روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الاصلي ظلما وبغيا

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الالكتروني

كتاب:آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة أبو البركات ا... /يا أمة الإسلام والأزهر الشريف *أفيقوا* /تحميل مذكرة الجبر3 ث ثانوي عام 3 ثانوي.pdf. / صفحة .. س وج احياء 3ث/ أرشيف المدونة النخبة في... /الفيزياء للجميع 3 .ث /مذكرة التميز (شرح ومراجعة) النصوص للصف الثالث الثا... /العلامات والأعراض التهاب المفاصل الروماتويدي /موضوعات علمية وللثانوية العامة وكذلك مسائل شرعية... /تحميل منهج الثانوية العامة 3ث /مذكرة الأساسيات , الجبر, الهندسة الفراغية , الاستا... /حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث .حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث . /ثانوي علم النفس اللثانوية العامة 2016 استاذ سام... /ث. استاتيكا :خرائط مفاهيم المميز للصف الثالث ال... /الفيزياء الثالث الثانوي3ث. /فيزياء 3ث /مناج الثالث الثانوي 3ث. /مذكرات 3ث. /مذكرات 3ث. /الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... / الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... /ث/الديناميكا(تفاضل الدوال المتجه.pdf ) /ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي /لا يمكن الجمع بين أن المؤمن مآله إلى الجنة وبين حد... /كتاب : الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ابن كثير /دليل 24. /القران مكتوب روابط /مجلد 1. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح... /مجلد 2. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح...

اللهم إني أُشهدك أنني بريئ من كل علم وكل شأن لا ترضاه ويخالف دينك القيم

الثلاثاء، 17 مايو 2022

.كتاب 5 و6.أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)

 

5. .كتاب 5: أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)

(23) [باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس]

هذا (باب) حكم (عرق) الآدمي (الجنب) والطاهر، والمحدث، والحائض، والنفساء، والصغير، والكبير، والمسلم، والكافر، والذكر، والأنثى؛ يعني: أن عرق هؤلاء طاهر، (وأن المسلم لا ينجس) عطف على المضاف إليه، والتقدير: وباب أن المسلم لا ينجس، بل هو طاهر وإن كان متصفًا بما ذكرناه، فإذا كان هو طاهرًا؛ فعرقه طاهر ضرورة؛ للزومه له.
قال صاحب «عمدة القاري»: (ولم يبين البخاري ما حكم عرق الجنب، ولا ذكر في هذا الباب شيئًا يطابق هذه الترجمة).
وقال بعضهم: كأن المصنف يشير بذلك إلى الخلاف في عرق الكافر، وقال قوم: إنه نجس بناء على القول بنجاسة عينه.
قلت: (ما أبعد هذا الكلام عن الذوق! فكيف يتوجه ما قاله والمصنف قال: باب عرق الجنب، وسكت عليه، ولم يشر إلى حكمه لا في الترجمة ولا في الذي ذكره في هذا الباب؟
وفائدة ذكر الباب المعقود بالترجمة ذكر ما عقدت له الترجمة وإلا؛ فلا فائدة في ذكرها، ويمكن أن يقال ذكر ترجمتين؛ فالترجمة الثانية تدل على أن المسلم طاهر، ومن لوازم طهارته طهارة عرقه، ولكن هذا مخصوص بعرق المسلم، والحال أن عرق الكافر أيضًا طاهر) انتهى.
قلت: (وقد حاول العجلوني عبارته ورمم عبارة ابن حجر بكلام أخذه من «عمدة القاري» الذي علمته، وزعم أن صنيع المؤلف وابن حجر حسن، وأن في كلام «عمدة القاري» تناقضًا [1] في قوله: (ويمكن ... ) إلخ وقال: ولم يتعرض ابن حجر في «الانتقاض» لرد الاعتراض؛ لظهوره) انتهى كلامه
قلت: ولا يخفى تعصب هذا القائل، فقد زاد في الطنبور نغمة، فإن كلامه لا فائدة فيه ولا معنى يأويه؛ لخلوه من التحقيق، ولا يخفى أن صنيع المؤلف وابن حجر ليس بحسن أصلًا؛ لأنَّ الترجمة قاصرة؛ حيث إنه لم يبين حكم العرق من الجنب لا في الترجمة ولا في أحاديث الباب، فكيف يقال: إن صنيعه حسن على أن قوله: (وإن المسلم لا ينجس) التي هي الترجمة الثانية، كذلك لا تدل على حكم عرق الجنب؛ لأنَّ المراد بالمسلم: الطاهر لأنَّه المسلم الكامل، ولا ريب أن عرقه طاهر لطهارة بدنه، والجنب خارج عن هذا، فلا بد من بيان حكم عرقه.
ولا دلالة في الترجمة أن المؤلف أشار بالتقييد بـ (المسلم) إلى الخلاف في عرق الكافر كما زعمه ابن حجر؛ لأنَّ مراد المؤلف بالتقييد بـ (المسلم) موافقة لحديث الباب، لا للخلاف في عرقه؛ لأنَّ هذا ظاهر حيث إنا لم ننهَ عن نكاح أهل الكتاب، فدل على طهارته من دليل آخر، كما لا يخفى.
وقوله: (وإن في كلام «عمدة القاري» ... ) إلخ ممنوع؛ فإنه لما ذكر ما هو التحقيق من عدم بيان حكم عرق الجنب، ورد كلام ابن حجر؛ ظهر له أن الترجمة يمكن حملها على ما قاله، فهذا ليس يتناقض ما زعمه هذا القائل، ولا يسع أحدًا أن يقوله من ذوي الأفهام كما لا يخفى على أولي الألباب.
وقوله: (ولم يتعرض ... ) إلخ؛ هذا ظاهر في أن الاعتراض في غاية التحقيق ولو كان غير ذلك؛ لما سكت عليه ابن حجر، فسكوته دليل على أن كلام نفسه غير مرض له؛ لما أنه غير ظاهر، كما لا يخفى؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (تناقض)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 305%
==================
(1/486)
[حديث: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس]
283# وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله)؛ هو المديني (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سَعِيْد القطان (قال: حدثنا حُميد) بضمِّ الحاء المهملة مصغرًا؛ هو المعروف بالطويل، التابعي، مات وهو قائم يصلي (قال: حدثنا بَكر) بفتح الموحدة مكبرًا؛ هو ابن عبد الله بن عمرو بن هلال المزني البصري التابعي المتوفى سنة بضع ومئة، (عن أبي رافع) واسمه: نُفيع _بضمِّ النون، وفتح الفاء_ مصغرًا الصائغ _بالصاد المهملة، وبالغين المعجمة_ البصري ارتحل إليها من المدينة، أدرك الجاهلية ولم يرَ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (عن أبي هريرة)؛ هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه، قال صاحب «عمدة القاري»: (ومن أجلِّ لطائف هذا الحديث أنه متصل، ورواه مسلم مقطوعًا عن حميد، عن أبي رافع، كذا في طريق الجُلُودي، والجياني، والصواب ما رواه البخاري وغيره عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، وذكر أبو مسعود وخلف أن مسلمًا أخرجه أيضًا كذلك.
وقال صاحب «التلويح»: قد رأينا من قاله غيرهما، فدل على أن في «مسلم» روايتين).
قلت: ذكر البغوي في «شرح السنة»: (أن مسلمًا أخرجه بإثبات بكر) انتهى كلامه رضي الله عنه.
(أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم لقيه)؛ أي: اجتمع به من اللقاء؛ وهو الاجتماع؛ أي: لقي أبا هريرة وهو يمشي (في بعض طريق المدينة) المنورة، كذا هو في أكثر الروايات، وفي رواية كريمة، والأَصيلي: (طرق)؛ بالجمع، وفي رواية أبي داود، والنسائي: (لقيه في بعض طريق من طرق المدينة)، كذا في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني أن رواية أبي داود موافقة لرواية الأَصيلي.
قلت: وهو مردود فأين التوافق؟ بل فيه تخالف؛ لأنَّ الأولى: (في بعض طريق المدينة)، وللأَصيلي: (في بعض طرق المدينة)، ولأبي داود: (في بعض طريق من طرق المدينة)؛ فليحفظ.
(وهو جنب) جملة اسمية محلها النصب على الحال من الضمير المنصوب في (لقيه)، يقال: أجنب الرجل وهو جنب، وكذا الاثنان، والجمع، والمذكر، والمؤنث، قال ابن دريد: (وهو أعلى اللغات، وقد قالوا: جنبان وأجناب، ولم يقولوا: جنبه)، وفي «المنتهى»: (رجل جنب، وامرأة جنب، وقوم جنب، وجنبون، وأجناب)، وفي «الصحاح»: (أجنب الرجل وجنُب أيضًا؛ بضمِّ النون)، وفي «الموعب» عن الفراء وقطرب: (جنِب الرجل وجنُب؛ بكسر النون وضمها لغتان)، وقال في «المغرب»: (يقال من الجنابة: أجنَب الرجل وجنَِب؛ بفتح النون وكسرها، وجنب ويجنب، لا يقال عن العرب غيرها، وحكى بعضهم: جنُب؛ بضمِّ النون، وليس بالمشهور)، وفي «الاشتقاق»: (أجنب الرجل؛ لأنَّه يجانب الصَّلاة)، وقال أبو منصور: (لأنَّه نهي أن يقرب مواضع الصَّلاة)، وقال القتبي: (سمي بذلك لمجانبته الناس، وبعده منهم حتى يغتسل)، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، وأراد أبو هريرة نفسه لرواية أبي داود: (وأنا جنب)، (فانْخَنست)؛ بالنون الساكنة، ثم خاء معجمة مفتوحة، ثم نون، ثم سين مهملة، وهي رواية الكشميهني، والحمُّوي، وكريمة؛ ومعناه: تأخرت، وانقبضت، ورجعت، واستخفيت، وهو لازم ومتعد؛ ومنه: خنس الشيطان.
الرواية الثانية: (فاختنست)؛ مثل الرواية الأولى في المعنى، غير أن اللفظ في الرواية الأولى من باب (الانفعال)، وفي هذه الرواية من باب (الافتعال).
الثالثة: (فانبجست)؛ بالموحدة، والجيم، وكذا هي في رواية الترمذي؛ ومعناه: اندفعت، وانفجرت؛ ومنه قوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف: 160]؛ أي: جرت واندفعت، وهي رواية ابن السكن أيضًا.
الرابعة: (فانْتَجست)؛ بفوقية مفتوحة بعد النون الساكنة، فجيم؛ من النجاسة من باب (الافتعال)؛ والمعنى: اعتقدت نفسي نجسًا، وهي رواية الأَصيلي، وأبي الوقت، وابن عساكر.
الخامسة: (فانتجشت)؛ بالشين المعجمة، من النجش؛ وهو الإسراع.
السادسة: (فانبخست)؛ بالموحدة، والخاء المعجمة، والسين
%ص 305%
المهملة، من البخس [1]؛ وهو النقص، فكأنه ظهر له نقصانه عن مماشاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو رواية المستملي؛ لِمَا اعتقده في نفسه من النجاسة.
السابعة: (فاحتبست)؛ بحاء مهملة، ثم مثناة فوقية، ثم موحدة، ثم سين مهملة، من الاحتباس؛ والمعنى: حبست نفسي عن اللحاق بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
الثامنة: (فانسللت)؛ بنون، ثم سين مهملة، بعدها لامين؛ والمعنى: مضيت عنه مستخفيًا، وهو رواية مسلم والنسائي، كذا قرره صاحب «عمدة القاري» ولم يسبقه أحد به من الشراح، وزعم ابن حجر أنه لم يثبت له من طريق الرواية غير ما تقدم، وأراد به رواية الكشميهني، وأبي الوقت، والمستملي، ونسب بعضها إلى التصحيف.
ورده صاحب «عمدة القاري»: (بأنه لا يلزم من عدم ثبوته غير الروايات الثلاث عنده عدم ثبوتها عند غيره، وليس بأدب أن ينسب لبعض غير ما وقف عليه إلى التصحيف؛ لأنَّ الجاهل بالشيء ليس له أن يدعي عدم علم غيره به) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» فزعم بقوله الملازمة ثابتة هنا؛ لأنَّ القصة واحدة، والمخرج واحد، واللفظ الذي نطق به أبو هريرة واحد، فما يبقى إلا الترجيح والمرجوح أن يثبت في الرواية حمله على أن الراوي ذكر تلك اللفظة بالمعنى، فإن لم يثبت؛ حمل على أنه صحفه، وحمل رواية الحافظ المتقن على الصواب أولى من حمل رواية غيره عليه، وليس هنا ما يثبت الجهل ولا ما يزيل الأدب، ولكن رمتني برأيها، وانسلت) انتهى.
قلت: وهذا كلام من ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء، فإن قوله: (الملازمة هنا ثابتة ... ) إلخ لا يخفى فساده؛ لأنَّ القصة متعددة مختلفة، والمخرج أيضًا مختلف، واللفظ الذي نطق به أبو هريرة مختلف، يدل لذلك أن أبا هريرة كان يمر في الطريق ويقعد من أجل الجوع، وكذلك كان يفعل من أجل الجنابة، فما المانع أنه رآه عليه السلام مرارًا مختلفة، وكان يتلفظ بألفاظ مختلفة؟ ويدل لهذا أيضًا ما سيأتي في الباب بعده، فإن ما ذكر فيه قصة أخرى غير هذه كما لا يخفى، فأين الملازمة؟ ويلزم على ما قاله هذا القائل أن يكون لفظ أبي هريرة لفظة واحدة ولا يخفى فساده؛ لما ثبت في الروايات من اختلاف ألفاظه باختلاف القصة وغيره.
وقوله: (والمرجوح ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ الراوي لا يمكن أن يذكر تلك اللفظة بالمعنى، بل يذكرها كما سمعها من غير تعرض للمعنى كما هو وظيفة الرواة.
وقوله: (فإن لم يثبت؛ حمل على أنه صحفه) ممنوع أيضًا؛ فإن هذا الحمل باطل؛ لأنَّ الراوي يحتاط في كلامه مهما أمكن، ولا يجوز حمله على التصحيف؛ لأنَّه مخل في حفظه وإتقانه، وإذا حمل على أنه صحفه؛ لم يبق لحفظه وإتقانه فائدة، ويلزم الخلل في ألفاظ الأحاديث، وهو ممنوع، كما لا يخفى.
وقوله: (وحمل رواية الحافظ ... ) إلخ هذا تعرض لنفسه بأنه حافظ متقن وليس كما ظن؛ لأنَّه لو كان كما ظن؛ لما كان جهل بقية الروايات وحملها على التصحيف، فإن هذا ينافي الحفظ والإتقان، فإن جميع الروايات تحمل على الصواب سواء كانت من حافظ أو غيره؛ لأنَّ الرواة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، كما لا يخفى.
وقوله: (وليس هنا ... ) إلخ ممنوع؛ فإن كلامه يدل على الجهل وثبوت عدم الأدب حيث إنه نفى بقية الروايات وهي ثابتة؛ وحيث نسبها إلى التصحيف وهو ينافي الأدب، فكيف قال ابن حجر ما قال؟ وقد أنصف العجلوني هنا حيث قال: والحق أنه حيث أمكن التوجيه لا ينبغي المصير إلى القول بالتصحيف) انتهى.
قلت: وقد وأمكن التوجيه في الروايات كلها كما علمت مما قدمناه، فلا يجوز القول بالتصحيف؛ لأنَّه يثبت الجهل وينافي الأدب؛ فافهم، والله أعلم.
(منه)؛ أي: من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إما حياء منه، أو لما اعتقده في نفسه من النجاسة، كما قدمناه، (فذهبتُ)؛ فالتاء للمتكلم؛ أي: قال أبو هريرة: (ذهبت) (فاغتسلت)؛ أي: من الجنابة وهو بصيغة المتكلم أيضًا، قال الكرماني: وفي بعض النسخ: (فذهب فاغتسل)، قال صاحب «عمدة القاري»: (قلت: على تقدير صحة الرواية بها يجوز فيه الأمران: الغيبة بالنظر إلى فعل كلام أبي هريرة بالمعنى، والتكلم بالنظر إلى نقله بلفظه بعينه على سبيل الحكاية عنه، وإما جواز لفظه بالغيبة، فمن باب التجريد، وهو أنه جرد من نفسه شخصًا وأخبر عنه) انتهى كلامه
قلت: والرواية الأولى هي المناسبة لقوله: (فانخنست).
قال في «عمدة القاري»: (وإنما فعل أبو هريرة هذا؛ لأنَّه عليه السلام كان إذا لقي أحدًا من أصحابه ماسحه ودعا له، كما ورد في النسائي، وابن حبان من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لقيني النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا جنب فأهوى إليَّ فقلت: إني جنب ... )؛ الحديث، فلما ظن أبو هريرة أن الجنب ينجس خشي أن يماسحه النبيُّ عليه السلام كعادته، فتأخر لما رآه وبادر إلى الاغتسال من الجنابة، (ثم جاء)؛ أي: أبو هريرة وبعد اغتساله من الجنابة إلى مجلس النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي هريرة («أين كنت يا با هريرة؟»)؛ بحذف الهمزة من الأب تخفيفًا، كذا قاله في «عمدة القاري»، ومثله في «الكرماني»، وهذا ظاهر في أن الرواية بالحذف لا غير؛ فليحفظ.
وزعم العجلوني أن الموجود في كثير من النسخ الصحيحة إثبات الألف، ولم يذكروا هنا ترخيمه مع أنهم ذكروه في الباب الآتي.
قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّه وإن ثبتت الألف؛ فهي تحريف من النساخ والكُتَّاب، فكم رأينا نسخ مضبوطة ومع مراجعتها مع الشراح يظهر خطأ ضبطها وتحريفها من الناسخين.
وقوله: (في كثير ... ) إلخ لا يخفى فساده، بل أكثر النسخ الصحيحة بحذف الألف، كما يعلم ذلك من مراجعة النسخ.
وقوله: (ولم يذكروا هنا ... ) إلخ، وإنما لم يذكروه هنا وذكروه في الباب الآتي؛ لأنَّ هذه القصة غير القصة الذي ذكرت في الباب الآتي، ولاختلاف القصة اختلفت ألفاظ الرواة؛ فليحفظ.
(قال)؛ أي: أبو هريرة للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (كنت جنبًا)؛ أي: ذا جنابة، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ أي: لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر وهو الإجناب، قاله القسطلاني، وإنما أجابه بهذا مع أن السؤال إنَّما كان عن المكان؛ لما فهمه أبو هريرة من أنه عليه السلام إنَّما سأله عن سبب غيبته لا عن المكان، وإلا؛ فكان حق الجواب أن يقول: كنت في مكان كذا اغتسل؛ لأني كنت جنبًا، ويحتمل أنه عبر بالسبب وأراد المسبب، ويحتمل أن قوله: (كنت جنبًا) متضمن: لأني كنت في المكان الفلاني أغتسل فيه من الجنابة؛ لأنَّ من لازم الجنابة الاغتسال منها؛ فليحفظ (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة) جملة اسمية وقعت حالًا من الضمير المرفوع في (أجالسك)، و (أجالسك) في قوة المصدر بـ: (أن) المصدرية، (فقال)؛ بالفاء قبل القاف، وسقطت في كلام أبي هريرة على الأفصح في الجمل المفتتحة بالقول، كما قيل في قوله تعالى: {أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ*قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ*قَالَ ... } [الشعراء: 10 - 12] وما بعدها، وأما القول مع ضمير النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالفاء سببية رابطة فاجتلبت لذلك، ولأبي ذر، وابن عساكر، والأَصيلي قال: أي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (سبحان الله!) (سبحان) علم للتسبيح؛ كعثمان علم للرجل، وقال الفراء: (منصوب بفعل محذوف لازم الحذف، واستعماله في مثل هذا الموضع يراد به التعجب، ومعنى التعجب هنا: أنه كيف يخفى مثل هذا الظاهر عليك، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»؛ فافهم، ثم قال: وقال ابن الأنباري: (معناه: سبحتك؛ تنزيهًا لك يا ربنا من الأولاد، والصاحبة، والشركاء؛ أي: نزهناك من ذلك)، وقال القزاز: (معناه: براءة الله تعالى من السوء)، وقال أبو عبيد: (نسبح لك: نحمدك ونصلي لك)، وقال الزمخشري: (سبحت الله وسبحت له وكثرة تسبيحاته وتسابيحه)، وفي «المغيث»: (سبحان الله: قائم مقام الفعل؛ أي: أسبحه وسبحت؛ أي: لَفظتَ بسبحان الله، وقيل: معنى (سبحان الله): أسرع إليه، وألحقه في طاعته من قولهم: فرس سابح، وذكر النضر بن شميل أن معناه: السرعة إلى هذه اللفظة؛ لأنَّ الإنسان يبدأ فيقول: سبحان الله) انتهى كلام «عمدة القاري» رضي الله عنه.
(إن) بكسر الهمزة (المؤمن) وفي رواية: (المسلم) (لا ينجُس)؛ بضمِّ الجيم هو الرواية لا غير، قال ابن سيده: النجَس، والنجُس، والنجس القذر من كل شيء، ورجل
%ص 306%
نجس، والجمع أنجاس، وقيل: النجس يكون للواحد والجمع والمؤنث بلفظ واحد، فإذا كسروا؛ ثنوا، وجمعوا، وأنثوا، ورجل رجس: نجِس يقولونها؛ بالكسر: لمكان رجس، فإذا أفردوه؛ قالوا: نجس، وفي «الجامع»: أحسب المصدر من قولهم: نجس ينجس نجسًا، والاسم النجاسة، وذكر ابن طريف وغيره: (نجس الشيء ونجس نجاسة ونجسًا، ضد طهر)، وفي «الصحاح»: (نجِس الشيء _بالكسر_ ينجس نجسًا؛ فهو نجس ونجس)، وقال ابن عديس: نجِس الرجل ونجس نجاسة ونجوسة؛ بكسر الجيم وضمها؛ إذا تقذر، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وحاصله: أنه يجوز فيه ضم الجيم وفتحها، وفي ماضيه: كسر الجيم وضمها، فمن كسرها في الماضي؛ فتحها في المضارع، ومن ضمها في الماضي؛ ضمها في المضارع، وذكره الكرماني أيضًا، وهذا ظاهر في أنه يجوز لغة، ولا يجري في الحديث.
وزعم العجلوني: أن قول ابن الملقن: (بفتح الجيم وضمها) بناء على أن ماضيه (نجس) بالفتح أو الضم يقتضي جواز الوجهين في الحديث، انتهى.
قلت: وهو مردود، فإن كلام ابن الملقن مبني على المعنى اللغوي لا على رواية الحديث؛ فهو تفسير له من حيث اللغة، فكيف يقتضي جواز الوجهين في الحديث؟ وما هذا إلا اقتضاء باطل مع أن العجلوني نقل عبارة الكرماني، وقال عقبها: والظاهر عدم جريانه في الحديث، فهذا مناقضة في كلامه ظاهرة، وكأنه جنح له اقتصار ابن الملقن على الوجهين، فظن أنه جائز في الحديث أيضًا، وهو باطل، فأي فرق بين كلام الكرماني وبين كلام ابن الملقن حتى يمنع الأول ويجيز الثاني؟ مع أن الجواز ممنوع في الحديث على أنه لو كان في الحديث رواية أخرى؛ لذكرها أحد شراح «الصحيح»؛ لأنَّ مثل هذا لا يمكن السكوت عنه، وقد راجعت الشراح التي عندي، فلم أرَ من تعرض لذلك، فدل هذا على أن الرواية بضمِّ الجيم فقط؛ فافهم، والله أعلم.
قال صاحب «عمدة القاري»: مطابقة هذا الحديث لإحدى ترجمتي الباب ظاهرة، وهي الترجمة الثانية، وقد عقد الباب له أن المؤمن لا ينجس، وأنه طاهر سواء كان جنبًا أو محدثًا، حيًّا أو ميتًا، وكذا سؤره، وعرقه، ولعابه، ودمعه، وكذا الكافر في هذه الأحكام سواء كان كتابيًّا أو حربيًّا، وسواء كان الشخص حائضًا أو نفساء، وذكر البخاري في «صحيحه» عن ابن عباس تعليقًا: «المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا»، ووصله الحاكم في «المستدرك» عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تنجسوا موتاكم، فإن المؤمن لا ينجس حيًّا ولا ميتًا»، قال: صحيح على شرطهما، ولم يخرِّجاه، وهو أصل في طهارة المسلم حيًّا وميتًا، أما الحي؛ فبالإجماع حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها؛ فإنها طاهرة؛ لهذا الحديث، وهو حجة على من زعم نجاستها، وأما الكافر؛ فحكمه كذلك على ما يأتي، وفي «صحيح ابن خزيمة» عن القاسم بن محمَّد قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن الرجل يأتي أهله، ثم يلبس الثوب فيعرق فيه أينجس ذلك؟ فقالت: قد كانت المرأة تعد الخرقة أو خرقًا، فإذا كان ذلك؛ مسح بها الرجل الأذى عنه ولم تر أن ذلك ينجسه، وفي لفظ: (ثم صليا في ثوبهما)، وروى الدارقطني من حديث المتوكل بن فضيل، عن أم القلوص الناصرية، عن عائشة قالت: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يرى على البدن جنابة، ولا على الأرض جنابة، ولا يجنب الرجلُ الرجل)، وقال البغوي: (معنى قول ابن عباس: «أربع لا يجنبن؛ الإنسان، والثوب، والماء، والأرض»؛ يريد الإنسان لا يجنب بمماسة الجنب، ولا الثوب إذا لبسه الجنب، ولا الأرض إذا أفضى إليها الجنب، ولا الماء ينجس إذا غمس الجنب يده فيه)، وقال ابن المُنْذِر: (أجمع أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، وثبت ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهما) انتهى.
قلت: ولا يلزم من عدم حفظه عدم وجود قول يخالفهما على أنه قال القرطبي في «شرح مسلم»: (الكافر نجس عند الشافعي)، قال العجلوني: (وهو غريب).
قلت: لا غرابة فيه، فقد قال ابن الملقن والنووي: (وأما الميت؛ فالأصح طهارته في أحد قولي الشافعي).
قلت: ومعلوم أن خلاف الأصح الصحيح، فثبت أن للشافعي قولين مصححين؛ فافهم.
ووجه نجاسته أنه حيوان دموي ينجس بالموت؛ فافهم.
وزعم العجلوني في بيان قول ابن المُنْذِر: (ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولها)، قال: (يعني: فيكون عرق الجنب طاهرًا أيضًا عند غيرهما؛ كمالك، وأحمد، والثوري).
قلت: وقد قال القاضي عياض: (وأما الميت؛ ففيه قولان، والأصح الطهارة، ونقل ابن التين عن «المدونة»: أن المريض إذا صلى لا يستند لحائض ولا جنب، وأجازه أشهب)، وقال أبو محمَّد: لا تكاد تسلم من النجاسة، وقال غيره: لأجل أعيانهما لا لثيابهما) انتهى.
قلت: فهذا صريح في أن مذهب مالك فيه خلاف في طهارة عرق الجنب والحائض، وزعم العجلوني أن ما قاله في «المدونة» مبني على الاحتياط.
قلت: وهو ممنوع، فإن قوله: (لا يستند إلى حائض ولا لجنب)، وقول الشارح: (لأجل أعيانهما لا لثيابهما) دليل على النجاسة، كما هو ظاهر، فالحق وجود الخلاف، فمن أين للعجلوني أن ينفي الخلاف، وما هو إلا قول باطل؟! فليحفظ.
وقال ابن المُنْذِر: عرق اليهودي، والنصراني، والمجوسي طاهر عندي، وقال ابن حزم وغيره من الظاهرية: أن عرق المشركين نجس وهو أحد قولي الشافعي؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وبمفهوم حديث الباب، وادَّعوا أن الكافر نجس العين، وهذا مردود، وأجاب الجمهور عنه: أنهم نجسو الأفعالِ لا الأعضاء، أو أنهم نجسو الاعتقادِ؛ لأنَّهم لا يتحفظون من النجاسة غالبًا، وأن المراد بالمؤمن أنه طاهر الأعضاء؛ لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك؛ لعدم تحفظه عنها، ويوضح هذا أن الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك لا يجب عليه من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلِمَة، فدل هذا على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين؛ إذ لا فرق بين الرجال والنساء، وهذا يردُّ ما تقدم عن «المدونة» وغيرها، وإذا ثبت طهارة الآدمي مسلمًا كان أو كافرًا؛ فعرقه ولعابه طاهران سواء كان جنبًا، أو محدثًا، أو حائضًا، أو نفساء، وإنما خص المؤمن بالذكر في الحديث؛ لشرفه ولمطابقة السؤال في الحديث.
وقال صاحب «عمدة القاري»: (فإن قلت: على ما ذكرت أن المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا ينبغي ألَّا يغسل الميت؛ لأنَّه طاهر؟
قلت: اختلف العلماء من أصحابنا في وجوب غسل الميت، فقيل: إنَّما وجب بحدث يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسته، فإن الآدمي لا ينجس بالموت؛ لكرامته، إذ لو تنجس؛ لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات، وكان الواجب الاقتصار على أعضاء الوضوء، كما في حال الحياة، لكن ذلك إنَّما كان نفيًا للحرج فيما يتكرر كل يوم، والحدث بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة لا يكتفي فيها بغسل الأعضاء الأربعة، بل يبقى على الأصل وهو وجوب غسل البدن لعدم الحرج، فكذا هنا.
وقال العراقيون: يجب غسله؛ لنجاسته بالموت لا بسبب الحدث؛ لأنَّ للآدمي دمًا سائلًا، فيتنجس بالموت قياسًا على غيره من الحيوانات، ألا ترى أنه لو مات في البئر؛ نجسها، ولو حمله المصلي؛ لم تجز صلاته، ولو لم يكن نجسًا؛ لجازت، كما لو حمل محدثًا) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم: (أن الفرعين مبني على مذهبهم؛ أي: الأئمَّة الحنفية وإنه لا يقول بنجس البئر إذا مات فيها؛ لطهارته، وأما في حمل المصلي له؛ فنقول به؛ لما في جوفه من النجاسة مع أنه ميت، بخلاف
%ص 307%
الحي إذا لم يكن مستجمرًا بالأحجار) انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإن قوله: (لا تقول بنجاسة البئر) ممنوع؛ فإن ابن عباس، وابن الزبير، وغيرهما أفتوا بنزح الماء الذي في بئر زمزم حين وقع فيه زنجي ومات، كما هو مبسوط في محله، وليس هذا إلا لنجاسته بالموت؛ إذ لو خرج حيًّا؛ لم ينزح الماء.
وقوله: (وأما في حمل المصلي ... ) إلخ هذا كلام متناقض؛ فافهم؛ لما وافقوه [2] في عدم صحة صلاة حامله؛ يلزمهم القول بنجاسته، وتعليلهم بأنه (لما في جوفه) متناقض؛ لأنَّ الحي كذلك ممتلئ جوفه من النجاسة؛ فيلزم على قولهم: إن الحي لا تجوز صلاة حامله وهو ممنوع بالإجماع.
وقوله: (بخلاف الحي ... ) إلخ هذا تناقض؛ لأنَّ قوله: (لما في جوفه) كذلك الحي، فإن جوفه مملوء، ألا ترى أن الشافعي قال: (إن الميت نجس، وما ذاك إلا لتنجسه بالموت)، وإن كان له قولًا بالطهارة؛ فقد وافق أهل العراق وهو منقول عن مالك أيضًا، كما قدمناه.
وقوله: (إذا لم يكن ... ) إلخ؛ يعني: إذا كان الحي مستجمرًا بالأحجار وحمله آخر وصلى به؛ فصلاته صحيحة.
قلت: وفيه أن الحجر غير مزيل للنجاسة، بل تبقى عينها بعد الاستجمار، بخلاف الماء، ألا ترى أنه لو وقع في الماء القليل؛ فإنه ينجسه، وما هذا [إلا من] التناقض، فحفظت شيئًا وغابت عنك أشياء؛ فافهم.
ونقل ابن العربي الإجماع على طهارة الشهيد بعد الموت، والأنبياء عليهم السلام أحياء في قبورهم) انتهى.
قلت: ولهذا يعفى عن دم الشهيد ما دام عليه، ولو وقع الشهيد في الماء القليل؛ لا يفسده إلا إذا سال منه الدم؛ فافهم.
وأما مدمن شرب الخمر؛ فالصحيح في مذهب الإمام الأعظم أن عرقه طاهر، وقيل: إنه نجس؛ لأنَّه لما صار الخمر عادة له ويتغذى منه؛ كالماء؛ كان عرقه نجسًا، والصحيح الأول؛ فليحفظ.
وقال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث استحباب احترام أهل الفضل وأن يوقرهم جليسهم ومصاحبهم، فيكون على أكمل الهيئات، وأحسن الصفات، وقد استحب العلماء لطالب العلم أن يحسن حاله عند مجالسة شيخه، فيكون متطهرًا متنظفًا بإزالة الشعوث المأمور بإزالتها؛ نحو: قص الشارب، وقلم الأظفار، وإزالة الروائح المكروهة، وغير ذلك، وفيه: التسبيح عند التعجب من الشيء واستعظامه).
وقال: (وفيه: من الآداب أن العالم إذا رأى من تابعه أمرًا يخاف عليه فيه خلاف الصواب؛ سأله عنه، وقال له صوابه، وبين له حكمه).
قال: (وفيه: جواز انصراف الجنب في حوائجه قبل الاغتسال ما لم يفته وقت الصَّلاة).
وقال: (وفيه: أن النجاسة إذا لم تكن عينًا في الأجسام لا يضرها، فإن المؤمن طاهر الأعضاء، فإن شأنه المحافظة والنظافة) انتهى.
وزعم ابن حجرأن في الحديث: استحباب استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه.
ورده صاحب «عمدة القاري»: (بأن هذا بعيد؛ لأنَّ الحديث المذكور لا يفهم منه ذلك لا من عبارته، ولا من إشارته، ولا في التابع والمتبوع؛ لأنَّ أبا هريرة لم يكن في تلك الحالة تابعًا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مشيه، وإنما لقيه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بعض طرق المدينة، كما هو نص الحديث) انتهى.
واعترضه ابن حجر في «الانتقاض»، فزعم أن ذلك مبلغهم من العلم، أما توجيه الدعوى؛ فإنها مأخوذة من قوله: «أين كنت؟»؛ لأنَّه لما لقيه؛ ماشاه، كما في رواية الباب الذي يليه: (ثم انخنس فتفقده، فلما رجع إليه؛ قال له: «أين كنت؟»)، فلو كان استأذنه في التوجه للاغتسال؛ لم ينكر عليه، فيؤخذ منه استحباب الاستئذان، وإنكار كون أبي هريرة تابعًا والنبيُّ [صلى الله عليه وسلم] متبوعًا معاندة، لا سيما وقد وقع في رواية الباب الذي بعده: (فمشيت معه)، ومن العجب أن المعترض غفل عن اعتراضه هذا فقال: من حسن الأدب مع من مشى مع رئيسه ألا ينصرف عنه، ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك؛ لقوله لأبي هريرة: «أين كنت؟»، فدل على استحباب ألَّا يفارقه حتى يعلمه؛ فانظر وتعجب) انتهى.
قلت: ويناسب القول هنا وهو زاد في الطنبور نغمة: حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء؛ فإن قوله: (أما توجيه الدعوى ... ) إلخ فاسد غير ظاهر؛ لأنَّ هذا الباب ليس له تعلق في الباب الذي بعده، وقد ظهر التفاوت والاختلاف بينهما لمن له أدنى ذوق في العلم في رجاله، ومتنه، وألفاظه، كما لا يخفى على من له أدنى فطنة، فأين يؤخذ الاستنباط في باب من باب آخر؟ ويستدل لباب من باب آخر، أما علمت أن كل باب مترجم بترجمة خاصة به، وأحاديثه خاصة به أيضًا، فكيف يسمع هذا الكلام؟ وما هو إلا معارضة ومكابرة بالمحسوس على أن قوله مأخوذ [3] من قوله: «أين كنت؟ ... إلخ» فاسد أيضًا، فإنه لا يفهم هذا منه؛ لأنَّ غايته السؤال عن حاله في أي مصلحة كان، فهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، وما هو إلا رجم بالغيب.
وقوله: (فتفقده) هذا ليس موجودًا في هذا الباب ولا في الباب الذي بعده عند جميع الرواة، فمن أين جاء به؟ فهو محض افتراء وكذب مختلق مصنوع، وقد زعم الشافعية أنه حافظ والحافظ هو المتقن وهو الذي يضبط ألفاظ الرواة، فزيادته لفظة: (فتفقده) لم توجد عند الرواة في البابين، فمن أين له هذه اللفظة؟ وهذا يدل على عدم حفظه وإتقانه، وأنه كآحاد الناس؛ فافهم ذلك.
وقوله: (فلما رجع إليه ... ) إلخ هذا ترويج لكلامه وهو لا يفيد ما زعمه، كما لا يخفى.
وقوله: (فلو كان استئذانه ... ) إلخ ممنوع؛ فإنه لم يحصل منه ذلك أصلًا لا قولًا، ولا فعلًا، ولا دلالة، فمن أين يؤخذ منه استحباب الاستئذان؟ وما هو إلا مأخذ أوهى من بيت العنكبوت، وباطل لا دليل عليه.
وقوله: (وإنكار كون أبي هريرة ... ) إلخ فاسد ومحض افتراء؛ لأنَّ رواية الباب الذي بعده لا تدل عليه؛ لما علمت أن هذا الباب والباب الذي بعده لا تعلق لأحدهما في الآخر؛ لأنَّ ما ذكر في هذا الباب قصة واحدة، وكذلك ما ذكر في الباب الذي بعده قصة واحدة، لا تعلق لأحدهما في الأخرى، فكيف يستدل على هذا بما في الباب الذي بعده؟ وما هو إلا استدلال فاسد، ومكابرة ظاهرة، ومعاندة، وتعصب، وشدة بني إسرائيل.
وقوله: (لا سيما ... ) إلخ هذا غاية دليله ولا يخفى فساده؛ لأنَّه لا يدل على ما زعمه هذا القائل الذي قال ولا يدري ما يقول.
وقوله: (وهذا المعترض ... ) إلخ هذا يقال له: مبين الحق لأهل الغفلة والعناد وهو لم يغفل أصلًا، بل الغافل المخطئ هذا القائل؛ فإن في الباب الذي بعد هذا الباب يدل صريحًا لما قاله إمام الشارحين: (أن من حسن الأدب ... ) إلخ؛ لقول أبي هريرة في الباب الآتي: (فأخذ بيدي، ومشيت معه حتى قعد فانسللت منه ... ) إلى أن قال: (ثم جئت وهو قاعد، فقال: «أين كنت يا أبا هريرة؟»)؛ يعني: لمَ [4] ذهبت ولمْ تعلمني بذهابك؟ فهو يدل صريحًا على أنه عليه السلام استحب ألا يفارقه حتى ينصرف معه، كما لا يخفى وقد خفي هذا على المتعنت، فمنعه واعترض ولا يخفى أن اعتراضه مردود عليه؛ فإنه لم يفهم ما تضمنه قصة هذا الباب ولا ما تضمنه القصة في الباب بعده، فخلط هذه القصة في القصة الآتية.
وقوله: (فانظر وتعجب) لا نظر ولا تعجب في هذا؛ لأنَّه قد استدل بدليل صريح يفهمه من له أدنى ذوق في العلم، وإنما النظر والتعجب في كلام هذا القائل حيث ركب فيه متن عَمياء، وخبط خبط عشواء وقال ولا يدري ما يقول، فهذا كلام ابن حجر رئيس الشافعية، وقرَّ أن خراب الدنيا إذا مُثِّل هذا رئيس؛ فافهم.
وزعم العجلوني فقال: ظن صاحب «عمدة القاري» أن الآتي في الباب الثاني قصة أخرى؛ لأنَّه ماشاه فيها، وأما هنا؛ فقال: (لقيه) ولم يقل: ماشاه، فلذا أبدى ما أبداه في الثاني وإن كان تابعًا للكرماني في ذلك، وأما هنا؛ فاعترض على من أبدى، والظاهر: كما يفهم من ابن حجر أنها قصة، وأنه هنا ماشاه أيضًا لما لقيه وانخنس عنه حين قعد مستخفيًا؛ فتأمل.
قلت: كل الديوك ادكدكت ما بقي إلا أبا أنبرة، فهذا كلام فاسد؛ لأنَّ قوله: (ظن ... ) إلخ هذا ليس بظن؛ لأنَّه يحتمل الأمرين، بل هو حق ويقين؛ فإن الذي في الباب الآتي قصة أخرى بدليل اختلاف الرجال، والمتن، والألفاظ، وهو دليل على اختلاف القصة، كما لا يخفى.
وقوله: (فلذا أبدى ... ) إلخ الحق أن هذا
%ص 308%
يفهم من الثاني لا من الأول؛ لاختلاف الألفاظ بينهما، وكل لفظ يدل على استنباط على حدة لا تعلق له بغيره لا كما زعمه ابن حجر، فإنه غير مصيب، كما لا يخفى.
وقوله: (وإن كان تابعًا ... ) إلخ ليس يفهم منه أنه تابعه؛ لأنَّه لم يتعرض له بشيء، بل ذكر هذا من فهمه وحذاقته؛ فليس فيه ما يدل على أنه تابع له.
وقوله: (وأما هنا ... ) إلخ؛ فإنه لما لم يكن في حديث الباب هنا من كونه ماشاه، بل فيه: (لقيه) وهو لا يدل على المماشاة؛ لأنَّ اللقي الاجتماع بالشخص فقط من غير مماشاة ولا غيرها، كما دل على ذلك كلام أهل اللغة، فاعتراضه عليه متوجه صواب، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وقوله: (والظاهر ... ) إلخ ممنوع؛ فإن حق الظاهر أن يظهر من لفظ الحديث لا من كلام هذا القائل؛ لأنَّه يقرر ويتكلم على حسب مراده وهو غير مصيب؛ فلا يعتمد عليه؛ لوقوع الخلل فيه على أنه لا يفهم هذا الظاهر من كلامه، بل إنه لما اضمحل كلامه؛ استند إلى رواية الباب الآتي وهي لا تفيده شيئًا؛ لأنَّ بينهما فرقًا بيِّنًا فهذا الظاهر غير ظاهر، بل مبني على ما فهمه وهو فهم سقيم، على أن الحق الذي هو أحق أن يتبع: أن ما ذكر في هذا الباب قصة غير القصة التي ذكرت في الباب الآتي، فهما قصتان مختلفتان رجالًا، ومتنًا، وألفاظًا، وغير ذلك.
وقوله: (وأنه هنا ماشاه أيضًا ... ) إلخ ممنوع؛ فإنه لم يذكر في الحديث هنا أنه ماشاه لما لقيه، ولا انخنس عنه حين قعد، فإن ذلك كله غير مذكور هنا ولا يفهم منه لا قولًا، ولا فعلًا، ولا إشارةً، ولا دلالةً، وغاية: ما فيه أنه لقيه في الطريق وانخنس عنه فيه، وهذا ظاهر في عدم دلالته على ما زعمه هذا القائل، وليس فيه أنه قعد مستخفيًا، ولا ما يدل على ما زعمه هذا الزاعم، فكيف يثبت شيئًا في الحديث وهو غير مذكور فيه؟ وما هو إلا افتراء وجراءة، وكيف يجعلهما قصة واحدة؟ وما هي إلا دعوى باطلة لا دليل عليها، فقد زاد في الطنبور نغمة هذا القائل وحذا حذو ابن حجر في التعصب، والتعنت، والمكابرة الظاهرة، والعناد، ومن دق الباب؛ سمع الجواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنه بوَّب على استحباب استئذان التابع ابنُ حبان، وفيه الرد على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر فنوى الاغتسال؛ أن ماء البئر ينجس.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا الرد مردود حينئذٍ؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه أصلًا، والحديث يدل بعبارته أن الجنب ليس بنجس في ذاته، ولم يتعرض إلى طهارة غسالته إذا نوى الاغتسال) انتهى.
فكيف قال ابن حجر ما قال؟ ولا يلزم من تبويب ابن حبان أنه يستفاد من الحديث هنا؛ فانظر وتعجب من هذه المحاولة والمكابرة، حيث إنه يستدل من كتاب على كتاب آخر من غير تدبر ولا فهم، ودأبه الخلط والخبط، ومن دق الباب؛ سمع الجواب.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (وفي الحديث: ائتلاف قلوب المؤمنين، ومواساة الفقراء، والتواضع لله تعالى، واتباع أمر الله تعالى؛ حيث قال جل ذكره: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]) انتهى.
واعترضه العجلوني فقال: ما قاله من ائتلاف قلوب المؤمنين والتواضع لله تعالى؛ مسلَّم؛ لقوله له: «أين كنت؟»، وأما قوله: (ومواساة الفقراء، واتباع أمر الله)؛ فأخذهما منه غير ظاهر؛ لأنَّه ليس فيه أنه أعطاه شيئًا واساه به، ولا أنه أتاه فلم يطرده، بل فيه أنه عاتبه على الذهاب، إلا أن يراد بالمواساة ولو في الآنة القول والتفقد وباتباع الله تعالى؛ إذ لازم للنهي المذكور) انتهى.
قلت: قوله: (مسلم؛ لقوله له: «أين كنت؟»)، وأيضًا لقوله: (لقيه)؛ ومعنى اللقي: الاجتماع، ومن لازم الاجتماع السلامُ، والتحية، وتطييب القلوب.
وقوله: (وأما قوله ... ) إلخ؛ فإنه مأخوذ من قوله: (لقيه)، ويلزم من اللقي _وهو الاجتماع_ المواساة بالأقوال، ولا ريب أن السلام والسؤال عن الحال حال الاجتماع فيه مواساة ظاهرة، كما لا يخفى، وفيه أيضًا اتباع أمر الله عز وجل حيث إنه حين جاء إليه لم يطرده، بل فرح به وواساه بقوله: «أين كنت؟».
وقوله: (فأخذهما منه غير ظاهر) ممنوع؛ لأنَّ أخذهما ظاهر كما علمت وهو غير خفي على من له أدنى ذوق في العلم.
وقوله: (لأنَّه ليس فيه أنه أعطاه شيئًا ... ) إلخ ممنوع أيضًا؛ فإن المواساة كما تكون بالفعل تكون بالقول، بل القول أبلغ وأطيب للنفس، على أنه عليه السلام لم يكن يحب الدنيا ولا أصحابُه الكرام، بل كانوا مقبلين على الآخرة، فالمواساة بالقول عندهم وغيرهم ممن أقبل على الآخرة أولى، وأحسن، وأطيب للخواطر، وهذا القائل كان يتبع المشايخ الذين يفعلون التهاليل المنكرة التي لا تخلو عن دخول بيوت الأيتام، والقعود على ثيابهم، والشراب من مائهم، وأخذ الدراهم من أموالهم؛ فلهذا نبه بالمواساة بإعطاء شيء من الدنيا ولم يعلم أنها فانية وحبها رأس كل خطيئة.
وقوله: (ولا فيه أنه أتاه، فلم يطرده) ممنوع؛ فإن قوله في الحديث: (ثم جاء فقال: «أين كنت؟») دليل ظاهر على أنه أتاه فلم يطرده؛ لأنَّ المجيء هو الإتيان، كما لا يخفى على أهل البيان، وفيه الاتباع لأمر الله عز وجل كما في الآية، فكيف يقول هذا القائل: (ولا فيه ... ) إلخ وما هو إلا مكابرة ظاهرة وتعنت وعناد.
وقوله: (بل فيه أنه عاتبه على الذهاب) ممنوع، بل فيه أنه واساه بالقول وهو أبلغ من الفعل في قوله: (لقيه)، وفي قوله: (ثم جاء، فلم يطرده)، وغير ذلك.
وقوله: (إلا أن يراد ... ) إلخ هذه مناقضة لكلامه؛ حيث نفى في أول كلامه، ثم أثبت هنا المواساة بالقول والتفقد والاتباع لله عز وجل في الآية؛ لأنَّها نهي، فالنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فعل كما أمره ربه عز وجل، مع أنه على خلق عظيم، لطيف بأصحابه، رقيق القلب بهم، رحيم بهم صلَّى الله عليه وسلَّم، اللهم؛ عطف قلبه علينا، واحشرنا تحت لوائه يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (النخس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (واقفون)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (مأخوذة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (لما)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (النخس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (واقفون)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (مأخوذة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (النخس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (واقفون)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (مأخوذة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/487)
(24) [باب الجنب يخرج ويمشى في السوق وغيره]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين ويجوز تركه وإضافته إلى ما بعده، لكن يحتاج حينئذٍ إلى أن يقدر الجواب؛ نحو أن يقول له ذلك أو يجوز ذلك ونحوهما، وعند الانفصال لا يحتاج إلى ذلك، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»
قلت: والوجهان مبنيان على الرفع أو الجر في قوله: (الجنب) ومثله الحائض، والنفساء (يخرج)؛ أي: من بيته (ويمشي)؛ بالواو عطف على قوله: (يخرج)، وفي بعض النسخ: (يخرج يمشي)؛ بدون واو العطف، فإن صحت هذه الرواية؛ يكون (يمشي) في موضع النصب على الحال المقدرة، كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني فقال: (المناسب جعله خبر الجنب بعد خبر، على حد زيد عالم تاجر) انتهى.
قلت: وهو ممنوع؛ فإن المناسب للمقام هو الأول وهو الأظهر؛ لأنَّ الخروج والمشي صفتان كل منهما غير لازمة، بخلاف زيد عالم تاجر، فإن العلم والتجارة كل منهما صفة لازمة له، فما قاله في «عمدة القاري»؛ هو الحق، وما زعمه العجلوني؛ باطل؛ فافهم.
(في السوق وغيره)؛ بالجر عطف على قوله: (في السوق)، والضمير فيه عائد إليه؛ والمراد به: البيت، وكذا الصحراء والبستان؛ يعني: يخرج من بيته إلى السوق إلى الصحراء إلى البستان، وغير ذلك، وزعم ابن حجر أنه يحتمل الرفع عطفًا على (يخرج) من جهة المعنى.
قال صاحب «عمدة القاري»: أخذ كلامه هذا القائل من كلام الكرماني؛ فإنه قال: يحتمل رفعه بأن يراد نحو: يأكل وينام عطف على (يخرج) من جهة المعنى، انتهى.
قال: (قلت: وفيه تعسف لا يخفى) انتهى كلامه.
وتبعه البرماوي حيث قال: (وفيه تكلفٌ بلا ضرورة) انتهى.
وزعم العجلوني أن الظاهر أن الكرماني _وتبعه ابن حجر_ أراد أن (غيره) معطوف عطف مفردات على ما قبله؛ لأنَّ المراد بـ (غيره): يأكل، وينام، ونحو ذلك، والضمير على الرفع عائد على (يخرج ويمشي)؛ فحقه التثنية، لكنه أفرده؛ نظرًا لتأويلهما بالمذكور، ويجوز رفعه على أنه مبتدأ وضميره عائد على الجنب، والمراد بـ (غيره): الحائض
%ص 309%
والنفساء، والخبر محذوف يقدَّر بـ (كذلك)؛ فكأنه قال: الجنب يخرج، ويمشي، ويأكل، وينام مثلًا؛ لأنَّ غيره في معنى: مغايرة لا كما قاله البرماوي، وإن كان في الآخر تعسف) انتهى.
قلت: وهذا ممنوع؛ فإن قوله: (والظاهر ... ) إلخ غير ظاهر؛ لأنَّ المراد بـ (غيره): هو الخروج من منزله إلى منزل آخر والمشي من السوق إلى الصحراء وإلى البساتين، وغير ذلك.
وقوله: (والضمير على الرفع ... ) إلخ، ويلزم على ما قاله هذا القائل أن يكون الضمير بلفظ المثنى؛ لأنَّ حقه التثنية.
وقوله: (لكنه أفرده ... ) إلخ غير صحيح، كما لا يخفى؛ لأنَّه إذا وجد التأويل وعدمه؛ فعدمه أولى؛ فافهم.
وقوله: (ويجوز رفعه ... ) إلخ فيه نظر؛ لأنَّ كلًّا من الحائض والنفساء ممنوعة من الخروج والمشي في الأسواق؛ لأنَّهن مأمورات بالقرار في البيوت؛ فهو غير ظاهر فيهما؛ لأنَّ (غيره) في معنى: مغايرة، كما قال والمغايرة بين الجنب والحائض، والنفساء ظاهرة؛ لأنَّ الجنب له الخروج ... إلخ، وأما الحائض والنفساء؛ فإنها ليس لها ذلك، بل لهما الأكل والنوم؛ فهما من هذه الحيثية يطلق عليهما ذلك.
وقوله: (لا) كما قاله البرماوي؛ غير صحيح، فأي تكلف أبلغ من هذا؟
وقوله: (وإن كان في الآخر ... ) إلخ قد علمت ما فيه، والحق أن لفظ (غيرِه) بالجر عطف على (السوق)، وضميره يعود عليه والمراد به: الصحراء، والبساتين، والبيوت، وغيرها؛ فافهم، والله أعلم.
وأشار الإمام المؤلف في هذه الترجمة إلى رد من منع هذه الأفعال من الجنب قبل أن يغتسل أو يتوضأ، وإن ذلك جائز وهو قول عامة الفقهاء، ولا خلاف في ذلك إلا ما حكاه ابن أبي شيبة عن علي، وعائشة، وابن عمر، وأبيه، وشداد بن أوس، وابن المسيب، ومُجَاهِد، وابن سيرين، والزُّهري، ومحمَّد بن علي، والنخعي، زاد البيهقي: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وعطاء، والحسن أنهم كانوا إذا أجنبوا لا يأكلون ولا يخرجون حتى يتوضؤوا، كما نقله صاحب «عمدة القاري»، وليس هذا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الندب والاستحباب، كما صرح به عنهم؛ فليحفظ.
(وقال عطاء) بالمد هو ابن أبي رباح (يحتجم الجنب) ومثله: الفصد والعلق (ويقلم)؛ أي: يقص (أظفاره) وهو جنب في يوم الجمعة، أو الخميس، أو الاثنين، ولا يقصها في السبت؛ لأنَّه يورث الأكلة، وفي الأحد يذهب البركة، ولا في الثلاثاء؛ لأنَّه يورث الهلكة، ولا في الأربعاء؛ لأنَّه يورث سوء الخلق، أما في الاثنين؛ فإنه يورث العز والجاه، وفي الخميس؛ فإنه يورث الغنى، وفي الجمعة يورث العلم والحكم، كما جاء ذلك عن علي الصدِّيق الأصغر ابن أبي طالب رضي الله عنه، (ويحلق رأسه) وهو جنب، ومثله قص الشارب، ونتف الإبط، وتقصير اللحية إلى القبضة (وإن لم يتوضأ)، فكونه قبل الاغتسال أولى.
قال في «عمدة القاري»: مطابقة هذا الأثر للترجمة في قوله: (وغيره) بالرفع ظاهرة، وأما الجر الذي هو الأظهر؛ فلا تكون المطابقة إلا من جهة المعنى؛ وهو أن الجنب إذا جاز له الخروج من بيته والمشي في السوق وغيره؛ جاز له كذلك الأفعال المذكورة في الأثر المذكور، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن جريج عنه، وزاد فيه: (ويطلى بالنورة) انتهى.
قلت: ومثله الحلق، كما هو المسنون، وكذا حلق شعر الصدر والرجلين وغيرها؛ فافهم.
==================
(1/488)
[حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة]
284# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الأعلى بن حمَّاد) وسقط (ابن حمَّاد) للأَصيلي (قال: حدثنا يزيد بن زُريع)؛ بضمِّ الزاي المعجمة، تصغير زرع (قال: حدثنا سَعِيْد)؛ بكسر العين المهملة، هو ابن أبي عَروبة، وقال الغساني: وفي نسخة الأَصيلي بدل (سَعِيْد) لفظ (شعبة)؛ أي: ابن الحجاج وليس صوابًا)، قاله صاحب «عمدة القاري».
قلت: وأجمع الشراح إلى أن هذه النسخة خطأ غير صواب، والظاهر: أنها تحريف من الناسخ الأول؛ فافهم.
(عن قتادة) هو ابن دعامة المفسر: (أن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه (حدثهم)؛ أي: قتادة ومن معه، وفي رواية: (حدثه)؛ أي: قتادة وحده: (أن النبيَّ) ولكريمة: (أن نبي الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم كان يطوف)؛ أي: يدور (على نسائه)؛ أي: في غسل واحد، وهو كناية عن الجماع، والمراد بالطواف: المشي من بيت واحدة إلى بيت أخرى (في الليلة الواحدة) وسبق في باب: إذا جامع ثم عاد في الساعة الواحدة من الليل والنهار (وله يؤمئذٍ)؛ أي: وله عليه السلام حينئذٍ؛ لأنَّه ليس ذلك في يوم معين، فالمراد باليوم: الوقت؛ فافهم، ولفظة (كان) تدل على التكرار والاستمرار (تسع نسوة) زوجات ومارية، وريحانة، فصرن إحدى عشرة، وبه يجمع بين ما هنا وبين ما هناك وهن إحدى عشرة، وأطلق عليهن نساء تغليبًا، ويحتمل أنه يحمل على اختلاف الأوقات؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: ومطابقة الحديث للترجمة تفهم من قوله: (كان يطوف على نسائه)، وذلك أن نساءه كان لهنَّ حُجَر متقاربة؛ فبالضرورة كان عليه السلام إذا أراد الطواف عليهن؛ يحتاج إلى المشي من حجرة إلى حجرة قبل الغسل، والخروج أيضًا منها إلى السوق وإلى غيره.
وزعم ابن حجر أن السوق يؤخذ من الحديث الآتي، فقال: لكن في غير السوق.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: المشي أعم من أن يكون من بيت إلى بيت، ومن بيت إلى سوق وإلى غيره) انتهى.
قلت: ويدل لهذا أنه عليه السلام أمر بسد أبواب الحُجَر من المسجد، كما ورد ذلك فيما سبق، وعلى هذا إن أبواب الحُجَر كانت من السوق، فلا بد وأن يمشي عليه السلام في السوق، وحديث أبي هريرة وإن كانت مطابقته للترجمة ظاهرة، كذلك مطابقة هذا الحديث على الترجمة ظاهرة أيضًا؛ فلا يلزم العناد والشدة من أن السوق يؤخذ من حديث أبي هريرة؛ فإن دلالته هنا ظاهرة، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أن إيراد حديث أنس في هذا الباب يقوي رواية: (وغيرِه)؛ بالجر، وعليه؛ فمناسبة إيراد أثر عطاء من جهة الاشتراك في جواز تشاغل الجنب بغير الغسل، وحديث أنس يقوي أثر عطاء؛ لأنَّه لم يذكر فيه أنه توضأ؛ فكأن المصنف أورده؛ ليستدل له لا ليستدل به.
قلت: وهو غير ظاهر وفيه نظر؛ لأنَّ قوله: (إيراد حديث أنس ... ) إلخ، ويلزم عليه أنه إذا علم أن رواية الجر أقوى، كيف عدل عنها إلى رواية الرفع الضعيفة؟! على أنه ليس في الحديث تقوية، كما زعمه هذا القائل؛ لأنَّ الحديث يدل على أنه عليه السلام كان يخرج ويمشي من حجرة إلى أخرى، ومنها إلى السوق، فهو مطابق للترجمة، وليس فيه ما يقيد الغيرية من أكل، وشرب، ونوم؛ لأنَّه ليس في الحديث ما يدل على هذا.
وقوله: (وعليه؛ فمناسبة ... ) إلخ غير ظاهر، وإنما الظاهر أن مناسبة إيراد أثر عطاء من حيث إن الحجامة، وقلم الأظفار، وحلق الرأس إنَّما يفعلها الحجام في حانوته؛ فيحتاج الجنب ضرورة إلى الخروج من بيته والمشي في السوق حتى يصل إلى حانوت الحجام، وزاد قوله: (وغيره) إلى أنه يمشي في السوق والزقاق، وأنه يشرب في حال مشيه ويكلم الناس، فمطابقة الأثر للترجمة ظاهرة.
وقوله: (وحديث أنس يقوي أثر عطاء) ممنوع؛ لأنَّ أثر عطاء مطابقته ظاهرة، وكذا مناسبته والحديث غاية ما فيه أنه عليه السلام كان يطوف على نسائه، وهذا لا يعد شاغلًا بين الجنابة والغسل؛ لأنَّه إذا وطئ، ثم عاد وهكذا؛ فكأنه وطئ مرة؛ بدليل أنه لا يجب عليه إلا غسل واحد، وليس فيه تشاغل بغير الجماع، فكيف يقال: إنه يقوي أثر عطاء؟! وما هو إلا كلام غير ظاهر.
وقوله: (لأنَّه لم يذكر فيه أنه توضأ) غير ظاهر أيضًا؛ لأنَّ كونه لم يتوضأ قد ذكر في أثر عطاء؛ فهو يقوي الحديث من حيث إنه لم يذكر فيه الوضوء، كما لا يخفى.
فإنه لولا الأثر؛ لاحتمل أن في الحديث أنه توضأ، فكأن الأثر ذكر؛ لأجل بيان الحديث في ذلك.
وقوله: (فكأن ... ) إلخ ممنوع؛ فإن مراد المؤلف بإيراد الأثر: بيان الحديث
%ص 310%
المذكور والاستدلال بالأثر على مفهوم الحديث؛ لأنَّ الحديث مطلق والأثر مقيد، فالحديث قد اكتسب بيانًا من الأثر؛ فافهم، والله أعلم.
==================
(1/489)
[حديث: سبحان الله يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس]
285# وبه قال: (حدثنا عياش)؛ بفتح العين المهملة، وتشديد التحتية، آخره شين معجمة، هو ابن الوليد البصري الرقَّام، وهو ابن عبد الأعلى بن حمَّاد، مات سنة ست وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عبد الأعلى) هو ابن عبد الأعلى السامي؛ بالسين المهملة (قال: حدثنا حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة؛ مصغرًا، المعروف بالطويل، (عن بَكْر)؛ بفتح الموحدة، وسكون الكاف؛ مكبرًا، هو المزني، (عن أبي رافع) هو نُفيع؛ بضمِّ النون، آخره عين مهملة، (عن أبي هريرة)؛ هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (قال: لقيني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: اجتمعنا؛ لأنَّ اللقي: الاجتماع فقط، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا لَقِيَا [1] غُلامًا فَقَتَلَهُ} [الكهف: 74]، (وأنا جنب): جملة اسمية محلها النصب على الحال، (فأخذ بيدي)؛ بالإفراد؛ أي: قبض عليها بيده الشريفة، وفي بعض الأصول: (طريق المدينة) (حتى قعد)؛ أي: حتى وصل دار أحد أصحابه أو غيرها وجلس فيه، (فانْسلَلت)؛ بسكون النون، بعدها مهملة، ثم لامين، أولاهما مفتوحة؛ أي: خرجت، يقال: انسل من بينهم؛ أي: خرج في خفية وتستر (منه)؛ أي: من مجلس النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، أو من النبيِّ نفسه عليه السلام، والأول أظهر، وسقط لفظ: (منه) في رواية، (فأتيت)؛ بـ (الفاء)، وفي رواية: بـ (الواو) (الرحْل)؛ بسكون الحاء المهملة، وهو منزله ومكانه الذي يأوي إليه، (فاغتسلت)؛ أي: بعد أن أحضر لي الماء اغتسلت منه فيه من الجنابة، ولبست ثيابي، وصليت ركعتين، وحمدت الله وأثنيت عليه، (ثم جئت)؛ أي: ثم خرجت من الرحل ومشيت حتى جئت إلى مجلس النبيِّ عليه السلام (وهو قاعد)؛ أي: والحال أنه قاعد فيه، فالجملة حالية، والتراخي مراد به: حقيقة، كما لا يخفى؛ فما استظهره العجلوني من أنه غير مراد؛ فليس بشيء؛ لعدم اطلاعه على ما قررناه؛ فافهم، (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي هريرة (أين كنت) (كان) تامة فلا تحتاج إلى الخبر، أو ناقصة فـ (أين) خبر له، وعلى الأول؛ فهو حال؛ فافهم (يا با هريرة؟»)؛ بحذف الهمزة من الأب تخفيفًا، وهو الرواية، وما في بعض النسخ من إثباتها تحريف من النساخ، وللكشميهني: (يا با هر)؛ بالحذف والترخيم، (فقلت) القائل: أبو هريرة (له)؛ أي: للنبيِّ عليه السلام، مقول القول محذوف؛ أي: قلت له: إن سبب رواحي الاغتسال من الجنابة؛ لأني كنت جنبًا حين لقيتك؛ فكرهت مجالستك وأنا على غير طهارة، (فقال) عليه السلام: (سبحان الله) منصوب بفعل محذوف لازم الحذف، وهو يراد به: التعجب؛ ومعناه: كيف خفي عليك مثل هذا الظاهر؟! (يا با هريرة)؛ بالحذف أيضًا، وفي رواية الأَصيلي وغيره: (يا با هر)؛ بالحذف والترخيم، وفي رواية أبوي ذر والوقت بحذف لفظ (يا با هريرة) فقط، وهذا الترخيم قاله جميع الشراح.
واعترضهم العجلوني فزعم أنه مبني على مذهب الكوفيين، وإلا؛ فتسميته ترخيمًا لا يخلو من شيء؛ لأنَّ المضاف إليه يرخم ترخيم نداء عند البصريين، وليس بترخيم ضرورة، ولعل المراد بالترخيم: لازم معناه اللغوي؛ وهو الترقيق والتليين ولو جعل (يا با هر) كنية أخرى له فلا حذف ولا ترخيم؛ لكان له وجه) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه قوله: (أنه مبني ... ) إلخ؛ لا يخفى أنهم إنَّما بنوه على مذهب الكوفيين؛ لكونه الصحيح المعتمد.
وقوله: (وإلا؛ فتسميته ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه مبني على القول الضعيف، فلا يعول عليه.
وقوله: (ولعل ... ) إلخ ممنوع أيضًا، بل هو ترخيم اصطلاحي للنحويين.
وقوله: (ولو جعل ... ) إلخ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لا حاجة إلى هذا الجعل بعد أن كان ترخيمًا، وليس لما ذكره وجه، كما لا يخفى؛ فافهم، والله أعلم.
(إن المؤمن) إنَّما أكده؛ دفعًا لما توهمه أبو هريرة (لا ينجُس)؛ بضمِّ الجيم، هو الرواية؛ أي: في ذاته ما لم تعرض له نجاسة تحل به، وفي الحديث: التسبيح عند التعجب من الشيء واستعظامه، ألا ترى أنه كيف خفي على أبي هريرة طهارة الجنب حتى قال: (وأنا جنب)، فأنكر عليه ذلك قائلًا: «سبحان الله ... »؛ الحديث.
وفي «عمدة القاري»: (وفي الحديث: أنه يجوز للجنب التصرف في أموره كلها قبل الوضوء أو الغسل، وفيه: رد على من أوجب عليه الوضوء، وفيه: جواز أخذ الإمام والعالم بيد تلميذه ومشيه معه معتمدًا عليه ومرتفقًا به، وفيه: أن من حسن الأدب لمن مشى مع رئيسه ألَّا ينصرف عنه ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك، ألا ترى إلى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي هريرة: «أين كنت؟» فدل ذلك على أنه عليه السلام استحب ألَّا يفارقه حتى ينصرف معه، وفيه: أن أخذ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بيد أبي هريرة يدل على طهارة الجنب وأنه غير نجس) انتهى.
ولا تغتر بما تعجبه ابن حجر من استنباط عدم المفارقة؛ لأنَّ له العصبية الزائدة، والشدة العادية، وقد استوفينا الرد عليه فيما مضى؛ فافهم.
وزعم العجلوني أن في الحديث: جواز مصافحة الجنب ومخالطته، انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ليس في الحديث أنه عليه السلام صافح أبا هريرة، غاية ما فيه: أنه أخذ بيده ومشى معه وهو لا يدل على المصافحة، كما لا يخفى؛ فافهم.
وقدمنا الكلام مستوفًى في الباب [الذي] قبله، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (لقي)، والمثبت موافق للتلاوة.
%ص 311%
==================
(1/490)
(25) [باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ قبل أن يغتسل]
هذا (باب) جواز (كينونة) أي: استقرار (الجنب في البيت إذا توضأ)؛ أي: الجنب وضوءه للصلاة (قبل أن يغتسل)؛ أي: من الجنابة، و (الكينونة) مصدر (كان)، يقال: كان كونًا وكينونة أيضًا شبهوه بالجيدودة، والطيرورة من ذوات الياء، ولم يجئ من الواو على هذا إلا أحرف كينونة، وكيعوعة، وديمومة، وقيدورة، وأصله كيِّنونة؛ بتشديد الياء، ثم خففوا وحذفوا كما حذفوا من هين وميت، ولولا ذلك؛ لقالوا كونونة، كذا قاله في «عمدة القاري» قال: وسقط في رواية الحمُّوي، والمستملي: (إذا توضأ قبل أن يغتسل)، وتمامه فيه.
==========
%ص 311%
==================
(1/491)
[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقد وهو جنب]
286# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون، هو الفضل بن دُكين؛ بالدال المهملة (قال: حدثنا هشام)؛ بكسر الهاء، هو الدستوائي (وشيبان)؛ هو ابن عبد الرحمن النحوي المؤدب صاحب صروف وقراءات؛ كلاهما (عن يحيى) زاد ابن عساكر: (ابن أبي كثير)، (عن أبي سَلَمَة)؛ هو ابن عبد الرحمن بن عوف.
قال في «عمدة القاري»: (وفي رواية ابن أبي شيبة بتحديث أبي سَلَمَة، ورواه النسائي عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سَلَمَة، عن ابن عمر رضي الله عنهما) انتهى؛ فافهم.
(قال) أي: أبو سَلَمَة: (سألت عائشة)؛ أي: الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: (أكان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ الهمزة في (أكان) للاستفهام (يرقُد)؛ بضمِّ القاف؛ أي: ينام (وهو جنب؟): جملة اسمية وقعت حالًا من (النبي صلَّى الله عليه وسلَّم)، (قالت)؛ أي: عائشة: (نعم)؛ أي: يرقد؛ (ويتوضأ)؛ فهو معطوف على محذوف؛ تقديره: نعم؛ يرقد ويتوضأ.
فإن قلت: هل كان يتوضأ بعد الرقاد؟
قلت: الواو لا تدل على الترتيب؛ والمعنى: أنه يجمع بين الوضوء والرقاد، ولمسلم من طريق الزُّهري، عن أبي سَلَمَة: (كان إذا أراد أن ينام وهو جنب؛ يتوضأ وضوءه للصلاة)، وهذا أوضح، وعليه؛ فكأن عائشة قالت: نعم؛ إذا أراد النوم؛ يقوم ويتوضأ ثم يرقد، ويوضح هذا أيضًا حديث ابن عمر الذي ذكره المؤلف عقيب هذا الحديث على ما يأتي، كذا قرره صاحب «عمدة القاري».
ثم قال رحمه الله تعالى: ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، قيل: أشار
%ص 311%
المصنف بهذه الترجمة وحديثها إلى تضعيف ما رواه أبو داود وغيره من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب، ولا صورة، ولا جنب».
ورده في «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا بعيد؛ لأنَّ المراد من هذا الجنب: الذي يتهاون بالاغتسال ويتخذه عادة حتى تفوته صلاة أو أكثر، وليس المراد منه: من يؤخره ليفعله أو يكون المراد منه: من لم يرفع حدثه كله أو بعضه؛ لأنَّه إذا توضأ؛ ارتفع بعض الحدث عنه، والحديث المذكور صححه ابن حبان، والحاكم، والذي ضعفه قال في إسناده: «نُجَي الخضرمي»؛ بضمِّ النون، وفتح الجيم، لم يرو عنه غير ابنه عبد الله، فهو مجهول، لكن وثقه العجلي وغيره) انتهى كلامه، وقد تبعه ابن حجر والعجلوني؛ فافهم.
قلت: ويدل لهذا أن المراد بـ (الكلب) غير المأذون في اتخاذه؛ ككلب الصيد والماشية، وأن المراد بـ (الصورة) الكبيرة، أما الصغيرة التي لا تبدو للناظر كالتي على الدراهم والدنانير؛ فإنها معفوٌّ عنها، كما ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى.
وفي «عمدة القاري»: (ويستنبط من الحديث: أن الجنب إذا أراد النوم؛ يتوضأ، ثم ينام، ثم هذا الوضوء مستحب أو واجب يأتي الكلام فيه عن قريب) انتهى.
قلت: وفيه رد على من زعم أن الوضوء هنا اللغوي؛ لما سبق من رواية مسلم؛ فليحفظ.
==================
(1/492)
(26) [باب نوم الجنب]
واعلم أنه وقع في رواية كريمة فقط هنا: (باب نوم الجنب)، وهو ساقط لأبوي ذر والوقت، والأَصيلي، والمستملي، وغيرهم من الرواة، قال صاحب «عمدة القاري»: (ولا حاجة إلى هذا؛ لحصول الاستغناء عنه بالباب الذي يأتي عقيبه) انتهى، وتبعه القسطلاني.
وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون ترجم على الإطلاق وعلى التقييد، فلا تكون زائدة.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا يخرج عن كونه زائدًا؛ لأنَّ المعنى الحاصل فيها واحد وليس فيه زيادة فائدة، فلا حاجة إلى ذكره) انتهى.
واعترضه العجلوني فقال: (قد يقال: الغرض من المطلق التنبيه على جواز نومه وإن لم يتوضأ، وإن أجيب بالتقييد، وأما المقيدة الآتية؛ فلبيان الأفضل وأنه لا كراهة فيه؛ فتأمل).
قلت: تأملته فرأيت أن يناسب هنا، ذلك مبلغهم من العلم؛ فإن التناقض في كلامه ظاهر، فإن قوله: (الغرض ... ) إلخ لا معنى لهذا الكلام؛ لأنَّ جواز النوم للجنب بغير وضوء يعلم ضرورة من الترجمة الآتية؛ لأنَّ فيها جواز النوم وزيادة على أن حديث ابن عمر يدل صريحًا للترجمة التي سبقت؛ لأنَّ فيه أن رقاد الجنب في البيت يقتضي جواز كينونته فيه إذا توضأ قبل أن يغتسل؛ فهذا الحديث تابع للترجمة التي سبق ذكرها، كما لا يخفى.
وقوله: (وأما المقيدة ... ) إلخ؛ انظر ما فيه من التناقض؛ فإن الترجمة الآتية صريحة في الدلالة على أن النوم للجنب جائز، وأن الأفضل له أن يتوضأ، وكيف يقال إذا كان لبيان الأفضل وأنه لا كراهة؟! وما هذا إلا خروج عن الظاهر؛ لأنَّه إذا كان وضوءه هو الأفضل ضرورة؛ تنتفي الكراهة؛ لأنَّ الكراهة لا تجتمع مع الفضل، كما لا يخفى.
وحاصله: أن الترجمة الآتية دالة صريحًا على أن النوم للجنب جائز وإن الأفضل أن ينام على وضوء؛ فلا حاجة إلى ذكره، كما لا يخفى، ولا تغتر ممن يزيد في الطنبور نغمة؛ لأنَّ مقصده ترويج كلامه، وإظهار حاله ومرامه؛ فافهم.
==========
%ص 312%
==================
(1/493)
[حديث: نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب]
287# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا قتيبة)؛ بضمِّ القاف، وفتح الفوقية، هو ابن سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة (قال: حدثنا الليث)؛ هو ابن سعد _بسكون العين المهملة_ وهو من تلامذة الإمام الأعظم رضي الله عنه، وفي رواية الأَصيلي: (عن الليث)، (عن نافع)؛ هو مولى عبد الله بن عمر، (عن ابن عمر) رضي الله عنه: (أن) أباه (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، قال في «عمدة القاري»: وهذا الإسناد تقدم في باب «ذكر العلم والفتيا في المسجد» فالإسنادان سواء غير أن هناك نسب الرواة وهنا اكتفي بأسمائهم، وأن الذي هناك يوضح الذي هنا ومع هذا لكل واحد منهما متن خلاف متن الآخر حيث قال: (عن عبد الله بن عمر: أن رجلًا قام في المسجد ... )؛ الحديث.
فإن قلت: هذا الحديث يعد من مسند عمر بن الخطاب أو من مسند ابنه عبد الله؟
قلت: ظاهره أن ابن عمر حضر سؤال أبيه عمر، فيكون الحديث من مسنده وهو المشهور من رواية نافع، وروي عن أيُّوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنه قال: (يا رسول الله) أخرجه النسائي، وعلى هذا؛ فهو من مسند عمر، وكذا رواه مسلم من طريق يحيى القطان، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، وهذا لا يقدح في صحة الحديث) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
قلت: وأشار بقوله: (وهذا) إلى الاختلاف وأنه غير قادح؛ فافهم، وذكر نحوه ابن حجر.
واعترضه العجلوني: (بأن رواية مسلم والنسائي ليستا صريحتين في عدم حضور ابن عمر، بل يجوز حضوره، وحينئذٍ؛ فهو من مسنده كأبيه) انتهى.
قلت: وهو ممنوع؛ فإن الروايتين صريحتان في عدم حضوره السؤال؛ لأنَّه لو كان حاضرًا؛ لكان حقه أن يقال: عن ابن عمر أن عمر ... ؛ الحديث، أما الصيغة الأولى؛ فصريحة في عدم حضوره، كما لا يخفى.
وقوله: (بل يجوز ... ) إلخ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لا دليل يدل على حضوره، وحينئذٍ؛ فهو من مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خلافًا لما زعمه هذا القائل، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في معاني التركيب.
(سأل) أي: عمر رضي الله عنه (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فقال له: (أيرقد أحدنا) الهمزة فيه للاستفهام عن حكم الرقاد لا عن تعيين الوقوع؛ والمعنى: أيجوز الرقود لأحدنا (وهو جنب؟) جملة اسمية وقعت حالًا، (قال) أي: النبيُّالأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (نعم) أي: يجوز له النوم؛ (إذا توضأ أحدكم)؛ أي: وضوءه للصلاة، فالمراد به: الوضوء الشرعي؛ (فليرقد) فـ (إذا) متعلقة بـ (يرقد)؛ لأنَّهاظرف محض له، وكذا إذا كانت متضمنة للشرط على المشهور؛ والمعنى: إذا أراد أحدكم الرقاد؛ فليرقد بعد التوضؤ، وإذا كانت شرطية؛ فالمسبب الرقاد أو الأمر به؛ لأنَّ العامل فيها جوابها، وذهب ابن هشام وجماعة إلى أن العامل فيها شرطها؛ لعدم إضافتها عندهم إليه مجازًا؛ لأنَّ الوضوء سبب لهما والأمر بالرقاد للإباحة؛ لأنَّ الإجماع قائم على عدم وجوبه وندبه؛ فتأمل، وذكر نحوه الكرماني.
واعترضه صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: ذهب الإمام أبو يوسف، والثوري، والحسن بن حي، وابن المسيب إلى أنه لا بأس للجنب أن ينام من غير أن يتوضأ، واحتجوا في ذلك بما رواه الترمذي عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ينام وهو جنب ولا يمس ماء).
وروى ابن ماجه أيضًا عن الأسود عن عائشة قالت: (إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إن كانت له إلى أهله حاجة؛ قضاها، ثم ينام كهيئته لا يمس ماء)، وأخرجه أحمد كذلك، وأخرجه الحافظ الطحاوي من سبعة طرق؛ منها: ما رواه عن أبي داود، عن مسدد قال: حدثنا أبو الأحوص قال: حدثنا أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا رجع من المسجد صلى ما شاء، ثم مال إلى فراشه وإلى أهله، فإن كانت له حاجة؛ قضاها، ثم ينام كهيئته ولا يمس طيبًا)، وأرادت بالطيب: الماء، كما وقع في الروايات الأخرى، ولا يمس ماء وذلك؛ لأنَّ الماء يطلق عليه الطيب، كما ورد في الحديث؛ فإن الماء طيب؛ لأنَّه يطيب ويطهر، وأي طيب أقوى في التطهير من الماء؟
وذهب الإمام الأعظم، والإمام محمَّد، والليث بن سعد، ومالك، والأوزاعي، وإسحاق، وابن المبارك، وأحمد، والشافعي، وآخرون: إلى أنه ينبغي للجنب أن يتوضأ للصلاة قبل أن ينام، ولكنهم اختلفوا في صفة هذا الوضوء وحكمه؛ فذهب أكثر الفقهاء إلى أن ذلك على الندب والاستحباب لا على الوجوب، فقال الإمام الأعظم، والثوري: لا بأس أن ينام الجنب على غير وضوء، وأحبُّ إلينا أن يتوضأ؛ فإذا أراد أن يأكل؛ تمضمض وغسل يديه، وهو قول الحسن بن حي.
وقال الأوزاعي: الحائض والجنب إذا أرادا أن يطعما؛
%ص 312%
غسلا أيديهما.
وقال الليث: (لا ينام الجنب حتى يتوضأ رجلًا كان أو امرأة).
وقال أحمد: (يستحب للجنب إذا أراد أن ينام، أو يطأ ثانيًا، أو يأكل؛ أن يغسل فرجه ويتوضأ)، روي ذلك عن علي، وابن عمر.
وقال سَعِيْد بن المسيِّب: (إذا أراد أن يأكل؛ يغسل كفيه، ويتمضمض)، وحكي نحوه عن أحمد، وإسحاق.
وقال مُجَاهِد: (يغسل كفيه).
وقال مالك: (يغسل يديه إن كان أصابهما أذًى).
وذهبت طائفة إلى أن الوضوء المأمور به الجنب هو غسل الأذى منه، وغسل ذكره ويديه، وهو للتنظيف، وذلك عند العرب يسمى وضوءًا، قالوا: وقد كان ابن عمر لا يتوضأ عند النوم الوضوء الكامل، وهو روى الحديث وعلم مخرجه.
وقال مالك: (لا ينام الجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة)، قال: (وله أن يعاود أهله ويأكل قبل أن يتوضأ إلا أن يكون في يديه قذر فيغسلهما)، قال: (والحائض تنام قبل أن تتوضأ).
وقال الشافعي في نحو قول مالك، وقال القاضي عياض: (ظاهر مذهب مالك أنه ليس بواجب إنَّما هو مرغب فيه)، وابن حبيب يروي وجوبه وهو مذهب داود الظاهري.
وقال ابن حزم في «المحلى»: (ويستحب الوضوء للجنب إذا أراد الأكل، أو النوم، أو لرد السلام، أو لذكر الله تعالى، وليس ذلك بواجب).
قال في «عمدة القاري»: (قد خالف ابن حزمٍ داودَ في هذا الحكم).
وقال ابن العربي: قال مالك والشافعي: (لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ).
فزعم ابن حجر أن بعض المتأخرين أنكر هذا النقل، وقال: (لم يقل الشافعي بوجوبه ولا يعرف ذلك أصحابه، وهو كما قال، لكنَّ كلام ابن العربي محمول على أنه أراد: نفي الإباحة المستوية للطرفين لا إثبات الوجوب، أو أراد بأنه واجب وجوب سنة؛ أي: يتأكد الاستحباب، ويدل عليه أنه قابله بقول ابن حبيب وهو واجب وجوب الفرائض) انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: إنكار بعض المتأخرين هذا الذي نقل عن الشافعي إنكار مجرد؛ فلا يقاوم الإثبات، وعدم معرفة أصحابه ذلك لا يستلزم ذلك قول الشافعي بذلك، وأبعد من هذا قول هذا القائل وهو كما قال؛ فكيف يقول بهذا وقد بينا فساده؟! وأبعد من هذا كله حمل هذا القائل كلام ابن العربي على ما ذكره، يعرف ذلك من دقق نظره فيه) انتهى.
قلت: فقوله: (أنكر بعض المتأخرين ... ) إلخ الإنكار معناه: النفي، وكلام ابن العربي معناه: الإثبات، والقاعدة عند الأصوليين أن المثبت مقدم على النافي.
وقوله: (ولا يعرف ذلك ... ) إلخ هذا ليس بدليل لما زعمه؛ لأنَّه لا يلزم من عدم معرفتهم ذلك أن لا يكون قولًا لإمامهم؛ لاحتمال عدم اطلاعهم [1] على أقوال إمامهم.
وقوله: (لكن ... ) إلخ هذا الحمل باطل؛ لأنَّ عدم الجواز دليل الوجوب؛ فكيف يقول: نفي الإباحة؟! وما هو إلا رجم بالغيب على أن هذا الاستدراك غير صحيح؛ لأنَّه لما ظن أن ذلك ليس بقول إمامه ارتقى في جوابه، وقال: وهو كما قال؛ فلو كان كما قال؛ كيف يلزم حمله على ما ذكره؟! وما هذا إلا تناقض وهو يدل على أن ذلك قول إمامه، كما قاله ابن العربي.
وقوله: (أو أراد بأنه ... ) إلخ هذا ممنوع؛ فإن الواجب لا يراد به السنية والاستحباب؛ فإن مذهب إمام هذا القائل أن الواجب هو الفرض؛ فكيف يراد ما قاله؟! وما هو إلا خروج عن الظاهر.
وقوله: (ويدل عليه ... ) إلخ هذا لا يدل لما قاله، بل هو دليل على الوجوب؛ لأنَّه لم يقابله، بل ذكره عقيبه وعادة العلماء الأعلام ذكر ما قالوا بالفرض على حده، وما قالوا بالوجوب كذلك، وما قالوا بالاستحباب كذلك؛ فكيف يقول هذا القائل ما قال؟! وكأنه لم يعرف عادة العلماء المؤلفين فقال ما قال؛ فافهم، والله أعلم.
قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: واعلم: أن الحافظ الطحاوي أجاب عن حديث عائشة رضي الله عنها المذكور فقال: وقالوا هذا الحديث غلط؛ لأنَّه حديث مختصر اختصره أبو إسحاق من حديث طويل؛ فأخطأ في اختصاره إياه، وذلك لأنَّ أبا إسحاق قال: أتيت الأسود بن يزيد وكان لي أخًا وصديقًا فقلت له: يا أبا عمر؛ حدثني ما حدثتك به عائشة أم المؤمنين عن صلاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ينام أول الليل ويجيء آخره، ثم إن كانت له حاجة؛ قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يمس ماء، فإذا كان عند النداء الأول؛ وثب _وما قالت: قام _فأفاض عليه الماء، وما قالت: اغتسل، وأنا أعلم ما تريد، وإن نام جنبًا؛ توضأ وضوء الرجل للصلاة؛ فهذا الأسود بن يزيد قد بيَّن في حديثه لما ذكره بطوله أنه كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وأما قولها: (فإن كانت له حاجة قضاها، ثم نام قبل أن يمس ماء)؛ فيحتمل أن يكون ذلك على الماء الذي يغتسل به لا على الوضوء.
وقال أبو داود: قال يزيد بن هارون: حديث أبي إسحاق وهم، وفي رواية عنه: ليس بصحيح، وقال مهنى: سألت أبا عبد الله عنه، فقال: ليس بصحيح، قلت: لِمَ قال: لأنَّ شعبة روى عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: (أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة)؟ قلت: من قبل مَن جاء هنا الاختلاف؟ قال: من قبل أبي إسحاق.
وقال الترمذي، وأبو علي الطوسي: روى غير واحد عن الأسود، عن عائشة: (أنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتوضأ قبل أن ينام وهو جنب يتوضأ وضوءه للصَّلاة [2])، وهذا أصح من حديث أبي إسحاق، قال: وكانوا يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق، وقد تصدى جماعة لتصحيح هذا الحديث، كما قاله ابن ماجه منهم الدارقطني؛ فإنه قال: يشبه أن يكون الخبران صحيحين؛ لأنَّ عائشة قالت: ربما قدم الغسل وربما أخره، كما حكى ذلك عصيف، وعبد الله بن أبي قَيْس، وغيرهما عن عائشة وأن الأسود حفظ ذلك عنها؛ فحفظ أبو إسحاق عنه تأخير الوضوء والغسل، وحفظ إبراهيم وعبد الرحمن تقدم [3] الوضوء على الغسل، ومنهم البيهقي.
قال إمام الشارحين: وملخص كلامه: أن حديث أبي إسحاق صحيح من جهة الرواية، وذلك أنه بيَّن فيه سماعه من الأسود في رواية زهير عنه، والمدلس إذا بين سماعه ممن روى عنه وكان ثقة؛ فلا وجه لرده، ووجه الجمع بين الروايتين على وجه يحتمل وقد جمع بينهما أبو العباس بن فريح فأحسن الجمع، وسئل عنه وعن حديث عمر: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: «نعم؛ إذا توضأ أحدكم؛ فليرقد»، ففسر ذلك فيه: الوضوء وبه نأخذ، ومنهم ابن قتيبة؛ فإنه قال: يمكن أن يكون الأمران جميعًا وقعا؛ فالفعل لبيان الاستحباب، والترك لبيان الجواز ومع هذا قالوا: إنا وجدنا لحديث أبي إسحاق شواهد ومتابعين، فممن تابعه: عطاء، والقاسم، وكُريب، والدستوائي، كما ذكره أبو إسحاق الحري، قال: وأحسن الوجوه في ذلك إن صح حديث أبي إسحاق، فيما رواه ووافقه هؤلاء أن تكون عائشة أخبرت الأسود: أنه كان ربما يتوضأ وربما أخر الوضوء والغسل حتى يصبح، فأخبر الأسود إبراهيم أنه كان يتوضأ، وأخبر أبا إسحاق أنه كان يؤخر الغسل، وهذا أحسن الوجوه.
فإن قلت: قد روي عن عائشة ما يضاد ما روي عنها أولًا: هو أن الحافظ الطحاوي روى من حديث الزُّهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل كفيه)، ويروى عنها: (أنه كان يتوضأ وضوءه للصلاة)؟
قلت: أجيب عن هذا بأنها لما أخبرت بغسل الكفين بعد أن كانت علمت بأنه عليه السلام أمر بالوضوء التامفدل ذلك على ثبوت النسخ عندها.
وزعم ابن حجر أن الطحاوي جنح إلى أن المراد بالوضوء التنظيف، واحتج بأن ابن عمر راوي الحديث وهو صاحب القصة كان يتوضأ وهو جنب ولا يغسل رجليه، كما رواه مالك في «الموطأ» عن نافع.
وأجيب: بأنه ثبت تقييد الوضوء بالصَّلاة في رواية من رواية عائشة؛ فيعتد بها، ويحمل قول
%ص 313%
ابن عمر: (غسل رجليه)، إن ذلك كان لعذر.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا القائل ما أدرك كلام الحافظ الطحاوي ولا ذاق معناه؛ فإنه قائل بورود هذه الرواية عن عائشة، ولكنه حملها على النسخ، كما ذكرناه، وكذلك ما روي عن ابن عمر حمله على النسخ؛ لأنَّ فعله هذا بعد علمه أنه عليه السلام أمر بالوضوء التام في الجنب يدل على ثبوت النسخ عنده؛ لأنَّ الراوي إذا روى شيئًا عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو علمه منه، ثم فعل أو أفتى بخلافه؛ يدل على ثبوت النسخ عنده؛ لأنَّه لو لم يثبت ذلك؛ لما كان له الإقدام على خلافه، وكذلك روى من قول ابن عمر ما رواه من حديث أيُّوب عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: «إذا أجنب الرجل وأراد أن يأكل، أو يشرب، أو ينام؛ غسل كفيه، وتمضمض، واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، وغسل فرجه، ولم يغسل قدميه»، فهذا قول هذا القائل، ويحتمل ترك ابن عمر غسل رجليه على أرضه كان لعذر) انتهى كلامه رضي الله عنه.
واعترضه العجلوني فزعم أنه لو كان كما قال من أنهما يريان النسخ وأن الطحاوي يعلم بذلك؛ لما احتج بحديثهما؛ فتأمل.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإن ما قاله إمام الشارحين هو الحق من أنهما يريان النسخ، كما يعلم ذلك من تتبع ما قدمناه عن الحافظ الطحاوي، وأنه جزم بحمل ما روى عنهما على النسخ، كما بينا الكلام في ذلك.
وقوله: (وأن الطحاوي يعلم ذلك) لا يخفى أن الحافظ الطحاوي يعلم ذلك من حين كان العجلوني منيًّا في ظهر آبائه في عجلون، كيف لا يعلم وقد أطبق الحفاظ على حفظه وإتقانه وضبطه؟!
وقوله: (لما احتج ... ) إلخ ممنوع؛ فإنه لم يحتج بحديثهما، بل رواه وبيَّن طرقه ورواياته ولا يلزم من ذكر ذلك أن يحتج بذلك؛ فإن المحدثين كثيرًا ما يروون الأحاديث ولا يأخذون بها؛ فهو لا يدل على احتجاجهم بها، كما زعمه هذا القائل المتعصب، على أن هذا القائل لم يفرق بين الناسخ والمنسوخ، وإنما تعلق هذا القائل بما زعمه ابن حجر في أول كلامه وهما ممنوعان؛ فأي دليل دلهما على أنه احتج بحديثهما؟! وما هي إلا دعوى باطلة، بل إنَّما جزم بالنسخ وادَّعاه وتكلم على بيان الروايات، ولا يلزم من ذكرها الاحتجاج بها؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن رقاد الجنب في البيت يقتضي جواز كينونته فيه؛ أي: استقراره فيه يقظانًا؛ لعدم الفارق، ولأن نومه مسلتزم للجواز؛ لوجود اليقظة بين نومه ووضوئه، ولا فرق بين القليل والكثير)، والله تعالى أعلم، واستغفر الله العظيم.
==========
[1] في الأصل: (اضطلاعهم)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الصلاة).
[3] في الأصل: (فقدم)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (اضطلاعهم)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الصلاة).
[1] في الأصل: (اضطلاعهم)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الصلاة).
(1/494)
(27) [باب الجنب يتوضأ ثم ينام]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين وعدمه: (الجنب يتوضأ، ثم ينام)؛ أي: في بيان حكمه والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==================
(1/495)
[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ]
288# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا يحيى ابن بُكير)؛ بضمِّ الموحدة؛ مصغرًا، نسبه إلى جده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو يحيى بن عبد الله بن بكير المصري (قال: حدثنا الليث)؛ هو ابن سعد _بسكون العين المهملة_ المصري إمام أهل مصر من أتباع الإمام الأعظم رضي الله عنه، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن أبي جعفر)؛ هو أبو بكر الفقيه المصري المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئة، (عن محمَّد بن عبد الرحمن) أبو الأسود الأسدي المدني المشهور بيتيم عروة بن الزبير، كان أبوه أوصى به إليه، المتوفى آخر سلطنة بني أمية، (عن عُروَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وفتح الواو، هو ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة) أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أفادت لفظة (كان) على أن ذلك عادته على الدوام والاستمرار؛ لأنَّها تدل على ذلك (إذا أراد أن ينام وهو جنب): جملة اسمية محلها النصب؛ لأنَّها حالية، وقوله: (غسل فرجه)؛ أي: القبل والدبر وما حولهما مما بقي عليها من المني وغيره جواب (إذا) (وتوضأ للصلاة)؛ أي: وضوءًا مختصًا بالصَّلاة؛ يعني وضوءًا شرعيًّا لا وضوءًا لغويًّا، وليس معناه أنه توضأ لأداء الصَّلاة له قبل الغسل؛ لأنَّه ممنوع، أو يقدر محذوف؛ أي: توضأ وضوءًا كما توضأ للصلاة، وفي بعض الروايات: (توضأ وضوءه للصلاة)، كذا قرره في «عمدة القاري».
قلت: وفي الحديث: أن غسل الجنابة على التراخي لا على الفور، وإنما يتضيق في آخر الوقت، وهذا من عادته الكريمة؛ لما سبق قريبًا، وقدمنا أنه عليه السلام نام وهو جنب من غير وضوء بيانًا للجواز؛ لأنَّه نادر؛ فليحفظ.
وفي الحديث: أن المني نجس؛ لقوله: (غسل فرجه)، وإنما أصابه المني وفيه أن وقت الجماع إنَّما يكون بعد صلاة العشاء الأخيرة، والله أعلم.
==========
%ص 314%
==================
(1/496)
[حديث: استفتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب]
289# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) هو التبوذكي (قال: حدثنا جُويرة)؛ بضمِّ الجيم، تصغير جارية، هو ابن أسماء بن عبيدة الصيفي، فاسمه واسم أبيه مما هو غالب في النساء، وكنيته أبو مِخراق _بكسر الميم_ أو أبو المُخارق _بضمِّها_، البصري المتوفى سنة ثلاث وسبعين ومئة، (عن نافع) مولى ابن عمر، (عن عبد الله)؛ أي: ابن عمر، وفي رواية ابن عساكر: (عن ابن عمر) (قال: استفتى عمر)؛ هو ابن الخطاب؛ أي: والده (النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: طلب عمر الفتوى من النبيِّ عليه السلام، فالسين والتاء (للطلب) فقال عمر للنبيِّ عليه السلام: (أينام)؛ الهمزة للاستفهام (أحدنا) فهو بيان لصورة الاستفتاء (وهو جنب): جملة حالية؟ (قال)،وفي رواية: (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (نعم) جواب الاستفتاء؛ أي: نعم ينام أحدنا وهو جنب؛ (إذا توضأ) ولمسلم من طريق ابن جُريج عن نافع: (ليتوضأ، ثم لينم)؛ أي: وضوءه للصلاة، فالمراد بالوضوء: الشرعي لا اللغوي، وهو للندب والاستحباب عند الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور من الفقهاء وغيرهم، وذهب أهل الظاهر وابن حبيب المالكي أنه للوجوب، وهو المنقول عن مالك، والشافعي، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالوضوء اللغوي الذي هو غسل اليدين، والذكر، والأذى، والروايات السابقة تدل هذا كما بيناه؛ فافهم.
==================
(1/497)
[حديث: توضأ واغسل ذكرك ثم نم]
290# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن عبد الله بن دينار)، قال في «عمدة القاري»: هكذا رواه مالك في «الموطأ» عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وكذا رواه أبو زيد، ورواه ابن السكن عن الفربري فقال: مالك عن نافع، وقال الجياني في بعض النسخ جعل (نافعًا) بدل (عبد الله بن دينار)، وكلاهما صواب؛ لأنَّ مالكًا يروي هذا الحديث عنهما، لكنه برواية عبد الله أشهر، وقال ابن عبد البر: الحديث لمالك عنهما جميعًا، لكن المحفوظ عن عبد الله بن دينار، وحديث نافع غريب.
قلت: (لا غرابة فيه؛ لأنَّه رواه عنه كذلك عن نافع خمسة أو ستة، ولكن الأول أشهر) انتهى؛ فافهم.
(عن عبد الله بن عمر) أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما (أنه قال: ذكر عمر)؛ هو والده ابن الخطاب رضي الله عنه (لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وهذا يقتضي أن يكون الحديث من مسند ابن عمر كما يأتي: (أنه)؛ بفتح الهمزة لتقدير الباء الثابتة في رواية الحمُّوي والمستملي، والضمير فيه وفي قوله: (تصيبه الجنابة من الليل)؛ أي: فيه يرجع إلى عبد الله بن عمر لا إلى عمر يدل عليه رواية النسائي من طريق ابن عون عن نافع قال: أصاب ابن عمر جنابة، فأتى عمر رضي الله عنه فذكر ذلك له؛ فأتى عمر النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فاستأمره، فقال: «ليتوضأ وليرقد».
%ص 314%
(فقال له) ولفظة (له) ليست بموجودة في رواية الأَصيلي (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) مخاطبًا لابن عمر إن كان حاضرًا، ويحتمل أنَّ الخِطَاب لعمر جوابًا لاستفتائه وهو في الحقيقة لابنه.
فإن قلت: ظاهر عبارة المؤلف يدل على أن الضمير في (أنه) و (له) يرجع إلى عمر؟
قلت: الظاهر كذا رواية النسائي أن الضمير لعبد الله، فكأنه حضر إلى رسول الله عليه السلام بعد أن ذكر عمر ذلك؛ فلهذا خاطبه وإن لم يكن حضر؛ فالخطاب لعمر؛ لأنَّه جواب استفتائه، ولكنه يرجع إلى ابنه عبد الله؛ لأنَّ الاستفتاء من عمر؛ لأجل عبد الله، كما دل عليه ما رواه النسائي، كذا قرره في «عمدة القاري».
(توضأ)؛ أي: وضوءك للصلاة كما دلت عليه الروايات السابقة، (واغسل ذكرك)؛ معناه: اجمع بينهما؛ لأنَّ (الواو) لا تدل على الترتيب، كما هو الأصل؛ لأنَّه من المعلوم أن يقدم غسل الذكر على الوضوء، وفي رواية أبي نوح عن مالك: «اغسل ذكرك، ثم توضأ»، وهو على الأصل، وفيه رد على من حمل الرواية الأولى على ظاهرها، وأجاز تقديم الوضوء على غسل الذكر؛ لأنَّه ليس بوضوء ينقضه الحدث، وإنما هو للتعبد، كذا قاله في «عمدة القاري»، (ثم نم)؛ أي: ما تيسر لك من الليل، وفيه: من أنواع البديع تجنيس التصحيف، وقوله: (توضأ) أدل على الوجوب، وقد قدمنا أن الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور على أن المراد بالوضوء: الشرعي وأنه للندب والاستحباب، واختلفوا في الحكمة فيه.
فقال في «عمدة القاري»: قيل: فيه تخفيف الحدث، لا سيما على القول بجواز تفريق الغسل؛ فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء وإن لم ينو، ويدل عليه ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: (إذا أجنب أحدكم من الليل، ثم أراد أن ينام؛ فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة)، وقيل: لأنَّه إحدى الطهارتين، فعلى هذا؛ يقوم التيمم مقامه، وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها: (أنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ، أو تيمم)، قال في «عمدة القاري»: (الظاهر: أن التيمم هذا كان عند عدم الماء، وقيل: لينشط إلى العود، أو إلى الغُسل).
وقال ابن الجوزي: (الحكمة فيه: أن الملائكة تبعد عن الوسخ والريح الكريهة، بخلاف الشياطين، فإنها تقرب من ذلك) انتهى.
وقيل: ليبيت على إحدى الطهارتين؛ خشية الموت في المنام.
وقال في «منهل الطلاب»: (وليس على الحائض والنفساء الوضوء عند إرادة النوم؛ لأنَّها لو اغتسلت؛ لم يرتفع حدثها، بل هي مضمخة بالنجاسة؛ فلا يطلب منها، فإذا انقطع دمها لتمام عادتها؛ فقد وجب عليها الغسل؛ فلا فائدة في الوضوء هنا إلا إذا أرادت الاغتسال، فيندب لها الوضوء قبله) انتهى وبه قال الشافعي.
وفي «المنية»: (إذا أراد الجنب الأكل والشرب؛ ينبغي له أن يغسل يديه وفاه، ثم يأكل أو يشرب؛ لأنَّه يورث الفقر) انتهى؛ أي: لأنَّ الأكل والشرب بدون ما ذكر سبب للفقر، كذا في «الحلية»، وفي «الفتاوى الخانية»: (المستحب له ذلك، وإن ترك؛ لا بأس به) انتهى.
لكن في «منهل الطلاب»: (أن تركه مكروه)، ونص أئمتنا وصرح به في «الدر المختار» وغيره أنه يكره النوم قبل الوضوء، ولا خلاف عندنا أن هذا الوضوء ليس بواجب، وهذا بخلاف الحائض إذا أرادت الأكل؛ لأنَّ سؤرها لا يصير مستعملًا ما لم تُخَاطب بالاغتسال ذكره في «شرح المنية»، وفي «الخانية»: واختلفوا في الحائض قيل: كالجنب، وقيل: لا يستحب لها؛ لأنَّ الغسل لا يزيل نجاسة الحيض عن الفم واليدين، وتمامه في «الحلية»، قال في «منهل الطلاب»: (والنفساء كالحائض، وينبغي لهما، ويستحب غسل اليدين للأكل بلا خلاف؛ لأنَّه يستحب للطاهر؛ فهما أولى، ولهذا قال في «الخلاصة» إذا أرادت أن تأكل؛ تغسل يديها، وفي المضمضة خلاف) انتهى.
وينبغي أرجحية القول باستحبابها أيضًا، كما لا يخفى.
وفي «جامع الفتاوى» وغيرها: (وللحائض والجنب زيارة القبور، وقراءة الدعوات، وإجابة المؤذن، ونحوها) انتهى؛ أي: من تسبيح وتهليل، ودخول مصلى عيد، وجنازة، كما صرح غير واحد من أئمتنا الأعلام، وقدمنا عن ابن عمر أن المراد بالوضوء: اللغوي، فإذا أراد الأكل؛ يندب لهم هذا الوضوء وهو ظاهر رواية مسلم السابقة، وقال مالك: له أن يأكل قبل أن يتوضأ إلا أن يكون في يديه قذر؛ فيغسلهما وهل ينتقض وضوء الجنب بالحدث الأصغر؟
فعندنا: لا ينتقض؛ لأنَّه للتعبد، وليس بوضوء ينقضه الحدث، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وبه قال الإمام مالك، وقال اللخمي من أصحاب مالك: ينتقض، ولم يتعرض العجلوني لمذهب إمامه هنا: ما الحكم فيه مع شدة تعصبه لمذهب إمامه، وبيانه ولعله خفي عليه الحكم وهو ظاهر؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==================
(1/498)
(28) [باب إذا التقى الختانان]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان حكم ما (إذا التقى) أي: اجتمع (الختانان)؛ يعني: ختان الرجل وختان المرأة، فـ (إذا) شرطية وجوابها محذوف؛ أي: فقد وجب الغسل، ويحتمل أن تكون (إذا) لمجرد الظرفية؛ فلا جواب لها، والـ (باب) مضاف إليها على تقدير مضافين؛ أي: بيان حكم الغسل وقت التقاء الختانين، والأول الأظهر، كما لا يخفى.
وزعم ابن حجر أن المراد بهذه التثنية ختان الرجل وخفاض المرأة، وإنما ثنيا بلفظ واحد؛ تغليبًا له.
قال في «عمدة القاري»: (وذكر هذا هكذا بناء على عادة العرب؛ فإنهم يختنون النساء، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «الختان للرجال سنة، وللنساء مكرمة»، رواه الإمام الخصاف في «أدب القاضي» عن شداد بن أوس رضي الله عنه).
قلت: وعلى هذا؛ فلا تغليب، كما زعمه هذا القائل؛ فليحفظ، ثم الختان: قطع الجلدة؛ وهي ما دون حزة الحشفة وهي الكمرة، وكذا الختن، والخفاض: قطع جلدة في أعلى الفرج تشبه عرف الديك بينها وبين مدخل الذكر جلدة رقيقة، وكذلك الخفض؛ لأنَّ مدخل الذكر هو مخرج المني والولد والحيض، وفوق مدخل الذكر مخرج البول؛ كإحليل الرجل وبينهما جلدة رقيقة يقطع منها في الختان، والمراد بالتقائهما: اجتماعهما ومحاذاتهما، وهو عبارة عن إيلاج الحشفة كلها في قُبل أو دُبر، والمراد بالحشفة: ما فوق الختان، كما في «القاموس».
واختلفوا في الموجب للغسل، فقال في «النهاية»: (هذه المعاني موجبة للجنابة لا للغسل على المذهب الصحيح؛ لأنَّها تنقض الغسل، فكيف توجبه؟ لأنَّ الناقض للشيء لا يكون مثبتًا له).
واعترضه في «غاية البيان»: (بأن المراد أن الغسل يجب بهذه المعاني على طريق البدل، وإنما يتوجه ما اعترض به إذا كانت هذه المعاني موجبة لوجود الغسل لا لوجوبه، واعترض أيضًا بأنها تنقض ما كان، وتوجب ما سيكون، فلا منافاة).
وأجاب في «المستصفى»: (بأن هذه المعاني شروط في الوجوب لا أسباب، فأضيف الوجوب إلى الشرط مجازًا؛ لأنَّ السبب يتعلق به الوجود والوجوب، والشرط يضاف إليه الوجود، فشارك الشرط السبب في الوجود) انتهى.
وقال العلامة سعدي أفندي: (الجمهور: على أن هذه المعاني شروط لا أسباب؛ لمنافاتها الطهارة، فجعلها موجبات تسامح) انتهى.
واختار شيخ الإسلام في «المبسوط»: (أن سبب وجوب الغسل إرادة ما لا يحل فعله بسبب الجنابة من صلاة، وقراءة قرآن عند عامة المشايخ).
واعترضه في «غاية البيان»: (بأن الغسل يجب إذا وجد أحد هذه المعاني، سواء وجدت الإرادة أو لم توجد).
ورده في «العناية» قال:
%ص 315%
(وفيه نظر؛ لأنَّ فائدة الوجوب للأداء وهو أمر اختياري، فأضيف الوجوب إلى الأداء؛ لهذا المعنى)؛ فتأمل.
وقيل: إن السبب الجنابة أو ما في معناها، واختاره في «غاية البيان».
وقيل: إن السبب وجوب ما لا يحل مع الجنابة، واختاره المحقق في «فتح القدير».
وقيل: إن السبب إرادة ما لا يحل فعله بسبب الجنابة من صلاة، وقراءة قرآن، ودخول مسجد، ومس مصحف، واختاره في «الكافي»، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام في «المبسوط»، وتمامه في شرحنا على «القدوري» المسمى بـ «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب.
==================
(1/499)
[حديث: إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل]
291# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُعاذ) بضمِّ الميم أوله، وبالذال المعجمة آخره (بن فَضالة) بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة، البصري (قال: حدثنا هشام)؛ هو الدستوائي. (ح): مهملة بين الإسنادين من التحويل، وتقدم أن الأصح أنها للتحويل، قال العجلوني: وفي بعض النسخ هي ساقطة؛ لإغناء الواو عنها في قوله: وحدثنا) انتهى.
قلت: وهو ممنوع فإن فائدة ثبوت (ح) الإشارة إلى تعدد الإسناد، وهي للتحويل من إسناد إلى آخر، و (الواو) لا تدل على هذا بدونها، الأصح ضمها إليه، فهما متلازمان في الدلالة؛ فافهم.
(وحدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون، وسكون التحتية، هو الفضل بن دُكين؛ بضمِّ الدال المهملة، (عن هشام)؛ هو الدستوائي السابق، وإنما فرقهما؛ لأنَّ أبا نعيم قال: (عن)، ومعاذًا قال: (حدثنا)، والرواة إلى الصحابي كلهم بصريون، كذا في «عمدة القاري»، (عن قَتادة) بفتح القاف، هو ابن دعامة المفسر، (عن الحسن) هو البصري، (عن أبي رافع)؛ هو نُفيع _بضمِّ النون_ مصغرًا الصائغ؛ بالمهملة آخره معجمة، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه (قال: إذا جلس) الضمير المرفوع فيه، وفي (جهد) يرجع إلى (الرجل)، وأما الضمير الذي في (شعبها) وفي (جهدها) يرجعان إلى المرأة، وإن لم يمض ذكرها؛ لدلالة السياق عليه، كما في قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، كذا في «عمدة القاري»، وقد صرح بذلك في رواية لابن المُنْذِر من وجه آخر عن أبي هريرة قال: إذا غشي الرجل امرأته فقعد (بين شُعَبها الأربع)؛ بضمِّ الشين المعجمة، وفتح العين المهملة، جمع شعبة، ويروى: (أشعبها) جمع شعيب، وقال ابن الأثير: الشعبة: الطائفة من كل شيء، والقطعة منه، والشعب: النواحي، واختلفوا في المراد بالشعب الأربع؛ فقيل: هي اليدان والرجلان، وقيل: الرجلان والفخذان، وقيل: الرجلان والشفران، واختار القاضي عياض: أن المراد من الشعب الأربع: نواحيها الأربع، والأقرب أن يكون المراد اليدين والرجلين والفخذين، ويكون الجماع مكنيًّا عنه بذلك يكتفى بما ذكر عن التصريح، وإنما رجح هذا؛ لأنَّه أقرب إلى الحقيقة في الجلوس بينهما، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، (ثم جَهَدها)؛ بفتح الهاء والجيم؛ أي: بلغ جهده في العمل فيها، وقيل: بلغ مشقتها، يقال: جهدته وأجهدته [1]؛ إذا بلغت مشقته، وقيل معناه: كدها بحركته.
وفي رواية مسلم من طريق شعبة عن قتادة: (ثم اجتهد)، وقيل: الجهد من أسماء النكاح، فمعنى (جَهَدها): جامعها، وإنما عدل إلى الكناية؛ للاجتناب عما يفحش ذكره صريحًا، وروى أبو داود من طريق شعبة وهشام معًا، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان؛ فقد وجب الغسل»؛ أي: موضع الختان بموضع الختان؛ لأنَّ الختان اسم للفعل، وهذا يدل على أن الجهد هنا كناية عن معالجة الإيلاج.
وفي رواية البيهقي من طريق ابن أبي عَروبة عن قتادة: (إذا التقى الختانان؛ فقد وجب الغسل)، ورواه ابن ماجه من طريق القاسم بن محمَّد، عن عائشة برجال ثقات، ورواه مسلم من طريق أبي موسى الأشعري، عن عائشة، ولفظه: (مس الختان الختان)، والمراد بالمس: الالتقاء، يدل عليه رواية الترمذي، ولفظه: (إذا جاوز)، وليس المراد حقيقة المس حتى لو حصل المس بدون التقاء الختانين؛ فلا يجب الغسل بلا خلاف، كذا في «عمدة القاري».
(فقد وجب الغسل)؛ أي: على كل من الرجل والمرأة، ولا يتوقف على نزول المني، بل متى غابت الحشفة في الفرج؛ وجب الغسل عليهما وإن لم يوجد الإنزال، يدل عليه رواية مسلم من طريق ابن الوراق، عن الحسن في آخر هذا الحديث: (وإن لم ينزل)، ووقع ذلك في رواية قتادة أيضًا.
رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» عن عفان قال: حدثنا همام وأبان؛ قالا: أخبرنا قتادة به، وزاد في آخره: (أنزل أو لم ينزل)، وكذا رواه الدارقطني، وصححه من طريق علي بن سهل، عن عفان، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي عن حمَّاد بن سَلَمَة، عن قتادة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قبلًا أو دبرًا، طائعًا أو مكرهًا، نائمًا أو مستيقظًا، فإن الفسقة يرجحون قضاء الشهوة من الدبر على قضائها من القبل؛ لما يدعون فيه من اللين والحرارة والضيق، والمراد: غيبوبة الحشفة أو قدرها من مقطوعها، أما مجرد التلاقي؛ فلا يوجب الغسل، لكنه يوجب الوضوء عند الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف؛ لأنَّ ذلك لا يخلو على ظهور مذي غالبًا، فصار كالمتحقق، وقال الإمام محمَّد: لا يجب حتى يظهر المذي.
وقيدنا بالرجل والمرأة؛ لأنَّه لو أولج في فرج بهيمة؛ لا يجب الغسل إلا بالإنزال، لكنه يعزَّر وتذبح البهيمة وتحرق على وجه الاستحباب، ولا يحرم أكل لحمها، كذا في «القنية»، وكذلك الميتة إذا أولج في فرجها لا يجب الغسل إلا أن ينزل، ولا يجب الوضوء فيه في المسألتين كما في «شرح النقاية» للعلامة القهستاني، لكنه يغسل ذكره ندبًا، وقيدنا بالرجل والمرأة احتراز عن الصغيرة الغير المشتهاة؛ فلا يجب الغسل بوطئها إلا أن ينزل؛ لعدم كمال السببية، وقال في «السراج»: (فيه خلاف؛ فقيل: يجب الغسل مطلقًا سواء أفضاها _أي: خلط مسلك سبيلها_ أم لا، وقيل: لا يجب مطلقًا، والصحيح: أنه إذا أمكن الإيلاج في محل الجماع من الصغيرة ولم يفضها فهي ممن يجامع مثلها؛ فيجب الغسل، لكن قد صرحوا بأن وجوب الغسل مشروط بزوال البكارة، كما هو مشروط في الكبيرة، ففيها بالأولى)، وقال في «البحر»: (بقاء البكارة دليل على عدم الإيلاج، فلا يجب الغسل)، كما اختاره في «النهاية»، والمراد بالصغيرة: التي لا يجامع مثلها هي بنت ست مطلقًا، أو سبع، أو ثمان إذا لم تكن عبلة؛ أي: سمينة ضخمة، كما في «شرح المنية»، ولو لف على ذكره خرقة وأولج ولم ينزل، قال بعضهم: يجب الغسل، وقال بعضهم: لا يجب، والأصح أنه إن كانت الخرقة رقيقة بحيث يجد حرارة الفرج واللذة؛ وجب الغسل، وإلا؛ فلا، والأحوط وجوب الغسل في الوجهين، كذا في «البحر» عن «السراج».
والصبي ابن عشر لو جامع زوجته البالغة؛ يجب عليها الغسل؛ لوجود إيلاج الحشفة، ولا يجب عليه؛ لانعدام الخطاب إلا أنه يؤمر بالغسل تخلقًا واعتيادًا، كما في «الخانية»، ولا بد أن يكون الصبي ممن يشتهى؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك؛ لا يجب عليها الغسل، كما في «الدر»؛ لأنَّ ذكره بمنزلة الإصبع، ولا يجب الغسل بإدخال إصبع ونحوه؛ كذكر غير آدمي؛ كجني، وقرد، وحمار، وذكر خنثى مشكل، وذكر ميت، وصبي لا يشتهى، وما يضع على صورة الذكر من خشب ونحوه في الدبر أو القبل على المختار، كما في «التجنيس».
لكن في «حواشي نوح أفندي»، و «شرح المنية»: (أن المختار وجوب الغسل في القبل إذا قصد الاستمتاع؛ لغلبة الشهوة فيهن، فأقيم السبب مقام المسبب وهو
%ص 316%
الإنزال دون الدبر؛ لعدمها) انتهى.
ولو كان ذكره طويلًا، فعبث فيه حتى أدخله في دبر نفسه هل يجب عليه الغسل؟ فيه قولان رجح في «النهر» عدم الوجوب إلا بالإنزال، فإذا أنزل؛ وجب الغسل، وإلا؛ فلا، ورجح في «منهل الطلاب» الوجوب؛ يعني: يجب عليه الغسل وإن لم ينزل؛ زجرًا له ولتحقق الإيلاج؛ فليحفظ.
قال: وكبر الذكر دليل على رداءة الأصل وصغره على حسنه، كذا قالوا؛ فليحفظ.
هذا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، ومذهب مالك، والشافعي، وأحمد: (أنه يجب الغسل على كل من الرجل والمرأة بمجرد تغيُّب الحشفة في الفرج وإن لم يحصل إنزال سواء كان الفرج قبلًا أو دبرًا، من آدمي أو بهيمة، حيًّا أو ميتًا، طائعًا أو مكرهًا، نائمًا أو مستيقظًا) انتهى.
قلت: وإيجابهم في البهيمة والميتة الغسل نظر؛ لأنَّ كمال السببية معدومة فيهما، ولأنَّه لا تتحقق الشهوة فيهما إلا بالإنزال فجعل سببًا للوجوب، أما الإيلاج فقط؛ فالوجوب به غير ظاهر؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه؛ لأنَّ صريح الحديث يدل على الآدمي الحي بخلاف غيره، فبقي على الأصل وهو وجود الإنزال؛ فليحفظ.
قال صاحب «عمدة القاري»: يستنبط من الحديث المذكور: أن إيجاب الغسل لا يتوقف على نزول المني، بل متى غابت الحشفة؛ يجب الغسل عليهما وإن لم ينزلا وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان الخلاف فيه في الصدر الأول، فإن جماعة ذهبوا إلى أن من وطئ في الفرج ولم ينزل؛ فليس عليه غسل، وممن ذهب إلى هذا عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، ورافع بن خديج، وأبو [2] سَعِيْد الخدري، وأُبيُّ بن كعب، وأبو [3] أيُّوب الأنصاري، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، وجمهرة الأنصاري رضي الله عنهم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، وأبي سَلَمَة بن عبد الرحمن، وهشام بن عروة، والأعمش، وبه قالت الظاهرية، واحتجوا بآثار:
منها: ما رواه المؤلف من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه الآتي في الباب بعده، وأخرجه مسلم أيضًا والحافظ الطحاوي، والبزار، ولفظه: (عن زيد بن خالد الجهني: أنه سأل عثمان عن الرجل يجامع ولا ينزل؟ فقال: ليس عليه إلا الوضوء، وقال عثمان: أشهد أني سمعت ذلك من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم).
ومنها: حديث أُبيِّ بن كعب رواه مسلم عنه قال: سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الرجل يصيب من المرأة، ثم يكسل؟ فقال: «يغسل ما أصابه من المرأة، ثم يتوضأ»، وأخرجه الحافظ الطحاوي، وابن أبي شيبة، وأحمد ابن حنبل.
ومنها: حديث أبي سَعِيْد الخدري أخرجه الشيخان عنه: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مر على رجل من الأنصار فأرسل إليه؛ فخرج ورأسه يقطر فقال: «لعلنا أعجلناك؟» قال: نعم؛ يا رسول الله، قال: «إذا [4] أعجلت أو قحطت؛ فلا غسل عليك وعليك الوضوء»، وأخرج مسلم عنه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الماء من الماء»، وأخرجه الطحاوي أيضًا.
ومنها: حديث أبي هريرة أخرجه الحافظ الطحاوي عنه قال: بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى رجل من الأنصار؛ فأبطأ فقال: «ما حبسك؟» قال: كنت أصبت أهلي؛ فلما جاءني رسولك؛ اغتسلت من غير أن أحدث شيئًا، فقال: «الماء من الماء والغسل على من أنزل».
ومنها: حديث عتبان الأنصاري رواه أحمد عنه وابن عتبان الأنصاري قال: يا نبي الله؛ إني كنت مع أهلي؛ فلما سمعت صوتك؛ أقلعت فاغتسلت، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الماء من الماء».
ومنها: حديث رافع بن خديج أخرجه الطبراني وأحمد عنه: نادى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل، فاغتسلت فأخبرته أنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل فاغتسلت، فقال عليه السلام: «الماء من الماء».
ومنها: حديث عبد الرحمن بن عوف، أخرجه أبو يعلى عنه.
ومنها: حديث عبد الله بن عباس، أخرجه البزار عنه.
ومنها: حديث عبد الله بن عبد الله بن عقيل، أخرجه معمر بن راشد عنه في «جامعه»، وفي آخر هذه الأحاديث: «الماء من الماء»، وحجة الجمهور حديث الباب وحديث عائشة رضي الله عنها: (أنها سئلت عن الرجل يجامع فلا ينزل؟ فقالت: فعلته أنا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاغتسلنا منه جميعًا)، أخرجه الحافظ الطحاوي، وأخرجه الترمذي عنها أيضًا، ولفظه: (إذا جاوز الختان الختان؛ وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فاغتسلنا)، وهذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه أيضًا، فعائشة رضي الله عنها أعلم بهذا؛ لأنَّها شاهدت ذلك وعاينته عملًا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقولها أولى وأحق ممن لم يشاهد ذلك.
وروى مالك عن يحيى بن سَعِيْد، عن سَعِيْد بن المسيِّب: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أتى عائشة أم المؤمنين فقال: لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أمر إني لأعظم أن استقبلك به فقالت: (ما هو؟ ما كنت سائلًا عنه أمك؛ فسلني عنه)، فقال لها: الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل، قالت: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال أبو موسى: لا أسأل أحدًا عن هذا بعدك أبدًا)، وأخرجه البيهقي من طريقه، وقال أحمد: هذا إسناد صحيح إلا أنه موقوف على عائشة، وقال أبو عمر: هذا الحديث موقوف في «الموطأ» عند جماعة من رواته، وروى موسى بن طارق، وأبو قرة عن مالك، عن يحيى بن سَعِيْد، عن سَعِيْد بن المسيِّب، عن أبي موسى، عن عائشة: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إذا التقى الختانان؛ وجب الغسل»، ولم يتابع على رفعه عن مالك.
وأخرج الحافظ الطحاوي أيضًا عن عائشة مرفوعًا، وأخرجه عن جابر بن عبد الله قال: أخبرتني أم كلثوم عن عائشة: (أن رجلًا سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الرجل يجامع أهله، ثم يكسل: هل عليه غسل؟) وعائشة جالسة فقال عليه السلام: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل».
قالوا: فهذه الآثار أخبرت عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه كان يغتسل إذا جامع وإن لم ينزل، وقالت الطائفة الأولى: هذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد يجوز أن يفعل ما ليس عليه؛ يعني: كان يفعله بطريق الاستحباب لا بطريق الوجوب؛ فلا يتم الاستدلال بها والآثار الأُوَل تخبر عما يجب وعما لا يجب، فهي أولى.
وأجاب الجمهور عن هذا: أن هذه الآثار على نوعين؛ أحدهما: «الماء من الماء» لا غير، فهذا ابن عباس قد روى عنه أنه قال: مراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من هذا أن يكون في الاحتلام، وأخرج الترمذي عن علي بن حجر، عن شريك، عن أبي [5] الجحاف، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: (الماء من الماء في الاحتلام)؛ يعني: إذا رأى أنه يجامع ثم لم ينزل؛ فلا غسل عليه، والنوع الآخر الذي أمر [6] وأخبر فيه بالقصة وأنه لا غسل في ذلك حتى يكون الماء، قد جاء خلاف ذلك عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وهذا ناسخ لتلك الآثار.
فإن قلت: ليس فيه دليل على النسخ؛ لعدم التعرض إلى شيء من التاريخ؟
قلت: قد جاء ما يدل على النسخ صريحًا، روى أبو داود: حدثنا أحمد بن
%ص 317%
صالح: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو _يعني: ابن الحارث_ عن ابن شهاب قال: حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد الساعدي أخبره: أن أُبيَّ بن كعب أخبره: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام؛ لقلة الثبات، ثم أمرنا بالغسل ونهى عن ذلك، قال أبو داود: يعني: الماء من الماء، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا.
وأخرج أبو داود أيضًا: حدثنا محمَّد بن مهران الرازي قال: أخبرنا مبشر الحلبي عن محمَّد أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: حدثني أُبيُّ بن كعب: أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد، وأخرجه ابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
فإن قلت: الحديث الأول مجهول وهو قوله: (حدثني بعض من أرضى).
قلت: الظاهر: أنه أبو حازم سَلَمَة بن دينار الأعرج؛ لأنَّ البيهقي روى هذا الحديث، ثم قال: ورويناه بإسناد آخر موصول عن أبي حازم، عن سهل بن سعد؛ الحديث محفوظ عن أُبيِّ بن كعب كما أخرجه أبو داود، وقال ابن عبد البر في «الاستذكار»: إنما رواه ابن شهاب عن أبي حازم، وهو حديث صحيح ثابت بنقل العدول له.
وأخرج ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن عبيد ابن رافع، عن أبيه رفاعة بن رافع قال: بينا أنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إذ دخل عليه رجل فقال: (يا أمير المؤمنين؛ هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة)، فقال عمر: (علي به)، فجاء زيد فلما رآه عمر؛ قال: (أين عدو نفسه؟ قد بلغت أنك تفتي الناس برأيك؟)، فقال: (يا أمير المؤمنين؛ بالله ما فعلت، لكن سمعت من أعمامي حديثًا فحدثت به من أبي أيُّوب، ومن أُبيِّ بن كعب، ومن رفاعة بن رافع)، فأقبل عمر على رفاعة بن رافع فقال: (وقد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم من المرأة وأكسل لم يغتسل)، فقال: (قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم يأتنا فيه تحريم ولم يكن من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيه نهي)، قال: (ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعلم ذلك؟)، قال: (لا أدري)، فأمر عمر رضي الله عنه بجمع المهاجرين والأنصار فجُمِعوا له فشاورهم، فأشار الناس أن لا غسل في ذلك إلا ما كان من معاذ وعلي رضي الله عنهما؛ فإنهما قالا: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال عمر رضي الله [عنه]: (هذا وأنتم أصحاب بدر وقد اختلفتم، فمن بعدكم أشد اختلافًا)، قال: فقال علي رضي الله عنه: (يا أمير المؤمنين؛ إنه ليس أحد أعلم بهذا من شأن [7] رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من أزواجه)، فأرسل إلى حفصة رضي الله عنها، فقالت: (لا علم لي بهذا)، فأرسل إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال عمر: لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربًا)، ورواه الحافظ الطحاوي أيضًا وفيه: (لا أعلم أحدًا فعله، ثم لم يغتسل إلا جعلته نكالًا)، ولم يتقن الكلام أحد في هذا الباب مثل الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي، فإن أراد أحد أن يتقنه؛ فعليه بكتابه «معاني الآثار» وشرحه المسمى بـ «مباني الأخبار» لشيخ الإسلام والمسلمين إمام الشارحين السيد بدر الدين محمود العيني رضي الله تعالى عنه.
قال في «عمدة القاري»: فإن قلت: ادَّعى بعضهم أن التنصيص على الشيء باسم الماء يوجب نفي الحكم عما عداه؛ لأنَّ الأنصار فهموا عدم وجوب الغسل بالانكسال من قوله عليه السلام: «الماء من الماء»؛ أي: الاغتسال واجب بالمني، فـ (الماء) الأول: هو المطهر، والثاني: هو المني، و (من) للسببية، والأنصار كانوا من أهل اللسان وفصحاء العرب، وقد فهموا التخصيص منه حتى استدلوا به على نفي وجوب الاغتسال بالإكسال لعدم الماء، ولو لم يكن التنصيص موجبًا للنفي؛ لِمَ صح استدلالهم على ذلك؟
قلت: الذي يقول هذا أبو بكر الدقاق، وبعض الحنابلة، والجواب: أن ذلك ليس من دلالة التنصيص، بل إنَّما هو من (اللام) المعرفة الموجبة للاستغراق عند عدم المعهود، ونحن نقول: هذا الكلام للاستغراق والانحصار، كما فهمت الأنصار، لكن لما دل الدليل وهو الإجماع على وجوب الاغتسال من الحيض والنفاس أيضًا؛ نفى الانحصار فيما وراء ذلك مما يتعلق بالمني، وصار المعنى: جميع الاغتسالات المتعلقة بالمني منحصر فيه لا يثبت لغيره.
فإن قلت: فعلى هذا؛ ينبغي ألا يجب الغسل بالإكسال لعدم الماء.
قلت: الماء فيه ثابت تقديرًا؛ لأنَّه تارة يثبت عيانًا، كما في حقيقة الإنزال، وتارة دلالة، كما في التقاء الختانين، فإنه سبب لنزول الماء، فأقيم مقامه بكونه أمرًا خفيًا؛ كالنوم أقيم مقام الحدث؛ لتعذر الوقوف عليه.
فإن قلت: المنسوخ ينبغي أن يكون حكمًا شرعيًّا، وعدم وجوب الغسل عند عدم الإنزال ثابت بالأصل.
قلت: عدمه ثابت بالشرع؛ لأنَّ مفهوم الحصر إنَّما يدل عليه؛ لأنَّ معنى الحصر إثبات المذكور ونفي غير المذكور، فيفيد أنه لا ماء من غير الماء) انتهى.
وزعم الكرماني أن الراجح من الحديثين؛ يعني: حديث: «الماء من الماء»، وحديث أبي هريرة المذكور في الباب حديث: «التقاء الختانين»؛ لأنَّه يدل بالمنطوق على وجوب الغسل، وحديث: «الماء من الماء» يدل بالمفهوم على عدمه، وحجة المفهوم مختلف فيها، وعلى تقدير ثبوتها؛ المنطوق أقوى من المفهوم، وعلى هذا التقدير؛ لا يحتاج إلى القول بالنسخ) انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: عدم دعوى الاحتياج إلى القول بالنسخ؛ غير صحيح؛ لأنَّ المستنبطين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما وفقوا بين الأحاديث التي في هذا الباب المتضادة إلا بإثبات النسخ على ما ذكرنا.
فإن قلت: حديث «الالتقاء» مطلق، وحديث: «الماء من الماء» مقيد، فيجب حمل المطلق على المقيد؟
قلت: سؤال الكرماني مبني على مذهبه، ثم أجاب: ليس ذلك مطلقًا، بل عامًّا؛ لأنَّ الالتقاء وصف يترتب الحكم عليه، وكلما وجد الوصف؛ وجد الحكم، وهذا ليس مقيدًا، بل خاصًّا، وكأنه قال: بالالتقاء يجب الغسل، ثم قال: بالالتقاء مع الإنزال يجب الغسل، فيصير من باب قوله عليه السلام: «أيُّما إهاب دبغ؛ فقد طهر»، وقوله عليه السلام: «دباغها طهورها»، وإفراد فرد من العام بحكم العام ليس من المخصصات) انتهى، والله تعالى أعلم.
(تابعه) أي: تابع هشامًا (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة، هو ابن مرزوق البصري أبو عثمان الباهلي، يقال: مولاهم، وصرح به في رواية كريمة، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين، (عن شعبة): هو ابن الحجاج، وزعم الكرماني أن قوله: (تابعه) يحتمل أن يراد به: عن شعبة، عن قتادة، أو عن شعبة، عن الحسن، فيختلف الضمير في (تابعه) بحسب المرجع.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا اختلاف للضمير فيه، بل هو راجع إلى هشام على كل حال) انتهى؛ فليحفظ، والله أعلم.
(مثله) أي: مثل حديث الباب، وهذا التعليق وصله هشام بن أحمد بن السماك نحو سياق حديث الباب، لكن في روايته: (ثم أجهدها) من باب الإجهاد، وتمامه في «عمدة القاري»، (وقال موسى) هو ابن إسماعيل التبوذكي: (حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (أَبان)؛ بفتح الهمزة، وتخفيف الموحدة، هو ابن يزيد العطار (قال: حدثنا قَتادة)؛ بفتح القاف، هو ابن دِعامة (قال: أخبرنا الحسن) هو البصري (مثله)؛ أي: مثل حديث الباب، ومن فوائد هذا الإسناد: أن فيه التصريح بتحديث الحسن لقتادة؛ لأنَّ في رواية حديث الباب (عن قتادة، عن الحسن)، وقتادة ثقة ثبت، لكنه مدلس، وإذا صرح بالتحديث؛ لا يبقى كلامٌ.
وزعمَ الكرماني
%ص 318%
فإن قلت: لم قال: (تابعه عمرو)، وقال: (قال موسى)، ولم يسلك فيهما طريقًا واحدًا؟ قلت: المتابعة أقوى؛ لأنَّ القول أعم من الذكر على سبيل النقل والتحميل، أو من الذكر على سبيل المجاورة والمذاكرة، فأراد الإشعار بذلك، ويحتمل سماع البخاري من عمرو وموسى؛ فلا يجزم بأنه ذكرهما على سبيل التعليق.
قال صاحب «عمدة القاري»: (قلت: كلاهما تعليق صورة، ولكن الاحتمال المذكور موجود؛ لأنَّ كليهما من مشايخ البخاري) انتهى.
وتمامه في «عمدة القاري» فإنه شرح لم يسبق بمثله، ومن أراد بيان المعاني والتحقيق والتدقيق؛ فعليه به، فإنه مشحون من الفوائد والفرائد، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم إنه تواب رحيم.
==========
[1] في الأصل: (اجتهدته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (إذ لا)، والمثبت موافق لما في «الصحيحين».
[5] سقط من الأصل: (أبي).
[6] في الأصل: (الأمر)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (فمن سأل)، والمثبت موافق لما في «المصنف».
==================
[1] في الأصل: (اجتهدته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (إذ لا)، والمثبت موافق لما في «الصحيحين».
[5] سقط من الأصل: (أبي).
[6] في الأصل: (الأمر)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (اجتهدته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (إذ لا)، والمثبت موافق لما في «الصحيحين».
[5] سقط من الأصل: (أبي).
[6] في الأصل: (الأمر)، وليس بصحيح.
(1/500)
(29) [باب غسل ما يصيب من فرج المرأة]
هذا (باب) حكم (غسل ما) موصولة، أو نكرة موصوفة (يصيب) أي: الرجل، أو العضو، أو الشيء (من) بيانية (فرج المرأة)؛ أي: امرأته، أو أمته عند الجماع.
==========
%ص 319%
==================
(1/501)
[حديث زيد: أنه سأل عثمان: أريت إذا جامع امرأته فلم يُمنِ]
292# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو مَعمَر)؛ بفتح الميمين، هو عبد الله بن عمرو؛ بالواو (قال: حدثنا عبد الوارث) هو ابن سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة، (عن الحسين المعلم)؛ هو ابن ذكوان، وسقط (المعلم) في رواية (قال يحيى)؛ هو ابن أبي كثير؛ أي: قال الحسين: قال يحيى، ولفظ (قال) الأولى تحذف في الخط في اصطلاحهم، قاله في «عمدة القاري»: (وأخبرني) بالإفراد (أبو سَلَمَة)؛ بفتحات، هو ابن عبد الرحمن بن عوف، هذا معطوف على مقدر؛ تقديره: قال يحيى: وأخبرني بكذا وكذا، وأخبرني هذا، وإنما احتجنا إلى التقدير؛ لأنَّ (أخبرني) مقول (قال)، وهو مفعول حقيقة، فلا يجوز دخول (الواو) بينهما، ووقع في رواية مسلم بحذف الواو على الأصل، وفي رواية المؤلف دقة وهو الإشعار بأن هذا من جملة ما سمع يحيى مِن أبي سَلَمَة.
فإن قلت: قول الحسين: (قال يحيى) يوهم أنه لم يسمع من يحيى، وكذا قال ابن العربي: إنه لم يسمع من يحيى، فلذلك قال: (قال يحيى)؟
قلت: وقع في رواية مسلم في هذا الموضع: (عن الحسين، عن يحيى).
فإن قلت: العنعنة لا تدل صريحًا على التحديث.
قلت: الحسين ليس بمدلس، وعنعنة غير المدلس محمولة على السماع على أنه قد وقع التصريح في رواية ابن خزيمة في رواية الحسين عن يحيى بالتحديث، ولفظه: حدثني يحيى بن أبي كثير، وأيضًا لم ينفرد به الحسين مع ذلك، فقد رواه عن يحيى أيضًا معاوية بن سلام، أخرجه ابن شاهين، وشيبان بن عبد الرحمن، أخرجه المؤلف في باب (الوضوء من المخرجين)، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(أن عطاء بن يَسار)؛ بفتح التحتية أوله، فسين مهملة، ضد اليمين: (أخبره أن زيد بن خالد الجُهني)؛ بضمِّ الجيم، وفتح الهاء، وبالنون نسبة إلى جُهينة بن زيد؛ بضمِّ الجيم أيضًا: (أخبره أنه سأل عثمان بن عفان) ثالث خلفاء سيدي المرسلين المسمى بذي النورين الذي تستحي منه ملائكة خالق الكونين رضي الله تعالى عنه مستفتيًا له، (فقال) أي: زيد لعثمان: (أرأيت) وفي رواية: (فقال له: أرأيت) أي: أخبرني: (إذا جامع الرجل امرأته) أي: أو أمته (فلم يُمْنِ)؛ بضمِّ التحتية أوله، وسكون الميم من الإمناء؛ أراد: أنه لم ينزل منه المني، وهذا أفصح اللغات، والثاني منها: فتح التحتيتة، وسكون الميم، والثالث: ضم التحتية مع فتح الميم، وتشديد النون، كذا في «عمدة القاري»، (قال عثمان) أي: ابن عفان رضي الله عنه في جواب الاستفتاء: لا يجب عليه الغسل، لكنه (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة)؛ أي: يتوضأ وضوءًا شرعيًّا لا لغويًّا، (ويغسل ذكره) أي: يجمع بينهما؛ لأنَّ (الواو) لا تدل على الترتيب، وظاهر اللفظ يدل على أنه يقدم الوضوء على غسل الذكر؛ لأنَّ غسله ليس باستنجاء، ولأن مسه غير ناقض للوضوء، وهو ظاهر لفظ (عثمان) رضي الله عنه، ولفظ غيره من الصحابة الآتي ذكرهم؛ فليحفظ وإنما أمره بالوضوء وغسل الذكر؛ لأنَّه لا بد في هذه الحالة من خروج مذي منه وهو نجس ناقض للوضوء، ويحتمل لما أصابه من فرج المرأة؛ حيث إنه ينزل منها إلى فرجها المذي المسمى من النساء: القذى فيختلط في رطوبة الفرج فينجس الذكر بذلك؛ فلذلك أمره بغسله، وفيه المطابقة للترجمة، كما لا يخفى؛ فافهم، (فقال) وفي رواية: (قال) (عثمان)؛ أي: ابن عفان رضي الله عنه: (سمعته) أي: ما ذكره من قوله: (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره) (من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فالضمير المنصوب يرجع إلى ما ذكره، وذلك باعتبار المذكور؛ فهذا سماع ورواية، والأول فتوى منه، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذه الفتوى يحتج بها؛ لأنَّها لا تقال من قبل الرأي، بل عن سماع ورواية، لا سيما وقد صرح بالسماع؛ فليحفظ.
والظاهر: أن هذا هو المباشرة الفاحشة الناقضة للوضوء، وهي مس فرج أو دبر بذكر منتصب بلا حائل يمنع حرارة الجسد، كما في «إمداد الفتاح» وهو صادق بألَّا يكون حائل أصلًا وبأن يكون حائل رقيق لا يمنع الحرارة، وكما ينتقض وضوءه ينتقض وضوءها، كما في «الفتاوى القنية» وجهه: أن المباشرة الفاحشة لا تخلو عن خروج المذي غالبًا، والغالب كالمتحقق وهو الاحتياط، كما في «مجمع الأنهر».
وظاهر الحديث يدل على هذا؛ لأنَّ قوله: (إذا جامع ... ) إلخ؛ أي: أراد الجماع، لكنه حصل منه مس الذكر بالفرج، ولا ريب أنه في هذه الحالة لا ينزل منه المني، بل يخرج منه المذي وهذا ظاهر؛ لأنَّه لو كان جامع حقيقة بأن أدخل الذكر في الفرج؛ فالغالب نزول المني منه، والغالب كالمتحقق، لا سيما في بعض الناس التي غلبت شهوتهم، فإنهم بمجرد التماس يحصل الإنزال، بل وبمجرد التفكر يمني؛ فتأمل، والله تعالى أعلم.
(فسألت عن ذلك)؛ أي: عن الحكم المذكور؛ وهو ما إذا جامع ولم يُمنِ وهذا مقول قول محذوف؛ أي: قائله عثمان رضي الله عنه؛ أي: الذي أفتيت به زيد بن خالد، ويحتمل على بعد؛ أي: يكون قائله زيد بن خالد؛ لأنَّ قول عثمان: (سمعته من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) يدل على أن القائل: (فسألت عن ذلك) عثمان رضي الله عنه، فضمير المتكلم يعود عليه، وهو ظاهر (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، قيل: إنه مدفون في سفح جبل قاسيون في صالحية دمشق عند مرقد الزعبي، وأبي بكر بن قوام، وقيل: عند طريق القوافل فوقه بنحو من ثلاثين ذراعًا، وقيل: في حارة الأكراد، وأوسطها أعدلها، (والزُّبير) بضمِّ الزاي (بن العَوَّام)؛ بفتح العين المهملة، وتشديد الواو، وهو مدفون في داخل طاحونة الزبيرية التي في مرج الدحداح عند النهر، وقد زرته، والله أعلم (وطلحة بن عبيد الله)؛ بالتصغير، أحد العشرة (وأُبيَّ بن كعب) أقرأ الصحابة بشهادة من تظله الغمامة، وهو مدفون خارج باب شرقي دمشق قبلي المنارة البيضاء التي ينزل عليها عيسى ابن مريم عليه السلام، عليه قبة مهابة يقصد بالزيارة والتبرك، لا سيما لأولاد الصغار عند ابتداء قراءتهم القرآن، فيلحسون الشاهدة المكتوب عليها خط كوفي؛ فيحصل المراد بإذن رب العباد رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال في «عمدة القاري»: (والظاهر: أن سؤاله منهم استفتاء من عثمان وفتوى منهم لا رواية، لكن رواه الإسماعيلي مرة
%ص 319%
بإظهار أنه رواية، وصرح به أخرى ولم يذكر عليًّا رضي الله عنه، ثم ذكر بعد ذلك روايات، وقال: لم يقل أحد منهم عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم غير الحمامي وليس هو من شرط هذا الكتاب) انتهى؛ فافهم.
(فأمروه) أي: الرجل المجامع، فالضمير المنصوب فيه يرجع إلى المجامع الذي دل عليه قوله: (إذا جامع) وهذا من قبيل قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ أي: العدل أقرب للتقوى، كذا في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني أنه ليس من هذا القبيل إلا أن يكون سقط من نسخة صاحب «عمدة القاري» (الرجل).
قلت: وهذا ليس بشيء؛ فإنه سواء سقط لفظ (الرجل) أو وجد؛ فهو من هذا القبيل، ومنعه تعصب وعناد، والضمير المرفوع يرجع إلى هؤلاء الصحابة المذكورين، ويحتمل إرجاع الضمير المنصوب إلى زيد بن خالد الذي سأل عثمان عن الرجل الذي جامع امرأته ولم ينزل؟ وعلى هذين الوجهين؛ فلا التفات في قوله: (فأمروه) أصلًا، كما أنه لا التفات فيه أيضًا على أنه من مقول عطاء بن يسار الراوي عن زيد بن خالد؛ فيكون مرسلًا؛ لأنَّ المقام للغيبة والسائل للصحابة المذكورين عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين، هذا ما ارتضاه إمام الشارحين وتبعه العجلوني، وإليه جنح القسطلاني وهو الحق؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن فيه التفاتًا؛ لأنَّ الأصل أن يقول: فأمروني.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: وليس فيه التفات أصلًا؛ لأنَّ عثمان رضي الله عنه سأل هؤلاء الصحابة عن المجامع الذي لم يُمنِ، فأمروه بذلك؛ أي: بغسل الذكر والوضوء، والإشارة ترجع إلى الجملة باعتبار المذكور) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض»؛ فزعم أن إنكاره الالتفات مكابرة ولو كان الذي قدره محتملًا، لكن لم يتحقق أنه كان هناك رجل سأل، وإنما صور زيد المسألة في رجل وقع له ذلك ماذا يفعل؟ لا أن رجلًا بعينه سأله عن ذلك، فالضمير لزيد بن خالد، وأمرهم له أعم من أن يكون وقع له بنفسه، فالحكم في حقه ذلك، أو وقع لغيره وتولى هو السؤال عنه، وأنه في حق الرجل ذلك، وأما جزم المعترض بأن عثمان هو الذي سأل الأربعة المذكورين؛ فغلط منه لا سلف له فيه، وإنما الذي جزم به الأئمَّة أن زيد بن خالد لما سأل عثمان؛ فأجابه بما ذكر سأل بعده الأربعة المذكورين، فوافقوا عثمان، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، وإثبات الالتفات عناد وتعصب بارد؛ فإن الضمير في قوله: (فأمروه) المنصوب عائد إلى الرجل في قوله: (أرأيت إذا جامع الرجل امرأته)، كما رجع إليه ضمير قوله: (يتوضأ)، وهذا ظاهر على من له أدنى ذوق في العلم، وعليه؛ فلا التفات فيه أصلًا؛ لأنَّ زيد بن خالد لما سأل عثمان عن الرجل إذا جامع امرأته ولم يُمنِ، وأجابه: بأنه يتوضأ ويغسل ذكره؛ فقد اكتفى بهذا الجواب؛ لأنَّ عثمان ثالث خلفاء سيد المرسلين؛ فلا ريب أنه يكتفى بجوابه، ولما رأى عثمان أنه قد يقع في نفس السائل شيء بادر وسأل هؤلاء الصحابة المذكورين؛ حتى يكون الجواب واحدًا متفقًا عليه، ويزول ما في نفس السائل، فالسائل لهم عثمان رضي الله عنه، ولأن مثل هذا السؤال قد يستحى بذكره؛ فربما سأل زيد عثمان خفية، وعثمان سأل هؤلاء جهرًا، وعلى كل حال؛ فالسائل عثمان رضي الله عنه، وعليه فلا التفات فيه أصلًا خلافًا لما زعمه هذا القائل، فقوله: (إن إنكاره ... ) إلخ، بل إثبات الالتفات فيه هنا معاندة وشدة؛ لأنَّه خلاف الظاهر المتبادر من اللفظ.
وقوله: (ولو كان الذي ... ) إلخ هذا الاحتمال هو الحق؛ لأنَّه الموافق لظاهر لفظ الحديث، وغيره مصادمة للحديث.
وقوله: (لكن لم يتحقق ... ) إلخ فاسد، بل تحقق ذلك؛ لأنَّ قوله: (أرأيت إذا جامع الرجل امرأته) يدل على أن الضمير عائد إلى الرجل المذكور الذي صدر منه هذا الفعل، فقد تحقق أنه كان هناك رجل [1] سأل، كما لا يخفى.
وقوله: (وإنما صور زيد المسألة ... ) إلخ ممنوع باطل؛ فأي مانع يمنع من أن يكون رجلًا بعينه سأله عن ذلك، ثم هو سأل عن ذلك عثمان؟
وقوله: (فالضمير ... ) إلخ فاسد، بل الضمير لعثمان رضي الله عنه، وأمرهم بذلك إنَّما كان لعثمان رضي الله عنه؛ لأنَّ قوله: (قال عثمان: سمعته ... ) إلخ.
وقوله: (فسألت عن ذلك) صريح في أن السائل كان عثمان رضي الله عنه؛ لأنَّ الضمير لا يعود إلا إلى أقرب مذكور، وأقرب المذكور إنَّما هو عثمان، فالضمير يعود إليه، والسائل عثمان؛ لأنَّ ضمير المتكلم في قوله: (فسألت) إنَّما يرجع إليه، كما لا يخفى، فكيف خفي هذا على هذا القائل المتعصب؟! فقوله: (وأما جزم المعترض ... ) إلخ باطل وفاسد؛ لأنَّ ظاهر الحديث المذكور يدل بمنطوقه ومفهومه على أن السائل عثمان رضي الله عنه، فالحديث سلفه ومستنده وهو ليس بغلط، كما زعمه هذا القائل المتعنت؛ لأنَّ الغلط الذي لا يدل عليه ظاهر الحديث، أما إذا دل الحديث على شيء؛ فلا يسع أحدًا أن يقول أنه غلط، والقائل به مفترٍ ومتعصب ومتعنت لا يلتفت إليه.
وقوله: (وإنما الذي جزم به الأئمَّة ... ) إلخ ممنوع؛ فإن أراد بالأئمَّة: شراح «الصحيح»؛ فغير مسلم وفساده ظاهر، فقد أجمعوا على أن الضمير لعثمان والسائل لهم عثمان رضي الله عنه، وإن أراد غيرهم؛ فيحتاج إلى ذكرهم على أنه ليس لأحد أن يدَّعي هذه الدعوى الباطلة، ومن ادَّعاها؛ فلا يسع أحدًا أن يقول عنه: إنه إمام، بل ولا طالب من الطلبة الصغار؛ لأنَّ هذه بعيدة أصلًا، ولم يدل دليل على أن الصحابة المذكورين وجهوا الأمر إلى زيد بن خالد حتى يكون فيه التفاتٌ [2]، بل إنَّما وجهوا الأمر للرجل الدال عليه إذا جامع ولم يُمنِ، فالحق الذي لا يرجع إلا إليه أن الضمير في (فأمروه) يعود على الرجل، وأن السائل للصحابة عثمان، وليس في ذلك التفات أصلًا، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، ومن دق الباب؛ سمع الجواب، والله ولي الصواب، ولا يخفى هذا على أولي الألباب.
(بذلك)؛ أي: بغسل الذكر والوضوء دون الغسل؛ لأنَّ إلزام الوضوء من حيث إنه يخرج منه المذي، وغسل الذكر من حيث إن المذي نجس، فهو ناقض نجس، فلذلك أمروه بذلك.
وعند الإسماعيلي: (فقالوا مثل ذلك عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم)، فصرح بالرفع بخلاف ما أورده المؤلف هنا، لكن قال الإسماعيلي: (لم يقل أحد ذلك غير الحمامي، وليس هو من شرط المؤلف)، نعم؛ روى عن عثمان، وعلي، وأُبيِّ بن كعب رضي الله عنهم أنهم أفتوا بخلافه، ولهذا قال ابن المديني شيخ المؤلف: (إن حديث زيد بن خالد شاذ)، وقال أحمد: (فيه علة).
وأجيب: بأن كونهم أفتوا بخلافه لا يقدح في صحة الحديث؛ فكم من حديث صحيح وهو منسوخ، فلا منافاة بينهما، فقد كان الحكم في ابتداء الإسلام هكذا، ثم جاءت السنة بوجوب الغسل، ثم أجمعوا عليه بعد ذلك، وعلله الحافظ أبو جعفر الطحاوي بأنه مفسد للصوم وموجب للحد والمهر وإن لم ينزل، فكذلك الغسل، والظاهر: أن هؤلاء الصحابة المذكورين لم يبلغهم النسخ سوى من أفتى منهم بخلافه، وقدمنا أول الباب غيرهم من الصحابة، وكذا من التابعين، وأهل الظاهر وأن ما نقل عنهم قد روي عن بعضهم ما يخالفه وانعقد الإجماع على خلافه وأنه منسوخ؛ فافهم.
(قال يحيى) هو ابن أبي كثير: (وأخبرني) بالإفراد (أبو سَلَمَة)؛ بفتحات، هو ابن عبد الرحمن، كذا في رواية الأكثرين، وسقط في رواية أبي ذر: (قال يحيى) فقط، والأول هو المراد؛ لأنَّه معطوف على قوله: (قال يحيى: وأخبرني أبو سَلَمَة: أن عطاء بن يسار) فهو معطوف على الإسناد الأول، فيكون هذا داخلًا في الإسناد؛ فبهذا يندفع قول من يقول: إن ظاهره معلق، والدليل عليه أيضًا ما رواه مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه بالإسنادين جميعًا، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»: (أن عُروة)؛ بضمِّ العين المهملة (بن الزُّبير)؛ بضمِّ الزاي، هو ابن العوام (أخبره: أن أبا أيُّوب)؛ هو خالد بن زيد بن كليب بن النجار الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه الذي نزل عليه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما قدم المدينة فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده، وروي عن سَعِيْد بن المسيِّب: أن أبا أيُّوب الأنصاري أخذ من شعرات لحية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شيئًا، فقال له: «لا يصيبك
%ص 320%
السوء يا أبا أيُّوب»، لزم الجهاد في حياة المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم وبعده إلى أن توفي في غزاة القسطنطينية سنة اثنتين وخمسين، ودفن بها، وهي دار خلافة بني عثمان، وقبره هناك مشهور معظم، بنى عليه السلطان محمَّد الفاتح جامعًا عظيمًا، وجعل على مرقده الشريف قبة عظيمة، يزار ويتبرك به وهو مشهور باستجابة الدعاء وهو رضي الله عنه جدي وسندي وعمدتي وإليه أنتسب وشفيعي عند سيد العالمين، فنسبي متصل به، ولولا الإطالة؛ لذكرته، ونعم هذا الجد والسند، اللهم؛ احشرنا في زمرته تحت لواء سيد المرسلين صلَّى الله عليه وسلَّم.
(أخبره: أنه سمع ذلك)؛ أي: الحكم المذكور؛ وهو غسل الذكر والوضوء دون الغسل فيمن جامع ولم ينزل (من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فتذكير الإشارة بالاعتبار المذكور، قال الدارقطني: (فيه وهم؛ لأنَّ أبا أيُّوب لم يسمعه من رسول الله عليه السلام، وإنما سمعه من أُبي بن كعب، عن رسول الله عليه السلام)، قال ذلك هشام عن أبيه، عن أبي أيُّوب، عن أُبيِّ بن كعب.
ورده صاحب «عمدة القاري» بأن قوله: (لم يسمعه من رسول الله عليه السلام) نفي، وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر عن أبي أيُّوب عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو إثبات، والإثبات يقدم على النفي، على أن أبا سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عوف أكبر قدرًا، وسنًّا، وعلمًا من هشام بن عروة، وحديث الإثبات رواه الدارمي، وابن ماجه.
فإن قلت: حكي عن أحمد أن حديث ابن خالد المذكور معلول؛ لأنَّه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث.
قلت: كونهم أفتوا بخلافه لا يقدح في صحة الحديث؛ لأنَّ كم من حديث منسوخ وهو صحيح، فلا منافاة بينهما، ألا ترى أُبيًّا رضي الله عنه كان يرى الماء من الماء؛ لظاهر الحديث، ثم أخبر عنه سهل بن سعد: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم جعل الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمره بالغسل، وأما الذي يستنبط من حديث الباب أن الذي يجامع امرأته ولم ينزل منيه؛ لا يجب عليه الغسل وإنما يغسل ذكره ويتوضأ، وهذا منسوخ؛ لما بيناه، ومذهب الجمهور: هو أن إيجاب الغسل لا يتوقف على إنزال المني، بل متى غابت الحشفة في الفرج؛ وجب الغسل على الرجل والمرأة، ولهذا جاء في رواية أخرى في الصحيح: (وإن لم ينزل)، وقال أصحابنا: التقاء الختانين يوجب الغسل مع تواري الحشفة، أما نفس الملاقاة بين الفرجين من غير تواري؛ فلا يوجب الغسل وإنما يوجب الوضوء عند الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، وقال الإمام محمَّد: لا يوجبه أيضًا ما لم يظهر المذي، وقال في «المحيط»: لو أتى المرأة وهي بكر؛ فلا غسل ما لم ينزل؛ لأنَّ بقاء البكارة دليل عدم الإيلاج، ولكن إذا جومعت البكر فيما دون الفرج فحبلت؛ فعليهما الغسل؛ لوجود الإنزال، فإنه لا حبل بدونه، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] تكرر في الأصل: (رجل).
[2] في الأصل: (التفاتًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] تكرر في الأصل: (رجل).
[1] تكرر في الأصل: (رجل).
(1/502)
[حديث: يغسل ما مسَّ المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي]
293# وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا يحيى) هو ابن القطان، (عن هِشام) بكسر الهاء؛ هو ابن عروة (قال: أخبرني) بالإفراد (أَبي)؛ بفتح الهمزة، هو عروة بن الزبير بن العوام، وأشار بقوله: (أخبرني أبي)؛ لدفع ظن ظان أنه أُبيٌّ بضمِّ الهمزة، وهو أُبيُّ بن كعب لكونه في الإسناد؛ فليحفظ نبه عليه في «عمدة القاري» (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو أيُّوب)؛ هو خالد بن زيد الأنصاري النجاري الخزرجي جدي وأستاذي وسندي رضي الله عنه، (قال: أخبرني) بالإفراد (أُبيُّ)؛ بضمِّ الهمزة (بن كعب) رضي الله تعالى عنه (أنه قال)؛ أي: أبي: (يا رسول الله)، وفي الرواية الأولى أن أبا أيُّوب سمعه من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولا منافاة بينهما؛ لأنَّه لا مانع من كونه سمعه تارة من النبيِّ الأعظم عليه السلام، وتارة أخرى من أُبيِّ بن كعب، وذكره الواسطة تكون للتقوية أو لغرض آخر؛ لأنَّ الطريقين مختلفان في اللفظ والمعنى وإن توافقا في بعض الأحكام مع جواز سماعه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومن أُبيِّ بن كعب كليهما، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (إذا جامع الرجل المرأة) وفي رواية: (امرأته)؛ أي: أو أمته؛ يعني: أفتنا يا رسول الله فيما إذا جامع الرجل امرأته، (فلم يُنْزل؟)؛ بضمِّ التحتية، وسكون النون؛ أي: لم ينزل منيه (قال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يَغْسل)؛ بفتح التحتية، وسكون الغين المعجمة؛ أي: الرجل المجامع (ما مس المرأة منه) متعلق بـ (يغسل) وضميره للرجل، أو بـ (مس)، وضميره عائد إلى (ما)، والمراد به: العضو، أو بيان لـ (ما) الموصولة أو الموصوفة، ومحلها النصب على أنها مفعول (يغسل)؛ أي: يغسل الرجل المذكور العضو الذي مس فرج المرأة من أعضائه.
وقال الكرماني: (فإن قلت: المقصود منه بيان ما أصابه من رطوبة فرج المرأة، فكيف يدل عليه وظاهر أن ما مس المرأة من يد أو رجل ونحوها لا يجب غسله؟ قلت: فيه إما إضمار أو كناية؛ لأنَّ تقديره: يغسل عضوًا مس فرج المرأة، أو هو من إطلاق اسم اللازم؛ وهو مس المرأة، وإرادة الملزوم؛ وهو إصابة رطوبة فرجها) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن كلًّا من العضو الذي مسته الرطوبة مأمور بغسله، وكذا الرطوبة، لكن ظاهر الحديث يدل على أنه العضو المعبر عنه بـ (ما)؛ لأنَّه الذي يمس المرأة، ويحتمل إرادة الرطوبة على حذف مضاف؛ أي: رطوبة ما مس المرأة، فالحديث قابل للأمرين معًا، وكل منهما يصح أن يقصد، لا أن المقصود هو الرطوبة لا غير، وغسل أحدهما يلزم منه غسل الآخر، وشمول الحديث لما ادَّعى الكرماني أنه ظاهر، غير ظاهر؛ فإن السؤال دال على أن ما يمس المرأة منه رطوبة الفرج، وكذا دعواه أن المقصود منه بيان ما أصاب من رطوبة فرج المرأة وإن كان ظاهرًا في أحدهما، انتهى.
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّ المأمور بغسله إنَّما هو العضو الذي مس فرج المرأة؛ لما عليه من الرطوبة الحاصلة من المذي منهما في الفرج، فيتلطخ العضو بذلك؛ فلهذا أمره بغسله وهذا ظاهر الحديث ودال عليه، لا ما قاله هذا القائل من أن كلًّا من العضو ... إلخ؛ لأنَّ هذا لا يدل عليه ظاهر الحديث وفيه خبط وخلط، كما لا يخفى.
وقوله: (ويحتمل إرادة ... ) إلخ هذا الاحتمال غير ظاهر أيضًا؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه؛ لأنَّ قوله: (ما مس المرأة منه) صريح في أنه العضو الذي مس فرج المرأة؛ لتنجسه بالرطوبة المخالطة للمذي في الفرج، لا إرادة الرطوبة فقط؛ لأنَّ الحديث غير دال عليها ولم يشعر بها، كما لا يخفى، فقوله: (فالحديث قابل للأمرين ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل على هذا وما هو إلا مصادمة للحديث، ولا يصح أن يقصد أحدهما دون الآخر؛ لأنَّ فائدة الأمر بالغسل إنَّما هو لأجل ما على العضو مما ذكرنا، فهما أمران متلازمان لا يصح قصد أحدهما بدون الآخر.
وقوله: (وشمول الحديث ... ) إلخ غير ظاهر؛ لأنَّ السؤال دالٌّ على أن ما يمس المرأة منه العضو الذي مسها لا الرطوبة فقط، فكلام الكرماني ظاهر، كما لا يخفى.
وقوله: (وكذا دعواه ... ) إلخ، فإنه ظاهر أيضًا؛ لأنَّ المقصود بيان العضو الذي مس فرج المرأة بغمسه رطوبة فرجها المخلوطة بالمذي الموجود منهما، ولا ريب أن ظهور المذي ناقض للوضوء؛ فأمره بالوضوء، وكل ناقض نجس، فالمذي نجس وقد اختلط برطوبة الفرج، فلهذا أمره بغسل ذكره، ويدل على هذا: ما تقدم من الأحاديث التي صرحت بأنه يغسل ذكره، فهذا هو العضو الذي مس المرأة من الرجل، وهذا القائل داء به التعصب والتشديد ولا جرم، فإن كل من دق الباب سمع الجواب، والله ولي الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم، والله أعلم.
وفي يوم السادس عشر رجب سنة سبع وسبعين ومئتين وألف نزل ثلج ومطر فعم الأسطحة ودلفت ووقع برد وشرد ونعوذ بالله من غضبه، وسخطه، والنار، ونسأله رضاه والجنة يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى
%ص 321%
آله وصحبه.
(ثم يتوضأ)؛ أي: وضوءه للصلاة، كما زاده عبد الرزاق، عن الثوري، عن هشام، وهو صريح بتأخير الوضوء عن غسل ما يصيبه منها، كذا في «عمدة القاري» (ويصلي)؛ أي: ما كتب له من فرض أو نفل، وهذا تصريح في الدلالة على ترك الغسل من الحديث الذي قبله، (قال أبو عبد الله) فاعل (قال) محذوف وهو الراوي عن البخاري، و (أبو عبد الله) كنية البخاري، كذا قاله في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر، وزعم العجلوني أن القائل البخاري نفسه لكن فيه تجريد، انتهى.
قلت: ليس كما قال، بل هو قول الراوي عن المؤلف وهو الأظهر، ولا حاجة لحمله على التجريد؛ لأنَّه خلاف الظاهر المتبادر؛ فافهم.
وقال الكرماني: (ووقع: «قال أبو عبد الله ... » إلخ بعد حديث: «إذا جلس بين شعبها»، وذلك أولى) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن ذِكْره هنا أولى؛ لأنَّه حينئذٍ تظهر المفاضلة لذكر الشيئين بخلاف ما لو قدمه؛ فافهم انتهى؛ فتأمل.
ومقول القول قوله: (الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وزعم العجلوني: أن في «الفرع» بفتحها.
قلت: والمشهور الأول؛ أي: الاغتسال لجميع الجسد من الجماع بغير إنزال المذكور في أحاديث كثيرة منها ما سبق في باب (إذا التقى الختانان).
(أحوط)؛ أي: أكثر احتياطًا في أمر الدين من الاكتفاء بغسل الذكر والوضوء المذكورين في أحاديث هذا الباب المروية عمن تقدم من الصحابة، وعلى هذا؛ ينبغي أن يحمل ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: لا تطيب نفسي حتى أغتسل؛ أي: من الجماع من أجل اختلاف الناس للأخذ [1] بالعروة الوثقى.
قلت: لأنَّ العبادة المتفق على صحتها خير من المختلف في صحتها، كما لا يخفى، ولهذا ينبغي للإمام أن يحتاط في وضوئه وصلاته، ويفعل ما أجمع عليه الأئمَّة الأعلام؛ لتكون عبادته موافقة لهم، ومجمعًا [2] على صحتها لا ما يفعله بعض المتعصبين من الشافعية الذين يظنون أنفسهم من المتورعين، ويحتاط على مذهب إمامه ويفعل ما هو مخل أو مفسد في مذهب غير إمامه من الأئمَّة الكبار، فإن هذا ليس من الاحتياط في شيء، وإنما هو تعصب، وشدة في أمر الدين، ومخالفة لسيد المرسلين القائل: «بعثت بالدين الحنيفية السمحة»؛ فافهم ذلك، ولا تكن ممن غلب جهله على علمه، أو جهله على عقله أو دينه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(وذلك)؛ باللام، وفي بعض النسخ: (وذاك) بدونها، والإشارة إلى الحديث الدال على لزوم الغسل لجميع الجسد (الأخير)؛ بمثناة تحتية من غير مد على وزن (فعيل) هو رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: (الآخِر)؛ بالمد بغير مثناة تحتية، وكسر الخاء المعجمة، وعليها؛ فالمعنى: وذاك المذكور في العبارة لذكره في الباب الثاني، وقال ابن التين: (ضبطناه بفتح الخاء)؛ أي الحديث من فعل الشارع عليه السلام المغاير الدال على عدم لزوم الغسل، وقال في «عمدة القاري»: (وأشار بقوله: «وذلك الأخير» إلى أن هذا الحديث غير منسوخ؛ أي: آخر الأمرين من الشارع) انتهى؛ أي: بل هو ناسخ لما قبله؛ فتأمل، (إنما بيَّنا) وللأَصيلي: (بيناه)؛ بالهاء، ولابن عساكر بالواو، لكن الأنسب حذفها؛ لأنَّ الجملة خبر (وذلك الأخير) تابع له؛ (لاختلافهم) ولكريمة: (اختلافهم)، وعلى الأولى؛ فهو متعلق بـ (بيَّنا) على أنه علة له؛ أي: ذكرنا الحديث الذي يدل على عدم لزوم الغسل في هذه الحالة؛ لنبين اختلاف الصحابة في الوجوب وعدمه، أو اختلاف المحدثين في صحته وعدمه، لا لأنا نقول به ونرتضيه، ويؤيد هذا الحمل ما في نسخة الصغاني: إنما بيَّنا الحديث الآخر؛ لاختلافهم والماء أنقى والظاهر أن معنى قول المؤلف: (وذلك الأخير) الإشارة للحديث الدال على لزوم الغسل، ومعنى كونه الأخير: أنه آخر الأمرين من فعل الشارع فهو ناسخ لما أفتى به عثمان ومن ذكر من الصحابة، فـ (ذلك) مبتدأ و (الأخير) خبره، ومثله على كسر الخاء بلا ياء، وأما على فتحها؛ فهو بظاهره غير مفيد؛ لأنَّه تابع لذاك، فإن قُدِّر له خبر نحو هو المعول عليه كان مفيدًا صحيحًا ويكون قوله: (إنما بينا؛ لاختلافهم) على هذه الوجوه مستأنفًا، وضمير (بيناه) الموجود أو المقدر راجع إلى ما تقدم من حديث زيد بن خالد، وعلى هذا؛ فيكون كلام المؤلف موافقًا لما عليه الإجماع من وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل، وليس في هذا ميل لمذهب داود الظاهري وإن نقله البرماوي عن السفاقسي حيث قال: وقال السفاقسي: (رويناه بفتح الخاء)، وقيل: إنه الوجه، وقال في قوله: (إنما بيناه؛ لاختلافهم): (ميل لمذهب داود، والجمهور على أنها منسوخة).
قلت: (إنما يكون ميلًا [3] لمذهب داود إذا فتحت الخاء من «آخَر»، أمَّا بالكسر؛ فيكون جزمًا بالنسخ) انتهى، ولا يتوجه عليه أيضًا اعتراض ابن العربي حيث قال: قد روى جماعة من الصحابة المنع، ثم رجعوا حتى رُوِيَ عن عمر أنه قال: من خالف في ذلك؛ جعلته نكالًا، وانعقد الإجماع على ذلك، ولا يعبأ بخلاف داود فيه، فإنه لولا خلافه ما عرف، وإنما الأمر الصعب خلاف البخاري في ذلك، وحكمه: بأن الغسل أحوط وهو أحد علماء الدين، والعجب منه أنه يساوي بين حديث عائشة في وجوب الغسل بالتقاء الختانين وبين حديث عثمان وأُبيِّ بن كعب إلا بالإنزال، وحديث عثمان ضعيف، وحديث أُبيِّ بن كعب التعلق به ضعيف؛ لأنَّه قد صح رجوعه عما روى لما سمع وعلم ما هو أقوى منه، ثم قال: يحتمل أن قول البخاري: (الغسل أحوط)؛ يعني: في الدين وهو باب مشهور في الأصول وهو الأشبه بإمامة الرجل وعلمه.
قال ابن حجر: (هذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل، وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث بغير هذه المسألة)،
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: من ترجمته يفهم جواز ترك الغسل؛ لأنَّه اقتصر على غسل ما يصيب الرجل من المرأة، إنَّما هو الجواب، والغسل غير واجب، ولكنه يستحب؛ للاحتياط) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض»: (بأن هذا إنَّما يفهم من جواب السؤال، وأما غسل الذكر وهو المترجم به؛ فمقصود من يترجم به أنه مشروع أعم من أن يكون غسل جميع البدن واجبًا أم لا، وهذا على رأي من لا يرى اندراج إزالة النجاسة في غسل جميع الجسد، بل يشترط لها غسلًا آخر) انتهى.
قلت: وهذا فاسد ظاهر الفساد؛ لأنَّ ما ترجم به المؤلف من غسل ما يصيب فرج المرأة بيان على أن ترك الغسل جائز، والجائز غير واجب، فبقي على الاستحباب؛ للاحتياط، وهذا ظاهر.
وقوله: (وأما غسل الذكر ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ غسل الذكر مشروع في الاستنجاء؛ فلا حاجة لبيانه هنا، وإنما ترجم به؛ للإشارة إلى أن الجماع تارة يكون واجبًا وهو ما إذا أنزل، وتارة يكون مستحبًّا وهو ما إذا لم ينزل؛ ولأجل اختلاف الناس في ذلك ترجم بما يصيب المرأة وإصابتها أعم من [أن] يكون واجبًا أو مستحبًّا، وهذا مفهوم ضرورة من الترجمة؛ فافهم، والله أعلم.
واعترض ابن حجر على ابن العربي في نفيه الخلاف، فزعم أن الخلاف مشهور في الصحابة والتابعين، يثبت عن جماعة منهم ومن التابعين، انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: لقائل أن يقول: انعقد الإجماع عليه، فارتفع الخلاف)؛ بيانه: ما رواه الحافظ الطحاوي: حدثنا روح بن الفرج قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكير قال: حدثني الليث قال: حدثني معمر بن أبي حُيَيَّة؛ بضمِّ الحاء المهملة، وفتح المثناة التحتية المكررة، فهي حيية بنت مرَّة بن عمرو بن عبد الله بن شعيب، ومعمر هذا يروي عن عبد الله بن عدي بن الجبار قال: تذاكر أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند عمر بن الخطاب الغسل من الجنابة، فقال
%ص 322%
بعضهم: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، وقال بعضهم: (الماء من الماء)، قال عمر رضي الله عنه: (قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف الناس بعدكم؟!) فقال علي بن أبي طالب: (يا أمير المؤمنين؛ إن أردت أن تعلم ذلك؛ فأرسل إلى أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فسلهن عن ذلك)، فأرسل إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك: (لا أسمع أحدًا يقول: الماء من الماء؛ إلا جعلته نكالًا)،
قال الحافظ الطحاوي: (فهذا عمر رضي الله عنه قد حمل الناس على هذا بحضرة أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم ينكر ذلك عليه منكِر) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن الخصم ينازع في الإجماع بما نقله مما تقدم، فكيف يتوجه الرد عليه بما ذكره؛ فتأمل.
قلت: تأملته، فناسب أن يقال هنا: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ} [النجم: 30]؛ ولا يخفى أنه لا نزاع في الإجماع؛ لأنَّ المراد بالإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم وهو المعتبر في الدلائل الشرعية لا إجماع التابعين؛ لأنَّه غير معتد فيه في الشرع، فهذا القائل لم يفرق بين إجماع الصحابة وإجماع من بعدهم، ولا يسع أحدًا أن ينكر إجماع الصحابة في هذه المسألة؛ لثبوته عنهم، كما رواه الحافظ الطحاوي، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في «مصنفه» على غير هذه الصفة، كما ذكرنا ذلك في باب: (إذا التقى الختانان) عن «عمدة القاري»، وفيه إجماع الصحابة على لزوم الغسل وإن لم ينزل، ولهذا قال الشافعي في «اختلاف الحديث»: حديث «الماء من الماء» ثابت، لكنه منسوخ ... ) إلى أن قال: (فخالفنا بعض أهل الحجاز فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل، فعرف بهذا أن الخلاف مشهور بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب) انتهى، فقد علمت أنه نفى الخلاف بين الصحابة؛ لوقوع الإجماع وثبوته عنهم، وأثبت الخلاف بين التابعين ومن بعدهم، فهذا القائل لم يدر الفرق بين إجماع هؤلاء وبين إجماع هؤلاء وبينهما فرق كما بين السماء والأرض، وعلى كل؛ فالرد متوجه على ابن حجر بما زعمه، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
وادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، قال في «عمدة القاري»: وفيه نظر؛ لأنَّ الخطابي قال: (قاله من التابعين الأعمش)، وتبعه القاضي، ولكنه قال: (لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره).
قال في «عمدة القاري»: (وفيه نظر؛ لأنَّه قد ثبت أن أبا سَلَمَة بن عبد الرحمن كان يفعل ذلك، وكذا عطاء بن أبي رباح، كما رواه ابن عبد الرزاق) انتهى.
والحاصل: أن إجماع الصحابة ثابت قائم على وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل، وأن اختلاف التابعين فيه ثابت، وما بعد الإجماع إلا الرجوع إليه، ثم أجمعت المجتهدون على ذلك، فلا يجوز العمل إلا بما عليه أئمة المذاهب الأربعة الأعلام، والله ولي الألباب وهو الصواب؛ فافهم.
وفي رجب سنة سبع وسبعين ومئتين وألف ظهر قحط من قلة القمح وغيره، وقلة البيع والشراء، وتعطلت الطرقات من الثلج، وظهرت السقعة في كل يوم من العصر على وجه ماء البحرات، فالبرد شديد، والخبز عزيز، والدرهم قليل، والمصرف كثير، والحي باقٍ لا يزول، اللهم؛ أحسن أحوال المسلمين، ورخص أسعارهم بجاه النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وآله وأصحابه أجميعين آمين.
==================
[1] في الأصل: (لأخذ)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مجمع)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/503)
((6)) [كتاب الحيض]
ولما فرغ المؤلف من الأحداث التي يكثر وقوعها؛ كالأصغر والأكبر والأحكام المتعلقة بها أصلًا وخلفًا؛ أراد أن يذكر لنا عقيب ذلك حكم الأحداث التي يقل وقوعها، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) كذا هي ثابتة في «الفرع»، وساقطة في أكثر الروايات، هذا (كتاب) في بيان أحكام (الحيض) ولأبي ذر تقديم (كتاب) على البسملة، وفي رواية: (باب) بدل (كتاب)، ولا يخفى أن التعبير بـ (كتاب) أولى؛ لاشتماله على الأنواع الداخلة تحته، بخلاف الـ (باب)؛ فافهم، وإنما ترجم بـ (الحيض) دون غيره من النفاس والاستحاضة؛ لكثرة وقوع الحيض على غيره، أو لكونه أصلًا في هذا الباب دون غيره، ولأنَّه أصل في الأحكام، ولهذا أفرده الإمام محمَّد بن الحسن محرر مذهب الإمام الأعظم في كتاب مستقل، ولأنَّ معرفة مسائله من أعظم المهمات؛ لما يترتب عليها ما لا يحصى من الأحكام؛ كالطهارة، والصَّلاة، والقراءة، والصوم، والحج، والاعتكاف، والبلوغ، والوطء، والطلاق، والعدة، والاستبراء، وغير ذلك مما مقرر في كتب الفروع.
واختلفوا في التعبير عن الحيض والنفاس بأنهما من الأحداث أو الأنجاس، فذهب جماعة إلى الثاني، وذهب جماعة إلى الأول، قال في «العناية»: (والأنسب أنه الأول)، واستظهر في «البحر» الثاني، ثم قال: (والظاهر أنه لا ثمرة لهذا الاختلاف) انتهى.
قلت: ويرد عليه أن إزالة النجاسة تبيح الدخول في الصَّلاة، واغتسال الحائض ما دامت متصفة به لا يبيح ذلك، فعلم بهذا أنه ليس نجسًا حقيقيًّا، والطهارة منه طهارة حدث لا طهارة نجس، ولأن الأحكام المتعلقة به هي الأحكام المختصة بالأحداث، فالتحقيق أنه من الأحداث، كذا في «منهل الطلاب»، وفيه: وللحيض أسماء وهي خمسة عشر اسمًا، جمعها بعضهم في بيتين من البسيط، فقال:
للحيض عشرة أسماء وخمستها ... حيض محيض محاض طمث إكبار
طمس عراك فراك مع أذى ضحك ... درس دراس نفاس قرء إعصار
والطمث الأول بالمثلثة، ويقال: بالمثناة الفوقية، ويقال بالهمز أيضًا، والثاني: بالسين المهملة، والعراك؛ بالعين المهملة، وذكر في «النهر» أن الحيض لا يكون في غير المرأة إلا في الأرنب والضبع والخفاش، زاد القسطلاني: (الكلبة، والناقة، والوزغة) انتهى، وزاد بعضهم: الحجرة؛ وهي الأنثى من الخيل، والعرس؛ وهي لبوة الأسد، والجمع: أعراس، وسمكة شبيهة بالنساء ذات شعور وفروج عظام فهي تسعة أصناف، وقد نظمها بعضهم في بيتين، فقال:
الحيض يأتي للنساء وتسعة ... وهي النياق وضبعها والأرنب
والوزغ والخفاش حجرة كلبة ... والعرس والحيات منها تحسب
والبعض زاد سميكة وعاشة ... فاحفظ ففي حفظ النظائر يرغب
والحيض المنسوب إلى هذه الحيوانات؛ بمعنى: السيلان، والحيض في اللغة: السيلان، يقال: حاضت السمرة؛ وهي شجرة يسيل منها شيء؛ كالدم، ويقال: الحيض لغة: الدم الخارج، يقال: حاضت الأرنب؛ إذا خرج منها الدم، وذكر في «العباب»: (التحييض: التسييل، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحاضًا ومحيضًا)، وعن اللحياني: (حاض، وخاض، وحاص؛ بالمهملتين، وحار؛ كلُّها بمعنًى، والمرأة حائض وهي اللغة الفصيحة الفاشية بغير تاء).
واختلف النحاة في ذلك، فقال الكوفيون: (إنه استغني عن علامة التأنيث؛ لأنَّه وصف لازم مخصوص بالمؤنث؛ فلا لبس في ذلك)، وقال سيبويه: (إن ذلك صفة شيء مذكر؛ أي: شيء أو إنسان، أو شخص حائض)، وقال الخليل: (لما لم يكن جاريًا على الفعل؛ كان بمنزلة المنسوب بمعنى: حائض؛ أي: ذات حيض؛ كذراع، ونامل، وتامر، ولَابِن، وكذا طالق، وطامث، وقاعد للآيسة؛ أي: ذات طلاق)، وحكى الفراء: (حائضة)، وتمامه في «منهل الطلاب»، و «عمدة القاري».
وأما معناه شرعًا؛ فعلى قول من يقول: إنه من الأحداث؛ فهو صفة شرعية مانعة عما تشترط له الطهارة؛ كالصَّلاة، ومس المصحف، وعن الصوم، ودخول المسجد، والقرآن بسبب الدم المذكور، وعلى القول بأنه من الأنجاس؛ فهو دم ينفضه رحم المرأة البالغة لا داء بها، ولا حبل، ولم تبلغ سن الإياس، وقال الإمام
%ص 323%
الكرخي: الحيض: دم تصير به المرأة بالغة بابتداء خروجه، وقيل: هو ممتد خارج عن موضع مخصوص وهو القبل، وأما الاستحاضة؛ فهي جريان الدم في غير أوانه وهو ما تراه حال الحبل، أو في أقل من ثلاثة أيام، أو في أكثر من عشرة أيام، أو في حال الصغر، أو في حال المرض، أو بعد بلوغ سن الإياس، أو غير ذلك، كما هو مقرر في الفروع، فإن جميع ذلك استحاضة؛ ويسمى دم الاستحاضة: العاذل بالذال المعجمة، قاله الأزهري، وحكى ابن سيده إهمالها، والجوهري بدل (اللامِ) (راء)؛ فليحفظ.
(وقولِ اللهِ تعالى) وللأَصيلي: (عز وجل)؛ بالجر عطفًا على قوله: (الحيض) المضاف إليه لفظ (كتاب)، وفي رواية: (قولُ الله)؛ بالرفع، وهذه الآية في سورة البقرة ({وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ}) مصدر؛ كالمجيء والمبيت، ويصلح للزمان والمكان أيضًا، وقد استعملوا لفظ المحاض؛ بمعنى: المصدر، فقالوا: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا ومحاضًا، فبنوا المصدر على (مفعل) بالكسر والفتح، والمراد عن الحيض نفسه؛ أي: حكمه، والحِيضة _بالكسر_ الاسم، والجمع الحيض، وأصله من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل؛ فاض، وحاضت الثمرة؛ سالت رطوبتها، ذكر الطبراني عن السدي: أن السائل ثابت بن الدحداح، وقيل: أُسَيْد بن حُضَير، وعَبَّاد بن بشير، وهو قول الأكثرين، وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد تأسَّوا بسيئة بني إسرائيل في تجنب مواكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، وقال مُجَاهِد بذلك، وروى مسلم في «صحيحه» عن أنس: (أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم؛ لم يواكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أُسَيْد بن الحُضَير، وعَبَّاد بن بشير فقالا: يا رسول الله؛ إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى ظننا أنه قد وجد عليه، فخرجنا فاستقبلهما هدية من لبن، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما).
قال أئمتنا الأعلام: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض؛ فأمر الله تعالى بالقصد بين هذين، وأمر النبي عليه السلام أن يواكلوهن، ويشاربوهن، وأن يكونوا معهن، وأن يفعلوا كل شيء إلا الوطء، فإنكم لم تؤمروا باعتزالهن من البيوت، وإنما أمرتم باعتزال الفروج إذا حضن، ويؤتين إذا طهرن.
({قُلْ هُوَ}) أي: الحيض ({أَذًى})؛ أي: شيء مستقذر مؤذٍ من يقربه نفرة منه، ولا ريب أن اللوث الخارج من الرحم كذلك، فإن الأذى لغة: اسم لما يكره من كل شيء، ولهذا سمى الله تعالى الكلام المكروه أذًى في قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]، وقال فيما يسأمه الإنسان من مكروه المطر: أذًى في قوله تعالى: {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ} [النساء: 102]، وفي «عمدة القاري» وقال الطبري: وسمِّي الحيض أذًى؛ لنتنه، وقذره، ونجاسته، وقال الخطابي: (الأذى المكروه الذي ليس بشديد، كما قال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} [آل عمران: 111]؛ فالمعنى: أن المحيض الأول الدم، وأما الثاني؛ فقد اختلف فيه: أهو نفس الدم أو زمن الحيض أو الفرج؟ والأول هو الأصح) انتهى، وإنما وصفه بالأذى ورتب الحكم عليه بالفاء؛ إشعارًا بأنه العلة، فلذا قال: ({فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ})؛ أي: اجتنبوهن، وتنحَّوا عنهن، يقال: عزلته فانعزل فاعتزل ونحيته فتنحَّى، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} [هود: 42]، والمراد: ترك المجامعة لهن ({فِي المَحِيضِ})؛ أي: تنحَّوا عنهن حال حيضهن؛ أي: في نفس الدم؛ أي: حال سيلأنه، فيكون مصدرًا.
قال في «عمدة القاري» وتبعه القسطلاني: (وهو الأصح، أو زمن الحيض؛ أو المراد: الفرج فيكون موضعًا، ويدل له أن ناسًا من الأعراب قد شق عليهم اعتزال الحيض والبرد شديد، فسألوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقال: «إنكم لم تؤمروا باعتزالهن من البيوت، وإنما أمرتم باعتزال الفروج إذا حضن»).
قلت: والظاهر أن المراد: زمن الحيض؛ لأنَّ دم الحيض قد لا يُدرَى إلا في أول العادة وآخرها، ويبقى في أوسطها منقطعًا، والحال أن المرأة كلها حيض، وقد يقال: إنَّ المراد: وجوده حقيقة أو حكمًا؛ فتأمل، وعموم الآية يقتضي أن الواجب اعتزال الرجل فراش زوجته إذا حاضت، وهو مروي عن ابن عباس، وعبيدة السلماني، ولما سمعت ميمونة ذلك من ابن عباس؛ قالت له: (أراغب أنت عن سنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم).
ومذهب الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والأوزاعي، ومالك، وهو أحد قولي الشافعي: أن له مباشرتها بما فوق المئزر وما نزل عنه؛ لقوله عليه السلام للسائل حين سأله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال: «تشد عليها إزارها، ثم شأنك [1] بأعلاها»، وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت: «شدِّي على نفسك إزارك، ثم عودي إلى مضجعك»، وقال الإمام محمَّد بن الحسن، والثوري، وداود الظاهري؛ وهو الصحيح من قولي الشافعي: إنه يجتنب موضع الدم فقط؛ لقوله عليه السلام: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، وروى أبو معشر، عن إبراهيم، عن مسروق قال: سألت عائشة: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقالت: (كل شيء إلا الفرج)، ورجحه الإمام العارف الشيخ أحمد السروجي في «شرحه» على «الهداية»، وفي «التأويلات» وبه يفتى، لكن رجح الإمام كمال الدين ابن الهمام في «شرحه» على «الهداية» قول الإمام الأعظم، وتبعه في «البحر»، و «النهر»، وغيرهما قالوا: وعليه الفتوى وهو الصحيح كما في أكثر المعتبرات؛ فيحرم على الزوج الاستمتاع بما بين السرة والركبة؛ وهو المراد بما تحت الإزار، ويحل ما فوق السرة وما تحت الركبة سواء كان بحائل أو لا، ولو تلطخ دمًا كما في «منهل الطلاب»، وتمامه فيه.
فإن قلت: دم الاستحاضة كدم الحيض في كونه أذًى مع أنه لا يوجب الاعتزال وترك الوطء، فلو كانت [2] العلة للاعتزال؛ لوجب الاعتزال عن المرأة وقت الاستحاضة.
قلت: (دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرحم، ولو احتبست تلك الفضلة؛ لمرضت المرأة، فلذلك الدم جارٍ مجرى البول والغائط، فكان أذًى مثلهما وقذرًا نجسًا، وأما دم الاستحاضة؛ فليس كذلك، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر من فم الرحم، فلا يكون أذًى، وإن كان نجسًا؛ فهو دم صحة لا فساد) انتهى.
({وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ})؛ أي: لا تطؤوهن، وفسر بذلك قوله: {فَاعْتَزِلُوا} ولولاه؛ لتوهم بالاعتزال المفارقة بكل البدن في كل شيء، وقيل: أكده بصيغتين؛ نهي وأمر مبالغة في المنع لما أن الزوجين مجتمعان غالبًا ومعهما داعيان إليه ظاهرًا؛ فافهم.
({حتى يطهرن})؛ بالتشديد في قراءة حمزة، والكسائي، وعاصم؛ أي: يغتسلن، وبالتخفيف في قراءة الباقين؛ أي: يخرجن من الحيض بانقطاع الدم، ورجح أبو علي الفارسي قراءة التخفيف؛ لأنَّه ثلاثي مضاد لـ (طمث)، وهو ثلاثي، فإذا كانت أيامها عشرة التي هي أكثر أيام الحيض، فكما انقطع؛ حل للزوج والمولى وطؤها وإن لم تغتسل، وإذا كانت دون ذلك وانقطع؛ حل وطؤها إذا اغتسلت وإن لم تغتسل، فإن مضى عليها وقت صلاة؛ حل أيضًا وهذا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم وهو قول مُجَاهِد، وعكرمة، وطاووس، وغيرهم، وذلك لأنَّ قوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} نهي عن قربانهن إلى غاية وهي أن يطهرن؛ أي: ينقطع حيضهن وإذا كان انقطاع الحيض غاية لهذا النهي؛ وجب ألَّا يبقى هذا النهي عند انقطاع الحيض؛ فإن معنى الغاية في الشرط: هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف هو معنى قوله: {يطَّهَّرن} بالتشديد بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، وقول كميت:
وما كانت الأنصار فيها أذلة ... ولا عسى فيها إذا الناس غيب
%ص 324%
وأيضًا فإن القراءتين كالآيتين؛ فيجب أن يعمل بهما، فنحن نحمل كل واحدة منهما على معنًى، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل؛ فإنا لا نجيز وطأها حتى تغتسل؛ لأنَّه لا يؤمن عوده، ونحمل الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر؛ فيجوز حينئذٍ وطؤها وإن لم تغتسل، وهذا ظاهر الآية المذكورة، ويدل لهذا أنه في مصحف عبد الله بن مسعود، وأُبيِّ بن كعب: {يتطهرن}، وفي مصحف أنس بن مالك: (ولا تقربوا النساء في حيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن) فـ (حتى) في الآية بمعنى: (إلى)، والفعل بعدها منصوب بإضمار (أن)، وأصل (يطَّهَّرن) بالتشديد يتطهرن، كما في هذين المصحفين، فأدغم على أن المراد بالطهارة: الطهارة الحاصلة بانقطاع الدم.
وقال الإمام زفر، ومالك، والشافعي: لا يجوز وطؤها حتى تغتسل بالماء، قالوا: إن الله علق الحكم فيها على شرطين؛ أحدهما: انقطاع الدم، وهو قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، والثاني: الاغتسال بالماء، وهو قوله: {حَتَّى يَطَّهَّرْنَ [3]}؛ أي: يفعلن الغسل بالماء كالجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره.
ورُدَّ بأن مؤدَّى قراءة التخفيف انتهاء الحرمة العارضة على الحل بالانقطاع مطلقًا، وإذا انتهت الحرمة العارضة على الحل؛ حلت بالضرورة، ومؤدَّى قراءة التشديد عدم انتهاء الحرمة عندهم، بل بعد الغسل؛ فوجب الجمع ما أمكن، فحملنا التخفيف على الانقطاع؛ لأكثر المدة، والتشديد عليه؛ لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض وهو المناسب؛ لأنَّ في توقيف قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضًا حكمًا وهو مناف لحكم الشرع عليها؛ لوجوب الصَّلاة المستلزم إنزاله إياها طاهرة قطعًا، بخلاف تمام العادة، فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر، بل يجوز الحيض بعده، ولهذا لو زادت ولم تجاوز العشرة؛ كان الكل حيضًا بالاتفاق.
بقي أن مقتضى التشديد ثبوت الحرمة قبل الغسل؛ فرفع الحرمة قبله بخروج الوقت معارضة للنص بالمعنى، والجواب: أن قراءة التشديد خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف، فجاز أن تخص ثانيًا بالمعنى، كما لا يخفى وتمامه في «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب.
({فَإِذَا تَطَهَّرْنَ})؛ أي: اغتسلن، كما في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ أي: اغسلوا أبدانكم؛ فإن الاغتسال بعد تمام العادة قبل الأكثر فرض، وبعد الأكثر مستحب هذا ظاهر الآية، وحاصل الكلام: أن الدم إما أن ينقطع؛ لتمام العشرة، أو دونها؛ لتمام العادة، أو دونها؛ ففي الأول يحل وطؤها بمجرد الانقطاع، ويستحب له ألَّا يطأها حتى تغتسل، وفي الثالث لا يقربها وإن اغتسلت ما لم تمض عادتها، وفي الثاني إن اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة؛ حل، وإلا؛ فلا؛ يعني: خرج وقت الصَّلاة حتى صارت الصَّلاة دينًا في ذمتها، وعلى هذا التفصيل انقطاع النفاس إن كان لها عادة فيها فانقطع دونها؛ لا يقربها حتى تمضي عادتها بالشرط أو لتمامها؛ حل إذا خرج الوقت التي طهرت فيه، أو لتمام الأربعين؛ حل مطلقًا، كذا في «منهل الطلاب» ({فَأْتُوهُنَّ})؛ أي: جامعوهن، فكنى بالإتيان عن الوطء، وهذا أمر إباحة ورخصة يدل عليه ما قال مُجَاهِد: سألت ابن عباس عن هذا فقال: هذا أمر إباحة ورخصة، وينصرف إلى ما وقع النهي عنه وهو القربان في موضع الحيض لأجل الحيض، فإذا زال؛ أبيح الإتيان في ذلك الموضع، وقد انعقد الإجماع على أن الأمر هنا للإباحة، وبه يظهر عدم دلالته على أن المراد بالتطهير: الغسل بالماء؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لكان الأمر واجبًا؛ لأنَّ الأمر الواجب هو الذي يقتضي الوجه الأكمل بخلاف هذا، فإنه لا يقتضيه، بل المراد بالتطهير: الاغتسال فيما إذا انقطع لدون العشرة، أو الانقطاع فقط فيما إذا كان انقطع لتمام العشرة وهذا ظاهر؛ لأنَّ الحائضة في العادة تتلطخ بالدم وهو نجس إجماعًا أخبث من غيره لنتن ريحه، وإذا كانت كذلك؛ صدق عليها أنها نجسة، وصدق عليها حالة الانقطاع لتمام العشرة أنها طهرت وإن لم تغتسل، وهذا من باب عموم المجاز؛ بأن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز، كما عرف في الأصول؛ فافهم، ({مِنْ حَيْثُ})؛ أي: في حيث، فـ (من)؛ بمعنى: (في)؛ كقوله تعالى: {إِذَا [4] نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]؛ أي: في يوم الجمعة، وقيل: المعنى: أي: من الوجه الذي ({أَمَرَكُمُ اللهُ})؛ أي: أذن لكم فيه وهو القبل في غير صوم، وإحرام، واعتكاف؛ لأنَّ الله تعالى لما حرم إتيان القبل في أيام الحيض للأذى؛ فيحرم إتيان الدبر في الأحوال كلها؛ لما فيه من الأذى وهو القذر، ولأن المراد من قوله تعالى: {وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: 16] أهل اللواطة، فهو مخصوص بالرجال، كذا قال مُجَاهِد وغيره، وما ذلك إلا للأذى؛ فحرمة اللواطة ثابت بالقياس على حرمة وطء الحائض والجامع بينهما الأذى في كلٍّ، وتمامه في كتب الأصول، ({إِنَّ اللهَ يُحِبُّ}) أي: يرحم ويثيب ({التَّوَّابِينَ}) أي: من الذنوب والشرك، ({وَيُحِبُّ}) أي: يرحم ويثيب ({المُتَطَهِّرِينَ}) [البقرة: 222]؛ أي: المتنزهين عن الفواحش والأقذار؛ كمجامعة الحائض، والإتيان في أدبارهن، يدل له قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، وإنما قدَّم الذي أذنب على من لم يذنب؛ لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، يدل عليه قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، والله أعلم.
بقي ما لو وطئها في الفرج حالة الحيض عالمًا بالحرمة عامدًا مختارًا غير مستحل له، فقال الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والشافعي: إنه كبيرة وليس عليه سوى التوبة والاستغفار، وهو قول ربيعة، ويحيى بن سَعِيْد، وبه قال داود الظاهري.
قال علماؤنا: وهل يجب التعزير أم لا؟
توقف فيه صاحب «البحر» واستظهر في «منهل الطلاب»: أنه إذا كان جاهلًا أو ناسيًا أو مكرهًا؛ لا يعزر، وإن كان عالمًا بالحرمة عامدًا مختارًا غير مستحل؛ يعزر؛ لأنَّه حرام، ويورث داء الجذام، كما صرح به علماء الطب.
وقال علماؤنا: يستحب له أن يتصدق بدينار، وقيل: بنصفه، كما في «الجوهرة»، وهو قول الإمام محمَّد بن الحسن، وأحمد ابن حنبل، ويدل لذلك ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يتصدق بدينار أو نصف دينار».
وقال في «فتح القدير»: (إن وطئ في أول الحيض؛ يستحب أن يتصدق بدينار، وإن كان في وسطه أو آخره؛ فنصف دينار، وقيل: إن كان الدم أسود؛ يتصدق بدينار، وإن كان أصفر؛ فبنصف دينار)، ويدل لذلك ما رواه أبو داود، والحاكم وصححه: إذا واقع الرجل أهله وهي حائض إن كان دمًا أحمر؛ فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر؛ فليتصدق بنصف دينار، ورواه الترمذي، والدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا.
والظاهر: أنه كما يندب له التصدق يندب لها؛ لتمكينها نفسها إياه، ومصرف ذلك مصرف الزكاة، فإن وطئها مستحلًّا؛ يكفر، كما جزم به في «الجوهرة»، و «فتح القدير»، و «المبسوط»، و «الاختيار»، وغيرها؛ لأنَّ حرمته ثبتت بدليل قطعي.
وفي «النوادر» عن الإمام محمَّد بن الحسن أنه لا يكفر، وصحح هذه الرواية صاحب «الخلاصة»، و «البزازية»، قال صاحب «البحر»: (فعلى هذا لا يفتى
%ص 325%
بتكفير مستحله لما في «الخلاصة» أن المسألة إذا كان فيها وجوه؛ توجب التكفير، ووجه واحد يمنع؛ فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك الوجه) انتهى.
ووطء النفساء كالحائض؛ لأنَّ حكم النفاس حكم الحيض في كل شيء، إلا فيما استثني وليس هذا منه، كما صرح به في «شرح الهاملية»، و «الجوهرة» وعلى هذا: الخلاف وطء الدبر من المرأة والغلام، وتمامه في «منهل الطلاب».
كذا ذكرت الآية بتمامها في رواية ابن عساكر، ولأبوي الوقت وذر: {فَاعْتَزِلُوا .. } إلى قوله: {وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وللأَصيلي كذلك إلى قوله: {المُتَطَهِّرِينَ}، وفي رواية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ .. }؛ الآية.
قال في «عمدة القاري»: (فإن قلت: أورد هذه الآية ههنا، ولم يبين منها شيئًا، فما كانت فائدة ذكرها هنا؟
قلت: أقل فائدة ذكرها هنا التنبيه على نجاسة الحيض، وفيه: الإشارة أيضًا إلى وجوب الاعتزال عنهن في حالة الحيض، وغير ذلك)، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (شابك)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (كان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يتطهرن)، والمثبت موافق للتلاوة.
[4] في الأصل: (فإذا)، والمثبت موافق للتلاوة.
==================
[1] في الأصل: (شابك)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (كان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يتطهرن)، والمثبت موافق للتلاوة.
[1] في الأصل: (شابك)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (كان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يتطهرن)، والمثبت موافق للتلاوة.
(1/504)
(1) [باب كيف كان بدء الحيض]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين بالقطع عما بعده، خبر لمبتدأ محذوف، ويجوز ترك التنوين للإضافة إلى قوله: (كيف) وهي اسم بالقطع؛ لدخول الجار عليه بلا تأويل في قولهم: على كيف تتبع الأحمرين؟ ومحلها من الإعراب النصب على الحال، كما في قولك: كيف جاء زيد؟ أي: على أي حالة جاء زيد؛ والتقدير هنا: على أي حالة (كان بدء) من بدأ يبدأ بدءًا؛ أي: ظهر، والبدء بالهمز في آخره على (فعْل) بسكون العين المهملة من بدأت الشيء بدأ ابتدأت به (الحيض)؛ أي: ابتداؤه، ولفظة (كان) من الأفعال الناقصة تدل على الزمان الماضي من غير تعرُّض لزواله في الحال أو لا زواله، وبهذا يفرق عن (صار)، فإن معناه الانتقال من حال إلى حال، ولهذا لا يجوز أن يقال: صار الله، ولا يجوز أن يقال: إلا كان الله تعالى، والله أعلم، والباب أصله: بَوَبَ بالتحريك قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ويجمع على أبواب وأبوبة، والمراد من الباب هنا: النوع كما في قولهم: من فتح بابًا من العلم؛ أي: نوعًا، كذا قرره في «عمدة القاري»، (وقول النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): بالجر بدل مما قبله، وبالرفع على الابتداء أو الخبر، والأول أظهر: (هذا)؛ أي: الحيض (شيء كتبه الله على بنات آدم)؛ لأنَّه من أصل خلقتهن الذي فيه صلاحهن، ويدل عليه قوله تعالى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] المفسر بـ (أصلحناها)؛ للولادة بِرَدِّ الحيض إليها بعد عقرها، وقد روى الحاكم بإسناد صحيح من حديث ابن عباس: (أن ابتداء الحيض كان على حواء عليها السلام بعد أن أُهبِطت من الجنة).
قال في «عمدة القاري»: (وهذا من تعليقات [1] البخاري، والآن نذكره موصولًا عقيب هذا، وسنذكره أيضًا في الباب السادس من جملة حديث) انتهى.
وزعم ابن حجر أن قوله: (وقول النبيذِ ... ) إلخ يشير إلى حديث عائشة المذكور عقيبه.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: هذا الكلام غير صحيح، بل قوله: (هذا شيء) يشير به إلى الحيض، فكذلك بلفظ (شيء) في الحديث الذي يأتي في الباب السادس، ولكنه بلفظ: (فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم)، وعلى كل تقدير؛ فالإشارة بقوله: (هذا) إلى الحيض، انتهى.
واعترض البرماوي على ابن حجر في قوله: هذا التعليق المذكور وصله المؤلف بلفظ (شيء) من طريق أخرى بعد خمسة أبواب، فقال: (ليس في الباب المذكور شيء، بل هو الحديث الذي أورده البخاري في هذا الباب، فلا حاجة لادِّعاء وصله بموضع آخر، نعم؛ لفظه هناك (أمر) بدل (شيء)، فـ (شيء) إما رواية بالمعنى، وإما أنه مروي أيضًا) انتهى.
ورده القسطلاني فقال: والصواب ما قاله ابن حجر، فإنه في الباب المذكور كذلك، نعم؛ قال فيه: (فإن ذلك شيء) بدل قوله هنا: (هذا شيء) انتهى.
قلت: وهذا يدل على أنه ليس بموصول هناك إلا أن يقال: اختلاف اللفظ لا يدل على التعدد، هذا وقد قال ما قاله ابن حجر إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، كما علمت عبارته، فالصواب ما قاله في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(وقال بعضهم)؛ هو عبد الله بن مسعود، وعائشة رضي الله عنهما: (كان أولُ)؛ بالرفع اسم (كان) (ما أُرسل)؛ بضمِّ الهمزة مبني للمفعول (الحيضُ)؛ بالرفع نائب عن الفاعل، وكلمة (ما) مصدرية؛ والتقدير: كان أول إرسال الحيض (على) بنات (بني إسرائيل) خبر (كان)، وأشار المؤلف بهذا إلى ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود وعائشة بإسناد صحيح، ولفظه: (كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، وكانت المرأة تتشرف للرجل، فألقى الله عليهن الحيض، ومنعهن المساجد)، قاله في «عمدة القاري»، ثم قال: فإن قلت: الحيض أُرسِل على بنات إسرائيل ولم يرسل على بنيه، فكيف قال على بني إسرائيل؟
وأجاب الكرماني: بأن بني إسرائيل يستعمل ويراد به: أولاده، كما يراد من بني آدم أولاده، أو المراد على هذا القول: القبيلة.
ورده صاحب «عمدة القاري» بأن هذا من حيث اللغة يمشي، ومن حيث العرف لا يذكر الابن ويراد به: الولد، حتى لو أوصى بثلث ماله لابن زيد، وله ابن وبنت؛ لا تدخل البنت فيه، ودخول البنات في بني آدم بطريق التبعية، وقوله: (أو المراد به: القبيلة) ليس له وجه أصلًا؛ لأنَّ القبيلة تجمع الكل، فيدخل فيه الرجال أيضًا، وقد علم أن طبقات العرب ست، فالقبائل تجمع الكل، ويمكن أن يقال: إن المضاف فيه محذوف؛ تقديره: على بنات بني إسرائيل، يشهد بذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كتبه الله على بنات آدم»، ونذكر التوفيق بينهما عن قريب انتهى كلامه.
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف نفسه، كذا في الرواية وهو ساقط في بعضها: (وحديث النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أن: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم» (أكثر)؛ بالمثلثة؛ أي: أشمل من قول ابن مسعود وعائشة المذكور، قال في «عمدة القاري»: (وكأنه أشار بهذا الكلام إلى وجه التوفيق بين الخبرين، وهو أن كلام الرسول أكثر قوة وقبولًا من كلام غيره من الصحابة).
وزعم الكرماني ويروى: (أكبر)؛ بالموحدة؛ ومعناه على هذا: وحديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعظم، وأجل، وآكد ثبوتًا، وقرأ الكرماني: (الأكثر)؛ بالمثلثة.
وقال الداودي: (ليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم).
وزعم ابن حجر أنه على هذا؛ فقوله: (من بنات آدم) عام أريد به الخصوص.
وردهما صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ما أبعد كلام الداودي في التوفيق بينهما! نعم؛ نحن لا ننكر أن نساء بني إسرائيل من بنات آدم، ولكن الكلام في لفظ الأولوية فيهما، ولا ينبغي المخالفة إلا بالتوفيق بين لفظي الأولوية، وأبعد من هذا قول هذا القائل: عام أريد به الخصوص، فكيف يجوز تخصيص عموم كلام النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بكلام غيره؟!).
ثم قال ابن حجر: (ويمكن أن يجمع بينهما؛ بأن الذي أُرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن لابتداء وجوده).
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا كلام من لا يذوق المعنى، وكيف يقول: لابتداء وجوده، والخبر فيه أول ما أرسل وبينه وبين كلامه منافاة، وأيضًا في أين ورد أن الحيض طال مكثه في بني إسرائيل؟! ومن نقل هذا؟!.
وقد روى الحاكم بإسناد صحيح عن ابن عباس: (أن ابتداء الحيض كان على حواء عليها السلام بعد أن أُهبطت من الجنة)، وكذا رواه ابن المُنْذِر، وقد روى الطبراني وغيره
%ص 326%
عن ابن عباس وغيره: أن قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71]؛ أي: حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب؛ لأنَّ إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام)، ثم قال إمام الشارحين: (ولقد حضرني جواب في التوفيق من الأنوار الإلهية بقوته ولطفه وهو: أنه يمكن أن الله تعالى قطع حيض بني إسرائيل عقوبة لهن ولأزواجهن؛ لكثرة عنادهم، ومضت على ذلك مدة، ثم إن الله تعالى رحمهم وأعاد حيض نسائهم؛ لأنَّ من حكمة الله تعالى أنه جعل الحيض سببًا لوجود النسل، ألا ترى أن المرأة إذا انقطع حيضها؛ لا تحمل عادة؛ فلما أعاده عليهن؛ كان ذلك أول الحيض بالنسبة إلى مدة الانقطاع، فأطلق الأولية عليه بهذا الاعتبار؛ لأنَّها من الأمور النسبية) انتهى كلامه، وقد ارتضاه الشارحون؛ فليحفظ.
هذا (باب) بيان (الأمر بالنُّفساء إذا نفس)؛ بضمِّ النون وفتحها، والضمير الذي فيه يرجع إلى (النفساء)، وتذكيره باعتبار الشخص أو لعدم الالتباس؛ لأنَّ الحيض مخصوص بالنساء، والجمع نظرًا للجنس، والباء في قوله: (بالنفساء) زائدة؛ لأنَّ النفساء مأمورة لا مأمور بها، فيكون التقدير الأمر الملتبس بالنفساء، كذا في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني فإن قلت: البحث في الحيض، فما وجه تعلقه به؟ قلت: المراد بـ (النفساء): الحائض.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: النفساء مفرد، وجمعه نفاس)، وقال الجوهري: ليس في الكلام من (فعلاء) يجمع على (فعال) غير نفساء وعشراء؛ وهي الحامل من البهائم)، قال إمام الشارحين: (ويجمع أيضًا على نُفس؛ بضمِّ النون)، وقال صاحب «المطالع»: (وبالفتح أيضًا، ويجمع على نُفُس؛ بضمِّ النون، والفاء)، قال: ويقال في الواحد: نُفسى؛ مثل: كبرى، وبفتح النون أيضًا، وامرأتان نفساوان، ونفسًا، ونفاس، والنفساء أيضًا مصدر سُمِّي به الدم، كما يسمى بالحيض، مأخوذ من تنفس الرحم؛ لخروج النفس الذي هو الدم، وفي «المغرب»: (النفاس مصدر نفسة المرأة؛ بضمِّ النون وفتحها، إذا ولدت؛ فهي نفساء) انتهى كلامه.
وهذا الباب والترجمة هكذا ثابت في رواية أبوي ذر والوقت، وهما ساقطتان في أكثر الروايات، وفي رواية «الفرع»: (باب الأمر للنساء إذا نَفِسْن)؛ بفتح النون، وكسر الفاء، وسكون السين المهملة، آخره نون؛ أي: حضن، وعليها شرح القسطلاني.
==========
[1] في الأصل: (التعليقات)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/505)
[حديث: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج]
294# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله) ولابن عساكر: (علي)؛ يعني: ابن عبد الله، هو المَدِيني؛ بفتح الميم، وكسر الدال المهملة، قال ابن الأثير: (منسوب إلى مدينة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا أحد ما استعمل بالنسب فيه خارجًا عن القياس، فإن قياسه: المدني)، وقال الجوهري: (تقول في النسب إلى مدينة الرسول: مدني، وإلى مدينة المنصور: مديني؛ للفرق)، كذا في «عمدة القاري» (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عيينة (قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم) هو ابن محمَّد (قال)؛ أي: عبد الرحمن: (سمعت) أبي (القاسم)؛ هو ابن محمَّد، كما في رواية الأَصيلي: هو ابن أبي بكر الصديق الأكبر رضي الله عنه (يقول): جملة محلها النصب على الحال: (سمعت عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنها (تقول): جملة محلها النصب على الحال أيضًا: (خرجنا) حال كوننا (لا نُرى)؛ بضمِّ النون؛ يعني: لا نظن، فالجملة محلها نصب على الحال، وفي رواية: (لا نَرى)؛ بفتح النون (إلا الحج)؛ أي: إلا قصد الحج؛ لأنَّهم كانوا يظنون امتناع العمرة في أشهر الحج، فأخبرت عن اعتقادها عن الغالب من حال الناس، أو من حال الشارع، أما هي؛ فقد قالت: إنها لم تحرم إلا للعمرة، كذا في «عمدة القاري»، (فلما كنتُ)؛ بتاء المتكلم، كذا في رواية الأَصيلي، والكشميهني، وفي رواية: (فلما كنا) (بسَرِف)؛ بفتح السين المهملة، وكسر الراء، آخره فاء؛ وهو اسم موضع قريب من مكة بينهما نحو [1] من عشرة أميال، وقيل: تسعة، وقيل: سبعة، وقيل: ستة، وهو غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وقد يصرف نظرًا لإرادة المكان؛ فافهم.
(حِضت)؛ بكسر الحاء المهملة؛ لأنَّه من حاض يحيض؛ كـ (بِعت) من باع يبيع، أصله حَيِض؛ بفتح المهملة، وكسر التحتية، قلبت الياء التحتية ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت؛ لالتقاء الساكنين فصار: حضت بالفتح، ثم أبدلت الفتحة كسرة؛ لتدل على الياء التحتية المحذوفة، كذا في «عمدة القاري»، (فدخل علي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: إلى مكاني الذي أنا فيه فرآني (وأنا أبكي): جملة اسمية وقعت حالًا بالواو، (فقال): ولأبي الوقت: (قال): (ما لكِ)؛ بكسر الكاف؛ لأنَّه خطاب المؤنث (أنفست؟») الهمزة فيه للاستفهام، وهو بضمِّ الفاء وفتحها في الحيض والنفاس، لكن الضم في الولادة، والفتح في الحيض أكثر، وحكى صاحب «الأفعال» الوجهين جميعًا، وفي «شرح مسلم» المشهور في اللغة أن نَفِست بفتح النون، وكسر الفاء؛ معناه: حضت، وأما في الولادة؛ فيقال: نُفست؛ بضمِّ النون، وقال الهروي: (نفست؛ بضمِّ النون وفتحها في الولادة، وفي الحيض بالفتح لا غير)، كذا في «عمدة القاري»، (قلت: نعم)؛ أي: نفست، (قال) عليه السلام لها: (إن هذا) أي: الحيض (أمر)؛ أي: شأن، وزعم الكرماني أن هنا (أمر)، وفي الترجمة (شيء) فهو إما من باب نقل الحديث بالمعنى، وإما أن اللفظين ثابتان.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا يحتاج إلى الترجمة، واللفظان ثابتان) انتهى.
(كتبه الله) سبحانه وتعالى (على بنات آدم)؛ لأجل أن يمتحنهن به، وليظهر صبرهن وعدمه على العبادة، وهنا محل مطابقة الحديث للترجمة، (فاقضي) خطاب لعائشة؛ فلهذا لم تسقط الياء؛ ومعناه: فأدِّي؛ لأنَّ القضاء يأتي بمعنى: الأداء، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة: 10]؛ أي: فإذا أُدِّيت صلاة الجمعة، كذا في «عمدة القاري» (ما يقضي الحاج)؛ أي: من المناسك، وهو اسم فاعل أصله حاجج، وإنما يأتي في ضرورة الشعر هكذا؛ كقول الراجز:
بكل شيخ عامرأوحاجج
وفي «الصحاح» تقول: حججت البيت أحجه حجًّا، فأنا حاجٌّ، ويجمع على حجج؛ مثل: بازل وبزل، كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني المراد من الحاج: الجنس، فيشمل الجمع، وهو كقوله تعالى: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67].
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: لا ضرورة إلى هذا الكلام؛ فافهم.
(غيرَ) بالنصب (ألَّا)؛ بالتشديد أصله: أن لا، ويجوز أن تكون أن مخففة من المثقلة، وفيه ضمير الشأن، و (أن) [2] زائدة، وقوله: (تطوفي) مجزوم بـ (لا)؛ والمعنى: لا تطوفي ما دمت حائضًا؛ لفقدان صحة الطواف؛ وهو الطهارة، وزاد في الرواية الآتية: (حتى تطهري)، (قالت)؛ أي: عائشة: (وضحَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن نسائه) وهن تسع أو إحدى عشرة بزيادة مارية وريحانة، وسماهما نساء تغليبًا؛ لأنَّهما مملوكتان، وهذا ظاهر في عدم الإذن منهن له عليه السلام؛ لأنَّه لو كان ثمة إذن؛ لذكرته، غايته: أنها ذكرت فعله عليه السلام من نفسه بدون إذن من أحد نسائه الطاهرات (بالبقر) ويروى: (بالبقرة)، والفرق بينهما كتمرة وتمر، وعلى تقدير عدم التاء: يحتمل التضحية بأكثر من بقرة واحدة، كذا قاله في «عمدة القاري».
ثم قال: وفي الحديث: أن المرأة إذا حاضت بعد الإحرام ينبغي لها أن تأتي بأفعال الحج كلها غير أنها لا تطوف بالبيت، فإن طافت قبل أن تتطهر؛ فعليها بدنة، وكذلك النفساء والجنبة عليها
%ص 327%
بدنة بالطواف قبل التطهُّر من النفاس والجنابة، وأما الحدث، فإن طاف طواف القدوم؛ فعليه صدقة.
وزعم الشافعية أنَّه لا يعتد به، والطهارة شرط له عندهم، وكذا الحكم في كل طواف، وهو تطوع، ولو طاف طواف الزيارة محدثًا؛ فعليه شاة، وإن كان جنبًا؛ فعليه بدنة، وكذا الحائض والنفساء.
وفيه: جواز البكاء والحزن لأجل حصول مانع للعبادة، وفيه: جواز التضحية ببقرة واحدة لجميع نسائه، وفيه: دليل على جواز تضحية الرجل لامرأته بدون إذن منها.
وزعم النووي أنه محمول على أنه عليه السلام استأذنهن في ذلك، فإن تضحية الإنسان عن غيره لا تجوز إلا بإذنه.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا في الواجب، وأما في التطوع؛ فلا يحتاج إلى الإذن، كما هو صريح حديث الباب.
وذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والشافعي: إلى أن التضحية بالبدنة أفضل من البقرة؛ لحديث ساعة الجمعة، فإن فيه تقديم البدنة على البقرة، وهو يقتضي الأفضلية، وذهب مالك: إلى [أن] البقر أفضل من البدنة في التضحية؛ لحديث الباب، ورد بأن حديث الباب لا دلالة فيه على الأفضلية؛ لاحتمال أنه عليه السلام لم يجد يومئذٍ إلا البقر؛ فيتعين.
قال في «عمدة القاري»: (وهنا حديث طويل فيه أحكام كثيرة وخلافات بين العلماء وموضعها كتاب «الحج») انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (نحوًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (نحوًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (نحوًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/506)
(2) [باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله]
هذا (باب) حكم (غَسل)؛ بفتح الغين المعجمة (الحائض) ومثلها النفساء والجنبة (رأس زوجها وترجيلِه)؛ أي: وحكم ترجيل رأسِه، وهو بالجر عطف على (غسل) المجرور بالإضافة، وهو أيضًا بالجيم: تسريح شعر الرأس، وقال ابن السِّكِّيت: (شعر رجل)؛ بفتح الجيم وكسرها إذا لم يكن شديد الجعودة ولا سبطًا تقول منه: رجل شعره ترجيلًا.
==========
%ص 328%
==================
(1/507)
[حديث: كنت أرجل راس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حايض]
295# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن هشام بن عُرْوة) بضمِّ العين المهملة، وسكون الواو، (عن أبيه) هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قال: كنت أُرجِّل) بضمِّ الهمزة، وتشديد الجيم؛ أي: أسرح (رأس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فيه إضمار؛ تقديره: كنت أرجل شعر رأس رسول الله عليه السلام؛ لأنَّ الترجيل للشعر لا للرأس، ويجوز أن يكون من باب إطلاق المحل، وإرادة الحال، كذا في «عمدة القاري» (وأنا حائض): جملة اسمية وقعت حالًا، وفيه المطابقة للترجيل في الترجمة لـ (رأس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، وأما أمر الغسل؛ فلا مطابقة له، كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنه ألحق به الغسل قياسًا أو إشارة إلى الطرق الآتية في باب (الحيض)، فإنه صريح في ذلك.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: الوجهان اللذان ذكرهما هذا القائل لا وجه لهما أصلًا، أما الأول؛ فلأن وضع التراجم في الأبواب: هل هو حكم من الأحكام الشرعية حتى يقاس حكم منها على حكم آخر؟! وأما الثاني؛ فهو وضع لوجه ترجمة في باب، والإشارة إلى المترجم الذي وضع لها في الباب الثالث) انتهى.
وفي الحديث: جواز ترجيل الحائض شعر رأس زوجها، وفيه: جواز استخدام الزوجة برضاها وهو بالإجماع، وكذا لا خلاف لأحد في غسل الحائض رأس زوجها وترجيله إلا ما نقل عن ابن عباس: أنه دخل على خالته ميمونة رضي الله عنها فقالت: (إي بني؛ ما لي أراك شعث الرأس؟) فقال: إن أم عمار ترجلني وهي الآن حائض، فقالت: إي بني؛ ليست الحيضة باليد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يضع رأسه في حجر إحدانا وهي حائض)، ذكره ابن أبي شيبة في «مصنفه»، والله أعلم.
==========
%ص 328%
==================
(1/508)
[حديث عروة: أخبرتني عائشة أنها كانت ترجِّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم]
296# وبه قال: (حدثنا إبراهيم بن موسى)؛ هو ابن يزيد التميمي الرازي أبو إسحاق الفراء، يعرف بالصغير، وكان أحمد ينكر على من يقول له: الصغير ويقول: هو كبير في العلم والجلالة (قال: حدثنا هشام بن يوسف) هو الصنعاني أبو عبد الرحمن قاضي صنعاء، من أبناء الفرس وهو أكبر اليمانيين وأحفظهم وأتقنهم، مات سنة سبع وتسعين ومئة: (أن ابن جُرَيج)؛ بضمِّ الجيم، وفتح الراء، واسمه: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي القرشي الموصلي، رومي الأصل، أحد العلماء المشهورين، وهو أول من صنف في الإسلام في قول، وكانت كنيته أبو الوليد، أو أبو خالد، مات سنة خمسين ومئة، وهو جاوز السبعين (أخبرهم)؛ أي: أخبر هشام [1] بن يوسف وأصحابه (قال: أخبرني) بالإفراد، وفي رواية: (أخبرنا) (هشام) زاد في رواية: (ابن عروة)، ففيه أن ابن جريج يروي عن هشام، وهشام يروي عن ابن جريج، فالأعلى ابن عروة، والأدنى ابن يوسف، وهي لطيفة حسنة، (عن عروة) هو أبوه هو ابن الزبير بن العوام: (أنه)؛ أي: عروة (سُئِل)؛ بالبناء للمجهول: (أتخدمني الحائض؟) الهمزة فيه للاستفهام، ومثل الحائض النفساء والجنبة، ولم يُعرَف السائل، (أو تدنو) أي: تقرب (مني المرأة) حالة النوم، أو الأكل، أو اللبس، أو غير ذلك (وهي جنب): جملة اسمية وقعت حالًا، ولفظ (جنب) يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع، وهي اللغة الفصيحة، كذا في «عمدة القاري»؛ لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، (فقال عروة): في جواب السائل: (كل ذلك) الإشارة إلى الخدمة والدنوِّ اللذين يدل [2] عليهما لفظ: (يخدمني)، و (تدنو)، وجاءت الإشارة بلفظ: (ذلك) للمثنى في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] (على هيِّن)؛ أي: سهل، وهو بالتشديد والتخفيف؛ كميت وميت، وأصله: هيون اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وسقط لفظ (على) فقط في رواية، (وكل ذلك)؛ أي: الحائض والجنب، والتذكير باعتبار المذكور لفظًا، ووجه التثنية قد ذكرناه، و (كل) مرفوع على الابتداء أو منصوب على الظرف (تخدمني) في الأكل، والشرب، وغيرهما، (وليس على أحد) أي: أنا وغيري (في ذلك بأس)؛ أي: حرج، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: وليس عليَّ في ذلك بأس، لكنه قصد بذلك التعميم مبالغة فيه، ودخل هو فيه بالقصد الأول، كذا قاله إمام الشارحين (أخبرتني) بالإفراد (عائشة): الصديقة رضي الله عنها: (أنها كانت ترجَّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: تسرح شعر رأس النبيِّ الأعظم عليه السلام؛ وفي رواية يعني: رأس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (وهي حائض)؛ بالهمزة، والجملة حالية، وإنما لم يقل: حائضة؛ لعدم الالتباس لاختصاص الحيض بالنساء، وأما قوله: جاءت الحاملة والمرضعة في الاستعمال؛ فلإرادة التباسهما بذلك الصفة بالفعل، فإذا أريد التباسهما بالقوة؛ تكون بلا تاء، قال الإمام الزمخشري في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} [الحج: 2]، فإن قلت: لم قيل: مرضعة دون مرضع؟
قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع في حال وضعها به، كذا في «عمدة القاري».
(ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حينئذٍ) أي: حين الترجل (مجاور) أي: معتكف (في المسجد) أي: مسجده عليه السلام (يُدني)؛ بضمِّ التحتية؛ أي: يقرب (لها)؛ أي: لعائشة (رأسه) الشريف عليه السلام (وهي في حُجرتها)؛ بضمِّ الحاء المهملة؛ أي: بيتها، والجملة حالية؛ أي: والحال
%ص 328%
أنها في حجرتها، وكانت حجرتها ملاصقة للمسجد النبوي، (فترجله)؛ أي: فترجل عائشة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: تسرح شعر رأسه (وهي حائض) الجملة حالية؛ أي: والحال أنها حائض، والحديث دال على جواز خدمة الحائض فقط، وأما دلالته على دنوِّ الجنب؛ فبالقياس عليها، والجامع اشتراكهما في الحدث الأكبر وهو القياس الجلي؛ لأنَّ الحكم بالفرع أولى؛ لأنَّ الاستقذار في الحائض أكثر، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: (ومما يستنبط من الحديث: أن المعتكف إذا أخرج يده، أو رأسه، أو رجله من المسجد؛ لم يبطل اعتكافه، وأن من حلف لا يدخل دارًا ولا يخرج منها، فأدخل بعضه أو أخرج بعضه؛ لا يحنث، وفيه: استخدام الزوجة في الغسل ونحوه برضاها، وأما بغير رضاها؛ فلا يجوز؛ لأنَّ عليها تمكين الزوج من نفسها وملازمة بيته فقط) انتهى.
قلت: وفيه: دليل على أن الحائض ومثلها النفساء والجنب لا تدخل المسجد تنزيهًا له وتعظيمًا؛ لأنَّه لا يؤمن تلوثه، وفيه: دليل على أن المباشرة لا تنقض الوضوء؛ كمس اليد، والرأس، وغيرهما، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وقال ابن بطال: (والحديث حجة في طهارة الحائض وجواز مباشرتها، وفيه: دليل على أن المباشرة التي قال الله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187] لم يرد بها كل ما وقع عليه اسم المس، وإنما أريد بها: الجماع أو ما دونه من الدواعي؛ كاللذة لا المس؛ أي: لأنَّه غير ناقض للوضوء، وفيه: ترجيل الشعر للرجال وما في معناه من الزينة، وفيه: أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيهًا وتعظيمًا له، وهو المشهور من مذهب مالك، وحكى ابن مسَلَمَة أنها تدخل هي والجنب، وفي رواية: «يدخل الجنب ولا تدخل الحائض»، وفيه حجة على الشافعي في أن المباشرة مثل ما ذكر في الحديث لا تنقض الوضوء) انتهى.
وزعم ابن حجر تبعًا للكرماني أنه لا حجة فيه؛ لأنَّ الاعتكاف لا يشترط فيه الوضوء، وليس في الحديث أنه عقَّب ذلك الفعل بالصَّلاة، وعلى تقدير ذلك؛ فمس الشعر لا ينقض الوضوء، انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» (بأنه ليس في الحديث أيضًا أنه توضأ عقيب ذلك) انتهى.
قلت: والحق أن الحديث حجة واضحة على الشافعي؛ لأنَّه لا يلزم من عدم اشتراط الوضوء للاعتكاف ألَّا يكون وقتئذٍ متوضئًا، بل من عادته عليه السلام أنه يكون دائمًا على الوضوء في جميع أحواله، على أن كونه في المسجد دليل على أنه كان متوضِّئًا، ولأنَّه لا يلزم من أنه لم يذكر في الحديث أنه عقَّب ذلك الفعل بالصَّلاة ألَّا يصلي أصلًا، بل من عادته عليه السلام أنه مواظب على الصَّلاة التي هي عبادة الرب عز وجل؛ فإنه عليه السلام كان يقوم الليل إلا قليلًا، فالنهار حال الاعتكاف أولى به بالصَّلاة على أنه كونه في المسجد دليل على أنه كان يصلي عقب ذلك؛ لأنَّ هذا الفعل للزينة والله تعالى أحق أن يتزين له.
وعلى كلٍّ؛ فالحديث حجة عليه؛ لأنَّ من عادة مس الشعر أنه تمس البشرة؛ لأنَّه وإن كان مس الشعر غير ناقض عندهم إلا أنه من عادة تسريح الشعر أنه تمس البشرة وتمس اليد وغيرها، على أنه عليه السلام من عادته أن يدهن بعد التسريح، وإن لم يذكر في الحديث؛ فإنه ظاهر والله يتولى السرائر.
==========
[1] في الأصل: (هشامًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اللذان يدل)، والمثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (هشامًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (هشامًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/509)
(3) [باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض]
هذا (باب) حكم (قراءة الرجل) وفي رواية: (باب قراءة القرآن)، وقوله: (في)؛ بمعنى: (على)، كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ [1] فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]؛ أي: عليها (حجْر)؛ بفتح الحاء المهملة وكسرها، وسكون الجيم، والجمع حُجُور، ومحل الجار والمجرور نصب على الحال؛ والتقدير: قراءة الرجل حال كونه متكئًا على حجر (امرأته)؛ أي: أو أمته، ويجوز أن يقدر واضعًا رأسه على حجر امرأته، أو مستندًا إليه، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (وكان أبو وائل)؛ بالهمزة، هو شقيق بن سَلَمَة الأسدي، أدرك النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يره، يروي عن كثير من الصحابة، قال يحيى بن معين: (ثقة لا يسأل عن مثله)، قال الواقدي: (مات في خلافة عمر بن عبد العزيز)، وهذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند صحيح، كذا في «عمدة القاري» (يرسل خادمه)؛ الخادم اسم لمن يخدم غيره، ويطلق على الغلام والجارية، فلهذا قال: (وهي حائض) فأنَّث الضمير (إلى بني رَزِين)؛ بفتح الراء، وكسر الزاي المعجمة، اسمه: مسعود بن مالك الأسدي مولى أبي وائل الكوفي التابعي، روى له مسلم، والأربعة (لتأتيه)، وفي رواية: (فتأتيه) (بالمصحف، فتمسكه بعِلاقته)؛ بكسر العين المهملة؛ ما يعلق به المصحف من الخيط الذي يربط به كيسه، وكذلك علاقة السيف.
ووجه مطابقته للترجمة ما قال في «التلويح»: لما ذكر البخاري حمل الحائض العلاقة التي فيها المصحف؛ نظرها بمن يحفظ القرآن فهو حامله؛ لأنَّه في جوفه، كما روي عن ابن المسيب وابن جبير: (هو في جوفه)، ولما قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ورقة وهو جنب قال: في جوفه أكثر من هذا، ونزَّل ثياب الحائض بمنزلة العلاقة، وقراءة الرجل بمنزلة المصحف؛ لكونه في جوفه) انتهى، وتبعه صاحب «التوضيح».
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا في غاية البعد؛ لأنَّ بين قراءة الرجل في حجر امرأته وبين حمل الحائض المصحف بعلاقته فرقًا عظيمًا [2] من الجهة التي ذكرت؛ لأنَّ قوله: «نظرها» إما تشبيه، وإما قياس، فإن أراد به التشبيه؛ فهو تشبيه مخصوص بمفعول فلا وجه له، وإن أراد به القياس؛ فشروطه غير موجودة فيه، ويمكن أن يقال: وجه التطابق بينهما هو جواز الحكم في كل منهما، فكما تجوز قراءة الرجل في حجر الحائض كذلك يجوز حمل الحائض المصحف بعلاقته، وفي كل منهما دخل للحائض، وفيه وجه التطابق، ثم لو قيل ما قيل في ذلك؛ فلا يخلو عن تعسف) انتهى.
ثم قال: (وفي الأثر دليل: على جواز حمل الحائض المصحف بعِلاقته؛ يعني: بغير مسه ومثلها النفساء والجنب، وممن أجاز ذلك ابن عمر، وعطاء، وحمَّاد، والحسن، ومُجَاهِد، وأبو زيد، وطاووس، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وأبي ثور، والشعبي، والقاسم بن محمَّد، ومالك، والشافعي، وأحمد)، وقال ابن حزم: قراءة القرآن، والسجود فيه، ومس المصحف، وذكر الله تعالى؛ جائز بوضوء وبغير وضوء للجنب والحائض، وهو قول ربيعة، وابن المسيب، وابن جبير، وابن عباس، وداود، وجميع أصحابنا، أما مس المصحف؛ فإن الآثار التي احتج بها من يجيز للجنب مسه؛ فإنه لا يصح منها شيء؛ لأنَّها إما مرسلة، وإما عن مجهول، وإما عن ضعيف، والصحيح: عن ابن عباس، عن أبي سفيان حديث هرقل الذي فيه: {[قُلْ] يَا أَهْلَ [3] الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، فهذا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد بعث كتابًا فيه قرآن للنصارى، وقد أيقن أنهم
%ص 329%
يمسونه، فإن ذكروا حديث ابن عمر: (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ؛ مخافة أن يناله أهل الحرب)؟
قلنا: هذا حق يلزم اتباعه، وليس فيه: لا يمس المصحف جنب ولا كافر، وإنما فيه ألا ينال أهل الحرب القرآن فقط.
وإن قالوا: إنَّما بعث إلى هرقل بآية واحدة؟
قيل لهم: ولم يمنع من غيرها وأنتم أهل قياس؛ فإن لم تقَيْسوا على الآية ما هو أكثر منها؛ فلا تقَيْسوا على هذه الآية غيرها.
فإن ذكروا قوله جل وعلا: {لاَ يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].
قلنا: لا حجة فيه؛ لأنَّه ليس أمرًا، وإنما هو خبر، والرب سبحانه لا يقول إلا حقًّا، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي أو إجماع متيقن؛ فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر؛ علمنا أنه لم يعن المصحف وإنما عنى كتابًا آخر عنده، كما جاء عن ابن جبير في هذه الآية: هم الملائكة الذي في السماء، وكان علقمة إذا أراد أن يتخذ مصحفًا؛ أمر نصرانيًّا بنسخه له) انتهى.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: والجواب عما قاله فقوله: (فإن الآثار التي احتج بها ... إلى آخره) ليس كذلك، فإن أكثر الآثار في ذلك صحاح:
منها: ما رواه الدارقطني في «سننه» بسند صحيح متصل عن أنس: (خرج عمر بن الخطاب متقلدًا سيفًا؛ فدخل على أخته وزوجها حباب وهم يقرؤون سورة طه، فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه، فقالت له أخته: إنك رجس و {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، فقم فاغتسل، أو توضأ، فقام فتوضأ، ثم أخذ الكتاب).
ومنها: ما رواه الدارقطني أيضًا بسند صحيح من حديث سالم يحدث عن أبيه قال: (قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يمس القرآن إلا طاهر»)، قال الجوزقاني: (هذا حديث مشهور حسن).
ومنها: ما رواه الدارقطني أيضًا من حديث الزُّهري عن أبي بكر محمَّد بن حزم، عن أبيه، عن جده: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كتب إلى أهل اليمن كتابًا فيه: «لا يمس القرآن إلا طاهر»)، ورواه في «الغرائب» من حديث إسحاق الطباع، عن مالك مسندًا، ومن الطريق الأولى أخرجه الطبراني في «الكبير»، وابن عبد البر، والبيهقي في «الشعب».
وقد وردت أحاديث كثيرة تمنع قراءة القرآن للجنب والحائض:
منها: حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب)، قال أبو عمر: (رويناه من وجوه صحاح).
ومنها: حديث عمر بن مرة، عن عبد الله بن سَلَمَة، عن علي رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلَّا الجنابة»، صححه جماعة منهم: ابن خزيمة، وابن حبان، وأبو علي الطوسي، والترمذي، والحاكم، والبغوي، وأخرجه ابن الجارود في «المنتقى»، زاد ابن حبان: (قد يتوهم غير المتبحر في الحديث أن حديث عائشة رضي الله عنها: «كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه» يعارض هذا وليس كذلك؛ لأنَّها أرادت الذكر الذي هو غير القرآن؛ لأنَّ القرآن يجوز أن يسمى ذكرًا، وكان لا يقرأ وهو جنب، ويقرؤه في سائر الأحوال).
ومنها: حديث جابر رضي الله عنه: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا تقرأ الحائض، ولا الجنب، ولا النفساء من القرآن شيئًا»، رواه الدارقطني، ثم البيهقي، وقال: (إسناده صحيح).
ومنها: حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا علي؛ لا تقرأ القرآن وأنت جنب»، رواه الدارقطني، وعن الأسود أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند لا بأس به، وإبراهيم: (لا يقرأ الجنب)، وعن الشعبي، وأبي وائل مثله بزيادة: (والحائض).
والجواب عن الكتاب إلى هرقل فنحن نقول به: لمصلحة الإبلاغ والإنذار، وأنه لم يقصد به التلاوة، وأما الجواب عن الآية بـ أن المراد بالمطهرين: الملائكة، إن تخصيص الملائكة من بين سائر المطهرين على خلاف الأصل وكلهم مطهرون، والمس والاطلاع عليه إنَّما هو لبعضهم دون الجميع انتهى كلامه.
قلت: فالمراد بقوله: {إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} من الآدميين، و {يَمَسُّهُ} مجزوم بـ (لا) الناهية، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح بذلك جماعة، وقالوا: إنَّه مذهب البصريين، بل قيل: إنَّ سيبويه لم يحفظ في نحوه إلَّا الضم، انتهى.
قلت: وظاهر الأحاديث التي سبق ذكرها يشمل الآية وما دونها؛ لأنَّها مطلقة والمطلق ينصرف إلى الجميع، وهو قول الإمام الكرخي، وصححه صاحب «الهداية»، ومشى عليه حافظ الدين في «المستصفى»، وقواه في «الكافي»، ونسبه صاحب «البدائع» إلى عامة أصحابنا، وصححه الإمام الجليل قاضيخان، وإليه أشار الإمام القدوري، وروى الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (أنه يباح للحائض، والنفساء، والجنب قراءة من دون الآية)، وصححه صاحب «الخلاصة»، ومشى عليه فخر الإسلام في «شرح الجامع الصغير»، ونسبه في «المجتبى» إلى الأكثر، ووجهه صاحب «المحيط» بـ (أن النظم والمعنى يقصر فيما دون الآية، ويجري مثله في محاورات الناس وكلامهم، فتمكنت فيه شبهة عدم القرآن، ولهذا لا تجوز الصَّلاة به).
قال صاحب «البحر»: (والذي ينبغي ترجيحه القول بالمنع فيما دون الآية؛ لأنَّ الأحاديث لم تفصل بين القليل والكثير، والتعليل في مقابلة النص مردود، ولأن «شيئًا» في الحديث نكرة في سياق النفي، فتعم، وما دون الآية قرآن؛ فيمتنع كالآية) انتهى.
ومحل الخلاف فيما إذا لم تكن الآية طويلة، فلو كانت طويلة؛ كان بعضها كآية؛ لأنَّها تعدل ثلاث آيات، كذا ذكره صاحب «الحلية» عن شرح «الجامع» لفخر الإسلام، وهذا كله إذا قرأ على قصد أنه قرآن، أما إذا قرأ على قصد الدعاء، أو الثناء، أو افتتاح أمر؛ فإنه لا يحرم، كما في «البحر» عن «الخلاصة»، وهذا إذا كان مشتملًا على الذكر، أما إذا كان مشتملًا على حكم أو خبر؛ فلا يجوز ولو قصد الذكر فيه كما في «الشرنبلالية»، و «الإمداد».
قال الإمام الفقيه أبو الليث في «العيون»: (قراءة الفاتحة على وجه الدعاء أشياء من الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد القرآن؛ لا بأس به).
وفي «غاية البيان»: أنه المختار، واختاره شمس الأئمَّة الحلواني.
ويكره للجنب، والحائض، والنفساء قراءة التوراة، والإنجيل، والزبور هو الصحيح؛ لأنَّ الكل كلام الله تعالى، كذا في «الخلاصة»؛ لأنَّ ما تبدل منه بعض غير معين، وما لم يبدل غالب وهو واجب الصون والتعظيم، وإذا اجتمع المحرم والمبيح؛ غلب، وقال عليه السلام: «دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك»، وبهذا ظهر فساد قول الشافعية: إنه يجوز الاستنجاء بما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فإنه مجازفة عظيمة على الله عز وجل؛ لأنَّه تعالى لم يخبرنا بأنهم بدلوها عن آخرها، وكونه منسوخًا لا يخرجه عن كونه كلام الله تعالى؛ كالآيات المنسوخة من القرآن، كما في «شرح المنية».
قلت: على أن [4] الأحرف وحدها قرآن أنزل على هود عليه السلام، فيجب
%ص 330%
تعظيمها لحرمتها، ولو كانت مقطعة، كذا قاله الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وصرح به القسطلاني في «الإشارات».
قلت: ومقتضاه الحرمة بالمكتوب مطلقًا يدل عليه أن غرضهم بالتبديل للأحكام لا للأسماء والدعوات فهي باقية على حالها، وخلوُّ اسم معظم منها غير ممكن ولو سلم، فهو موهوم غير متحقق، والأحكام لا تبنى على الوهم، فما قاله الشافعية افتراء وجراءة على الله عز وجل نعوذ بالله من قولهم، وما هو إلا جهل مركب، اللهم؛ إنا نعوذ بك من الجهل.
وكذا يكره لهم مس التفسير القرآني، وكتب الفقه، والسنن، والأحاديث، وكذا مس شروح النحو؛ لأنَّها لا تخلو عن آيات، وهذا قول الإمامين الهمامين أبي يوسف، ومحمَّد بن الحسن رحمهما الله تعالى، وقال الإمام الأعظم: لا يكره، وهو الأصح، كما في «الخلاصة»، ووجهه: أنه لا يسمى ماسًّا للقرآن؛ لأنَّ ما فيها منه بمنزلة التابع، فكان كما لو توسد خُرْجًا فيه مصحف، أو ركب فوقه في السفر، كذا في «شرح المنية».
وقال في «الأشباه»: (وقد جوز أصحابنا مس كتب التفسير للمحدث ولم يفصلوا بين كون الأكثر تفسيرًا أو قرآنًا، ولو قيل به اعتبارًا للغالب؛ لكان حسنًا) انتهى؛ أي: بأن يقال: إن كان التفسير أكثر؛ لا يكره، وإن كان القرآن أكثر؛ يكره، والأولى إلحاق المساواة بالثاني.
قلت: وهو المنقول عن الشافعي، وقال في «السراج»: (كتب التفسير لا يجوز مس موضع القرآن منها، وله أن يمس غيره) انتهى.
وقال في «المحيط»: (ويكره للحائض مس المصحف بالكُمِّ عند البعض، والعامة على أنه لا يكره) انتهى، وهو المختار، كما في «الكافي»، ومثل الكم غيره من الثياب، كما في «فتح القدير»، ومثل الغلاف صندوق الرَّبْعَة، وكذا كرسي المصحف وإن لم يكن مسمرًا؛ لأنَّه غلاف وزيادة، كذا في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (لأصلبنكم)، والمثبت موافق للتلاوة.
[2] في الأصل: (فرق عظيم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ويا أهل)، والمثبت موافق للتلاوة.
[4] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (لأصلبنكم)، والمثبت موافق للتلاوة.
[2] في الأصل: (فرق عظيم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ويا أهل)، والمثبت موافق للتلاوة.
[1] في الأصل: (لأصلبنكم)، والمثبت موافق للتلاوة.
[2] في الأصل: (فرق عظيم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ويا أهل)، والمثبت موافق للتلاوة.
(1/510)
[حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن]
297# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو نُعيم) بضمِّ النون (الفضل بن دُكين) بضمِّ الدال المهملة أنه (سمع زُهيرًا) بضمِّ الزاي المعجمة؛ هو ابن معاوية بن جرير الجعفي، (عن منصور ابن صفية)؛ هي بنت شيبة، وأبو منصور عبد الرحمن الحجبي العبدري المكي، كان يحب البيت، وهو شيخ كبير، وإنما نسب منصور إلى أمه؛ لأنَّه اشتهر بها، ولأنَّه روى عنها، كذا في «عمدة القاري»: (أن أمه) أي: صفية بنت شيبة المذكورة (حدثته) أي: حدثت ابنها منصور: (أن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (حدثتها) أي: حدثت صفية: (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتكئ)؛ بالهمزة من باب (الافتعال)، أصله: يوتكي قلبت الواو تاء [1] وأدغمت التاء في التاء [2]، وثلاثيه وكاء، وهي جملة في محل النصب؛ لأنَّها خبر (كان) (في حجري) كذا في الروايات وهو الصواب، ووقع في رواية العذري: (حجرتي)؛ بتاء مثناة من فوق، وهو وهم، كذا في «عمدة القاري» (وأنا حائض): جملة اسمية وقعت حالًا، قال الكرماني: إما من فاعل (يتكئ)، وإما من المضاف إليه وهو ياء المتكلم.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: من فاعل «يتكئ» لا وجه له على ما لا يخفى، وما هي إلا من ياء المتكلم في «حجري»، ولا يمنع وقوع الحال من المضاف إليه إذا كان بين المضاف والمضاف إليه شدة الاتصال؛ كما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125]).
وكلمة (في) في قوله: (حجري)؛ بمعنى (على)، كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ [3] فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71].
فإن قلت: ما فائدة العدول عنه؟
قلت: لبيان التمكن فيه لتمكن المظروف من الظرف، كذا في «عمدة القاري».
(فيقرأ القرآن)؛ بالفاء، كذا في النسخ، وفي نسخة: (ثم يقرأ القرآن).
قلت: والفاء هي الصواب؛ لإفادتها التعقيب؛ لأنَّ التراخي هنا لا معنى له وهو غير مراد، وعند المؤلف في (التوحيد): (كان يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض)، قال في «عمدة القاري»: (فعلى هذا: المراد بالإتكاء: وضع رأسه في حجرها)، وقال ابن دقيق العيد: (في هذا القول إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأنَّ قراءتها لو كانت جائزة؛ لما توهم امتناع القراءة في حجرها، حتى احتيج إلى التنصيص عليها، وفيه: جواز ملامسة الحائض؛ لأنَّها طاهرة، وفيه: جواز القراءة بقرب محل النجاسة).
ونظر فيه صاحب «عمدة القاري»: (لأن الحائض طاهرة، والنجاسة هو الدم وهو غير طاهر في كل وقت من أوقات الحيض، فعلى هذا؛ لا تكره قراءة القرآن بحذاء بيت الخلاء، ومع هذا ينبغي أن يكره تعظيمًا للقرآن؛ لأنَّ ما قرب للشيء؛ يأخذ حكمه)، وفيه: جواز استناد المريض في صلاته إلى الحائض إذا كانت ثيابها طاهرة، قاله القرطبي.
قال في «عمدة القاري»: (وفيه نظر)، ولم يذكر وجهه.
قلت: ولعل وجهه أن الحائض طاهرة، كما أفصح به الحديث ولا يلزم طهارة ثيابها؛ لأنَّ المريض المصلي إذا استند إليها؛ لا يسمى حاملًا للنجاسة التي على ثيابها؛ فصار كمن صلى وبقربه نجاسة، فإن صلاته جائزة، والله أعلم.
قال صاحب «التوضيح»: (وجه مناسبة إدخال حديث عائشة فيه أن ثيابها بمنزلة العِلاقة، والشارع بمنزلة المصحف؛ لأنَّه في جوفه وحامله؛ إذ غرض البخاري بهذا الباب الدلالة على جواز حمل الحائض المصحف، وقراءتها القرآن، فالمؤمن الحافظ له أكبر أوعيته).
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ليس في الحديث إشارة إلى الحمل وفيه الاتكاء، والاتكاء غير الحمل، وكون الرجل في حجر الحائض لا يدل على جواز الحمل، وغرض البخاري الدلالة على جواز القراءة بقرب موضع النجاسة، لا على جواز حمل الحائض المصحف، وبهذا رد الكرماني على ابن بطال في قوله: «غرض البخاري» في هذا الباب أن يدل على جواز حمل الحائض للمصحف وقراءتها القرآن)، واعترضه صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: رده عليه إنَّما لا يستقيم في قوله: «وقراءتها»؛ لأنَّه ليس في الحديث ما يدل على جواز قراءة الحائض القرآن، والذي فيه يدل على جواز قراءة القرآن في حجر الحائض، وعلى جواز حمل المصحف لها بعلاقته، فأورد حديثًا وأثرًا، فالحديث يدل على الأول، والأثر على الثاني، لكنه غير مطابق للترجمة، وكلما كان من هذا القبيل؛ ففيه تعسف ولا يقرب من الواقعة إلا بالجر الثقيل) انتهى كلامه رضي الله عنه.
==================
[1] في الأصل: (ياء)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (الياء في الياء)، وهو تصحيف.
(1/511)
(4) [باب من سمى النفاس حيضًا]
هذا (باب) بيان (من سمَّى النفاس حيضًا) كان ينبغي أن يقول: (باب من سمَّى الحيض نفاسًا)؛ لأنَّ الذي في الحديث الآتي: فقال: «أنفست؟»؛ أي: أحضت؟ فأطلق على الحيض النفاس، كذا قاله صاحب «عمدة القاري».
وقال ابن بطال: (لما لم يجد البخاري للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم نصًّا في النفاس وحكم دمها في المدة المختلفة، وسمى الحيض نفاسًا في هذا الحديث؛ فهم منه أن حكم دم النفاس حكم دم الحيض في ترك الصَّلاة؛ لأنَّه إذا كان الحيض نفاسًا؛ وجب أن يكون النفاس حيضًا؛ لاشتراكهما في التسمية
%ص 331%
من جهة اللغة؛ لأنَّ الدم هو النفس، ولزم الحكم لما لم ينص عليه مما نص، وحكم النفاس ترك الصَّلاة ما دام دمها موجودًا).
وقال الخطابي: (ترجم أبو عبد الله بقوله: «من سمى النفاس حيضًا» والذي ظنه في ذلك وهم، وأصل هذه الكلمة: مأخوذ من النفس وهو: الدم إلا أنهم فرقوا فقالوا: نَفست بفتح النون؛ إذا حاضت، وبضمِّ النون؛ إذا ولدت).
وقال الكرماني: (ليس الذي ظنه وهمًا؛ لأنَّه إذا ثبت هذا الفرق والرواية التي بالضم صحيحة؛ صح أن يقال حينئذٍ: سمى النفاس حيضًا، وأيضًا يحتمل أن الفرق لم يثبت عنده لغة، بل وضعت نَفست مفتوح النون ومضمومها عنده للنفاس بمعنى: الولادة، كما قال بعضهم بعدم الفرق أيضًا بأن اللفظين للحيض والولادة كليهما).
وقال ابن المنيِّر: (كيف تطابق الترجمة للحديث وفيه تسمية الحيض نفاس لا تسمية النفاس حيضًا؟
قلت: للتنبيه على أن حكم النفاس والحيض في منافاة الصَّلاة ونحوها واحد، وألجأه إلى ذلك أنه لم يجد حديثًا على شرطه في حكم النفاس؛ فاستنبط من هذا الحديث أن حكمها واحد) انتهى.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: قلت: هذا الكلام في الحقيقة مضمون كلام ابن بطال، وكلامه يشعر بالمساواة بين مفهومي الحيض والنفاس، وليس كذلك؛ لجواز أن يكون بينهما عموم وخصوص من وجه؛ كالإنسان والحيوان، وقول الكرماني: (يحتمل أن الفرق لم يثبت عنده لغة ... إلى آخره) غير سديد؛ لأنَّ هذا لا يقال عن أحد إلا ممن يكون من أئمة اللغة، والبخاري من أئمة الحديث، والصواب الذي يقال ههنا على وجهين؛ أحدهما: أن هذه الترجمة لا فائدة في ذكرها؛ لأنَّه لا ينبني عليها مزيد فائدة، والثاني: لو سلمنا أن لها فائدة؛ فوجهها أن يقال: لما لم يثبت الفرق عنده بين مفهومي الحيض والنفاس؛ يجوز ذكر أحدهما وإطلاق الآخر، ففي الحديث ذكر النفاس، وأريد الحيض؛ فلذلك ذكر المصنف النفاس وأراد الحيض، وعلى هذا معنى قوله: (باب من سمى النفاس حيضًا)؛ يعني: ذكر النفاس وأراد به: الحيض، فكذلك المذكور في الحديث نفاس والمراد به: الحيض، وذلك أنه لما قال عليه السلام: «أنفست؟» أجابته بـ (نعم)، وكانت حائضًا، فقد جعلت النفاس حيضًا، فطابق الحديث ما ترجم به، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
زاد في رواية الكشميهني: (والحيض نفاسًا).
==================
(1/512)
[حديث أم سلمة: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميصة إذ حضت]
298# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مكي) وفي رواية: (المكي) (بن إبراهيم) هو ابن بشير التميمي البلخي أبو السكن (قال: حدثنا هشام) هو الدستوائي، (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة، (عن أبي سَلَمَة)؛ هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وفي رواية مسلم روى عنه بالتحديث قال: (حدثني أبو سَلَمَة): (أن زينب بنت) وفي رواية: (ابنة) (أم سَلَمَة) الصحابية بنت أم المؤمنين (حدثته) أي: حدثت أبا سَلَمَة: (أن أم سَلَمَة) أم المؤمنين، واسمها هند بنت أبي أمية (حدثتها) أي: حدثت زينب، في السند (أبو سَلَمَة) و (أم سَلَمَة) وليست كنيتان باعتبار شخص واحد، بل سَلَمَة الأول: هو والد عبد الرحمن، وسَلَمَة الثاني: هو ولد بن عبد الأسد، والغرض أن أبا سَلَمَة ليس أباربيب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (قالت: بينا)؛ بغير ميم أصله: (بين)، فأشبعت فتحة النون بالألف، و (بينا) و (بينما) ظرفان؛ بمعنى: المفاجأة، ومضافان إلى جملة من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما ألا يكون فيه (إذ) و (إذا)، وههنا جاء الجواب بـ (إذ)، وهو قوله: (إذ حضت) وهو العامل فيه، كذا قرره صاحب «عمدة القاري» (أنا مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم مضطجعة) أصله: مضتجعة؛ لأنَّه من باب (الافتعال)، فقلبت التاء طاء، ويجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع؛ فعلى الخبرية، وأما النصب؛ فعلى الحال (في خَمِيصة)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم؛ وهو كساء مربع له علمان، وقيل: الخماص: ثياب من خزتجان سود وحمر، ولها أعلام ثخان أيضًا قاله ابن سيده، وفي «الصحاح»: (كساء أسود مربع وإن لم يكن معلمًا؛ فليس بخميصة)، وقال الأصمعي: (الخمائص: ثياب خز أو صوف معلمة، وهي سود كانت من لباس الناس)، كذا في «الغريبين»، وقال ابن سيده: (والخميصة: القطيفة)، وقال السكري: (الخميل: القطيفة ونحوها مما ينسج، ويفضل له فضول)، وفي
%ص 332%
«الصحاح»: (هي الطنفسة).
وزعم النووي أن أهل اللغة قالوا: هو كل ثوب له خمل من أي لون كان، وقيل: هي الأسود من الثياب، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: (إذ حضت) جواب (بينا)، لكنه غير فصيح؛ لما قدمنا أن الأفصح في جوابها ألَّا يكون بـ (إذ) أو (إذا)؛ فافهم، (فانسللت)؛ أي: ذهبت في خفية؛ لاحتمال وصول الشيء من الدم إليه صلَّى الله عليه وسلَّم، أو لأنَّها تقذرت نفسها ولم ترضها عليه السلام لمضاجعته، أو خافت أن ينزل الوحي فانسلت لئلا يشغله حركتها عما هو فيه من الوحي وغيره، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، (فأخذت ثياب حِيضتي)؛ بكسر الحاء المهملة؛ وهي حالة الحيض هذا هو الصحيح المشهور، وزعم الكرماني وقيل: يحتمل فتح الحاء هنا، فإن الخميصة بالفتح؛ هي الحيض).
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: لا يقال هنا بالاحتمال، فإن كلًّا منهما لغة ثبتت عن العرب وهي أن الحِيضة بالكسر: الاسم من الحيض والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، وأما الحَيضة بالفتح؛ فالمرة الواحدة من دفع الحيض أو نوبه، وأنت تفرق بينهما بما تقتضيه قرينة الحال من مساق الحديث، وجاء من حديث عائشة: (ليتني كنت حِيضة ملقاة) وهي بالكسر؛ خرقة الحيض، وجزم الخطابي هنا برواية الكسر، ورجحه النووي، ورجح القرطبي رواية الفتح؛ لوروده في بعض طرقه بلفظ: (حيضي)؛ بغير تاء، كذا في «عمدة القاري».
قلت: فمعنى رواية الكسر: أخذت ثيابي التي أعددتها لألبسها حالة الحيض، ومعنى رواية الفتح: أخذت ثيابي التي ألبسها زمن الحيض، والله أعلم.
(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية: (قال)؛ أي: لها (أنَفِست؟)؛ بفتح النون، وكسر الفاء، وقيل: بضمِّ النون وفتحها، وفي الحيض بالفتح لا غير، وفي «الواعي»: نُفست؛ بضمِّ النون؛ حاضت، قال النووي: (هذا هو الصحيح في اللغة بمعنى: حضت، فأما في الولادة؛ فنُفِست؛ بضمِّ النون، وكسر الفاء)، وفي «نوادر اللحياني»: (نفِست المرأة تنفِس؛ بالكسر في الماضي والمستقبل إذا حاضت)، وفي «أدب الكتاب» عن ثعلب: (النفساء الواحدة، والحامل والحائض)، وقال ابن سيده: (والجمع من كل ذلك نفساوات، ونِفاسٌ، ونفس، ونُفُّس، ونُفَس، ونُفَاس)، كذا في «عمدة القاري»، (قلت)؛ بضمِّير المتكلم؛ أي: قالت أم سَلَمَة: (نعم)؛ أي: نفست، (فدعاني)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فاضطجعت) فيه حذف؛ تقديره: فجئت إليه واضطجعت (معه) أي: مع النبيِّ عليه السلام (في الخميلة)؛ باللام بدل الصاد، قال السكري: (الخميل: القطيفة ونحوها مما ينسج ويفضل له فضول)، وقال ابن سيده: (الخميصة: القطيفة)، وفي «الصحاح»: (هي الطنفسة)، وزعم النووي أنها كل ثوب له خمل من أي لون كان، وقيل: هي الأسود من الثياب، كما قدمناه،
وفي الحديث: دليل على جواز النوم مع الحائض في ثيابها والاضطجاع معها في لحاف واحد، ومثلها النفساء، وفيه: استحباب اتخاذ المرأة ثيابًا للحيض غير ثيابها المعتادة، وفيه: أن عرقها طاهر، وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ} [البقرة: 222]؛ معناه: فاعتزلوا وطأهن، وفيه: التنبيه على أن حكم الحيض والنفاس واحد في منع وجوب الصَّلاة وعدم جواز الصوم، ودخول المسجد، والطواف، وقراءة القرآن، ومس المصحف، ونحو ذلك، كذا قاله في «عمدة القاري».
وقال المهلب: إنما لم ينصَّ البخاري على حكم النفاس وحده؛ لأنَّه لم يجد حديثًا على شرطه في حكم النفاس، واستنبط من الحديث أن حكمهما واحد.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: النصوص فيها كثيرة؛ منها حديث أم سَلَمَة: (كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله عليه السلام أربعين يومًا)، قال الحاكم: (صحيح الإسناد)، وحسنه البيهقي والخطابي.
وعند الدارقطني: أن أم سَلَمَة سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: كم تجلس المرأة إذا ولدت؟ قال: «أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك»، وعند ابن ماجه من حديث سلام بن سليم، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه: (وقَّت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للنفساء أربعين يومًا)، ومثله حديث عثمان، عن أبي العاص قال الحاكم: مرسل صحيح، وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أخرجه الحاكم في «المستدرك»، وحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه الحاكم وأحمد في (الحيض)، وحديث جابر بن عبد الله رواه الطبراني في «الأوسط»، وحديث أبي هريرة، وأبي الدرداء رواه ابن عدي بالإرسال، وأما موقوف ابن عباس؛ فسنده صحيح في «مسند» الدارمي، وأخرجه أيضًا ابن الجارود في «المنتقى»، وفي كتاب «الأحكام» لأبي علي الطوسي: أجمع أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصَّلاة أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك؛ فإنها تغتسل وتصلي، فإذا رأت الدم بعد الأربعين؛ فإن أكثر أهل العلم قالوا: لا تدع الصَّلاة بعد الأربعين، وهو قول أكثر أهل العلم من الفقهاء، ويروى عن الحسن: أنها تدع الصَّلاة خمسين يومًا، وعن عطاء: أنها تدع الصَّلاة ستين يومًا، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وما قاله أكثر أهل العلم هو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وسيدهم، وأصحابه، والجمهور، وما روي عن الحسن هو قول مالك، وما روي عن عطاء هو قول الشافعي، ولا يخفى أن الأحاديث الصحاح المارَّة دليل واضح لما قاله الإمام الأعظم؛ لأنَّ أكثر النفاس أربعون يومًا،÷ فإذا زاد الدم؛ يكون استحاضة؛ فهو دم صحة لا دم فساد، فيجب عليها الصَّلاة، والصوم، ويأتيها زوجها، وتجري عليها أحكام الطاهرات، ونسأله تعالى العفو عن الزلات، وتضاعف الحسنات، وتفريج الكربات، وتنفيس الهمومات بجاه سيد السادات وآله وأصحابه النجوم الواضحات.
==================
(1/513)
(5) [باب مباشرة الحائض]
هذا (باب) حكم (مباشرة) الرجل مع زوجته (الحائض) وأراد بالمباشرةهنا: مماسة الجلدين لا الجماع، فإن جماع الحائض حرام على ما سيأتي بيانه.
==========
%ص 333%
==================
(1/514)
[حديث: كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد]
299# بالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قَبِيْصَة)؛ بفتح القاف، وكسر الموحدة، وسكون التحتية، وفتح الصاد المهملة، هو ابن عُقْبَة _بضمِّ العين المهملة، وسكون القاف، وفتح الموحدة_ أبو عامر الكوفي (قال: حدثنا سفيان) هو الثوري، (عن منصور) هو ابن المعتمر، (عن إبراهيم)؛ هو النخعي.
فإن قلت: إبراهيم هل أدرك أحدًا من الصحابة، أو سمع من أحد منهم؟
قلت: ذكر العجلي أن إبراهيم النخعي لم يحدث عن أحد من الصحابة، وقد أدرك منهم جماعة، وقد رأى عائشة رضي الله عنها، ويقال: إنه رأى أبا جحيفة، وزيد بن أرقم، وابن أبي أوفى، ولم يسمع منهم، وعن ابن حبان: (أنه سمع المغيرة)، والله أعلم كذا في «عمدة القاري»، (عن الأسود) هو خالد بن يزيد، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كنت أغتسل)؛ أي: من الجنابة (أنا والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع والنصب، أما الرفع؛ فبالعطف على الضمير المرفوع في (كنت)، وأما النصب؛ فعلى أن الواو؛ بمعنى: المصاحبة، وذكر (أنا)؛ لأنَّ في عطف الظاهر على المضمر المستكن بدون التأكيد خلافًا، كذا في «عمدة القاري» (من إناء واحد) تختلف أيدينا فيه؛ (كلانا جنب): جملة محلها النصب على الحال، وإنما لم يقل: كلانا جنبان؛ لأنَّها اختارت اللغة الفصيحة، وقد ذكرنا أن الجنب يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمثنى والجمع في اللغة الفصحى وإن كان يقال: جنبان وجنبون) انتهى.
(وكان) وللأَصيلي: (فكان)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يأمرني)؛ أي: بالاتزار لأجل حاجته، (فأَتَّزر)؛ بفتح الهمزة، وتشديد المثناة الفوقية، أصله: أَأْتزر؛ بهمزتين أولهما مفتوحة، والثانية ساكنة؛ لأنَّ أصله من أزر، نقل إلى باب (الافتعال)، فصار اتَّزر، وكذا استعمل في حديث آخر وهو: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يباشر بعض نسائه وهي مؤتزرة في حالة الحيض)، وقال ابن الأثير: وقد جاء في بعض الروايات: «وهي متزرة»، وهو خطأ؛ لأنَّ الهمزة لا تدغم في التاء الفوقية.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (قلت: فعلى هذا؛ يكتفي أن يقرأ فآتزر بالمد؛ لأنَّ الهمزتين إذا اجتمعتا وكانت الأولى متحركة والثانية ساكنة؛ أبدلت الثانية حرف علة من جنس حركة الأولى؛ فتبدل ألفًا بعد الفتحة، فكذلك هنا؛ لأنَّ أصله: أَأْتزر؛ بهمزتين الأولى متحركة، والثانية ساكنة، أبدلت الثانية ألفًا فصار: آتزر؛ بالمد).
وقال ابن هشام: وعوام المحدثين يحرفونه فيقرؤونه بألف وتاء مشدودة، ولا وجه له؛ لأنَّه (افتعل) من الإزرار، ففاؤه همزة ساكنة بعد همزة المضارعة المفتوحة)، وكذا أنكر الإدغام إمام الصنعات الزمخشري.
وزعم الكرماني فإن قلت: لا يجوز الإدغام فيه عند البصريين؟ قال صاحب «المفصل»: (وقول من قال: اتزر خطأ؟ قلت: قول عائشة وهي من فصحاء العرب حجة في جوازه، فالمخطئ مخطئ). ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: إنَّما يصح ما ادعاه إذا ثبت عن عائشة أنها قالت بالإدغام، فلم لا يجوز أن يكون هذا خطأ مثل ما قال معظم أئمة هذا الشأن ويكون الخطأ من بعض الرواة أو من عوام المحدثين لا من عائشة رضي الله عنها؟) انتهى كلامه؛ فليحفظ.
قلت: وقد حاول ابن مالك جوازه، وقال: إنه مقصور على السماع؛ كـ (اتكل)، ومنه قراءة ابن محيصن: (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اتُّمِن) [البقرة: 283]؛ بهمزة وصل، وتاء مشددة)، ونقل الصغاني في «مجمع البحرين»: (أنه مذهب الكوفيين)، والله أعلم.
(فيباشرني) عليه السلام؛ أي: تلامس بشرته بشرتي (وأنا حائض): جملة حالية.
قالت عائشة: (وكان)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (يخرج رأسه) أي: من مسجده النبوي (إليَّ) أي: وهي في حجرتها (وهو معتكف)؛ أي: في المسجد، والجملة حالية، (فأغسله)؛ أي: بالماء وأسرح شعره، وأدهنه كما هي عادته عليه السلام، والاعتكاف لغة: مجرد اللبث، وشرعًا: لبث في المسجد مع الصوم، وهو من باب (الافتعال)، من عكف يعكف عكوفًا؛ إذا أقام وعكفه عكفًا؛ إذا حبسه (وأنا حائض) جملة حالية أيضًا،
%ص 333%
ففي الحديث: دليل على جواز اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد، وقد سبق، وفيه: دليل على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، ألا ترى إلى قولها: (وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله)، فإنه دليل على ذلك؛ لأنَّ الاعتكاف وإن كان الوضوء ليس من شرطه إلا أن عادة النبيِّ عليه السلام خصوصًا حال الاعتكاف الدوام على الوضوء لا سيما والمسجد محل الصَّلاة، وفيه: دليل على جواز استخدام الزوجات، وفيه: طهارة عرق الحائض، وفيه: أن إخراج الرأس في المسجد لا يبطل الاعتكاف، وفيه: دليل على جواز مباشرة الحائض: وهي الملامسة من لمس بشرة الرجل بشرة المرأة، وقد ترد المباشرة بمعنى: الجماع، والمراد بها هنا: المعنى الأول بالإجماع.
واعلم أن مباشرة الحائض على أقسام:
أحدها: حرام بالإجماع ولو اعتقد حله؛ يكفر، وهو أن يباشرها في الفرج عامدًا، فإن فعله غير مستحل؛ يستغفر الله ولا يعود إليه، وهل تجب عليه الكفارة أو لا فيه خلاف؛ فذهب جماعة إلى وجوب الكفارة؛ منهم: قتادة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، والشافعي في القديم، وقال أكثر العلماء: لا شيء عليه سوى الاستغفار، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، وبه قال مالك، وربيعة، وداود، ويحيى بن سَعِيْد، والشافعي في الجديد، فلو فعله غير معتقد حله بأن كان ناسيًا، أو جاهلًا بوجود الحيض، أو جاهلًا بتحريمه، أو مكرهًا؛ فلا إثم عليه ولا كفارة، وعليه التوبة والاستغفار، وإن كان عالمًا بالحرمة، وبالحيض عامدًا مختارًا؛ فقد ارتكب المعصية؛ لأنَّها كبيرة، فيجب عليه التوبة والاستغفار، ويعزر بما يليق به، ولا كفارة عليه عند الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، واختلف الشافعي في وجوبها، والأصح: عدمها، وقيل: إنها عتق رقبة، وقيل: دينار ونصف دينار، وقيل: دينار أول الدم، ونصفه آخره، وقيل: دينار زمن الدم، ونصفه بعد انقطاعه.
قلت: واختار هذا التفصيل المتأخرون من الأئمَّة الحنفية على وجه الاستحباب لا الوجوب، وقدمناه مفصلًا.
فإن قلت: روى أبو داود عن ابن عباس، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: «يتصدق بدينار، أو بنصف دينار»، ورواه بقية الأربعة.
قلت: رواه البيهقي وأعله بأشياء؛ منها: أن جماعة روَوه عن شعبة موقوفًا على ابن عباس، وأن شعبة رجع عن رفعه، ومنها: أنه روي مرسلًا، ومنها: أنه روي معضلًا، وهو رواية الأوزاعي عن يزيد بن أبي مالك، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أمرت أن يتصدق بخُمسي دينار»، والمعضل نوع خاص من المنقطع، فكل معضل منقطع، وليس كل منقطع معضلًا، وقوم يسمونه: مرسلًا، ومنها: أن في متنه اضطرابًا؛ لأنَّه روي: (بدينار أو نصف دينار) على الشك، وروي: (يتصدق بدينار، فإن لم يجد؛ فبنصف دينار)، وروي: (يتصدق بنصف دينار)، وروي: (إن كان دمًا أحمر؛ فدينار، وإن كان أصفر؛ فنصف دينار)، وروي: (إن كان الدم عبيطًا؛ فليتصدق بدينار، وإن كان صفرة؛ فنصف دينار)، قال صاحب «عمدة القاري»: هذا الحديث صححه الحاكم، وابن القطان، وذكر الخلَّال عن أبي داود: أن أحمد قال: ما أحسنَ حديث عبد الحميد! وهو أحد رواة هذا الحديث، وهو من رجال «الصحيح»، وهو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن نفيل القرشي الهاشمي العدوي، عامل محمَّد بن عبد العزيز على الكوفة، رأى عبد الله بن عباس وسأله، وروى عن حفصة زوج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم إن شعبة إن كان رجع عن رفعه؛ فإن غيره رواه مرفوعًا، وهو عمرو بن قَيْس الملائي، وهو ثقة ومن طريقه أخرجه النسائي، وكذا رواه قتادة مرفوعًا، فأسقطا في روايتهما عبد الحميد، ومقتضى القواعد: أن رواية الرفع أشبه بالصواب؛ لأنَّه زيادة ثقة، أما ما روي فيه من (خمسي دينار)، أو (عتق نسمة)، وغير ذلك؛ فما منها شيء يعول عليه، والذين ذهبوا إلى عدم وجوب الصدقة أجابوا: أن قوله عليه السلام: «يتصدق» محمولًا على الاستحباب، إن شاء يتصدق، وإلا؛ فلا، وعن الحسن أنه قال: عليه ما على من واقع أهله في رمضان.
والنوع الثاني: من المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة بالذكر، وبالقبلة، وبالمعانقة، أو اللمس، أو غير ذلك؛ فهذا حلال بالإجماع، إلا ما حكي عن عبيدة السَّلماني وغيره: من أنه لا يباشر شيئًا منها، وهو شاذ منكر مردود بالأحاديث الصحيحة المذكورة في «الصحيحين» وغيرهما من مباشرة النبيِّ عليه السلام فوق الإزار.
والنوع الثالث: المباشرة فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر، فعند الإمام الأعظم: حرام، وهو رواية عن إمام أبي يوسف، وهو قول مالك، وابن المسيب، وشريح، وطاووس، وعطاء، وابن يسار، وقتادة، وهو القول الأصح للشافعي، وعند الإمام محمَّد بن الحسن: يجتنب شعار الدم، وهو رواية عن الإمام أبي يوسف، وهو قول علي، وابن عباس، وأبي طلحة، والأوزاعي، وأبي ثور، والثوري، والشعبي، والنخعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المُنْذِر، وداود، وأصبغ؛ لحديث أنس رضي الله عنه عند مسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، واقتصار النبيِّ عليه السلام في مباشرته على ما فوق الإزار محمول على الاستحباب، وذكر القرطبي عن مُجَاهِد: كانوا في الجاهلية يتجنبون النساء في الحيض، ويأتون النساء في أدبارهن في حدثه، والنصارى كانوا يجامعوهن [1] في فروجهن، والمجوس يبالغون في هجرانهن وبتنجيسهن، ويعتزلوهن بعد انقطاع الدم وارتفاعه سبعة أيام، ويزعمون أن ذلك في كتابهم، انتهى.
قلت: فأبطل الله تعالى كل ذلك بآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ ... }؛ الآية كما قدمناها؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (يجامعهن)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/515)
[حديث عائشة: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا فأراد رسول الله أن]
302# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا) ولأبي ذر: (أخبرنا) (إسماعيل بن خليل)؛ بدون الألف واللام في رواية أبي ذر وكريمة، وفي رواية الأصيلي، وابن عساكر: (الخليل)؛ بالألف واللام.
فإن قلت: هو علم، فلا يدخله أدوات التعريف؟
قلت: إذا قصد به لمح الصفة؛ يجوز كما في العباس، والحارث، ونحوها.
وهو أبو عبد الله الكوفي الخزاز _بالخاء المعجمة، والزايين المعجمتين؛ أولاهما مشددة_ قال البخاري: (جاءنا نعيه سنة خمس وعشرين ومئتين) (قال: أخبرنا علي بن مُسْهِر)؛ بضمِّ الميم، وسكون السين المهملة، وكسر الهاء، وبالراء؛ هو أبو الحسن القرشي الكوفي، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة (قال: أخبرنا أبو إسحاق): هو سليمان بن فيروز التابعي، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة (هو الشيباني): أشار المؤلف إلى أنه تعريفًا له من تلقاء نفسه،
%ص 334%
وليس من كلام شيخه، كذا في «عمدة القاري»، (عن عبد الرحمن بن الأسود): هو ابن يزيد النخعي، من كبار التابعين، المتوفى سنة تسع وتسعين، (عن أبيه): هو الأسود بن يزيد المذكور، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كانت إحدانا)؛ أي: إحدى زوجات النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية: (كان إحدانا)؛ بدون التاء، وحكى سيبويه في «كتابه»: (أن بعض العرب تقول: قال [1] امرأة) انتهى، (إذا كانت حائضًا)؛ أي: متلبسة بالحيض (فأراد رسول الله): وللأصيلي: (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم أن يباشرها): من المباشرة التي هي أن يمس الجلد الجلد، وليس المراد به الجماع، بالإجماع كما قدمناه، فإذا أراد مباشرتها؛ (أمرها أن تتَّزر)؛ بتشديد الفوقية، وللكشميهني: (أن تأْتزر)؛ بهمزة ساكنة بدون إدغام، وهي اللغة الفصحى كما قدمناه، وفي «المصابيح»: (أنه القياس) (في فَوْرِ)؛ بفتح الفاء، وسكون الواو، آخره راء (حَيضتها)؛ بفتح الحاء المهملة لا غير، وأرادت به معظم حيضها، ووقت كثرتها، وقال الجوهري: (فورة الحر؛ شدته، وفار القدر فورًا؛ إذا جاشت)، كذا في «عمدة القاري»، ووقع في رواية أبي داود: (فوح)؛ بالحاء المهملة، (ثم يباشرها)؛ أي: بملامسة بشرته لبشرتها، (قالت) أي: عائشة: (وأيكم يملك إِرْبه؟)؛ بكسر الهمزة، وسكون الراء، بعدها موحدة، قيل: هو عضوه التي يستمتع به، وقيل: حاجته، وفي كتاب «المنتهى»: (فيه لغات: إرب، وإربة، وأرب، ومأرَبة، ومأرُبة)، وعن ابن سَلَمَة: (ولكنه أملككم لإربه)، قال الأصمعي: (هي الحاجة؛ أي: أضبطكم لشهوته)، وقال ابن الأعرابي: أي: لحزمه، وضبط نفسه، وقد أرب يأرب أربًا؛ إذا احتاج، يقال: إن فلانًا لأرب بفلانة؛ إذا كان همَّ بها، ويشهد لقول ابن الأعرابي ما جاء في بعض الروايات: (أملككم لنفسه)، وفي «المحكم» و «الجامع»: (والمأرب وهي الآراب والإرَب)، وقال الخطابي: (وأكثر الرواة يقولون: لإربه، والإرب: العضو، وإنما هو الأرَب _مفتوحة الراء_؛ وهي الوطء وحاجة النفس، وقد تكون الإرب الحاجة أيضًا، والأول أبين)، وكذا حكى صاحب «الواعي»، وأما ابن سيده، وابن عديس في «الكتاب الباهر»؛ فقالا: (الإِرَب؛ بكسر الهمزة: جمع إربة؛ وهي الحاجة)، وقال أبو جعفر النحاس: (أخطأ من رواه بكسر الهمزة)، قال: (وإنما هي بفتحها)، وفي «مجمع الغرائب» لعبد الغافر: (هو في الكلام معروف الإرب والإربة بمعنى: الحاجة، فإن كان الأول محفوظًا _يعني: في حديث عائشة_؛ ففيه ثلاث لغات: الإرب، والأرب، والإربه، والأرب، ويكون بمعنى العضو، فيحتمل أنها أرادت: كان أملككم لعضوه؛ لأنَّها ذكرت التقبيل في الصوم)، وفي «المغيث» لأبي موسى: (أرب في الشيء؛ رغب فيه)، كذا في «عمدة القاري».
(كما كان النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يملك إربه): فهو عليه السلام أملك الناس لإربه، فلا يُخْشَى عليه ما يُخْشَى على غيره ممن يحوم حول الحمى، وكان يباشر فوق الإزار تشريعًا لغيره ممن ليس بمعصوم، وبحديث الباب استدل إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وسَعِيد بن المسيب، وشريح، وطاووس، وسليمان بن يسار، وقتادة، والشافعي في الأصح: على تحريم الاستمتاع بما بين سرتها وركبتها في غير القبل والدبر بوطء أو غيره، ولحديث الترمذي محسنًا أنَّه عليه السلام سئل عما يحل من الحائض؟ فقال: «ما وراء الإزار»، وهو قول مالك، وعطاء، ورواية عن الإمام أبي يوسف، وذهب الإمام محمَّد بن الحسن إلى أن الممنوع هو الوطء دون غيره، وهو رواية عن الإمام أبي يوسف أيضًا، وهو قول الأوزاعي، والثوري، والنخعي، والشعبي، ومُجَاهِد، وأحمد، وأصبغ، وأبو ثور، وإسحاق، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره النووي، ورجحه الحافظ الطحاوي؛ لحديث مسلم عن أنس: أنه عليه السلام قال: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فجعلوه مخصصًا لحديث الترمذي السابق، وحملوا حديث الباب وشبهه على الاستحباب جمعًا بين الأدلة.
وعند أبي داود: (أنه عليه السلام كان إذا أراد من الحائض؛ ألقى على فرجها ثوبًا)، وإسناده قوي، وهذه المباشرة إنَّما تجوز له إذا كان يضبط نفسه، ويمنعها من الوقوع في الجماع، وإن كان لا يملك ذلك؛ فلا يجوز له ذلك؛ لأنَّ من رعى حول الحمى؛ يوشك أن يقع فيه، فلا بدَّ للحائض من الاتِّزار في أيام حيضها؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذ والركبتين تحتجز به؛ أي: تمتنع المرأة به؛ أي: بالإزار عن الجماع، وفي رواية: (محتجزة به)؛ أي: حال كون المرأة ممتنعة به عن الجماع، وأصله من حجزه يحجزه حجزًا؛ أي: منعه، من باب (نصر ينصر)، ومنه الحاجز بين الشيئين؛ وهو الحائل بينهما.
والتقييد بقولها: (في فور حيضته) يدل على الفرق بين ابتداء الحيض وما بعده، ويشهد لذلك ما رواه ابن ماجه في «سننه» بإسناد حسن عن أم سَلَمَة: (أنه عليه السلام كان يتقي سورة [2] الدم ثلاثًا، ثم يباشرها بعد ذلك، ولا منافاة بينه وبين الأحاديث الدَّالة على المباشرة مطلقًا؛ لأنَّها تجمع على اختلاف الحالين)، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(تابعه)؛ أي: تابع عليَّ بن مسهر في روايته لهذا الحديث (خالدُ): هو ابن عبد الله الواسطي، وقد وصلها أبو القاسم التنوخي من طريق وهب بن منبه عنه، (و) تابعه (جرير)؛ بالجيم، هو ابن عبد الحميد في رواية هذا الحديث؛ كلاهما (عن الشيباني): هو أبو إسحاق السابق، وقد وصل هذه المتابعة أبو داود قال: حدثنا عثمان ابن أبي شيبة قال: حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأمرنا في فوح حيضتنا ... )؛ الحديث، ورواه أيضًا الإسماعيلي، والحاكم في «مستدركه»، وقولها: (فوح)؛ بالفاء والحاء المهملة: معظمه وأوله، ومثله: فوعة الدم، يقال: فاع وفاح بمعنى واحد، وفوعة الطيب: أول ما يفوح منه، ويروى: بالغين المعجمة، وهو لغة فيه، كذا في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (قالت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (سودة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (قالت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (قالت)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/516)
[حديث ميمونة: كان رسول الله إذا أراد أن يباشر امرأةً من نسائه]
303# وبه قال: (حدثنا أبو النعمان): هو محمَّد بن الفضل السدوسي _بمهملات_، المعروف بعارم (قال: حدثنا عبد الواحد): هو ابن زياد البصري (قال: حدثنا الشيباني): هو أبو إسحاق السابق (قال: حدثنا عبد الله بن شداد)؛ بالشين المعجمة، وبالدالين المهملتين، أولاهما مشددة، هو ابن أسامة بن الهادي الليثي (قال: سمعت مَيْمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وسكون التحتية، وضم الميم الثانية، هي بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها (قالت: كان النبي) الأعظم، وفي رواية: (تقول: كان رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم): فالرواية الأولى رواية أبوي ذر والوقت، والأصيلي، وابن عساكر، والثانية رواية غيرهم، والجملة محلها نصب على الحال (إذا أراد أن يباشر
%ص 335%
امرأة من نسائه): الطاهرات رضي الله عنهنَّ، والمراد بالمباشرة: أن يمسَّ الجلد الجلد، وليس المراد به: الجماع إجماعًا، كما قدمناه؛ (أمرها)؛ أي: بالاتَّزار (فاتَّزرت): فيه حذف؛ تقديره: فامتثلت الأمر فاتَّزرت، وقدَّمنا أن اللغة الفصحى: (فأْتزرت)؛ بالهمزة بدون إدغام، قيل: وهو الرواية هنا؛ فتأمل، (وهي حائض): جملة حالية، قال الكرماني: (يحتمل أن تكون من مفعول «يباشر»، أو من مفعول «أمر»، أو من فاعل «اتزرت») انتهى، قلت: والوجه الأول هو الظاهر وهو الوجه الصحيح، وعليه القسطلاني، والوجهان الآخران لا وجه لهما، كما لا يخفى؛ فافهم، وهذا الحديث أخرجه مسلم، وأبو داود؛ كلاهما عن الشيباني به، وأخرجه ابن ماجه بسند صحيح من حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: (كانت إحدانا في فورها أول ما تحيض تشد عليها إزارًا إلى أنصاف فخذها، ثم تضطجع معه صلَّى الله عليه وسلَّم)، وأخرجه أبو يعلى الموصلي من حديث عمر رضي الله عنه: (له ما فوق الإزار، وليس له ما تحته)، وفي لفظ: (ولا يطلعن إلى تحته حتى يطهرن)، وأخرج أبو داود بسند صحيح عن بعض أزواج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (أنه كان إذا أراد من الحائض شيئًا؛ ألقى على فرجها ثوبًا)، وأخرج أبو داود أيضًا بسند جيد عن أم سَلَمَة: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يباشرها وعلى قبلها ثوب)؛ يعني: وهي حائض، وأخرج أبو داود أيضًا من حديث معاذ وعبد الله بن سعد: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال: «ما فوق الإزار»، وفي حديث معاذ: (والتعفف عن ذلك أجمل)، وأخرج عبد الله بن وهب بسند صحيح من حديث كريب قال: سمعت أم المؤمنين تقول: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب)، وأخرج الدارمي في «مسنده» من حديث أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل: قالت أم المؤمنين: (كنت أتَّزر وأنا حائض
==================
[وأدخل مع النبي في لحافه)، وإسناده صحيح، وفي «الموطأ» عن زيد بن أسلم: سأل رجل النبي: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟] [1] قال: «لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها»، قال أبو عمر [2]: ولا أعلم أحدًا روى هذا الحديث مسندًا بهذا اللفظ، كذا في «عمدة القاري».
(رواه)؛ يعني: روى هذا الحديث، وللأصيلي وكريمة: (ورواه) (سفيان): يحتمل أنه الثوري، ويحتمل أنه ابن عيينة، ولا بأس بالإبهام؛ لأنَّ كلًّا منهما على شرط البخاري، كذا قاله الكرماني، وزعم ابن حجر أنه الثوري على القطع، قلت: وهو فاسد، والظاهر أنه ابن عيينة، ويدل عليه قول صاحب «التلويح»: (كأن البخاري يريد بمتابعة سفيان هذا المعنى لا القطع، وذلك أن أبا داود قال: حدثنا محمَّد بن الصَّبَّاح، عن سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق الشيباني: سمع عبد الله بن شداد عن ميمونة: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ... ؛ الحديث)، قلت: فهذا يعين أنه ابن عيينة، ورواه أحمد عن الثوري من طريق أخرى غير هذا، فلا دليل فيه لما زعمه ابن حجر، فإنه يقطع ولا يدري من أين دليل القطع، (عن الشيباني)؛ هو أبو إسحاق المذكور، ورواه عنه أيضًا بهذا الإسناد خالد بن عبد الله عند مسلم، وجرير بن عبد الحميد عند الإسماعيلي، وأسباط بن محمَّد عند أبي عوانة في «صحيحه»، قلت: وهذا أيضًا يعين ما قلناه؛ فافهم، وإنما قال: (رواه) ولم يقل: تابعه؛ لأنَّ الرواية أعم من المتابعة، فلعله لم يروها متابعة، كذا في «عمدة القاري»، والله الهادي وعليه اعتمادي.
==================
[1] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري».
(1/517)
(6) [باب ترك الحائض الصوم]
هذا (باب) بيان (ترك الحائض) ومثلها النفساء (الصوم) في أيام حيضها أو نفاسها، قال في «عمدة القاري»: (وجه المناسبة بينهما من حيث أن كلًّا منهما يشتمل على حكم من أحكام الحيض.
فإن قلت: الحائض تترك الصَّلاة [أيضا، فما وجه ذكر الصوم في تركها دون الصلاة مع أنهما مذكوران في حديث الباب؟] [1].
==================
[1] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري».
قلت [2] [تركها الصلاة] [3] لعدم وجود شرطها وهي الطهارة، فكانت ملجأة [4] إلى ذلك بخلاف الصوم، فإن الطهارة ليست بشرط، وكان تركها إياه [5] من باب التعبد، وأيضًا فإن تركها للصلاة لا إلى خلف، بخلاف الصوم فإنه إلى خلف وهو القضاء، فخص الصوم بالذكر دون الصَّلاة؛ إشعارًا لما ذكرناه) انتهى.
==================
[3] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري».
[4] في الأصل: (ملجأ)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/518)
[حديث: يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار]
304# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا سَعِيد بن أبي مريم): هو سَعِيد بن الحكم بن محمَّد بن سالم، المعروف بابن أبي مريم الجمحي المصري، (قال: حدثنا): وفي رواية: (أخبرنا) (محمَّد بن جعفر): هو ابن أبي كثير _بفتح الكاف، وبالمثلثة_ الأنصاري (قال: أخبرني) بالإفراد (زيد هو ابن أسلم)؛ بلفظ الماضي، أبو أسامة المدني، وسقط (هو ابن أسلم) للأصيلي وابن عساكر، وهي ثابتة لغيرهما، وأشار إلى أنه تعريف له من تلقاء نفسه، وليس من كلام شيخه، (عن عِياض) بكسر العين المهملة (بن عبد الله): هو ابن أبي سرح العامري، ولأبيه صحبة، (عن أبي سَعِيد الخدري): واسمه سعد بن مالك رضي الله عنه (قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: خرج إما من بيته، أو من مسجده، كذا قاله في «عمدة القاري»، قلت: والظاهر الثاني؛ لأنَّه عليه السلام كان يصلي الفجر في مسجده وقت الإسفار كما قال: «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر»، وهذه عادته، وكان يقعد في مصلَّاه حتى ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحين، ثم يخرج من المسجد يريد صلاة العيد في المصلى، وهذا من عادته عليه السلام؛ فليحفظ، فتأمل، (في) يوم عيد (أَضْحى)؛ بفتح الهمزة، وسكون الضاد المعجمة، جمع أضحاة، والأضحية: شاة تذبح يوم الأضحى، وفيها أربع لغات: ضم الهمزة وكسرها، وأضحية كما ذكرناها ضبطًا، وضَحيَّة؛ بفتح الضاد المعجمة، وتشديد التحتية، والجمع أضحاة وأضحى، وبها سمي يوم الأضحى، والأضحى يذكر ويؤنث، وقيل: سميت بذلك؛ لأنَّها تفعل في الأضحى؛ وهو ارتفاع النهار، كذا في «عمدة القاري»، (أو) في يوم عيد (فطر)؛ أي: عقب رمضان، والشك من الراوي، وزعم الكرماني أن الشك من أبي سَعِيد، ورده صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: لا يتعين ذلك) انتهى، أي: بل الشك من الراوي أي كان، وهو الظاهر؛ فافهم، (إلى المصلى): متعلق بقوله: (خرج) وهو موضع صلاة العيدين وصلاة الجنازة قرب الجبانة، وإنما أعده عليه السلام لذلك؛ لتنزيه المسجد عن الكلام المباح فيه حال الاجتماع فيه من المعايدة حين لقاء الناس بعضهم بعضًا، ولتنزيهه أيضًا عن الجنازة؛ لاحتمال خروج شيء من الميت إلى المسجد، ولهذا قال الإمام الأعظم رأس المجتهدين: إن صلاة الجنازة بالمسجد مكروهة؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قد أعد لها المصلَّى، وقال: «من صلى على جنازة في مسجد؛ فلا أجر له»، وفي رواية: «فلا ثواب له»، وهذا حجة على من منع الكراهة في المسجد، وسيأتي تمامه في (الجنائز) إن شاء الله تعالى؛ فافهم، والله أعلم.
(فمر) عليه السلام (على النساء)؛ لأنَّه يجوز خروجهن أيام العيد إلى المصلى للصلاة مع الناس كما يأتي، (فقال): يحتمل أنه عليه السلام قال ذلك لهن حال مروره إلى المصلى للصلاة؛ لأنَّهن لمَّا رأين النبي عليه السلام خارجًا إلى المصلى؛ وقفن حتى يمر عليه السلام، فلما رآهنَّ؛ قال لهن ذلك، فيكون الوعظ لهنَّ فقط، ويحتمل التعميم، ويحتمل أنَّه عليه السلام وعظ الناس وأمرهم بالصدقة بعد الصَّلاة، ثمَّ التفت إلى النساء، والظاهر الأول؛ يدل عليه قوله: (فمر)؛ بالفاء التعقيبية، فإنه يفيد أن قوله ذلك كان بعد خروجه قبل الصَّلاة؛ فتأمل: (يا معشر النساء): المعشر: الجماعة متخالطين كانوا أو غير ذلك، وقال الأزهري: أخبرني المُنْذِر عن أحمد بن يحيى قال: (المعشر، والنفر، والقوم، والرهط؛ هؤلاء معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم للرجال دون النساء)، وقال الليث: (المعشر: كل جماعة أمرهم واحد)، وهذا هو الظاهر، وقول [1] أحمد بن يحيى مردود [2] بالحديث وجمع على معاشر، انتهىكذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذا يرد
%ص 336%
على ما نقله الأزهري من تخصيصه بالرجال، إلا إن كان مراده بالتخصيص حالة إطلاق المعشر لا تقييده كما في الحديث؛ فافهم.
وقوله: (تصدقن) مقول القول، والفاء في قوله: (فإني) للتعليل (أُرِيتكن)؛ بضمِّ الهمزة، وكسر الراء على صيغة المجهول (أكثرَ أهل النار)؛ أي: أراني الله إياكنَّ أكثر أهل النار، فـ (أكثر) منصوب؛ لأنَّ قوله: (أريتكن) [3] متعد إلى ثلاثة مفاعيل؛ الأول التاء التي هي مفعول ناب عن الفاعل، والثاني قوله: (أكثر أهل النار)، كذا ارتضاه صاحب «عمدة القاري»، وقال صاحب «التلويح»: (أكثر) بنصب الراء على أن (أريت) [4] يتعدى إلى مفعولين، أو على الحال إذا قلنا: إن (أفعل) لا يتعرف بالإضافة، كما صار إليه الفارسي وغيره، وقيل: إنه بدل من الكاف في (أريتكن) [5] انتهى ومنعه صاحب «عمدة القاري».
فإن قلت: في أين أريهن أكثر أهل النار؟
قلت: في ليلة الإسراء، وفي حديث ابن عباس الآتي في صلاة الكسوف: أن الرواية المذكورة وقعت في صلاة الكسوف، وعن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: «أريت النار فرأيت أكثر أهلها النساء».
فإن قلت: ورد في الحديث قال: «لكل رجل زوجتان من الآدميين»؟
قلت: لعل هذا قبل ورود الشفاعة، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وحاصله أنه عليه السلام رأى النار ليلة الإسراء، فرأى أكثر أهلها النساء هذا هو المتعين؛ فافهم.
(قلن): وفي رواية: (فقلن): (وبم يا رسول الله؟): الواو للعطف على مقدر؛ تقديره: ما ذنبنا، والباء للسببية، وكلمة (ما) استفهامية حذفت ألفها وجوبًا؛ لأنَّها مجرورة، وبقيت الفتحة دليلًا عليها؛ مثل: (إلامَ) و (علامَ)، وعلة الحذف الفرق بين الاستفهام والخبر، فلهذا حذفت في {فِيمَ أَنْتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]، {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ} [النمل: 35]، وأما قراءة عكرمة وعيسى: (عما يتساءلون) [عمَّ: 1]؛ فنادر، كذا قاله صاحب «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أن الواو في (وبم) استئنافية، والباء تعليلية، وحذفت الألف من (ما) تخفيفًا، انتهى، قلت: ومنعه صاحب «عمدة القاري»، قلت: لعدم ظهور وجهه، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم؛ لأنَّ الواو عاطفة على المقدر المناسب لما قبلها من الأمر، ولأن الباء ذكرت لأجل السببية في كونهن أكثر أهل النار، وقوله: (وحذفت الألف ... ) إلخ: هذا أبعد بعيد عما قاله؛ لأنَّ (ما) الاستفهامية إذا جُرَّت؛ وجب حذف ألفها، فالحذف واجب، لا لأجل التخفيف كما زعمه هذا القائل، وهذا ما عليه النحويون، فمن أين جاء ما قاله؟ فافهم.
(قال)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: لإنَّكنَّ (تكثرن اللعن): من الإكثار، واللعن لغة: الطرد والإبعاد من الخير، واللعنة: الاسم؛ ومعناه: أنهنَّ يتلفظنَّ باللعنة، ففيه ذم الدعاء باللعن؛ لأنَّه دعاء بالإبعاد من رحمة الله عزَّ وجلَّ، وقالوا: إنَّه محمول على ما إذا كان في معيَّن؛ لأنَّه لا تعرف خاتمة أمره بالقطع إلى أين مصيره؟ أمَّا من عرف خاتمة أمره ومصيره بالقطع؛ فيجوز كأبي جهل، ومثله لعن صاحب وصف بدون تعيين؛ كالكافرين والظالمين؛ فإنَّه جائز، (وتكفرن العشير): هو الزوج، سمِّي بذلك؛ لمعاشرته إيَّاها، وفي «الموعب»: (عشيرك: الذي يعاشرك، أيديكما وأمركما واحد، لا يكادون يقولون في جمعه: عشراء [6]، ولكنهم معاشروك [7] وعشرك)، وقال الفراء: (يجمع على عشراء؛ مثل: جليس وجلساء، وإن العرب لتكرهه كراهة أن يشاكل قولهم: ناقة عشراء، والعشير: الصديق، والزوج، وابن العم)، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: (وتكفرن): من الكفر؛ وهو الستر، وكفران النعمة وكفرها: سترها بترك أداء شكرها، والمراد: أنهنَّ يجحدن نعمة الزوج ويستقللن ما كان منه، ففيه أنَّ الكلام القبيح كاللعن والشتم حرام، وأنَّه من المعاصي، فإن داوم عليه؛ صار كبيرة، واستدل النووي على أنَّ اللعن والشتم من الكبائر بالتوعَّد عليهما بالنار، وفيه إطلاق الكفر على الذنوب [8] التي لا تخرج عن الملة تغليظًا على فاعلها، وفيه إطلاق الكفر على غير الكفر بالله عزَّ وجلَّ، وفيه أنَّ جحد النعم حرام وكفران النعمة مذموم، وفيه أنَّ الصدقة تدفع [العذاب]، وأنها تكفر الذنوب، وفيه الإشارة إلى الإغلاظ في النصح بما يكون سببًا لإزالة الصفة التي تعاب أو الذنب الذي يتصف به الإنسان، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الله تعالى.
(ما رأيت من ناقصات): صفة موصوف محذوف؛ أي: ما رأيت أحدًا من ناقصات (عقل): العقل في اللغة: ضد الحمق، وعن الأصمعي: (هو مصدر عقل الإنسان يعقل)، وقال ابن دريد: (هو مشتق من عقال الناقة؛ لأنَّه يعقل صاحبه عن الجهل؛ أي: يحبسه، ولهذا قيل: عقل الدواء بطنه؛ أي: أمسكه)، وفي «العين»: (عقلت بعد الصبا؛ أي: عرفت بعد الخطأ الذي كنت فيه، واللغة الغالبة عقل، وقالوا: عقل يعقل؛ مثل: حكم يحكم، وهو المعقول)، وقال ابن الأنباري: (العاقل: الجامع لأمره ورأيه)، وقال الأزهري: (العاقل: الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذًا من قولهم: اعتقل لسانه؛ إذا حبس ومنع من الكلام)، وفي «المختصر»: (قال سيبويه: قالوا: العقل كما قالوا: الظرف [9]، أدخلوه في باب عجز؛ لأنَّه مثله، والعقل من المصادر المجموعة من غير أن تختلف أنواعها)، وقال الإمام الرئيس أبو علي ابن سينا: (العقل والحجى والنهى؛ كلها متقاربة المعاني)، وعن الأصمعي: (هو الإمساك عن القبيح، وقصر النفس وحبسها على الحسن، وقالوا: عاقل وعقلاء، وهو الحلم، واللب، والحجر، والطعم، والمحت، والمرجح، والجول، والجنجيب، والذهن، والهرمان [10]، والحصاة)، وفي «المحكم»: (وجمعه: عقول)، وقال القزاز: (مسكنه عند قوم في الدماغ، وعند آخرين في القلب)، قال صاحب «عمدة القاري»: (الأول قول الإمام الأعظم، والثاني قول الشافعي، وقيل: مسكنه الدماغ، وتدبيره في القلب، وعن هذا قالوا: العقل جوهر خلقه الله في الدماغ، وجعل نوره في القلب، يدرك به المغيبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة)، وقال بعض المتكلمين: العلم: العقل، وقيل: بعض العلوم الضرورية، وقيل: قوة يميز بها حقائق المعلومات، وقال الإمام الرئيس أبو علي: (هو اسم مشترك لمعان عدة: عقل لصحة الفطرة الأولى في الناس، وهو قوة يميز بها بين الأمور القبيحة والحسنة، وعقل لما يكتسبه بالتجارب من الأحكام يكون مقدمة يحصل بها المصالح، وعقل بمعنى آخر، وهذه هيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه)، وأما الحكماء؛ فقد فرقوا بينه وبين العلم، وقالوا: العقل الفطري والعملي بالفعل والمبادئ والفعال، وتحقيقه في كتبهم، وإنما سمي العقل عقلًا من قولهم: ظبي عاقل؛ إذا امتنع في أعلى الجبل، فسمي هذا به؛ لأنَّه في أعلى الجسد بمنزلة الذي في أعلى الجبل، وقيل: العاقل: الجامع لأموره برأيه، مأخوذ من قولهم: عقلت الفرس؛ إذا جمعت قوائمه، كذا حققه إمام الشارحين في «عمدة القاري».
وحكى ابن التين عن بعضهم: أن المراد من العقل: الدية؛ لأنَّ ديتها على النصف من دية الرجل، ورده صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ظاهر الحديث يأباه) انتهى.
%ص 337%
قلت: وهو ظاهر يدل عليه قوله: (ودين) ... إلخ، فإنه عليه السلام حين سألنه لم يُجِبْهُنَّ بأن المراد من العقل: الدية، وهذا دليل على منع ما حكاه ابن التين؛ فافهم.
وقال في «عمدة القاري»: (وقوله: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير» جواب تام، فكأنه من باب الاستتباع، إذالذم بالنقصان؛ استتبع لأمر آخر غريب، وهو كون الرجل الكامل الحازم منقادًا للنساء الناقصات دينًا وعقلًا) انتهى.
(أذهب): أفعل التفضيل، من الإذهاب، على مذهب سيبويه حيث جوَّز بناء (أفعل) التفضيل من الثلاثي المزيد فيه، وكان القياس فيه: أشد إذهابًا، كذا في «عمدة القاري»، (للُبِّ)؛ بضمِّ اللام، وتشديد الموحدة: العقل الخالص من الشوائب، فهو خالص ما في الإنسان من قواه، فكلُّ لبِّ عقلٌ، وليس كلُّ عقلٍ لُبًّا [11] (الرجل الحازم)؛ بالحاء المهملة، والزاي المعجمة؛ أي: الضابط لأمره، وهو على سبيل المبالغة في وصفهن بذلك؛ لأنَّه إذا كان الضابط لأمره ينقاد لهن؛ فغيره أولى، (قلن): ويروى: (فقلن): (وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟): وهذا استفسار منهنَّ عن وجه نقصان دينهنَّ وعقلهنَّ، وذلك لأنَّه خفي عليهنَّ ذلك حتى استفسرن، وزعم ابن حجر أنَّ هذا السؤال دالٌّ على النقصان؛ لأنَّهنَّ سلمن ما نسب إليهنَّ من الأمور الثلاثة الإكثار، والكفران، والإذهاب، ثم استشكل كونهنَّ ناقصات، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: قلت: هذا الاستفسار وليس باستشكال؛ لأنَّهنَّ بعد أن سلمن هذه الأمور الثلاثة لا يكون عليه إشكال، ولكن لمَّا خفي سبب نقصان دينهنَّ وعقلهنَّ؛ سألن عن ذلك بقولهنَّ: (ما نقصان ديننا وعقلنا؟)، والتسليم بهذه الأمور كيف يدل على النقصان؟ وبين صلَّى الله عليه وسلَّم ما خفي عليهنَّ من ذلك بقوله: (قال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟): هذا جواب منه عليه السلام بلطف وإرشاد من غير تعنيف ولا لوم، بحيث خاطبهنَّ على قدر فهمهنَّ؛ لأنَّه عليه السلام كان يخاطب الناس على قدر عقولهم، انتهى كلامه، (قلن: بلى) يا رسول الله.
وقال النووي: (أما وصفه النساء بنقصان الدين؛ فلتركهنَّ الصَّلاة والصوم، فقد يستشكل معناه، وليس بمشكل، فإنَّ الدين والإيمان والإسلام مشترك في معنى واحد، فإن من كثرت عبادته؛ زاد إيمانه ودينه، ومن نقص عبادته؛ نقص دينه)، ورده صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: دعواه الاشتراك في هذه الثلاثة غير مسَلَّمَة؛ لأنَّ بينها فرق لغة وشرعًا، وقوله: «زاد إيمانه أو نقص» ليس راجعًا إلى الذات، بل هو راجع إلى الصفة كما تقدر هذا في موضعه) انتهى، قلت: وهذا ظاهر، وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب (الإيمان)؛ فافهم.
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (وقوله: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟» إشارة إلى قوله عزَّ وجلَّ: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
فإن قلت: ما النكتة في تفسيره لهذه العبارة، ولم يقل: أليس شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل؟
قلت: لأنَّ في عبارته تلك تنصيص على النقص صريحًا بخلاف ما ذكرت، فإنه يدلُّ عليه ضمنًا؛ فافهم، فإنه دقيق.
فإن قلت: أليس ذلك ذمًّا لهنَّ؟
قلت: لا، ولكنَّه على معنى التعجب بأنهنَّ مع اتصافهنَّ بهذه الحالة يفعلن بالرجل الحازم كذا وكذا) انتهى كلامه.
ثم قال: (ففيه تنبيه على أن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وفيه دليل على أن ملاك الشهادة العقل، وفيه مراجعة المتعلمِ والتابعِ المتبوعَ والمعلِّمَ فيما قالاه إذا لم يظهر له معناه) انتهى.
(قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (فذلكِ)؛ بكسر الكاف، خطاب للواحدة التي تولَّت الخطاب، ويجوز فتح الكاف على أنَّه خطاب للعام، والإشارة إلى ما ذكر من قوله: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟»، كذا قاله صاحب «عمدة القاري» (من نقصان عقلها): فإن قلت: هذا خطاب للإناث والمعهود فيه (فذلكنَّ)؛ قلت: قد عهد في خطاب المذكر الاستغناء بـ (ذلك) عن (ذلكم)، قال تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ} [البقرة: 85]، فهذا مثله في المؤنث على أنَّ بعض النحاة نقل لغة بأنَّه يكتفى بكاف مكسورة مفردة لكلِّ مؤنث، أو الخطاب لغير معيَّن من النساء؛ ليعم الخطاب كلًَا منهن على سبيل البدل، إشارة إلى أنَّ حالتهنَّ في النقص تناهت في الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها، فلا تختص به واحدة دون أخرى، كذا في «المصابيح».
ثم قال عليه السلام: (أليس إذا حاضت)؛ أي: المرأة منكنَّ (لم تصل) الصَّلاة المفروضة (ولم تصم) الصوم المفروض؛ لوجود المانع فيها من الحيض؟ (قلن: بلى) يا رسول الله، وهذا محل مطابقة الحديث للترجمة، (قال)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (فذلكِ)؛ بكسر الكاف، خطابًا للواحدة التي تولَّت الخطاب، ويجوز فتح الكاف على أنَّه للخطاب العام؛ فافهم، ففيه ألَّا يواجه [12] بذلك الشخص المعين، فإن في الشمول تسلية وتسهيلًا؛ فليحفظ، (من نقصان دينها).
فإن قلت: هذا العموم فيهنَّ يعارضه قوله عليه السلام: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم»، وفي رواية: «أربع»، وهو ما رواه الترمذي وأحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد».
قلت: أجاب ابن حجر: بأن بعض الأفراد خرج عن ذلك؛ لأنَّه نادر قليل، وردَّه صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: (والجواب السديد في ذلك: هو أنَّ الحكم على الكلِّ بشيء لا يستلزم الحكم على كلِّ فرد من أفراده بذلك الشيء)، وقال النووي: (ونقص الدين قد يكون على وجه يأثم؛ كمن ترك الصَّلاة بلا عذر، وقد يكون على وجه لا يأثم به؛ كمن ترك الجمعة لعذر، وقد يكون على وجه هو مكلف به؛ كترك الحائض الصَّلاة والصوم، فإن قيل: إذا كانت معذورة فهل تثاب على ترك الصَّلاة في زمن الحيض وإن كانت لا تقضيها كما يثاب المريض، ويكتب له في مرضه مثل نوافل الصلوات التي كان يفعلها في صحته؟ قلت: وظاهر هذا الحديث أنَّها لا تثاب، والفرق أنَّ المريض كان يفعلها بنيَّة الدوام عليها مع أهليَّته لها، والحائض ليست كذلك، بل نيَّتها ترك الصَّلاة في زمن الحيض، وكيف لا وهي حرام عليها؟) قال صاحب «عمدة القاري»: (قلت: ينبغي أن تثاب على ترك الحرام) انتهى.
قلت: وقال أئمة المذهب المعظم: يستحب للحائض أن تتوضأ لكل وقت، وتجلس في مصلَّاها تذكر الله تعالى حتى تكون معتادة على إقامة الصَّلوات، ولا ريب أنَّها تثاب على هذا الفعل، وتمامه في «منهل الطلاب».
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (وفي الحديث استحباب خروج الإمام مع القوم إلى مصلى العيد في الجبانة لأجل صلاة العيد، ولم يزل الصدر الأول يفعلون ذلك، ثمَّ تركه أكثرهم؛ لكثرة الجوامع، ومع هذا فإنَّ أهل بلاد شتَّى لم يتركوا ذلك، وفيه الحثُّ على الصدقة؛ لأنَّها من أفعال الخيرات والمبرَّات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، ولا سيما في مثل يومي العيدين؛ لاجتماع الأغنياء والفقراء، وتحسُّر الفقراء عند رؤيتهم الأغنياء عليهم الثياب الفاخرة، ولا سيما أيتام الفقراء والأرامل الفقراء، فإن الصدقة
%ص 338%
عليهم في مثل هذا اليوم مما يُقِلُّ تحسرهم وهمهم، وأما تخصيصه عليه السلام النساء في ذلك اليوم حيث أمرهنَّ بالصدقة؛ فلغلبة البخل عليهنَّ، وقلة معرفتهنَّ بثواب الصدقة، وما يترتب عليها من الحسن والفضل في الدنيا قبل يوم الآخرة) انتهى.
وزعم الخطابي أنَّ في الحديث دليل على أنَّ النقص من الطاعات نقص من الدين، وردَّه صاحب «عمدة القاري»، فقال: (لا ينقص من الدين شيء، وإنما النقص والزيادة يرجعان إلى الكمال) انتهى.
قلت: ويدلُّ لهذا أنَّه عليه السلام قال في هذا الحديث: «أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟ ... » إلخ، فإنَّه صريح في أنَّ الزيادة أو النقص يرجعان إلى الثمرات، فإنَّ الإيمان هو التصديق، وهو لا يزيد ولا ينقص، وإنما الذي يقبل الزيادة والنقصان ثمراته من الصَّوم والصَّلاة، فإنَّ الحائض حال نزول الدم غير مخاطبة بالفرائض فيه، وتمامه فيما كتبناه في كتاب (الإيمان).
وقال في «عمدة القاري»: وفي الحديث جواز خروج النساء أيام العيد إلى المصلَّى للصلاة مع الناس، وقال العلماء: هذا في زمنه عليه السلام، وأما اليوم؛ فلا تخرج الشابة ذات الهيئة، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: (لو رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما أحدث النساء بعده؛ لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل)، قال إمام الشارحين: (قلت: هذا الكلام من عائشة بعد زمن يسير جدًّا بعد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَّا اليوم، فنعوذ بالله من ذلك؛ فلا يرخص في خروجهنَّ مطلقًا للعيد وغيره، ولا سيما نساء مصر على ما لا يخفى) انتهى.
قلت: ولا سيما نساء ديارنا الشريفة الشاميَّة؛ فإنهنَّ أكثرن الفساد، وجئن بالتبزير مع الآثام، وأوقعن الرجال بالهلكات، ولا يبعد أن يقال: يحرم على الزوج أن يأذن لهنَّ بالخروج مطلقًا لعيد وغيره، كما لا يخفى، وتمامه في «منهل الطلاب».
ونقل في «عمدة القاري» عن «التوضيح» رأى جماعة [ذلك] حقًّا عليهن؛ يعني: في خروجهن للعيد وغيره؛ منهم: أبو بكر، وعلي، وابن عمر، وغيرهم، ومنهم من منعهنَّ ذلك؛ منهم: عروة، والقاسم، ويحيى بن سَعِيد الأنصاري، ومالك، وأبو يوسف، وأجازه الإمام الأعظم مرة ومنعه أخرى، ومنع بعضهم في الشابَّة دون غيرها، وهو مذهب مالك وأبي يوسف، وقال الحافظ الطحاوي: (لأنَّ الأمر بخروجهنَّ أول الإسلام لتكثير المسلمين في أعين العدو)، قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (قلت: كان ذلك لوجود الأمن أيضًا، واليوم قلَّ الأمن والمسلمون كثير، ومذهب أصحابنا في هذا الباب ما ذكره صاحب «البدائع»: أجمعوا على أنَّه لا يرخص للشابة الخروج للعيدين والجمعة وشيء من الصلوات؛ لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب: 33]؛ لأنَّ خروجهنَّ سببٌ للفتنة، وأما العجائز؛ فرخص لهن الخروج في العيدين، ولا خلاف أنَّ الأفضل ألَّا يخرجن في صلاة، فإذا خرجن؛ يصلين صلاة العيد في رواية الحسن بن زياد عن الإمام الاعظم، وفي رواية الإمام أبي يوسف عن الإمام الأعظم: لا يصلين، بل يكثرن سواد المسلمين وينتفعن بدعائهم، وفي حديث أم عطية قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يخرج العواتق ذات الخدور والحُيَّض، وأمر الحيَّض: «فليعتزلن المصلى، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين»، أخرجه الشيخان، وقال عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، أخرجاه أيضًا، وفي رواية أبي داود: «ليخرجن [وهنَّ] تفلات»: غير عطرات، والعواتق: جمع عاتق؛ وهي البنت التي بلغت، وقيل: التي لم تتزوَّج، والخدور: جمع خدر؛ وهو الستر، وزعم النووي يكره للشابة أو لمن تشتهى الحضور؛ لخوف الفتنة عليهنَّ وبهنَّ) انتهى كلامه.
ثم قال: (ففي الحديث جواز عظة النساء على حدة، وهذا للإمام، فإن لم يكن؛ فلنائبه، وفيه نص على أن الحائض يسقط عنها فرض الصوم والصَّلاة لكن الأول إلى خلف، والثاني لا؛ للحرج، وفيه الشفاعة للمسلمين وغيرهم أن يسأل لهم، وفيه حجة لمن كره السؤال لغيره، وفيه ما يدل على ما كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من الخلق العظيم، والصفح الجميل، والرأفة، والرحمة على أمته عليه أفضل الصلوات وأشرف التحيات) انتهىوالله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (قال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مورود)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (رأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (رأيت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أرأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (يعاشروك)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (الذنب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (الطرف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (والمهرمان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (لب).
[12] في الأصل: (يؤاخذ)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (قال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مورود)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (رأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (رأيت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أرأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (يعاشروك)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (الذنب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (الطرف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (والمهرمان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (لب).
[1] في الأصل: (قال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مورود)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (رأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (رأيت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أرأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (يعاشروك)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (الذنب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (الطرف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (والمهرمان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (لب).
(1/519)
(7) [باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت]
هذا (باب)؛ بالتنوين؛ لأنَّه مقطوع عما بعده، فيه بيان أن المرأة إذا حاضت بعد الإحرام؛ (تقضي) أي: تؤدي (الحائض المناسك كلها): فتأتي بجميع المناسك (إلا الطواف بالبيت)؛ أي: لأنَّها لا تطوف بالبيت الحرام، و (المناسك) جمع منسَك؛ بفتح السين المهملة وكسرها؛ وهو التعبد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، وسميت أمور الحج كلها مناسك، وسئل ثعلب عن المناسك ما هو؟ فقال: (هو مأخوذ من النسيكة؛ وهي سبيكة الفضة المصفاة؛ كأنه [1] صفى نفسه لله تعالى)، وفي «المطالع»: (مواضع متعهدات الحج، والمنسك: المذبح أيضًا، وقد نسك ينسك نسكًا؛ إذا ذبح، والنسيكة: الذبيحة، وجمعها نسك أيضًا: الطاعة والعبادة وكلُّ ما يتقرب به إلى الله تعالى، والنسك: ما أمرت به الشريعة، والورع: ما نهت عنه، والناسك: العابد، وجمعه النُّسَّاك، والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأنَّ في الأول ترك الحائض الصوم وهو فرض، وفي هذا تركها الطواف الذي هو ركن، وهو أيضًا فرض، وبقية الطواف كالركعتين بعده أيضًا لا يعمل إلا بالطهارة، وهل هي شرط في الطواف أم لا؟ فيه خلاف مشهور) انتهى قلت: والجمهور وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه: أنها ليست بشرط والأحاديث الصحيحة تدل عليه، وزعم الشافعية أنها شرط فيه، وقاسوه على الصَّلاة، وهو قياس مع الفارق ودعوى غير صحيحة، كما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
(وقال إبراهيم) هو النخعي: (لا بأس) أي: لا حرج (أن تقرأ) أي: الحائض (الآية)؛ أي: من القرآن، وهذا الأثر وصله الدارمي بلفظ: (أربعة لا يقرؤون القرآن: الجنب، والحائض، وعند الخلاء، وفي الحمام إلا آية)، وعن إبراهيم فيه أقوال؛ في قول: يستفتح رأس الآية ولا يتممها، وهو قول عطاء، وسَعِيد بن جبير؛ لما روى ابن أبي شيبة: حدثنا خالد الأحمر، عن حجاج، عن عطاء، وعن حمَّاد، وعن إبراهيم، وسَعِيْد بن جبير: (في الحائض والجنب يستفتحون رأس الآية، ولا يتمون آخرها)، وفي قول: يكره قراءة القرآن للجنب، وروى ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن حمَّاد: أن سَعِيد بن المسيب قال: (يقرأ الجنب القرآن)، قال: (فذكرته لإبراهيم فكرهه)، وفي قول: يقرأ ما دون الآية، ولا يقرأ آية تامة، وفي قول: يقرأ القرآن ما لم يكن جنبًا؛ لما روى ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن حمَّاد، عن إبراهيم، عن عمر قال: (لا تقرأ الحائض القرآن)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
ثم قال: (وجه تطابق هذا الأثر للترجمة والآثار التي بعده من حيث إن الحيض لا ينافي كل عبادة، بل تصح معه عبادات بدنية من إدراك نحو التسبيح والتحميد ونحو ذلك، وقراءة ما دون الآية عند جماعة، والآية عند إبراهيم، ومناسك الحج كذلك من جملة ما لا ينافيه الحيض إلا الطواف، فإنه مستثنًى من ذلك، وكذلك الآية وما فوقها مستثنًى من ذلك، وهذا وجه يطابق هذا الأثر للترجمة، وكذلك الآثار التي
%ص 339%
بعده الآتية، وحكم الجنب حكم الحائض فيما ذكرنا، وإذا وجد التطابق بأدنى شيء يكتفى به، والتطويل فيه يؤول إلى تعسف) انتهى كلامه رحمة الله عليه.
(ولم ير) أي: يعتقد (ابن عباس) رضي الله عنهما (بالقراءة للجنب)؛ أي: بقراءته القرآن (بأسًا)؛ أي: حرجًا، وهذا الأثر وصله ابن المُنْذِر بلفظ: (أن ابن عباس كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب، فقيل له في ذلك، فقال: ما في جوفي أكثر منه)، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا الثقفي، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أنه كان لا يرى بأسًا أن يقرأ الجنب الآية والآيتين)، ورخص الحافظ الطحاوي: قراءة ما دون الآية للجنب، والحائض، والنفساء، وصححه صاحب «الخلاصة»، ومشى عليه فخر الإسلام، ووجهه ما ذكره صاحب «المحيط»: أنَّ النظم والمعنى يقتصر فيما دون الآية، ويجري مثله في محاورات الناس وكلامهم، فتمكَّنت فيه شبهة عدم القرآن، فلهذا لا تجوز الصَّلاة به، والصحيح المنع مطلقًا؛ لأنَّ الأحاديث لم تفصِّل بين القليل والكثير كما سيأتي، وكان أحمد يرخِّص للجنب أن يقرأ الآية ونحوها، وبه قال مالك، وقد حكي عنه أنَّه قال: (تقرأ الحائض ولا يقرأ الجنب؛ لأنَّ الحائض إذا لم تقرأ؛ نسيت القرآن؛ لأنَّ أيام الحيض تتطاول، ومدة الجنابة لا تطول)، قال في «شرح المنية»: (قيل: يكره قراءة ما دون الآية على وجه الدعاء والثناء، وقيل: لا يكره، وهو الصحيح، قاله في «الخلاصة») انتهى.
قلت: فما ذكر عن ابن عباس هنا مبنيٌّ على أنه قصد الدعاء والثناء، ويدل عليه ما رواه ابن المُنْذِر عنه: أنَّه كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب، ولا يخفى أن الورد يقال بقصد الدعاء والثناء، ولهذا قال الفقيه أبو الليث في «العيون»: [إذا] قرأ الفاتحة على وجه الدعاء أو شيئًا من الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد القراءة؛ لا بأس به، وهو المختار كما في «غاية البيان»، واختاره شمس الأئمَّة الحلواني، والجمهور من أئمة الحنفية والشافعية وغيرهم أنَّه لا يجوز لحائض ونفساء وجنب قراءة القرآن؛ لقوله عليه السلام: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئًا من القرآن»، رواه الترمذي، وابن ماجه عن ابن عمر، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وشمل إطلاقه الآية وما دونها، وهو قول الإمام الكرخي، وصححه صاحب «الهداية»، والإمام قاضيخان، وحافظ الدين النسفي، وغيرهم، فالحديث حجَّة على إبراهيم النخعي، وعلى مالك، وأحمد، وغيرهم؛ لأنَّ (شيئًا) في الحديث نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، وما دون الآية قرآن، فيمتنع كالآية، وفيه نصٌّ على أن الحائض كالجنب في الأحكام المذكورة، فهو حجَّة على مالك في قوله: (إنها تقرأ القرآن)، وتعليله بأنها تنسى القرآن؛ لطول مدة الحيض؛ ممنوع؛ لأنَّ مدته لا تحتمل نسيانه؛ لأنَّها مهما تطاولت؛ لا تزيد على خمسة عشر يومًا على الخلاف وهي غير طويلة، ولا تحتمل نسيانه فيها على أنه قد يمكنها أن تقرأ في قلبها من غير تلفُّظ به؛ فافهم.
قال في «البحر»: وإنما يحرم إذا قصدأنَّه قرآن، أمَّا إذا قرأ على قصد الدعاء أو الثناء؛ فإنَّه لا يحرم، هذا إذا كان مشتملًا على الذكر، أما لو كان مشتملًا على حكم أو خبر؛ فلا يجوز ولو قصد الذكر فيه، كذا في «الخلاصة» و «الشرنبلالية»، وذلك كسورة (أبي لهب) ونحوها؛ فإنه لا يؤثر قصد غير القرآنية في حله؛ فليحفظ، وتمامه في «منهل الطلاب».
(وكان النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): مما وصله مسلم في «صحيحه» من حديث عائشة رضي الله عنها (يذكر اسم الله) أي: بالقرآن وغيره (على كل جنابة): ويروى: (على كل أحواله)، ويروى: (على كل أحيانه)، و (على كل) فيدخل فيه حال الجنابة، قال صاحب «عمدة القاري»: (وأراد البخاري بإيراد هذا وبما ذكره في هذا الباب الاستدلال على قراءة الجنب والحائض؛ لأنَّ الذِّكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وبه قال الطبري، وداود، وابن المُنْذِر) انتهى.
قلت: وظاهر هذا الحديث بل صريحه يدل على أن المراد بقوله: (يذكر اسم الله): الأذكار الغير القرآنية؛ كالبسملة، والحمدلة، والحوقلة، والحسبلة، وغيرها من الثناء على الله عزَّ وجلَّ، ومثلها الدعوات الواردة، ويدل عليه أنَّه لم يقيده بكونه من القرآن، فلو كان المراد به الأعم؛ لقيده، وعدم تقييده دليل على أنَّ المراد به الأذكار الغير القرآنية على أنَّ المراد بالذكر لغة وشرعًا الأذكار، وإن كان القرآن يسمَّى ذكرًا، وقد صرَّح في الحديث بلفظ (اسم الله)، وهو يدل على ما قلنا، وبهذا لا دلالة فيه للمؤلف؛ فافهم.
قال في «منهل الطلاب»: (وأما الأذكار؛ فالمنقول إباحتها لجنب وحائض مطلقًا، ويدخل فيها: «اللهم اهدنا فيما هديت ... » إلى آخره)، كذا في «البحر»، قال في «النهر»: (بلا خلاف).
واختلف في دعاء القنوت، وهو: «اللهم إنا نستعينك ... » إلى آخره الذي هو دعاء القنوت عند الأئمَّة الحنفية؛ فظاهر المذهب عن الإمام الأعظم: أنَّه لا يكره لهم، وعليه الفتوى كما في «الفتاوى الظهيرية» وغيرها، وروي عن الإمام محمَّد: أنه يكره؛ لشبهة كونه قرآنًا؛ لاختلاف الصحابة في كونه قرآنًا، فلا يقرؤه احتياطًا، قلنا: قد حصل الإجماع القطعي اليقين على أنَّه ليس بقرآن، ومعه لا شبهة توجب الاحتياط المذكور، نعم؛ المذكور في «الهداية» وغيرها: استحباب الوضوء لذكر الله تعالى، وترك المستحب لا يوجب كراهة، كما في «البحر»، وقال في «النهر»: (واختلف في دعاء القنوت، والفتوى على عدم كراهته؛ أي: تحريمًا، وإلا؛ فالوضوء لذكر الله مطلقًا مندوب، وتركه خلاف الأولى، وهو مرجع كراهة التنزيه، فما في «البحر» من أن ترك المندوب لا يوجب كراهة مطلقًا؛ ممنوع) انتهى، فافهم.
(وقالت أم عطية): مما وصله المؤلف في أبواب (العيدين) في أبواب (التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة عنها)، ولفظه: قالت: (كنا نؤمر)؛ أي: من قبل النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أن نُخرِج)؛ بنونٍ مضمومة، وكسر الراء، يوم العيد حتى تخرج البكر في خدرها، وحتى تخرج (الحِيَضَ)؛ بالنصب على المفعولية مع كسر الحاء المهملة، وفتح التحتية، وهذه رواية الأصيلي، وأبي ذر، وابن عساكر، وفي رواية: (أن يَخرج)؛ بمثناة تحتية مفتوحة، و (الحِيَضُ): مرفوع على الفاعلية، فيكنَّ خلف الناس، (فيكبِّرن بتكبيرهم، ويدعون): بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته، ورواه أيضًا في باب (خروج النساء الحيض إلى المصلى)، ووجه الاستدلال به ما ذكرناه من أنه لا فرق بين الذكر والتلاوة؛ لأنَّ الذكر أعم، كذا قاله في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أن (يدعون) لأكثر الرواة، وللكشميهني: (ويدعين)؛ بتحتية بدل الواو، فرده إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ حيث قال: (قلت: هذا الذي ذكره مخالف لقواعد التصريف؛ لأنَّ هذه الصيغة معتل اللام من ذوات الواو، ويستوي فيها جماعة الذكور والإناث في الخطاب والغيبة جميعًا، وفي التقدير مختلف، فوزن الجمع المذكر: يفعون، ووزن الجمع المؤنث: يفعلن، وسيأتي تمامه في محله) انتهى.
قلت: وظاهر هذا الحديث بل صريحه يدل على أن المباح للحائض والجنب الدعوات فقط الشاملة للذكر والتكبير، فلا دلالة فيه للمؤلف كما لا يخفى، يدلُّ عليه قولها: (فيكبرون بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم)، وهذا لا يشمل القرآن؛ لأنَّه لا يقال فيه: إنه دعاء وتكبير، كما لا يخفى، فالحقُّ ما عليه الجمهور أنَّ الجنب والحائض يحرم عليه قراءة القرآن كما ذكرنا، وقال أئمتنا الأعلام: واختلف المتأخرون في تعليم الحائض والجنب، والأصح: أنَّه لا بأس به إذا كان يلقِّن كلمة كلمة، ولم يكن من قصده أن يقرأ آية،
%ص 340%
كذا في «النهر» عن «الخلاصة»، قال في «النهاية»: (وهذا على تخريج الإمام الكرخي، أما على تخريج الحافظ الطحاوي؛ فتُعلِّم نصف آية) انتهى، وقال في «النهر»: (ولا يكره التهجي بالقرآن، وهو كالتعليم كلمة كلمة، لا يعد قارئًا ولا يسمى به) انتهى.
والمراد: أنه مع القطع بين كل كلمتين كما قيده صاحب «البحر» تبعًا لصاحب «النهاية»، ومثله: ما لو كانت الكلمة آية؛ كـ {ص}، و {ق}، ونحوها؛ فإنه يجوز كما نقله نوح أفندي في «الحواشي»، وفرَّق في «الجوهرة» بين الحائض والجنب: (بأن الحائض مضطرة إلى التعليم؛ لأنَّها لا تقدر على رفع حدثها، بخلاف الجنب؛ فلا يجوز له ذلك؛ لأنَّه قادر على رفع حدثه) انتهى، والمختار أنه لا فرق بين الحائض والجنب في حلِّ التلقين، كما قاله شيخ الإسلام نوح أفندي في «حواشيه»، وتمامه في «منهل الطلاب».
(وقال ابن عباس): هو عبد الله، حبر هذه الأمة، الرافع عنها الغمة، ترجمان القرآن، وبحر البيان، مما وصله المؤلف في (بدء الوحي) وغيره، ولفظه: (أخبرني) بالإفراد (أبو سفيان) هو ابن حرب: (أن هرقل) أرسل إليه في ركب من قريش إلى أن قام، ثم (دعا بكتاب النبي) الأعظم، وهناك: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم): الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، (فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم): «من محمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتَّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تولَّيت؛ فعليك إثم الأريسيين»، (و {يَا أَهْلَ الكِتَابِ})؛ بزيادة الواو في أكثر الروايات، وفي رواية: بإسقاطها ({تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ... }؛ الآية [آل عمران: 64])؛ بالرفع خبر المبتدأ محذوف؛ تقديره: هذه الآية، وبالنصب مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: اقرأ الآية، وهي {أَلَّانَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ... ؛ الحديث، وجه استدلال المؤلف به: أنَّه عليه السلام كتب إلى الروم وهم كفَّار والكافر جنب، كأنَّه يقول: إذا جاز مسِّ الكتاب للجنب مع كونه مشتملًا على آيتين؛ فكذا يجوز له قراءته، وحاصله أنَّه عليه السلام بعث للكفَّار القرآن مع أنَّهم غير طاهرين، فجوَّز مسهم وقراءتهم له، فدل ذلك على جواز القراءة للجنب، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وظاهر حديث هرقل بل صريحه يدلُّ على عدم جواز قراءة القرآن لجنب وحائض؛ لأنَّ المذكور في كتاب النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعض القرآن وهو آية، وذكر غيره من كلامه عليه السلام وهو أكثر من الآية، فصار كالتفسير الذي هو أكثر من القرآن؛ فإنه يجوز مسُّه وقراءته؛ لأنَّه لا يحرم في غير المصحف إلا المكتوب؛ أي: موضع الكتابة، كما صرَّح به في «البحر»، وقال في «الأشباه»: (وقد جوَّز أصحابنا مسَّ كتب التفسير للمحدث، ولم يفصِّلوا بين كون الأكثر تفسيرًا أو قرآنًا، ولو قيل به اعتبارًا للغالب؛ لكان حسنًا) انتهى، وفي «السراج»: (أنَّ كتب التفسير لا يجوز مسُّ موضع القرآن منها، وله أن يمسَّ غيره)، كذا في «الإيضاح».
قلت: وكتاب النبي عليه السلام لمَّا قُرِئ؛ العادة فيه أنَّه لا يمسُّ موضع الكتابة، بل المسُّ إنَّما يكون على الخارج عن الكتابة، كما هو العادة في المكاتبات، إذا علمت هذا؛ ظهر لك عدم جواز القراءة للجنب والحائض القرآن بقصد التلاوة، وما هنا فإنه قصد به قراءة المكتوب لا التلاوة، ولأن هذا شيء مأمور به شرعًا؛ لأجل الإنذار والدخول في الإسلام، ونظيره ما قاله أئمتنا الأعلام من أن الحربي أو الذمي إذا طلب تعلم القرآن والفقه والأحكام؛ يُعلَّم رجاء أن يهتدي، لكن يمنع من مس المصحف إلا إذا اغتسل؛ فلا يمنع بعد ذلك، كذا في «الخانية»، ومثله في «البحر» عن «التجنيس»، ولهذا قال لعليِّ [2] الصدِّيق الأصغر: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم»، فالنبي عليه السلام إنَّما قصده الاهتداء والدخول في الإسلام، فأنذره بهذا الكتاب الشريف الذي هو موجود عندهم إلى يومنا هذا يعظم ويتبرك به، وهو يدل على بقاء ملكهم ما دام الكتاب عندهم؛ لأنَّه كلام خالق الكونين، وكلام جد الحسنين عليه السلام.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح (عن جابر): هو ابن عبد الله الأنصاري، مما وصله المؤلف في كتاب (الأحكام) في باب (قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت»)، وفيه: قال جابر: (كنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلبينا بالحج، وقدمنا مكة ... ) إلى أن قال: (حاضت عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما؛ أي: حين قدمت مكة، فأمرها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن تنسك المناسك غير ألَّا تطوف ولا تصلي حتى تطهر، (فنَسَكت) بفتح النون، والسين المهملة (المناسك)؛ أي: أقامت بأمور الحج (كلها غير الطواف بالبيت) العتيق، وقوله: (ولا تصلي): يحتمل أن يكون من كلام البخاري، قاله في «عمدة القاري».
قلت: ففيه دليل على إباحة الأذكار والدعوات للحائض والجنب، وليس فيه دليل على جواز قراءة القرآن لهما، كما لا يخفى؛ فافهم.
(وقال الحكم)؛ بفتح الحاء المهملة، وفتح الكاف، هو ابن عُتَيْبَة _بضمِّ العين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة_، الكوفي، وهذا التعليق وصله البغوي في «الجعديات» من روايته عن علي بن الجعد، عن شعبة عنه قال: (إني لأذبح)؛ أي: الذبيحة (وأنا)؛ أي: والحال أني (جنب): فالجملة حالية، ولكن لا بدَّ أن أذكر الله تعالى، (وقال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]): فأراد بهذا أن الذبح مستلزم شرعًا لذكر الله تعالى بمقتضى هذه الآية، فدلَّ على أن الجنب يجوز له التلاوة، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وكونه يستلزم ذكر الله تعالى لا يلزم منه جواز التلاوة للجنب، بل الذي دلَّ عليه أنَّه يجوز له الأذكار والأدعية فقط، كما لا يخفى، وهذا الأثر دليل ظاهر على أنَّه لا تحل ذبيحة تارك التسمية عمدًا؛ لهذه الآية الكريمة، فإنَّها صريحة في ذلك، ولوصف ما لم يذكر اسم الله عليه بالفسق، حيث قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}: وهو النجس، فهي ميتة، ويحل ذبيحة تارك التسمية ناسيًا؛ لقوله عليه السلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ... »؛ الحديث، رواه الشيخان، وهذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله عنه، وهو مذهب علي، وابن عباس رضي الله عنهما، وقال الشافعي: تحل ذبيحة تارك التسمية عمدًا؛ لقوله عليه السلام: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليها»، وهو رواية عن مالك، ورد بالآية المذكورة، فإنها صريحة بخلافه، وعلى حرمة متروك التسمية عمدًا انعقد الإجماع فيمن كان قبل الشافعي، فهذا القول منه عُدَّ خرقًا للإجماع، وإنما كان الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيًا؛ فمذهب ابن عمر: أنَّه يحرم، ومذهب علي وابن عباس: أنَّه يحلُّ، ولهذا قال الإمام أبو يوسف: إنَّ متروك التسمية عمدًا لا يسوغ فيه الاجتهاد، حتى لو قضى القاضي بجواز بيعه؛ لا ينفذ قضاؤه؛ لكونه مخالفًا للإجماع، وما رواه الشافعي مخالف للدليل القطعي والإجماع، فكان مردودًا، وعلى فرض صحته يحمل على حالة النسيان ومشهور مذهب
%ص 341%
مالك كمذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، ومذهب أحمد: أنه يحرم ذبيحة متروك التسمية عمدًا أو نسيانًا، وإليه ذهب داود، وفي المشهور عن أحمد كمذهبنا، وسيأتي تمامه في محله إن شاء الله تعالى.
قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: واعلم أن البخاري ذكر في هذا الباب ستة من الآثار إلى هنا، واستدل بها على جواز قراءة الجنب القرآن، وفي كل ذلك مناقشة، ورد عليه الجمهور بأحاديث وَرَدَتْ بمنع الجنب عن قراءة القرآن؛ منها: حديث علي رضي الله عنه، أخرجه الأربعة؛ ولفظ أبي داود: حدثنا جعفر بن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلَمَة قال: دخلت على علي رضي الله عنه أنا ورجلان؛ رجل منا ورجل من بني أسد ... إلى أن قال: فدخل المخرج، ثم خرج فدعا بماء، فأخذ منه حفنة، فتمسح بها، ثم جعل يقرأ القرآن فأنكروا ذلك فقال: (إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يجيء من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة)، وقوله: (لا يحجزه)؛ بالزاي المعجمة؛ أي: لا يمنعه، ويروى بالراء المهملة أيضًا، ويروى: (لا يحجبه) بمعناه أيضًا.
فإن قلت: ذكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سَلَمَة، وحكى البخاري عن عمرو بن مرة كان عبد الله بن سَلَمَة يحدثنا فنعرف وننكر، وكان قد كبر، لا يتابع في حديثه، وذكر شعبة مثله كما نقله البيهقي، وذكر الخطابي أن أحمد كان يوهن حديث علي هذا، ويضعف أمر عبد الله بن سَلَمَة، وذكره ابن الجوزي في «الضعفاء والمتروكين»؟
قلت: الترمذي لما أخرجه؛ قال: (حديث حسن صحيح)، وصححه ابن حبان أيضًا، وقال الحاكم في عبد الله بن سَلَمَة: (إنه غير مطعون فيه)، وقال العجلي: (هو تابعي ثقة)، وقال ابن عدي: (أرجو أنه لا بأس به)، ومن الأحاديث حديث ابن عمر أخرجه الترمذي وابن ماجه عن إسماعيل بن عباس، عن موسى بن عُقْبَة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن».
ومنها حديث جابر رواه الدارقطني في «سننه» من حديث محمَّد بن الفضل، عن أبيه، عن طاووس، عن جابر مرفوعًا نحوه، ورواه ابن عدي في «الكامل» وهما ضعيفان، فإنَّ الأول ضعف بإسماعيل بن عباس، قال أحمد: (روايته عن أهل الحجاز ضعيفة)، والثاني أعله ابن عدي بمحمَّد بن الفضل، وأغلظ في تضعيفه على البخاري، والنسائي، وأحمد، وابن معين، قال إمام الشارحين: (وربما يعضدان بحديث علي المذكور، ولم يصح عند البخاري في هذا الباب حديث؛ فلذلك ذهب إلى جواز قراءة الجنب والحائض أيضًا، واستدل على ذلك بحديث عائشة الذي رواه مسلم، الذي ذُكِر عن قريب، فإنه قد صح عنده وعند غيره).
وقال الطبري: (الصواب أن ما روي عنه عليه السلام من ذكر الله على كل أحيانه، وأنه كان يقرأ ما لم يكن جنبًا؛ أن قراءته طاهرًا اختيارٌ منه لأفضل الحالتين والحالة الأخرى أراد تعليم الأمة أن ذلك جائز لهم غير محظور عليهم ذكر الله وقراءة القرآن) انتهى.
قلت: فيه نظر، بل الصواب أنه عليه السلام كان يقرأ طاهرًا تعظيمًا للقرآن، وكان يقرأ جنبًا بقصد الذكر لا التلاوة، على أنه ذكر الله على غير طهارة خلاف الأدب؛ لأنَّ حديث علي قد صححه الترمذي، وابن حبان، وغيرهما، والقول بضعفه شاذ، لا سيما قد اعتضد بالطرق، وبها يتقوى إلى درجة الصحيح، وإذا وجد الحاظر والمبيح؛ يقدم الحاظر عند المحققين، وشهادة الصحة إثبات، وشهادة الضعف نفي، والإثبات مقدم على النفي عند المدققين.
ولا دليل للمؤلف في حديث عائشة على جواز قراءة القرآن جنبًا؛ لأنَّ غاية [ما] في حديثها: أنه عليه السلام أمرها أن تنسك المناسك كلها غير ألَّا تطوف ولا تصلي حتى تطهر، ففيه دليل على جواز ذكر الله تعالى حالة الحيض، وليس فيه أنها تقرأ القرآن، فقياس الذكر على قراءة القرآن قياس مع الفارق؛ وإن كان القرآن يسمى ذكرًا.
وفيه دليل على منع قراءة القرآن حالة الحيض؛ لأنَّ قوله: (ولا تصلي ولا تطوفي) يلزم منه المنع عنها، فيدل على عدم الجواز، وقد اتفق الجمهور على المنع ولذلك مزيد كلام بينته في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (كأنها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (علي)، ولعله تحريف.
==================
[1] في الأصل: (كأنها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (كأنها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/520)
[حديث: خرجنا مع النبي لا نذكر إلا الحج فلما جئنا]
305# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون، هو الفضل بن دكين _بالدال المهملة_ (قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سَلَمَة) بفتحات، (عن عبد الرحمن بن القاسم)؛ هو ابن محمَّد، (عن) أبيه (القاسم بن محمَّد)؛ هو ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، (قالت: خرجنا مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) حال كوننا (لا نَذْكر)؛ بفتح النون، من الذُّكر _بضمِّ الذال المعجمة_، وفي الرواية السابقة: (لا نرى)؛ بضمِّ النون وفتحها؛ ومعناه: لا نظن (إلا الحج)؛ أي: إلا قصد الحج؛ لأنَّهم كانوا يظنون امتناع العمرة في أشهر الحج، فأخبرت عن اعتقادها عن الغالب من حال الناس، أو من حال الشارع؛ أمَّا هي فقد قالت: إنَّها لم تحرم إلا للعمرة، (فلما جئنا) وفي الرواية السابقة: (فلما كنت) (سَرِف)، وفي الرواية السابقة: (بسرف)؛ بزيادة الموحدة أوله، وهو بفتح السين المهملة، وكسر الراء، آخره فاء، اسم موضع قريب من مكة، بينهما نحوًا من عشر أميال، أو تسعة، أو سبعة، أو ستة، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، وقد يصرف نظرًا لإرادة المكان؛ (طمَثت)؛ بفتح الميم، وكسرها؛ أي: حِضْتُ، وهناك صرحت بقولها: (حضت)، (فدخل عليَّ)؛ بتشديد المثناة التحتية (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: إلى مكاني الذي أنا فيه، فرآني (وأنا أبكي): جملة اسمية وقعت حالًا بالواو، (فقال: ما) استفهامية؛ معناه: أي شيء (يبكِيكِ؟)؛ بكسر الكافين؛ أي: أي شيء أصابك، ومن شدته بكيت؟ (فقلت)؛ بتاء المتكلم؛ أي: له عليه السلام: (لودِدت)؛ بكسر الدال المهملة الأولى، وهو جواب قسم محذوف، والقسم التالي وهو قولها: (والله)؛ تأكيد له (أَني)؛ بفتح الهمزة (لم أحج العام)؛ أي: لم أقصد الحج في هذه السنة؛ لأنَّ قولها ذلك كان قبل شيء من الحج، (قال) عليه السلام لها: (لعلكِ)؛ بكسر الكاف (نَفست؟)؛ بفتح النون لا غير؛ أي: حضت، وجوز بعضهم الضم على قلة كما سبق، (قلت: نعم)؛ أي: نفستُ، (قال) عليه السلام: (فإن ذلكِ)؛ بكسر الكاف، وباللام، وفي رواية: (فإن ذاك)، وفي السابقة: (إن هذا) والمراد: الحيض (شيء) وفي السابقة: (أمرٌ) (كتبه الله على بنات آدم)؛ لأجل امتحانهنَّ به ليظهر صبرهنَّ وعدمه على العبادة فليس هو خاصًّا بك، وقصد عليه السلام تسليتها والتخفيف لهمِّها، (فافعلي) وفي السابقة: (فاقضي)، وهذا خطاب لعائشة، ومعناه: أدِّي (ما)؛ أي: الذي أو الشيء (يفعل)؛ أي: يؤدِّيه (الحاج)؛ أي: من المناسك، وهو اسم فاعل أصله: حاجج، والمراد به الجنس فيشمل الجمع، وتمامه قد مضى، (غيرَ) بالنصب (ألَّا)؛ بالشديد، أصله: أن لا، ويجوز أن تكون (أن) مخفَّفة من المثقلة، وفيه ضمير الشأن، و (لا) زائدة، وقوله: (تطوفي) مجزوم بـ (لا)؛ أي: لا تطوفي ما دمت حائضًا؛ لفقدان صحة الطواف؛ وهو الطهارة، ولهذا قال: (حتى تطهري)؛ أي: بانقطاع الحيض وإن لم تغتسلي، ومثلها النفساء والجنب، فإنَّ الاغتسال ليس بشرط لصحَّة الطواف، لكنه واجب فلو طافت بعد الانقطاع للركن؛ يجب عليها بدنة، ولو حاضت عند طواف الصَّدَر؛ تركته؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إنه عليه السلام أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)، متفق عليه، وقال الشافعي: لا بدَّ لصحة الطواف من الانقطاع والغسل؛ لحديث: «الطواف بالبيت صلاة» فيشترط له ما يشترط لها، ورُدَّ بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29]، واشتراط الطهارة بخبر الواحد زيادة على النصِّ، وهو نسخ فلا يثبت فيه، والمراد من التشبيه إنَّما هو في الثواب دون الحكم، ألا ترى أن الانحراف والمشي فيه لا يفسده؟! ولا يلزم موافقة المشبه المشبه به في جميع الوجوه، فإنك إذا قلت: زيد كحمار؛ يعني: في عدم الفهم؛ فلا يلزم أنَّه يمشي على أربع، وسيأتي تمامه في (الحج)، إن شاء الله تعالى.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ فإن المرأة إذا حاضت بعد الإحرام تأتي بأفعال الحج كلها غير أنها لا تطوف بالبيت، فإن طافت بعد الانقطاع؛ صح طوافها وعليها بدنة؛ لعدم الاغتسال.
وفي الحديث جواز البكاء والحزن لأجل حصول مانع للعبادة، وفيه أن العبد إذا وقع في مصيبة؛ لا بأس لغيره أن يسلِّيه بمثلها في غيره، ويخفِّفها عنه، كأن يقول له: انظر لفلان، فإنه حصل له كذا وكذا مثلها، والله أعلم.
%ص 342%
==================
(1/521)
(8) [باب الاستحاضة]
هذا (باب) حكم (الاستحاضة): وهي جريان دم المرأة من فرجها في غير أوانه، وهو أنواع:
الأول: ما تراه المرأة في أقل من ثلاثة أيام التي هي أقل مدة الحيض.
الثاني: ما تراه المرأة في أكثر من عشرة أيام التي هي أكثر مدة الحيض، فالناقص عن الأقل والزائد على الأكثر استحاضة؛ لأنَّ الشارع لما بين أقله وأكثره؛ علم أن الناقص عن الأقل والزائد على الأكثر؛ استحاضة ضرورة.
الثالث: ما زاد على حيض المبتدئة وحيضها عشرة من كل شهر؛ فهو استحاضة.
الرابع: ما زاد على نفاس المبتدئة؛ وهو أربعون.
الخامس: ما زاد على العادة في الحيض والنفاس، وجاوز أكثرهما؛ أي: عادة عرفت لحيض وجاوزت العشرة، أو نفاس وجاوز الأربعين، فإذا كان لها عادة معروفة في الحيض؛ كسبعة مثلًا فرأت الدم اثني عشر يومًا فخمسة أيام بعد السبع استحاضة، وإذا كانت لها عادة معروفة في النفاس؛ كثلاثين يومًا مثلًا، فرأت الدم خمسين يومًا فالعشرة التي بعد الثلاثين استحاضة، كذا في (الدرر).
وإنما لم يقل: فالعشرون التي بعد الثلاثين؛ لأنَّ المحتاج إلى البيان العشرة التي بعد الثلاثين.
السادس: ما تراه الحامل؛ فإنه استحاضة ولو في حال الولادة؛ لأنَّ الله تعالى أجرى عادته بانسداد فم الرحم ما دام الولد فيه؛ حتى قالوا: إن الدم يكون غذاء للولد، والرحم كالقربة، له أفواه قيل: خمسة، وقيل: أكثر.
وأقل مدة تحيض فيها المرأة تسع سنين، وهي أقل مدة لو ادعت فيها الأنثى البلوغ؛ صدقت؛ لأنَّ الحيض لا يعلم إلا منها، وأقل مدة الحمل ستة أشهر، وأكثره سنتان.
السابع: ما تراه الآيسة؛ فإنه استحاضة؛ وهي من بلغت خمسين سنة، أو خمسًا وخمسين سنة.
الثامن: ما تراه الصغيرة؛ فإنه استحاضة؛ وهي ما دون تسع سنين.
التاسع: ما تراه المريضة مرض الرحم؛ فإنه استحاضة، وتمامه في (منهل الطلاب)، والتتبع ينفي الحصر.
==================
(1/522)
[حديث: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة]
306# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن هشام بن عُرْوة) بضمِّ العين المهملة، وسكون الراء المهملة أيضًا، هو ابن الزبير، وسقط لابن عساكر: (بن عروة)، (عن أبيه) هو عروة المذكور ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (أنها قالت) أي: عائشة: (قالت فاطمة بنت أبي حُبَيْش) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره معجمة، القرشية الأسدية، واسم أبي حبيش قَيْس بن عبد المطلب بن أسد، هذا هو الصواب، وما قيل: إنَّه ابن المطلب؛ فخطأ ظاهر؛ فافهم، (لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) متعلق بقوله: (قالت): (يا رسول الله؛ إني) امرأة (لا أطهر) بضمِّ الهاء؛ أي: لا ينقطع دمي على العادة، بل يستمر، ووجه استعمالها (إنَّ) هنا؛ لتحقيق نفس القضية إذ كانت بعيدة عن الوقوع نادرة الوجود، فلهذا أكدت قولها بكلمة (إنَّ)؛ لأنَّ كلمة (إنَّ) لا تستعمل إلا عند إنكار المخاطب؛ لدخوله أو التردد فيه، ولم يكن النبيُّ الأعظم عليه السلام منكرًا لاستحاضتها ولا تردد فيها، وظنَّت أن طهارة الحائض بالانقطاع؛ فكنَّت بعدم الطهر عن اتصال الدم، وكانت علمت أن الحائض لا تصلي، وظنَّت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم من الفرج، فأرادت تحقيق ذلك.
فقالت: (أفأدع) أي: أفأترك (الصَّلاة؟) أي: جنسها؛ فرضها، وواجبها، ونفلها، (فقال رسول الله) وللأصيلي: (النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): لا تدعي الصَّلاة أيام استحاضتك، ومثلها الصوم؛ والمعنى: صلي وصومي ولو قطر الدم على الحصير.
فإن قلت: في هذا التركيب وجدت الهمزة؛ وهي تقتضي عدم المسبوقية بالغير، ووجدت الفاء؛ وهي تقتضي المسبوقية به، فكيف يجتمعان؟
قلت: الهمزة مقحمة وتوسطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة؛ لعدم انسحاب ذكر الأول على الثاني، أو الهمزة ليست باقية على صرافة الاستفهامية؛ لأنَّها للتقرير هنا فلا تقتضي الصدارة أو هو عطف على مقدر؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟ قاله الكرماني.
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (هذا سؤال على استمرار حكم الحائض في حالة دوام الدم وإزالته؛ وهو كلام من تقرر عنده أن الحائض ممنوعة من الصَّلاة) انتهى.
والحاصل: أن في مثل هذا التركيب وجهين؛ أحدهما: وعليه جمع أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها، وثانيهما: وعليه جرى الإمام جار الله أن الفاء للعطف على مقدر بين الهمزة والفاء؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟
قال عليه السلام: (إنما ذلكِ) بكسر الكاف (عِرْق) بكسر العين المهملة، وسكون الراء المهملة أيضًا، وهو المسمى بالعاذِل _بالعين المهملة، والذال المعجمة المكسورة وقد تهمل، وباللام أو بالراء_ أي: دم عرق انفجر ليس من الرحم، وعلامته أنه أحمر رقيق لا رائحة له، (وليس بالحَيضة) بفتح الحاء المهملة؛ لأنَّه عليه السلام أراد إثبات الاستحاضة ونفي الحيض، وقيل: بكسرها على إرادة الحال، والفتح هو الأظهر هنا، بل المتعين، وعليه أكثر المحدثين، بل كلهم؛ فافهم.
وإنَّما لم يكن حيضًا؛ لأنَّ دم الحيض متغير اللون، ثخين، منتن الرائحة، لذاع _بالذال المعجمة، ثم العين المهملة_؛ لأنَّ ما كان بغير الحيوان كالنار؛ فهو لذع_بالمعجمة ثم المهملة_ وما كان بالحيوان ذي السم كالعقرب؛ فهو لدغ_بالمهملة، ثم المعجمة_ ولم يرد إهمالهما معًا ولا إعجامهما كذلك، وقد نظم بعضهم ذلك فقال:
فلدغ لذي سم بإهمال أول ... وفي النار بالإهمال للثان فاعرفا
والاعجام في كل والإهمال فيهما ... من المهمل المتروك حقًّا بلا خفا
ومعنى كونه لذاعًا: محرق؛ أي: موجع ومؤلم، كذا في «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب، اللهم؛ فرج عني والمسلمين بجاه النَّبيِّ عليه السلام والآل والأصحاب.
(فإذا أقبلت) أي: وجدت (الحَيضة) بفتح الحاء المهملة أيضًا، ويجوز كسرها على ضعف؛ (فاتركي الصَّلاة) فرضها ونفلها، ومثلها الصوم، والطواف، وغيرها، ففيه نهي المستحاضة عن الصَّلاة في زمن الحيض وهو نهي تحريم، ومقتضاه فساد الصَّلاة هنا، وهو إجماع، وظاهر الحديث يعم الصَّلاة المفروضة والنافلة، ويتبعها الطواف وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة والشكر وغيرها.
(فإذا ذهب قدرها) أي: قدر الحيضة، وفي الرواية السابقة: (وإذا أدبرت)، والمراد: انقطاع الحيض، وعلامته: الزمان والعادة، فهو الفصيل، فإذا أضلت عادتها؛ تحرت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل، (فاغسلي عنكِ) بكسر الكاف (الدم) أي: دم الحيضة، (وصلِّي) أي: بعد الاغتسال، كما سيأتي التصريح به في باب (إذا حاضت في شهر ثلاث حيض)، وفي لفظ: (فدعي الصَّلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)، وفي لفظ: (ثم توضئي لكل صلاة)، وفي لفظ: (تغتسل الغسل الأول، ثم تتوضأ لكل صلاة)، وعند أبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها: (أنَّ أمَّ حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فاستفتت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ هذه ليست بالحيضة ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي»، وكانت تغتسل في مركز في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو
%ص 343%
حمرة الدم على الماء)، وعنده من حديث عائشة: (أن سهلة بنت سهل استحيضت، فأتت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك؛ أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح)، وعنده من حديث عائشة أيضًا قالت: (استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمرت أن تعجل العصر، وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلًا، وأن تؤخر المغرب، وتعجل العشاء، وتغتسل لهما، وتغتسل لصلاة الصبح)، وعنده من حديث عائشة: (المستحاضة تغتسل مرة واحدة، ثم تتوضأ إلى أيام أقرائها)، وفي لفظ: (فاجتنبي الصَّلاة إثر محيضك، ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وإن قطر الدم على الحصير)، وعند أبي عوانة الإسفراينيِّ: (فإذا ذهب قدرها؛ فاغسلي عنك الدم)، وعند الترمذي مصححًا: (توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت)، وعند الإسماعيلي: (فإذا أقبلت الحيضة؛ فلتدع الصَّلاة، وإذا أدبرت؛ فلتغتسل ولتتوضأ لكل صلاة)، وعند الحافظ الطحاوي مرفوعًا: (فاغتسلي لطهرك، وتوضئي عند كل صلاة)، وعند الدارمي: (فإذا ذهب قدرها؛ فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلِّي).
قال هشام: (وكان أبي يقول: تغتسل غسل الأول، ثم ما يكون بعد ذلك؛ فإنها تطهر وتصلي)، وعند أحمد: (اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وصلي)، وقال الشافعي: ذكر الوضوء عندنا غير محفوظ ولو كان محفوظًا؛ لكان أحب إلينا من القياس.
وفي «التمهيد» رواه أبو حنيفة الإمام الأعظم عن هشام مرفوعًا، كرواية يحيى عن هشام سواء قال فيه: (وتوضئي لكل صلاة)، وكذلك رواه حمَّاد بن سَلَمَة عن هشام مثله، وقال حمَّاد في هشام: (ثقة ثبت).
وروى سبط ابن الجوزي عن الإمام الأعظم أنه عليه السلام قال: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة»، وفي «شرح مختصر الحافظ الطحاوي»: روي عن الإمام الأعظم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أنَّ النَّبيَّ عليه السلام قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «توضئي لوقت كل صلاة»، فالوضوء محفوظ في الروايات، وهذا محكم لا يحتمل غيره بالنسبة إلى كل صلاة بخلاف: (توضئي لكل صلاة)، فإن لفظ (الصَّلاة) شاع استعمالها في لسان الشرع والعرف في وقتها؛ فمن الأول: قوله عليه السلام: «إن للصلاة أوَّلًا وآخرًا»؛ أي: لوقتها، فوجب حمل (توضئي لكل صلاة) على المحكم؛ لأنَّ اللام للوقت؛ كما في قوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]؛ أي: زوالها، فكان ما رواه الشافعي نصًّا محتملًا للتأويل، وما رواه الإمام الأعظم مفسر لا يحتمل التأويل، فيترجح عليه كما عرف في موضعه، على أن الحفاظ اتفقوا على ضعف ما رواه الشافعي؛ كذا حكاه النووي في «المهذب»، وباقي أصحاب الأعذار في حكم المستحاضة، فالدليل يشملهم.
قال في «عمدة القاري»: ووطء المستحاضة جائز في حال جريان الدم عند جمهور العلماء، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وحكاه ابن المُنْذِر عن ابن عباس، وابن المسيب، والحسن، وعطاء، وسَعِيْد بن جبير، وقتادة، وحمَّاد بن سليمان، والأوزاعيِّ، والثوري، ومالك، وإسحاق، وأبي ([1]) ثور، والشافعيِّ، والمزنيِّ، تعلقوا بما في كتاب أبي داود بسند جيد: (أنَّ حمنة كانت مستحاضة وكان زوجها يأتيها).
قال ابن المُنْذِر: وروِّينا عن عائشة أنها قالت: (لا يأتيها زوجها)، وبه قال النخعيُّ، والحكم، وسليمان بن يسار، والزُّهْرِيُّ، والشعبيُّ، وابن عُليَّة، وكرهه ابن سيرين، وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها، وفي رواية: (لا يجوز وطؤها إلا أن يخاف زوجها العنت)، وقال أئمتنا الأعلام: ودم الاستحاضة كرعاف لا يمنع الصوم، ولا الصَّلاة ولو نفلًا، ولا الوطء وإن لزم منه تلطخ بالدم، ولا قراءة القرآن، ولا مس المصحف، ولا دخول المسجد، ولا الطواف إذا أمنت من اللوث؛ كذا في «شرح النقاية» للقهستانيِّ عن «الخزانة». وقال منصور: تصوم ولا يأتيها زوجها، ولا تمس المصحف، وتصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل، وقال الإمام الأعظم: طهارتها مقدرة بالوقت، وتصلي في الوقت بطهارتها الواحدة ما شاءت من الفرائض والنوافل، وهو محكيٌّ عن الثوريِّ، وعروة، وأبي ثور، ورواية عن أحمد.
وقال الشافعيُّ: لا تصلي بطهارة واحدة أكثر من فريضة واحدة مؤداة ومقضية، وفي وجه له: لا يستبيح النافلة أصلًا.
وقال مالك وربيعة وداود: دم الاستحاضة لا ينقض الوضوء، فإذا تطهرت؛ فلها أن تصلي بطهارتها ما شاءت إلا أن تحدث بغير الاستحاضة.
وقال صاحب «عمدة القاري»: ويصح وضوءها لفريضة قبل دخول وقتها خلافًا للشافعيِّ، ولا يجب عليها اغتسال لشيء من الصلوات، ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها، وبه قال جمهور العلماء، وهو مذهب الإمام الأعظم، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول عروة، وأبي سَلَمَة، ومالك، وأحمد، وروي عن ابن عمر وعطاء بن أبي رباح وابن الزبير أنهم قالوا: يجب عليها أن تغتسل كل يوم غسلًا واحدًا، وعن ابن المسيب والحسن: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر، انتهى.
فائدة: ذكر إمام الشارحين: أنه كان في زمنه عليه السلام جماعة من النساء مستحاضات؛ منهنَّ: أم حبيبة بنت جحش، وسيأتي حديثها، وزينب أم المؤمنين، وأسماء أخت ميمونة لأمها، وفاطمة بنت أبي حبيش، وحمنة بنت جحش ذكرها أبو داود، وسهلة بنت سهل ذكرها أيضًا، وكذا زينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة ذكرها العلاء بن المسيب، عن الحكم، عن أبي جعفر محمَّد بن علي بن حسين، وزينب بنت أم سَلَمَة ذكرها الإسماعيلي في جمعه لحديث يحيى بن أبي كثير، وأسماء بنت مرشد الحارثيَّة ذكرها البيهقي، وبادية بنت غيلان ذكرها ابن الأثير قال: (قلت: هي الثقفية ([2]) التي قال عنها هيت المخنث: تقبل بأربع وتذهب بثمان، تزوجها عبد الرحمن بن عوف، وأبوها أسلم، وتحته عشرنسوة) انتهى، والله تعالى أعلم.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ لأنَّه في حكم الاستحاضة، ومرَّ هذا الحديث في باب (غسل الدم)، وصرَّح به بالاستحاضة، وذلك في رواية أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: يا رسول الله؛ إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصَّلاة؟ ... ؛ الحديث؛ كذا في «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي، وعليه توكلي واعتمادي.
==========
[1] في الأصل: (وأبو).
[2] في الأصل: (الثقيفة)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (وأبو).
[1] في الأصل: (وأبو).
(1/523)
(9) [باب غسل دم المحيض]
هذا (باب) بيان (غَسل) بفتح الغين المعجمة (دم الحيض) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية: (المحيض) بالميم، وفي أخرى: (الحائض)، وقد ذكر في كتاب (الوضوء)، باب (غسل الدم)، وهو أعم من هذه الترجمة، كما لا يخفى.
==========
%ص 344%
==================
(1/524)
[حديث: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه]
307# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ هو التنيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، (عن هشام) زاد الأصيلي: (ابن عروة)؛ هو ابن الزبير، (عن فاطمة بنت المُنْذِر)؛ هو ابن الزبير بن العوام زوجة هشام المذكور وابنة عمه، (عن أسماء بنت أبي بكر الصديق) رضي الله عنهما، وفي رواية سقط لفظ (الصديق)، وهي جدة فاطمة وزوجها لأبويهما المعروفة بذات النطاقين أم عبد الله بن الزبير، وهي آخر المهاجرات وفاة، توفيت في جمادى الأول، سنة ثلاث وسبعين بمكة بعد ابنها عبد الله بأيام، بلغت مئة سنة، لم يسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل رضي الله عنها (أنها قالت) أي: أسماء: (سألت امرأةٌ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) والمرأة السائلة هي أسماء بنت يزيد التي يقال لها: خطيبة النساء، وقيل: هي أسماء بنت مَشكَل؛ بفتحتين، قال جماعة من المحدثين: والأولى هي الصواب، وقواه النووي واعتمده، وما قيل: إنَّها أسماء بنت أبي بكر المذكورة، وأبهمت نفسها لغرض؛ فقد ردَّه النووي، وقدمنا أنَّها لو كانت هي السائلة؛ لم تبهم نفسها؛ لأنَّه لا عذر لها، ولا غرض فيه، بل التصريح أشرف وأحسن لها، لا يقال: إن الحياء منعها من التصريح؛ لأنَّا نقول: هذا حكم شرعي، والنَّبيُّ الأعظم عليه السلام نهى عن الحياء في الأحكام الشرعية والسؤال عنها، ولهذا إنَّ أم سليم لما أتته تسأله قالت: إن الله لا
%ص 344%
يستحي من الحق، فالحياء من الحق مذمومٌ شرعًا، وأسماء رضي الله عنها من كبار الصحابة المهاجرات، وهي أشد اتباعًا لسنة النَّبيِّ الأعظم عليه السلام فلا يمنعها ذلك؛ فافهم، والله أعلم.
(فقالت: يا رسول الله؛ أرأيت)؛ أي: أخبرني، وفيه تجوز لإطلاق الرؤية وإرادة الإخبار؛ لأنَّ الرؤية سبب الإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر؛ بجامع الطلب، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم، (إحدانا) بالنصب مفعول (أرأيت) على معنى: أخبرني عن إحدانا، وجوز في «عمدة القاري» رفعه على الابتداء، والجملة بعده خبره.
قلت: وهو معنًى صحيحٌ؛ لأنَّه على معنى الاستئناف، فكأنها قالت: أخبرني حكم؛ وهو إحدانا ... إلخ؛ فافهم.
(إذا أصاب ثوبَها الدمُ) بالرفع فاعل (أصاب)، وبنصب (ثوب) على المفعولية، (من الحَيضة)؛ بفتح الحاء المهملة، متعلق بقوله: (أصاب)، وجملة (كيف تصنع؟)؛ أي: في الثوب المذكور محلها نصب على أنها مفعول ثان لـ (رأيت)، أو بدل من الأول، أو لا محل لها، أو محلها الرفع؛ فتأمل.
(فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) لها في الجواب: (إذا أصاب ثوب) بالنصب مفعول (أصاب) (إحداكن الدم) بالرفع فاعله (من الحَيضة) بفتح الحاء المهملة أيضًا؛ (فلتَقْرُصه)؛ أي: الدم الموجود في الثوب المذكور، وهو بفتح الفوقية، وسكون القاف، وضم الراء، وبالصاد المهملة الساكنة؛ أي: تدلكه بأطراف الأصابع حتى تقلع الأثر، قال في «المحكم»: (القرص ([1]): التخميش، والغمز بالإصبع)، وقدمنا تمامه، (ثم لتَنضَحُه) بفتح الفوقية، بعدها نون، وبفتح الضاد المعجمة، وضم الحاء المهملة، من باب (فتح)، وما قيل: إنَّه بكسر الضاد المعجمة؛ فقد غلط، ووفق بعضهم بأن الفتح أفصح، والكسر لغة، ولا ريب أن غير الفصيح شاذ وغلط، فتعين الفتح فقط، وقدمنا تمامه؛ فافهم، والمراد بالنضح: الغسل؛ أي: تغسله، ويدل له قوله في الحديث السابق: (فاغسلي عنك الدم)، فهو يعين أن المراد بالنضح في كلامهم: الغسل لا غير؛ فافهم، والمراد: أنها تفرك مواضع الدم بأطراف أصابعها (بماء)؛ أي: مع صب عليه؛ ليتخلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه، ولا يضر بقاء أثرٍ شقَّ زواله، فلا يتكلف في إزالته لنحو صابون، أو أشنان، أو ماء حار، أو غيرها؛ فإنه غير لازم للحرج، وهو مدفوع بالنص، والحك بالضلع، والماء المملح الواقع في بعض الروايات إن صح؛ فهو محمول على الندب لا الوجوب؛ لأنَّ الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر ذلك، كما أوضحناه فيما سبق، (ثم لتصلي فيه)؛ أي: بذلك الثوب، فقد علمت أن الضمير المنصوب في (فلتقرصه) يرجع إلى الدم الذي أصاب الثوب، والضمير في قوله: (لتنضحه) يرجع إلى الماء، وهذا هو الأصل في إرجاع الضمير.
واستدل الإمام محمَّد بن الحسن والشافعي بهذا الحديث على أنَّ النجاسات إنَّما تزال بالماء دون غيره من المائعات الطاهرة؛ لأنَّ جميع النجاسات بمثابة الدم إجماعًا.
قلت: وهو مردود؛ فإن ذكر الماء في الحديث خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، والمعنى في ذلك: أن الماء أكثر وجودًا من غيره، فصرح به باعتبار الكثرة والغالب، ورد أيضًا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينفي الحكم عما عداه، ورد أيضًا بأن هذا مفهوم اللقب، وهو غير حجة عند الشافعي، ويدل لهذا حديث عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض؛ قالت بريقها، فمصعته بظفرها)، وعند أبي داود: (بلته بريقها)، فلولا أن الريق مطهِّر؛ لزادت النجاسة، فعلم أن الرِّيق وغيره من المائعات الطاهرة مطهر للنجاسة كالماء، فلا خصوصية للماء في ذلك، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور.
واعترض باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره، ثم غسلته بعد ذلك.
قلت: وهذا احتمال بعيد بارد؛ لأنَّه لا دليل يدل على أنها غسلته بعد ذلك، بل ظاهره صريح في أنها اقتصرت على الريق، ولئن سلمنا أنها غسلته؛ فبالغسل يحصل تحليل أثره من غير احتياج إلى مضغه أو بله بريقها، فعلم بذلك أنها لم تغسله، ومضغه أو بله بريقها دليل على أنها لم تغسله، وهو كذلك؛ لأنَّه لم يثبت عنها ذلك ولا أحد نقله عنها، فاحتمال الغسل بعد ذلك دعوى باطلة لا يعتد بها، على أن المقصود من تطهير النجاسات إزالة عينها وأثرها، والمائعات الطاهرات وكذا الريق لا ريب أنها تزيل العين والأثر، وبها يحصل المقصود، فلا خصوصية للماء، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وفي الحديث دليل على أن الدم نجس، وهو بالإجماع، وفيه دلالة على أن العدد ليس بشرط في إزالة النجاسة، بل المراد الإنقاء، وفيه دليل على أنها لم تر في ثوبها شيئًا من الدم ترش عليه، وتصلي فيه لأجل دفع الوسوسة، وتمامه فيما قدمناه؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (القرض)، وهو تصحيف، وكذا في بعض المواضع اللاحقة.
==================
(1/525)
[حديث: كانت إحدانا تحيض ثم تقترص الدم من ثوبها]
308# وبالسَّند قال: (حدثنا أصبغ) بالصاد المهملة، بعدها موحدة، آخره غين معجمة، هو ابن الفرج الفقيه المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن وهب) هو عبد الله بن وهب المصري (قال: حدثني) وفي رواية: (أخبرني) بالإفراد فيهما (عَمرو) بفتح العين المهملة (بن الحارث) بالحاء المهملة، هو المصري، (عن عبد الرحمن بن القاسم) هو ابن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه (حدثه) أي: حدث عمرو بن الحارث، (عن أبيه) هو القاسم بن محمَّد، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنه أنها (قالت: كانت إحدانا)؛ أي: غير زوجات النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومعناه: أنهنَّ لم يصبن ذلك في زمنه عليه السلام، وهذا المعنى منتفٍ، وحكم هذا الحديث الرفع، ويؤيده حديث أسماء الذي قبله، وقال ابن بطال: حديث عائشة يفسر حديث أسماء، والمراد بالنضح في حديث أسماء: الغسل، وأما قول عائشة: (وتنضح على سائره)؛ فإنما فعلت ذلك؛ دفعًا للوسوسة، كذا في «عمدة القاري».
(تحيض، ثم تقرص) بالقاف، والصاد المهملة على وزن (تفعِل)؛ أي: تغسله بأطراف أصابعها، وفي رواية: (تقترص) بزيادة مثناة فوقية، وبالصاد المهملة على وزن (تفتعل) (الدم من ثوبها)؛ أي: دم الحيض، وقال ابن الجوزي: معنى (تقرص): تقطع كأنها تحوزه دون باقي المواضع، والأول أشبه بحديث أسماء؛ لأنَّ فيه: (فلتقرُصه)؛ بالقاف، وضم الراء، والصاد المهملة، وإنما أمر النَّبيُّ عليه السلام بالقرص؛ لأنَّ الدم وغيره مما يصيب الثوب إذا قرص؛ كان أحرى بأن يذهب أثره، وينقى الثوب منه؛ لأنَّ القرص يكون بالإصبعين، وهو قلعه وإزالته بهما، (عند طهرها) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية: (عند طهره) أي: الثوب؛ أي: عند إرادة تطهيره، (فتغسله)؛ أي: الثوب بالماء وبكل مائع طاهر بأطراف أصابعها، (وتنضح) بالضاد المعجمة، والحاء المهملة؛ أي: الماء؛ أي: ترشه (على سائره) أي: سائر الثوب؛ لأجل دفع الوسوسة، (ثم تصلي فيه)؛ لأنَّه طاهر، وفي الحديث دليل على أن النجاسة في الثوب إذا خفي مكانها وتحرى وغسلها؛ طهر الثوب، ويرش على باقيه الماء؛ دفعًا للوسوسة، وفيه دليل على استحباب رش الماء على السراويل بعد الاستنجاء، وفيه دليل على أن العدد ليس بشرط في تطهير النجاسة، بل المقصود إنقاء المحل من العين والأثر، والله تعالى أعلم.
وفي يوم الثامن من رمضان سنة سبع وسبعين ومئتين وألف جاءت البوسطة من بيروت من أبرص من الماغوصه بنعي شيخنا وسيدنا العلامة الكبير والنحرير الشهير السيد محمَّد عمر نور الدين الغزيِّ العامري، مفتي الشافعية بدمشق، ودفن هناك، قدس سره، ورحمه الله رحمة واسعة، ألا وهو رأس تاج أهل دمشق، وفريد الأعصار، ونور الأمصار، ولبيب المعاني، وفصيح المباني، درة المحدثين، وخاتمة المحققين، ولا غرو؛ فإنه الشافعي الصغير، والهمام النحرير، نفعنا به في الدارين آمين.
==========
%ص 345%
==================
(1/526)
(10) [باب الاعتكاف للمستحاضة]
هذا (باب) حكم (اعتكاف) المرأة (المستحاضة) في المسجد؛ يعني: يجوز اعتكاف المستحاضة إذا أمنت التلوث منها للمسجد، والاعتكاف في اللغة: هو اللبث، والعكف: هو الحسن، وفي الشريعة: هو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف، وفي رواية: (باب الاعتكاف للمستحاضة)، وأكثر الروايات على ما ذكرنا؛ فافهم.
==========
%ص 345%
==================
(1/527)
[حديث: أن النبي اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم]
309# وبالسَّند قال: (حدثنا إسحاق بن شاهِين)؛ بكسر الهاء، أبو بِشْر؛ بكسر الموحدة، وسكون الشين المعجمة، الواسطي، جاوز المئة، وفي رواية: سقط: (بن شاهين)، وبدله: (الواسطي) (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (خالد بن عبد الله) هو أبو الهيثم؛ بالمثلثة، الطحان، المتصدق بوزن نفسه فضة ثلاث مرات، (عن خالد) هو ابن مهران الذي يقال له: الحذَّاءبالحاء المهملة، والذال المعجمة المشددة، وبالمد، (عن عِكرمة) بكسر العين المهملة، هو ابن عبد الله،
%ص 345%
ومولى ابن عباس رضي الله عنهما، أصله بربري، ثقة، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا ثبتت عنه بدعة، واحتج به المؤلف، وأصحاب السنن، وأثنى عليه غير واحد من أهل عصره وكل عصر، والله أعلم، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: (إنَّ النَّبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم اعتكف معه) أي: في مسجده النبوي (بعضُ) بالرفع فاعل (اعتكف) (نسائه) قيل: هي سودة بنت زمعة، وقيل: هي رملة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وقيل: هي زينب بنت جحش الأسدية أول من مات من أزواج النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعده، (وهي مستحاضة): جملة اسمية وقعت حالًا، ووجه التأنيث مع أن لفظة (هي) ترجع إلى لفظ (بعض) اكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه، أو التأنيث باعتبار ما صدق عليه لفظ البعض وهو المراد، وإنما لحق تاء التأنيث في المستحاضة وإن كانت الاستحاضة من خصائص النساء؛ للإشعار بأن الاستحاضة حاصلة لها بالفعل، كذا في «عمدة القاري»، (ترى الدم): جملة من الفعل والفاعل والمفعول، صفة لازمة للمستحاضة، وهو دليل على أن المراد: أنَّها كانت في حال الاستحاضة، لا أنها من شأنها الاستحاضة؛ يعني: أنها مستحاضة بالفعل لا بالقوة، ويجوز أن تكون الفاء في قوله: (فربما) لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، وإنما لم يجز أن يقال: المستحيضة على بناء المعلوم؛ لأنَّ المتبع هو الاستعمال وهو لم يستعمل إلا مجهولًا؛ كما في (جُنَّ) من الجنون، وقال الجوهري: (استحيضت المرأة؛ استمر بها الدم بعد أيامها، فهي مستحاضة)، وقال ابن الجوزي: ما عرفنا من أزواج النبي [صلى الله] عليه وسلم من كانت مستحاضة، والظاهر: أنَّها ([1]) عائشة رضي الله عنها؛ إشارة بقولها: (من نسائه)؛ أي: من النساء المتعلقات به، وهي أم حبيبة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبي عليه السلام.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: كأن ابن الجوزي ذهل عن الروايتين في هذا الباب؛ أحدهما: (امرأة من أزواجه)، والأخرى: (كان بعض أمهات المؤمنين اعتكفت وهي مستحاضة) على ما يأتي قريبًا، وأيضًا فقد يبعد أن يعتكف مع النبي عليه السلام امرأة من غير زوجاته وإن كان لها به تعلق، وذكر ابن عبد البر أن بنات جحش الثلاث كن مستحاضات؛ زينب أم المؤمنين، وحمنة زوج طلحة، [و] أم حبيبة زوج عبد الرحمن بن عوف، وهي المشهورة منهن بذلك، ويأتي حديثها، وذكروا في المبهمة ثلاثة أقوال التي تقدمت، وأما على ما زعم ابن الجوزي من أن المستحاضة ليست من أزواجه عليه السلام؛ فقد روي: (وكانت زينب بنت أم سَلَمَة استحيضت)، وهي لها تعلق بالنبي عليه السلام؛ لأنَّها ربيبته، ولكن هذا الحديث رواه أبو داود من حكاية زينب على غيرها، وهو الأشبه، فإن زينب كانت صغيرة في زمنه عليه السلام؛ لأنَّه دخل على أمها في السنة الثالثة وزينب ترضع، انتهى كلامه؛ فافهم.
(وضعت الطَّست)؛ بفتح الطاء: وعاء من النحاس يتخذ لتغسيل الأيدي من الطعام، أصله (الطسُّ) بالتضعيف، فأبدلت إحدى السينين تاء؛ للاستفعال، فإذا جمعت أو صغرت؛ رددت إلى أصله؛ فقلت: طساس وطسيس، وفي اللغة البلدية بالشين المعجمة، ويجمع على طشوت، كذا في «عمدة القاري»، (تحتها من الدم) كلمة (من) للتعليل هنا، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أنها ابتدائية؛ أي: لأجل الدم.
قلت: والأول أظهر، كما لا يخفى.
(وزعم عكرمة) فعل وفاعل، وهو بمعنى: قال، أو لعله ما ثبت صريح القول من عكرمة بذلك، بل علم من القرائن الأحوال منه؛ فلهذا لم يسند القول إليه صريحًا، وهذا إما تعليق من المؤلف، وإما من تتمة قول خالد الحذاء؛ فيكون مسندًا، وهو عطف من جهة المعنى على عكرمة؛ أي: قال خالد: قال عكرمة ... ، وزعم عكرمة، كذا قاله الكرماني.
وزعم ابن حجر أنه معطوف على معنى العنعنة؛ أي: حدثني عكرمة بكذا، وزعم كذا، وأبعد من زعم أنه معلَّق.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا القائل يريد بذلك: الرد على الكرماني، ولا وجه لرده؛ لأنَّ رد الكلام هو الذي قاله، وتردد هذا الاحتمال لا يدفع بقوله: (وزعم) معطوف على معنى العنعنة، والعطف من أحكام الظواهر في الأصل، انتهى؛ فافهم.
(أن عائشة): الصديقة رضي الله عنها (رأت ماء) بالمد (العُصْفُر) بضمِّ العين المهملة، والفاء، وسكون الصاد المهملة، وهو زهر القرطم، كذا في «عمدة القاري»، (فقالت) أي: عائشة: (كأنَّ) بتشديد النون، قبلها همزة (هذا) أي: الأصفر (شيء كانت فلانة) الظاهر: أنها هي المرأة التي ذكرت قبل، و (فلانة) غير منصرف؛ كناية عن اسمها، وقال الإمام الزمخشري: فلان وفلانة كناية عن أسماء الأناسي، وإذا كنوا عن أسماء البهائم؛ فقالوا: الفلان والفلانة، كذا في «عمدة القاري»، (تجده)؛ أي: في زمان استحاضتها، قال في «عمدة القاري»: ومما يستنبط من الحديث جواز اعتكاف المستحاضة وجواز صلاتها؛ لأنَّ حالها حال الطاهرات، وإنما تضع الطست؛ لئلا يصيب ثوبها أو المسجد، وأنَّ دم الاستحاضة رقيق كدم الحيض، ويلحق بالمستحاضة ما في معناها؛ كمن به سلس البول، والمذي، والودي، ومن به جرح يسيل في جواز الاعتكاف، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (أنه)، وهو تحريف.
==================
(1/528)
[حديث: اعتكفت مع رسول الله امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم]
310# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا قُتَيْبَة) بضمِّ القاف، وفتح الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة، هو ابن سَعِيْد _بكسر العين المهملة_ (قال: حدثنا يزيد) بفتح التحتية أوله (بن زُريع) بضمِّ الزاي، آخره عين مهملة، (عن خالد) هو الحَذَّاء _بالحاء المهملة_ (عن عكرمة): المفسر المشهور مولى ابن عباس رضي الله عنهما، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: اعتكفتْ) بتاء التأنيث (مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم امرأة) أي: مستحاضة (من أزواجه) الطاهرات، قيل: إنها سودة بنت زمعة، وقيل: رملة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهذا الحديث يرد ما زعمه ابن الجوزي من أن المستحاضة ليست من أزواج النَّبيِّ عليه السلام؛ لأنَّ من البعيد أن يعتكف مع النَّبيِّ الأعظم عليه السلام امرأةٌ من غير زوجاته وإن كان لها تعلق به، كما لا يخفى، (فكانت) أي: المرأة المبهمة (ترى الدم) أحمر في حال الاستحاضة، (و) ترى (الصُفرة) بضمِّ الصاد المهملة، وهو كناية عن الاستحاضة؛ فكأنها تراه تارة أحمر وتارة أصفر، فالأول: دم حقيقي، والثاني: دم حكمي؛ لاستحالته، (والطَّست)؛ بفتح الطاء: الوعاء من النحاس وغيره (تحتها) جملة حالية بالواو، وفي نسخة بدونها وهو جائز، (وهي تصلي) جملة حالية بالواو أيضًا، ففي الحديث جواز الحدث في المسجد بشرط عدم تلويثه، وفيه جواز صلاة المستحاضة، ويلحق بها أصحاب الأعذار مثل من به جرح لا يرقأ، ومن به سلس بول، ومن به استطلاق بطن، ونحوهم، فإنهم يصلون بوضوئهم في الوقت ما شاؤوا من الفرائضوالنوافل، فإذا خرج الوقت؛ بطل وضوءهم؛ فليحفظ.
==================
(1/529)
[حديث: أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت وهي مستحاضة]
311# وبه قال: (حدثنا مُسَدد) بضمِّ الميم، وفتح السين المهملة، هو ابن مسرهد _بالمهملات_ (قال: حدثنا مُعْتَمِر) بضمِّ الميم الأولى، وكسر الثانية، بينهما فوقية مفتوحة، قبلها عين مهملة ساكنة، هو ابن سليمان بن طرخان البصري، (عن خالد) هو الحذاء، (عن عكرمة) مولى ابن عباس، (عن عائشة) الصديقة رضي الله عنها قالت: (إنَّ) بكسر الهمزة (بعض أمهات المؤمنين) الطاهرات، قيل: سودة، وقيل: رملة، كما سبق، وهو يرد على ما زعمه ابن الجوزي أيضًا، وإنَّما سميت أزواج النَّبيِّ الأعظم عليه السلام (أمهات المؤمنين)؛ لحرمة نكاحهن بعده، قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ... }؛ الآية [الأحزاب: 6]؛ فهن أمهات؛ من حيث تعظيم حقهن، وتحريم نكاحهن على التأبيد، لا في حق النظر إليهن، والخلوة بهن؛ فإنه حرام في حقهن، كما في حق الأجانب، قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، ولا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين، ولا لأخواتهن وإخوانهن: هم أخوال المؤمنين وخالاتهم، واختلفوا في أنهن هل كنَّ أمهات النساء المؤمنات؟ قيل: كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعًا، وقيل: كن أمهات المؤمنين دون النساء، وروى الشعبي عن مسروق: (أن امرأة قالت لعائشة: يا أمه؛ فقالت: لست لك بأمٍّ؛ إنَّما أنا أمُّ رجالكم) فبان بهذا أن معنى هذه الأمومية: تحريم نكاحهن؛ فافهم، والله أعلم، (اعتكفت) أي: مع النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجده النبويِّ (وهي مستحاضة) جملة حالية بالواو، ولم يذكر في هذه الرواية: وضع الطست تحتها؛ لأنَّها كانت آمنة من تلويث المسجد بوضع الخروق في حالها، كما هي عادة النساء، وفي الحديث جواز الاعتكاف للمستحاضة ونحوها مع أمن تلويث المسجد،
%ص 346%
وفيه مشروعية الاعتكاف للنساء كالرِّجال، وفيه أنه يقال لأزواج النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: أمهات المؤمنين، كما ورد في القرآن المجيد، وفيه أن دم الاستحاضة لونه تارة أحمر وتارة أصفر، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
==================
(1/530)
(11) [باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه؟]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين فيه (هل) استفهام استفسار، وسؤال (تصلي المرأة في ثوب) أي: في ثوبها الذي (حاضت فيه؟) وجواب الاستفهام محذوف، تقديره: يجوز أو نحو ذلك؛ لأنَّ عادة المؤلف إطلاق التراجم من الجواز وعدمه، ويحيل الحكم على الحديث الذي يذكره بعدها، ولا يخفى وجه المناسبة بين البابين؛ لأنَّ هذه الأبواب كلها فيما يتعلق بأحكام الحيض؛ فافهم.
==================
(1/531)
[حديث: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه]
312# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو نُعَيْم) بضمِّ النون، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، هو الفضل بن دُكين _بالدال المهملة_ (قال: حدثنا إبراهيم بن نافع) بالنون، والفاء، هو المخزومي أوثق شيخ بمكة في زمانه، (عن ابن أبي نَجِيح) هو عبد الله، واسم أبي نَجِيح يَسار _بفتح التحيتة أوله_ ضد اليمين، وهو بفتح النون وكسر الجيم، آخره حاء مهملة، المكي، (عن مُجَاهِد) بضمِّ الميم، هو المفسر ابن جُبير، بضمِّ الجيم (قال) وفي رواية بإسقاطها: (قالت عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، قال في «عمدة القاري»: قيل: هذا الحديث منقطع ومضطرب، أما الانقطاع؛ فإن أبا حاتم، ويحيى بن معين، ويحيى بن سَعِيْد القطان، وشعبة، وأحمد قالوا: إنَّ مُجَاهِدًا لم يسمع من عائشة، وأمَّا الاضطراب؛ فلرواية أبي داود له عن محمَّد بن كثير، عن إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم بدل (ابن أبي نجيح).
ورُدَّ عليه بأنَّ البخاريَّ صرَّح بسماعه منها في غير هذا الإسناد في عدة أحاديث، وكذا أثبت سماعه منها ابن المديني وابن حبان مع أن الإثبات مقدم على النفي، وأما الاضطراب الذي ذكره؛ فهو ليس باضطراب؛ لأنَّه محمول على أن إبراهيم بن نافع سمعه من شيخين، وشيخ البخاري أبو نعيم أحفظ من شيخ أبي داود محمَّد بن كثير، وقد تابع أبا نعيم خالد بن يحيى، وأبو حذيفة، والنعمان بن عبد السلام، فرجحت روايته، والمرجوح لا يوثق في الراجح، والحديث المذكور أخرجه أبو داود أيضًا، فقال: حدثنا محمَّد بن كثير قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع قال: سمعت إسحاق بن أبي سَلَمَة يذكر عن مُجَاهِد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا) أي: من زوجات النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (إلا ثوب واحد) وقولها: (تحيض فيه): جملة في محل الرفع على أنها صفة لـ (ثوب).
قال الكرماني: فإن قلت: هذا النفي لايلزم أن يكون عامًّا لكلهن؛ لصدقه بانتفاء الثوب الواحد منهن؛ قلت: وهو عام؛ إذ صدقه بانتفاء الثوب لكلهن، وإلا لكان لإحداهن ثوب؛ فيلزم الخلف، ولفظ المضاف المفرد من صيغ العموم على الأصح، انتهى.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (لا يقال: إنَّ هذا الحديث معارض لحديث أم سَلَمَة؛ فإنَّ فيه: (فأخذت ثياب حيضتي) وهو يدل على: تعدد الثوب؛ لإمكان عدم كون التعدد في بدء الإسلام؛ فإنهن كانوا حينئذٍ في شدة وقلة، ولما فتح الله الفتوح واستغنت أحوالهم؛ اتخذت النساء ثيابًا للحيض سوى لباسهن، فأخبرت أم سَلَمَة عنه) انتهى.
وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون مراد عائشة بقولها: (ثوب واحد) مختص بالحيض، وليس في سياقها ما ينفي أن يكون لها غيره في زمن الطهر؛ فيوافق حديث أم سَلَمَة، انتهى.
قلت: وهذا الاحتمال ممنوع ومردود؛ لأنَّ قول عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه) معناه: ليس لإحدانا إلا ثوب واحد تلبسه في حال الحيض والطهر؛ يعني: وليس لها غيره، كما دل عليه لفظ السياق، فإن ذلك يفيد الحصر في الثوب الواحد لحال الطهر والحيض، فقوله: (وليس في سياقها ما ينفي أن يكون لها غيره في زمن الطهر) فاسد؛ فإن لفظ السياق يفيد صريحًا أن الثوب الواحد المذكور هو لحال الطهر والحيض، يدل لذلك: تقللهن من الدنيا، وعدم اعتنائهن بالتعدد من الثياب، كما أنهن كن يتقللن في المأكل، كذلك في الملبس؛ فليحفظ.
(فإذا أصابه) أي: الثوب (شيء) أي: قدر (من دم) وللأصيلي: (من الدم) أي: من دم الحيض، وهو صادق بكون الدم كثيرًا وقليلًا، بل الظاهر من الإطلاق: أنه كثير فاحش؛ (قالت بريقها) يعني: صبت عليه من ريقها، وقد ذكرنا أن القول يستعمل في غير معناه الأصلي بحسب ما يقتضيه المقام أو المعنى؛ أي: بلته بريقها، كما صرح به في رواية أبي داود، كذا في «عمدة القاري»، (فمصعته) بالميم والصاد المهملة؛ يعني: فركته وحكته، ومادته ميم، وصاد وعين مهملتان، كذا في أكثر الروايات، قال في «عمدة القاري»: وفي رواية: (فقصعته)؛ بالقاف والصاد والعين المهملتين، كما في رواية أبي داود، انتهى، ومثله قاله ابن حجر، قال القسطلاني: (ومفهومه أن هذه الرواية ليست للبخاري) ا. هـ
قلت: هذا غير صحيح، بل المفهوم منه أن هذه الرواية للبخاري، كما أنها لأبي داود، لا سيما وهي ثابتة في «فرع اليونينية» للمؤلف، فكيف قال القسطلاني ما قال؟! فافهم.
(بظُفُرها) بضمِّ الظاء المعجمة، وضم الفاء وإسكانها، والضم أفصح، ومعنى (قصعته): دلكته وعالجته، يقال: قصع القملة؛ إذا شدخها بين أظفاره، وأما فصع الرطبة؛ فهو بالفاء؛ وهو أن يأخذها بإصبعيه فيغمزها أدنى غمزة، فتخرج رطبة خالعة قشرها، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال رحمه الله تعالى: (ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إن من لم يكن لها إلا ثوب واحد تحيض فيه، لا شك أنها تصلي فيه، لكن بتطهيرها إياه، دل عليه قولها: (فإذا أصابه شيء من دم ... ) إلى آخره) انتهى؛ يعني: إن صب الريق عليه ودلكه ونحو ذلك تطهير للثوب من الدم، يدل لذلك: أن الشخص إذا تغوط وتمسح بالأحجار؛ فهو طهارة المحل، وكذا لو كان النجس في غير موضع الاستنجاء، فإذا قلعه بالأحجار ونحوها؛ يطهر، فتجوز صلاته بدون غسله، وطهارته تقليل لها مجاز؛ لأنَّه إذا دخل الماء القليل؛ نجسه، وزعم البيهقي أن هذا في الدم اليسير الذي يكون معفوًّا عنه، وأما الكثير منه؛ فصح عنها أنها كانت تغسله.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هم لا يرون بأن اليسير من النجاسات عفو، ولا يعفو عندهم منها عن شيء سواء كان قليلًا أو كثيرًا، وهذا لا يتمشى إلا على مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ فإن اليسير عنده عفو؛ وهو ما دون الدرهم، فحينئذٍ الحديث حجة عليهم؛ حيث اختصوا في إزالة النجاسة بالماء) انتهى.
قلت: وقول البيهقي: (وأما الكثير منه ... ) إلخ غير صحيح؛ لأنَّه لم يصح عن عائشة أنها قالت: كانت تغسله، فالغسل لم يصح عنها، وإنما هو احتمال وتردد ذكره ترويجًا لما ذهب إليه الشافعي، والاحتمال البعيد لا يدفع النظر؛ فالحديث حجة على الشافعي ومن قال بقوله؛ على أنه لو كانت غسلته؛ لذكرته، فعدم ذكرها الغسل دليل على اقتصاره بالتطهير على الريق، كما لا يخفى.
وزعم القسطلاني أن الحديث ليس مخالفًا لما تقدم؛ لأنَّه من باب حمل المطلق على المقيد، أو لأنَّ هذا الدم الذي مصعته قليل معفو عنه لا يجب غسله؛ فلذا لم يذكر أنها غسلته بالماء، وأما الكثير؛ فصح عنها أنها كانت تغسله، قاله البيهقي، لكن يبقى النظر في مخالطة الدم بريقها؛ فقد قالوا فيه بعدم العفو، وليس فيه أنها صلت فيه؛ فلا يكون فيه حجة لمن أجاز إزالة النجاسة بغير
%ص 347%
الماء، وإنما أزالت الدم بريقها؛ ليذهب أثره، ولم تقصد تطهيره) انتهى.
قلت: وهذا فاسد وكلام بارد؛ لأنَّ قوله: (إن الحديث ليس مخالفًا لما تقدم ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا حاجة إلى هذا الحمل، وليس فيه حمل المطلق على المقيد، بل هذا الحديث صريحه في هذه الحادثة فقط، وما تقدم في حادثة أخرى؛ فالحمل غير صحيح، وقوله: (أو لأنَّ هذا الدم ... ) إلخ فاسد؛ فإن إمامهم الشافعي لم ير العفو في شيء من النجاسات حتى قال: يجب غسل ما يراه الطرف من النجاسة، فكيف يقول بالعفو؟! فالحديث حجة عليه قطعًا، وقوله: (فلذا لم يذكر أنها غسلته ... ) إلخ هذا اعتراف منه بأن الغسل لم يصح عنها؛ فانظر إلى هذا الاضطراب في كلامه، وقوله: (وأما الكثير ... ) إلخ قد علمت أن مذهبهم عدم الفرق بين القليل والكثير، وقوله: (فصح عنها ... ) إلخ فاسد؛ لأنَّه لم يصح عنها ذلك أصلًا، وإنما هو من قول البيهقي، قاله ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، ولأنَّه لو كان صحيحًا؛ لذكرته عائشة هنا، فعدم ذكرها دليل على الاكتفاء بالريق للتطهير، وأنه مطهر ولا خصوصية للماء في التطهير؛ لأنَّ المقصود الإزالة، وقد حصلت، وقوله: (لكن يبقى النظر ... ) إلخ هذا هو عين ما قدمه، وقد اعترف بعدم العفو عنه؛ فانظر إلى هذا الكلام المتناقض، وقوله: (وليس فيه أنها صلت ... ) إلخ فاسد وممنوع، فقد كانت تصلي في هذا الثوب الذي مصعته بريقها، وتعتكف فيه، يدل عليه قول عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه) فهو يعين عدم التعدد في الثوب؛ يعني: ليس لكل واحدة منهن إلا ثوب واحد للحيض والطهر، والحديث الثاني الذي ساقه المؤلف صريح أنها كانت تصلي فيه؛ لأنَّه قالت عائشة: (اعتكفت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم امرأة من أزواجه ... ) إلى أن قالت: (وهي تصلي) فهو صريح في أنها كانت تصلي في هذا الثوب؛ لأنَّه لم يكن لها غيره، كما قالت عائشة، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا، ويدل لذلك أن القصة واحدة، ولهذا ذكر المؤلف هذه الأحاديث في باب واحد وفرقها وإن كانت القصة واحدة؛ لما عليه من العادة التي اتبعها من أنه يذكر ما سمعه من أشياخه، فكم رأيت حديثًا واحدًا يذكره كثيرًا في مواضع متعددة! وليس له فائدة سوى تعدد أشياخه، فالحديث المذكور حجة قوية، ومحجة مستقيمة لمن قال: إن إزالة النجاسة تجوز بغير الماء من كل مائع طاهر قالع، وهو قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وسيدهم صاحب المذهب المعظم رضي الله عنه، وقوله: (وإنما أزالت الدم ... ) إلخ ممنوع؛ فإنما فعلت بريقها لأجل تطهيره وهو قصدها؛ لأنَّها لو لم يكن قصدها ذلك؛ لما كان يلزم لها الريق، فقد كانت تحتُّه بظفرها بدون الريق لو كان مرادها ذهاب أثره، فإجراء الريق عليه دليل على أن مرادها التطهير من النجاسة، كما لا يخفى.
وفي الحديث دليل على أن إزالة النجاسة لا يشترط فيها العدد، بل المراد: الإنقاء.
وفيه دليل على جواز إزالة النجاسة بغير الماء، وفيه أن الدم نجس، وهو إجماع.
وفيه دليل على أن قدر الدرهم من النجاسة معفو عنه، وتصح معه الصَّلاة.
وفيه دليل على أن النجاسة إذا كانت كثيرة في ثوبه أو بدنه؛ يجب عليه تقليلها بالأحجار ونحوها إن لم يجد ما يزيلها حتى تصير بمقدار المعفو عنه، والله تعالى أعلم.
==================
(1/532)
(12) [باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض]
هذا (باب) استحباب استعمال (الطيب للمرأة) غير المحرمة (عند غُسلها)؛ بضمِّ الغين المعجمة، أي: اغتسالها (من الحيض) ولابن عساكر: (من المحيض) بزيادة الميم، وكذا النفاس؛ لإزالة الرائحة الكريهة، وكذا الجنابة؛ لأنَّه أنشط للمعاودة، لكن الأول آكد في الاستحباب، قال في «عمدة القاري»: (وجه المناسبة بين البابين؛ من حيث إن في الباب الأول إزالة الدم من الثوب، وهو التنظيف والإنقاء، وفي هذا الباب التطيب، وهو زيادة التنظيف).
==================
(1/533)
[حديث: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث]
313# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب) هو أبو محمَّد الحجبي البصري، بالحاء المهملة، بعدها جيم، ثم موحدة (قال: حدثنا حمَّاد بن زيد) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الميم، (عن أيُّوب): هو السختياني، (عن حفصة) هي بنت سيرين الأنصارية أم الهذيل، زاد في رواية المستمليوكريمة: (قال أبو عبد الله أو هشام بن حسان، عن حفصة)، و (أبو عبد الله) هو المؤلف، و (حسان) بالصرف وعدمه؛ من الحس أو الحسن، فكأن المؤلف شك في شيخ حمَّاد أهو أيُّوب أو هشام؟ وليس ذلك عند بقية الرواة، ولا عند أصحاب الأطراف، وقد أورد المؤلف هذا الحديث في كتاب «الطلاق» بهذا الإسناد؛ فلم يذكر ذلك، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، (عن أم عطية) هي نُسَيبة _بضمِّ النون، وفتح السين المهملة_ بالتصغير، بنت الحارث، كانت تمرض المرضى، وتداوي الجرحى، وتغسل الموتى رضي الله عنها (قالت: كنا نُنهى)؛ بضمِّ النون الأولى على صيغة المفعول، والناهي هو: النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كما دلت عليه رواية هشام المعلقة المذكورة في آخر الحديث، وهذه الصيغة في حكم المرفوع، وكذلك كنا وكانوا، ونحو ذلك؛ لأنَّه وقع في زمن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقرَّرهم عليه، فهو مرفوعٌ معنًى، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري» (أن نُحِد) بضمِّ النون، وكسر الحاء المهملة، وفي رواية: (تحد) بمثناة فوقية؛ أي: المرأة، من الإحداد؛ وهو الامتناع من الزينة، قال الجوهري: أحدَّت المرأة؛ أي: امتنعت من الزينة والخضاب بعد وفاة زوجها، وكذلك حدَّت تحُدُّ بالضم، وتحِدُّ بالكسر حدادًا، أو هي حاد، ولم يعرف الأصمعي إلا أحدت، فهي محدة، كذا في «المحكم»، وأصل هذه المادة: المنع، ومنه قيل للبواب: حدَّاد؛ لأنَّه يمنع الدخول والخروج، وأغرب بعضهم؛ فحكاه بالجيم، من جددت الشيء، فكأنها قد انقطعت عن الزينة، وعما كانت قبل ذلك، كذا في «عمدة القاري»، وكلمة «أن» مصدرية، والتقدير: كنا ننهى عن الإحداد (على ميْت)؛ بتخفيف التحتية: مَن حلَّ به الموت، وبتشديدها: من سيموت، قال الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وهذه التفرقة لجمهور العلماء، وبعضهم لم يفرق بينهما، فيقال لمن حل به الموت: بالتشديد، (فوق ثلاث) تعني به: الليالي مع أيامها، ولذلك أنث العدد (إلا على زوج) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية المستملي، والحموي: (إلا على زوجها)، والأول موافق للفظ «نحد» بالنون، والثاني موافق للفظ «تحد» بالغيبة، وقال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: ويقال في توجيه الثاني: إن الضمير يعود على الواحدة المندرجة في قولها: (كنا ننهى) أي: كل واحدة منهن، انتهى، وقد خبط وخلط الكرماني هنا؛ فاجتنبه، (أربعة أشهر وعشرًا) أي: عشر ليال، إذ لو أريد به الأيام؛ لقيل: عشرة بالتاء، قال إمام الصنعة العلامة الزمخشري في قوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]: (لو قلت في مثله: «عشرة»؛ لخرجت عن كلام العرب، لا نراهم قط يستعملون التذكير فيه)، وقيل: الفرق بين المذكر والمؤنث في الأعداد إنَّما هو عند ذكر المميز، أما ما لم يذكر؛ جاز فيه التاء وعدمه مطلقًا، فإن قلت: و (عشرًا) منصوب بماذا؟ قلت: هو عطف على
%ص 348%
قوله: (أربعة) وهو منصوب على الظرفية، كذا في «عمدة القاري»، وقال المبرد: إنما أنث العشر؛ لأنَّ المراد به: المدة المعينة، وعشر: مدة، وكل مدة من يوم وليلة، فالليلة مع يومها مدة معلومة من الدهر، وقيل: لم يقل: عشرة؛ تغليبًا لحكم الليالي؛ لأنَّ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها، و (عشرًا) أخف في اللفظ؛ فتغلب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ؛ لأنَّ ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال، فلما كان أول الشهر الليلة؛ غلب الليلة، تقول: صمنا خمسًا من الشهر، فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار، وقيل: تأنيث العشر بدون التاء؛ اعتبارًا بكون معدودها الليالي، والليالي مؤنث، قال تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7]، والوجه في اعتبار الليالي وجعلها مبدأ للتأريخ أن شهور العرب قمرية، وابتداؤها من طلوع الهلال وهو في الليل؛ فيكون الليل في تاريخهم سابقًا على النهار؛ فلهذا خصوا تاريخهم بالليالي دون الأيام حتى قالوا: صمنا عشر ليالٍ، والصوم إنَّما يكون في الأيام، وتذكير المعدود يقتضي زيادة التاء في اسم العدد من الثلاثة إلى العشرة، وإنما قدرت هذه المدة؛ لأنَّ الجنين في غالب الأحوال يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرًا، ولأربعة إن كان أنثى؛ فاعتبر أقصى الأجلين، وزيد عليه العشر استعانة بتلك الزيادة على العلم ببراءة الرحم؛ إذ ربما تضعف حركته في المبادئ فلا يحس بها، وقيل: إنَّما قدرت بذلك؛ لأنَّ الولد يكون أربعين يومًا نطفة، وأربعين يومًا علقة، ووأربعين يومًا مضغة، ثم ينفخ فيه الروح في العشر، فلما كان الأمر كذلك؛ أمرت بتربص أربعة أشهر وعشر؛ ليتبين الحمل إن كان بها؛ فافهم، (ولا نكتحل) بالرفع في أكثر الروايات، ويروى بالنصب، فتوجيهه أن تكون «لا» زائدة، أو توكيدًا، فإن قلت: لا يؤكد إلا إذا تقدم النفي عليه؛ قلت: قد تقدم معنى النفي: وهو النهي، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ يعني: أنه على رواية النصب معطوف على المنصوب السابق، وما قاله إمام الشارحين قد ارتضاه الدماميني، وتبعه القسطلاني وغيره.
(ولا نتطيب) بالنون فيهما، (ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا) سواء كان بزعفران أو بعصفر، أو بمفرة (إلا ثوب عَصْب)؛ بفتح العين، وسكون الصاد المهملتين، آخره موحدة، هو من برود اليمن يصبغ غزلها ثم ينسج، وفي «المحكم»: (هو ضرب من برود اليمن يعصب غزله)؛ أي: يجتمع ثم ينسج، ثم يصبغ، وقيل: هي برود مخططة، وفي «المنتهى»: (العصب في اللغة: إحكام القتل [1] والطي، وشدة الجمع واللي، وكل شيء أحكمته فقد عصبته، ومنه أخذ [2] عصب اليمن؛ وهو المفتول من برودها، والعصب: الخيار)، وفي «المحكم»: (وليس من برود الرقم ولا يجمع، وإنما يقال: برود عصب، وبرود عصب، وربما اكتفوا بأن يقولوا عليه المعصب، لا البرد عرف بذلك)، زاد في «المخصص»: (لا يُثنَّى ولا يجمع؛ لأنَّه أضيف إلى الفعل، وإنما العلة فيه الإضافة إلى الجنس)، قال الجوهري: (ومنه قيل للسحاب كاللطخ: عصب)، قال القزاز: (وكان الملوك تلبسها)، وروي عن عمر رضي الله عنه: أنه أراد أن ينهى عن عصب اليمن، وقال: (نبت يصبغ بالبول)، ثم قال: (نهينا عن التعمق)، وفي حديث ثوبان: «اشتر لفاطمة قلادة من عصب»، قال الخطابي: (إن لم يكن الثياب اليمانية؛ فلا أدري، وما أدري أن القلادة تكون منها)، وقال أبو موسى: (ذكر لي بعض أهل اليمن أنه: سن دابة مجرية تسمى: فرس فرعون يتخذ منها الخرز، ويكون أبيض)، كذا في «عمدة القاري»، (وقد رخص لنا) أي: رخص النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم التطيب بالتبخير لهن، فهو في حكم المرفوع، كما سبق (عند الطهر) أي: من الحيض والنفاس (إذا اغتسلت إحدانا من محيضها) ونفاسها لإزالة الرائحة الكريهة عنها؛ لما يستقبله من الصَّلاة ومجالسة الملائكة؛ لئلا تؤذيهم برائحة الدم، (في نبْذة)؛ بضمِّ النون وفتحها، وسكون الموحدة، وبالذال المعجمة، وهو الشيء اليسير، والمراد به: القطعة، والجمع أنباذ، كذا في «عمدة القاري»؛ أي: في قطعة يسيرة (من كُسْت ظفار) بضمِّ الكاف، وسكون السين المهملة، كذا هو في هذه الرواية، و (ظَفارِ)؛ بفتح أوله، آخره راء مكسورة، مبني على الكسر، مدينة باليمن وبها قصر الملكة يقال: إن الجن بنتها، وفي أثبت الروايات: (من جزع ظفار)، وفي رواية أخرى: (ظفارى)، وقال ابن التين: (صوابه: قسط ظفار، منسوب إلى ظفار؛ وهي بساحل من سواحل عدن)، وقال القرطبي: هي مدينة باليمن، والذي في «مسلم»: (قسط وظفار) بالواو، وهو الأحسن؛ فإنهما نوعان؛ قيل: هو شيء من العطر أسود، والقطعة منه شبيهة بالظفر، وهو بخور رخص فيه للمغتسلة من الحيض؛ لإزالة الرائحة الكريهة.
وقال الصغاني: (ظفار في اليمن أربعة مواضع؛ مدينتان وحصنان؛ أما المدينتان؛ فإحداهما: ظفار الجعل كان ينزلها المتبايعة، وهي على مرحلتين من صنعاء، وإليها ينسب الجزع، والأخرى: ظفار الساحل قرب سرباط، وإليها ينسب القسط يجلب إليها من الهند، والحصنان؛ أحدهما: في يمان صنعاء على مرحلتين، وتسمى: ظفار الواديين، والثاني: في بلاد همدان، وتسمى: ظفار الطاهر)، وفي «المحكم»: (الظفر: ضرب من العطر أسود مقلب من أصله على شكل ظفر الإنسان، موضع في الدخنة، والجمع أظفار، وأظافير)، وقال صاحب «المعين»: (لا واحد له، وظفر ثوبه؛ طيبه بالظفر)، وفي «الجامع»: (الأظفار: شيء من العطر شبيهة بالأظفار يتخذ منها، ولا يفرد واحدها، وإن أظفر؛ فهو إظفارة)، وفي كتاب «الطيب» للمفضل بن سَلَمَة: (القسط، والكشط، والكست؛ ثلاث لغات) قال: وهو من طيب الأعراب، وسماه ابن البيطار في كتاب «الجامع»: راسنا أيضًا، وقال الأزهري: (واحده ظفر)، وقال غيره: الأظفار: شيء من العطر، وقال الشيخ إسماعيل: (الأظفار: شيء يتداوى به؛ كأنه عود وكأنه يثقب ويجعل في القلادة)، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ فافهم، والله الهادي، (وكنا نُنهى)؛ بضمِّ النون الأولى على صيغة المجهول، والناهي هو النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذه الصيغة في حكم المرفوع، كما قدمناه، (عن اتباع الجنائز) والنهي للتحريم، ففي الحديث تحريم اتباع النساء الجنائز، كما يأتي في موضعه مفصلًا إن شاء الله تعالى، وفي الحديث دليل على وجوب الإحداد على المرأة الكبيرة الحرة سواء كانت مدخولًا بها أو غيرها، وسواء كانت بكرًا أو ثيبًا، أما الصغيرة الأمة؛ فلا إحداد عليها؛ وذلك لأنَّ الأحاديث الواردة في هذا الباب مطلقة؛ فتنصرف إلى الكامل، وهي البالغة الحرة، ولأن الصغيرة لا تحسن الإحداد، ولا يلزم أهلها أن يجنبوها ذلك، والأمة خارجة عن الإحداد؛ لأنَّ الأحاديث وقعت في الأحرار، وهي قرينة قوية على أنه لا إحداد عليهما؛ فالخطاب في وجوب الإحداد إنَّما كان لمعين وهو الحرة
%ص 349%
البالغة، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه، والجمهور، وذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم: أن على الصغيرة والأمة الإحداد أيضًا، وأجمعوا على أنه لا إحداد على أم الولد والأمة إذا توفي عنها سيدها؛ لأنَّ الأحاديث إنَّما جاءت في الأزواج وهما ليسا بزوجة، ولا على الرجعية، لكن يستحب لها التزين والتطيب؛ ترغيبًا للزوج، كما صرح به في «الدر المنتقى» عن «السراجية».
وفي المطلقة ثلاثًا قولان؛ فمذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والحكم، وأبو ثور، وأبو عبيد؛ أن عليها الإحداد، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال الحسن بن حي، وسَعِيْد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وابن سيرين، والثوري، ومذهب مالك، والشافعي: لا إحداد عليها، وبه قال ربيعة، وعطاء، والليث، وابن المُنْذِر، ومذهب الحسن البصري: أنه لا يجب الإحداد على المطلقة ولا على المتوفى عنها زوجها، وهو شاذ، كما قاله أحمد ابن حنبل، وقال ابن عبد البر: (أجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها إلا الحسن، فإنه قال: ليس بواجب، واحتج بما رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر [3] بن أبي طالب؛ قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تسلي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت»).
قال ابن المُنْذِر: (كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد على المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها، وقد بينت الأخبار عن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالإحداد، وليس الإحداد بلغته إلا التسليم، ولعل الحسن لم تبلغه أو بلغته، وتأولها بحديث أسماء بنت عميس: أنها استأذنت النبي عليه السلام أن تحد على جعفر وهي امرأته؛ فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن: «تطهري واكتحلي»، وقد دفع هذا الحديث أهل العلم بوجوه؛ وكان إسحاق يقول: إن هذا الحديث شاذ، وكذا كان يقول أحمد ابن حنبل، فلا يؤخذ به) انتهى.
وفي قول النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا» دليل على أن الكتابية المتوفى عنها زوجها المسلم لا حداد عليها، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، وأبو ثور، وابن كنانة، وابن رافع، وهو رواية أشهب عن مالك، وروى عنه ابن القاسم: أن عليها الإحداد كالمُسْلِمَة، وبه قال الليث، والشافعي، وعامة أصحاب مالك، وصريح الحديث يرده؛ لأنَّه عليه السلام وصف المرأة بالإيمان، كما لا يخفى.
وفي قوله عليه السلام: «فوق ثلاث ... » إلخ دليل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثًا تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها.
وقال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: فإن قلت: لم خص الأربعة الأشهر والعشر؟ قلت: لأنَّ غالب الحمل تتبين حركته في هذه، وأنث العشر؛ لأنَّه أراد بها الأيام بلياليها، وهو مذهب العلماء كافة إلا ما حكي عن يحيى بن أبي كثير والأوزاعي أنه أراد أربعة أشهر وعشر ليال، وأنها تحل في اليوم العاشر، وعند الجمهور: لا تحل حتى تدخل ليلة الحادي عشر، وهذا خرج على أحوال المعتدات أنها تعتد بالأشهر، أما إذا كانت حاملًا؛ فعدتها بالحمل، ويلزمها الإحداد في جميع المدة حتى تضع سواء قصرت المدة أم طالت، فإذا وضعت؛ فلا إحداد بعده، وقال بعض العلماء: لا يلزمها الإحداد بعد أربعة أشهر وعشرٍ وإن لم تضع الحمل) انتهى.
ثم قال: وفي الحديث دليل على تحريم الكحل سواء احتاجت إليه أم لا، وجاء في «الموطأ» وغيره عن أم سَلَمَة: «اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار»، ووجه الجمع إذا لم تحتج إليه؛ لا يحل لها فعله، وإن احتاجت إليه؛ لم يجز بالنهار دون الليل، والأولى تركه؛ لحديث: (إن ابنتي اشتكت عينها أفتكحلها؟ قال: «لا»)؛ ولهذا إنَّ سالمًا وسليمان بن يسار قالا: [إنها] إذا خشيت على بصرها، إنها تكتحل وتتداوى به وإن كان مطيبًا، وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ لأنَّ الضرورات تبيح المحظورات، وبه قال مالك في غير مطيب، وقال صاحب «التوضيح»: (والمراد بالكحل: الأسود والأصفر، وأما الأبيض؛ فلا تحريم فيه عند أصحابنا؛ إذ لا زينة فيه، وحرمه بعضهم على الشعثاء حتى تتزين) انتهى، ثم قال: وفي الحديث دليل على تحريم الطيب، وهو ما حرم عليها في حال الإحرام سواء كان في ثوبها أو بدنها، وقال صاحب «التوضيح»: (يحرم عليها كل طعام فيه طيب) انتهى.
قلت: وفيه تحريم الخضاب بالحناء إلا لعذر، قال ابن المُنْذِر: (لا أعلم خلافًا أن الخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها).
وقال صاحب «عمدة القاري»: (وفي الحديث دليل على تحريم لبس الثياب المعصفرة)، وقال ابن المُنْذِر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة والمصبوغة إلا ما صبغ بسواد؛ فرخص فيه عروة بن الزبير، والإمام الأعظم، ومالك، والشافعي، وكرهه الزُهْرِي.
قلت: وعلله أئمتنا الأعلام بأن الأسود لا يقصد به الزينة، وكذا الأزرق، وقال في «المحيط»: (والمراد بالثوب: ما كان جديدًا يقع به التزين، أما الثياب الخلقة؛ فلا بأس بلبسها؛ لأنَّه لا يقصد بها إلا ستر العورة، والأحكام تبنى على المقاصد) انتهى.
وفي «الدر المنتقى»: (ويحرم لبس المصبوغ بمفرة أو عصب) انتهى، هذا مذهب إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم، وبه قال الزُهْرِي؛ لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن عصب اليمن، وقال: (نبت يصبغ بالبول)، وقال مالك: (لا يلبس رقيق عصب اليمن)، ووسع في غليظه؛ لأنَّ رقيقه بمنزلة المصبغة.
لا يقال: هذا مخالف للحديث؛ لأنا نقول: إن الحديث محمول على ما لم يصبغ بالبول، على أن العصب الموجود في زمان الإمام الأعظم وغيره من التابعين لم يكن زمن النبي الأعظم عليه السلام، فلعله قد نسج بحرير، أو تغيرت ألوانه، أو غير ذلك، كما هو مبين في محله، والله أعلم؛ فافهم.
وقال ابن المُنْذِر: (ورخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض)، والأصح عند الشافعية: تحريم البرد مطلقًا رقيقًا أو غيره، وهذا الحديث حجة لمن أجازه وعلى من منعه، ومذهب الإمام الأعظم: أنه تحرم الزينة بأنواعها حليًّا كان، أو قصبًا، أو خزًّا، حريرًا غير أسود، قال شارح «الملتقى»: (ومنه الامتشاط بضيِّق الأسنان، فلا يحل؛ وذلك لعموم هذا الحديث، وروى ابن المواز عن مالك: أنها لا تلبس حليًّا وإن كان حديدًا، وكل لباس تلبسه المرأة على وجه التجمل يحرم على الحادِّ لبسه)، وقال الشافعي: كل صبغ كان زينة؛ فلا تمسه الحادة غليظًا كان أو رقيقًا، وروي عنه: منع جيد البياض والرفيع من السواد، والحديث المذكور حجة عليه؛ لأنَّ البياض مباح، وإذا منعت من المصبغ؛ فلم يبق إلا البياض، ولأن الأسود لا يقصد التزين به؛ فهو ممنوع، كما لا يخفى.
وفي الحديث: دليل على الترخيص للحادة إذا اغتسلت من الحيض، وكذا النفاس التطيب؛ لإزالة الرائحة الكريهة؛ لأنَّ الدم له ريح، فرخص لها في التبخر بالطيب؛ لدفع رائحة الدم عنها؛ لما تستقبله من الصَّلاة ومجالسة الملائكة؛ لئلا تؤذيهم برائحة الدم، ولأن ذلك يكون أسرع إلى علوق الولد وتنشط البدن.
وفي الحديث: تحريم اتباع النساء الجنائز، وسيأتي الكلام عليه مفصلًا في بابه إن شاء الله تعالى، والله الكريم أسأل أن يفرج عنا وعن المسلمين.
%ص 350%
(قال أبو عبد الله) أي: المؤلف، كذا في رواية الأصيلي، وابن عساكر، وفي رواية: (قال) فقط، وسقط لفظ: (أبو عبد الله) (ورواه) أي: هذا الحديث المذكور، وفي رواية: (روى)؛ بإسقاط الواو والهاء، وفي أخرى: (وروى)؛ بالواو (هشام بن حسان)؛ بالصرف وتركه؛ من الحس أو الحسن، كما سبق، وأشار به إلى أن الحديث موصول، ورواه في كتاب «الطلاق» موصولًا من حديث هشام المذكور على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، (عن حفصة) هي بنت سيرين، (عن أم عطية) كعب الغاسلة رضي الله عنها، (عن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) قال الكرماني: (وهو إما تعليق من البخاري، وإما مقول حمَّاد؛ فيكون مسندًا).
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» فقال: قلت: قوله: (إما تعليق)؛ فظاهر، وأما قوله: (وإما مقول حمَّاد)؛ فلا وجه له، وفي نسخة ذكر البخاري حديث هشام أولًا، وفي بعضها ذكره آخرًا، ورواه مسلم في «صحيحه»، وفائدته: أن أم عطية أسندته إلى النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صريحًا، وكذا هو في «سنن أبي داود»، و «النسائي»، و «ابن ماجه» من حديث هشام مسندًا، وقال البخاري في موضع آخر: توفي ابن لأم عطية، فلما كان يوم الثالث؛ دعت بصفرة فمسحت به، وقالت: (نهينا أن نحد أكثر من ثلاث إلا لزوج)، وعند الطبراني: (وأمرنا ألَّا نلبس في الإحداد الثياب المصبغة إلا العصب، وأمرنا ألَّا نمس طيبًا إلا أدناه للطهرة؛ الكست والأظفار)، وفي لفظ: (لا تختضب)، وفي لفظ: (إلا ثوبًا مغسولًا) انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الطفل)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (الحد)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (علي)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الطفل)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (الحد)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (الطفل)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (الحد)، وهو تحريف.
(1/534)
(13) [باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض]
هذا (باب) في بيان استحباب (دلك المرأة نفسها) يعني: فرجها؛ الداخل والخارج (إذا تطهرت) يعني: اغتسلت (من المحيض) أي: الحيض، فهو مصدر كـ «المبيت، والمجيء»، (و) في بيان (كيف تغتسل) المرأة؛ يعني: بيان الصفة المختصة بغسلها من المحيض؛ فهو عطف على قوله: (دلك المرأة نفسها)، (و) كيف (تأخذ) عطف على (تغتسل) أي: وكيف تأخذ (فِرْصَة)؛ بكسر الفاء، وسكون الراء، وفتح الصاد المهملة، هي القطعة، يقال: فرصت الشيء فرصًا؛ أي: قطعته، وقال الجوهري: (هي قطعة قطن أو خرقة تمسح بها المرأة من الحيض)، (ممسَّكة)؛ بتشديد السين المهملة، وفتح الكاف، ولها معنيان؛ أحدهما: قطعة فيها مسك، والآخر: قطعة مستعملة بالإمساك عليها على ما سيجيء)، (فتَتبِع) بلفظ الغائبة، مضارع «التفعل»، وأصله بالتاءات الثلاث، فحذفت إحداهما، وفي رواية: (فتَتَّبِع) بتشديد التاء الثانية، وتخفيف الموحدة المكسورة، ولأبي ذر: (تتْبَع) بدون الفاء، وبسكون التاء الثانية، وفتح الموحدة (بها) أي: بتلك الفرصة (أثر الدم؟) أي: دم الحيض، ومثله النفاس؛ لأنَّه آخره.
والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأنَّ في كل منهما استعمال الطيب.
==================
(1/535)
[حديث: خذي فرصة من مسك فتطهري بها]
314# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى) هو ابن موسى البلخي الخَتِّي، بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الفوقية، كذا جزم به ابن السكن في روايته عن الفربري، وقال الغساني في «تقييد المهمل»: (قال ابن السكن: يحيى المذكور في باب «الحيض» هو يحيى بن موسى)، وقال في موضع آخر عنه: (كلما كان للبخاري في «صحيحه» «عن يحيى» غير منسوب؛ فهو يحيى بن موسى البلخي المعروف بـ «خت»، كان من خيار المسلمين، مات سنة أربعين ومئتين)، وبهذا ظهر فساد قول البيهقي: أنه يحيى بن جعفر؛ أي: البيكندي، يروي عن ابن عيينة، وكذا ذكر أبو نصر الكلاباذي، وذكره الكرماني، وأسنده لبعض النسخ، وكله غير ظاهر، ويدل لهذا ما قاله صاحب «التوضيح» أنه قال: (وقع في شرح بعض شيوخنا: «حدثنا يحيى»؛ يعني: ابن معاوية، ولا أعلم في «البخاري» من اسمه كذلك، وفي أسماء رجال «الصحيحين»: (يحيى بن موسى بن غندر بن سالم أبو زكريا السختياني الحذاء) أي: البلخي، يقال له: ختي، روى عنه البخاري في (البيوع)، و (الحج)، ومواضع أخر، وذكره ابن ماكولا أيضًا فقال: خت؛ بخاء معجمة، ومثناة من فوق، فهو يحيى بن موسى يعرف بابن خت البلخي، كذا ذكره صاحب «عمدة القاري».
(قال: حدثنا ابن عيينة) بضمِّ العين المهملة، وفتح التحتية الأولى، وسكون الثانية، وفتح النون، هو سفيان المشهور، (عن منصور) بالصاد المهملة (ابن صفية) بالصاد المهملة، بعدها فاء، ثم تحتية، نسبه إليها؛ لشهرته بها، وإلا؛ فاسم أبيه عبد الرحمن بن طلحة، (عن أمه) هي صفية المذكورة، وهي بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري، قال في «عمدة القاري»: (ووقع في «مسند الحميدي» التصريح بالسماع في جميع السند)، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: (أن امرأة)؛ أي: من الأنصار، كما زاده وهيب في روايته، وسماها مسلم في رواية الأحوص عن إبراهيم بن مهاجرة: (أسماء بنت شَكَل) بفتح الشين المعجمة والكاف، وفي آخره لام، ولم يسم أباها في رواية غندر، عن شعبة، عن إبراهيم، وقال الخطيب: (هي أسماء بنت يزيد بن السكن، بالمهملة)، وجزم بأنها الأنصارية التي يقال لها: خطيبة النساء، وتبعه ابن الجوزي في «التنقيح»، وكذا الدمياطي، وزاد عليه: أن الذي وقع في «مسلم» تصحيف، ويحتمل أن يكون (شكل) لقبًا، لا اسمًا، وإنما هو (سكن)؛ بالسين المهملة، والنون، نسبة إلى جدها، والمشهور في المسانيد والجوامع في هذا الحديث: (أسماء بنت شكل)، كما في «مسلم»، و (أسماء) بغير نسب كما في «أبي داود»، وكذا في «مستخرج أبي نعيم»، وحكى النووي في «شرح مسلم» الوجهين من غير ترجيح، وتبع رواية مسلم جماعات؛ منهم: ابن طاهر، وأبو موسى في كتابه «معرفة الصحابة»، وصوب بعض المتأخرين أنها أسماء بنت يزيد الأنصارية؛ لأنَّه ليس في الأنصار من اسمه شكل، وقال في «التوضيح»: ويجوز تعدد الواقعة، ويؤيده تفريق ابن منده بين الترجمتين، وابن سعد والطبراني وغيرهما لم يذكروا هذا الحديث في ترجمة يزيد، ولم ينفرد بذلك، فقد أخرجه ابن أبي شيبة في «مسنده»، وأبو نعيم في «مستخرجه»، كما ذكره مسلم سواء، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري».
قلت: والصواب أنها أسماء بنت شكل الأنصارية، كما ذكره هؤلاء الجماعة، وبه ظهر فساد ما زعمه الدمياطي، وظهر أيضًا فساد ما زعمه الخطيب، كما لا يخفى على اللبيب.
(سألَتِ النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم عن غُسلها)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وبفتحها، أي: الصفة المختصة بغسلها، أو اغتسالها (من المحيض)؛ بالميم أوله، أي: الحيض، وكلاهما مصدران، (فأمرها) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (كيف تغتسل) أي: من المحيض، وقوله: (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (خذي)؛ بالخاء المعجمة: هو بيان لأمرها.
قال الكرماني: (فإن قلت: كيف يكون بيانًا للاغتسال وهو إيصال الماء إلى جميع البشرة لا أخذ الفرصة؟ قلت:
%ص 351%
السؤال لم يكن عن نفس الاغتسال؛ لأنَّ ذلك معلوم لكل أحد، بل إنَّما كان ذلك مختصًا بغسل الحيض؛ فلذلك أجاب به، أو الجملة حالية، لا بيانية) انتهى.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» حيث قال: قلت: هذا الجواب غير كاف؛ لأنَّها سألت عن غسلها من المحيض، وليس هذا إلا سؤال عن ماهية الاغتسال؛ فلذلك قال عليه السلام في جوابه إياها: «فأمرها كيف تغتسل» يعني: قال لها: اغتسلي كذا وكذا، وهذا معناه.
ثم قوله: «خذي ... » إلخ: ليس بيانًا للاغتسال المعهود.
وقوله: (لأن ذلك معلوم لكل أحد) فيه نظر؛ لأنَّه يحتمل ألَّا يكون معلومًا لها على ما ينبغي، أو كان في اعتقادها أن الغسل عن المحيض خلاف الغسل من الجنابة؛ فلذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (سألَتِ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن غسلها من المحيض)، قال: والأوجه عندي أن الذي رواه البخاري مختصرًا من لفظ الحديث، وفيه بيان كيفية الغسل وغيره على ما رواه مسلم: أن أسماء سألت عن غسل المحيض، فقال عليه السلام: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرها، فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها»، فقالت أسماء: وكيف تطهر [1] بها؟ فقال: «سبحان الله، تطهري بها؟!»، فقالت عائشة رضي الله عنها _كأنها تخفي ذلك_: تتبعين بها الدم، وسألته عن غسل الجنابة، فقال: «تأخذ ماء، فتطهر، فتحسن الطهور، وتبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه حتى يبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء»، فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) انتهى كلامه رضي الله عنه، وتبعه القسطلاني وغيره فكان هو الصواب.
(فِرْصة): المشهور فيه كسر الفاء، وسكون الراء، كذا في «عمدة القاري»، ويفهم منه أن فاءه مثلثة، وبه صرح القسطلاني، وكان أبو الأحوص وأبو عوانة يقولان: (فرصة)، وقال ابن سيده: (فرص الجلد فرصًا: قطعه، والمفراص: الحديدة التي يقطع بها، والفرصة والفرصة والفرصة: القطعة من الصوف أو القطن)، وقال كراع: (هي الفَرصة؛ بالفتح، والفرصة: القطعة من المسك)، وقال أبو علي: (فرص يفرص لزيد في حقه؛ يعني: قطع له منه شيئًا)، وقال أبو سليمان: (يفرص وأفرص لزيد فرصة من حقه؛ بجر الفاء لا اختلاف فيها، وأفرص لي من حقي فرصة، والفرصة: الخرقة التي تستعملها الحائض؛ لتعرف التبرئة ونقاءها عند الحيض في آخره)، وقال أبو عبيدة: (هي القطعة من الصوف، أو القطن، أو غيرها)، وقال ابن عديس: (الفِرص بالكسر، والصاد المهملة: جمع لـ «فرصة»؛ وهي القطعة من المسك)، وأنكر ابن قتيبة كونها بالفاء وقال: (إنما هي قرضة؛ بالقاف، والضاد المعجمة؛ وهي القطعة)، وزعم ابن حجر أنها قرصة؛ بالقاف، والصاد المهملة، قال المُنْذِري: (أي: شيئًا يسيرًا يشمل القرصة بطرف الأصبعين)، كذا قرره في «عمدة القاري».
قلت: والرواية ثابتة بالفاء والصاد المهملة، ولا مجال للرأي في مثله، والمعنى صحيح بنقل أئمة اللغة، فلا وجه لإنكار ابن قتيبة، وكذا لا وجه لما زعمه ابن حجر؛ فإنه بعيد جدًّا، ولعله لم يطلع على ما قاله أئمة اللغة، فقال ما قال على أنه المعنى على ما ذكره غير صحيح، بل هو فاسد مردود عليه؛ فانظر كلامه؛ تجده لم يقله صغار الطلبة فضلًا عمن تصدر لشرح هذا الكتاب؛ فإنه لم يشم رائحة الصواب، والله ولي الألباب.
(من مَسك) بفتح الميم في أكثر الروايات، قاله القاضي عياض، وقال ابن قتيبة: (بكسر الميم)، ورجحه النووي؛ وهو دم الغزال المعروف، وهو جلد عليه شعر، وقال ابن قتيبة: (المسك لم يكن عندهم من السعة بحيث يتمونونه في هذا، والجلد ليس فيه ما يميز غيره فيختص به)، وإنما أراد: وأقرصة من شيء صوف، أو قطن، أو خرقة، أو نحوه، يدل عليه الرواية الأخرى: (فرصة مُمَسَّكة)؛ بضمِّ الميم الأولى، وفتح الثانية، وتشديد السين المهملة مع فتحها، أي: قطعة من صوف ونحوها مطيبة بالمسك، وروي: (مُمْسَكة)؛ بضمِّ الميم الأولى، وسكون الثانية، وسين مهملة مخففة مفتوحة، وقيل: مكسورة، أي: من الإمساك، وفي بعض الروايات: (خذي فرصة ممسكة فتحملي بها) قيل: أراد الخلِق التي أمسكت كثيرًا؛ كأنه [2] أراد ألَّا تستعمل الجديد من القطن وغيره؛ للارتفاق به، ولأن الخلِق أصلح لذلك، ووقع في كتاب عبد الرزاق: (يعني: بالفرصة: المسك وهي الذريرة)، وفي «الأوسط» للطبراني: (خذي سكيلك)، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (فتطهري) أي: تنظفي، وفي الرواية الآتية [3]: (توضئي ثلاثًا) (بها) أي: بالفرصة المذكورة (قالت) أي: أسماء المذكورة: (كيف أتطهر بها؟) وإنما أتت بالاستفهام؛ لأنَّ التطهر لم يكن معلومًا لها على ما ينبغي، أو كان في اعتقادها أن التطهر من الحيض خلاف التطهر من الجنابة؛ فلهذا كررت السؤال؛ فافهم هذا، وما عداه ساقط واهٍ؛ فليحفظ، (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (سبحان الله) وهو في مثل هذا الموضع يراد به التعجب، ومعنى التعجب هنا كيف يخفى مثل هذا الظاهر الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر؟! وزاد في الرواية الآتية: (ثم إن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم استحى فأعرض بوجهه)، وفي رواية الإسماعيلي: (فلما رأيته يستحي؛ علَّمتها)، وزاد الدارمي: (وهو يسمع ولا ينكر)، كذا قاله في «عمدة القاري»، وعلى الله اعتمادي، (تطهري) ولابن عساكر: (تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله، تطهري بها؟!)، قالت عائشة رضي الله عنها: (فجذبتها) بالجيم، بعدها ذال معجمة، ثم موحدة، ثم فوقية، وفي بعض الروايات: (فاجتذبتها) بجيم، ثم فوقية، ثم ذال معجمة، ثم موحدة، ثم فوقية، وفي رواية: (فأجذبتها) بإسقاط الفوقية بين الجيم والذال، يقال: جذب واجتذب واجتبذ، كذا في «عمدة القاري» (إليَّ) بتشديد الياء آخر الحروف، وهذا مقول عائشة رضي الله عنها، (فقلت) أي: قالت عائشة لأسماء رضي الله عنهما: (تتبعي) أمر من التتبع، وهو المراد من (تطهري) (بها) أي: بالفرصة المذكورة (أثر الدم) بنصب «أثر» على المفعولية لـ «تتبعي»، والمراد به: الفرج، فيستحب لها أن تتطيب في كل موضع أصابه الدم من بدنها، يدل عليه رواية الإسماعيلي: (تتبعي بها مواضع الدم)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
ثم قال
%ص 352%
رضي الله عنه: ومطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة إلا في الدلك وكيفية الغسل صريحًا؛ لأنَّ الترجمة مشتملة على الدلك أولًا وكيفية الغسل، وأخذ الفرصة الممسكة، والتتبع بها أثر الدم، والحديث أيضًا مشتمل على هذه الأشياء ما خلا الدلك وكيفية الغسل؛ فإنه لا يدل عليهما صريحًا، ويدل على الدلك بطريق الاستلزام؛ لأنَّ تتبع أثر الدم يستلزم الدلك، وهو ظاهر، وأما كيفية الغسل؛ فالمراد بها: الصفة المختصة بغسل المحيض؛ وهي التطيب، لا نفس الاغتسال، ولئن سلمنا أن المراد الكيفية _أي: كيفية نفس الغسل_؛ فهي في أصل الحديث الذي ذكره واكتفى به على عادته أنه يذكر ترجمة، ويذكر فيها ما تضمنه بعض طرق الحديث الذي يذكره؛ إما لكون تلك الطريق على غير شرطه أو باكتفائه بالإشارة إليه أو لغير ذلك من الأغراض، وتمامه عند مسلم؛ فإنه أخرجه من طريق ابن عيينة عن منصور التي أخرجه منها البخاري، فذكر بعد قوله: (كيف تغتسل): ثم تأخذ، ثم رواه من طريق أخرى عن صفية عن عائشة، وفيها كيفية الاغتسال، ولفظه: فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها _أي: أصوله_ ثم تصب عليها، ثم تأخذ فرصة ... »؛ فذكر الحديث، وإنما لم يخرجه البخاري من هذا الطريق؛ لكونه من رواية إبراهيم بن مهاجرة عن صفية، وليس هو على شرطه، فقال البخاري عن علي ابن المديني: (لإبراهيم هذا نحو من أربعين حديثًا)، وقال ابن مهدي: (قال سفيان: لا بأس به)، وقال أحمد: (لا بأس به)، وقال يحيى بن سَعِيْد القطان: (لم يكن بقوي، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء) انتهى كلامه
قلت: ابن الجوزي مشهور بالتعصب والعناد والمكابرة؛ فلا عبرة به، وابن القطان كلامه غير ظاهر، فالمراد على كلام ابن مهدي وسفيان وأحمد بن حنبل: أنه لا بأس به، وكفى بذلك شهادة من هؤلاء الأئمَّة والمثبت مقدم على النافي، وإذا وجد التعديل والجرح؛ فالمقدم التعديل، وعلى هذا؛ كان على المؤلف أن يذكر الحديث؛ لكونه أظهر، والإحالة على غير مذكور غير مناسبة مع ما فيه من الركاكة والخفاء، والله أعلم؛ فافهم.
ثم قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: وفي الحديث: استحباب التطيب للمغتسلة من الحيض والنفاس على جميع المواضع التي أصابها الدم من بدنها؛ لأنَّه أسرع إلى العلوق وأدفع للرائحة الكريهة، واختلف في وقته؛ فقال جماعة: بعد الغسل، وقال آخرون: قبله، وفيه دليل على أنه لا عار على من سأل عن أمر دينه، وفيه: استحباب تطييب [4] فرج المرأة بأخذ قطعة من صوف ونحوها، وتدخلها في فرجها بعد الغسل، والنفساء مثلها، وفيه التسبيح عند التعجب، وفيه استحباب الكنايات فيما يتعلق بالعورات، وفيه سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي يختم بها؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في نساء الأنصار: (لم يمنعهنَّ الحياء أن يتفقهن في الدين)، وفيه الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجنة، وفيه تكرير الجواب لإفهام السائل، وفيه تفسير كلام العالم بحضرته لمن خفي إذا عرف أن ذلك ينجيه، وفيه أن السائل إذا لم يفهم وفهمه بعض من في مجلس العالم والعالم يسمع؛ أن ذلك سماع من العالم؛ لجواز أن يقول فيه: «حدثني» و «أخبرني»، وفيه الأخذ عن المفضول مع وجود الفاضل وحضرته، وفيه صحة العرض على المحدث إذا أقره ولو لم يقل عقيبه: نعم، وفيه أنه لا يشترط فهم السامع لجميع ما يسمعه، وفيه الرفق بالمتعلم وإقامة العذر لمن لا يفهم، وفيه أن المرء مطلوب بستر عيوبه، وفيه دلالة على حسن خلق النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، اللهم؛ إني أسألك بجاهه أن تفرج عنا وعن المسلمين ما أهمنا، اللهم؛ عليك بالظالمين الباغين الفاجرين، فإنهم لا يعجزونك، يا أكرم الأكرمين.
==========
[1] في الأصل: (تطهير).
[2] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (الآتي)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (تطيب).
==================
[1] في الأصل: (تطهير).
[2] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (الآتي)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (تطهير).
[2] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (الآتي)، وهو تحريف.
(1/536)
(14) [باب غسل المحيض]
هذ (باب) بيان كيفية (غسل) بضمِّ الغين المعجمة وفتحها، والأول أفصح؛ أي: المرأة من (الحيض) وفي رواية: (المحيض)؛ وكلاهما مصدران، وغسلها من الحيض كغسلها من الجنابة سواء، غير أنها تزيد على ذلك استعمالها الطيب، وهذا الباب في الحقيقة لا فائدة في ذكره؛ لأنَّ الحديث الذي فيه هو الحديث المذكور في الباب الذي قبله غير أن ذلك عن يحيى عن منصور، وهذا عن مسلم، عن وهيب، عن منصور، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
==========
%ص 353%
==================
(1/537)
[حديث: خذي فرصةً ممسكةً، فتوضئي ثلاثًا]
315# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسلم) بضمِّ الميم الأولى، هو ابن إبراهيم، كما في رواية الأصيلي (قال: حدثنا وهيب) بضمِّ الواو مصغرًا، هو ابن خالد (قال: حدثنا منصور) هو ابن عبد الرحمن بن طلحة، (عن أمه) هي صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: (أن امرأة من الأنصار) واسمها أسماء بنت شَكَل _بفتح الشين المعجمة والكاف، آخره لام، كما في رواية مسلم_ الأنصارية التي يقال لها: خطيبة النساء، هذا هو الصواب كما سبق لأولي الألباب، (قالت للنبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو في حجرته (كيف أغتسل من المحيض؟)؛ بالميم، أي: الحيض؛ وكلاهما مصدران، (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (خذي) هو بيان الكيفية، وذلك كما في رواية مسلم: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى يبلغ شؤون رأسها_أي: أصوله_؛ ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ» (فِرْصة)؛ بكسر الفاء، وسكون الراء، أي: قطعة من صوف أو قطن، وما زعمه ابن حجر من أن «القرصة» بالقاف والصاد المهملة؛ أي: شيئًا بطرف الأصابع؛ مردود بنقل أئمة اللغة مع ما فيه من خلاف المعنى المقصود، وهذا قول من لم يشم شيئًا من رائحة العلم، (مُمَسَّكة)؛ بضمِّ الميم الأولى، وفتح الثانية، وتشديد السين المهملة مع فتحها، أي: مطيبة بالمسك؛ وهو دم الغزال المعروف، (وتوضئي)؛ أي: تنظفي؛ لأنَّ الوضوء في اللغة: النظافة، وفي رواية: (فتوضئي)، وفي أخرى: (فتوضئي بها) أي: بالفرصة (ثلاثًا) متعلق بـ (قال) أي: ثلاث مرات، لا بـ (توضئي)، ويحتمل تعلقه بـ (قالت)
%ص 353%
أيضًا بدليل الحديث المتقدم، قاله صاحب «عمدة القاري»، (ثم إن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهذا مقول عائشة رضي الله عنها (استحى) لأنَّه عليه السلام كامل الأوصاف الحميدة، (فأعرض) ولابن عساكر، وأبي ذر، والأصيلي: (وأعرض) (بوجهه) الشريف عنها؛ لما تكرر منه الجواب وهي تسأله ولا تستحي، فاستحياؤه عليه السلام من تكرار الجواب لسؤالها الخاص بالنساء_ (أو قال) شك من عائشة: (توضئي بها) أي: تنظفي بالفرصة_والفرق بين الروايتين زيادة لفظ «بها»؛ يعني: تطهري بالفرصة، ووقع في رواية ابن عساكر بالواو من غير شك، (فأخذتُها فجذبتُها) بالجيم، والذال المعجمة، ثم موحدة، ثم فوقية، وهذا مقول عائشة، وإنما أخذتها؛ لإعراضه عليه السلام عنها؛ والمعنى: باعدتها عن مجلس النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فأخبرتُها) والضمير في الثلاثة للمتكلم، وهي عائشة (بما)؛ أي: بالجواب الذي (يريد) أي: يريده (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: من تتبع أثر الدم وإزالة الرائحة الكريهة.
قيل: الترجمة لغسل الحيض والحديث لم يدل عليها؛ فلا مطابقة.
وأجاب إمام الشارحين في «عمدة القاري» بأنه إن كان لفظ «الغسل» في الترجمة بفتح الغين المعجمة، والمحيض اسم مكان؛ فالمعنى ظاهر، وإن كان بضمِّ الغين المعجمة، والمحيض مصدر؛ فالإضافة بمعنى «اللام» الاختصاصية؛ فلهذا ذكر خاصة هذا الغسل وما به امتاز [1] عن سائر الأغسال، والكلام فيما يتعلق به قد مضى في الباب الذي قبله، والله تعالى أعلم، اللهم؛ فرج عنا ما أهمنا يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (ممتاز).
==================
(1/538)
(15) [باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض]
هذا (باب) بيان (امتشاط المرأة) مطلقًا بكرًا كانت أم ثيبًا، حرة كانت أم رقيقة (عند غُسلها)؛ بضمِّ الغين المعجمة وفتحها، والأول أفصح (من المحيض)؛ بالميم، أي: الحيض؛ وكلاهما مصدران، ومثلها النفساء والجنب، كما لا يخفى، والامتشاط «افتعال» من المَشط، بفتح الميم وهو التسريح؛ يعني: تسريح شعر رأسها عند اغتسالها من الحدث الأكبر، ووجه المناسبة بين؛ من حيث إن في كل منهما ما يشعر بزيادة التنظيف والنقاء، كما لا يخفى.
==================
(1/539)
[حديث: انقضي راسك وامتشطي وأمسكي عن عمرتك]
316# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) هو التبوذكي (قال: حدثنا إبراهيم) هو ابن سعد _بسكون العين المهملة_ ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، نزيل بغداد (قال: حدثنا ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزُهْرِي (عن عروة) بضمِّ العين المهملة، هو ابن الزبير _بضمِّ الزاي_ هو ابن العوام، ومن لطائف هذا الإسناد أن إبراهيم يروي عن الزُهْرِي بلا واسطة، وروى عنه في باب «تفاضل أهل الإيمان» بواسطة؛ روى عن صالح عن الزُهْرِي: (أن عائشة) بفتح الهمزة، وتشديد النون، وهي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: أهللت) أي: أحرمت ورفعت الصوت بالتلبية (مع رسول الله) وللأصيلي: (مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وذلك (في حجة الوداع)؛ بفتح الواو وكسرها، والدال المهملة مخففة مفتوحة، سميت بذلك؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ودع الناس فيها، (فكنت ممن تمتع) فيه التفات من المتكلم إلى الغائب؛ لأنَّ أصله أن يقال: فتمتعت، ولكن ذكر باعتبار لفظ «من»، كذا قاله إمام الشارحين، وتبعه القسطلاني وغيره.
واعترض بعضهم بأنه لا التفات هنا، والأولى أن يقال: وفيه مراعات لفظ «من»، ولو روعي معناها؛ لقيل: ممن تمتعوا؛ تأمل.
قلت: وهو مردود، بل فيه التفات نوعي، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، وقوله: (والأولى ... ) إلخ هذا عين ما قاله إمام الشارحين؛ فقد زاد هذا القائل في الطنبور نغمة؛ فافهم.
(ولم يسق الهدي)؛ بفتح الهاء، وسكون الدال المهملة، وبكسرها مع تشديد المثناة التحتية، وهو اسم لما يهدى إلى مكة من الأنعام.
وزعم الكرماني أن هذا كالتأكيد؛ لبيان التمتع؛ لأنَّ المتمتع لا يكون معه الهدي.
ورده إمام الشارحين فقال: (قلت: المتمتع على نوعين؛ أحدهما: أنه يسوق معه الهدي، والآخر: لا يسوق، وحكمهما يختلف كما ذكر في فروع الفقه) انتهى.
(فزعمت أنها حاضت) أي: تلبست بالحيض، وإنما لم يقل: فقالت؛ لأنَّها لم تتكلم به صريحًا إذ هو مما يستحى في تصريحه (ولم تطهر) أي: من حيضها (حتى دخلت ليلة عرفة) هي ليلة التاسع من ذي الحجة، فيحتمل أنها حاضت بعد دخول النبي الأعظم عليه السلام مكة، ويحتمل قبله.
وزعم القسطلاني معزيًا للدماميني أن فيه دلالة على أن حيضها كان ثلاثة أيام خاصة؛ لأنَّ دخوله عليه السلام مكة كان في الخامس من الحجة، فحاضت يومئذٍ فطهرت يوم عرفة، ويدل على أنها حاضت يومئذٍ: قوله عليه السلام في باب (كيف تهل الحائض بالحج والعمرة): «من أحرم بعمرة ... »؛ الحديث، قالت: فحضت، ففيه دليل على أن حيضها كان يوم القدوم إلى مكة، قالت: فلم أزل حائضًا حتى كان يوم عرفة، انتهى.
قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّ خصوصية كون حيضها ثلاثة أيام يحتاج إلى دليل، ولم يوجد، بل الصواب الاحتمال، وهو أنه قد حاضت أربعة أيام أو خمسة أو أكثر، ولا يلزم أن تكون حاضت في مكة، بل يحتمل أنها حاضت قبل دخولها مكة كما هو الظاهر، وما استدل به من أن دخوله عليه السلام كان في الخامس من الحجة لا ينهض؛ لاحتمال دخوله عليه السلام مكة يوم الرابع أو الثالث من الحجة، وهو الصواب؛ لأنَّ عادته عليه السلام التعجيل في أمر العبادة، ولأجل التأهب لأفعال الحج، وما استدل به من أنها حاضت يومئذٍ لا ينهض دليلًا له، بل الظاهر المتبادر من قوله عليه السلام في باب (كيف تهل الحائض) أنها حاضت قبل القدوم إلى مكة، ولا مانع من استمرار الحيض حتى قدمت مكة، ولم يشعر به عليه السلام حتى قدم مكة؛ لأنَّ إظهار ذلك مما يستحى منه، فلم يعلم عليه السلام ذلك منها حتى دخلت مكة، على أن الحديث مطلق، فليس فيه دليل على ما قاله هذا القائل؛ فافهم.
(وقالت) أي: عائشة، وفي رواية: (فقالت)، وكلاهما عطف على (حاضت)، وفي رواية: (قالت) بغير عطف: (يا رسول الله؛ هذه ليلة يوم عرفة) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية: (هذه ليلة عرفة) يعني: هذا الوقت، وفي رواية: (هذه يوم عرفة) يعني: ليلة يوم عرفة، (وإنما كنت تمتعت بعمرة) أي: وأنا حائض، وهذا تصريح بما علم ضمنًا؛ لأنَّ التمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج مَن على مسافة القصر من الحرم، ثم يحرم بالحج في سنة تلك العمرة بلا عود إلى ميقات، وبعد هذا الكلام مقدر؛ تقديره: تمتعت بعمرة وأنا حائض، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري».
%ص 354%
(فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) في الجواب: (انقُضي)؛ بضمِّ القاف، وفي بعض الروايات: (انفضي)؛ بالفاء؛ ومعناه: حلي وفكي (رأسك) أي: شعره، فالمضاف محذوف، (وامتشطي)؛ أي: تسرحي، (وأمسكي) بهمزة قطع (عن عمرتك)؛ بكسر الكاف، أي: لا تفعلي شيئًا من أفعال العمرة، وهذا يدل على أن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أمرها برفض عمرتها، وأن تخرج منها قبل إتمامها؛ ولهذا قال الأئمَّة الكوفيون في المرأة: تحيض قبل الطواف، وتخشى فوات الحج: أنها ترفض العمرة، وقال رأس المجتهدين الإمام الأعظم والجمهور: إنها تردف الحج وتكون قارنة، وبه قال مالك، وأبو ثور، والشافعي، وحمله بعض أصحاب مالك على أنه عليه السلام أمرها بالإرداف ولا تنقض، واعتذروا عن هذه الألفاظ بتأويلات؛ أحدها: أنها كانت مضطرة إلى ذلك؛ فرخص لها كما رخص لكعب بن عجرة في الحلق للأذى، ثانيها: أنه خاص بها، ثالثها: أن المراد بالنقض والامتشاط: تسريح الشعر لغسل [1] الإهلال بالحج، ولعلها كانت لبدت رأسها، ولا يتأتى إيصال الماء إلى البشرة مع التلبيد إلَّا بحلِّ الضفر والتسريح، وقد اختلف العلماء في نقض المرأة عند الاغتسال، فأمر به ابن عمر، والنخعي، ووافقهما طاووس في الحيض دون الجنابة، ولا يتبين فرق بينهما، ولم يوجبه عليها، فنهى عائشة، وأم سَلَمَة، وابن عمر، وجابر، وبه قال الكوفيون، ومالك، والشافعي، وعامة الفقهاء، والعبرة بالوصول، فإن لم يصل؛ فينقض، كذا قرره إمام الشارحين، ثم قال: وقول عائشة رضي الله عنها: (فتمتعت بعمرة) يدل على: أنها كانت معتمرة أولًا.
فإن قلت: أصح الروايات عن عائشة أنها قالت: (لا نرى إلا الحج، ولا نذكر إلا الحج، وخرجنا مهلين بالحج) فكيف الجمع بينهما وبين ما قالت عائشة: (تمتعت بعمرة)؟
قلت: الحاصل أنها أحرمت بالحج، ثم فسخته إلى عمرة حين أمر الناس بالفسخ، فلما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة؛ أمرها النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالإحرام بالحج، فأحرمت به، فصارت مدخلة للحج على العمرة وقارنة؛ لما ثبت من قوله عليه السلام: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك»، ومعنى (انسكي من عمرتك): ليس إبطالها بالكلية والخروج منها بعد الإحرام بنية الخروج، وإنما يخرج منها بالتحلل بعد فراغها، بل معناه: اقضي العمل فيها وإتمام أفعالها، وأعرضي عنها، ولا يلزم من نقض الرأس والامتشاط إبطال العمرة؛ لأنَّهما جائزان عندنا في الإحرام بحيث لا ينتف شعرًا، لكن يكره الامتشاط إلا لعذر، وتأولوا فعلها: على أنها كانت معذورة؛ بأن كان برأسها أذى، وقيل: ليس المراد بالامتشاط حقيقته، بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل؛ لإحرامها بالحج، لا سيما إن كانت لبدت رأسها، فلا يصح غسلها إلا بإيصال الماء إلى جميع شعرها، ويلزم منه نقضه.
فإن قلت: إذا كانت قارنة، فلم أمرها بالعمرة بعد الفراغ من الحج؟
قلت: معناه: أرادت أن يكون لها عمرة منفردة عن الحج، كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من أصحابه الذين فسخوا الحج إلى العمرة، ثم أحرموا بالحج، فحصل لهم عمرة منفردة وحج منفرد، فلم يحصل لها إلا عمرة مندرجة في حجة بالقران، فاعتمرت بعد ذلك مكان عمرتها التي كانت أرادت أولًا: حصولها منفردة غير مندرجة، ومنعها الحيض منه، وإنما فعلت ذلك؛ حرصًا مع كثرة العبادات، كذا زعمه النووي، ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» فقال إمام الشارحين: والمشهور: الثالث؛ وهو أن عائشة رضي الله عنها كانت منفردة بالحج، وأنه عليه السلام أمرها برفض العمرة، وقولها في الحديث: (وأرجع بحجة واحدة) دليل واضح على ذلك، وقولها: (ترجع صواحبي بحجة وعمرة، وأرجع أنا بالحج) صريح في رفض العمرة؛ إذ لو أدخلت الحج على العمرة؛ كانت هي وغيرها سواء، ولمَا احتاجت إلى عمرة أخرى بعد العمرة والحج اللذين فعلتهما، وقوله عليه السلام من عمرتها الأخيرة بـ «هذه مكان عمرتك» صريح في أنها خرجت من عمرتها الأولى ورفضتها؛ إذ لا تكون الثانية مكان الأولى إلا والأولى مفقودة، وفي بعض الروايات: (هذه قضاء من عمرتك).
وزعم البيهقي: (أن معنى قوله عليه السلام: «ودَعي العمرة»: أمسكي عن أفعالها، وأدخلي عليها الحج).
ورده إمام الشارحين فقال: (هذا خلاف حقيقة قوله عليه السلام: «ودعي العمرة»، بل حقيقته أنه أمرها برفض العمرة بالحج، وقوله عليه السلام: «انقضي رأسك وامتشطي» يدل على ذلك، ويدفع تأويل البيهقي الإمساك عن أفعال العمرة؛ لأنَّ المحرم ليس له أن يفعل ذلك) انتهى.
وزعم الشافعي أنه لا يعرف في الشرع رفض العمرة بالحيض.
ورده إمام الشارحين بما قاله الإمام أبو الحسن القدوري في «التجريد»: (إنه ما رفضتها بالحيض، لكن تعذرت أفعالها وكانت ترفضها بالوقوف، فأمرها بتعجيل الرفض)، والله تعالى أعلم.
قالت عائشة: (ففعلت)؛ أي: فعلت النقض، والامتشاط، والإمساك، وهنا مقدر أيضًا وهو في قولها: (فلما قضيت) أي: أديت (الحج) أي: بعد إحرامي به؛ (أمر) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (عبد الرحمن) هو ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فهو أخوها (ليلة الحَصْبة)؛ بفتح الحاء، وسكون الصاد المهملتين، ثم بالباء الموحدة، وهي الليلة التي نزلوا فيها في
%ص 355%
المحصب؛ وهو المكان الذي نزلوه بعد النفر من منًى خارج مكة، وهي الليلة التي بعد أيام التشريق، سميت بذلك؛ لأنَّهم نفروا من منًى فنزلوا في المحصب وباتوا فيه، والحصبة والحصباء، والأبطح، والبطحاء، والمحصب، وحنيف بني كنانة يراد بها: موضع واحد، وهو بين مكة ومنًى، كذا في «عمدة القاري»، (فأعمرني) وفي رواية: (فاعتمر بي)، وهي مفسرة للأولى؛ فافهم، (من التنعيم) وهو «تفعيل» من النعمة؛ وهو موضع على فرسخ من مكة على طريق المدينة، وفيه مسجد عائشة رضي الله عنها (مكان عمرتي) وفي رواية: (موضع عمرتي) يعني: بدلها، وفي رواية: (قضاء عمرتي) (التي نسكت) من النسك، كذا في رواية الأكثرين؛ ومعناه: أحرمت بها، وفي رواية أبي زيد المروزي: (سكت) من السكوت؛ أي: عمرتي التي تركت أعمالها وسكت عنها، وروى القابسي: (شكت)؛ بالشين المعجمة؛ أي: شكت العمرة من الحيض، وإطلاق الشكاية عليها؛ كناية عن اختلالها وعدم بقاء استقلالها، ويجوز أن يكون الضمير فيه راجعًا إلى عائشة، وكان حقه التكلم، وذكره بلفظ الغيبة التفاتًا، كذا قرره إمام الشارحين.
ثم قال: وظاهر هذا الحديث: أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بعمرة أولًا، وهو صريح حديثها الآتي في الباب بعد، وقولها في الحديث الذي مضى: (خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا نذكر إلا الحج)، وقد اختلفت الرواية عن عائشة فيما أحرمت به اختلافًا كثيرًا، ففي رواية عروة: (فأهللنا بعمرة)، وفي رواية أخرى: (ولم أهل إلا بعمرة)، وفي رواية: (لا نذكر إلا الحج)، وفي أخرى: (لا نرى إلا الحج)، وفي رواية القاسم عنها: (لبينا بالحج)، وفي أخرى: (مهلين بالحج)، واختلف العلماء في ذلك؛ فمنهم: من رجح روايات الحج، وغلط روايات العمرة، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، ومنهم: من جمع _لثقة راويها_ بأنها أحرمت أولًا بالحج ولم تسق الهدي، فلما أمر الشارع من لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة إن شاء، ففسخت هي فيمن فسخ وجعلته عمرة وأهلت بها، ثم إنها لم تحل منها حتى حاضت، فتعذر عليها إتمامها والتحلل منها، فأمرها أن تحرم بالحج فأحرمت فصارت قارنة، ووقفت وهي حائض، ثم طهرت يوم النحر فأفاضت، وذكر ابن حزم أنه عليه السلام خيرهم بسرف بين فسخه إلى العمرة والتمادي عليه، وأنه بمكة أوجب عليهم التحلل إلا من معه الهدي، وفي «الصحيح»: أنها حاضت بسرف أو قريب منها، فلما قدم مكة؛ قال عليه السلام: «اجعلوها عمرة».
وقال أبو عمر: الاضطراب في حديث عائشة بالحج عظيم، وقد أكثر العلماء في توجه الروايات فيه، ودفع بعضهم بعضًا فيه ببعض، ولم يستطيعوا الجمع بينهما، ورام قوم الجمع في بعض معانيها: روى محمَّد بن عبد الله، عن حمَّاد بن زيد، عن أيُّوب، عن ابن أبي مليكة قال: ألا تعجب من اختلاف عروة والقاسم! قال القاسم: أهلَّت [2] عائشة بالحج، وقال عروة: أهلَّت [3] بالعمرة، وذكر الحارث بن مسكين، عن يوسف بن عمر، وعن وهب، عن مالك أنه قال: ليس العمل في رفض العمرة؛ لأنَّ العمل عليه عنده في أشياء كثيرة؛ منها: أنه جائز للإنسان أن يعمل بعمرة، ومنها: أن القارن بطواف واحد أو غير ذلك.
وزعم ابن حزم أن حديث عروة عن عائشة منكر وخطأ عند أهل العلم، ثم روى بإسناده إلى أحمد ابن حنبل، فذكر حديث مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة: (خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عام حجة الوداع ... )؛ الحديث، فقال أحمد: أثر في هذا الحديث من العجب! هذا خطأ، قال الأشرم: فقلت له: الزُهْرِي عن عروة، عن عائشة تخالفه، قال: نعم؛ وهشام بن عروة.
ودفع الأوزاعي وأبو ثور حديث عروة وابن علية هذا وقالوا: هو غلط لم يتابع عروة على ذلك أحد من أصحاب عائشة، وقال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء _يعني: القاسم، والأسود، وعُمَيْرة_ على أن أم المؤمنين كانت محرمة بحجة، لا بعمرة، فعلمنا بذلك أن الرواية عن عروة غلط، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري».
قال الداودي ومن تبعه: ليس في الحديث دليل على الترجمة؛ لأن [4] أمرها بالامتشاط كان للإهلال وهي حائض، لا عند غسلها، وأجاب الكرماني بأن الإحرام بالحج يدل على غسل الإحرام؛ لأنَّه سنة ولما سن الامتشاط عند غسله؛ فعند غسل الحيض بالطريق الأولى؛ لأنَّ المقصود منه التنظيف؛ وذلك عند إرادة إزالة أثر الحيض الذي هو نجاسة غليظة أهم، أو لأنَّه إذا سن في النفل؛ ففي الفرض أولى.
وقال إمام الشارحين: (إن الإهلال بالحج يقتضي الاغتسال صريحًا في هذه القصة؛ فيما أخرجه مسلم من طريق ابن الزبير عن مُجَاهِد، ولفظه: «فاغتسلي، ثم أهلي بالحج»، وقيل: جرت عادة البخاري في كثير من التراجم أنه يشير إلى ما تضمنه بعض طرق الحديث وإن لم يكن منصوصًا فيما ساقه) انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (للغسل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أهللت).
[3] في الأصل: (أهللت).
[4] في الأصل: (لا).
==================
[1] في الأصل: (للغسل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أهللت).
[3] في الأصل: (أهللت).
[1] في الأصل: (للغسل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أهللت).
[3] في الأصل: (أهللت).
(1/540)
(16) [باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض]
هذا (باب) بيان حكم (نقض) أي: حل وفك (المرأة) مطلقًا، حرة أم أمة، بكرًا أم ثيبًا (شعرها)؛ بالتحريك، أي: شعر رأسها (عند غُسل) بفتح الغين المعجمة، وبضمِّها، وهو الأفصح (المحيض) أي: الحيض، وجوابه مقدر؛ أي: هل يجب أم لا؟ وظاهر الحديث الوجوب، وقد ذكرنا الاختلاف في الباب السابق.
والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأنَّ النقض والامتشاط من جنس واحد وحكم واحد.
==========
%ص 356%
==================
(1/541)
[حديث: دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي]
317# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبيد) بضمِّ العين المهملة؛ مصغرًا (بن إسماعيل) هو ابن محمَّد الهَبَّاري _بفتح الهاء، وبالباء الموحدة المشددة، وبالراء_ الكوفي، ويقال: اسمه عبيد الله، مات سنة خمسين ومئتين (قال: حدثنا أبو أسامة) هو حمَّاد بن أسامة الهاشمي الكوفي، (عن هشام) هو ابن عروة، (عن أبيه) هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) هي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنهما (قالت: خرجنا)
%ص 356%
أي: الصحابة مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من المدينة (موافين لهلال ذي الحجة) أي: مكملين ذا القعدة مستقبلين هلال ذي الحجة، وفي رواية: (موافقين)، وزعم النووي أي: مقارنين لاستقباله، واعترضه في «عمدة القاري»، وجزم أن معناه: مشرفين، يقال: أوفى على كذا؛ أي: أشرف، ولا يلزم الدخول فيه، وكان خروجهم قبله لخمس ليال بقين من ذي القعدة يوم السبت، وقدم النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مكة لأربع أو خمس من ذي الحجة، فأقام في طريقه إلى مكة تسعة أيام أو عشرة أيام، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني صحيح؛ فافهم.
(فقال) ولأبوي ذر والوقت: (قال) (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) لأصحابه: (من أحب أن يهلَّ)؛ بلام واحدة مشددة، وفي رواية: (يهلل)؛ بلامين؛ أي: يحرم (بعمرة؛ فليهل)؛ بتشديد اللام في رواية الأكثرين، وفي رواية: (فيلهلل)؛ بفك الإدغام؛ أي: فليحرم بها، (فإني لولا أني أهديت) أي: سقت الهدي، وإنما كان وجود الهدي علة؛ لانتفاء الإحرام بالعمرة؛ لأنَّ صاحب الهدي لا يجوز له التحلل حتى ينحر، ولا ينحر إلا في يوم النحر، والمتمتع يتحلل قبل يوم النحر؛ فهما متنافيان؛ (لأهللت) كذا في رواية، وفي أخرى: (لأحللت) (بعمرة).
قال الكرماني: هذا الحديث دليل على أن التمتع أفضل من الإفراد، فماذا قال الشافعي في دفعه؟
وأجاب إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: إنه عليه السلام إنَّما قاله؛ من أجل فسخ الحج إلى العمرة والذي هو خاص بهم في تلك السنة خاصة؛ لمخالفة الجاهلية؛ حيث حرموا العمرة في أشهر الحج، ولم ير بذلك التمتع الذي فيه الخلاف وقال: هذا تطييبًا لقلوب أصحابه وكانت نفوسهم لا تسمح بفسخ الحج إليها؛ لإرادتهم موافقته عليه السلام، ومعناه: ما يمنعني من موافقتكم مما أمرتكم به إلا سوق الهدي ولولاه؛ لوافقتكم، قلت: الرواية عن الإمام الأعظم رأس المجتهدين أن الإفراد أفضل من التمتع، وتبعه الشافعي، ولكن المذهب أن التمتع أفضل من الإفراد؛ لأنَّ فيه جمعًا بين عبادتي العمرة والحج في سفر واحد، فأشبه القران) انتهى كلامه.
قلت: والقران أفضل من التمتع فالحج قارنًا؛ كالصَّلاة إمامًا، والحج متمتعًا؛ كالصَّلاة مقتديًا، والحج مفردًا؛ كالصَّلاة منفردًا، هذا هو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم؛ لقول الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله، كذا فسرته الصحابة رضي الله عنه، وهو القران، وحديث أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لبيك عمرة وحجًّا، لبيك عمرة وحجًّا» رواه الشيخان، وعن علي رضي الله عنه قال: أتيت النبي عليه السلام فقال: «كيف أهللت؟» فقلت: أهللت بإهلالك، فقال: «إني سقت الهدي وقرنت» رواه أبو داود والنسائي، وهذا حجة على مالك، وأحمد، والشافعي؛ حيث قالوا: إن الإفراد أفضل، ثم التمتع، ثم القران؛ لما روي عنه عليه السلام: القران رخصة؛ فالعزيمة أولى، قلنا: هذا نفي لقول الجاهلية: إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، أو يقال: سقوط سفر العمرة صار رخصة، وتمامه فيما قدمناه؛ فليحفظ.
(فأهل بعضهم) أي: بعض الصحابة (بعمرة) أي: صاروا متمتعين، (وأهل بعضهم) أي: بعض الصحابة (بحج) أي: صاروا مفردين (وكنت أنا ممن أهل بعمرة) وهذا مقول عائشة، فصارت متمتعة، (فأدركني يوم عرفة) وهو التاسع من ذي الحجة (وأنا حائض) أي: متلبسة به، (فشكوت)؛ بالشين المعجمة، من الشكاية؛ أي: شكت العمرة من الحيض (إلى النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وإطلاق الشكاية عليها؛ كناية عن اختلالها وعدم بقاء استقلالها، (فقال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (دعي عمرتك)؛ بكسر الكاف، حقيقة؛ ذلك أنه أمرها برفض العمرة بالحج، وقوله: (وانقضي)؛ بالقاف؛ أي: حلي وفكي [1] (رأسك) أي: شعره، (وامتشطي) أي: سرحيه [2] يدل على ما قلناه، وقول الكرماني وتبعه القسطلاني: (أي: أفعال العمرة لا نفسها) خلاف الحقيقة؛ لأنَّ المحرم ليس له أن يفعل ذلك، كما تقدم، (وأهلي بحج) أي: مكان العمرة، أو مع العمرة، (ففعلت) أي: فعلت النقض، والامتشاط، والإهلال بالحج (حتى إذا كان ليلة الحَصْبة)؛ بفتح الحاء، وسكون الصاد المهملتين، وبالباء الموحدة؛ وهي الليلة التي نزلوا فيها بالمحصب؛ موضع بين مكة ومنًى يبيتون فيه إذا نفروا منها، وهذا كلام إضافي، و (كان) تامة بمعنى: وجدت، ويجوز نصب (الليلة) على أن تكون (كان) ناقصة، ويكون اسم (كان) الوقت، كذا قرره في «عمدة القاري»؛ (أرسل) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (معي أخي عبد الرحمن بن أبي بكر) أي: الصديق الأكبر رضي الله عنهم، (فخرجت) أي: معه (إلى التنعيم)؛ «تفعيل» من «النعمة»: موضع على فرسخ من مكة على طريق المدينة، وفيه مسجد عائشة الصديقة، (فأهللت بعمرة) أي: من التنعيم (مكان عمرتي) أي: التي رفضتها.
فإن قلت: ليس في الحديث دلالة على الترجمة؛ لأنَّ أمرها بنقض الشعر كان للإهلال وهي حائض، لا عند غسلها؟
قلت: إنَّ نقض شعرها كان لغسل الإحرام وهو سنة، فالغسل للحيض أولى؛ لأنَّه فرض، وقد كان ابن عمر يقول بوجوبه، وبه قال الحسن البصري، وطاووس في الحائض دون الجنب، وبه قال أحمد، ورجح جماعة من أصحابه الاستحباب فيهما، ومذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والشافعي، والجمهور السنية؛ لحديث أم سَلَمَة: (إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للجنابة؟ قال: «لا») رواه مسلم، وحملوا حديث عائشة هذا على الاستحباب؛ جمعًا بين الروايتين إلا إذا لم يصل الماء إلا بالنقض، فحينئذٍ يجب نقضه، والله تعالى أعلم، (قال هشام) هو ابن عروة، هذا يحتمل التعليق، ويحتمل أن يكون عطفًا من جهة المعنى على لفظ «هشام»، ثم قول هشام يحتمل أن يكون معلقًا، ويحتمل أن يكوت متصلًا بالإسناد
%ص 357%
المذكور، والظاهر: الأول، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
(ولم يكن في شيء من ذلك هدي، ولا صوم، ولا صدقة) وظاهره مشكل؛ فإنها إن كانت قارنة؛ فعليها الهدي للقران عند كافة العلماء إلا داود، وإن كانت متمتعة؛ فكذلك، لكنها كانت فاسخة كما سلف، ولم تكن [3] قارنة ولا متمتعة، وإنما أحرمت بالحج، ثم نوت فسخه في عمرة، فلما حاضت ولم يتم لها ذلك؛ رجعت إلى حجها، فلما أكملته؛ اعتمرت عمرة مبتدأة، نبه عليه القاضي عياض، واعترضه إمام الشارحين في «عمدة القاري» بأنه يعكر عليه قولها: (وكنت ممن أهل بعمرة)، وأجاب: بأن هشامًا لما لم يبلغه ذلك؛ أخبر بنفيه، ولا يلزم من ذلك نفيه في نفس الأمر، ويحتمل أن يكون لم يأمر به، بل نوى أنه يقوم به عنها، بل روى جابر رضي الله عنه: أنه صلَّى الله عليه وسلَّم أهدى عن عائشة بقرة، وقال القاضي عياض: فيه دليل على أنها كانت في حج مفرد، لا تمتع ولا قران؛ لأنَّ العلماء مجمعون على وجوب الدم فيهما) انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (وفك)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (سريحه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (يكن)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (وفك)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (سريحه)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (وفك)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (سريحه)، وهو تحريف.
(1/542)
(17) [باب: {مخلقة وغير مخلقة}]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان قول الله عز وجل _كما للأصيلي_ أو قول النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (مخلقة)؛ يعني: إذا أراد الله أن يقضي خلقه؛ قال الملك: مخلقة، وإذا لم يرد ذلك؛ قال: (غير مخلقة) أي: تامة أو غير تامة، قاله قتادة، وعن الشعبي: (النطفة، والعلقة، والمضغة إذا كسيت في الخلق؛ كانت مخلقة، وإذا قذفتها قبل ذلك؛ كانت غير مخلقة)، وعن أبي العالية: (المخلقة: المصورة، وغير المخلقة: السقط)، وقال جار الله الزمخشري: (مخلقة: أي: مسواة ملساء من العيب والنقصان، يقال: خلق السواد؛ إذا سواه وملسه، وغير مخلقة؛ أي: غير مسواة)، وروي عن علقمة: (إذا وقعت النطفة؛ قال له الملك: مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة؛ مجها الرحم دمًا، وإن قال: مخلقة؛ قال: ذكر أم أنثى)، ويحتمل أن يكون المؤلف أراد الآية الكريمة فأورد الحديث؛ لأنَّ فيه ذكر المضغة، والصفة مخلقة وغير مخلقة، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنه رواه بالإضافة؛ أي: باب تفسير قوله: مخلقة وغير مخلقة.
ورده إمام الشارحين فقال: قلت: ليت شعري؛ هل روى هذا عن البخاري نفسه أم عن الفربري؟! وكيف يقول: باب تفسير قوله تعالى: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، وليس في متن حديث الباب: مخلقة وغير مخلقة، وإنما فيه ذكر المضغة، وهي مخلقة وغير مخلقة؟) انتهى.
قلت: على أنه ليس مراد المؤلف تفسير المخلقة وغير المخلقة، وإنما مراده: أن الحامل لا تحيض، يدل لذلك أنه بصدد كتاب (الحيض)، ومحل ما زعمه هذا القائل كتاب (التفسير) فكيف خفي هذا على من ادعى الرساخة في العلم، وليس عنده شيء من الفهم؟! والأحسن في إعرابه أن يكون (باب) منونًا، ويكون خبر مبتدأ محذوف، كما قدرناه؛ فليحفظ.
واعلم: أن غرض المؤلف هنا الإشارة إلى أن الحامل لا تحيض؛ لأنَّ اشتمال الرحم على الولد يمنع خروج دم الحيض، ويقال: إنه يصير غذاء للجنين، وممن ذهب إلى أن الحامل لا تحيض رأس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والأئمَّة الكوفيون، وأحمد ابن حنبل، وأبو ثور، والأوزاعي، والثوري، والحسن البصري، وعطاء، وسَعِيْد بن المسيب، والشعبي، والزُهْرِي، والحكم، وحمَّاد، ومكحول، ومحمَّد بن المنكدر، وجابر بن زيد، وابن المُنْذِر، وأبو عبيد، والشافعي في أحد قوليه، وهو القول القديم، وقال في الجديد: إنها تحيض، وبه قال إسحاق، وعن مالك روايتان، وحكي عن بعض المالكية: إن كان في آخر الحمل؛ فليس بحيض، وإن كان في أوله؛ فحيض، وذكر الداودي: (أن الاحتياط أن تصوم وتصلي، ثم تقضي الصوم، ولا يأتيها زوجها).
وقال ابن بطال: (غرض البخاري بإدخال هذا الحديث في أبواب الحيض تقوية مذهب من يقول: إن الحامل لا تحيض) انتهى؛ يعني: وضعف من يقول: إنها تحيض، وأنه قول شاذ، لا يعتمد عليه.
وزعم ابن حجر (أن في الاستدلال بالحديث المذكور على أنها لا تحيض نظر؛ لأنَّه لا يلزم من كون ما يخرج من الحامل من السقط الذي لم يتصور ألا يكون الدم الذي تراه المرأة التي [1] يستمر حملها ليس بحيض، وما ادعاه المخالف؛ من أنه رشح من الولد، ومن فضلة غذائه، أو دم فاسد، أو لعلة؛ فيحتاج إلى دليل؛ لأنَّ هذا دم بصفات دم الحيض، وفي زمن إمكانه، فله حكم دم الحيض، فمن ادعى خلافه؛ فعليه البيان) انتهى.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» فقال: قلت: إنَّما ادعيت الخلاف، وعليَّ البيان، أما أولًا؛ فنقول: لنا في هذا الباب أحاديث وأخبار؛ منها: حديث سالم عن أبيه وهو: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء؛ أمسكها، وإن شاء؛ طلقها قبل أن يمس، فذلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء» متفق عليه.
ومنها: حديث أبي سَعِيْد الخدري رضي الله عنه قال في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» رواه أبو داود.
ومنها: حديث زريع بن ثابت قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يحل لأحد أن يسقي ماءه زرع غيره، ولا يقع على أمة حتى تحيض، أو يتبين حملها» رواه أحمد ابن حنبل، فجعل النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وجود الحيض علامة على براءة الرحم من الحبل في الحرتين، ولو جاز اجتماعهما؛ لم يكن دليلًا على انتفائه، ولو كان بعد الاستبراء بحيضة احتمال الحمل؛ لم يحل وطؤها للاحتياط في أمر الإبضاع.
وأما الأخبار؛ فمنها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقًا للولد)، رواه ابن شاهين.
ومنها: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الله رفع الحيض وجعل الدم رزقًا للولد مما تفيض الأرحام)، رواه ابن شاهين أيضًا.
ومنها: ما رواه الدارقطني والأشرم بإسنادهما عن عائشة رضي الله عنها في الحامل ترى الدم فقال عليه السلام: «الحبلى لا تحيض، وتغتسل وتصلي»، وقولها: (تغتسل) استحباب؛ لكونها مستحاضة، ولا يعرف عن غيرهم خلافه) انتهى؛ فافهم.
وزعم ابن حجر: أن هذه الأخبار لم تثبت، نقله عنه القسطلاني.
قلت: قد علمت غير مرة عناد ابن حجر وتعنته وتعصبه، وقد حذا حذوه شيخ قسطلان، وهذا فاسد؛ لأنَّ هذه الأخبار والآثار قد علمت وسمعت أنها روتها الثقات من المحدثين الحفاظ الكبار، لا سيما حافظ السنة على التحقيق الإمام أحمد، وكذا أبو داود والدارقطني، وغيرهم، وكيف يدعي فيما رأَوه هؤلاء عدم الثبوت وما هي إلا دعوى أوهى من بيت العنكبوت، ولا يدعيها إلا من لم يشم شيئًا من رائحة العلم.
وقول القسطلاني: (وأقوى حجج من ذهب أن الحامل لا تحيض أن استبراء الأمة اعتبر بالحيض؛ لتحقق براءة الرحم من الحمل، فلو كانت الحامل تحيض؛ لم تتم البَرَاءة بالحيض) باطل؛ فإن هذا تفسير وبيان للحكم، فإن حجج الجمهور الأحاديث النبوية البالغة حد التواتر الواردة في الباب المذكور، وهي دالة حقيقة على أن الحامل لا تحيض، وكفى بذلك حجة.
وبقي
%ص 358%
دليل من زعم أن الحامل تحيض، ولم يوجد لهم دليل يدل على ما زعموه، فإن كان؛ فهو مخالف لنص النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولنص عائشة، وأبي سَعِيْد الخدري، وزريع بن ثابت، وابن عمر، وأبيه عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم، وما خالف النص؛ فهو مردود غير مقبول لا يعتمد عليه، ولا يسمع أذني عن سماعه صم، والله أعلم.
وقال ابن التين: (والدليل على أن دم الحامل ليس بحيض أن الملك موكلًا برحم الحامل، والملائكة لا تدخل بيتًا فيه قذر)، واعترضه ابن حجر، فزعم بأنه لا يلزم من كون الملك موكلًا به أن يكون حالًّا فيه، ثم هو مشترك الإلزام؛ لأنَّ الدم كله قذر، انتهى.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ولا يلزم أن يكون حالًّا فيه، والدم في معدته لا يوصف بالنجاسة، وإلا؛ يلزم ألَّا يوجد أحد طاهرًا خاليًا عن النجاسة) انتهى.
ثم قال رحمه الباري: (ووجه المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله من حيث إن الباب الذي قبله يشتمل على أمور من أحكام الحيض، وهذا الباب أيضًا يشتمل على حكم من أحكام الحيض؛ وهو أن الحامل إذا رأت دمًا؛ هل يكون حيضًا أم لا؟ وقد ذكرنا أن غرض المؤلف من وضع هذا الباب هو الإشارة إلى أن الحامل لا تحيض كما سيأتي) انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الذي)، وليس بصحيح.
==================
(1/543)
[حديث: إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكًا يقول: يا رب نطفة]
318# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا حمَّاد) هو ابن زيد البصري، (عن عُبِيد الله) بضمِّ العين المهملة، بلفظ التصغير (ابن أبي بكر) هو ابن أنس بن مالك الأنصاري، (عن أنس بن مالك) هو جده الأنصاري، يروي عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه (قال: إن الله عز وجل وكَّل)؛ بالتشديد كما في قوله تعالى: {مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] من التوكيل، يقال: وكل زيد عمرًا بكذا؛ إذا فوض إليه.
وزعم ابن حجر أن في روايته بالتخفيف؛ مِن وكله؛ إذا استكفاه إياه، وصرف أمره إليه، انتهى.
قلت: ليت شعري؛ هل روى هذا عن البخاري نفسه أم عن الفربري؟! وكيف يقول بالتخفيف، وقد جاءت الرواية بالتشديد عند جميع الرواة وبها جاء التنزيل؟! لا يقال: من حفظ حجة على من لم يحفظ؛ لأنا نقول رواية التخفيف شاذة، ولو كانت غير شاذة؛ لذكرها بعض الرواة، فعدم ذكرها من أحدهم دليل على عدم وجودها أو على شذوذها، والحق أنها غير موجودة أصلًا، فقد زاد هذا القائل في الطنبور نغمة؛ فافهم.
(بالرحم)؛ هو وعاء الولد وله ثلاثة أفواه، وقيل: خمسة، وقيل: أكثر، فإذا سقطت النطفة؛ بادرت تلك الأفواه بالاجتذاب منها، فإن جذب واحد؛ جاء ولد واحد، وإن أخذ اثنان؛ جاء ولدان، وهكذا يخلق الله ما يشاء بحكمته (ملكًا) بالنصب، وناصبه قوله: (وكل)؛ وهو جسم لطيف نوراني يتشكل بأشكال مختلفة (يقول) جملة من الفعل والفاعل، وهو الذي فيه يرجع إلى الملك في محل نصب؛ لأنَّها صفة الملك، وظاهر قوله: (إن الله ... ) إلخ يدل على أن بعثه إليه عند وقوع النطفة في الرحم، وفيه اختلاف الروايات سيأتي بيانها؛ فافهم، فليحفظ.
(يارب)؛ بحذف ياء المتكلم، وفي مثله يجوز: يا ربي، ويا رب، ويا رباه؛ بالهاء وقفًا، (نُطفة)؛ بضمِّ النون، قال الجوهري: النطفة: الماء الصافي، قل أو كثر، والجمع النطاف، ونطفان الماء؛ سيلانه، وقد نطف ينطُف، وينطِف من باب (نصر ينصر)، و (ضرب يضرب)، وليلة نطوف تمطر إلى الصباح، ويقال: جمع النطفة: نطف أيضًا، وكل شيء خفي نطفة ونطافة، حتى إنهم يسمون الشيء الخفي بذلك، وأصله للماء القليل يبقى في الغدير، أو السقاء، أو غيره من الآنية، ويقال له ما دام نطفة: صراة، ذكره صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: ويجوز في (نطفة) الرفع والنصب، أما النصب؛ فهو رواية القابسي، ووجهه أن يكون منصوبًا بفعل مقدر؛ تقديره: جعلت المني نطفة في الرحم، أو خلقت نطفة، وأما وجه الرفع؛ فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: يا رب؛ هذه نطفة، والرفع رواية غير القابسي؛ فافهم.
(يا رب) بحذف ياء المتكلم كما سبق (علقة)؛ بفتح اللام، وهي الدم الجامد الغليظ، ومنه قيل لهذه الدابة التي تكون في الماء: علقة؛ لأنَّها حمراء؛ كالدم، وكل دم غليظ علق، قاله الأزهري، وذكر في «الموعب»: (أن العلق: الدم ما كان)، وقيل: هو الجامد قبل أن ييبس، وقيل: هو ما اشتدت حمرته، والنطفة منه علقة، وفي «المغيث»: (هو ما انعقد قبل اليابس، كأن بعضه علق ببعض تعقدًا ويبسًا [1])، كذا قاله إمام الشارحين، ثم قال: (ويجوز في «علقة» النصب والرفع) كما قدمناه؛ فافهم.
(يا رب) بحذف ياء المتكلم كذلك (مضغة) قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنا لا نتغافل المضغ بيننا؛ يعني: أراد الجراحات، وسماها مضغًا على التشبيه بمضغة الإنسان في حلقه، يذهب بذلك إلى تصغيرها وتقليلها، وقال الجوهري: المضغة: قطعة لحم، وفي «الغريبين» وجمعها: مضغ، ويقال: مضيغة، ويجمع على مضائغ، ويقال: المضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ، كذا في «عمدة القاري»، وفيه: أنه يجوز في (مضغة) الرفع والنصب، كما سبق.
فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد نطفة، علقة، مضغة؟
قلت: هذه الأخبار الثلاثة تصدر من الملك في أوقات متعددة لا في وقت واحد، ولا يقال: ليس فيه فائدة الخبر، ولا لازمه؛ لأنَّ الله علام الغيوب؛ لأنا نقول: هذه إنَّما تكون إذا كان الكلام جاريًا على ظاهره، أما إذا عدل عن الظاهر؛ فلا يلزم أحد المذكورين، وههنا المراد: التماس إتمام خلقه أو الدعاء بإقامة الصورة الكاملة عليه، أو المراد: الاستعلام عن ذلك، ونحوها، ومثل هذا كثير واقع في القرآن أيضًا في قوله تعالى حكاية عن أم مريم عليها السلام: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} [آل عمران: 36]؛ فإنه يكون للاعتذار وإظهار التأسف والحزن) انتهى كلامه رحمه الباري.
(فإذا أراد) أي: الخالق تبارك وتعالى (أن يقضي) أي: يتم، وفي رواية الأصيلي: (فإذا أراد الله أن يقضي) (خلقه) أي: خلق ما في الرحم من النطفة التي صارت علقة، ثم صارت مضغة، ويجيء (القضاء) بمعنى: الفراغ أيضًا، كذا في «عمدة القاري»، وفيه: (وجه تطابق هذا الحديث للترجمة أنه يفسر المخلقة وغير المخلقة، فإن قوله هنا: «فإذا أراد أن يقضي خلقه» هو المخلقة وبالضرورة يعلم منه أنه إذا لم يرد خلقه؛ تكون غير مخلقة، وقد بين ذلك حديث رواه الطبري بإسناد صحيح من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا وقعت النطفة في الرحم؛
%ص 359%
بعث الله ملكًا، فقال: يا رب؛ مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة؛ مجها الرحم دمًا، وإن قال: مخلقة؛ قال: يا رب؛ فما صفة هذه النطفة؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، وهو موقوف لفظًا مرفوع حكمًا؛ لأنَّ الإخبار عن شيء لا يدركه العقل محمول على السماع) انتهى كلامه رحمه الباري
(قال) أي: الملك: (أذكر) هو (أم أنثى؟) فـ (ذكر) مبتدأ أو خبر، وعلى كونه خبرًا تكون لفظة (هو) المقدرة مبتدأ، ولا يقال: النكرة لا تقع مبتدأ؛ لأنَّ فيه من المسوغ لوقوعها مبتدأ هي كونها قد تخصصت بثبوت أحدهما؛ إذ السؤال فيه عن التعيين؛ فصلح الابتداء به وهو من جملة المخصصات؛ لوقوع المبتدأ نكرة، وفي رواية الأصيلي: (أذكرًا)؛ بالنصب، ووجهها إن صحت الرواية بها؛ أي: أتريد أو تخلق ذكرًا؟ كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (أشقي) هو؛ أي: عاصي لك يا رب (أم سَعِيْد) أي: مطيع لك، فـ: (شقي) مبتدأ أوخبر، كما سبق، وسوغ الابتداء به [2] وإن كان نكرة؛ لتخصيصه بثبوت أحد الأمرين؛ لأنَّ السؤال فيه عن التعيين، وفي رواية الأصيلي: (شقيًّا أم سَعِيْدًا)؛ بالنصب على تقدير: أتريد أو تخلق؟
فإن قلت: (أم) المتصلة ملزومة لهمزة الاستفهام، فأين هي؟
قلت: هي مقدرة، ووجودها في قرينتها يدل عليه، كما في قول الشاعر:
بسبع رمين الخمر أم بثمان ... .....
أي: أبسبع، انتهى.
(فما الرزق) أي: الحظ؛ لأنَّ الرزق في كلام العرب: الحظ، قال عز وجل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]؛ أي: حظكم من هذا الأمر، والحظ: هو نصيب الرجل، وما هو خاص به دون غيره، وقيل: الرزق: كل شيء يؤكل، أو يستعمل، وهذا باطل؛ لأنَّ الله تعالى أمرنا بأن ننفق ما رزقنا، فقال عز وجل: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} [المنافقون: 10]، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل؛ لما أمكن إنفاقه، وقيل: الرزق: هو ما يملك وهو لا يملك الولد والزوجة، وأما في عرف الشرع؛ فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحسن البصري: الرزق: هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، والحظر على غيره؛ أي: منعه من الانتفاع به، ولما فسرت المعتزلة الرزق بهذا؛ قالوا: الحرام لا يكون رزقًا، وقال أهل السنة: الحرام رزق؛ لأنَّه في أصل اللغة: الحظ والنصيب لما ذكرنا، فما انتفع بالحرام؛ فذلك الحرام حظًّا له ونصيبًا، فوجب أن يكون رزقًا، وأيضًا قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقول طول عمره لم يأكل من رزقه شيئًا، كذا قرره في «عمدة القاري»، (وما الأجل) ويروى: (والأجل)؛ بدون كلمة (ما [3])، و (الأجل): هو الزمان الذي علم الله أن الشخص يموت فيه، أو مدة حياته؛ لأنَّه يطلق على غاية المدة وعلى المدة، كذا في «عمدة القاري»، (فيكتب) على صيغة المعلوم، قيل: الضمير الذي هو فاعله هو الله تعالى، وقيل: يرجع إلى الملك، ويروى على صيغة المجهول، وهذه الكتابة يجوز أن تكون حقيقة؛ لأنَّها أمر ممكن، والله على كل شيء قدير، ويجوز أن تكون مجازًا عن التقدير، كذا قرره إمام الشارحين، ثم قال: (وبيان هذا في حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن داود، عن عامر، عن علقمة، عن ابن مسعود يرفعه: «أن النطفة إذا استقرت في الرحم؛ أخذها الملك بكفه، قال: أي رب؛ ذكر أم أنثى؟ ما الأمر؟ بأي أرض تموت؟ وقال له: انطلق إلى أم الكتاب؛ فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد صفتها في أم الكتاب») انتهى، وفي رواية الأصيلي: (قال: فيكتب) (في بطن أمه) ظرف لقوله: (يكتب) وهو المكتوب فيه، والشخص هو المكتوب عليه، كما تقول: كتبت في الدار، فإن في الدار ظرف؛ لقوله: كتبت، والمكتوب عليه خارج عن ذلك؛ والتقدير أزلي: وهو أمر عقلي محض، ويسمى قضاء، والحاصل في البطن تعلقه بالمحل الموجود، ويسمى قدرًا، والمكتوب: هو الأمور الأربعة المذكورة، كذا في «عمدة القاري».
وقد أوعدناك في اختلاف الرواية في بعثة الملك إلى الرحم، فظاهر الحديث هنا: يدل على أن بعثة الملك إليه عند وقوع النطفة في الرحم، وذكر في الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سَعِيْد»، وظاهر هذا: إرسال الملك بعد الأربعين الرابعة، وفي رواية: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة، فيقول: يا رب؛ شقي أم سَعِيْد؟»، وعند مسلم: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون، أو ثلاثة وأربعون، أو خمسة وأربعون»، وفي أخرى: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة؛ بعث الله إليها ملكًا يصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها»، وفي رواية حذيفة بن أُسَيْد: «إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك»، وفي أخرى: «إن ملكًا وكل بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئًا؛ يأذن له لبضع وأربعين ليلة»، وجمع العلماء بين هذا الاختلاف بأن الملائكة لازمة ومراعية لحال النطفة في أوقاتها، وأنه يقول: هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة في أوقاتها، وكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى وهو أعلم، ولكلام الملك وتصرفه أوقات؛ أحدها: حين يكون نطفة، ثم ينقلها علقة وهو أول علم الملك أنه ولد؛ إذ ليس كل نطفة تصير ولدًا، وذلك عقيب الأربعين الأولى، وحينئذٍ يكتب رزقه، وأجله، وشقي أو سَعِيْد، ثم للملك فيه تصرف آخر، وهو تصويره وخلق سمعه، وبصره، وكونه ذكرًا أو أنثى، وذلك إنَّما يكون في مدة الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، وقبل انقضاء هذه الأربعين، وقبل نفخ الروح فيه؛ لأنَّ النفخ لا يكون إلا بعد تمام صورته، والرواية السالفة (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة) ليست على ظاهره، بل المراد تصورها، وخلق سمعها إلى آخره، وأنه يكتب ذلك، ثم يفعله في وقت آخر؛ لأنَّ التصور عقيب الأربعين الثالثة حتى يكمل له أربعة أشهر، ودخوله في الخامس.
واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وقال الراغب: (ذكر الأطباء: أن الولد إذا كان ذكرًا؛ يتحرك بعد ثلاثة أشهر، وإن كان أنثى؛ بعد أربعة أشهر).
فإن قلت: وقع في رواية البخاري: «أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وشقي أم سَعِيْد،
%ص 360%
ثم ينفخ فيه الروح»، فأتى فيه بكلمة (ثم) التي هي تقتضي التراخي في الكتب إلى ما بعد الأربعين الثالثة، والأحاديث الثانية تقتضي الكتب عقيب الأربعين الأولى.
قلت: أجيب: بأن قوله: «ثم يبعث إليه الملك، فيؤذن بأربع كلمات فيكتب ... » معطوف على قوله: «فيجمع في بطن أمه»، ومتعلقًا به، لا بما قبله، وهو قوله: «ثم يكون مضغة مثله»، ويكون قوله: «ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله» معترضًا بين المعطوف والمعطوف عليه، وذلك جائز موجود في القرآن، والفصيح، وكلام العرب.
وقال القاضي عياض: (والمراد بإرسال الملك في هذه الأشياء: أمره بها والتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلا؛ فقد صرح في الحديث بأنه موكل بالرحم ملكًا، وأنه يقول: يا رب؛ نطفة، يا رب؛ علقة، وقوله في حديث أنس: «وإذا أراد الله أن يقضي خلقًا؛ قال: يا رب؛ أذكر أم أنثى؟» لا يخالف ما قدمناه، ولا يلزم منه أن يقول ذلك بعد المضغة، بل هو ابتداء كلام، وإخبار عن حالة أخرى، فأخبر أولًا بحال الملك مع النطفة، ثم أخبر أن الله تعالى إذا أراد خلق النطفة علقة؛ كان كذا وكذا، ثم المراد بجميع ما ذكر من الرزق، والأجل، والشقاوة، والسعادة، والعمل، والذكورة، والأنوثة يظهر ذلك للملك، فيأمره بإنفاذه، وكتابته، وإلا؛ فقضاء الله، وعلمه، وإرادته سابق على ذلك) انتهى.
ذكر ما يستنبط منه: قال إمام الشارحين: (اعلم: أن هذا الحديث جامع لجميع أحوال الشخص؛ إذ فيه بيان حال المبدأ؛ وهو ذاته ذكرًا أو أنثى، وحال المعاد؛ وهو الشقاوة، والسعادة، وما بينهما؛ وهو الأجل، وما يتصرف فيه؛ وهو الرزق، وقد جاء أيضًا: «فرغ الله من أربع: من الخَلق، والخُلق، والأجل، والرزق»، والخَلق _بفتح الخاء المعجمة_ إشارة إلى الذكورة والأنوثة، وبضمِّها إلى السعادة وضدِّها).
وقال المهلب: (إن الله تعالى علم أحوال الخلق قبل أن يخلقهم)، وهو مذهب أهل السنة، وأجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما أسقطته من ولد تام الخلق، واختلفوا فيمن لم يتم خلقه من المضغة والعلقة، فقال مالك والأوزاعي: تكون بالمضغة أم ولد مخلقة كانت أو غير مخلقة، وتنقضي بها العدة، وعن أبي القاسم: تكون أم ولد بالدم المجتمع، وعن أشهب: لا تكون به أم ولد وتكون بالمضغة والعلقة، وقال الإمام الأعظم رأس المجتهدين، والجمهور، وأصحابه، والشافعي: إن كان قد تبين في المضغة شيء من الخلق إصبع أو غير ذلك؛ فهي أم ولد، وعلى مثل هذا انقضاء العدة، وإلا؛ فلا.
وقال القاضي عياض: (ولم يختلف أن نفخ الروح فيه يكون بعد مئة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يقول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستحقاق، ووجوب النفقات، وذلك للنفسة بحركة الجنين في الجوف، وقيل: إن الحكمة في عدتها من الوفاة بأربعة أشهر والدخول في الخامس تحقُّقُ براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل، ونفخ الملك في الصورة سبب لخلق الله عنده فيها الروح والحياة؛ لأنَّ النفخ المتعارف إنَّما هو إخراج ريح من النافخ فيصل بالمنفوخ فيه، فإن قدر شيء عند ذلك النفخ؛ فذلك بإحداث الله تعالى لا بالنفخ، وغاية النفخ أن يكون سببًا عادة لا موجبًا عقلًا، وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة، والله أعلم) انتهى، وهو حسبي ونعم الوكيل الله.
==================
[1] في الأصل: (يعقدًا وييبسًا)، وهو تحريف.
[2] (به): تكرر في الأصل.
(1/544)
(18) [باب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (كيف تهل الحائض بالحج والعمرة؟)؛ يعني: كيفية إهلالها بهما، والمراد من الكيفية: الحال من الصحة، والبطلان، والجواز، وغير الجواز فكأنه قال: باب صحة إهلال الحائض، أو باب جوازها، والمقصود من الصحة أعم من أن تكون في الابتداء، أو في الدوام، والمناسبة بين البابين من حيث إن المؤلف أراد من وضع الباب السابق الإشارة إلى أن الحامل لا تحيض وهو حكم من أحكام الحيض، وهذا الباب أيضًا حكم من أحكام الحيض، وفيه نوع تعسُّف، وفي بعض النسخ: هذا الباب قد ذكر قبل الباب السابق، كذا قاله إمام الشارحين.
==================
(1/545)
[حديث: من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل]
319# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى ابن بكير) بضمِّ الباء الموحدة، وفتح الكاف، وسكون التحتية (قال: حدثنا الليث) هو ابن سعد _بسكون العين المهملة_ المصري الحنفي، (عن عُقَيل) بضمِّ العين المهملة، وفتح القاف، هو ابن خالد بن عَقيل _بفتح العين المهملة_ الأيلي، (عن ابن شهاب): هو محمَّد بن مسلم الزُهْرِي، (عن عروة) بضمِّ العين المهملة، هو ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما (قالت: خرجنا) أي: أنا والصحابة (مع النبي) الأعظم، وللأصيلي: (مع رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: من المدينة المنورة (في حجة الوداع)؛ بفتح الواو وكسرها، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، وإنما سميت بحجة الوداع؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ودع الناس فيها، (فمنا من أهل) أي: أحرم (بعمرة) أي: صاروا متمتعين، (ومنا من أهل) أي: أحرم (بحَِجة) أي: صاروا مفردين _بكسر الحاء المهملة، وفتحها، وبالتاء آخرها_ رواية المستملي، وفي رواية غيره: (بحج) بدون التاء، (فقدِمنا) بكسر الدال المهملة (مكة) المكرمة، (فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: لأصحابه الذين معه: (من أحرم بعمرة) بأن كان متمتعًا، (ولم يُهد)؛ بضمِّ الياء التحتية أوله من الإهداء، وهي جملة وقعت حالًا؛ (فيلحلل)؛ بكسر اللام من الثلاثي، وفي مثل هذه المادة يجوز الإدغام وفكه، كذا في «عمدة القاري»، والمراد: أنه يحل قبل يوم النحر حتى يحرم بالحج، (ومن أحرم بعمرة وأهدى) أي: الهدي؛ (فلا يحلُ)؛ بضمِّ اللام؛ أي: من إحرامه (حتى يَحِل)؛ بفتح المثناة التحتية أوله، وكسر الحاء المهملة، وفتح اللام (نحر هديه)؛ يعني: يوم العيد، ويروى: (بنحر هديه)؛ بزيادة الموحدة، لا يقال: إنه ممتنع، فلا بد له من تحلُّله عن العمرة، ثم إحرامه بالحج قبل الوقوف؛ لأنا نقول: لا يلزم أن يكون ممتنعًا؛ لجواز أن يدخل الحج في العمرة، فيصير قارنًا، فلا يتحلل، كذا قاله إمام الشارحين، (ومن أهل بحجة) كذا هو في رواية المستملي، والحمُّوي، وفي رواية غيرهما: (بحج)؛ بدون التاء؛ ومعناه: أهلَّ بحجة،
%ص 361%
ونوى الإفراد سواء كان معه هدي أم لا، ولهذا لم يقيد بـ (لم يهد)، ولا بـ (أهدى)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، (فليتم حجه) مطلقًا سواء كان معه هدي أم لا، (قالت) أي: السيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها: (فحضت)؛ أي: طرأ عليها الحيض بسرف، (فلم أزل حائضًا) أي: استمر بها دم الحيض (حتى كان) هي تامة (يوم عرفة) فـ (يوم) مرفوع (ولم أُهلِل) بضمِّ الهمزة، وكسر اللام الأولى (إلا بعمرة) فيحتمل أنها فعلت العمرة بحضرة النبيِّ الأعظم عليه السلام، ويحتمل أنها فعلت ذلك وسألته بعد الفراغ، ويحتمل أنها لم تفعله، بل سألته عن ذلك، والظاهر الأول، فلما رآها عليه السلام؛ أمرها، ولهذا قالت: (فأمرني النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم أن أنقض)؛ بالقاف؛ أي: أحل وأفك (رأسي) أي: شعره، (و) أمرني أن (أمتشط) أي: أسرحه، (و) أمرني أن (أُهل) بضمِّ الهمزة وبلام واحدة آخره (بحج)؛ أي بأن أنوي الإفراد به، (و) أمرني أن (أترك العمرة) أي: أبطلها، وهذا صريح بفسخ العمرة وهو حجة على الشافعي وأصحابه؛ فافهم.
(ففعلت) أي: فعلت النقض، والامتشاط، والإهلال بالحج، وترك العمرة (حتى قضيت حجتي) بالمثناة الفوقية رواية الأكثرين، وفي رواية: (حجي) بدونها، (فبعث) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (معي) يعني: امتثلت أمره وذهبت، فبعث معي أخي (عبد الرحمن بن أبي بكر) أي: الصديق الأكبر رضي الله عنه، (فأمرني) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بالفاء العاطفة، وفي رواية بدونها؛ أي: وأمرني (أن اعتمر مكان عمرتي من التنعيم) متعلق بقوله: (اعتمر) ففيه أن الحائض تهل بالحج والعمرة وتبقى على إحرامها وتفعل ما يفعل الحاج كله غير الطواف، فإذا طهرت؛ اغتسلت وطافت وأكملت حجها، وأمر النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها أن تنقض شعرها وتمتشط وهي حائض ليس للوجوب، وإنما ذلك؛ لإهلالها بالحج؛ لأنَّ من سنة الحائض والنفساء أن يغتسلا له، كذا في «عمدة القاري»، والله الهادي.
ومطابقة الحديث للترجمة في قولها: (وأهل بحج) فإن فيه إهلال الحائض بالحج؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها كانت حائضة حين أهلت بالحج، وعلى قول مَن قال: إنها كانت قارنة؛ كانت المطابقة أظهر؛ لأنَّها أحرمت بالحج وهي حائض وكانت معتمرة؛ فلهذا قالت: (أمرني النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن أترك العمرة)، وترك الشيء لا يكون إلا بعد وجوده، أفاده إمام الشارحين رحمه أرحم الراحمين، اللهم؛ فرج عنا بكرمك يا أكرم الأكرمين آمين.
==================
(1/546)
(19) [باب إقبال المحيض وإدباره]
هذا (باب) بيان (إقبال الحيض وإدباره) وعلامة ذلك الزمان والعادة، فإذا أقبلت عادتها؛ تحرت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وأصحابه، والجمهور، وقال مالك: إقبال الحيض: هو الدفعة من الدم، وإدباره: إقبال الطهر، والمناسبة بين البابين من حيث وجود حكم الحيض في كل منهما، ثم أورد الأثر الذي ذكره مالك في «الموطأ» عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (وكن)؛ بصيغة جمع المؤنث، وفيه ضمير يرجع إلى النساء، ويسمى هذا الضمير بالضمير المبهم، وجوز ذلك بشرط أن يكون مشعرًا بما بعده، فإذا كان كذلك؛ لا يقال: إنه إضمار قبل الذكر (نساء) بالرفع؛ لأنَّه بدل من الضمير الذي في (كن)، وهذا على لغة (أكلوني البراغيث)، وفائدة ذكره بعد أن علم من لفظ (كن) إشارة إلى التنويع والتنوين فيه يدل عليه، والمراد: أن ذلك كان من بعضهن لا من كلهن، كذا في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أن التنكير في النساء للتنويع، انتهى.
قلت: ورد هذا إمام الشارحين؛ حيث قال: قلت: إن لم يكن هذا مصحفًا من الناسخ؛ فهو غلط؛ لأنَّه ما ثَمَّ [1] كسر في النساء وإنما فيه الرفع، كما ذكر، أو النصب على الاختصاص، لا يقال: إنه نكرة، وشرط النصب على الاختصاص أن يكون معرفة؛ لأنا نقول: قد جاء نكرة كما جاء في معرفة، وقال الهذلي:
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثًا مراضيع مثل السعالي
انتهى كلامه، رحمه الباري.
وفي رواية مالك في «الموطأ»: (كان النساء) (يبعثن إلى عائشة) أي: الصديقة زوجة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ورضي عنها (بالدُّرْجة) بضمِّ الدال، وسكون الراء المهملتين، قاله ابن قرقول، قال: (وقيل: بكسر الدال، وفتح الراء)، وعند الباجي: بفتح الدال والراء، وقال ابن قرقول: (وهي بعيدة عن الصواب)، وقال أبو المعالي: (والدرْج؛ بالتسكين: حفش النساء، والدرجة: شيء يدرج فيدخل في حياء الناقة، ثم تشمه فيقطعه ولدها قدام أمه)، وكذا ذكره القزاز، وصاحب «الصحاح»، وابن سيده، وزاد: (والدرجة أيضًا: خرقة توضع فيها دواء، ثم تدخل في حياء الناقة، وذلك إذا اشتكت منه)، وفي «الباهر»: (الدرجة؛ بالكسر، والإدراج جمع الدرج؛ وهو سقط صغير، والدرجة مثل رطبة)، وقال ابن دريد: (الدرج: سقط صغير تجعل فيه المرأة طيبها وما أشبهه)، وقال ابن قرقول: (ومن قال بكسر الدال، وفتح الراء؛ فهو عنده جمع درج؛ وهو سقط صغير؛ نحو: جرح وجرحه، ونحو: ترس وترسه)، كذا قرره إمام الشارحين، (فيها الكُرْسُف)؛ بضمِّ الكاف، وإسكان الراء، وضم السين المهملة، آخره فاء؛ وهو: القطن، كذا قاله أبو عبيد، وقال الدينوري: وزعم بعض الرواة أنه يقال له: الكرفس، على القلب، ويجمع الكرسف على كراسيف) (فيه) أي: في القطن (الصُفْرَة)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وسكون الفاء، وفتح الراء، وهي علامة حاصلة من أثر دم الحيض بعد وضع ذلك في الفرج؛ لاختبار الطهر، وقال في «المحكم»: (وإنما اختير القطن لبياضه، ولأنَّه ينشف الرطوبة فيظهر فيه من آثار الدم ما لا يظهر من غيره)، كذا في «عمدة القاري».
(فتقول)؛ أي: عائشة رضي الله عنها، وفي الكلام حذف دل عليه رواية مالك، ولفظه: (فيه الصفرة من دم الحيض يسألنها عن الصَّلاة، فتقول لهن:) (لا تعجلْن) بسكون اللام، والمثناة التحتية، نهي لجمع المؤنث المخاطبة، ويأتي كذلك للجمع المؤنث الغائبة، ويجوز هنا الوجهان، وكذا في (ترين)؛ فافهم أفاده إمام الشارحين؛ والمعنى: لا تعجلن بإقدامكنَّ على الصَّلاة بظن الطهر، بل (حتى ترين) صيغة جمع المؤنث المخاطبة، وأصلها: (ترييين) على وزن (تفعلين)؛ لأنَّها من رأى يرأى: رؤية بالعين، وتقول للمرأة: أنت ترين، وللجماعة: أنتن ترين؛ لأنَّ الفعل للواحدة، والجماعة سواء في المواجهة في خبر المرأة من بنات الياء [2]، إلا أن النون التي في الواحدة علامة الرفع، والتي في الجمع نون الجمع.
فإن قلت: إذا كان أصل (ترين) تريين، كيف فعل به حتى صار ترين؟
قلت: نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم قلبت ألفا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت؛ لالتقاء الساكنين، فصار (ترين) على وزن (تفلن)؛ لأنَّ المحذوف منه عين الفعل وهو الهمزة فقط، ووزن الواحدة تفين؛ لأنَّ المحذوف منه عين الفعل ولامه، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الكريم الباري.
%ص 362%
(القَصَّة البيضاء)؛ بفتح القاف، وتشديد الصاد المهملة، وفي تفسيرها أقوال؛ قال ابن سيده: (القصة والقص: الجص، وقيل: الحجارة من الجص)، وقال الجوهري: (هي لغة حجازية، يقال: قصص داره؛ أي: جصصها، ويقال: القصة: القطنة أو الخرقة البيضاء التي تحتشي بها المرأة عند الحيض)، وقال القزاز: (القصة: الجص، هكذا قرأته بالقاف، وحكيت بالكسر)، وفي «المغرب»، و «الجامع»، و «الغريبين»: (القصة: شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كله)، وقال في «المحيط»: (من كتب الأئمَّة الحنفية: القصة: الطين الذي تغسل به الرأس، وهو أبيض يضرب إلى الصفرة، وجاء في الحديث: «الحائض لا تغتسل حتى ترى القصة البيضاء» أي: التي تخرج القطنة البيضاء التي تحتشي بها كأنها جصة لا تخالطها صفرة).
قال إمام الشارحين: (قلت: أريد بها: التشبيه بالجصة في البياض والصفاء، وأنث؛ لأنَّه ذهب إلى المطابقة، كما حكى سيبويه من قولهم: لبنة وعسلة) انتهى.
وقال ابن قرقول: قد بين [ذلك] مالك القصة بقوله: (تريد)؛ أي: عائشة رضي الله عنها (بذلك) أي: بقولها حتى ترى القصة البيضاء (الطهر من الحيضة) وفسره الخطابي: (بالبياض التام)، وقال ابن وهب: (رأت القطن الأبيض كأنه هو)، قال مالك: (سألت النساء عن القصة البيضاء، فإذا ذلك أمر معلوم عندهن يرينه عند الطهر)، وروى البيهقي من حديث ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن فاطمة بنت محمَّد وكانت في حجر عمرة، فقالت: أرسلت امرأة من قريش إلى عمرة كرسفة قطن [3] فيها: أظنه أراد الصفرة، تسألها [4] إذا لم ترين الحيضة إلا هذا؛ طهرت، قال: فقالت: لا، حتى ترى البياض خالصًا، وهو مذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وبه قال مالك والشافعي؛ فإن رأت صفرة في زمن الحيض ابتداء؛ فهو حيض عندهم، وقال الإمام أبو يوسف: (ليس بحيض حتى يتقدمها دم)، كذا في «عمدة القاري».
وقال الهروي: (معنى القصة: أن يخرج ما تحتشي به الحائض نقيًّا؛ كالقصة، كأنه ذهب إلى الجفوف [5])، وقال القاضي عياض: (وبينهما عند النساء وأهل المعرفة فرق بيِّن)، وقال في «المصابيح»: (وسببه أن الجفوف عدم، والقصة وجود، والوجود أبلغ دلالة على أن الرحم قد يجف في أثناء الحيض، وقد تنظف الحائض فيجف رحمها ساعة، والقصة لا تكون إلا طهرًا) انتهى.
وفي ذلك دليل على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، ومطابقة هذا الأثر للترجمة في قولها: (حتى ترى القصة البيضاء) فإنها علامة إدبار الحيض، قاله إمام الشارحين، ثم قال: (وهذا الأثر رواه مالك في «الموطأ»، فقال: عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة أنها قالت ... ) إلخ.
وقال ابن حزم: خولفت أم علقمة بما هو أقوى من روايتها، واسم علقمة مرجانة، سماها ابن حبان في كتاب «الثقات»، وقال العجلي: (مدنية تابعية ثقة)، وفي «التلويح»: كذا ذكر البخاري هذا معلقًا مجزومًا به، وبه تعلق النووي، فقال: هذا تعليق صحيح؛ لأنَّ البخاري ذكره بصيغة الجزم، وما علم أن هذه العبارة قد لا تصح كما سبق في بيانه في كثير من التعاليق المجزوم بها عند البخاري، ولو نظر كتاب «الموطأ» لمالك بن أنس؛ لوجده قد قال: عن علقمة ... إلى آخره، ولو وجد ابن حزم؛ لما ذكره، قال: خولفت أم علقمة بما هو أقوى من روايتها.
قال إمام الشارحين: (قلت: حاصل كلامه أنه يرد على النووي في دعواه الجزم به، ولهذا قال ابن الحصار: هذا حديث خرجه البخاري من غير تقييد) انتهى.
وفي ختام جمادى أول سنة ثمان وسبعين جاءت وزارة الصدارة لفؤاد باشا، وصارت زينة في ديارنا ثلاثة أيام، والله الكريم أسأل أن يفرج عنا ما أهمنا برحمته وكرمه وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه.
(وبلغ) بالغين المعجمة (بنت) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية: (ابنة) (زيد بن ثابت) وهي أم سعد، بسكون العين المهملة، قال إمام الشارحين: (هكذا وقع هنا ذكر (بنت زيد) مبهمًا، وكذا وقع في «موطأ مالك» فإنه أخرجه في «موطَّئه»: (عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته، عن ابنة زيد بن ثابت)؛ فذكره، وعمة ابن أبي بكر اسمها عمرة بنت حزم، واختلف في بنت زيد المذكورة، وقال الحافظ الدمياطي: (لزيد بن ثابت من البنات أم إسحاق وحسنة، وعمرة، وأم كلثوم، وأم حسن، وأم محمَّد، وفزيبة، وأم سعد)، وقال في «التوضيح»: (ويشبه أن تكون هذه المبهمة أم مسعد؛ فقد ذكرها ابن عبد البر في الصحابيات) انتهى.
وزعم ابن حجر أنه لم ير للواحدة منهن؛ يعني: من بنات زيد رواية إلا لأم كلثوم، وكانت زوج سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فكأنها هي المبهمة ههنا، وزعم بعض الشراح أنها أم سعد، قال: لأنَّ ابن عبد البر ذكرها في الصحابة، ثم قال ابن حجر: (وليس في ذكره لها دليل على المدعى؛ لأنَّه لم يقل: إنها صاحبة هذه القصة، بل لم يأت لها ذكر عنده ولا عند غيره إلا من طريق عنبسة بن عبد الرحمن، وقد كذبوه وكان مع ذلك يضطرب فيها، فتارة يقول: بنت زيد، وتارة يقول: امرأة زيد، ولم يذكر أحد من أهل الحديث بالنسب في أولاد زيد من يقال لها: أم سعد) انتهى.
قلت: وكلام هذا القائل قريب الفساد، وقد رده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: قلت: قد ذكره الذهبي فقال: أم سعد بنت زيد بن ثابت، وقيل: امرأته، وأيضًا عدم رؤية هذا القائل رواية لواحدة من بنات زيد إلا لأم كلثوم لا ينافي رواية غيرها من بناته؛ لأنَّه ليس من شأنه أن يحيط بجميع الروايات.
وقوله: (وزعم بعض الشراح) أراد به: صاحب «التوضيح» فليت شعري؛ ما الفرق بين زعم هذا وزعمه هو؟ حيث قال: (فكأنها هي المبهمة)؛ أي: أم كلثوم هي المبهمة في هذا الأثر؛ على أن صاحب «التوضيح» ما جزم بما قاله، بل قال: ويشبه أن تكون هذه المبهمة أم سعد) انتهى.
قلت: والحق أن هذه المبهمة هنا هي أم سعد، فإنها صحابية، ولا يلزم أن تكون صاحبة هذه القصة، كما زعمه ابن حجر ردًّا على صاحب «التوضيح»؛ لأنَّ بنت زيد هذه بلغها هذه القصة، كما هو صريح عبارة البخاري ومالك في «الموطأ»؛ فلا يلزم حضورها، بل بلوغها ذلك كاف على أنه قد جاءت الرواية عنها من طرق متعددة، وإن زعم ابن حجر التكذيب في بعضها؛ لأنَّها قد تقوت باختلافها، وقوله هذا تعصُّب وعناد؛ لأنَّه ليس من شأنه أن يحيط بجميع الرواة، بل شأنه ينظر لكلام الفحول من الرجال، وليس هو رجلًا يعد، بين هذهالرجال؛ فإنه قد نفى أم سعد من بنات زيد وقد أثبتها الحافظ الذهبي، كما سمعت كلامه، وما هذا إلا لعدم اطِّلاعه على ما ذكره أهل الحديث من الحفاظ، وهذا يدل على فساد من يدعي أن ابن حجر حافظ، بل ليس بشارح كما ينبغي، فكيف يدعى أنه حافظ؟!؛ لأنَّ الحفاظ لا يصدر منهم كذب ونفي واختلال، وهذا قد صدر من هذا القائل؛ فهو ليس
%ص 363%
بشيء يعبأ به؛ فافهم.
(أَن) بفتح الهمزة (نساء) بالتنكير في أكثر الروايات، وفي رواية بالتعريف، والأول أعم، والمراد من التعريف: العهد، وهو نساء الصحابة رضي الله عنهنَّ، أفاده إمام الشارحين (يدعون) بلفظ الجمع المؤنث، ويشترك في هذه المادة الجمع المذكر والمؤنث، وفي التقدير يختلف، فوزن الجمع المذكر: يفعون، ووزن الجمع المؤنث: يفعلن، أفاده في «عمدة القاري» (بالمصابيح): جمع مِصباح _بكسر الميم_؛ وهو النور في الوعاء؛ والمعنى: يطلبن المصابيح (من جوف)؛ أي: وسط (الليل) أي: في جوفه، فـ (من) بمعنى في؛ لأنَّ حروف الجر يستعار بعضها لبعض (ينظرن) أي: بالمصابيح (إلى) ماء الكراسيف حتى يقفن على ما يدل على (الطهر) أي: من القطنة، وفي رواية الكشميهني: (يدعين)، زعم ابن حجر أن في نسبة هذا إليه نظر لا يخفى، وقال صاحب «القاموس»: (تكلم فيه) انتهى.
قلت: انظر إلى هذا الكلام المتناقض، ونظر هذا القائل مردود عليه، فإن توجيه هذه الرواية ممكن بأن يكون المراد كل فرد من أفراد النساء تدعى المصباح؛ لتنظر إلى الطهر، على أن أصل تدعين تدعون، كما هو مقرر في كتب التصريف؛ فافهم.
(فقالت) أي: أم سعد بنت زيد لهنَّ: (ما كان النساء) أي: الصحابيات (يضعن هذا) أي: طلب المصابيح؛ لينظرن إلى الطهر في جوف الليل، (وعابت) أي: أم سعد المذكورة (عليهنَّ) أي: على النساء المذكورة، وهذا يعين رواية التنكير، وأن المراد: الأعم؛ فافهم، قال إمام الشارحين: (وإنما عابت عليهن؛ لأنَّ ذلك يقتضي الحرج وهو مذموم، وكيف لا وجوف الليل ليس إلا وقت الاستراحة؟! أو لكون ذلك كان في غير وقت الصَّلاة، وهو جوف الليل) انتهى.
وزعم ابن حجر أن فيه نظر؛ لأنَّه وقت العشاء، ورده صاحب «عمدة القاري» إمام الشارحين، حيث قال: (قلت: فيه نظر؛ لأنَّه لم يدل شيء أنه كان وقت العشاء؛ لأنَّ طلب المصابيح لأمر غالبًا لا يكون إلا في شدة الظلمة، وهي لا تكون إلا في جوف الليل)، وروى البيهقي من حديث عباد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرة عن عائشة: (أنها كانت تنهى النساء أن ينظرن إلى أنفسهنَّ ليلًا في الحيض، وتقول: إنها قد تكون الصفرة والكدرة)، وعن مالك: لا يعجبني ذلك، ولم يكن للناس مصابيح، وعنه: (أنهن كن لا يقمن بالليل) انتهى كلامه
قلت: ونظر ابن حجر غير وارد، وهو مردود عليه؛ لأنَّ المقصود من عيبها عليهن ليلًا؛ لوجود الظلمة التي تؤدي إلى اختلاف ألوان الدم وليس هو؛ لكون الوقت وقت العشاء، يدل لهذا حديث عائشة الذي ذكره إمام الشارحين، فإنه بيَّن فيه أن علة ذلك خوف عدم بيان الصفرة والكدرة، وكأن ابن حجر لم يطلع على حديث عائشة فقال ما قال؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري»: (وقال صاحب «التوضيح»: يشبه أن تكون ابنة زيد عابت على النساء كان في أيام الصوم لينظرن الطهر لنية الصوم؛ لأنَّ الصَّلاة لا تحتاج لذلك؛ لأنَّ وجوبها عليهن إنَّما يكون بعد طلوع الفجر.
واختلف الفقهاء في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر، ولا تغتسل حتى يطلع الفجر؛ فقال الإمام الأعظم رأس المجتهدين رضي الله عنه: إن كانت أيامها أقل من عشرة؛ صامت وقضت، وإن كانت عشرة؛ صامت ولم تقض، وقال مالك، والشافعي، وأحمد: هي بمنزلة الجنب تغتسل وتصوم، ويجزئها صوم ذلك اليوم، وعن ابن الماجشون: يوم ذلك يوم فطر، وقال الأوزاعي: تصومه وتقضيه، وفي «القواعد» لابن رشد: اختلفوا في علامة الطهر؛ فقال قوم: إن علامته القصة أو الجفوف، وقال ابن حبيب: سواء كانت المرأة من عادتها أن تطهر بهذه أو بهذه، وفرق قوم فقالوا: إن كانت ممن لا تراها؛ فطهرها الجفوف، وقال ابن حبيب: الحيض أوله دم، ثم يصير صفرة، ثم تُربيَّة، ثم كدرة، ثم يكون ريقًا كالقصة؛ ثم ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل وخفي أصلًا؛ فذلك إبراء الرحم، وفي «المنصف»: عن عطاء: الطهر الأبيض: الجفوف الذي ليس معه صفرة ولا ماء، الجفوف الأبيض، وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: وسئلت عن الصفرة اليسيرة، فقالت: اعتزلن الصَّلاة ما رأين ذلك حتى لا ترين إلا لبنًا خالصًا) انتهى.
والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم، إنَّه تواب كريم.
==========
[1] في الأصل: (تم)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (الهاء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (قلن)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (تسأله)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (الجفوق)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (تم)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (الهاء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (قلن)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (تسأله)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (تم)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (الهاء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (قلن)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (تسأله)، وليس بصحيح.
(1/547)
[حديث: ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة]
320# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن محمَّد) هو المسندي (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عيينة، لا يقال: إنه الثوري؛ لأنا نقول: إن المسندي هذا لم يسمع من الثوري، بل من ابن عيينة، فهو المتعين، (عن هشام) هو ابن عروة، (عن أبيه) هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائش) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أن فاطمة بنت أبي حُبَيْش) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره شين معجمة (كانت تُستحاض)؛ بضمِّ المثناة الفوقية أوله، مبينًا للمفعول؛ أي: يستمر معها الدم، (فسألت النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: عن دم الاستحاضة ما حكمه؟ (فقال) عليه السلام لها: (ذلكِ)؛ بكسر الكاف (عِرْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الراء المهملة، يسمى بالعاذل، (وليست بالحَيضة) بفتح الحاء المهملة وبكسرها، (فإذا أقبلت الحيضة) عليك؛ (فدعي الصَّلاة) أي: أيام الحيض، (وإذا أدبرت) أي: انقطع دم الحيض، وهذا محل مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (فإذا أقبلت) و (إذا أدبرت)، وهذا الحديث قد سبق في باب (غسل الدم)، ولفظه هناك: «فإذا أدبرت؛ فاغسلي عنك الدم وصلي»، من غير إيجاب الغسل، وقال عروة: (ثم توضئي لكل صلاة)؛ بإيجاب الوضوء، وههنا قال: (فاغتسلي وصلي) بإيجاب الغسل؛ لأنَّ أحوال المستحاضة مختلفة، فيوزع عليها، أو نقول: إيجاب الغسل والتوضؤ لا ينافي عدم التعرض لهما، وإنما ينافي التعرض لعدمهما، وقوله: (فاغتسلي وصلي) لا يقتضي تكرار الاغتسال لكل صلاة، بل يكفي غسل واحد، ولا يرد عليه حديث أم حبيبة كانت تغتسل لكل صلاة؛ لأنَّها لعلها كانت من المستحاضات التي يجب عليها الغسل لكل صلاة، أو لعلها كانت تفعله تطوُّعًا؛ لأنَّه ليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، أفاده إمام الشارحين، وقد سبق هذا الحديث في باب (الاستحاضة) أيضًا، وتقدم الكلام عليه مستوفًى، فلا حاجة إلى الإعادة، والله أعلم.
==========
%ص 364%
==================
(1/548)
(20) [باب: لا تقضي الحائض الصلاة]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (لا تقضي الحائض): ومثلها النفساء (الصَّلاة) أي: المفروضة، وإنما قال: لا تقضي الصَّلاة، ولم يقل: تدع الصَّلاة، كما في حديث جابر وأبي سَعِيْد؛ لأنَّ عدم القضاء أعم وأشمل، والمناسبة بين البابين من حيث إن في الباب الأول ترك الصَّلاة عند إقبال الحيض، وهذا الباب فيه كذلك، أفاده إمام الشارحين، (وقال جابر بن عبد الله) كذا في أكثر الروايات، وسقط لفظ: (ابن عبد الله) في رواية، (وأبو سَعِيْد) بكسر العين المهملة؛ هو الخدري رضي الله عنهما، (عن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه قال: (تدع) أي: الحائض، وكذا النفساء (الصَّلاة): قال إمام الشارحين: مطابقة هذا التعليق للترجمة من حيث ترك الصَّلاة، فإنه يستلزم عدم القضاء؛ لأنَّ الشارع أمر بالترك، ومتروك الشرع لا يجب فعله، فلا يجب قضاؤه إذا ترك.
أما التعليق عن
%ص 364%
جابر؛ فقد أخرجه البخاري في كتاب (الأحكام) من طريق حبيب عن جابر في قصة حيض عائشة في الحج، وفيه: (غير أنها لا تطوف ولا تصلي)، ومعنى قوله: (تدع الصَّلاة) رواه مسلم بنحوه من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه.
وأما التعليق عن أبي سَعِيْد الخدري؛ فأخرجه أيضًا في باب (ترك الحائض الصوم)، وفيه: (إذا حاضت؛ لم تصم)، كذا في «عمدة القاري».
فإن قلت: عقد الباب في القضاء لا في الترك، والترك مطلقًا أداء وقضاء؟
قلت: عقد الباب في عدم القضاء وعدم القضاء ترك، والترك أعم، قاله الكرماني، واعترضه ابن حجر، فزعم أن الذي ظهر له أن هذا الكلام صادر من غير تأمل؛ لأنَّ الترك والقضاء بمعنًى واحد في الحقيقة، وكلامه يشعر بالتباين بينهما، فإذا سلمنا ذلك؛ كان يتعين عليه أن يشير إليهما في الترجمة، وحيث لم يشر إلى ذلك فيها؛ علمنا أن ما بينهما مغايرة؛ فلذلك اقتصر في الترجمة على أحدهما) انتهى.
قلت: وكلام هذا القائل هو الصادر عن غير تأمل وفكر، فإن الترك والقضاء ليسا بمعنًى واحد؛ لأنَّ الترك قد يكون لغير قضاء، وقد يكون لقضاء، فهو مشترك بينهما، فالترك لا ريب أنه أعم وأشمل، وكلام المؤلف يشير إلى هذا؛ لأنَّ قوله: (لا تقضي الحائض) يشعر بأنها تركت الصَّلاة في أيام الحيض تركًا مؤبدًا؛ يعني: إلى غير قضاء، فقد أشار في الترجمة إلى ما قلنا، وانظر كلام هذا القائل حيث يستند إلى المعنى اللغوي من الترجمة، ويعترض عليه ويترك حقائق الكلام، وما هذا إلا من قلة البضاعة، وقصر الهمة، فكلام الكرماني صحيح، وكلام هذا القائل قبيح؛ فافهم، وعجبت من إمام الشارحين؛ لمَّا لم يتعرض لذلك وكأنه بيَّض له فاخترمته المنية، فرحمه الله تعالى آمين.
==================
(1/549)
[حديث: كنا نحيض مع النبي فلا يأمرنا به]
321# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل): هو المنقري التبوذكي (قال: حدثنا همَّام)؛ بالتشديد، هو ابن يحيى بن دينار العوذي، مات سنة ثلاث وستين ومئة (قال: حدثنا قتادة): هو الأكمه المفسر المشهور (قال: حدثتني) بالإفراد والتأنيث (مُعاذة)؛ بضمِّ الميم، وبالعين المهملة، وبالذال المعجمة، هي بنت عبد الله العدوية الزاهدة، كانت تحيي الليل، ماتت سنة ثلاث وثمانين، قال إمام الشارحين: (وفيه تصريح بسماع قتادة عن معاذة، وهو رد على ما ذكره شعبة وأحمد أنه لم يسمع منها) انتهى.
(أن امرأة) أبهمها همَّام، وبين في روايته عن قتادة: أنها هي معاذة الراوية، وأخرجه الإسماعيلي من طريقه، وكذا مسلم من طريق عاصم وغيره عن معاذة، أفاده إمام الشارحين، وتمامه في «عمدة القاري»، (قالت لعائشة) أي: الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما، وفي رواية مسلم: (قالت: سألت عائشة: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصَّلاة؟) (أتَجزِي)؛ بفتح المثناة الفوقية، وكسر الزاي، غير مهموز، وحكى بعضهم الهمز؛ ومعناه: أتقضي، وبه فسروا قوله تعالى: {لَّاتَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123]، ويقال: هذا الشيء يجزي عن كذا؛ أي: يقوم مقامه، كذا في «عمدة القاري»، (إحدانا صلاتَها)؛ بالنصب على المفعولية، ويروى: (أتُجزَى) على صيغة المجهول، وعلى هذا؛ (صلاتُها) بالرفع؛ لأنَّه مفعول قام مقام الفاعل؛ ومعناه: أتكفي المرأة الصَّلاة الحاضرة، ولا يحتاج إلى قضاء عن الفائتة؟ أفاده إمام الشارحين، (إذا طَهُرت) بفتح الطاء المهملة، وضم الهاء؛ أي: من الحيض؛ (فقالت) أي: عائشة رضي الله عنها لها: (أحَرُورية) بفتح الحاء المهملة، وضم الراء الأولى المخففة (أنتِ؟)؛ بكسر التاء، جملة من المبتدأ، وهو (أنتِ)، والخبر وهو (أحرورية)، دخلت عليها همزة الاستفهام الإنكاري، وفائدة تقديم الخبر الدلالة على الحصر؛ أي: أحرورية أنت لا غير؟ وهي نسبة إلى حروراء؛ قرية بقرب الكوفة، وكان أول اجتماع الخوارج فيها، وقال الهروي: (تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها)، فمعنى كلام عائشة هذا: أخارجية أنت؟ لأنَّ طائفة من الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصَّلاة الفائتة في زمن الحيض، وهو خلاف الإجماع.
وكبار فرق الحرورية ستة: الأزارقة، والصفرية، والنجدات، والعجاردة، والإباضية، والثعالبة، والباقون فروع، وهم الذين خرجوا على سيدنا علي الصدِّيق الأصغر رضي الله عنه، ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما، ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، وكان خروجهم على عهد علي الصدِّيق الأصغر رضي الله عنه لما حكَّم أبا موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، وأنكروا على علي رضي الله عنه في ذلك، وقالوا: شككت في أمر الله تعالى، وحكَّمت عدوك، وطالت خصومتهم، ثم أصبحوا يومًا وقد خرجوا ثمانية آلاف وأميرهم ابن الكوا عبد الله، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس رضي الله عنهم فناظرهم، فرجع منهم ألفان وبقيت ستة آلاف، فخرج إليهم علي الصدِّيق الأصغر فقاتلهم، وكانوا يشددون في الدين ومنه: قضاء الصَّلاة على الحائض؛ إذ لم يسقط في كتاب الله عنها على أصلها.
وقد قلنا: إن حروراء اسم قرية؛ وهي ممدودة، وقال بعضهم بالقصر أيضًا، حكاه أبو عبيد.
وزعم أبو القاسم الغوراني أن حروراء هذه موضع بالشام وفيه نظر؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه إنَّما كان بالكوفة، وقتالهم له إنَّما كان هناك، ولم يأت أنه قاتلهم بالشام؛ لأنَّ الشام لم تكن في طاعة علي رضي الله عنه، وعلى ذلك اتفق المؤرخون، والنسبة إلى حروراء حروراوي، وكذلك كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة، ولكنه نسب إلى البلد بحرف الزوائد، فقيل: الحروري، كذا قرره في «عمدة القاري»، وزاد في رواية مسلم: (قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل) قالت: يعني: أسأل سؤالًا لمجرد العلم لا للتعنُّت.
(كنا) وللأصيلي: (قد كنا)؛ أي: نساء الصحابة رضي الله عنهم (نحيض مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: مع وجوده أو في عهده، والغرض منه: بيان أنه عليه السلام كان مطلعًا على حالهنَّ من الحيض، وتركهنَّ الصَّلاة في أيامه، (فلا) وفي رواية الأصيلي: (ولا) (يأمرنا به) أي: وقد كان عليه السلام لا يأمرنا بقضاء الصَّلاة، ولو كان واجبًا؛ لأمرهنَّ به، فإن التقرير على ترك الواجب غير جائز؛ فلا يجب قضاؤها، (أو قالت) أي: عائشة رضي الله عنها؛ فإنها المخبرة على ما وقع في عهده عليه السلام في النساء الحُيَّض، وما زعمه القسطلاني من أنها معاذة خطأ ظاهر؛ لأنَّ معاذة سائلة، والجواب من عائشة، وهذا جوابها، نعم، الشك في الجواب من معاذة، كما يأتي؛ فافهم.
(لا نفعله) أي: القضاء ولفظة (أو) للشك، قال الكرماني: والظاهر أنه من معاذة، وعند الإسماعيلي من وجه آخر: فلم نكن نقضي ولم نؤمر، كذا في «عمدة القاري»، وفي الحديث دليل: على أن الحائض لا تقضي الصَّلاة، ولا خلاف في ذلك بين الأمة إلا لطائفة من الخوارج، قال الزُهْرِي: (تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصَّلاة)، قال معمر: (قلت: عمَّن، قال: أجمع المسلمون عليه، وليس في كل شيء يجد الإسناد القوي، أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا يجب عليهما الصوم ولا الصَّلاة في الحال، وعلى أنه لا يجب عليهما قضاء الصَّلاة، وعليهما قضاء الصوم، والفرق بينهما: أن الصَّلاة كثيرة متكررة، فيشق قضاؤها، بخلاف الصوم؛ فإنه يجب في السنة مرة واحدة).
ومذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين: أنه يستحب للحائض والنفساء أن تتوضأ عند كل وقت صلاة،
%ص 365%
وتجلس في مسجد بيتها تسبح وتهلل مقدار أداء الصَّلاة لو كانت طاهرة حتى لا تبطل عادتها،
وذكر في «معراج الدراية»: (يكتب لها أحسن صلاة كانت تصلي)، وروي عن عُقْبَة بن عامر: أنه كان يأمر الحائض بأن تتوضأ عند وقت الصَّلاة، وتذكر الله تعالى، وتستقبل القبلة ذاكرة لله تعالى جالسة، وروي ذلك عن كثير من السلف منهم مكحول، وقال: كان ذلك من هدي نساء المسلمين في حيضهنَّ، وقال عبد الرزاق: بلغني: أن الحائض كانت تؤمر بذلك عند وقت كل صلاة، وقال عطاء: (لم يبلغني ذلك وإنه لحسن).
فإن قلت: هل الحائض مخاطبة بالصوم أم لا؟
قلت: غير مخاطبة، وإنما يجب عليها القضاء بأمر جديد، وقيل: مخاطبة به، مأمورة بتركه، كما يخاطب المحدث بالصَّلاة، وأنه لا تصح منه في زمن الحدث، وهذا غير صحيح، وكيف يكون الصوم واجبًا عليها ومحرمًا عليها بسببٍ لا قدرة لها على إزالته؟ بخلاف المحدث؛ فإنه قادر على الإزالة، انتهى.
وقال أبو عمر: (وضوء الحائض عند وقت الصَّلاة أمر متروك عند جماعة الفقهاء، بل يكرهونه)، وقال أبو قلابة: (سألنا عنه؛ فلم نجد له أصلًا)، وقال سَعِيْد بن عبد العزيز: (ما نعرفه، وإنا لنكرهه).
قلت: بل هذا أمر غير متروك استحبه جماعة من السلف؛ كالإمام الأعظم، وأصحابه، وعطاء، وعبد الرزاق، ومكحول، وعُقْبَة بن عامر، وكفى بذلك قدوة.
وقول أبي قلابة: (سألنا عنه ... ) إلخ ليس بشيء؛ لأنَّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، والمثبت مقدم على النافي، ولا ينافي عدم وجوده له عدم وجوده بالكلية، بل قد ثبت عند غيره وجوده، وأنه أمر معمول به.
وقول ابن عبد العزيز: (ما نعرفه) لا يقتضي عدم معرفة غيره؛ فإنه إذا كان لم يقف عليه لا يلزم عدم وقوف غيره، بل فوق كل ذي علم عليم، لا سيما وقد علم من حال النساء التهاون في أمر العبادة، لا سيما الصَّلاة، فإذا كانت في حال الحيض تتوضأ تعتاد في غير الحيض؛ فيلزم عدم ترك الصَّلاة، وهذا وجه الاستحباب وهو أمر مرغوب إليه، وليس فيه مشقة ولا حرج، فأين تأتي الكراهة؟! بقي على النافي ثبوت دليل الكراهة، ومن أين له دليلها؟ وما هو إلا قول لا دليل عليه؛ لأنَّه لم يثبت نهي عن ذلك أصلًا، فإن كانت الكراهة لأمر خارجي؛ فهو غير صحيح؛ لأنَّ الأحكام لا تثبت إلا بدليل شرعي، وإن كان لأمر موهوم؛ فالأحكام لا تثبت بالوهم، وإن كان لأمر احتياطي؛ فالاحتياط فعله، وعلى كل لا دليل لنافي ذلك، ولا لثبوت الكراهة، فالحق ما عليه الإمام الأعظم والجمهور: من أنه أمر مرغوب فيه مستحب غير مكروه، والله تعالى أعلم.
==================
(1/550)
(21) [باب النوم مع الحايض وهي في ثيابها]
هذا (باب) في بيان حكم (النوم مع) زوجته (الحائض) ومثلها: النفساء (وهي) أي: والحال أنها (في ثيابها) أي: التي هي معدة لحيضها، وهو جائز؛ لدلالة حديث الباب عليه، والمناسبة بين البابين من حيث اشتمال كل منهما على حكم مختص بالحائض.
==========
%ص 366%
==================
(1/551)
[حديث: حضت وأنا مع النبي في الخميلة فانسللت]
322# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا سعْد) بسكون العين المهملة (بن حفص)؛ بالحاء والصاد المهملتين، هو المعروف بالضخم الطلحي الكوفي (قال: حدثنا شيبان) هو النحوي، (عن يحيى)؛ هو ابن أبي كثير بالمثلثة، (عن أبي سَلَمَة) بفتح السين المهملة، واللام، هو عبد الله أو إسماعيل بن عبد الرحمن بن عوف الزُهْرِي المدني، (عن زينب بنت) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية: (ابنة) (أبي سَلَمَة)؛ بفتحات، هو عبد الله المذكور أنها (حدثته: أن أم سَلَمَة): هي أم المؤمنين، واسمها هند بنت أبي أمية رضي الله عنها (قالت: حِضت) بكسر الحاء المهملة (وأنا مع النبي) الأعظم، وللأصيلي: (مع رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم في الخميلة) هي القطيفة ونحوها مما ينسج ويفضل له فضول، قاله السكري، وفي «الصحاح»: (هي الطنفسة)، وقال ابن سيده: (والخميصة: القطيفة)، قال الأصمعي: (الخمائص: ثياب خز أو صوف معلمة، وهي سود كانت من لباس الناس)، وفي «الصحاح»: (كساء أسود مربع معلم، وإن لم يكن معلمًا؛ فليس بخميصة)، (فانسللت) أي: ذهبت في خفية، (فخرجت منها)؛ أي: من الخميلة؛ لاحتمال وصول شيء من آلته عليه السلام، أو لأنَّها تقذرت نفسها، ولم يرضها لمضاجعته عليه السلام، أو خافت أن ينزل عليه الوحي فانسلت؛ لئلا يشغله حركتها عما هو فيه من الوحي أو غيره، (فأخذت ثياب حِيضتي)؛ بكسر الحاء المهملة، وهي حالة الحيض، هذا هو الصحيح المشهور، وزعم الكرماني أنه يحتمل الفتح.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» بأنه لا يقال هنا بالاحتمال؛ فإن كلًّا منهما لغة ثبتت عن العرب، وهي أن الحِيضة بالكسر: الاسم من الحيض، والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيُّض؛ كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، فأما الحَيضة بالفتح؛ فالمرة الواحدة من دفع الحيض أو ثوبه، وتمامه فيه؛ فافهم.
(فلبستها) أي: عوضًا عن ثيابي، (فقال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) حين رأى مني ذلك (أنَفِست؟) بفتح النون، وكسر الفاء، وقيل: بضمِّ النون وفتحها، وفي الحيض بالفتح لا غير، وفي «الواعي»: نُفست؛ بضمِّ النون: حاضت قيل: هذا هو الصحيح، فأما في الولادة؛ فنُفِست بضمِّ النون، وكسر الفاء، وتمامه في «عمدة القاري»، (قلت: نعم)؛ أي: نفست، (فدعاني فأدخلني معه في الخميلة)؛ وهي الخميلة الأولى؛ لأنَّ المعرفة إذا أعيدت معرفة؛ يكون الثاني عين الأول، قاله إمام الشارحين.
وفي هذا الحديث دليل: على جواز النوم مع الحائض في ثيابها والاضطجاع معها في لحاف واحد، وهو محل المطابقة للترجمة.
وفيه استحباب اتخاذ المرأة ثيابًا للحيض غير ثيابها المعتادة.
وفيه أن عرقها طاهر، وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ} [البقرة: 222]؛ معناه: فاعتزلوا وطئهن.
(قالت) أي: زينب، قال إمام الشارحين: (وظاهره التعليق، لكن السياق مشعر بأنه داخل تحت الإسناد المذكور) انتهى، وقولها: (حدثتني) بالتأنيث، والإفراد عطف على مقدر هو مقول القول؛ أي: على (قالت) الأول، أو عطف جملة كما في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [الأعراف: 19]؛ أي: وليسكن زوجك (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقبلها وهو صائم) ففيه جواز تقبيل الرجل زوجته أو ولده الصغير وهو صائم، سواء كان في رمضان أو في غيره (وكنت) عطف على مقدر؛ تقديره: وقالت: كنت، وأظهر بعده؛ لصحة العطف عليه، وهو لفظ النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أغتسل أنا والنبي) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع والنصب، أما الرفع؛ فبالعطف على الضمير المرفوع في (كنت)، وأما النصب؛ فعلى أن (الواو) بمعنى: المصاحبة، وقوله: (أنا) ذكر؛ لأنَّ في عطف الظاهر على الضمير المستكن بدون تأكيد خلافًا، كما عرف في موضعه؛ فافهم.
(من إناء واحد من الجنابة) كلمة (من) فيهما يتعلقان بقوله: (أغتسل)، ولا يمتنع هذا؛ لأنَّ الابتداء في الأول من عين، وهو الإناء، وفي الثاني من معنى: وهو الجنابة، وإنما تمنع إذا كان الابتداء من شيئين هما من جنس واحد؛ كزمانين؛ نحو: رأيته من شهر من سنة، أو مكانين؛ نحو: خرجت من البصرة من الكوفة؛ فافهم قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
وفي الحديث دليل: على جواز اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد.
وفيه جواز استخدام الزوجات.
وفيه طهارة الماء المستعمل.
وفيه طهارة عرق الجنب، وكذا الحائض والنفساء.
%ص 366%
==================
(1/552)
(22) [باب من اتخذ ثياب الحيض سوى ثياب الطهر]
هذا (باب) في بيان (من اتخذ) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية الكشميهني، كما ذكره إمام الشارحين في «عمدة القاري»: (باب من أعد)؛ بالعين والدال المهملتين من الإعداد، وفي رواية: (من أخذ) بوب عليه القسطلاني، ولم يعزها لأحد من الرواة، والعهدة عليه؛ لأني لم أر لها ذكر، ولهذا لم يتعرض لها إمام الشارحين، فالظاهر أنها خطأ أو سهو؛ فافهم؛ والمعنى: من اتخذ أو أعد من النساء (ثياب الحيض)؛ يعني: ثيابًا معدة للحيض (سوى ثياب الطهر)؛ يعني: سوى ثيابها التي تلبسها وهي طاهرة، والمناسبة بين البابين من حيث المذكور فيهما واحد؛ فافهم.
==========
%ص 367%
==================
(1/553)
[حديث أم سلمة: بينا أنا مع النبي مضطجعة في خميلة]
323# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُعاذ) بضمِّ الميم، آخره ذال معجمة (بن فُضَالة) بضمِّ الفاء وفتحها مع فتح الضاد المعجمة، هو أبو زيد الزهراني البصري (قال: حدثنا هشام) هو الدستوائي، (عن يحيى) هو ابن أبي كثير بالمثلثة، (عن أبي سَلَمَة)؛ بفتحات: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن زينب بنت أبي سَلَمَة)؛ بفتحات: هي بنت أم سَلَمَة الصحابية بنت أم المؤمنين، (عن أم سَلَمَة)؛ بفتحات: وهي أم المؤمنين، واسمها هند بنت أبي أمية رضي الله تعالى عنها (قالت: بينا) أصله (بين) فأشبعت فتحة النون بالألف، و (بينا) و (بينما) ظرفان؛ بمعنى: المفاجأة، ومضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما ألا يكون فيه (إذ)، و (إذا)؛ فافهم.
(أنا مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم مضطجعة) أصله: مضتجعة؛ لأنَّه من باب (الافتعال)، فقلبت التاء طاء، ويجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع؛ على الخبرية، وأما النصب؛ فعلى الحال (في الخَمِيلة)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم، وهي القطيفة ونحوها مما ينسج ويفضل له فضول، كما تقدم؛ (حِضت)؛ بكسر الحاء المهملة لا غير، جواب (بينا) وهو العامل فيه، (فانسللت) أي: ذهبت خفية؛ لاحتمال وصول شيء من آلته عليه السلام، أو لاستقذارها نفسها، أو لخوف نزول الوحي عليه (فأخذت ثياب حِيضتي)؛ بكسر الحاء المهملة لا غير؛ أي: فلبستها، فرآني النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (فقال) لها: (أنَفِست؟)؛ بفتح النون، وكسر الفاء، وقيل: بضمِّ النون وفتحها، وفي الحَيض بالفتح لا غير، وفي «الواعي»: (بضمِّ النون: حاضت)، كما قدمناه، (فقلت) وفي رواية بإسقاط الفاء: (قلت) (نعم) أي: نفست، (فدعاني) إلى المكان الذي هو فيه، وأمرني (فاضطجعت معه في الخميلة) أي: القطيفة الأولى؛ لأنَّ المعرفة إذا أعيدت معرفة؛ يكون الثاني عين الأول، كما سبق.
قال إمام الشارحين: (ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة)، وقال ابن بطال: إن قيل: هذا الحديث يعارض قول عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه).
قيل: لا تعارض، فإن حديث عائشة في بدء الإسلام؛ لقيام الشدة والقلة، إذن قبل فتح الفتوح في الغنائم، فلما فتح عليهم؛ اتسعت واتخذت النساء ثيابًا للحيض سوى ثيابهن للباس، فأخبرت أم سَلَمَة عن ذلك الوقت) انتهى.
وفي الحديث دليل على جواز النوم مع الحائض في ثيابها، والاضطجاع معها في لحاف واحد، وفيه استحباب اتخاذ المرأة ثيابًا للحيض غير ثيابها المعتادة، وفيه: أن عرقها طاهر إلى غير ذلك مما قدمناه؛ فليحفظ.
==========
%ص 367%
==================
(1/554)
(23) [باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى]
هذا (باب) في بيان حكم (شهود) أي: حضور المرأة (الحائض) ومثلها: النفساء يومي (العيدين) أي: الأضحى والفطر (ودعوةَ المسلمين)؛ بالنصب عطف على (العيدين)، وهي الاستسقاء، نص عليه الكرماني، واعترضه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» بأن دعوة المسلمين أعم من الاستسقاء على ما لا يخفى.
قلت: وتبع الكرماني القسطلاني فقد وهم كما وهم، والحق أنها أعم، فتشمل صلاة الكسوف، والخسوف، والجنازة، وغيرها، كما يأتي بيانه؛ فليحفظ.
(ويعتزلن) أي: حال كونهن يعتزلن، وفي رواية ابن عساكر: (واعتزالهن) (المصلى) وهو مكان الصَّلاة تحرزًا وتنزيهًا، وصيانة عن وقوع شيء منها في المصلى فيتنجس، وعن مخالطة الرجال من غير حاجة، ولا صلاة، بل وعن المخالطة مطلقًا ولو لحاجة؛ لفساد الزمان، وإنما لم يحرم دخولهن، وكذا الجنب؛ لأنَّه ليس بمسجد من كل وجه، وإنما جمعه؛ لأنَّ الحائض اسم جنس؛ فبالنظر إلى معناه يجوز الجمع والمناسبة بين البابين من حيث إن المذكور فيه حكم من أحكام الحيض، كما أن الحائض في الباب السابق كذلك؛ فافهم.
==========
%ص 367%
==================
(1/555)
[حديث حفصة: كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين]
324# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية أبي ذر: (محمَّد بن سلام)، وفي رواية كريمة: (محمَّد هو ابن سلَام)؛ بتخفيف اللام، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، والمراد به: البيكندي (قال: حدثنا) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة: (أخبرنا) (عبد الوهاب)؛ هو الثقفي بالمثلثة، (عن أيُّوب) هو السختياني، (عن حفصة) هي بنت سيرين أم الهذيل الأنصارية البصرية أخت محمَّد بن سيرين أنها (قالت: كنا نمنع عواتقَنا) بالنصب مفعول (نمنع)، وهذه الجملة في محل النصب؛ لأنَّها خبر (كنا)، كذا قاله إمام الشارحين، ثم قال: (والعواتق جمع عاتق؛ بمعنى: شابة أول ما أدركت؛ فخدرت في بيت أهلها، ولم تفارق أهلها إلى زوج)، وفي «الموعب»: قال أبو زيد: (العاتق من النساء: التي أدركت وبين التي قد عنست، والعاتق: التي لم تتزوج)، وعن الأصمعي: (هي من الجواري فوق المعصر)، وعن أبي حاتم: (هي التي لم تبن عن أهلها)، وعن ثابت: (هي البكر التي لم تبن إلى الزوج)، وعن ثعلب: (سميت عاتقًا؛ لأنَّها عتقت عن خدمة أبويها ولم يملكها زوج بعد)، وفي «المخصص»: (التي أوشكت البلوغ)، وقال الأزهري: هي الجارية التي قد أدركت وبلغت ولم تتزوج، وقيل: هي التي بلغت أن تدرع، وعتقت من الصبا [1] والاستعانة بها في مهنة أهلها) انتهى.
(أن يخرجن) أي: من أن يخرجن، و (أن) مصدرية؛ أي: من خروجهن (في العيدين) الأضحى والفطر إلى المصلى، (فقدِمت)؛ بكسر الدال المهملة المخففة (امرأة) قال إمام الشارحين: (لم أقف على اسمها) (فنزلت قصر بني خلف) كان بالبصرة، منسوب إلى طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي المعروف بـ (طلحة الطلحات)، كذا زعمه ابن حجر.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ليس منسوبًا إلى طلحة، بل هو منسوب إلى خلف جد طلحة المذكور، وكذا جاء مبينًا في رواية) انتهى.
(فحدثت عن أختها) قيل: هي أخت أم عطية، وقيل: غيرها، ونص القرطبي على أنها أم عطية، قاله إمام الشارحين (وكان زوج أختها) قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (لم أقف على اسمه)؛ فافهم، (غزا مع النبي) الأعظم، وللأَصيلي: (مع رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم ثنْتي)؛ بسكون النون، وقيل: بكسرها (عشرة غزوة) كذا في رواية الأَصيلي، وفي رواية غيره بإسقاط لفظ (غزوة) فقط: (وكانت أختي) أي: قالت المرأة المحدثة: (كانت أختي)، ولا بد من تقدير قالت حتى يصح المعنى، وتقدير القول في الكلام غير عزيز؛ فافهم، (معه) أي: مع زوجها أو مع النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (في ست) أي: في ست غزوات، وروى الطبراني: أنها غزت معه سبعًا، كذا في «عمدة القاري»، (قالت)؛ أي: الأخت لا المرأة (كنا) وإنما قالت: (كنا) بلفظ الجمع؛
%ص 367%
لبيان فائدة حضور النساء الغزوات على سبيل العموم، قاله إمام الشارحين (نداوي)؛ بضمِّ النون، من المداواة (الكَلْمَى) بفتح الكاف، وسكون اللام، وفتح الميم، جمع كليم، وهو على القياس؛ لأنَّه فعيل بمعنى: مفعول، والمراد به: الجرحى، وقال ابن سيده: جمع كليم كلوم، وكلام، وكلمة، وتكلمة، وتكلمة من باب (نصر ينصر)، و (ضرب يضرب)، وكلمًا؛ بالفتح مصدره، وكلمه جرحه، ورجل مكلوم وكليم)، وفي «الصحاح»: (التكليم: التجريح)، قاله في «عمدة القاري»، وقوله: (ونقوم على المَرْضى) بفتح الميم، وسكون الراء محمول عليه؛ لأنَّ الكلمى هو: المرضى، إلا أن يقال: الكلمى: الجرحى، والمرضى: من به مرض غير الجراحة؛ فليحفظ
يدل لما قلنا قولها في الأول: (نداوي)، وفي الثاني: (نقوم)، فدل على المغايرة؛ فافهم.
(فسألتْ) بتاء التأنيث (أختي النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) عن عدم تسترهن بحضرة الكلمى والمرضى حيث يتعاهدنهم، فقالت له: (أعلى إحدانا) الهمزة فيه للاستفهام (بأس) أي: حرج وإثم بفعلنا ذلك (إذا) وللأصيلي: (إن) (لم يكن لها جِلْباب؟)؛ بكسر الجيم، وسكون اللام، وبموحدتين بينهما ألف؛ وهو خمار واسع كالملحفة تغطي به المرأة رأسها وصدرها، وتجلبت المرأة وجلببها غيرها، ولم يدغم؛ لأنَّه ملحق، وفي «المحكم»: (الجلباب: القميص، وقيل: ثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، وقيل: ما يغطى به الثياب من فوق كالملحفة)، وفي «الصحاح»: (الجلباب: الملحفة، والمصدر: الجلبية، ولم يدغم؛ لأنَّها ملحقة بدحرجة)، وفي «الغريبين»: (الجلباب: الإزار، وقيل: هي الملاءة التي تشتمل بها)، وقال القاضي عياض: (هي أقصر من الخمار وأعرض، وهي المقنعة، وقيل: هي الرداء تغطي به المرأة ظهرها وصدرها)، كذا قاله في «عمدة القاري»، (ألَّا تخرج)؛ أي: ليلًا تخرج، و (أن) مصدرية؛ أي: لعدم خروجها إلى المصلى للعيد (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (لتلبسْها)؛ بجزم السين المهملة، وقوله: (صاحبتُها)؛ بالرفع فاعله، وفي رواية: (فتلبسُها)؛ برفع السين المهملة، وبالفاء بدل اللام (من جلبابها) أي: تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه، وقيل: تشركها معها في لبس الثوب الذي عليها، وهذا مبني على أن يكون الثوب واسعًا حتى يسع فيه اثنان، وفيه نظر كما ما سيأتي في باب (إذا لم يكن لها جلباب في العيدين)، وقيل: هو مبالغة؛ ومعناه: يخرجن ولو كانت ثنتان في ثوب واحد، كذا قاله إمام الشارحين.
قلت: والأظهر الثاني؛ يعني: أنَّه على سبيل المبالغة؛ لأجل الجزر، ولئلا يتحيلن في عدم الجلباب، وهو أقرب إلى الصواب، والله أعلم.
(ولتشهد الخير) أي: ولتحضر مجالس الخير؛ كسماع الحديث، والعلم، وعيادة المريض، ونحو ذلك، (ودعوة المسلمين) كلام إضافي منصوب عطفًا على (الخير)، وذلك كالاجتماع لصلاة الاستسقاء، وفي رواية الكشميهني: (ودعوة المؤمنين)، قالت حفصة: (فلما قدِمت) بكسر الدال المهملة المخففة (أم عطية) واختلف في اسمها فقيل: نُسيبة؛ بضمِّ النون، وقيل: بفتح النون، وكسر السين المهملة، كذا زعمه الخطيب، وزعم القشيري: أنها بنون، وشين معجمة، وزعم ابن الجوزي أنها لُسَيْنَة؛ بلام مضمومة، وسين مهملة مفتوحة، وتحتية ساكنة، ونون مفتوحة، واختلف أيضًا في اسم أبيها فقيل: الحارث، وقيل: كعب؛ (سألتها) أي: سألت حفصة أم عطية: (أسمعت النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) الهمزة فيه للاستفهام؛ وتقديره: هل سمعت النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يقول المذكور؟ والمفعول الثاني محذوف، وقد قدمنا أن النحاة اختلفوا في (سمعت) هل يتعدى إلى مفعولين؟ على قولين؛ فالمانعون يجعلون الثاني حالًا، كذا في «عمدة القاري» (قالت)؛ أي: أم عطية (بأبِيْ)؛ بموحدة بعدها همزة، ثم موحدة مكسورة، ثم تحتية ساكنة، هذه الرواية المشهورة، وفي رواية الكشميهني: (بيبي [2])؛ بقلب الهمزة ياء تحتية، وفي رواية الأصيلي: (بأبا)؛ بفتح الموحدة، وإبدال ياء المتكلم ألفًا، وفي رواية: (بيبا)؛ بقلب الهمزة ياء، وفتح الموحدة، قال إمام الشارحين بعد ذكر اللغات الأربع قلت: الباء في (بأبي) متعلقة بمحذوف؛ تقديره: أنت مفدى بأبي، فيكون المحذوف اسمًا، وما بعده في محل الرفع على الخبرية، ويجوز أن يكون المحذوف فعلًا؛ فعلى تقديره يكون المحذوف فديتك، ويكون ما بعده في محل النصب، وهذا المحذوف حذف؛ طلبًا للتخفيف؛ لكثرة الاستعمال، وعلم المخاطب به، واللغتان الأولتان فصيحتان، وأصل بابا: بأبي هو، ويقال: بأبأت [3] الصبي؛ إذا قلت له: بأبي أنت وأمي؛ فلما سكنت الياء؛ قلبت ألفًا، وفي رواية الطبراني: (بأبي هو وأمي) انتهى.
(نعم) أي: سمعته يقول المذكور، (وكانت) أي: أم عطية (لا تذكره) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (إلا قالت: بأبي) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مفدى بأبي أو أنت مَفْديٌّ بأبي، ويحتمل أن يكون قسمًا؛ أي: أقسم بأبي، لكن الوجه الأول [4] أقرب إلى السياق، وأظهر، وأولى، قاله في «عمدة القاري»، (سمعته يقول)؛ فالجملة إما مفعول ثان، أو حال على اختلاف القولين، قال إمام الشارحين: وهذا ليس من تتمة المستثنى؛ لأنَّ الحصر هو في قوله: (بأبي) فقط بقرينة ما تقدم من قولها: (بأبي، نعم) انتهى.
(تخرج) أي: لتخرج (العواتق) وهذا خبر متضمن للأمر؛ لأنَّ إخبار الشارع عن الحكم الشرعي متضمن للطلب، لكنه هنا للندب لدليل آخر، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، (وذوات) فيه ثلاث روايات؛ الأولى: بواو العطف، والثانية: بلا واو، ويكون صفة للـ (العواتق)، والثالثة: (ذات)؛ بالإفراد، فالأولى: رواية الحمُّوي وكريمة، والثانية: أبي ذر عن الكشميهني، والثالثة: رواية الأصيلي، (الخُدور) بضمِّ الخاء المعجمة، والدال المهملة، جمع خِدْر بكسر الخاء، وسكون الدال؛ وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه، وقال ابن سيده: الخدر: ستر يمد للجارية في ناحية البيت، ثم صار كلما واراك [5] من البيت ونحوه خدر، والجمع خدور، وأخدار، وأخادير جمع الجمع، والخدر: خشبات تنصب فوق قتب البعير مستورة بثوب، وهودج مخدور، ومخدَّر [6]، وخدر، وقد أخدر الجارية، وخدرها، وتخدرت هي، واختدرت، وفي «المخصص»: الخدر: ثوب يمد في عرض الخباء، فتكون فيه الجارية البكر، وقيل: هو هودج، وقال ابن قرقول: سرير عليه ستر، وقيل: الخدر: البيت، كذا قرره إمام الشارحين، _ (أو العواتق ذوات الخدور) على الشك_ وأكثر النسخ بإسقاط الشك، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني، والأصيلي: (ذات الخدر) بغير واو فيهما؛ والمعنى: لتخرج الأبكار الشابة أصحاب التستر (والحُيَّض) بضمِّ الحاء المهملة، وتشديد المثناة التحتية، جمع حائض، وهو معطوف على (العواتق)، (وليشهدن) وفي رواية ابن عساكر: (ويشهدن) (المخير) أي: مجالس الخير؛ كمجلس وعظ ونحوه، قال في «عمدة القاري»: (وليشهدن) عطف على قوله: (يخرج العواتق).
فإن قلت: كيف يعطف الأمر على الخبر؟
قلت: الخبر من الشارع من الأحكام الشرعية محمول على الطلب، فمعناه: لتخرج العواتق وليشهدن) انتهى.
(ودعوة المسلمين) وفي رواية: (ودعوة المؤمنين) كالاجتماع لصلاة الاستسقاء ونحوه، (ويعتزلن) بلفظ الجمع على لغة (أكلوني البراغيث)، وفي رواية: (يعتزل)؛ بالإفراد (الحُيَّض) بضمِّ المهملة، وتشديد التحتية، جمع حائض (المصلى)؛ أي: مكان الصَّلاة، وهو المساجد؛ فإنهن
%ص 368%
يمنعن من دخولها؛ كالجنب والنفساء، (قالت حفصة)؛ أي: الراوية (فقلت) أي: لأم عطية: (آلحيض؟!) بهمزة ممدودة على الاستفهام التعجبي من إخبارها بشهود الحيض، (فقالت)؛ أي: أم عطية: (أليس)؛ بهمزة الاستفهام (تشهد) أي: الحيض، واسم (ليس) ضمير الشأن، وفي رواية الكشميهني: (أليستْ تشهد)؛ بالتاء التأنيث في (ليس)، وفي رواية الأصيلي: (ألسن يشهدن)؛ بنون الجمع في (ألسن) مع همزة الاستفهام (عرفة) فيه الظرف محذوف؛ أي: يوم عرفة في عرفات، (وكذا) أي: نحو منًى والمزدلفة، (وكذا)؛ أي: نحو صلاة الاستسقاء وغيرها؟
ففيه دليل: على أن الحائض لا تهجر ذكر الله عز وجل.
وفيه دليل: على جواز استعارة الثياب للخروج إلى طاعة الله عز وجل.
وفيه غزو النساء، ومداواة الجرحى وإن كنَّ غير ذي محارم منها.
وفيه دليل: على قبول خبر المرأة.
وفي قوله: (كنا نداوي) جواز فعل الأعمال التي كانت في زمن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وإن كان لم يجز شيئًا من ذلك.
وفيه دليل: على جواز النقل عمن لا يعرف اسمه من الصحابة خاصة وغيرهم إذا بين مسألة ودل عليه.
وفيه دليل: على امتناع خروج النساء بدون الجلابيب.
وفيه جواز تكرار يأتي في الكلام.
وفيه جواز السؤال بعد رواية العدل عن غيره؛ تقوية لذلك.
وفيه جواز شهود الحائض عرفة.
وفيه دليل على وجوب صلاة العيدين، وزعم القرطبي أنه لا يستدل بذلك على الوجوب؛ لأنَّ هذا إنَّما توجه لمن ليس بمكلف بالصَّلاة باتفاق، وإنما المقصود والندب على الصَّلاة والمشاركة في الخير، وإظهار كمال الإسلام، وزعم القشيري أن أهل الإسلام إذ ذاك كانوا قليلين) انتهى.
قلت: وهذا غير صحيح؛ فإن في الحديث دليل واضح: على وجوب صلاة العيدين؛ لأنَّ قوله: (وليشهدن الخير ودعوة المسلمين) أمر من الشارع، وهو وإن كان محمولًا على الندب بدليل آخر إلا أنه هنا المراد به: الطلب في الشهود، وهو يقتضي الوجوب؛ لأنَّه أمر من الشارع، فإذا كان شهود الحائض التي هي غير مكلفة وقتئذٍ مطلوبًا؛ فكيف بالمكلف الطاهر؟ فيجب عليه ذلك وهو دليل الوجوب؛ لا سيما وقد واظب على صلاة العيدين النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ومن بعده كالخلفاء الراشدين وغيرهم؛ والمواظبة دليل الوجوب قطعًا، فكان كالإجماع على وجوبها، وسوف يأتي تمامه في محله إن شاء الله تعالى.
وقال الخطابي: (فيه دليل على أنهن يشهدن مواطن الخير ومجالس العلم، خلا أنهن لا يدخلن المساجد).
قلت: فيه نظر؛ فإن مصلى العيدين مسجد، وقد أبيح لهن دخوله؛ فافهم.
وقال ابن بطال: (فيه جواز خروج النساء الطاهرات والحُيض إلى العيدين، وشهود الجماعات، وتعتزل الحُيض المصلى، ولكن فيمن تدعو وتؤمن رجاء بركة المشهد الكريم)، وقال القاضي عياض: وقد اختلف السلف في خروجهن؛ فرأى جماعة ذلك حقًّا؛ منهم: أبو بكر، وعلي، وابن عمر، وآخرون [7] رضي الله عنهم، ومنعهن جماعة؛ منهم: عروة، والقاسم، ويحيى بن سَعِيْد الأنصاري، ومالك، والإمام أبو يوسف، وأما الإمام الأعظم؛ فأجازه مرة، ومنعه مرة أخرى، وفي «الترمذي»: (وروي عن ابن المبارك: أكره اليوم خروجهن في العيدين، فإن أبت المرأة إلا تخرج؛ فلتخرج في أطهارها بغير زينة، فإن أبت ذلك؛ فللزوج أن يمنعها)، ويروى عن الثوري: أنه كره اليوم خروجهن.
قال إمام الشارحين: (قلت: اليوم الفتوى على المنع مطلقًا، ولا سيما في الديار المصرية) انتهى.
قلت: ولا سيما في ديارنا الشامية، بل المنع لهن كان واجبًا، وقوله: (مطلقًا) يعني: في جميع الصلوات ولو كانت عجوزًا ولو كانت غير متزينة، كيف ما كانت؛ لفساد الزمان؛ فإن المعاصي قد تجاهروا بفعلها، والأعمال الصالحات قد تركوا العمل بها، فالفساق في الأسواق كثير، لا سيما بالمساجد العظام، ولا أحد ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف؛ فالمنع واجب، ولا يخفى أن هذا اختلاف زمان لا حجة وبرهان.
وقال النووي: (قال أصحابنا _يعني: الشافعية_: يستحب إخراج النساء في العيدين غير ذوات الهيئات والمستحسنات، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن المفسدة في ذلك الزمن كانت مأمونة، بخلاف اليوم، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لو رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما أحدث النساء بعده؛ لمنعهنَّ المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل) انتهى.
قلت: فقد اعترف بأنه اختلاف زمان، وعليه؛ فالمنع واجب وهو اتفاق؛ فافهم، وفيه اعتزال الحُيض من المصلى، واختلفوا فيه؛ فقال الجمهور: هو منع تنزيه، وسببه: الصيانة والاحتراز عن مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة، وإنما لم يحرم؛ لأنَّه ليس بمسجد [8]، كذا قاله إمام الشارحين.
وزعم ابن حجر أنه يحرم المكث في المصلى عليها، كما يحرم مكثها في المسجد؛ لأنَّه موضع الصَّلاة؛ فأشبه المسجد، قال صاحب «عمدة القاري»: (والصواب الأول).
قلت: ووجهه أن المصلى حكمه حكم الصحراء؛ بدليل: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي العيدين في الصحراء، وأصحابه بعده كذلك، فاتخذ المصلى؛ صيانة لحرمة الصَّلاة.
وقول هذا القائل: (يحرم ... ) إلخ ممنوع؛ فلا وجه للحرمة في ذلك، ولا دليل يدل عليها، ولا بدَّ لها من دليل قطعي ولم يوجد؛ فلا يحرم عليها المكث في المصلى، ومثلها الجنب والنفساء، وقوله: (لأنَّه موضع الصَّلاة) ممنوع؛ فإن الصحراء موضع الصَّلاة، ولم يسع أحدًا أن يقول بحرمة مكثها فيها، وقوله: (فأشبه المسجد) ممنوع أيضًا، كما لا يخفى؛ فإن المشبه لا يعطى له حكم المشبه به من كل وجه، وكيف خفي هذا على هذا القائل؟ فإن المصلى قد أشبه المسجد في الاجتماع للصلاة، والصَّلاة فيه لا في حرمة دخول الحائض والجنب؛ فإن ذلك مباح لهما، وحديث الباب محمول على المنع التنزيهي [9] بسبب المخالطة، كما قدمناه؛ فافهم.
وقال الكرماني: (فإن قلت: الأمر بالاعتزال للوجوب؛ فهل الشهود والخروج أيضًا واجبان؟ قلت: ظاهر الأمر الوجوب، لكن علم من موضع آخر أنه ههنا للندب) انتهى.
واعترضه ابن حجر فزعم أن الكرماني قد أغرب حيث قال: الاعتزال واجب، والخروج مندوب.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: لم يقل الكرماني بوجوب الاعتزال وندبية الخروج من هذا الموضع خاصة حتى يكون مغربًا، وإنما صرح بقوله: إن الأمر بالاعتزال للوجوب، وأما ندبية الخروج؛ فمن موضع آخر) انتهى.
قلت: فإن دأب ابن حجر الاعتراض على الشراح وإن كان غير صواب حتى يقال وقد قيل: ولا ريب أن ذلك من طول اللسان وكثرة الرياء المحبط للأعمال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فافهم.
%ص 369%
==========
[1] في الأصل: (الصباء).
[2] في الأصل: (بيني)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (بأبات)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (ورك)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (محذور ومحدرز)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
[7] في الأصل: (وآخرين)، ليس بصحيح.
[8] في الأصل: (مسجد)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (الننزيه)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الصباء).
[2] في الأصل: (بيني)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (بأبات)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (ورك)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (محذور ومحدرز)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
[7] في الأصل: (وآخرين)، ليس بصحيح.
[8] في الأصل: (مسجد)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (الصباء).
[2] في الأصل: (بيني)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (بأبات)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (ورك)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (محذور ومحدرز)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
[7] في الأصل: (وآخرين)، ليس بصحيح.
[8] في الأصل: (مسجد)، وهو تحريف.
(1/556)
(24) [باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان حكم الحائض (إذا حاضت)؛ أي: المرأة، وبه صرح في رواية (في الشهر) أي: الواحد، وفي رواية بدون الألف واللام (ثلاث حِيَض) بكسر الحاء المهملة، وفتح المثناة التحتية، جمع حيضة، (و) في بيان (ما) أي: مدة (يُصدَّق)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، وتشديد الدال المهملة المفتوحة (النساء) أي: البالغات فيها بإدعائهن (في الحيض) أي: في مدة الحيض (والحمل) أي: في مدة الحمل، وفي رواية ابن عساكر: (والحبَل)؛ بفتح الموحدة المفتوحة، (وفيما)؛ بالفاء، وفي رواية ابن عساكر: (وما) (يمكن من الحيض) هذا متعلق بقوله: (تصدق)؛ أي: تصدق فيما يمكن تكرار الحيض، ولهذا لم يقل: وفيما يمكن من الحمل؛ لأنَّه لا معنًى للتصديق في تكرار الحمل، أفاده إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ يعني: فإذا لم يمكن؛ لم تصدق؛ (لقول الله تعالى) وفي رواية بإسقاط لفظ الجلالة، وثبوت الضمير في (قول)، وفي رواية الأصيلي: (عز وجل) ({وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]) هذا تعليل للتصديق، ووجه الدلالة عليه: أنها إذا لم يحل لها الكتمان؛ وجب عليها الإظهار، فلو لم تصدق فيه؛ لم يكن للإظهار فائدة، وروى الطبراني بإسناد صحيح عن الزُهْرِي قال: بلغنا أن المراد بما خلق الله في أرحامهن: الحمل والحيض، ولا يحل لهن أن يكتمن ذلك لتنقضي العدة، ولا يملك الزوج العدة إذا كانت له، وروي بإسناد حسن عن ابن عمر قال: (لا يحل لها إذا كانت حائضًا أن تكتم حيضها، ولا إذا كانت حاملًا أن تكتم حملها)، وعن مُجَاهِد: (لا تقول: إني حائض، وليست بحائض، ولا لست بحائض وهي حائض، وكذا في الحمل)، أفاده إمام الشارحين.
قلت: وفي هذه الآية دليل على أن قولها مقبول في ذلك؛ لأنَّ أمر العدة لما كان مبنيًّا على انقضاء القروء في حق ذوات الأقراء وعلى وضع الحمل في حق الحامل، وكان الوصول إلى علم ذلك متعذرًا على الرجال؛ جعلت المرأة أمينة في ذلك، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها، وزاد في رواية الأصيلي: (إن كن يؤمن)، فقد أغلظ الله تعالى القول عليهنَّ؛ حيث قال: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228]، ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء وتعظيم بليغ لفعلهن؛ حيث بين أن من آمن بالله وبعقابه؛ لا يجترئ على مثله من العظائم، فظهر [1] بما ذكر أن ليس المراد به: أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة؛ لأنَّ المؤمنة والكافرة في هذا الحكم سواء؛ فليحفظ.
(ويُذكر)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، فهو على صيغة المجهول، وسيأتي ما فيه؛ فافهم، (عن علي) هو الصديق الأصغر ابن أبي طالب رضي الله عنه، (و) عن (شريح) بالشين المعجمة، بعدها راء مهملة، بعدها مثناة تحتية، ثم حاء مهملة، هو ابن الحارث _بالمثلثة_ الكندي أبو أمية الكوفي، ويقال: إنه من أولاد الفرس الذي كانوا باليمن، أدرك النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يلقه، استقضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الكوفة، وأقره من بعده إلى أن ترك هو بنفسه زمن الحجاج، كان له مئة وعشرون [2] سنة، مات عام ثمانية وتسعين، وهو أحد الأئمَّة الأعلام، وهذا التعليق بلفظ التمريض قد وصله الدارمي فقال: أنبأنا يعلى بن عبيد: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر _هو الشعبي_ قال: جاءت امرأة إلى علي رضي الله عنه تخاصم زوجها طلقها، فقالت: حضت في شهر ثلاث حيض، فقال علي لشريح: اقض بينهما، قال: يا أمير المؤمنين؛ وأنت ههنا، قال: اقض بينهما، قال شريح: (إن جاءت)، وفي رواية كريمة: (إنِ امرأة جاءت)؛ بكسر النون (ببينة من بِطانة)؛ بكسر الموحدة، أي: من خواص (أهلها) إنَّما خصهم بذلك؛ لأنَّهم أقرب إلى الاضطلاع على ذلك (ممن يرضى دينه) وأمانته؛ أي: بأن يكون من أهل الديانة والصلاح عدلًا.
زعم القاضي إسماعيل ليس المراد: أن تشهد النساء أن ذلك وقع، وإنما هو فيما ترى أن يشهدن أن هذا يكون، وقد كان في نسائهن.
ورده إمام الشارحين بأن سياق الحديث يدفع هذا التأويل؛ لأنَّ الظاهر منه أن المراد: أن يشهدن بأن ذلك وقع منها، وكان مراد إسماعيل: رد هذه القصة إلى موافقة مذهبه) انتهى.
قلت: يعني: ترويجًا لما ذهب إليه إمامه الشافعي، وإن كان خلاف الظاهر المتبادر، ومذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين: أن المرأة لا تصدق في انقضاء العدة في أقل من ستين يومًا، قال ابن بطال: وبه قال الإمام محمَّد بن الحسن، والثوري، وعند الشافعي: تصدق في ثلاثة وثلاثين يومًا، وعن أبي ثور: في تسعة وأربعين يومًا، وذكر ابن أبي زيد عن سحنون أقل العدة أربعون يومًا.
(أنها حاضت في شهر) وفي رواية ابن عساكر: (في كل شهر) (ثلاثًا) أي: ثلاث حيض، تطهر عند كل قرء وتصلي؛ جاز لها، وإلا؛ فلا، قال عليٌّ: قالون: ومعناه بلسان الرومية: أحسنت، ورواه ابن حزم عن الشعبي أيضًا: (أن عليًّا أتي برجل طلق امرأته فحاضت ثلاث حيض في شهر، أو خمسًا في شهر، أو خمسًا [3] وثلاثين ليلة، فقال علي لشريح: اقض بينهما، فقال: إن جاءت بالبينة من النساء العدول من بطانة أهلها من يرضى صدقه وعدله؛ أنها رأت ما يحرم عليها الصَّلاة من الطمث، وتغتسل عند كل قرء وتصلي فيه؛ فقد انقضت عدتها، وإلا؛ فهي كاذبة، فقال عليٌّ: قالون: معناه: أصبت)، قال ابن حزم: (هذا نص قولها) انتهى.
(صُدِّقت) بضمِّ الصاد المهملة، وكسر الدال المهملة المشددة، ففيه المطابقة لما ترجم له من قوله: (وما يصدق النساء ... ) إلى آخره؛ لأنَّ المراد: ما يصدق النساء فيما يمكن من مدة الشهر، والشهر يمكن فيه ثلاث حيض خصوصًا على قول مالك والشافعي، فإن أقل الحيض عند مالك في حق العدة ثلاثة أيام، وفي ترك الصَّلاة والصوم وتحريم الوطء دفعة، وعند الشافعي في الأشهر: أن أقله يوم وليلة، وهو قول أحمد ابن حنبل.
فإن قلت: عند الأئمَّة الحنفية أقل الحيض ثلاثة أيام؛
%ص 370%
فلم شرطوا في تصديقها بستين يومًا على مذهب الإمام الأعظم؟
قلت: لأنَّ أقل الطهر عندهم خمسة عشر يومًا، فإذا أقرت بانقضاء عدتها؛ لم تصدق في أقل من ستين يومًا؛ لأنَّه يجعل كأنه طلقها أول الطهر وهو خمسة عشر يومًا، وحيضها خمسة اعتبارًا للعادة، فتحتاج إلى ثلاثة أطهار وثلاث حيض، انتهى.
وفي «الملتقى» و «شرحه»: (ومن قالت: مضت عدتي بالحيض؛ فالقول لها مع اليمين؛ لأنَّه لا يعلم إلا من جهتها إن مضى عليها ستون يومًا عند الإمام الأعظم، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمَّد بن الحسن: تسعة وثلاثون يومًا وثلاث ساعات للاغتسال)، وقول الإمام هو المختار، كما في «الخانية»، وقيد بالحيض؛ لما في «القنية»: (قالت: انقضت عدتي في يوم أو أقل؛ تصدق أيضًا وإن لم تقل: أسقطت؛ لاحتماله)، قال في «النهر»: (والظاهر أنه لا بد من بيانها صريحًا)؛ ففي «البزازية»: (قالت: ولدت؛ لم يقبل قولها إلا ببينة، ولو قالت: أسقطت سقطًا متبين الخلق؛ قبل قولها، وله أن يحلفها)، وفي «الخلاصة»: (قالت: طلقني زوجي وانقضت عدتي، ووقع في قلبه صدقها وهي عدلة، أو لا؛ حل له تزوجها، وإن قالت: وقع نكاح الأول فاسدًا؛ لم تحل ولو عدلة) انتهى.
قلت: وهذا الأثر المعلق لا يعارض ما قاله الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ لأنَّه غير قوي، ولهذا ذكره المؤلف بلفظ التمريض وهو يدل على ضعفه، ووجهه أنهم اختلفوا في سماع الشعبي من علي رضي الله عنه، فقال الدارقطني: (لم يسمع منه إلَّا حرفًا [4] ما سمع غيره)، وقال الحازمي: (لم يثبت أئمة الحديث سماع الشعبي من علي)، وقال ابن القطان: (منهم من يُدخل بينه وبين عبد الرحمن بن أبي ليلى، وسنُّه محتمل لإدراك علي).
قال صاحب «التلويح»: (وكأن البخاري لمح هذا في علي لا في شريح؛ لأنَّه مصرح بسماع الشعبي منه؛ فينظر في تمريضه الأثر عنه على رأي من يقول: إنه إذا ذكر شيئًا بغير صفة الجزم؛ لا يكون صحيحًا عنده وكأنه غير جيد؛ لأنَّه ذكر في «الغنيمة»: ويذكر عن أبي موسى: «كنا نتناوب»؛ بصيغة الجزم وهو سند صحيح عنده) انتهى.
قلت: وهذا غير صحيح؛ فإن ذكر البخاري هذا الأثر المعلق بصيغة التمريض هنا دليل على عدم صحته، يدل لهذا: أنهم اختلفوا في سماع الشعبي من علي، كما علمت؛ فلأجل [5] الاختلاف فيه ذكره بصيغة التمريض، ولو كان صحيحًا؛ لذكره بصيغة الجزم، وما ذكره في «الغنيمة» عن أبي موسى؛ فإن هناك قرائن وعلامات تدل على صحته، فالصحة جاءت من القرائن لا من لفظ التمريض، وجمهور المحدثين قالوا: إذا ذكر البخاري تعليقًا بصيغة التمريض؛ لا يكون صحيحًا وهو ظاهر؛ لأنَّه لو كان صحيحًا؛ لما وسعه أن يذكره كذلك، بل يذكره بصيغة الجزم، والله تعالى أعلم.
(وقال عطاء) بالمد، هو ابن أبي رباح، مما وصله عبد الرزاق، عن ابن جريج عنه قال: (أقراءها) جمع قرء، والقُرْء؛ بضمِّ القاف وفتحها، مع سكون الراء؛ وهو الحيض؛ لما في «البخاري» من أنه عليه السلام قال: «دعي الصَّلاة أيام أقرائك»، وقد يطلق على الطهر الفاصل بين الحيضتين؛ كقول الأعشى:
مورثة مالًا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فهو من الأضداد يقع على الحيض والطهر، وأكثر استعماله في كلام العرب في الحيض، واختلفوا في أنه حقيقة في الحيض، مجاز في الطهر، أو حقيقة فيهما، والمشهور الأول، وقال جماعة بالثاني وهو بعيد يرده الأحاديث؛ فإن أكثر استعمالها في الحيض، وسيأتي تمامه قريبًا إن شاء الله تعالى؛ فليحفظ، (ما كانت)؛ أي: أقراؤها في زمن العدة ما كانت قبل العدة، فلو ادعت في زمن الاعتداد أقراء معدودة في مدة معينة في شهر مثلًا؛ فإن كانت معتادة بما ادعتها؛ فذاك، وإن ادعت في العدة ما يخالف ما قبلها؛ لم يقبل، كذا في «عمدة القاري»، (وبه) أي: بما قاله عطاء (قال إبراهيم) هو النخعي، مما وصله عبد الرزاق أيضًا عن أبي مسعر، عن إبراهيم، (وقال عطاء)؛ بالمد، هو ابن أبي رباح (الحيض يوم إلى خمسة عشر) هذا إشارة إلى أن أقل الحيض يوم، وأكثره خمسة عشر يومًا، وهذا التعليق وصله الدارمي بإسناد صحيح عنه قال: (أقصى الحيض خمسة عشر، وأدنى الحيض يوم وليلة)، ورواه الدارقطني عنه قال: (أدنى وقت الحيض يوم، وأكثره خمسة عشر).
وقد اختلف العلماء في أقل مدة الحيض وأكثره؛ فمذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: أقله ثلاثة أيام بلياليها وما نقص عن ذلك؛ فهو استحاضة، وأكثره عشرة أيام بلياليها، وما زاد على ذلك؛ فهو استحاضة.
وقال الإمام أبو يوسف: أقله يومان، والأكثر من اليوم الثالث، ودليل الإمام الأعظم: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الحيض ثلاث، وأربع، وخمس، وست، وسبع، وثمان، وتسع، وعشر، فإذا زاد؛ فهو استحاضة»، رواه الدارقطني، وقال: لم يروه غير هارون بن زياد، وهو ضعيف الحديث.
وحديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة، وأكثره ما يكون عشرة أيام، فإذا زاد؛ فهو استحاضة»، رواه الطبراني، وكذا الدارقطني، وفي سنده عبد الملك مجهول، والعلاء بن كثير ضعيف الحديث.
وحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام»، رواه الدارقطني، وفي سنده حمَّاد بن منهال مجهول.
وحديث معاذ بن جبل: أنه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا حيض فوق عشرة
%ص 371%
أيام، فما زاد على ذلك؛ فهي استحاضة تتوضأ لكل صلاة إلا أيام أقرائها»، رواه ابن عدي في «الكامل»، وفي مسنده محمَّد بن سَعِيْد، قال ابن معين: (يضع الحديث).
وحديث أبي سَعِيْد الخدري: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشرة، وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يومًا»، رواه ابن الجوزي، وفيه أبو داود النخعي، واسمه سليمان، زعم ابن حبان أنه يضع الحديث.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «[أقل] الحيض ثلاثة أيام، وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة، وثمانية، وتسعة، وعشرة، فإذا جاوز العشرة؛ فهي مستحاضة»، رواه ابن عدي، وفيه الحسن بن دينار ضعيف.
وحديث عائشة الصديقة رضي الله عنها، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أكثر الحيض عشر، وأقله ثلاث»، رواه ابن الجوزي، وفيه حسين بن علوان، زعم ابن حبان أنه كان يضع الحديث، وفي هذا الباب أحاديث كثيرة، أجاب الإمام أبو الحسن القدوري في «التجريد»: (بأن ظاهر الإسلام يكفي لعدالة الراوي ما لم يوجد فيه قادح، وضعف الراوي لا يقدح إلا أن يقوى من وجه الضعف)، وقال النووي في «شرح المهذب»: (إن الحديث إذا روي من طرق ومفرداتها ضعيفان؛ يحتج به) انتهى.
قلت: وطعن الدارقطني، وابن حبان، وغيرهما في سند هذه الأحاديث تعصب وتعنت، وقالاه ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم الشافعي، فلا يعتد بطعنهما؛ لأنَّ الدارقطني مشهور بالتعصب على الإمام الأعظم رئيس المجتهدين.
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (على أنا نقول: قد شهد لمذهبنا عدة أحاديث عن الصحابة رواية [6] بطرق مختلفة كثيرة يقوي بعضها بعضًا وإن كان كل واحد ضعيفًا، لكن يحدث عند الاجتماع ما لا يحدث عند الانفراد؛ على أن بعض طرقها صحيحة، وذلك يكفي [7] للاحتجاج خصوصًا في المقدرات، والعمل به أولى من العمل بالبلاغات والحكايات المروية عن نساء مجهولة، ومع هذا نحن لا نكتفي بما ذكرنا، بل تقوى ما ذهبنا إليه بالآثار المنقولة عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب، وقد أمعنا الكلام فيه في شرحنا على «الهداية») انتهى كلامه
قلت: وقد ذكر هذه الأحاديث وزاد عليها المحقق كمال الدين بن الهمام في «شرحه» على «الهداية» وقال بعد سردها: فهذه عدة أحاديث عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم متعددة الطرق، وذلك يرفع الضعيف إلى درجة الحسن، والمقدرات الشرعية مما لا تدرك بالرأي، فالموقوف فيها حكمه الرفع، بل تسكن النفس بكثرة ما روي فيه عن الصحابة والتابعين إلى المرفوع مما أجاد فيه ذلك الرواي الضعيف، وبالجملة فله أصل في الشرع بخلاف قولهم: أكثره خمسة عشر؛ فإنه لم نعلم فيه حديثًا حسنًا ولا ضعيفًا، وإنما تمسكوا فيه بما روَوه عنه عليه السلام قال في صفة النساء: «تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي» وهو لو صح؛ لم يكن فيه حجة، لكن قال البيهقي: (إنه لم يجده)، وقال ابن الجوزي في «التحقيق»: (هذا حديث لا يعرف، وأقره عليه صاحب «التنقيح») انتهى.
وقال النووي في «شرح المهذب»: (إنه حديث باطل لا يعرف، وإنما ثبت في «الصحيحين»: «تمكث الليالي ما تصلي») انتهى.
واحتج الحافظ الطحاوي لمذهبنا بحديث أم سَلَمَة: إذ سألتْ عن المرأة تهراق الدماء، فقال النبي الأعظم عليه السلام: «لتنظر عدد الليالي والأيام» من غير أن يسألها عن مقدار حيضها قبل ذلك، وأكثر ما يتناوله الأيام عشرة، وأقله ثلاثة أيام) انتهى.
وأما ما استدلوا به على أقله؛ فلا دليل فيه؛ لأنَّه لما جاز كون الصفة موجودة في اليوم والليلة؛ جاز وجودها فيما دونه؛ فلم لم يجعلوه حيضًا؟ أفاده صاحب «البحر الرائق».
قلت: وأجاب العلامة المنلا علي القاري: (بأن الأحاديث المذكورة في هذا الباب وغيره حين وصولها للمجتهد لا سيما الإمام الأعظم التابعي الجليل؛ كانت في غاية الصحة، ووصفها بالضعف حين وصولها إلينا؛ فكان وصفها بالضعف جراءة وسوء أدب في حق المجتهد ... ) إلى آخر كلامه، والله تعالى أعلم.
وذهب مالك في رواية: أنه لا وقت لقليل الحيض ولا كثيره إلا ما يوجد في النساء، وفي أخرى: أنه لا يكون أكثر من خمسة عشر يومًا فما دونها، وما زاد؛ فهو استحاضة، وبه قال الشافعي، والطهر المتخلل بين الدمين خمسة عشر يومًا عند الإمام الأعظم، ومالك، والشافعي.
(وقال مُعْتمر) بضمِّ الميم، وسكون العين المهملة، بعدها مثناة فوقية، هو ابن سليمان، وكان أعبد أهل زمانه، (عن أبيه)؛ هو سليمان المذكور ابن طرخان، قال سَعِيْد: (ما رأيت أصدق من سليمان، كان إذا حدث عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ تغيَّر لونه)، وقال: شكه بيقين، وكان يصلي الليل كله بوضوء العشاء الآخرة، كذا في «عمدة القاري»، وبه تعلم وهم القسطلاني، وهذا الأثر رواه الدارمي عن محمَّد بن عيسى، عن معتمر قال: (سألت) وللأصيلي، وأبي ذر: (قال: سألت) (ابن سيرين) هو محمَّد المشهور (عن المرأة ترى الدم بعد قُرْئها)؛ بضمِّ القاف، وسكون الراء؛ أي: حيضها المعتاد لا طهرها بقرينة قوله: (بخمسة أيام) فإنه يدل على أنها معتادة، والسؤال صادر عنها، ولا يخفى أن المعتادة ترى الدم، فرؤية الدم ليست قرينة على الطهر، كما زعمه القسطلاني ترويجًا لما ذهب إليه إمامه؛ فليحفظ.
(قال) أي: محمَّد بن سيرين (النساء أعلم بذلك) يعني: التمييز بين الدمين راجع إليها؛ فيكون
%ص 372%
المرئي في أيام عادتها حيضًا، وما زاد عليها؛ فهو استحاضة، فإن لم يكن لها علم بالتمييز؛ يكن [8] حيضها ما تراه إلى كثرة مدة الحيض، وما زاد عليها؛ استحاضة، وسيأتي.
وزعم الكرماني أن قوله: (بعد قرئها)؛ أي: طهرها لا حيضها بقرينة لفظ الدم، والغرض منه: أن أقل الطهر يحتمل أن يكون خمسة أيام أم لا.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ليس المعنى هكذا، وإنما المعنى: أن ابن سيرين سئل عن امرأة كان بها حيض معتاد، ثم رأت بعد أيام عادتها خمسة أيام أو أقل [9] أو أكثر، فكيف يكون حكم هذه الزيادة؟ فقال ابن سيرين: «هي أعلم بذلك»؛ يعني: التمييز بين الدمين راجع إليها؛ فيكون المرئي في أيام عادتها حيضًا، وما زاد على ذلك؛ فهو استحاضة، فإن لم يكن لها علم بالتمييز؛ يكن حيضها ما تراه إلى أكثر مدة الحيض، وما زاد عليها؛ يكون استحاضة، وليس المراد من قولها: «بعد قرئها [10]» أي: بعد طهرها، كما قاله الكرماني، بل المراد: بعد حيضتها المعتادة [11]، كما ذكرنا) انتهى.
وقال صاحب «التلويح»: (وهذا الأثر يشهد لمن يقول: القرء: الحيض، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، وقال السفاقسي: وهو قول ابن سيرين، وعطاء، وأحد عشر صحابيًّا: الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، ومعاذ، وقتادة، وقول أبي الدرداء، وأنس بن مالك رضي الله عنهم وهو قول سَعِيْد بن المسيِّب، وابن جبير، وطاووس، والضحاك، والأوزاعي، والنخعي، والشعبي، والثوري، وإسحاق، وأبي عبيد) انتهى.
قلت: وكفى بهؤلاء الأئمَّة قدوة وسندًا، وهو قول أبي موسى، ومُجَاهِد، وعكرمة، والسدي فقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] المراد بـ (القرء) في الآية: الحيض، والدليل عليه: قول النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «طلاق الأَمَة تطليقتان، وعدتها حيضتان»، وقد أجمع العلماء على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة، فوجب أن يكون عدة الحرة هي الحيض الثلاث، وأن تكون هي المرادة بالقروء في الآية.
وزعم الشافعي وغيره إلى أن المراد به: الطهر تمسكًا في قصة ابن عمر مرة: «فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء؛ أمسك بعد، وإن شاء؛ طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء».
قلنا: هذا الحديث لا يقاوم الحديث الأول، لا سيما وقد عضده الإجماع، ويدل لما قدمنا قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فإن معناه: فطلقوهن مستقبلات لعدتهن التي هي ثلاث حيض، وتطليقهن حال توجيههن إليها إنَّما يكون في الطهر؛ كما تقول: فعلته لثلاث بقين من الشهر؛ تريد: مستقبلًا لثلاث، فهذا يدل على أن المراد بالقروء: الحيض، ويدل لذلك ما قاله أبو زيد: قرء [12]؛ بفتح القاف، يقال: أقرأت المرأة؛ حاضت، فهي [13] مقرئ، وقال الأخفش: أقرأت المرأة؛ أي: صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت؛ قلت: قرأت؛ بلا ألف، يقال: أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين، والقرء أيضًا: انقضاء الحيض، وقال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمِّي الحيض قرءًا، ومنهم من يسمِّي الطهر قرءًا، ومنهم من يجمعهما جميعًا فيسمِّي الحيض مع الطهر: قرءًا، ذكره النحاس، وإنِّما سمَّي القرء حيضًا؛ لاجتماع الدم في الرحم، والمشهور أنَّه: حقيقة في الحيض، مجاز للطهر، وقيل: بالعكس، وقيل: حقيقة فيهما، والأوَّل هو الصحيح، وممَّا جاء القرء في الحيض قوله:
يا ربِّ ذي ضفن على قارص ... له قرؤ كقرؤ الحائض
يعني: أنَّه طعنه، وكان له دم كدم الحائض، وتمامه يأتي إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالحال.
==========
[1] في الأصل: (فطهر)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (وعشرين)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (خمس ... خمس)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (خرفًا)، وهو تصحيف.
[5] في الأصل: (فالأجل)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (رؤية)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (يكتفى).
[8] في الأصل: (يكون)، وكذا في الموضع اللاحق.
[9] في الأصل: (قل).
[10] في الأصل: (قرائها).
[11] في الأصل: (المعتاد)، وليس بصحيح.
[12] في الأصل: (قر)، وليس بصحيح.
[13] في الأصل: (فهو)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (فطهر)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (وعشرين)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (خمس ... خمس)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (خرفًا)، وهو تصحيف.
[5] في الأصل: (فالأجل)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (رؤية)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (يكتفى).
[8] في الأصل: (يكون)، وكذا في الموضع اللاحق.
[9] في الأصل: (قل).
[10] في الأصل: (قرائها).
[11] في الأصل: (المعتاد)، وليس بصحيح.
[12] في الأصل: (قر)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فطهر)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (وعشرين)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (خمس ... خمس)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (خرفًا)، وهو تصحيف.
[5] في الأصل: (فالأجل)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (رؤية)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (يكتفى).
[8] في الأصل: (يكون)، وكذا في الموضع اللاحق.
[9] في الأصل: (قل).
[10] في الأصل: (قرائها).
[11] في الأصل: (المعتاد)، وليس بصحيح.
[12] في الأصل: (قر)، وليس بصحيح.
(1/557)
[حديث: لا إن ذلك عرق]
325# وبالسَّند إلى المؤلِّف قال: (حدثنا أحمد ابن أبي رَجاء) بفتح الراء، وتخفيف الجيم، وبالمدِّ، واسمه عبد الله بن أيُّوب الهروي، ويكنَّى أحمد بأبي الوليد، وهو حنفي النسب لا المذهب، مات بهراة سنة اثنين وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا أبو أسامة) هو حمَّاد بن أسامة الكوفي (قال: سمعت هِشام) بكسر الهاء (بن عُروة) بضمِّ العين المهملة، هو ابن الزبير (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) هي الصدِّيقة بنت الصدِّيق الأكبر رضي الله عنهما: (أن فاطمة بنت أبي حُبَيْش) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره شين معجمة، القرشية الأسدية، واسم أبيها قَيْس بن عبد المطَّلب بن أسد، كذا قاله إمام الشارحين، والذهبي في «تجريد الصحابة»، وهي غير فاطمة بنت قَيْس التي طلِّقت ثلاثًا، وما زعمه ابن حجر؛ فخطأ ظاهر، كما لا يخفى على أهل الظاهر (سألت النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وقوله: (قالت) بيان لقولها: (سألت)، وفي بعض الأصول: (فقالت)؛ بالفاء التفسيرية.
قلت: وهي أولى لظهور المعنى؛ فافهم: (إنِّي) إنَّما أكَّدت بـ: (إن) لتحقيق القضيِّة، لندور وقوعها لا لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم منكر أو متردد (أُسْتَحاض) بضمِّ الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، (فلا أطهر) أي: يستمرُّ بها الدم بعد أيَّام حيضها، والاستحاضة: اسم لما نقص عن أقلِّ الحيض؛ وهو ثلاثة أيام، ولمَا زاد على أكثره؛ وهو عشرة أيام، وإنَّما بني الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الاستحاضة؛ لأنَّ الأوَّل معتاد معروف؛ فنسب إليها، والثاني نادر غير معروف الوقت، وهو منسوب إلى الشيطان، كما ورد: أنها ركضة من الشيطان، والسين فيه يجوز أن تكون للتحويل: كما في استحجر الطين؛ فإنَّه تحوَّل دم الحيض إلى غير دمه، وهو دم الاستحاضة؛ فليحفظ.
(أفأدع) أي: أفأترك (الصَّلاة؟) هذا سؤال عن استمرار حكم الحائض في حالة دوام الدم وإزالته، وهو كلام من تقرَّر عنده أن الحائض ممنوعة من الصَّلاة، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وبه اندفع ما زعمه الكرماني من أنَّه معطوف على مقدَّر؛ أي: أيكون في حكم الحائض؟ أو الهمزة مقحمة، أو توسُّطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة؛ لعدم انسحاب ذكر الأول على الثاني، أو الهمزة ليست باقية على صرافة الاستفهامية؛ لأنَّها للتقرير هنا؛ فلا تقتضي الصدارة؛ فافهم، (فقال)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (لا) أي: لا تدعي الصَّلاة (إن ذلكِ) بكسر الكاف (عِرْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الراء؛ أي: دم عرق؛ لأنَّ الخارج ليس بعرق، وهو المسمَّى بـ (العاذل) بالعين المهملة، والذال المعجمة، وحكي إهمالها، (ولكن) للاستدراك (دعي الصَّلاة) أي: اتركي الصَّلاة (قدر الأيَّام التي كنتِ) بكسر التاء
%ص 373%
(تحيضين فيها) فيوكل ذلك إلى أمانتها، وردها إلى عادتها، فإن كانت عادتها من كلِّ شهر عشرة أيَّام من أوَّلها، أو من وسطها، أو في آخرها؛ فتترك الصَّلاة عشرة أيَّام من هذا الشهر نظير ذلك، وهكذا.
فإن قيل: الاستدراك لا بدَّ أن يكون بين كلامين متغايرين؟
وأجيب: بأنَّ معناه: لا تتركي الصَّلاة في كلَّ الأوقات، لكن اتركيها في مقدار العادة، ولفظة (قدر الأيَّام) تشعر بأنَّها كانت معتادة.
فإن قلت: من أين كانت تحفظ فاطمة عدد أيَّامها التي كانت تحيضها أيَّام الصحَّة؟
قلت: لو لم تحفظ ذلك؛ لم يكن لقوله عليه السلام: «دعي الصَّلاة قدر الأيَّام التي كنت تحيضين فيها» فائدة، وقد جاء في رواية أبي داود وغيره في حديث أم سَلَمَة: «لتنظر عدة الليالي والأيَّام التي كانت تحيض فيها من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها؛ فلتترك [1] الصَّلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك؛ فلتغتسل، ثمَّ تستتر بثوب، ثمَّ لتصلِّي».
وجاء في حديث فاطمة بنت أبي حبيش أيضًا رواه أبو داود والنسائي: فقال لها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا كان دم الحيضة؛ فإنَّه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك؛ فأمسكي عن الصَّلاة، وإذا كان الآخر؛ فتوضَّئي وصلِّي، فإنَّما ذلك عرق».
فإن قلت: كيف الأمر فيمن لم تحفظ عادة أيَّامها؟
قلت: هذه المسألة مشهورة في الفروع، وهو أنَّها تحسب في كل شهر عشرة حيضها، ويكون الباقي استحاضة، واحتجَّ الراوي لأصحابنا في «شرح مختصر الحافظ الطحاوي» بقوله عليه السلام: «قدر الأيَّام التي تحيضين فيها» على تقدير أقل الحيض وأكثره؛ لأنَّ أقل ما يتناوله اسم الأيَّام ثلاثة أيَّام، وأكثره عشرة؛ لأنَّ ما دون الثلاث لا يسمَّى أيَّامًا، وتقول ثلاثة أيَّام إلى عشرة أيَّام، ثمَّ تقول: أحد عشر يومًا، كذا قرَّره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الباري.
(ثم اغتسلي وصلِّي)؛ يعني: أنَّه إذا مضى زمن حيضها؛ وجب عليها أن تغتسل في الحال لأوَّل صلاة تدركها، ولا يجوز لها بعد ذلك أن تترك صلاةً ولا صومًا، ويكون حكمها حكم الطاهرات، هذا مذهب إمامنا الأعظم وأصحابه، وتبعه الشافعي، وهو رواية عن مالك، الثانية: تترك الصَّلاة إلى انتهاء خمسة عشر يومًا، وهو أكثر مدَّة الحيض عنده، والثالثة: تترك ثلاثة أيَّام، وما بعدها استحاضة، ووجه مطابقة الحديث للترجمة: أنَّه عليه السلام وكَّل ذلك إلى أمانتها وعادتها، فقد يقلُّ ذلك ويكثر على قدر عادة النساء.
وفي الحديث جواز استسقاء المرأة بنفسها ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بأمر الدين.
وفيه جواز استماع صوت المرأة عند الحاجة الشرعيَّة.
وفيه نهي المستحاضة عن الصَّلاة في زمن الحيض وهو نهي تحريم، ومقتضاه: فساد الصَّلاة هنا بإجماع المسلمين، ويستوي فيها الفرض، والواجب، والنفل؛ لظاهر الحديث، ويتبعها الطواف، وصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر.
وفيه أنَّ الصَّلاة تجب بمجرَّد انقطاع دم الحيض، وقد سبق ذكر هذا الحديث في باب (غسل الدم).
==========
[1] في الأصل: (فالتترك)، وهو تحريف.
==================
(1/558)
(25) [باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض]
هذا (باب) بيان (الصُفْرة)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وسكون الفاء (والكُدْرة)؛ بضمِّ الكاف، وسكون الدال المهملة؛ اللتين تراهما المرأة (في غير أيام الحيض) يعني: لا يكون حيضًا، وألوان الدم ستَّة: السواد، والحمرة، والصفرة، والكدرة، والخضرة، والتربية.
أمَّا الحمرة؛ فهي اللون الأصلي للدم إلاَّ عند غلبة السوداء عليه؛ فيضرب إلى السواد، وعند غلبة الصفراء عليه؛ فيضرب إلى الصفرة، ويتبيَّن ذلك لمن افتصد.
وأما الصفرة؛ فهي من ألوان الدم؛ إذا رقَّ، وقيل: هي كصفرة البيض، أو كصفرة القزِّ.
وقال الإمام الجليل قاضيخان: (الصفرة تكون كلون القزِّ، أو لون البسر، أو لون التبن، فالسواد، والحمرة، والصفرة حيض).
وأمَّا الكدرة؛ فقال الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن: أنها حيض سواء رأت في أيَّام عادتها أو آخرها، وهي لون كلون الصديد يعلوه إصفرار.
وأمَّا الخضرة؛ فاختلف فيها، فقال الشيخ الإمام أبو منصور: إن رأتها في أوَّل الحيض؛ تكون حيضًا، وإن رأتها في آخر الحيض واتصل بها أيَّام الحيض؛ لا تكون حيضًا، وجمهور الأئمَّة الحنفيَّة: على كونها حيضًا كيفما كانت.
وأمَّا التُرْبِيَّة؛ فهي التي تكون على لون التراب، وهي نوع من الكدرة، وهي بضمِّ المثنَّاة الفوقية، وسكون الراء، وكسر الموحَّدة، وتشديد التحتية، ويقال: الترابية، وقال الإمام الجليل قاضيخان: التربية على وزن (التربة)، وقيل فيها: تريئة [1] على وزن (تفعلة) من الرؤية، وقيل: تربيَّة على وزن (تفعيلة)، وقيل: تريَّة [2]؛ بالتشديد والتخفيف بغير همزة، كذا قرره إمام الشارحين.
ونقل عن ابن الأثير أن التريَّة؛ بالتشديد: (ما تراه المرأة بعد الحيض والاغتسال منه من كدرة أو صفرة، وقيل: هي البياض الذي تراه عند الطهر، وقيل: هي الخرقة التي تعرف به المرأة حيضها من طهرها، والتاء الفوقية فيه زائدة؛ لأنَّه من الرؤية، والأصل فيه: الهمزة، ولكنَّهم تركوه وشدَّدوا الياء التحتية، فصارت اللَّفظة كأنَّها فعيلة) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (تريبة)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (تربة)، وهو تصحيف.
%ص 374%
==================
[1] في الأصل: (تريبة)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (تريبة)، وهو تحريف.
(1/559)
[حديث: كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئًا]
326# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدَّثنا قُتَيبة بن سَعِيْد) بضمِّ القاف، وفتح الفوقية (قال: حدَّثنا إسماعيل) هو ابن أبي عليَّة، بضمِّ العين المهملة، (عن أيُّوب) هو السختياني، (عن محمَّد) هو ابن سيرين، (عن أم عطيَّة) وهي نسيبة، وقيل: نشيبة، وقيل: لسينة، كما تقدَّم قريبًا، ومن لطائف هذا الإسناد أنَّ فيه رواية راوي من رأى أنس بن مالك عن الصحابيَّة، وفيه أنَّه موقوف، كذا قاله ابن عساكر، ولكنَّ قولها: (كنَّا) يعني: في زمن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: مع علمه بذلك، وتقديره: إيَّاهن، وهذا في حكم المرفوع، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(قالت) وهو ساقط في رواية أبي ذرٍّ (كنَّا) أي: نساء الصحابة في زمن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مع علمه بذلك، وتقريره: (لا نعدُّ الكُدْرَة) بضمِّ الكاف، وسكون الدال المهملة، (والصُّفْرة) بضمِّ الصاد المهملة، وسكون الفاء (شيئًا) أي: شيئًا معتدًّا به؛ يعني: أنَّ
%ص 374%
الكدرة والصفرة لا تكون حيضًا إذا كانت في غير أيام الحيض، وهذا هو المراد من الحديث، ويوضِّحه رواية أبي داود، عن أمِّ عطيَّة وكانت بايعت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: (كنَّا لا نعدُّ الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا)، وعلى هذا؛ ترجم البخاري، وصحَّحه الحاكم.
وعند الإسماعيلي: (كنَّا لا نعد الصفرة والكدرة شيئًا في الحيض).
وعند الدارقطني: (كنَّا لا نرى التربيَّة بعد الطهر شيئًا؛ وهي الصفرة والكدرة).
وروى ابن بطَّال من رواية حمَّاد بن سَلَمَة، عن قتادة، عن حفصة قالت: (كنَّا لا نرى التربيَّة بعد الغسل شيئًا).
قال الكرماني: فإن قلت: قد روي عن عائشة: (كنَّا نعدُّ الصفرة والكدرة حيضًا)، فما وجه الجمع بينهما؟
قلت: هذا في وقت الحيض، وذلك في غير وقته)، وردَّه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه ابن حزم بسند واهٍ؛ لأجل أبي بكر النهشلي الكذَّاب، ووقع في «وسيط الغزالي» ذكره له من حديث زينب، ولا تعرف، وروى البيهقي حديث عائشة أنَّها قالت: (ما كنَّا نعد الكدرة والصفرة شيئًا ونحن مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) قال: وسنده ضعيف لا يسوَّى ذكره، قال: وقد روي معناه عن عائشة بسند أمثل من هذا وهو أنَّها قالت: (إذا رأت المرأة الدَّم؛ فلتمسك عن الصَّلاة حتى تراه أبيض؛ كالفضَّة، فإذا رأت ذلك؛ فلتغتسل ولتصلِّي، فإذا رأت صفرة أو كدرة؛ فلتتوضَّأ ولتصلِّي، فإذا رأت ماءً أحمر؛ فلتغتسل ولتصلِّي) انتهى.
قلت: ومراد إمام الشارحين بهذه الروايات وسردها: الردُّ على ما زعمه الكرماني، فإنَّه إذا كان حديث عائشة واهٍ شديد الضَّعف؛ لا يقاوم حديث الباب، وإذا كان كذلك؛ لا يلزم ذكر وجه الجمع بينهما؛ لأنَّه إنَّما يذكر وجه الجمع بين الحديثين إذا كانا في رتبة واحدة، وذلك كونهما في الصحة سواء، فيحصل بينهما التعارض؛ فيحتاج لذكر وجه الجمع بينهما، أمَّا إذا كان الحديث صحيحًا، وحديث يخالفه ضعيف كما هنا؛ فلا يحتاج لذلك؛ لأنَّ من المعلوم أنَّ الصحيح لا يقاوم الضعيف، كما لا يخفى.
وذهب جمهور العلماء في معنى الحديث إلى ما ذهب إليه المؤلِّف في ترجمته، فقال أكثرهم: الصفرة والكدرة حيض إذا كانت في أيام الحيض خاصة، وبعد أيام الحيض؛ ليس بشيء؛ وهو مذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين وأصحابه، وهو مرويٌّ عن عليِّ بن أبي طالب، وبه قال سَعِيْد بن المسيِّب، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، وربيعة، والثَّوري، والأوزاعي، واللَّيث، والشَّافعي، وأحمد، وإسحاق، وقال الإمام أبو يوسف: ليس قبل الحيض حيض، وفي آخر الحيض حيض، وهو قول أبي ثور.
وقال مالك: (حيض في أيَّام الحيض وغيرها).
قال ابن بطَّال: (وأظنُّ [1] أنَّ حديث أمُّ عطية لم يبلغه) انتهى.
قلت: فحديث أمِّ عطيَّة حجَّة على مالك؛ لأنَّه نصٌّ في الباب، وما زعمه مالك مخالف للنص، والحقُّ أحقُّ أن يتَّبع.
وقال إمام الشارحين: وهذا الحديث أخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدَّد، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن زرارة، وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمَّد بن يحيى، عن عبد الرزَّاق، عن معمر، عن أيُّوب به، وقال المزِّي: (رواه وهيب، عن أيُّوب، عن حفصة، عن أمِّ عطية)، قال محمَّد بن يحيى: (خبر وهيب أولاهما عندنا).
واعترضه صاحب «عمدة القاري»؛ حيث قال: قلت: ما ذهب إليه البخاري من تصحيح رواية إسماعيل أرجح لمتابعة معمر له، عن أيُّوب، ولأنَّ إسماعيل أحفظ لحديث أيُّوب من غيره، ويجوز ان يكون أيُّوب قد سمعه من محمَّد، ومن حفصة) انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (وأظنه).
==================
(1/560)
(26) [باب عرق الاستحاضة]
هذا (باب) بيان (عِرْق) بكسر العين المهملة، وسكون الراء (الاستحاضة) أي: المسمَّى بالعاذل، وأراد المؤلِّف بهذا أنَّ دم الاستحاضة من عرق، كما صرَّح به في حديث الباب، وفي رواية أخرجها أبو داود: (وإنَّما ذلك عرق وليست بالحيضة)، والمناسبة بين البابين من حيث إن كلًّا منهما يشتمل على ذكر حكم الاستحاضة.
==================
(1/561)
[حديث: أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين]
327# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدَّثنا إبراهيم بن المُنْذِر) بضمِّ الميم، وسكون النون، وكسر الذال المعجمة، هو الحِزَامي؛ بكسر الحاء المهملة، وبالزاي المخففة (قال: حدَّثنا مَعْن) بفتح الميم، وسكون العين المهملة، بعدها نون، هو ابن عيسى القزَّاز؛ بتشديد الزاي الأولى (قال: حدَّثني)؛ بالإفراد، وفي رواية الأصيلي: (حدَّثنا) (ابن أبي ذِئْب)؛ بكسر الذال المعجمة، وسكون التحتيَّة، وقد تبدَل همزة، هو محمَّد بن عبد الرَّحمن، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزُهْرِي، (عن عُروة) بضمِّ العين المهملة، هو ابن الزُّبير، بضمِّ الزاي، (وعن عَمْرة) بفتح العين المهملة، وسكون الميم، وهو عطف على عروة؛ يعني: أن ابن شهاب يرويه عنها أيضًا، وهي عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصارية، الثقة الحجة العالمة، ماتت سنة ثمان وتسعين، (عن عائشة) هي الصدِّيقة بنت الصديق (زوج النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) و رضي الله عنها، قال إمام الشارحين: (وعن عمرة)؛ بواو العطف؛ كلاهما عن عائشة، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي الوقت، وابن عساكر: (عن عروة، عن عمرة، عن عائشة) بحذف الواو، والمحفوظ إثبات الواو، وأنَّ ابن شهاب رواه عن شيخين عمرة وعروة؛ كلاهما عن عائشة، وكذا أخرجه الإسماعيلي وغيره من طريق ابن أبي ذئب، وكذا أخرجه مسلم من طريق عمرو بن الحارث، وأبو داود من
%ص 375%
طريق الأوزاعي؛ كلاهما عن الزُّهْرِي، عن عروة وحده، وكذا من طريق إبراهيم بن سعد، وأبو داود من طريق يونس؛ كلاهما عن الزُّهْرِي، عن عمرة وحدها، قال الدارقطني: (هو صحيح من رواية الزُّهْرِي، عن عروة وعمرة جميعًا) انتهى.
(أنَّ أمَّ حَبِيبة) بفتح الحاء المهملة، وكسر الموحَّدة، بعدها تحتية، ثم موحَّدة، هي بنت جحش أخت زينب أمِّ المؤمنين، وهي مشهورة بكنيتها.
وزعم الواقدي والحربي أن اسمها حبيبة، وكنيتها أمُّ حبيب؛ بغير هاء، ورجَّحه الدارقطني، والمشهور في الروايات الصحيحة: (أمُّ حبيبة)؛ بإثبات الهاء، وكانت زوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، كما ثبت عند مسلم من رواية عمرو بن الحارث، ووقع في «الموطأ» عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سَلَمَة: (أنها [رأت] زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف كانت تستحاض ... )؛ الحديث فقيل: هو وهم، وقيل: بل صواب، وإنَّ اسمها زينب، وكنيتها أمُّ حبيبة، وأمَّا كون اسم أختها أمُّ المؤمنين زينب؛ فإنَّه لم يكن اسمها الأصلي، وإنَّما كان اسمها برَّة، فغيَّره النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فلعلَّه سمَّاها باسم أختها؛ لكون أختها غلبت عليها الكنية، فأمن اللبس، ولهما أخت أخرى اسمها حَمْنة _بفتح الحاء المهملة، وسكون الميم، آخره نون_ وهي إحدى المستحاضات، وقال ابن الأثير: (روى ابن عيينة، عن الزُهْرِي، عن عمرة، عن عائشة: أنَّ أمَّ حبيبة أو حبيب [1])، وعند ابن عبد البرِّ: أكثرهم يسقطون الهاء، ويقولون: أمَّ حبيب، وأهل السير يقولون: المستحاضة حمنة، والصحيح عند أهل الحديث: أنَّهما كانتا مستحاضتين جميعًا، وقيل: إنَّ زينب استحيضت، كذا قرَّره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، (استحيضت)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: استمرَّ بها دم الحيض بعد العادة، وقوله: (سبع سنين)؛ جمع لسنة، على سبيل الشذوذ من وجهين؛ الأوَّل: أنَّ شرط جمع السلامة أن يكون مفرده مذكَّرًا عاقلًا، وليست كذلك، والآخر كسر أوَّله، والقياس فتحه، كذا في «عمدة القاري»، (فسألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك) أي: عن حكم دم الاستحاضة، (فأمرها) أي: النبيَّ الأعظم صلَّى عليه الله وسلم (أن تغتسل) أي: بأن تغتسل، فـ (أن) مصدريَّة؛ والتقدير: فأمرها بالاغتسال، وفي رواية مسلم، والاسماعيلي: (فأمرها أن تغتسل وتصلي)، وهذا الأمر بالاغتسال مطلق يحتمل الأمر بالاغتسال لكلِّ صلاة، ويحتمل الاغتسال في الجملة.
ويدلُّ للأوَّل ما في «أبي داود»: حدثنا هنَّاد، عن عبدة، عن ابن إسحاق، عن الزُهْرِي، عن عروة، عن عائشة: أنَّ أمَّ حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمرها بالغسل لكلِّ صلاة، فهذه الرواية تدلُّ على الاغتسال لكلِّ صلاة، لكن قال البيهقي: رواية ابن إسحاق عن الزُهْرِي غلط؛ لمخالفتها سائر الروايات عن الزُهْرِي، ويمكن أن يقال: إن كان هذا مخالفة الترك؛ فلا تناقض، وإن كان مخالفة التعارض؛ فليس كذلك؛ لأنَّ الأكثر فيه السكوت عن أمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالغسل عند كلِّ صلاة، وفي بعضها أنها فعلته هي، كما سيأتي، (فقال) أي: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (هذا عِرْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الراء؛ أي: دم عرق انفجر، وليس بحيض، وقوله: (وكانت تغتسل لكل صلاة) من كلام الراوي؛ ومعناه: تغتسل من الدَّم الذي كان يصيب الفرج؛ فإنَّ المشهور من مذهب عائشة الصدِّيقة أنَّها كانت لا ترى الغسل لكلِّ صلاة، ويدلُّ لصحَّة هذا قوله عليه السلام: «هذا عرق»؛ لأنَّ دم العرق لا يوجب غسلًا، وقيل: إنَّ هذا الحديث منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حبيش، فإنَّ فيه الأمر بالوضوء، رواه البيهقي في باب (المستحاضة إذا كانت مميزة).
ووجه النَّسخ أن عائشة رضي الله عنها أفتت بحديث فاطمة بعد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالفت حديث أم حبيبة، وهذا لأنَّ أبا محمَّد الإشبيلي قال: (حديث فاطمة أصح حديث يروى في الاستحاضة)، وقال الليث بن سعد في روايته عند مسلم: (لم يذكر ابن شهاب أنَّه عليه السلام أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولكن شيء فعلته هي)، وإلى هذا ذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، فقالوا: لا يجب الغسل على المستحاضة لكل صلاة، ولكن يجب عليها الوضوء إلا المتحيرة، وقال محمَّد بن إدريس: إنَّما أمرها عليه السلام أن تغتسل وتصلي، وإنما كانت لكل صلاة تطوُّعًا، وروى أبو الوليد الطيالسي عن سليمان بن كثير، عن الزُهْرِي، عن عروة، عن عائشة: استحيضت زينب بنت جحش، فقال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «اغتسلي لكل صلاة»، وقال أبو داود: ورواه عبد الصمد، عن سليمان بن كثير قال: «توضئي لكل صلاة»، قال أبو داود: (وهو وهم).
وأجيب: بأنه قد ذكر هذا في حديث حمَّاد، أخرجه النَّسائي، وابن ماجه، وقال مسلم في «صحيحه»: (وفي حديث حمَّاد بن زيد حرف تركناه، وهي: «توضئي لكل صلاة)، قال النووي: (وأسقطها مسلم؛ لأنَّها مما انفرد به حمَّاد).
قلنا: لم ينفرد به حمَّاد عن هشام، بل رواه عنه أبو عوانة، كما أخرجه الحافظ الطحاوي في كتاب «الرد على الكرابيسي» من طريقه بسند جيد، ورواه أيضًا حمَّاد بن سَلَمَة، أخرجه الدارمي من طريقه، وأخرجه الحافظ الطحاوي من طريق أبي نعيم، وعبد الله بن يزيد المقري، عن الإمام الأعظم أبي حنيفة، عن هشام، وأخرجه الترمذي، وصححه من طريق وكيع، وعبدة، وأبي معاوية، عن هشام، وقال في آخره: وقال أبو معاوية في حديثه: «توضئي لكل صلاة»، وقد جاء الأمر أيضًا بالوضوء فيما أخرجه البيهقي من حديث فاطمة بنت أبي حبيش على أن حمَّاد بن زيد لو انفرد بذلك؛ لكان كافيًا؛ لثقته وحفظه، لا سيما في هشام، وليس هذا مخالفة، بل زيادة ثقة، وهي مقبولة لا سيما في مثله.
وزعم الخطابي أن هذا الخبر مختص، ليس فيه ذكر حال هذه المرأة، ولا بيان أمرها، وكيفية شأنها، وليس كل مستحاضة يجب عليها الاغتسال لكل صلاة، وإنما هي فيمن تبتلى وهي لا تميز دمها، أو كانت لها أيام فنسيتها، وموضعها، ووقتها، وعددها، فإذا كانت كذلك؛ فإنها لا تدع شيئًا من الصَّلاة، وكان عليها أن تغتسل عند كل صلاة؛ لأنَّه يمكن أن يكون ذلك الوقت قد صادف زمان انقطاع دمها، فالغسل عليها عند ذلك واجب، انتهى.
قلت: وظاهر
%ص 376%
كلامه أنَّه جعل الحديث خاصًّا بالمتحيرة، وهي التي أضلت عادتها، وهذا غير صحيح؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه، فإنه ليس فيه ذلك، وقوله: (ليس فيه ذكر حال هذه المرأة): ممنوع، فإنه عليه السلام قد علم حالها بإخبارها أو بالوحي، فأفتاها على طبق مقصدها ومرامها، وأحكام المتحيرة مذكورة في شرحنا على القدوري المسمى بـ «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب؛ على أنه قد ثبت في الروايات الصحيحة الوضوء دون الغسل، وأن رواية الوضوء أصح من رواية الغسل، لا سيما الرواية التي بينت أنها كانت تفعل ذلك هي وحدها؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (حبيبة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/562)
(27) [باب المرأة تحيض بعد الإفاضة]
هذا (باب): بيان حكم (المرأة) التي (تحيض بعد) طواف (الإفاضة)؛ وهو الذي يسمى أيضًا: طواف الزيارة، وهو من أركان الحج؛ يعني: هل تنفر وتترك طواف الوداع؟ فالجواب: نعم تترك وتنفر، ووجه المناسبة بين البابين من حيث إن في الباب السابق حكم المستحاضة، وفي هذا الباب حكم الحائض، فالحيض والاستحاضة من واد واحد، أفاده إمام الشارحين.
==========
%ص 377%
==================
(1/563)
[حديث: لعلها تحبسنا؟! ألم تكن أفاضت معكن]
328# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المصري (قال: أخبرنا) وفي رواية الأصيلي: (حدثنا) (مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن عبد الله بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حَزْم المدني الأنصاري، (عن أبيه) هو أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حَزْم_ بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي_ ولي القضاء والإمرة والموسم زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، (عن عَمْرة) بفتح العين المهملة، وسكون الميم (بنت عبد الرحمن) بن سعد الأنصارية المذكورة في الباب السابق، وهي خالته التي تربت في حجر عائشة رضي الله عنها، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (زوج النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) ورضي عنهما: (أنها) أي: عائشة (قالت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) يا رسول الله؛ (إن صَفِيَّة) بفتح الصاد المهملة، وكسر الفاء، وتشديد التحتية، بنت حُيَيٍّ_بضمِّ الحاء المهملة، وباليائين؛ الأولى مفتوحة مخففة، والثانية مشددة_ ابن أخطب _بفتح الهمزة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الطاء المهملة بعد موحدة_ النَّضْرية [1]_بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة_ من بنات هارون أخ موسى صلَّى الله عليهما وسلَّم، سباها النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عام فتح خيبر، ثم أعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، توفيت سنة ستين في خلافة معاوية رضي الله عنه، قاله الواقدي، وقال غيره: توفيت في خلافة علي الصدِّيق الأصغر سنة ست وثلاثين، كذا قرره إمام الشارحين.
(قد حاضت) أي: جاءها دم الحيض، (قال النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: للحاضرين في مجلسه: (لعلها تحبسنا) أي: عن الخروج من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حتى تطهر وتطوف بالبيت، و (لعل) ههنا ليست للترجي، بل للاستفهام، أو للتردد، أو للظن، وما شاكله، قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، (ألم تكن) بهمزة الاستفهام (طافت) أي: طواف الركن (معكن) أي: مع نساء الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن؟ (قالوا) وفي رواية: (فقالوا)؛ بالفاء؛ أي: الحاضرون هناك في مجلسه عليه السلام وفيهم الرجال والنساء، قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» قال: وهذا أوجه مما زعمه الكرماني؛ أي: قال الناس، وإلا فحق القول أن يقال: فقلن أو فقلنا، ومما زعمه ابن حجر؛ أي: النساء ومن معهن من المحارم قال: (وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ فيه تغليب الإناث على الذكور) انتهى.
قلت: وما زعمه الكرماني ليس بصحيح أيضًا، فإن قوله: (قال الناس)؛ فاسد؛ لأنَّ القائل الحاضرون ذكورًا وإناثًا، لا جميع الناس.
وقوله: (وإلا فحق ... ) إلخ: ممنوع هنا؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لم يخاطب النساء فقط، بل خاطب كل من كان في مجلسه الشريف، فليس حقه أن يقال ذلك، كما لا يخفى، وما زعمه ابن حجر بعيد عن الأفهام مع ما فيه من فساد الكلام؛ فإنه عليه السلام لم يخاطب إلا النساء والرجال سواء كانوا محارم أم لا، فمن أين جاء التقييد بالمحارم؟ ولا مانع أن ذلك كان قبل نزول الحجاب، فالخطاب متوجه إلى الحاضرين عنده مطلقًا، فالحق ما قاله إمام الشارحين رضي الله عنه، وهو أجدر بهذه التسمية؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
(بلى) يا رسول الله؛ أي: طافت طواف الركن، (قال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (فاخرجي) بالإفراد وبالخطاب، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والكشميهني: (فاخرجن) بصيغة الجمع للإناث، أما الوجه الأول؛ ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ يعني: قال صفية مخاطبًا لها: (اخرجي)، أو يكون الخطاب لعائشة؛ لأنَّها هي القائلة للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: إن صفية قد حاضت، فقال لها: (اخرجي)، فإنها توافقك في الخروج؛ إذ لا يجوز لها تأخر بعدك؛ لأنَّها قد طافت طواف الركن، ولم يبق عليها فرض، وفيه وجه آخر؛ وهو أن يقدر في الكلام شيء، قال لعائشة: قولي لها: اخرجي، وأما الوجه الثاني؛ فعلى السياق.
فإن قلت: ما الفاء في قوله: (فاخرجي)؟
قلت: فيه أوجه؛ الأول: أن تكون جوابًا لـ (أما) مقدرة؛ والتقدير: أما أنت؛ فاخرجي كما يخرج غيرك، والثاني: يجوز أن تكون زائدة، والثالث: يجوز أن تكون [2] عطفًا على مقدر؛ تقديره: اعلمي أن ما عليك التأخر فاخرجي، كذا قرره إمام الشارحين.
وقال النووي في «شرح مسلم»: (ففي الحديث دليل لسقوط طواف الوداع عن الحائض، وأن طواف الإفاضة ركن لا بد منه، وأنه لا يسقط عن الحائض ولا غيرها، وأن الحائض تقيم له حتى تطهر، فإن ذهبت إلى وطنها قبل طواف الإفاضة؛ بقيت محرمة) انتهى.
قلت: تبقى محرمة أبدًا حتى تطوف في حق الجماع مع زوجها، وأما في حق غيره؛ فتخرج عن الإحرام، وفيه دليل على أن الحائض لا تطوف بالبيت، فإن هجمت وطافت؛ ففيه تفصيل، فإن كانت محدثة وكان الطواف طواف القدوم؛ فعليها الصدقة عندنا، وقال الشافعي: لا يعتد به، وإن كان طواف الركن؛ فعليها شاة، وإن
%ص 377%
كانت حائضًا وكان الطواف طواف القدوم؛ فعليها شاة، وإن كان طواف الركن؛ فعليها بدنة، وكذا حكم الجنب من الرجال والنساء، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، والله الهادي.
==========
[1] في الأصل: (النضر به)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (يكون).
==================
[1] في الأصل: (النضر به)، وهو تصحيف.
[1] في الأصل: (النضر به)، وهو تصحيف.
(1/564)
[حديث ابن عباس: رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت]
329# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُعلَّى) بضمِّ الميم، وتشديد اللام (ابن أسد): مرادف الليث، هو أبو الهيثم البصري، المتوفى سنة تسع عشرة ومئتين (قال: حدثنا وهيب) تصغير وهب، وهو ابن خالد البصري، (عن عبد الله بن طاووس) هو اليماني، المتوفى سنة اثنين وثلاثين ومئة، (عن أبيه) هو طاووس المذكور ابن كيسان اليماني الحميري، من أبناء الفرس، المتوفى سنة بضع عشرة ومئة، (عن ابن عباس) هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (قال: رُخص) بضمِّ الراء مبني للمجهول، والمرخص هو النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو معلوم ضرورة، والرخصة: حكم ثبت على خلاف الدليل؛ لعذر، وقال إمام الشارحين: (الرخصة: حكم شرع تيسيرًا لنا، وقيل: هو الشروع لعذر مع قيام المحرم لولا العذر، والعذر: هو وصف يطرأ على المكلف يناسب التسهيل عليه) انتهى، (للحائض) ومثلها النفساء (أن تنفِر)؛ بكسر الفاء وضمها، والكسر أفصح، وكلمة (أن) مصدرية في محل الرفع؛ لأنَّه فاعل ناب عن المفعول، والتقدير: رخص لها النفور؛ أي: الرجوع إلى وطنها (إذا حاضت) أي: إذا جاءها دم الحيض.
330# (وكان ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهذا من كلام طاووس، وهو داخل تحت الإسناد المذكور (يقول في أول أمره) يعني: قبل وقوفه على الحديث المذكور: (إنها) أي: الحائض (لا تنفر) أي: لا ترجع إلى وطنها حتى تطوف طواف الوداع، (ثم سمعته) أي: قال طاووس: ثم سمعت ابن عمر (يقول: تنفر) يعني: ترجع بعد أن طافت [1] طواف الركن، وأراد: أنه رجع عن الفتوى التي كان يفتيها أولًا إلى خلافها، وقوله: (إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رَخص) بفتح الراء؛ مبني للمعلوم (لهن) أي: للحائض، وإنما جمع؛ نظرًا للجنس، قاله إمام الشارحين من كلام ابن عمر، قاله في مقام التعليل؛ لرجوعه عن فتواه الأولى، وبيان ذلك: أنه لما لم تبلغه الحديث؛ أفتى باجتهاده، ثم لما بلغه؛ رجع عنه، أو كان وقف عليه أولًا، ثم نسيه، ثم لما تذكره؛ رجع إليه، وإما أنه سمع ذلك من صحابي آخر رواه عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فرجع إليه، قاله إمام الشارحين.
قلت: وكل محتمل، والظاهر الأول أو الثالث؛ فليحفظ.
وقال إمام الشارحين: (ذكر البخاريُّ هذين الأثرين عن ابن عباس وابن عمر؛ إيضاحًا لمعنى الحديث السابق) والله أعلم؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (طاقت)، وهو تصحيف.
%ص 378%
==================
(1/565)
(28) [باب إذا رأت المستحاضة الطهر]
هذا (باب)؛ بالتنوين (إذا رأت المستحاضة الطهر) أي: هذا باب في بيان أن المستحاضة [1] إذا رأت الطهر بأن انقطع دمها؛ تغتسل وتصلي ولو كان ذلك الطهر ساعة، هذا هو المعنى الذي قصده البخاري، والدليل عليه ذكره الأثر المروي عن ابن عباس على ما يذكر الآن، كذا قاله إمام الشارحين، وزعم ابن حجر أي: تميز لها دم العرق من دم الحيض، فسمي دم الاستحاضة طهرًا؛ لأنَّه كذلك بالنسبة إلى زمن الحيض، ويحتمل أن يراد به انقطاع الدم، والأول أوفق للسياق.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: فيه خدش من وجوه؛ الأول: أن كلامه يدل على أن دمها مستمر، ولكن لها أن تميز بين دم العرق ودم الحيض، والترجمة ليست كذلك، فإنه نص فيها على الطهر، وحقيقته الانقطاع عن الحيض، والثاني: أنه يقول تسمى الاستحاضة طهرًا، وهذا مجاز ولا داعي له ولا فائدة، والثالث: أنه يقول: إن الأوفق للسياق الأول، وهذا عكس ما قصده البخاري، بل الأوفق للسياق ما ذكرناه) انتهى.
(وقال) عبد الله (ابن عباس) رضي الله عنهما، مما رواه أبو بكر ابن أبي شيبة، عن أبي علية، عن خالد، عن أنس بن سيرين، عن ابن عباس به، ورواه أيضًا الدارمي موصولًا قال: (تغتسل) يعني: المستحاضة، إذا رأت الطهر؛ تغتسل (وتصلي) ما شاءت من الفرائض، والواجبات، والنوافل (ولو) كان الطهر (ساعة) واحدة، وفي رواية: (ولو ساعة من نهار)، ويعلم من هذا أن أقل الطهر عند ابن عباس: ساعة، وعند جمهور الفقهاء: أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وهو قول إمامنا الأعظم وأصحابه، وبه قال الثوري، ومحمَّد بن إدريس، وغيرهما، وقال ابن المُنْذِر: (ذكر أبو ثور: أنهم لا يختلفون فيه فيما نعلم)، وفي «المهذب»: (لا أعرف فيه خلافًا)، وقال المحاملي: (أقل الطهر خمسة عشر يومًا بالإجماع)، ونحوه في «التهذيب»، وقال أبو الطيب: (أجمع الناس على أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا)، واعترضهم النووي، فقال: دعوى الإجماع غير صحيح؛ لأنَّ الخلاف فيه مشهور، فإن أحمد ابن حنبل وإسحاق أنكرا التحديد في الطهر، فقال أحمد: الطهر بين الحيضتين على ما يكون، وقال إسحاق: توقيتُهم الطهر بخمسة عشر غير صحيح، وقال ابن عبد البر: (أما أقل الطهر؛ فقد اضطرب فيه قول مالك وأصحابه، فروى ابن القاسم عنه: عشرة أيام، وروى سحنون عنه: ثمانية أيام، وقال ابن الماجشون: أقل الطهر خمسة أيام، ورواه عن مالك)، كذا قرره إمام الشارحين.
قلت: وقال محمَّد بن سَلَمَة: (أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكية، وهو قول الإمام الأعظم، والشافعي، وأصحابهما، وهو الصحيح في الباب؛ لأنَّ الله تعالى قد جعل عدة ذوات الأقراء ثلاث حيض، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضًا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض، فإذا قل الحيض؛ كثر الطهر، وإذا كثر الطهر؛ قل الحيض، فلما كان أكثر الحيض عشرة أيام؛ وجب أن يكون الطهر خمسة عشر فما فوقها؛ ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهنَّ مع دلائل القرآن والسنة) انتهى.
فهذا القول المختار عند أصحاب مالك كمذهب الجمهور، ومثله رواية عن أحمد وإسحاق أولًا، فهذا دليل على أن دعوى الإجماع صحيح، فاعتراض النووي مردود عليه؛ لأنَّ هذه الروايات قد حصل الإجماع على أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وعلى فرض وجود الخلاف؛ فالمراد بالإجماع: الإجماع الأكثري، فكأنهم لم ينظروا
%ص 378%
إلى خلاف أحمد، وإسحاق، ومالك في بعض الروايات السابقة، فكأنهم أرادوا بالإجماع: الإجماع الإجمالي، وهو كافٍ في دعوى الإجماع، فاعتراضه ليس في محله؛ فافهم، والله أعلم.
عن ابن عباس مما وصله عبد الرزاق قال: (ويأتيها) أي: المستحاضة (زوجها) يعني: أنه يطؤها، فدم الاستحاضة لا يمنع صلاةً، ولا صومًا، ولا قراءة قرآن، ولا وطئًا، هذا مذهب إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، وبه قال جمهور الفقهاء، وعامة العلماء، ومنع من وطء المستحاضة جماعة، واستدلوا بسيلان دم الاستحاضة، وقالوا: كل دم هو أذًى يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة؛ لأنَّه كله رجس، وأما الصَّلاة؛ فرخصة وردت بها السنة؛ كما يصلي من به سلس بول، هذا قول إبراهيم النخعي، وسليمان بن يسار، والحكم بن عيينة، وعامر الشَّعبي، وابن سيرين، والزُّهْرِي، واختلف فيه عن الحسن وهو قول عائشة، فإنها قالت: المستحاضة لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية، والمغيرة بن عبد الرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتي، وقال مالك: أمر أهل الفقه والعلم بذلك وإن كان دمها كبيرًا، رواه عنه ابن وهب، وقال أحمد: أحب إلي ألَّا يطأها إلا أن يطول ذلك عليها، وهذا كله مردود، واستدل الجمهور بما رواه المؤلف وغيره من حديث فاطمة بنت أبي حبيش قالت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إني لا أطهر، أفأدع الصَّلاة؟ قال عليه السلام: «إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة»، وروى أبو داود من حديث عائشة: أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فاستفتت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق»؛ يعني: أن دم الاستحاضة دم عرق انفجر، وهو مثل ما لو افتصدت وخرج منها الدم، إلا أن الأول في الباطن، وهذا في الظاهر من الجسد، ولأن دم الاستحاضة ليس بأذًى يمنع الصَّلاة والصوم، فوجب ألَّا يمنع الوطء أيضًا، وروى أبو داود في «سننه» من حديث عكرمة قال: (كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها) أي: يجامعها، ورواه البيهقي أيضًا، وقال ابن عبد البر: (لما حكم الله في دم الاستحاضة بأنه لا يمنع الصَّلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحيض؛ وجب ألَّا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء).
قلت: فقولهم: (كل دم أذًى ... ) إلخ: مسلَّمٌ في كونه هو نجس يجب غسله واجتنابه، وغير مسلم من حيث إنه يمنع الوطء؛ لأنَّ الأذى ما يتأذى منه، فدم الحيض أذًى؛ لنتن ريحه، ودم الاستحاضة ليس بأذى؛ لعدم الرائحة، فهو غير أذى.
وقولهم: (إن الصَّلاة رخصة): يلزم منه أن يكون الوطء رخصة أيضًا؛ لأنَّ فيه حق المخلوق؛ وهو الزوج، فهو مقدم على حق الخالق؛ وهو الصَّلاة.
وقوله: (إذا صلت) ليس له تعلق بقوله: (ويأتيها زوجها) بل هي جملة مستقلة ابتدائية جزائية، وفي جوابها وجهان؛ الأول على قول الكوفيين: جوابها ما تقدمها، وهو قوله: (تغتسل وتصلي)؛ والتقدير على قولهم: المستحاضة إذا صلت _يعني: إذا أرادت الصَّلاة_؛ تغتسل وتصلي، الثاني على قول البصريين: أن الجواب محذوف؛ تقديره: إذا صلت؛ تغتسل، كذا قرره إمام الشارحين، وقوله: (الصَّلاة أعظم) جملة من المبتدأ والخبر كأنها جواب عن سؤال مقدر بأن يقال: كيف يأتي المستحاضة زوجها؟ فقال: الصَّلاة أعظم من الوطء، فإذا جاز لها الصَّلاة التي هي أعظم؛ فالوطء بالطريق الأولى، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والظاهر أن هذا من كلام الراوي كما دل عليه رواية أبي بكر ابن أبي شيبة، ويحتمل أنه من كلام ابن عباس، وعلى كل؛ فهو رد على من منع وطء المستحاضة [2]، وزعم ابن حجر أن الظاهر أن هذا بحث من البخاري، وأراد به بيان الملازمة؛ أي: إن أجازت الصَّلاة؛ فجواز الوطء أولى، واعترضه إمام الشارحين، فقال: (قلت: قوله: «وأراد به بيان الملازمة» أخذه من الكرماني) انتهى.
قلت: يعني: أن هذه العبارة عبارة الكرماني، فساقها ابن حجر ونسبها لنفسه، وهذا دأبه في جميع كتبه يذكر ما قالوه وينسبه لنفسه، وكلامه هذا غير صحيح؛ لأنَّه من ديك لا يصيح، وهذا الظاهر ليس بظاهر؛ لأنَّه لو كان كما زعمه هذا القائل: إنه بحث من البخاري؛ لكان (قال البخاري) قبل هذا الكلام: قال أبو عبد الله، فإن ذلك عادته في جميع الكتب والأبواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وهنا غير مذكور، فهو دليل على أنه ليس من كلامه، ويدل لهذا: أن عادته أخذ الحكم من الحديث، ووضعه ترجمة، ويقتصر على هذا تارة وأخرى يقول: قال أبو عبد الله، وهذا دليل على أنه ليس من كلامه، والظاهر: ما قلناه أنه من كلام الراوي أو ابن عباس، والظاهر الأول؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الاستحاضة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (المستحاطة)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (الاستحاضة)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الاستحاضة)، وليس بصحيح.
(1/566)
[حديث: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة]
331# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا أحمد ابن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي الكوفي، ونسبه لجده؛ لشهرته به، (عن زُهير) بضمِّ الزاي مصغرًا: هو ابن معاوية الجعفي الكوفي (قال: حدثنا هشام) وفي رواية: (هشام بن عروة) (عن عُروة) بضمِّ العين المهملة: هو ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما، (قالت: قال النبيُّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: لفاطمة بنت أبي حبيش حين سألته عن استحاضتها: «ذلك عرق وليست بالحيضة»: (إذا أقبلت الحيضة) عليك؛ (فدعي) أي: اتركي (الصَّلاة) أي: أيام الحيض، (وإذا أدبرت) أي: انقطع دم الحيض وجاء الطهر، وعلامة إدبار الحيض وانقطاعه الزمان والعادة، فإذا أقبلت عادتها؛ تحرت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل؛ (فاغسلي) أي: عنك (الدم) أي: دم الحيض، ولم يذكر الاغتسال في هذا الحديث، ولا بد منه، وذكره في باب (إقبال الحيض وإدباره) قال: «فاغتسلي»، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا؛ لأنَّه لا بد من الاغتسال منه، كما لا يخفى، (وصلي) وسبق في باب (غسل الدم)؛ كهنا من غير إيجاب الغسل، وقال عروة: (ثم توضئي لكل صلاة)؛ بإيجاب الوضوء، وهناك: (فاغتسلي)؛ بإيجاب الغسل؛ لأنَّ أحوال المستحاضة مختلفة، فيوزع عليها، أو نقول إيجاب الغسل والتوضُّؤ لا ينافي التعرض لهما، وإنما ينافي التعرُّض لعدمهما، وقوله: (فاغتسلي وصلي) لا يقتضي التكرار للاغتسال لكل صلاة، بل يكفي غسل واحد، ولا يرد حديث أم حبيبة: كانت تغتسل
%ص 379%
لكل صلاة؛ لأنَّها لعلها كانت من المستحاضات التي يجب عليها الغسل لكل صلاة، أو لعلها كانت تفعله تطوُّعًا؛ لأنَّه ليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، وتمامه فيما قدمناه، ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن معنى قوله: (باب إذا رأت المستحاضة الطهر) باب في حكم المستحاضة إذا رأت الطهر كما ذكرناه، والحديث دل على حكمها من وجوب الصَّلاة عليها المصرح فيه بأمر المستحاضة بالصَّلاة، كذا قاله إمام الشارحين.
==================
(1/567)
(29) [باب الصلاة على النفساء وسنتها]
هذا (باب) بيان حكم (الصَّلاة على) المرأة (النُّفساء) بضمِّ النون، (و) بيان (سنتها) أي: سنة الصَّلاة، ولا مناسبة لذكر هذا الباب هنا، وحقه أن يذكره في (الجنائز)، وقد يقال: إن النفاس حكمه حكم الحيض، فلما ذكر الحيض وأحكامه، والاستحاضة وأحكامها؛ ناسب أن يذكر حكم النفاس، والصَّلاة على النفساء حكم من أحكامه من حيث الصَّلاة عليها، فالصَّلاة مع الاستحاضة؛ كالصَّلاة على الميتة النفساء، ومن هذا يعلم أن مراد البخاري في هذا الباب: بيان أن ابن آدم ينجس بالموت؛ لأنَّه قرن حكم الصَّلاة على النفساء مع حكم الصَّلاة مع الاستحاضة، فإنَّ دم الاستحاضة نجس في حكم غيرها من الطاهرات؛ كذلك الموت إذا حل في ابن آدم؛ ينجس في حق غيره من الأحياء من حيث حمله والصَّلاة فيه.
وقال ابن بطال: (يحتمل أن يكون البخاري قصد بهذه الترجمة أن النفساء وإن كانت لا تصلي أن لها حكم غيرها من النساء في طهارة العين؛ لصلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عليها) قال: (وفيه رد على من قال: إن ابن آدم ينجس بالموت؛ لأنَّ النفساء جمعت الموت وحمل النجاسة بالدم اللازم لها فيما لم يضرها ذلك، كان الميت الذي لا يسيل منه نجاسة أولى)، واعترضه ابن المنير بأن هذا كله أجنبي عن مقصود البخاري، وإنما قصد أنها وإن ورد أنها من الشهداء؛ فهي ممن يصلى عليها كغير الشهداء، انتهى.
وقال ابن رُشَيد: (أراد البخاري أن يستدل بلازم من لوازم الصَّلاة؛ لأنَّ الصَّلاة اقتضت أن المستقبل فيها ينبغي أن يكون محكومًا بطهارته، فلما صلى عليها_أي: إليها_؛ لزم ذلك من القول بطهارة عينها) انتهى.
قلت: وهذا مخلص كلام ابن بطال، واعترضهم إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: قلت: كل هذا لا يجزئ والحق أحق أن يتبع، والصواب من القول في هذا أن هذا الباب لا دخل له في كتاب (الحيض)، ومورده في كتاب (الجنائز)، ومع ذلك ليس له مناسبة أصلًا بالباب الذي قبله، ورعاية المناسبة بين الأبواب مطلوبة، وقول ابن بطال: «إن حكم النفساء مثل حكم غيرها من النساء في طهارة العين؛ لصلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عليها»؛ مسلَّمٌ، ولكنه لا يلائم حديث الباب، فإن حديث الباب في أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلى على النفساء وقام وسطها، وليس لهذا دخل في كتاب (الحيض)، وقول ابن رشيد أبعد من الكل؛ لأنَّه ارتكب أمورًا غير موجهة؛ الأول: أنه شرط أن يكون المستقبل في الصَّلاة طاهرًا، وهذا فرض، أو واجب، أو سنة، أو مستحب، والثاني: أنه ارتكب مجازًا من غير داع [1] إلى ذلك، والثالث: ادَّعى الملازمة وهي غير صحيحة على ما لا يخفى انتهى.
قلت: وقول ابن بطال: (يحتمل ... ) إلخ: ممنوع، فإن البخاري لم يقصد بهذه الترجمة ما ذكره، بل مقصده ومرامه ما ذكرناه.
وقوله: (وفيه رد ... ) إلخ: ممنوع أيضًا، فإن الذي يُعلم من كلام البخاري بهذه الترجمة إثباتُ ما قاله الجمهور من أن ابن آدم ينجس بالموت؛ لأنَّه أدخل هذا الباب في كتاب (الحيض)، ووجهه أن صلاة المستحاضة كالصَّلاة على النفساء كما قدمناه آنفًا.
وقوله: (لأن النفساء ... ) إلخ: كلام غير موجه، فإن الحي يصلي وهو حامل للنجاسة في بطنه، فهذا يشمل الطاهر، والحائض، والمستحاضة، والنفساء؛ فلا خصوصية فيه للنفساء.
وقول ابن المنير: (وإنما قصد البخاري ... ) إلخ: غير صحيح، فإن حكم الشهداء لا دخل له هنا، وليس هو بمقصد للبخاري، وإنما مقصده ذكر حكم النفساء، وهو من أحكام الحيض، وعليه: فهو وجه إدخاله هنا، وقول ابن رشيد أخذه من ابن بطال، وهو غير صحيح كما علمت.
وقول إمام الشارحين: (والصواب من القول ... ) إلخ: صحيح، وكان ينبغي أن يذكر وجه المناسبة ولو نوعًا، وقد ذكرناها آنفًا؛ فليحفظ، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (داعي)، ولعله تحريف.
%ص 380%
==================
(1/568)
[حديث: أن امرأةً ماتت في بطن فصلى عليها النبي فقام وسطها]
332# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد ابن أبي سُريج) بضمِّ السين المهملة، آخره جيم: هو أبو جعفر الرازي، واسم أبي سريج: الصبَّاح _بتشديد الموحدة_ نسبه المؤلف لجده؛ لشهرته به؛ لأنَّ أباه اسمه عمر (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (شَبابة) بفتح الشين المعجمة، وتخفيف الموحدتين: هو ابن سَوَّار _بفتح السين المهملة، وتشديد الواو، آخره راء_ الفَزاري _بفتح الفاء، وتخفيف الزاي_ المدائني، وأصله من خراسان، مات سنة أربع ومئتين (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (شعبة) هو ابن الحجاج، (عن حُسيْن) بضمِّ الحاء المهملة، وسكون التحتية (المعلِّم)؛ بكسر اللام، المكتب، (عن ابن بُرَيْدة) بضمِّ الموحدة، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالدال المهملة: هو عبد الله بن بريدة بن الحُصَيْب _بضمِّ الحاء، وفتح الصاد المهملتين، وسكون التحتية، آخره موحدة_ الأسلمي المروزي، التابعي المشهور، قال الغساني: (قد صحف بعضهم فقال: هو خصيب؛ بالخاء المعجمة المفتوحة)، كذا قاله إمام الشارحين، (عن سَمُرة) بفتح السين المهملة، وضم الميم، وهي لغة بني تميم، أو بسكون الميم تخفيفًا؛ نحو: عضْد في عضد، وهي لغة الحجازيين، قاله النسائي (ابن جُندَب) بضمِّ الجيم، وفتح الدال المهملة وضمها: ابن هلال الفَزاري _بفتح الفاء، وتخفيف الزاي_ استخلفه زياد على الكوفة ستة أشهر، مات سنة تسع وخمسين: (أن امرأة) هي أم كعب، سماها مسلم في روايته من طريق عبد الوارث عن حسين المعلم، وذكر أبو نعيم في «الصحابة»: أنها أنصارية، كذا في «عمدة القاري» (ماتت في بطن) وكلمة (في) ههنا للتعليل، كما في قوله عليه السلام: «إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها»، وكما في قوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]؛ والمعنى: ماتت لأجل مرض بطن؛ نحو الاستسقاء وغيره، لكن قال ابن الأثير: الأظهر هنا أنها ماتت في نفاس؛ لأنَّ البخاري ترجم عليه)، وقال التيمي: قيل: وهم البخاري في هذه الترجمة حيث ظن أن المراد: ماتت في الولادة، فوضع الباب على (باب الصَّلاة على النفساء)، ومعنى (ماتت في بطن): ماتت مبطونة، وروي ذلك مبينًا من غير هذا الوجه، واعترضه الكرماني فقال: ليس وهمًا؛ لأنَّه جاء صريحًا في باب (الصَّلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها) في كتاب (الجنائز)، وفي باب (أين يقوم من المرأة عن المرأة)، عن سمرة بن جندب قال: (صليت وراء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها وسطها)،
%ص 380%
فالترجمة صحيحة، والموهم واهم، انتهى.
وزعم ابن حجر (أن قوله: «ماتت في بطن»؛ أي: بسبب بطن؛ يعني: الحمل)، ثم قال ما قاله التيمي، وأجاب عنه بما أجاب به الكرماني، ونسب الجواب لنفسه.
قلت: وهذا دأبه في جميع كتبه يذكر السؤال والجواب لغيره، وينسبه لنفسه، وكل ما ذكروه غير ظاهر، بل الظاهر ما قاله إمام الشارحين؛ حيث قال: (قلت: لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون من سمرة حديثان؛ أحدهما: في التي ماتت في بطن، والآخر: في التي ماتت في نفاسها، ويكون الموهم في استعمال معنى الحديث الثاني الذي قاله التصريح بالنفاس في معنى الحديث الأول الذي فيه التصريح بالبطن) انتهى كلامه رحمه الباري.
(فصلى عليها النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وأصحابه الكرام، (فقام) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وسطها) يعني: قام محاذيًا لوسطها، قال في «عمدة القاري»: (وقد ذكرنا الفرق بين الوسْط بالسكون، والوسَط بالتحريك)، وجاء ههنا كلامه، وضبطه ابن التين: بفتح السين المهملة، وضبطه غيره: بالسكون، وفي رواية الكشميهني: (فقام عند وسطها)، فمن اختار الفتح؛ يقول: إنَّه اسم، ومن اختار السكون؛ يقول: إنَّه ظرف، ولا يقال بالسكون إلا في متفرق الأجزاء؛ كالناس والدواب، وبالفتح فيما كان متصل الأجزاء كالدَّار، انتهى.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وفيه دليل على أن الإمام يقوم من المرأة بحذاء وسطها، واختلف العلماء في ذلك؛ فروى الإمام الحسن عن الإمام الأعظم: أنَّه يقوم من الرجل والمرأة بحذاء صدرهما، وهو أحسن مواقف الإمام، كذا في «مبسوط» شيخ الإسلام، وهو اختيار الحافظ الطحاوي وهو المختار، وبه قال أحمد ابن حنبل، وسفيان الثوري، وهو قول الطبري من الشافعية، واختاره الغزالي، والصيدلاني، وروي عن الإمام الأعظم: أنَّه يقوم بحذاء وسط المرأة وهو قول إبراهيم النخعي، وروي عن الإمام الأعظم أيضًا: أنَّه يقوم بحذاء وسط الرجل، وعند رأس المرأة، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى، وهو قول المحاملي من الشافعية، وروي عن أحمد: أنه يقوم من المرأة بحذاء وسطها، ومن الرجل بحذاء صدره، وسيأتي مزيد كلام لذلك في (الجنائز) إن شاء الله تعالى.
==================
(1/569)
(30) [باب ... ]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين، قال في «عمدة القاري»: أي: هذا باب، إن قرئ بالتنوين، وإلَّا؛ فبالسكون؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، ولمَّا كان حكم الحديث الذي هو في هذا الباب خلاف حكم الحديث الذي قبله؛ فصل بينهما بقوله: (باب)، ولكنَّه ما ترجم له، وهذا في رواية الأصيلي، ورواية غيره لم يذكر لفظ (باب)، بل أدخل حديث ميمونة الآتي في الباب الذي قبله، ولمَّا كان لفظ (باب) كالفصل عمَّا قبله؛ فلا يحتاج إلى ذكر ترجمة؛ لأنَّه ذكره مجردًا، ووجه مناسبة ذكر حديث ميمونة في هذا الباب التَّنبيه، والإشارة إلى أنَّ ثوب الحائض والنفساء طاهرة؛ لأنَّ ثوب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصيبه ثوب ميمونة إذا سجد وهي حائض ولا يضره ذلك؛ فلم يمتنع منه عليه السلام.
==========
%ص 381%
==================
(1/570)
[حديث ميمونة: أنها كانت تكون حائضًا لا تصلي وهي مفترشة]
333# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا الحَسين) بفتح الحاء المهملة (بن مُدرك)؛ بضمِّ الميم، من الإدراك أبو علي السدوسي الحافظ الطحان البصري (قال: حدثنا يحيى بن حمَّاد) هو الشيباني ختن أبي عوانة المتوفى سنة خمس عشرة ومئتين (قال: أخبرنا أبو عَوانة) بفتح العين المهملة، هو الوضاح اليشكري (من كتابه) قيَّد بذلك؛ إشارة إلى تقوية ما روي عنه، قال أحمد ابن حنبل: (إذا حدث أبو عوانة من كتابه؛ فهو أثبت، وإذا حدث من غير كتابه؛ ربَّما وهم)، وقال أبو زرعة: (أبو عوانة ثقة إذا حدث من الكتاب)، وقال ابن مهدي: (كتاب أبي عوانة أثبت من هشيم)، (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (سليمان الشيباني) هو ابن أبي سليمان فيروز أبو إسحاق الشيباني، (عن عبد الله بن شدَّاد) بالشين المعجمة، ودالين، هو ابن الهاد (قال: سمعت خالتي مَيْمُونة) بفتح الميم الأولى، وضمِّ الثانية، بينهما تحتية ساكنة، هي بنت الحارث (زوج النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) فهي خالة عبد الله بن شدَّاد؛ لأنَّ أمَّه سلمى بنت أبي عميس أخت ميمونة لأمِّها: (أنها) أي: ميمونة (كانت تكون) فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون أحد لفظي الكون زائدًا، كما في قوله:
وجيران لنا كرام .........
فلفظ: (كانوا) زائدًا، و (كرام)؛ بالجر صفة لـ: (جيران).
الثاني: أن يكون في (كانت) ضمير القصة، وهو اسمها وخبرها.
والثالث: أن يكون لفظ (يكون) بمعنى: يصير في محل نصب على أنها اسم (كانت)، ويكون الضمير في (كانت) راجعًا إلى ميمونة، وهو اسمها.
وقوله: (حائضًا) في محل النصب خبر (يكون) التي بمعنى: تصير، وقوله: (لا تصلي) جملة مؤكِّدة لقوله: (حائضًا)، كذا أعربه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وأعرب الكرماني (لا تصلي) صفة لـ (حائضًا) في وجه، وفي وجه إعرابه حالًا، وأعرب (لا تصلي) خبرًا لـ (كانت)، قال إمام الشارحين: (وهو خلاف التحقيق، والتحقيق ما ذكرناه) (وهي مفترشة) جملة اسمية وقعت حالًا، يقال: افترش الشيء: انبسط، وافترش ذراعيه: بسطهما على الأرض (بحِذاء)؛ بكسر الحاء المهملة، وبالمد بمعنى: وراءه (مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: موضع سجوده من بيته، وليس المراد منه: المسجد المعروف المعهود، قاله إمام الشارحين، وكذا غيره من الشراح، وتعقبهم صاحب «المصابيح» بأنَّ المنقول عن سيبويه أنَّه إذا أريد موضع السجود؛ قيل: مسجَد؛ بالفتح فقط (وهو يصلي) جملة حالية (على خُمْرته)؛ بضمِّ الخاء المعجمة، وسكون الميم، وهي سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل تنسج بالخيوط سميت بذلك؛ لسترها الوجه والكفين من حر الأرض وبردها، وإذا كانت كبيرة؛ سميت حصيرًا، (إذا سجد؛ أصابني بعض ثوبه) جملة من الفعل والفاعل والمفعول محلها النصب على الحال، وقد عُلِمَ أنَّ الجملة الفعلية الماضية المثبتة إذا وقعت حالًا؛ تكون بلا واو؛ فافهم.
وزعم القسطلاني أنَّ هذا حكاية لفظها، وإلا فالأصل أن تقول: أصابها الثوب.
قلت: وفيه نظر لا يخفى، ولم يذكر ترجمة لهذا الحديث؛ لأنَّه ذكر قوله: (باب) كذا مجردًا؛ لأنَّه بمعنى: فعل؛ لا يحتاج إلى ذكر شيء، وأمَّا على الرواية التي يذكر فيها لفظ (باب)؛ فوجهه ما ذكرناه الآن، كذا قاله
%ص 381%
إمام الشارحين، ثم قال: (وفي الحديث دليل على أنَّ الحائض ليست بنجسة؛ لأنَّها لو كانت نجسة؛ لما وقع ثوبه عليه السلام على ميمونة وهو يصلي، وكذلك النفساء) انتهى.
قلت: يعني: أنَّه عليه السلام لم يأمرها بالتأخر عنه وأقرَّها على ذلك، وفيه دليل: على أن الحائض إذا قربت من المصلِّي؛ لا يضر ذلك صلاته، وفيه جواز ترك الحائض الصَّلاة، وجواز الافتراش بحذاء المصلي، وجواز الصَّلاة على الشيء المتخذ من سعف النخل سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، بل هذا أقرب إلى التواضع والمسكنة، بخلاف صلاة المتكبرين على سجاجيد مثمنة مختلفة الألوان والقماش، ومنهم من ينسج له سجادة من حرير، والصَّلاة عليها مكروهة وإن كان دوس الحرير جائزًا؛ لأنَّ فيه زيادة كبر وطغيان، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري».
قلت: وقال أئمتنا الأعلام: والأفضل الصَّلاة على الأرض، ثم على ما تنبته الأرض، وإنَّما يصلي على السجادة إذا كانت الأرض حارة أو باردة، فما يفعله المتعصبون من الشافعية من حمل السجادة إلى المسجد يمرون بها في الأسواق، وهي على أكتافهم حتى يأتون المسجد فيفرشوها؛ لأجل الصَّلاة، وتارة يقعدون، وتارة يذهبون للوضوء؛ غير مطلوب، بل هو مذموم شرعًا؛ لأنَّ فيه إظهار الكبر والعجب مع ما فيه من التعصب البارد والوسوسة والرياء والسمعة، وكل ذلك خارج عن الشرع، وأيضًا يمنعون الناس من الصَّلاة موضع السجادة، والله تعالى الموفق بمنه وكرمه، آمين.
==================
(1/571)
((7)) [كتاب التيمم]
(بسم الله الرحمن الرحيم)
هذا (كتاب) في بيان أحكام (التيمُّم) كذا في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذر: البسملة مؤخرة عن الكتاب، والأول أولى للحديث الوارد فيه، وأمَّا الثاني؛ فوجهه أن الكتب التي فيها التراجم مثل السور حتى يقال سورة كذا، والبسملة تذكر بعدها على رأس الأحاديث كما تذكر على رؤوس الآيات، ويستفتح بها.
ووجه المناسبة بين هذا الكتاب والكتاب الذي قبله أحكام الوضوء والغسل بالماء، والمذكور هنا التيمم وهو خلف عن الماء؛ فيذكر الأصل أولًا ثم يذكر الخلف بعده، واقتداء بالكتاب؛ لأنَّه تعالى ابتدأ أولًا بالوضوء؛ لأنَّه أعمُّ، ثم بالغسل؛ لأنَّه أندر، ثم بالتيمُّم؛ لأنَّه خلف، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ .. }؛ الآية [المائدة: 6].
و (كتاب) مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هذا كتاب التيمم، والإضافة فيه بمعنى: في؛ أي: هذا كتاب في بيان أحكام التيمم، ويجوز نصب (كتاب) بعامل مقدر؛ تقديره: خذ، أو هاك، أو اقرأ كتاب (التيمم)، والأصل فيه: الكتاب العزيز؛ وهو الآية المذكورة، والسنة؛ وهي أحاديث الباب وغيره، والإجماع على جوازه للمحدث، وفي الجنابة أيضًا، وزعم ابن حزم أنَّه خالف فيه عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والنخعي، والأسود) انتهى.
قلت: وهو غير صحيح؛ فإنَّه قد ثبت رجوعهم عن هذا كما نقله الثقات، وذكره إمام الشارحين، فلا اعتداد بكلام ابن حزم؛ لأنَّه مشهور بالتعصب والنقول الشاذة؛ فافهم.
والتيمم من خصائص هذه الأمَّة فلم يكن مشروعًا لغيرها، وإنما شرع رخصة لنا؛ فهو فضيلة خصت به هذه الأمة دون غيرها من الأمم، ويدل لذلك قوله عليه السلام في هذا الكتاب: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وقيل: إنَّه عزيمة، وفرض سنة ستٍّ أو خمس، كما سيأتي، و (التيمُّم) مصدر (تيمم يتيمم تيممًا) من باب (افتعل)، وأصله من الأمِّ؛ وهو القصد، تقول: أمَّه يؤمُّه أمًّا؛ إذا قصده، وذكر في «الواعي»: (يقال: أمَّ وتأمَّم ويمَّم وتيمَّم بمعنى واحد، وإنما كان أصله في ذلك؛ لأنَّه يقصد التراب فيتمسح به)، وفي «الجامع»: (عن الخليل: يجرى مجرى ا