسجد كان، والمراد بالحكم الجواز؛ يعني: يجوز ذلك خصوصًا إذا كان لعلم، أو ذكر، أو قراءة قرآن؛ لحديث الباب، و (الحِلَق)؛ بكسر الحاء المهملة، وفتح اللَّام، كذا قاله الخطابي، ى وقال ابن التين: (بفتح الحاء واللَّام، جمع حلقة؛ مثل: تمرة وتمر، ونسب العجلوني الأول لرواية الأكثرين، والثاني لرواية ابن عساكر؛ فتأمل، واللَّام مفتوحة على كل حال).
وقال إمام الشَّارحين: (وفي «المحكم»: الحلقة: كل شيء استدار؛ كحلقة الحديد، والفضة، والذهب، وكذا هو في الناس، والجمع: حلاق على الغالب، وحلق على النادر؛ كهضبة وهضب، والحلق عند سيبويه: اسم للجمع، وليس بجمع؛ لأنَّ «فعلة» ليست مما يكسر على «فعل»، ونظير هذا ما حكاه من قولهم: فلكة وفلك، وقد حكى سيبويه في الحلَقة فتح اللَّام، وأنكرها ابن السكيت وغيره، وقال اللحياني: حلْقة الباب وحلَقته؛ بإسكان اللَّام وفتحها، وقال كراع: حلقة القوم وحلقتهم [1]، وحكي: حلقة القوم وحلاق، وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء: حلَقة في الواحد بالتحريك، والجمع: حلقات، وفي «الموعب»: الحلق: مؤنثة في القياس، إلا أنَّي رأيته في رَجَزِدُكين مذكرًا، وبلغني: أنَّ بعضهم يقول: الحلَقة؛ بالتحريك، وهو لغة قليلة، فجاء التذكير على هذا، وحكى مكي عن الخليل: حلَقة؛ بالتحريك، قال الفرزدق:
يا أيها الجالس وسط الحلَقة ... أفي زنًى جلدت أم في سرقة
وفي «المجرد»: حلقة القوم وحلقة، والجمع: حلق وحلق وحلاق) انتهى.
وفي «القاموس»: (حلَقة الباب والقوم، قد تفتح لامها وتكسر، وليس في الكلام: حلقة _محركة_ إلا جمع حالق، أو لغة ضعيفة، والجمع: حلَق_ محركة وكبدر_ وحلقات؛ محركة وبكسر اللَّام) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (وحلقهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 678%
==================
(1/794)
[حديث: مثنى مثنى فإذا خشي الصبح صلى واحدة]
472# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا بِشْر) بكسر الموحَّدة، وسكون المعجمة (ابن المفضل)؛ بِضَمِّ الميم على صيغة المفعول: هو ابن لاحق الرقاشي البصري، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة، (عن عُبيد الله)؛ بِضَمِّ العين المهملة على صيغة التصغير، وللأصيلي: (حدثنا عبيد الله) هو ابن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (عن نافع) هو مولى ابن عمر، (عن) عبد الله (ابن عمر) هو ابن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما: أنَّه (قال: سأل رجل): قال إمام الشَّارحين: لم يعرف اسمه (النَّبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وقوله: (وهو على المنبر): جملة حالية من النَّبي عليه السَّلام: (ما ترى): يحتمل أن يكون من الرأي؛ أي: ما رأيك؟ وأن يكون من الرؤية التي هي العلم والمراد لازمه؛ أي: ما حكمك؟ فإنَّ العالم يحكم بعلمه شرعًا؛ فافهم (في صلاة الليل)؛ أي: هل هي تصلى أربعًا أربعًا أو ركعتين ركعتين؟ (قال)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم مجيبًا للسائل، وهو على منبره في مسجده بقوله: (مثنى مثنى) مقول القول، وهو في الحقيقة جملة؛ لأنَّ مقول القول يكون جملة، فالمبتدأ محذوف؛ تقديره: صلاة الليل مثنى مثنى؛ أي: اثنين اثنين، والثاني تأكيد للأول، وهو غير منصرف؛ لأنَّ فيه العدل التحقيقي والصِّفة، قاله إمام الشَّارحين.
وقال الزركشي: (واستشكل بعضهم التكرار، فإنَّ القاعدة فيما عدل من أسماء الأعداد ألَّا يكرر، فلا يقال: جاء القوم مثنى مثنى.
وأجيب: بأنَّه تأكيد لفظي لا لقصد التكرار، فإنَّ ذلك مستفاد من الصيغة)، ثم قال: إنَّ أصل السؤال فاسد، بل لا بد من التكرار إذا كان العدل في لفظ واحد؛ كمثنى مثنى، وثُلاث ثُلاث، قال الشاعر:
هنيئًا لأرباب البيوت بيوتهم ... وللآكلين التمر مخمس مخمسا
ومنه الحديث، فإن وقعت بين لفظين أو ألفاظ مختلفة؛ لم يجز التكرار؛ كـ {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}، والحكمة في ذلك: أنَّ ألفاظ العدد المعدولة مشروطة بسبق ما يقع فيه التفصيل تحقيقًا؛ نحو: {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1]، أو تقديرًا؛ نحو: «صلاة الليل مثنى مثنى»، فإذا أريد تفصيله من نوع واحد؛ وجب تكراره؛ لأنَّ وقوعه بعده إمَّا على جهة الخبرية، أو الحالية، أو الوصفية، فحمله عليه يقتضي مطابقة له، فلا بد من تكراره لتحصل الموافقة له؛ لأنَّه لا يحسن وصف الجماعة باثنين وإن كان من ألفاظ
%ص 678%
مقدرة متعددة، فالمجموع تفصيل للمجموع، فكان وافيًا به، فلأجل ذلك لم يكرر؛ نحو قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وإنَّما كان العدل في هذه الألفاظ من غير تكرار؛ ليصيب كل ناكح ما شاء من هذه الأعداد؛ إذ لو كان من لفظ واحد؛ لاقتصر الناكحون على ذلك العدد، انتهى.
وردَّه الدماميني فقال: (لا أعرف أحدًا من النحاة ذهب إلى هذا التفصيل الذي ذكره، وفي «الصِّحاح»: إذا قلت: جاءت الخيل مثنى؛ فالمعنى: اثنين اثنين؛ أي: جاؤوا مزدوجين، فهذا مما يقدح في إيجاب التكرير في اللَّفظ الواحد، ثم بناء ما ذكره على الحكمة التي أبداها بناء ضعيف؛ لأنَّ المطابقة حاصلة بدون تكرير اللَّفظ المعدول من جهة المعنى، وذلك لأنَّك إذا قلت: جاء القوم مثنى؛ إنَّما معناه: اثنين اثنين ... وهكذا؛ فهو بمعنى: مزدوجين، كما قال الجوهري، ولا شك في صحة حمل مزدوجين على القوم، ثم تكرير اللَّفظ المعدول لا يوجب المطابقة؛ لأنَّ الثاني كالأول سواء، وليس ثم حرف يقتضي الجمع حتى تحسن المطابقة التي قصدها، فلا يظهر وجه صحيح لما قاله وبناه) انتهى.
قلت: وقد سلمه الشَّارحون، فكان أصل السؤال صحيحًا، والتكرار للتأكيد كما سبق؛ فافهم.
قلت: بقي على الدماميني أنَّه لا يلزم من عدم معرفته التفصيل عن أحد من النحاة ألَّا يكون وجهًا صحيحًا مذهبًا لأحد من النحاة؛ لأنَّه لم يُحِط بمذاهب النحو جميعها، والمثبِت مقدَّم على النافي، وما ذكره عن «الصِّحاح» لا يقدح في إيجاب التكرار؛ لأنَّه مبني على اللَّفظ الواحد، وههنا المعنى مبني على تكرار اللَّفظ، والحكمة في الآية مبنية [1] على وجه صحيح، لأنَّ المطابقة حاصلة بالتكرار وعدمه، على أنَّها [2] ليست حاصلة من جهة اللَّفظ، ولا يلزم وجود حرف يقتضي الجمع، لأنَّ الحرف وإن كان غير موجود؛ فهو مقدر الوجود؛ لأجل صحة المعنى المراد منه على أنَّه قد أيد كلامه بآيات من القرآن الفصيح مع المعنى الصَّحيح، والحروف تعمل موجودة ومقدرة، ويستعار بعضها مكان بعض، كما لا يخفى؛ فافهم.
(فإذا خشي أحدُكم) هكذا رأيناه في النُّسخ الصَّحيحة بذكر (أحدكم) المرفوع على الفاعلية، وعليه شرح إمام الشَّارحين، ووقع في بعض النُّسخ بدونه، وعليها شرح القسطلاني، فجعل مرجع فاعل (خشي) المصلي (الصبح) أي: طلوع الفجر الصَّادق (صلى واحدة) أي: صلى ركعة واحدة مع شفع قبلها متصلًا بها، (فأوترت) على صيغة الماضي؛ أي: تلك الصلاة المذكورة (له) أي: للمصلي (ما صلى) جملة محلها نصب مفعول (أوترت)، والفاعل: الضمير الذي يرجع إلى الصلاة، والعائد إلى (ما) الموصولة أو الموصوفة محذوف؛ أي: صلاه.
واستدل الشَّافعي على أنَّ أقل الوتر ركعة واحدة لهذا الحديث، وعليه فإسناد الإيتار إلى الركعة هنا وفي الآتي إسناد مجازي عقلي؛ لأنَّ الموتر الشخص.
وهذا الاستدلال خلاف الظَّاهر، ويدل على فساده: (أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى سعيدًا يوتر بركعة، فقال: ما هذه البتيراء؟ تشفعها أو لأؤدبنك)، وروي: (أنَّ سعد بن أبي وقاص أوتر بركعة، فقال له عبد الله بن مسعود: ما هذه البتيراء؟ ما أجزأت ركعة قط، وحلف على ذلك أيمانًا)، رواه أصحاب السنن على شرط الشيخين، وسيأتي لذلك مزيد؛ فافهم.
وقوله: (وإِنَّه) بكسر الهمزة؛ أي: ابن عمر، جملة مستأنفة (كان يقول) من كلام نافع، فالضمير يرجع إلى ابن عمر، والقائل نافع؛ فافهم: (اجعلوا آخر صلاتكم) وقوله: (بالليل) ثابت في النُّسخ الصَّحيحة، وعليها شرح إمام الشَّارحين، وعزاها إلى رواية الكشميهني والأصيلي، ساقط في بعض النُّسخ؛ فافهم، (وترًا): زاد ابن عساكر وأبو الوقت: (فقط)، ثم أكد ذلك بقوله: (فإن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أمر به)؛ أي: بالوتر أو بالجعل الذي دل عليه قوله: (اجعلوا).
قال إمامنا الشَّارح: (ومطابقة هذا الحديث للجزء الثاني من التَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّ كونه عليه السَّلام على المنبر يدل على جماعة جالسين في المسجد، ومنهم الرجل الذي سأله عن صلاة الليل) انتهى.
وقال ابن بطال: (شبَّه البخاري في حديث جلوس الرجال في المسجد حوله عليه السَّلام وهو يخطب بالتحلق والجلوس في المسجد للعلم) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (فعلى هذا طابق الحديث جزأي التَّرجمة كليهما) انتهى.
قلت: أي: فإنَّ الظَّاهر أنَّه عليه السَّلام لا يكون في المسجد وهو على المنبر يخطب إلا وعنده جماعة جلوس محلقين به كالمتحلقين؛ فافهم.
وفي الحديث: جواز الحِلَق في المسجد لسماع العلم وقراءته، وكذا للذكر، وقراءة القرآن، ونحو ذلك.
فإن قلت: روى مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق، فقال: «ما لي أراكم عزين؟»، فهذا يعارض ذاك.
قلت: تحلقهم هذا كان لغير فائدة ولا منفعة، بخلاف تحلقهم في ذاك؛ لأنَّه كان لسماع العلم والتعلم، فلا معارضة.
وفيه: أنَّ الخطيب إذا سئل عن أمر الدِّين؛ أنَّ له أن يجاوب من سأله، ولا يضر ذلك خطبته.
وفيه: أنَّ صلاة الليل ركعتان.
قلت: ولا دلالة فيه؛ لأنَّه عليه السَّلام كان حكيمًا ينظر للسائل، ويجيبه على قدر طاقته على الطاعة، فجوابه عليه السَّلام له بذلك لا يقتضي أنَّ الأفضل في صلاة الليل مثنى؛ لأنَّ هذه واقعة حال مع علمه عليه السَّلام من السائل أنَّه لا يقدر على أزيد من ركعتين، فأجابه على حسب حاله، فلا يصلح الحديث دليلًا لمن استدل به؛ فافهم.
واختلف في النوافل، ومذهب الإمام الأعظم: أنَّ الأفضل الأربع ليلًا أو نهارًا، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن: الأفضل بالليل ركعتان وبالنهار أربع.
وقال مالك والشَّافعي وأحمد: الأفضل أن يكون مثنى مثنى ليلًا ونهارًا؛ لحديث الباب، ولا حجة لهم فيه؛ لأنَّه وارد على سبب، ومع ذلك فهو واقعة حال، وقد طرقه الاحتمال والتأويل، والدليل إذا وجد به ذلك؛ سقط الاستدلال به؛ فافهم.
وأما الإمام الأعظم؛ فاحتج في صلاة الليل بما رواه أبو داود في «سننه» من حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّها سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، فقالت: (كان يصلِّي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه ... )؛ الحديث بطوله، وفي آخره: (حتى قُبض على ذلك)، واحتج في صلاة النهار بما رواه مسلم من حديث معاذة: أنَّها سألت عائشة رضي الله عنها: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي الضُّحى؟ قالت: (أربع ركعات يزيد ما شاء)، ورواه أبو يعلى في «مسنده»، وفيه: (لا يفصل بينهنَّ بسلام).
فإن قلت: روى الأربعة عن ابن عمر: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل مثنى مثنى».
قلت: لمَّا رواه الترمذي؛ سكت عنه، إلا أنَّه قال: اختلف أصحاب شعبة فيه؛ فرفعه بعضهم، ووقفه بعضهم، ورواه الثقات عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه صلاة النهار.
وقال النسائي:
%ص 679%
(هذا الحديث عندي خطأ)، وقال في «سننه الكبرى»: (إسناده جيد، إلا أنَّ جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فيه، فلم يذكروا فيه النهار)؛ منهم: سالم، ونافع، وطاووس، والحديث في «الصَّحيحين» من حديث جماعة عن ابن عمر، وليس فيه ذكر النهار، وروى الإمام أبو جعفر الطَّحاوي عن ابن عمر: (أنَّه كان يصلِّي بالليل ركعتين، وبالنهار أربعًا)، ثم قال: فمحال أن يروي ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ثم يخالفه، فعلم بذلك أنَّه كان ما روي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا أو كان موقوفًا غير مرفوع.
فإن قلت: روى أبو نعيم في «تاريخ أصفهان»، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى»، وروى إبراهيم الحربي في «غريب الحديث» عنه عليه السَّلام قال: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى».
قلت: الذي رواه البخاري ومسلم أصح منهما، وأقوى، وأثبت، وعلى تقدير التسليم؛ فنقول: معناه: شفعًا لا وترًا من إطلاق الملزوم على اللازم مجازًا؛ جمعًا بين الدليلين، وفيه: فإنَّ قوله: (فإذا خشي الصبح؛ صلى واحدة) احتج به من يقول: إنَّ الوتر ركعة واحدة، وكذا بما رواه مسلم من حديث أبي مجلز قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «الوتر ركعة من آخر الليل»، وإليه ذهب عطاء، وابن المسيب، ومالك، والشَّافعي، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق، وداود، وجعلوا هذا الحديث أصلًا في الإيتار بركعة، إلا أنَّ مالكًا قال: ولا بد أن يكون قبلها شفع؛ ليسلِّم بينهن في الحضر والسفر، وعنه: لا بأس أن يوتر المسافر بواحدة، وكذا فعله سحنون، وقال ابن العربي: (الركعة الواحدة لم تشرع إلا في الوتر)، وفعله أبو بكر، وعمر، وعثمان، وسعد، وابن عبَّاس، ومعاوية، وأبي موسى.
وقال الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وسفيان الثَّوري، وأبو يوسف، ومحمَّد بن الحسن، وأحمد ابن حنبل في رواية، وعمر بن عبد العزيز، والحسن بن حي، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم: الوتر ثلاث ركعات لا يُسلِّم إلا في آخرهن كصلاة المغرب.
وقال ابن عبد البر: يروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبي أمامة، وحذيفة، والفقهاء السبعة، والعبادلة، وأبي هريرة رضي الله عنهم.
وأجابوا عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الحديث ونحوه: بأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «الوتر ركعة من آخر الليل» أن يكون ركعة مع شفع تقدمها، وذلك كله وتر، فتكون الركعة توتر الشفع المتقدم.
وقد بين ذلك آخر حديث الباب الذي احتج به هؤلاء، وهو قوله: «فأوترت له ما صلى»، وكذلك قوله عليه السَّلام في الحديث الثاني من هذا الباب: «فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت»، وآخر حديثهم حجة عليهم.
وروى الترمذي في «جامعه» عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ... )؛ الحديث.
وروى الحاكم في «مستدركه» عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، لا يقعد إلا في آخرهن).
وروى النسائي والبيهقي من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر).
وقال الحاكم: (لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر)، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه).
وروى الإمام أحمد من حديث عمران بن حصين: (أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ... )؛ الحديث.
وروى مسلم وأبو داود من رواية علي بن عبد الله بن عبَّاس عن أبيه: (أنَّه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ... )؛ فذكر الحديث، وفيه: (ثم أوتر بثلاث).
وروى النسائي من رواية يحيى بن الجزار عن ابن عبَّاس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي من الليل ثمان ركعات، ويوتر بثلاث).
وروى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن أبزى عن أُبي بن كعب رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات).
وروى ابن ماجه من رواية الشعبي قال: (سألت ابن عبَّاس وابن عمر رضي الله عنهم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالا: ثلاث عشرة؛ منها ثمان بالليل، ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر).
وروى الدارقطني في «سننه» من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وتر الليل ثلاث كوتر النهار؛ صلاة المغرب».
وروى محمَّد بن نصر المروزي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث).
وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن الحسن البصري رضي الله عنه قال: (أجمع المسلمون على أنَّ الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن).
فإن قلت: روي عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا توتروا بثلاث، وأوتروا بخمس أو بسبع، ولا تشبهوا بصلاة المغرب».
قلت: روي هذا موقوفًا على أبي هريرة كما روي مرفوعًا، ومع هذا هو معارض بحديث علي وعائشة ومن ذكرنا معهما من الصَّحابة.
وأيضًا فإنَّ قوله: (لا توتروا بثلاث): معناه: كراهة الوتر من غير تطوع قبله من الشفع، فيكون المعنى: لا توتروا بثلاث وحدها من غير أن يتقدمها شيء من التطوع الشفع، بل أوتروا هذه الثلاث مع شفع قبلها؛ ليكون خمسًا، وإليه أشار بقوله: (وأوتروا بخمس)، أو أوتروا هذه الثلاث مع شفعين قبلها؛ ليكون سبعًا، وإليه أشار بقوله: (أو بسبع)؛ أي: أوتروا بسبع ركعات؛ أربع تطوع، وثلاث وتر، ولا تفردوا هذه كصلاة المغرب ليس قبلها شيء من التطوع، وإليه أشار بقوله: (ولا تشبهوا بصلاة المغرب) في كونها ثلاث ركعات ليس قبلها شيء.
والنَّهي ليس بوارد على تشبه الذات بالذات، وإنَّما هو وارد على تشبيه الصِّفة بالصِّفة، ومع هذا فيما ذكره نفي أن تكون الركعة الواحدة وترًا [3]؛ لأنَّه أمر بالإيتار بخمس أو بسبع ليس إلا؛ فافهم.
فإن قلت: قال محمَّد بن نصر المروزي: (لم نجد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم خبرًا ثابتًا مفسرًا أنَّه أوتر بثلاث لم يسلِّم إلا في آخرهن، كما وجدنا في الخمس والسبع والتسع؛ غير أنَّا وجدنا عنه أخبارًا أنَّه أوتر بثلاث لا ذِكْر للتسليم فيها).
قلت: يرد عليه ما ذكرناه عن «المستدرك» من حديث عائشة: (أنَّه كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن)، وفي حديث أُبي بن كعب: (لا يسلم إلا في آخرهن)، وقد قيل: لعل محمَّد بن نصر لا يرى هذا ثابتًا.
قلت: هذا تعصب بارد
%ص 680%
لا يجدي، ولا يلزم من عدم رؤيته ثابتًا ألَّا يكون ثابتًا عند غيره؛ أي: ومع هذا فقد أثبته الجم الغفير من الحفاظ، وأجمع عليه المسلمون، وفيه أنَّ قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم وترًا): دليل على أنَّ ذلك يقتضي الوجوب؛ لظاهر الأمر به، ولكنه مستحب في حق من لا يغلبه النَّوم، فإن كان يغلبه ولا يثق بالانتباه؛ أوتر قبله، كذا قرره إمام الشَّارحين صاحب «عمدة القاري» رضي الله عنه، اللهم ارحمه وأجزه عنا خيرًا، فإنَّه أودع دقائق وحقائق مما لم يسبق إليه، وحقيق بأن يكون إمامًا للشارحين؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (وتر)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/795)
[حديث: مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر]
473# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو النعمان) هو محمَّد بن الفضل (قال: حدثنا حمَّاد) زاد الأربعة: (ابن زيد) هو ابن درهم أبو إسماعيل البصري، (عن أيوب) هو السختياني، (عن نافع) هو مولى ابن عمر، (عن) عبد الله (ابن عمر) هو ابن الخطاب رضي الله عنهما: (أَنَّ) بفتح الهمزة (رجلًا) لم يعرف اسمه (جاء إلى النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) وهو في مسجده النَّبوي يوم الجمعة كما يفهم من السياق (وهو يخطُب)؛ بِضَمِّ الطاء المهملة؛ أي: على منبره الشريف للناس، (فقال) أي: الرجل: (كيف صلاة الليل؟) أي: هل تصلى أربع ركعات أم ركعتين؟ (فقال) ولأبي ذر: (قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم مجيبًا له: (مثنى مثنى) مقول القول، وهو في الحقيقة جملة؛ لأنَّ مقول القول يكون جملة، فالمبتدأ محذوف؛ تقديره: صلاة الليل مثنى مثنى؛ أي: اثنين اثنين، والثاني تأكيد للأول، وهو غير منصرف؛ لأنَّ فيه العدل التحقيقي والصِّفة، أفاده إمامنا الشَّارح، (فإذا خشيت الصبحَ)؛ أي: طلوع الفجر الصَّادق، و (الصبحَ): منصوب مفعول (خشِيت)؛ بكسر الشين المعجمة، خطاب للرجل المذكور، ويلحق به غيره ممن يفعل ذلك.
وقول العجلوني: (خطاب لكل من يتأتى منه الخطاب): فيه نظر؛ لأنَّ وجود التَّاء تمنع ذلك؛ لأنَّها موضوعة للخطاب، والمخاطب هو الرجل المذكور لا غيره، نعم؛ مع عدم وجود التَّاء يحتمل ذلك، ولا رواية فيه، بل جميع الروايات على وجودها؛ فليحفظ.
(فأوتر بواحدة)؛ أي: بركعة واحدة بعد شفع قبلها متصلًا بها، فهو ثلاث ركعات؛ وهو الوتر، وقد بين ذلك أحاديث؛ منها: حديث عائشة، وعمران بن حصين، وغيرهما: (أنَّه عليه السَّلام كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن)، رواه أحمد والحاكم، وقال: (على شرط الشيخين)، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا؛ فافهم.
وقوله: (توترْ) مجزوم؛ لأنَّه جواب الأمر، ويروى: بالرفع على الاستئناف، وقوله: (لك) ثابت في رواية الكشميهني والأصيلي، كما قاله إمام الشَّارحين، ساقط عند غيرهم (ما قد صليت)؛ أي: الذي قد صليته، فكلمة (ما) الموصولة محلها نصب على المفعولية لـ (توتر)، وفاعله عائد إلى المخاطب لا إلى الواحدة؛ كما يدل عليه وجود التَّاء المخاطبة، وإن احتمل على بعد جعله للواحدة، وزيادة (لك) لا يدل عليه؛ لأنَّه لا مانع من وجود خطأ بين في الكلام؛ فافهم، وهذا يؤيد ما قلناه آنفًا؛ فافهم.
(فقال) وفي رواية: (وقال) (الوَلِيد بن كَثير)؛ بفتح الواو، وكسر اللَّام، و (كَثير) ضد القليل، فهما بالتكبير، هو أبو محمَّد القرشي المخزومي المدني، سكن الكوفة، وكان ثقة عالمًا بالمغازي، مات بها سنة إحدى وخمسين ومئة: (حدثني) بالإفراد (عُبيد الله)؛ بالتصغير: هو شقيق سالم؛ لقوله: (ابن عَبد الله)؛ بالتكبير: هو ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (أَنَّ)؛ بفتح الهمزة (ابن عمر) أي: والده المذكور (حدثهم) إنَّما أتى بلفظ: (حدثهم) بالجمع؛ إشارة إلى أنَّه لم يكن منفردًا عند التحديث به، قاله إمام الشَّارحين، وليس هو عبيد الله السَّابق، فإن ذاك يروي عن نافع، ولم يدرك ابن عمر؛ فليحفظ، (أنَّ رجلًا) بفتح الهمزة، ولم يعرف اسمه (نادى النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فسأله عن صلاة الليل هل تصلى أربعًا أم ركعتين؟ وأجابه بأنها: مثنى مثنى، (وهو) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (في المسجد)؛ أي: النَّبوي، والجملة حالية، والضمير يحتمل أن يعود على الرجل أو على النداء، والأقرب الأول؛ لأنَّ هذا التَّعليق وصله مسلم من طريق أبي أسامة عن الوليد، وهو بمعنى حديث نافع عن ابن عمر، فهو يؤيد أنَّ الضمير يعود عليه صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كان يخطب على منبره في مسجده؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وهذا علقه البخاري وأراد به بيان أنَّ ذلك كان في المسجد؛ لأنَّ صحة مطابقة الحديث للتَّرجمة به) انتهى، أي: فإنَّ الظَّاهر منه عليه السَّلام لا يكون في المسجد إلا وحوله جماعة جلوس محلقين به، وقال إمام الشَّارحين: (وبهذا يرد على الإسماعيلي حيث اعترض على البخاري بأنَّه ليس فيما ذكر دلالة على الجلوس في المسجد) انتهى.
وليس في هذا وسابقه دلالة على أنَّ صلاة الليل مثنى ومثله النهار؛ كما ذهب إليه المالكية، والشَّافعية، والحنابلة؛ لأنَّ هذه واقعة حال وردَّة على سؤال رجل، فأجابه عليه السَّلام على قدر طاقته واستطاعته، وإلا؛ فالأفضل الأربع ليلًا ونهارًا؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (أنَّها سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، فقالت: كان يصلِّي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله، فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه ... )؛ الحديث، رواه أبو داود في «سننه»، وفي آخره: (حتى قبض على ذلك)، ولما رواه مسلم من حديث معاذة: (أنَّها سألت عائشة: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي الضُّحى؟ قالت: أربع ركعات يزيد ما شاء)، ورواه أبو يعلى في «مسنده»، وفيه: (لا يفصل بينهنَّ بسلام)، وهذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين رضي الله عنه والجمهور، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن: الأفضل في الليل مثنى، وفي النهار أربع، وسيأتي مزيد لذلك في (النوافل) إن شاء الله تعالى.
==========
%ص 681%
==================
(1/796)
[حديث: ألا أخبركم عن الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله]
474# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المنزل الدمشقي الأصل [1] (قال: أخبرنا) ولابن عساكر والأصيلي: (حدثنا) (مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري البخاري، ابن أخي أنس لأمه، التَّابعي، المتوفى سنة اثنتين وثلاثين ومئة: (أنَّ أبا مُرَّة)؛ بضم الميم، وتشديد الرَّاء، واسمه يزيد (مولى عَقيل) بفتح العين المهملة (بن أبي طالب)، وقيل: مولى أخيه علي الصديق الأصغر، وقيل: مولى أختهما أم هانئ (أخبره عن أبي واقِد)؛ بالقاف المكسورة، والدَّال المهملة: هو الحارث بن عوف، وقيل: هو الحارث بن مالك، وقيل: هو عوف بن الحارث، الصَّحابي (اللَّيثي) _بالمثلَّثة_ البدري في قول، المتوفى بمكة سنة ثمان وستين، (قال) أي: أبو واقِد: (بينما رسول الله) وللأصيلي: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) وأصل (بينما): (بين)، زيدت عليها لفظة (ما)، وهي من الظروف التي لزمت إضافتها إلى الجملة، وفي رواية: (بينا)؛ بدون (ما)، وأصلها: (بين)، فاشبعت فتحة النُّون بالألف، والعامل فيه معنى المفاجأة (في المسجد)؛ أي: النَّبوي، والجار والمجرور حال من الرسول؛ كما قاله القسطلاني تبعًا لإمام الشَّارحين.
وزعم العجلوني أنَّه متعلق بخاص خبر المبتدأ؛ كـ (جالس)؛ للقرينة، ولا يخرجه ذلك عن الاستقرار؛ فتدبر.
زاد المؤلف في روايته في كتاب (العلم): (والناس معه)، وهو أصرح؛ لما ترجم له المؤلف؛ فافهم، والله أعلم.
%ص 681%
(فأقبل) جواب (بينما)، وفي رواية كتاب (العلم): (إذ أقبل)، وما ههنا أفصح؛ لقول الأصمعي: (لا يُستَفصَح مجيء «إذ» و «إذا» في جواب «بين»)، وبهذا ظهر فساد قول العجلوني: إنَّ جواب (بين) بـ (إذا) هو المعروف؛ فافهم، (ثلاثة نَفَر)؛ بالتحريك، ولم يُسَم واحد من الثلاثة؛ أي: ثلاثة رجال من الطريق، فدخلوا المسجد، كما في حديث أنس: (فإذا ثلاثة نفر مارين)، وللأصيلي: (فأقبل نفر ثلاثة)، (فأقبل اثنان) أي: من النفر الثلاثة (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إلى مجلسه، (وذهب واحد)؛ أي: منهم، وهو الثالث عطف على قوله: (فأقبل)؛ أي: مضى في طريقه منفردًا، (فأَمَّا)؛ بفتح الهمزة، وتشديد الميم: تفصيلية، والفاء تفصيحية؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ يعني: فإذا أردت جزاء كل واحد منهم؛ فأمَّا (أحدهما)؛ أي: أحد اللذين أقبلا إليه عليه السَّلام، وهو بالرفع مبتدأ، وخبره قوله: (فرأى فُرجة)؛ بِضَمِّ الفاء وفتحها، لغتان؛ وهي الخلل بين الشيئين، وفرق بينهما، فالضم: اسم للخلل بين الشيئين، والفتح: للتفصي من الهم، وهذا هو المشهور؛ والمعنى: أنَّه رأى خللًا في الحلقة، كما ثبت للأصيلي والكشميهني، (فجلس)؛ أي: في الفُرجة، وهو عطف على (رأى)، وفيه المطابقة للتَّرجمة، وأتى بالفاء في (فرأى)؛ لتَضَمُّن (أَمَّا) معنى الشرط.
(وأمَّا الآخَر)؛ بالمد وفتح الخاء المعجمة؛ أي: المغاير للأول، وهو الثاني من اللذين أقبلا؛ (فجلس خلفهم)؛ أي: خلف القوم، وكأنَّه لم يجد هناك فرجة يجلس فيها، وهو منصوب على الظرفية.
(وأمَّا الآخر)؛ بالمد وفتح الخاء المعجمة أيضًا، وهو الثالث الذي ذهب وحده؛ (فأدبر ذاهبًا)، من الإدبار؛ أي: التولي؛ يعني: ولَّى منصرفًا مستمرًا في ذهابه ولم يرجع، و (ذاهبًا) منصوب على الحال، (فلما فَرَغَ)؛ بفتح الفاء والرَّاء والغين المعجمة؛ أي: تمم وكمل (رسول الله صلى الله عليه وسلم) حديثه الذي كان مشتغلًا به من قراءة القرآن وتعليمه، أو العلم والأحكام، أو الذكر وفضله، أو الخطبة ونحوها؛ (قال) جواب (لما): (ألَا)؛ بالتخفيف، حرف تنبيه، والهمزة يحتمل أن تكون للاستفهام، و (لا) للنَّفي، والأظهر الأول (أخبركم عن الثلاثة) وللأصيلي: (عن النفر الثلاثة)؛ أي: ما جزاؤهم عند الله بما فعلوه، (أمَّا أحدهم)؛ بفتح الهمزة، وتشديد الميم، للتفصيل، و (أحدُهم): مرفوع على الابتداء، خبره قوله: (فأوى)؛ بهمزة مقصورة؛ أي: التجأ (إلى الله) سبحانه؛ حيث دخل مجلس النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، (فآواه) بهمزة ممدودة (الله إليه)؛ أي: جازاه بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه، ويؤويه يوم القيامة إلى ظل عرشه، فنسبة الإيواء إلى الله تعالى مجاز؛ لاستحالته في حقه تعالى، فالمراد لازمه؛ وهو إرادة إيصال الخير، ويسمى هذا المجاز مجاز المشاكلة والمقابلة.
(وأمَّا الآخَر)؛ بالمد وفتح المعجمة؛ (فاستحى)؛ أي: ترك المزاحمة حياء من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه؛ حيث جلس خلف القوم، وعند الحاكم: (ومضى الثاني قليلًا، ثم جاء فجلس)، قال إمام الشَّارحين: (والمعنى: أنَّه استحى من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث)، (فاستحى الله منه)؛ أي: بأن رحمه ولم يعاقبه، فجازاه بمثل ما فعل، وهذا أيضًا من قبيل المشاكلة؛ لأنَّ الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يُذَم به، وهو محال على الله تعالى، فيكون مجازًا عن ترك العقاب، وحينئذٍ فهو من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، انتهى.
(وأمَّا الآخر)؛ بالمد، وهو الثالث؛ (فأعرض)؛ أي: ولَّى مدبرًا عن مجلس النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، (فأعرض الله عنه)؛ أي: جازاه بأن سخط عليه وغضب ولم يرض منه، وهذا أيضًا من قبيل المشاكلة؛ لأنَّ الإعراض: هو الالتفات إلى جهة أخرى، وهو غير لائق بالله تعالى، فيكون مجازًا عن السخط والغضب، ويحتمل أنَّ هذا الرجل كان منافقًا، فأطلع اللهُ النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم على أمره وحاله، والمراد في مثل هذه الإطلاقات غاياتها ولوازمها، والعلاقة بين الحقيقي والمجازي اللزوم والقرينة الصَّادقة هو العقل، وفي رواية: (وأمَّا الآخر؛ فاستغنى، فاستغنى الله عنه)، كذا في «عمدة القاري».
وهذا الحديث سبق في باب (من قعد حيث ينتهي به المجلس) من كتاب (العلم)، وفيه المطابقة لما ترجم له خصوصًا في قوله: (فرأى فُرجة في الحلقة)؛ ففيه: جواز الحِلَق في المسجد للعلم، والذكر، وقراءة القرآن، ونحوها.
وفيه: أنَّ للخطيب إذا سئل أن يجيب في حال الخطبة، ولا يضر ذلك في خطبته.
وفيه: سد الفرج في حلق العلم؛ كما في الصلاة وصف القتال.
وفيه: ابتداء العالم جلساءه بالعلم قبل أن يُسأل عنه.
وفيه: الثناء على من زاحم في طلب الخير.
وفيه: مدح الحياء والثناء على صاحبه.
وفيه: ذم الزاهد في العلم وسماعه وأهله.
وفيه: جواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ [2] أحدًا.
وفيه: أنَّ من سبق إلى موضع من المسجد؛ فهو أحق به، فليس لأحد أن يقيمه عنه.
وفيه: ندب الجلوس حيث ينتهي به المجلس.
وفيه: أنَّ الإنسان إذا فعل قبيحًا؛ جاز أن ينسب إليه، وأنَّ من أعرض عن مجالسة العلماء؛ فإنَّ الله يعرض عنه، انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (التنيسي الأصل الدمشقي المنزل)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (يؤذي).
==================
[1] في الأصل: (التنيسي الأصل الدمشقي المنزل)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (التنيسي الأصل الدمشقي المنزل)، وليس بصحيح.
(1/797)
(85) [باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل]
هذا (باب) حكم (الاستلقاء): مصدر (استلقى)، وثلاثيه: لقى يلقى، فنقل إلى باب الاستفعال، فقيل: استلقى على قفاه، ذكره الجوهري في باب (اللقاء)، وذكر فيه: (واستلقى على قفاه)، ومصدره إذن يكون: استلقاء، وذكره ابن الأثير في باب سلنق [1] يسلنق ومستلق؛ بالنُّون في الأول، وبالتَّاء في الثاني، والصَّحيح ما ذكره الجوهري، كذا قاله إمام الشَّارحين، (في المسجد) اللَّام فيه للجنس؛ أي: في أيِّ مسجد كان، والجار والمجرور متعلق بـ (الاستلقاء)، وبقوله: (ومدِّ الرِّجل) على سبيل التنازع، أو حال منهما، أو صفة لهما؛ فافهم.
وقوله: (ومدِّ) بالجر عطفًا على (الاستلقاء) (الرِّجل)؛ بكسر الرَّاء؛ أي: في المسجد، والمراد بالحكم الجواز؛ لحديث الباب، وهو صادق بجواز جمعهما فيه، فأحدهما أولى سوى أنَّه يكره مد الرِّجل إلى القبلة عند الإمام الأعظم؛ لأنَّ الله تعالى جعلها قبلة للعبادة، فلا يفعل جهتها مما فيه عدم الأدب، ولا نص في ذلك عن الشَّافعي، غير أنَّه صرح بحرمة مد الرِّجل إلى المصحف، فقاس ابن حجر المكي الكعبة عليه، انتهى.
والفرق بينهما ظاهر كما لا يخفى، وسقط المعطوف للأصيلي، وأبي ذر، وابن عساكر، وثبت عند غيرهم، وكذا في نسخة الصاغاني، وكذا في نسخةٍ عند أبي ذر وابن عساكر، كما في (الفرع).
==================
(1/798)
[حديث: رأى رسول الله مستلقيًا في المسجد]
475# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن مَسلَمَة)؛ بفتحات: هو القعنبي المدني، (عن مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن ابن شهاب):
%ص 682%
هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني، (عن عَبَّاد) بفتح العين المهملة، وتشديد الموحَّدة (بن تميم) هو ابن يزيد الأنصاري المدني، الصَّحابي في قول الذهبي، والتَّابعي في قول غيره، (عن عمه) هو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني المقتول بالحَرَّة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وعباد وعمه تقدما في باب (لا يتوضأ من الشك): (أنَّه رأى)؛ أي: أبصر، فلهذا اكتفي لها بمفعول واحد (رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقوله: (مستلقيًا): حال من الرسول الأعظم؛ أي: متكئًا على ظهره (في المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد، وقوله: (واضعًا [إحدى] رجليه على الأخرى] [1]): حال من النَّبي الأعظم أيضًا، فهما حالان مترادفتان، ويجوز أن يكون قوله: (واضعًا): حال من الضمير الذي في (مستلقيًا)، فعلى هذا يكون الحالان متداخلتين، كذا قرره إمامنا الشَّارح.
ومطابقته للحديث ظاهرة، وقال الخطابي: (فيه بيان جواز هذا الفعل، والنَّهي الوارد عن ذلك منسوخ بهذا الحديث)، قال إمام الشَّارحين: (قلت: النَّهي ما روى جابر بن عبد الله: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلقٍ»، وأجاب الخطابي عن النَّهي بجواب آخر: وهو أنَّ علة النَّهي عنه أن تبدو عورة الفاعل لذلك، فإنَّ الإزار ربما ضاق، فإذا شال لابسه إحدى رجليه فوق الأخرى؛ بقيت هناك فُرجة تظهر منها عورته، وممن جزم بأنه منسوخ ابن بطال) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قال ابن حجر: (الجواب الثاني أولى من ادعاء النَّسخ؛ لأنَّه لا يثبت بالاحتمال، وممن جزم به: البيهقي، والبغوي، وغيرهما) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (القائل بالنَّسخ ما ادعى أنَّ النَّسخ بالاحتمال، وإنَّما جزم به، فكيف يدعي الأولوية بالاحتمال، ويقوي دعوى النَّسخ ما روي عن عمر وعثمان: أنَّهما كانا يفعلان ذلك على ما سيأتي، ويقال: يحتمل أنَّ الشَّارع فعل ذلك لضرورة أو كان ذلك بغير محضر جماعة، فجلوسه عليه السَّلام في المجامع كان على خلاف ذلك من التربع، والاحتباء، وجلسات الوقار، والتواضع) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ الخطابي لما ردد في الجواب بين النَّسخ وبين الحمل على إذا خشي بدوَّ عورته كان بصورة الاحتمال.
وعبارة ابن بطال: (وكأنَّ البخاري ذهب إلى أنَّ حديث جابر منسوخ بهذا الحديث، واستدل على نسخه بحديث الخليفتين بعده، ولا يجوز أن يخفى عليهما الناسخ والمنسوخ) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ حديث الخليفتين بعده لا يدل على خصوص النَّسخ؛ لاحتمال أن يكون النَّهي عندهما محمولًا على ما إذا خشي بدوَّ العورة، فلا نسخ، انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض»: بأنَّه لا حرج في دعوى الأولوية بالاحتمال، وأمَّا النَّسخ؛ فلا يثبت إلا بمعرفة التاريخ أو بتنصيص الشَّارع، انتهى.
قلت: كلام العجلوني وابن حجر كلاهما فاسد الاعتبار.
أمَّا قوله: (بأن الخطابي لما ردد في الجواب ... ) إلخ؛ فيرده أنَّه ذكرهما بصيغة الجزم، ولم يذكرهما بصيغة الاحتمال، فليس في كلامه ما يدل على أنَّه قائل بالاحتمال ولو صورة، على أنَّ المعتبر للفظ لا للصورة؛ فافهم، وعبارة ابن بطال صحيحة لا يرد عليها ما ذكره، فإنَّ حديث الخليفتين بعده يدل على النَّسخ قطعًا؛ لأنَّهما لا يفعلان شيئًا مخالفًا لسنته عليه السَّلام؛ لأنَّهما أعلم بحاله، وعَلِما أنَّ النَّهي كان في ابتداء الأمر، ثم إنَّه نسخ بفعله، كما لا يخفى.
وما ذكره من الحمل على ما إذا خشي عندهما؛ ممنوع؛ لأنَّهما لا يفعلان شيئًا من تلقاء أنفسهما، بل حتى يعلما ويشاهدا ذلك من فعله عليه السَّلام، واستلقاؤه عليه السَّلام لم يخف عليهما قطعًا؛ لأنَّهما دائمًا معه عليه السَّلام مترقبين لأفعاله، ومن البعيد كونه عليه السَّلام مستلقيًا في المسجد ولم يره خليفته الفاروق وذو النورينولم يعلما به، فنسبة عدم علم الناسخ والمنسوخ لهما جرأة عظيمة يجب الإعراض عنها، فلا تغتر بما زعمه.
وأمَّا قول ابن حجر: (لا حرج في دعوى الأولوية بالاحتمال)؛ ممنوع؛ لأنَّه قد ذكر الأولوية بغير دليل، فالحرج ظاهر؛ لأنَّ القول بغير مستند غير مقبول، لا سيما في الأحكام، فكيف يقول: لا حرج؟! وما هذا إلا القول بالرأي بعينه يجب الإعراض عنه.
وقوله: (وأمَّا النَّسخ ... ) إلخ؛ لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم أنَّ عمر وعثمان رضي الله عنهماأعلم الناس بمعرفة التاريخ وبأقوال الشَّارع وأفعاله، ولا ينكر ذلك إلا كل معاند، وفعلهما دليل على كون فعله عليه السَّلام كان ناسخًا للنَّهي، ولا يتصور أن يفعلا شيئًا منهيًّا عنه من الشَّارع؛ لأنَّهما أشد اتباعًا للسنة، فهذا أقوى دليل على النَّسخ، كما لا يخفى، على أنَّ ما فعله الخليفتان كان بمحضر الصَّحابة، ولم ينكر عليهما أحد منهم، فصار ذلك منهم إجماعًا على نسخه، كما لا يخفى؛ فافهم.
فانظر جرأة ابن حجر والعجلوني على خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زعما فيهما؛ فاجتنبه.
وقال المازري: إنَّ النَّهي وقع في غير الكتب الصِّحاح؛ كـ «أبي داود»، لكنه عام؛ لأنَّه قول، والاستلقاء فعل، فهو خاص قد يدعى قصره عليه لولا ما صح عن الخليفتين، فصار تعارضًا [2] بين الحديثين، ثم أجاب بنحو ما ذكره الخطابي.
واعترضه ابن حجر بأنَّ حديث النَّهي في «البخاري» في (اللباس)، وبأنَّ الخصائص لا تثبت بالاحتمال، والظَّاهر أنَّ فعله عليه السَّلام؛ لبيان الجواز، أو كان في وقت الاستراحات لا في مجتمع الناس؛ لِمَا عُرِفَ من عادته في الجلوس بينهم بالوقار التام؛ كالتربع والاحتباء، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، وحفظ شيئًا وغاب عنه أشياء، فإنَّ حديث النَّهي وإن كان ذكره البخاري في (اللباس)، لكنه منسوخ بفعل الخليفتين، فلم يُلتَفت إليه، وبقي الفعل، فليس ثمة تعارض، وإلى هذا أشار المازري بقوله: (ولولا ما صح عن الخليفتين)، ثم أجاب: بأنَّ النَّهي منسوخ بفعلهما.
وقوله: (وبأنَّ الخصائص ... ) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّ المازري بناها على فرض ثبوت عدم فعل الخليفتين ذلك، لا مع ثبوت فعلهما، ومعنى كلامه: أنَّه إذا ثبت فعلهما ذلك؛ فيكون دليلًا على النَّسخ، فليس للنَّهي محل لذلك، على أنَّه لو لم يصح عنهما؛ لكان قوله بالخصوصية مقبولًا؛ فانظر كيف فهم هذا الكلام؟
وقوله: (والظَّاهر ... ) إلخ؛ هذا ليس بظاهر؛ لأنَّ الشَّارع وخلفاءه الذين أُمرنا باتباعهم قد فعلوا ذلك، فلا يكون فعلهم مبنيًّا على بيان الجواز؛ لأنَّه يقال فيما إذا تعارض دليلان، وليس هنا كذلك؛ فافهم.
وقوله: (أو كان في وقت ... ) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّ فعله عليه السَّلام لا يدل على هذا، فإنَّ الحديث يرده، ومحل الاستراحة المنزل لا المسجد، وليس في الحديث إشارة إلى هذا، وإنَّما كان عليه السَّلام يفعل ذلك في مجتمع الناس؛ بدليل كونه في المسجد وهو لا يخلو عن الناس، وكفى بذلك رؤيته لعمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنهما حتى فعلا كفعله؛ لأنَّهما أشد اتباعًا له، كما لا يخفى، وعادته التربع إذا كان في مجمع مذاكرة العلم وحوائج الناس لا مطلقًا، كما زعمه؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث الاتكاء في المسجد، والاضطجاع فيه، وكذا أنواع الاستراحات غير الانبطاح [3]_وهو الوقوع على الوجه_، فإن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه، وقال: «إنَّها ضجعة يبغضها الله تعالى») انتهى؛ فليحفظ.
%ص 683%
(وعن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني، (عن سعيد بن المسيَّب)؛ بفتح التحتية المشددة وبكسرها، وكان يقول: (بكسر الياء، سيَّب الله من يسيب أبي)، توفي بالمدينة سنة إحدى ومئة، وهو ابن حزن القرشي المخزومي، المتفق على أنَّ مرسلاته أصح المراسيل، (قال) أي: سعيد: (كان عمر) هو ابن الخطاب القرشي، أحد الخلفاء الراشدين (وعثمان) هو ابن عفان، ثالث الخلفاء المهديين، الملقب بذي النورين رضي الله عنهما (يفعلان ذلك)؛ أي: الاستلقاء المذكور، والوضع في المسجد، وإفادة (كان) الدوام والاستمرار غالبًا، وهو بواو العطف معطوف على الإسناد المذكور، ولهذا قال صاحب «التوضيح»: (ساقه البخاري بالسند الأول، وقد صرح به أبو داود، وزاد أبو مسعود فيما حكاه الحميدي في «جمعه»، فقال: «إنَّ أبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفعلون ذلك»، وقد أخرج البرقاني هذا الفعل من حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري متصلًا بالحديث الأولولم يذكر سعيد بن المسيَّب، وسعيد لم يصح سماعه من عمر، وأدرك عثمان، ولا يحفظ له عنه رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) انتهى.
وقال ابن حجر: («وعن ابن شهاب»: معطوف على الإسناد الأول، وقد صرح بذلك أبو داود في روايته عن القعنبي، وهو كذلك في «الموطأ»، وغفل عن ذلك من زعم أنَّه معلق) انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (يريد به الكرماني؛ حيث قال: يحتمل أن يكون هذا معلقًا وأن يكون داخلًا تحت الإسناد السَّابق، فالكرماني ما جزم بأنَّه معلق، بل قال بالاحتمال، وهو صحيح بحسب الظَّاهر، وتصريح أبي داود بذلك في كتابه لا يدل على أنَّ هذا داخلًا في الإسناد المذكور ههنا قطعًا، ورواية أبي داود هكذا: «حدثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: أنَّ عمر وعثمان كانا يفعلان ذلك»؛ أي: من الاستلقاء والوضع) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض»: (بأنَّ تصريح مثل مَنْ ذَكَرَ بذلك يرجح الوصل، ويُصيِّر احتمال التَّعليق كالعدم) انتهى.
قلت: هو غير ظاهر، فإنَّ تصريح أبي داود يحتمل التَّعليق والوصل، بل الأول أظهر؛ لأنَّ ابن المسيب لم يصح سماعه من عمر، ولا من عثمان، ولا يحفظ له رواية، كما قدمناه عن صاحب «التوضيح»؛ فافهم.
ونقل العجلوني عن النَّووي: (أنَّ ابن المسيب ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وقيل: لأربع سنين، ورأى عمر وسمع منه، ومن عثمان، وعلي، وغيرهم، ثم نقل عن أحمد: أنَّه رأى عمر وسمع منه)، ثم قال العجلوني: (وبه تعلم أنَّ ما ذكره ابن الملقن وإن تبعه عليه في «العمدة»؛ ليس بعمدة) انتهى.
قلت: أراد بهذا الاعتراض على إمام الشَّارحين وعلى صاحب «التوضيح»، واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّ ابن خلكان قال في ترجمته: (سمع سعد بن أبي وقاص، وأبا هريرة، وغيرهما، وأكثر روايته المسند عن أبي هريرة، وكانت ولادته لسنتين مضتا من خلافة عمر) انتهى، ولم يذكر أنَّه سمع من عمر، وعثمان، وعلي، كما رأيت على أنَّ كونه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر يرد كونه سمع منه؛ لأنَّ صحة سماع الصبي مشروط بأن يكون ابن خمس سنين، وليس ابن المسيب سنه وقتئذٍ خمسًا، كما لا يخفى، وفيه خلاف؛ فابن العربي يشترط فيه بلوغ خمس، وابن العجمي بلوغ سبع، وهو قول الجمهور، وقال جماعة: بلوغ خمس مطلقًا، قاله القاضي عياض، وقدمناه في باب (متى يصح سماع الصغير)؛ فاعرفه.
قال إمام الشَّارحين: (اختلف جماعة من الصَّحابة والتَّابعين وغيرهم في هذا الباب؛ فذهب محمَّد بن سيرين ومجاهد وطاووس وإبراهيم النخعي إلى أنَّه لا يكره وضع إحدى الرِّجلين على الأخرى، وروي ذلك عن ابن عبَّاس وكعب بن عجرة.
وخالفهم في ذلك آخرون؛ فقالوا: لا بأس بذلك؛ وهم: الحسن البصري، والشَّعبي، وابن المسيب، وأبو مجلز، ومحمَّد ابن الحنفية، ويروى ذلك عن أسامة بن زيد، وابن عمر، وأبيه عمر بن الخطاب، وعثمان، وابن مسعود، وأنس رضي الله عنهم.
وقال ابن أبي شيبة في «مصنفه»: «حدثنا وكيع، عن عبد العزيز الماجشون، عن الزهري، عن ابن المسيب: أنَّ عمر وعثمان كانا يفعلانه».
وروي عن عبد الله بن مالك عن أبيه قال: «دخل على عمر ورآه مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى».
وروي عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث: «أنه رأى ابن عمر يضطجع فيضع إحدى رجليه على الأخرى».
وحدثنا وكيع، عن أسامة، عن نافع: «كان ابن عمر يستلقي على قفاه، ويضع إحدى رجليه على الأخرى، ولا يرى بذلك بأسًا، ويفعله وهو جالس لا يرى بذلك بأسًا».
وحدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن عمه قال: «رأيت ابن مسعود رضي الله عنه مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى، وهو يقول: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85]».
وحدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن عمران _يعني: ابن مسلم_ قال: «رأيت أنسًا رضي الله عنه واضعًا إحدى رجليه على الأخرى») انتهى.
والحاصل: أنَّ الاستلقاء في المسجد ومد الرِّجل فيه؛ غير مكروه، إلا أنَّه يكره مد الرِّجل نحو الكعبة، وهذا مذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وهو قول الجمهور من الصَّحابة والتَّابعين، والله أعلم.
==================
[1] ما بين معقوفين مثبتٌ من «الصحيح».
[2] في الأصل: (تعارض)، وليس بصحيح.
(1/799)

============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي

 مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيت...