روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الاصلي ظلما وبغيا

الروابط التي حذفها بلوجر من الدليل الالكتروني

كتاب:آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة أبو البركات ا... /يا أمة الإسلام والأزهر الشريف *أفيقوا* /تحميل مذكرة الجبر3 ث ثانوي عام 3 ثانوي.pdf. / صفحة .. س وج احياء 3ث/ أرشيف المدونة النخبة في... /الفيزياء للجميع 3 .ث /مذكرة التميز (شرح ومراجعة) النصوص للصف الثالث الثا... /العلامات والأعراض التهاب المفاصل الروماتويدي /موضوعات علمية وللثانوية العامة وكذلك مسائل شرعية... /تحميل منهج الثانوية العامة 3ث /مذكرة الأساسيات , الجبر, الهندسة الفراغية , الاستا... /حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث .حمل مواد الثالث الثانوي /الثالث الثانوي 3ث . /ثانوي علم النفس اللثانوية العامة 2016 استاذ سام... /ث. استاتيكا :خرائط مفاهيم المميز للصف الثالث ال... /الفيزياء الثالث الثانوي3ث. /فيزياء 3ث /مناج الثالث الثانوي 3ث. /مذكرات 3ث. /مذكرات 3ث. /الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... / الطلاق للعدة ومغزي قوله تعالي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَ... /ث/الديناميكا(تفاضل الدوال المتجه.pdf ) /ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي /لا يمكن الجمع بين أن المؤمن مآله إلى الجنة وبين حد... /كتاب : الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ابن كثير /دليل 24. /القران مكتوب روابط /مجلد 1. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح... /مجلد 2. غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأح...

اللهم إني أُشهدك أنني بريئ من كل علم وكل شأن لا ترضاه ويخالف دينك القيم

الثلاثاء، 17 مايو 2022

.كتاب 5 و6.أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)

 

5. .كتاب 5: أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ)

(23) [باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس]

هذا (باب) حكم (عرق) الآدمي (الجنب) والطاهر، والمحدث، والحائض، والنفساء، والصغير، والكبير، والمسلم، والكافر، والذكر، والأنثى؛ يعني: أن عرق هؤلاء طاهر، (وأن المسلم لا ينجس) عطف على المضاف إليه، والتقدير: وباب أن المسلم لا ينجس، بل هو طاهر وإن كان متصفًا بما ذكرناه، فإذا كان هو طاهرًا؛ فعرقه طاهر ضرورة؛ للزومه له.
قال صاحب «عمدة القاري»: (ولم يبين البخاري ما حكم عرق الجنب، ولا ذكر في هذا الباب شيئًا يطابق هذه الترجمة).
وقال بعضهم: كأن المصنف يشير بذلك إلى الخلاف في عرق الكافر، وقال قوم: إنه نجس بناء على القول بنجاسة عينه.
قلت: (ما أبعد هذا الكلام عن الذوق! فكيف يتوجه ما قاله والمصنف قال: باب عرق الجنب، وسكت عليه، ولم يشر إلى حكمه لا في الترجمة ولا في الذي ذكره في هذا الباب؟
وفائدة ذكر الباب المعقود بالترجمة ذكر ما عقدت له الترجمة وإلا؛ فلا فائدة في ذكرها، ويمكن أن يقال ذكر ترجمتين؛ فالترجمة الثانية تدل على أن المسلم طاهر، ومن لوازم طهارته طهارة عرقه، ولكن هذا مخصوص بعرق المسلم، والحال أن عرق الكافر أيضًا طاهر) انتهى.
قلت: (وقد حاول العجلوني عبارته ورمم عبارة ابن حجر بكلام أخذه من «عمدة القاري» الذي علمته، وزعم أن صنيع المؤلف وابن حجر حسن، وأن في كلام «عمدة القاري» تناقضًا [1] في قوله: (ويمكن ... ) إلخ وقال: ولم يتعرض ابن حجر في «الانتقاض» لرد الاعتراض؛ لظهوره) انتهى كلامه
قلت: ولا يخفى تعصب هذا القائل، فقد زاد في الطنبور نغمة، فإن كلامه لا فائدة فيه ولا معنى يأويه؛ لخلوه من التحقيق، ولا يخفى أن صنيع المؤلف وابن حجر ليس بحسن أصلًا؛ لأنَّ الترجمة قاصرة؛ حيث إنه لم يبين حكم العرق من الجنب لا في الترجمة ولا في أحاديث الباب، فكيف يقال: إن صنيعه حسن على أن قوله: (وإن المسلم لا ينجس) التي هي الترجمة الثانية، كذلك لا تدل على حكم عرق الجنب؛ لأنَّ المراد بالمسلم: الطاهر لأنَّه المسلم الكامل، ولا ريب أن عرقه طاهر لطهارة بدنه، والجنب خارج عن هذا، فلا بد من بيان حكم عرقه.
ولا دلالة في الترجمة أن المؤلف أشار بالتقييد بـ (المسلم) إلى الخلاف في عرق الكافر كما زعمه ابن حجر؛ لأنَّ مراد المؤلف بالتقييد بـ (المسلم) موافقة لحديث الباب، لا للخلاف في عرقه؛ لأنَّ هذا ظاهر حيث إنا لم ننهَ عن نكاح أهل الكتاب، فدل على طهارته من دليل آخر، كما لا يخفى.
وقوله: (وإن في كلام «عمدة القاري» ... ) إلخ ممنوع؛ فإنه لما ذكر ما هو التحقيق من عدم بيان حكم عرق الجنب، ورد كلام ابن حجر؛ ظهر له أن الترجمة يمكن حملها على ما قاله، فهذا ليس يتناقض ما زعمه هذا القائل، ولا يسع أحدًا أن يقوله من ذوي الأفهام كما لا يخفى على أولي الألباب.
وقوله: (ولم يتعرض ... ) إلخ؛ هذا ظاهر في أن الاعتراض في غاية التحقيق ولو كان غير ذلك؛ لما سكت عليه ابن حجر، فسكوته دليل على أن كلام نفسه غير مرض له؛ لما أنه غير ظاهر، كما لا يخفى؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (تناقض)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 305%
==================
(1/486)
[حديث: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس]
283# وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله)؛ هو المديني (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سَعِيْد القطان (قال: حدثنا حُميد) بضمِّ الحاء المهملة مصغرًا؛ هو المعروف بالطويل، التابعي، مات وهو قائم يصلي (قال: حدثنا بَكر) بفتح الموحدة مكبرًا؛ هو ابن عبد الله بن عمرو بن هلال المزني البصري التابعي المتوفى سنة بضع ومئة، (عن أبي رافع) واسمه: نُفيع _بضمِّ النون، وفتح الفاء_ مصغرًا الصائغ _بالصاد المهملة، وبالغين المعجمة_ البصري ارتحل إليها من المدينة، أدرك الجاهلية ولم يرَ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (عن أبي هريرة)؛ هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه، قال صاحب «عمدة القاري»: (ومن أجلِّ لطائف هذا الحديث أنه متصل، ورواه مسلم مقطوعًا عن حميد، عن أبي رافع، كذا في طريق الجُلُودي، والجياني، والصواب ما رواه البخاري وغيره عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، وذكر أبو مسعود وخلف أن مسلمًا أخرجه أيضًا كذلك.
وقال صاحب «التلويح»: قد رأينا من قاله غيرهما، فدل على أن في «مسلم» روايتين).
قلت: ذكر البغوي في «شرح السنة»: (أن مسلمًا أخرجه بإثبات بكر) انتهى كلامه رضي الله عنه.
(أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم لقيه)؛ أي: اجتمع به من اللقاء؛ وهو الاجتماع؛ أي: لقي أبا هريرة وهو يمشي (في بعض طريق المدينة) المنورة، كذا هو في أكثر الروايات، وفي رواية كريمة، والأَصيلي: (طرق)؛ بالجمع، وفي رواية أبي داود، والنسائي: (لقيه في بعض طريق من طرق المدينة)، كذا في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني أن رواية أبي داود موافقة لرواية الأَصيلي.
قلت: وهو مردود فأين التوافق؟ بل فيه تخالف؛ لأنَّ الأولى: (في بعض طريق المدينة)، وللأَصيلي: (في بعض طرق المدينة)، ولأبي داود: (في بعض طريق من طرق المدينة)؛ فليحفظ.
(وهو جنب) جملة اسمية محلها النصب على الحال من الضمير المنصوب في (لقيه)، يقال: أجنب الرجل وهو جنب، وكذا الاثنان، والجمع، والمذكر، والمؤنث، قال ابن دريد: (وهو أعلى اللغات، وقد قالوا: جنبان وأجناب، ولم يقولوا: جنبه)، وفي «المنتهى»: (رجل جنب، وامرأة جنب، وقوم جنب، وجنبون، وأجناب)، وفي «الصحاح»: (أجنب الرجل وجنُب أيضًا؛ بضمِّ النون)، وفي «الموعب» عن الفراء وقطرب: (جنِب الرجل وجنُب؛ بكسر النون وضمها لغتان)، وقال في «المغرب»: (يقال من الجنابة: أجنَب الرجل وجنَِب؛ بفتح النون وكسرها، وجنب ويجنب، لا يقال عن العرب غيرها، وحكى بعضهم: جنُب؛ بضمِّ النون، وليس بالمشهور)، وفي «الاشتقاق»: (أجنب الرجل؛ لأنَّه يجانب الصَّلاة)، وقال أبو منصور: (لأنَّه نهي أن يقرب مواضع الصَّلاة)، وقال القتبي: (سمي بذلك لمجانبته الناس، وبعده منهم حتى يغتسل)، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، وأراد أبو هريرة نفسه لرواية أبي داود: (وأنا جنب)، (فانْخَنست)؛ بالنون الساكنة، ثم خاء معجمة مفتوحة، ثم نون، ثم سين مهملة، وهي رواية الكشميهني، والحمُّوي، وكريمة؛ ومعناه: تأخرت، وانقبضت، ورجعت، واستخفيت، وهو لازم ومتعد؛ ومنه: خنس الشيطان.
الرواية الثانية: (فاختنست)؛ مثل الرواية الأولى في المعنى، غير أن اللفظ في الرواية الأولى من باب (الانفعال)، وفي هذه الرواية من باب (الافتعال).
الثالثة: (فانبجست)؛ بالموحدة، والجيم، وكذا هي في رواية الترمذي؛ ومعناه: اندفعت، وانفجرت؛ ومنه قوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف: 160]؛ أي: جرت واندفعت، وهي رواية ابن السكن أيضًا.
الرابعة: (فانْتَجست)؛ بفوقية مفتوحة بعد النون الساكنة، فجيم؛ من النجاسة من باب (الافتعال)؛ والمعنى: اعتقدت نفسي نجسًا، وهي رواية الأَصيلي، وأبي الوقت، وابن عساكر.
الخامسة: (فانتجشت)؛ بالشين المعجمة، من النجش؛ وهو الإسراع.
السادسة: (فانبخست)؛ بالموحدة، والخاء المعجمة، والسين
%ص 305%
المهملة، من البخس [1]؛ وهو النقص، فكأنه ظهر له نقصانه عن مماشاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو رواية المستملي؛ لِمَا اعتقده في نفسه من النجاسة.
السابعة: (فاحتبست)؛ بحاء مهملة، ثم مثناة فوقية، ثم موحدة، ثم سين مهملة، من الاحتباس؛ والمعنى: حبست نفسي عن اللحاق بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
الثامنة: (فانسللت)؛ بنون، ثم سين مهملة، بعدها لامين؛ والمعنى: مضيت عنه مستخفيًا، وهو رواية مسلم والنسائي، كذا قرره صاحب «عمدة القاري» ولم يسبقه أحد به من الشراح، وزعم ابن حجر أنه لم يثبت له من طريق الرواية غير ما تقدم، وأراد به رواية الكشميهني، وأبي الوقت، والمستملي، ونسب بعضها إلى التصحيف.
ورده صاحب «عمدة القاري»: (بأنه لا يلزم من عدم ثبوته غير الروايات الثلاث عنده عدم ثبوتها عند غيره، وليس بأدب أن ينسب لبعض غير ما وقف عليه إلى التصحيف؛ لأنَّ الجاهل بالشيء ليس له أن يدعي عدم علم غيره به) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» فزعم بقوله الملازمة ثابتة هنا؛ لأنَّ القصة واحدة، والمخرج واحد، واللفظ الذي نطق به أبو هريرة واحد، فما يبقى إلا الترجيح والمرجوح أن يثبت في الرواية حمله على أن الراوي ذكر تلك اللفظة بالمعنى، فإن لم يثبت؛ حمل على أنه صحفه، وحمل رواية الحافظ المتقن على الصواب أولى من حمل رواية غيره عليه، وليس هنا ما يثبت الجهل ولا ما يزيل الأدب، ولكن رمتني برأيها، وانسلت) انتهى.
قلت: وهذا كلام من ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء، فإن قوله: (الملازمة هنا ثابتة ... ) إلخ لا يخفى فساده؛ لأنَّ القصة متعددة مختلفة، والمخرج أيضًا مختلف، واللفظ الذي نطق به أبو هريرة مختلف، يدل لذلك أن أبا هريرة كان يمر في الطريق ويقعد من أجل الجوع، وكذلك كان يفعل من أجل الجنابة، فما المانع أنه رآه عليه السلام مرارًا مختلفة، وكان يتلفظ بألفاظ مختلفة؟ ويدل لهذا أيضًا ما سيأتي في الباب بعده، فإن ما ذكر فيه قصة أخرى غير هذه كما لا يخفى، فأين الملازمة؟ ويلزم على ما قاله هذا القائل أن يكون لفظ أبي هريرة لفظة واحدة ولا يخفى فساده؛ لما ثبت في الروايات من اختلاف ألفاظه باختلاف القصة وغيره.
وقوله: (والمرجوح ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ الراوي لا يمكن أن يذكر تلك اللفظة بالمعنى، بل يذكرها كما سمعها من غير تعرض للمعنى كما هو وظيفة الرواة.
وقوله: (فإن لم يثبت؛ حمل على أنه صحفه) ممنوع أيضًا؛ فإن هذا الحمل باطل؛ لأنَّ الراوي يحتاط في كلامه مهما أمكن، ولا يجوز حمله على التصحيف؛ لأنَّه مخل في حفظه وإتقانه، وإذا حمل على أنه صحفه؛ لم يبق لحفظه وإتقانه فائدة، ويلزم الخلل في ألفاظ الأحاديث، وهو ممنوع، كما لا يخفى.
وقوله: (وحمل رواية الحافظ ... ) إلخ هذا تعرض لنفسه بأنه حافظ متقن وليس كما ظن؛ لأنَّه لو كان كما ظن؛ لما كان جهل بقية الروايات وحملها على التصحيف، فإن هذا ينافي الحفظ والإتقان، فإن جميع الروايات تحمل على الصواب سواء كانت من حافظ أو غيره؛ لأنَّ الرواة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، كما لا يخفى.
وقوله: (وليس هنا ... ) إلخ ممنوع؛ فإن كلامه يدل على الجهل وثبوت عدم الأدب حيث إنه نفى بقية الروايات وهي ثابتة؛ وحيث نسبها إلى التصحيف وهو ينافي الأدب، فكيف قال ابن حجر ما قال؟ وقد أنصف العجلوني هنا حيث قال: والحق أنه حيث أمكن التوجيه لا ينبغي المصير إلى القول بالتصحيف) انتهى.
قلت: وقد وأمكن التوجيه في الروايات كلها كما علمت مما قدمناه، فلا يجوز القول بالتصحيف؛ لأنَّه يثبت الجهل وينافي الأدب؛ فافهم، والله أعلم.
(منه)؛ أي: من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إما حياء منه، أو لما اعتقده في نفسه من النجاسة، كما قدمناه، (فذهبتُ)؛ فالتاء للمتكلم؛ أي: قال أبو هريرة: (ذهبت) (فاغتسلت)؛ أي: من الجنابة وهو بصيغة المتكلم أيضًا، قال الكرماني: وفي بعض النسخ: (فذهب فاغتسل)، قال صاحب «عمدة القاري»: (قلت: على تقدير صحة الرواية بها يجوز فيه الأمران: الغيبة بالنظر إلى فعل كلام أبي هريرة بالمعنى، والتكلم بالنظر إلى نقله بلفظه بعينه على سبيل الحكاية عنه، وإما جواز لفظه بالغيبة، فمن باب التجريد، وهو أنه جرد من نفسه شخصًا وأخبر عنه) انتهى كلامه
قلت: والرواية الأولى هي المناسبة لقوله: (فانخنست).
قال في «عمدة القاري»: (وإنما فعل أبو هريرة هذا؛ لأنَّه عليه السلام كان إذا لقي أحدًا من أصحابه ماسحه ودعا له، كما ورد في النسائي، وابن حبان من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لقيني النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا جنب فأهوى إليَّ فقلت: إني جنب ... )؛ الحديث، فلما ظن أبو هريرة أن الجنب ينجس خشي أن يماسحه النبيُّ عليه السلام كعادته، فتأخر لما رآه وبادر إلى الاغتسال من الجنابة، (ثم جاء)؛ أي: أبو هريرة وبعد اغتساله من الجنابة إلى مجلس النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي هريرة («أين كنت يا با هريرة؟»)؛ بحذف الهمزة من الأب تخفيفًا، كذا قاله في «عمدة القاري»، ومثله في «الكرماني»، وهذا ظاهر في أن الرواية بالحذف لا غير؛ فليحفظ.
وزعم العجلوني أن الموجود في كثير من النسخ الصحيحة إثبات الألف، ولم يذكروا هنا ترخيمه مع أنهم ذكروه في الباب الآتي.
قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّه وإن ثبتت الألف؛ فهي تحريف من النساخ والكُتَّاب، فكم رأينا نسخ مضبوطة ومع مراجعتها مع الشراح يظهر خطأ ضبطها وتحريفها من الناسخين.
وقوله: (في كثير ... ) إلخ لا يخفى فساده، بل أكثر النسخ الصحيحة بحذف الألف، كما يعلم ذلك من مراجعة النسخ.
وقوله: (ولم يذكروا هنا ... ) إلخ، وإنما لم يذكروه هنا وذكروه في الباب الآتي؛ لأنَّ هذه القصة غير القصة الذي ذكرت في الباب الآتي، ولاختلاف القصة اختلفت ألفاظ الرواة؛ فليحفظ.
(قال)؛ أي: أبو هريرة للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (كنت جنبًا)؛ أي: ذا جنابة، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ أي: لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر وهو الإجناب، قاله القسطلاني، وإنما أجابه بهذا مع أن السؤال إنَّما كان عن المكان؛ لما فهمه أبو هريرة من أنه عليه السلام إنَّما سأله عن سبب غيبته لا عن المكان، وإلا؛ فكان حق الجواب أن يقول: كنت في مكان كذا اغتسل؛ لأني كنت جنبًا، ويحتمل أنه عبر بالسبب وأراد المسبب، ويحتمل أن قوله: (كنت جنبًا) متضمن: لأني كنت في المكان الفلاني أغتسل فيه من الجنابة؛ لأنَّ من لازم الجنابة الاغتسال منها؛ فليحفظ (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة) جملة اسمية وقعت حالًا من الضمير المرفوع في (أجالسك)، و (أجالسك) في قوة المصدر بـ: (أن) المصدرية، (فقال)؛ بالفاء قبل القاف، وسقطت في كلام أبي هريرة على الأفصح في الجمل المفتتحة بالقول، كما قيل في قوله تعالى: {أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ*قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ*قَالَ ... } [الشعراء: 10 - 12] وما بعدها، وأما القول مع ضمير النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالفاء سببية رابطة فاجتلبت لذلك، ولأبي ذر، وابن عساكر، والأَصيلي قال: أي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (سبحان الله!) (سبحان) علم للتسبيح؛ كعثمان علم للرجل، وقال الفراء: (منصوب بفعل محذوف لازم الحذف، واستعماله في مثل هذا الموضع يراد به التعجب، ومعنى التعجب هنا: أنه كيف يخفى مثل هذا الظاهر عليك، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»؛ فافهم، ثم قال: وقال ابن الأنباري: (معناه: سبحتك؛ تنزيهًا لك يا ربنا من الأولاد، والصاحبة، والشركاء؛ أي: نزهناك من ذلك)، وقال القزاز: (معناه: براءة الله تعالى من السوء)، وقال أبو عبيد: (نسبح لك: نحمدك ونصلي لك)، وقال الزمخشري: (سبحت الله وسبحت له وكثرة تسبيحاته وتسابيحه)، وفي «المغيث»: (سبحان الله: قائم مقام الفعل؛ أي: أسبحه وسبحت؛ أي: لَفظتَ بسبحان الله، وقيل: معنى (سبحان الله): أسرع إليه، وألحقه في طاعته من قولهم: فرس سابح، وذكر النضر بن شميل أن معناه: السرعة إلى هذه اللفظة؛ لأنَّ الإنسان يبدأ فيقول: سبحان الله) انتهى كلام «عمدة القاري» رضي الله عنه.
(إن) بكسر الهمزة (المؤمن) وفي رواية: (المسلم) (لا ينجُس)؛ بضمِّ الجيم هو الرواية لا غير، قال ابن سيده: النجَس، والنجُس، والنجس القذر من كل شيء، ورجل
%ص 306%
نجس، والجمع أنجاس، وقيل: النجس يكون للواحد والجمع والمؤنث بلفظ واحد، فإذا كسروا؛ ثنوا، وجمعوا، وأنثوا، ورجل رجس: نجِس يقولونها؛ بالكسر: لمكان رجس، فإذا أفردوه؛ قالوا: نجس، وفي «الجامع»: أحسب المصدر من قولهم: نجس ينجس نجسًا، والاسم النجاسة، وذكر ابن طريف وغيره: (نجس الشيء ونجس نجاسة ونجسًا، ضد طهر)، وفي «الصحاح»: (نجِس الشيء _بالكسر_ ينجس نجسًا؛ فهو نجس ونجس)، وقال ابن عديس: نجِس الرجل ونجس نجاسة ونجوسة؛ بكسر الجيم وضمها؛ إذا تقذر، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وحاصله: أنه يجوز فيه ضم الجيم وفتحها، وفي ماضيه: كسر الجيم وضمها، فمن كسرها في الماضي؛ فتحها في المضارع، ومن ضمها في الماضي؛ ضمها في المضارع، وذكره الكرماني أيضًا، وهذا ظاهر في أنه يجوز لغة، ولا يجري في الحديث.
وزعم العجلوني: أن قول ابن الملقن: (بفتح الجيم وضمها) بناء على أن ماضيه (نجس) بالفتح أو الضم يقتضي جواز الوجهين في الحديث، انتهى.
قلت: وهو مردود، فإن كلام ابن الملقن مبني على المعنى اللغوي لا على رواية الحديث؛ فهو تفسير له من حيث اللغة، فكيف يقتضي جواز الوجهين في الحديث؟ وما هذا إلا اقتضاء باطل مع أن العجلوني نقل عبارة الكرماني، وقال عقبها: والظاهر عدم جريانه في الحديث، فهذا مناقضة في كلامه ظاهرة، وكأنه جنح له اقتصار ابن الملقن على الوجهين، فظن أنه جائز في الحديث أيضًا، وهو باطل، فأي فرق بين كلام الكرماني وبين كلام ابن الملقن حتى يمنع الأول ويجيز الثاني؟ مع أن الجواز ممنوع في الحديث على أنه لو كان في الحديث رواية أخرى؛ لذكرها أحد شراح «الصحيح»؛ لأنَّ مثل هذا لا يمكن السكوت عنه، وقد راجعت الشراح التي عندي، فلم أرَ من تعرض لذلك، فدل هذا على أن الرواية بضمِّ الجيم فقط؛ فافهم، والله أعلم.
قال صاحب «عمدة القاري»: مطابقة هذا الحديث لإحدى ترجمتي الباب ظاهرة، وهي الترجمة الثانية، وقد عقد الباب له أن المؤمن لا ينجس، وأنه طاهر سواء كان جنبًا أو محدثًا، حيًّا أو ميتًا، وكذا سؤره، وعرقه، ولعابه، ودمعه، وكذا الكافر في هذه الأحكام سواء كان كتابيًّا أو حربيًّا، وسواء كان الشخص حائضًا أو نفساء، وذكر البخاري في «صحيحه» عن ابن عباس تعليقًا: «المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا»، ووصله الحاكم في «المستدرك» عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تنجسوا موتاكم، فإن المؤمن لا ينجس حيًّا ولا ميتًا»، قال: صحيح على شرطهما، ولم يخرِّجاه، وهو أصل في طهارة المسلم حيًّا وميتًا، أما الحي؛ فبالإجماع حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها؛ فإنها طاهرة؛ لهذا الحديث، وهو حجة على من زعم نجاستها، وأما الكافر؛ فحكمه كذلك على ما يأتي، وفي «صحيح ابن خزيمة» عن القاسم بن محمَّد قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن الرجل يأتي أهله، ثم يلبس الثوب فيعرق فيه أينجس ذلك؟ فقالت: قد كانت المرأة تعد الخرقة أو خرقًا، فإذا كان ذلك؛ مسح بها الرجل الأذى عنه ولم تر أن ذلك ينجسه، وفي لفظ: (ثم صليا في ثوبهما)، وروى الدارقطني من حديث المتوكل بن فضيل، عن أم القلوص الناصرية، عن عائشة قالت: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يرى على البدن جنابة، ولا على الأرض جنابة، ولا يجنب الرجلُ الرجل)، وقال البغوي: (معنى قول ابن عباس: «أربع لا يجنبن؛ الإنسان، والثوب، والماء، والأرض»؛ يريد الإنسان لا يجنب بمماسة الجنب، ولا الثوب إذا لبسه الجنب، ولا الأرض إذا أفضى إليها الجنب، ولا الماء ينجس إذا غمس الجنب يده فيه)، وقال ابن المُنْذِر: (أجمع أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، وثبت ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهما) انتهى.
قلت: ولا يلزم من عدم حفظه عدم وجود قول يخالفهما على أنه قال القرطبي في «شرح مسلم»: (الكافر نجس عند الشافعي)، قال العجلوني: (وهو غريب).
قلت: لا غرابة فيه، فقد قال ابن الملقن والنووي: (وأما الميت؛ فالأصح طهارته في أحد قولي الشافعي).
قلت: ومعلوم أن خلاف الأصح الصحيح، فثبت أن للشافعي قولين مصححين؛ فافهم.
ووجه نجاسته أنه حيوان دموي ينجس بالموت؛ فافهم.
وزعم العجلوني في بيان قول ابن المُنْذِر: (ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولها)، قال: (يعني: فيكون عرق الجنب طاهرًا أيضًا عند غيرهما؛ كمالك، وأحمد، والثوري).
قلت: وقد قال القاضي عياض: (وأما الميت؛ ففيه قولان، والأصح الطهارة، ونقل ابن التين عن «المدونة»: أن المريض إذا صلى لا يستند لحائض ولا جنب، وأجازه أشهب)، وقال أبو محمَّد: لا تكاد تسلم من النجاسة، وقال غيره: لأجل أعيانهما لا لثيابهما) انتهى.
قلت: فهذا صريح في أن مذهب مالك فيه خلاف في طهارة عرق الجنب والحائض، وزعم العجلوني أن ما قاله في «المدونة» مبني على الاحتياط.
قلت: وهو ممنوع، فإن قوله: (لا يستند إلى حائض ولا لجنب)، وقول الشارح: (لأجل أعيانهما لا لثيابهما) دليل على النجاسة، كما هو ظاهر، فالحق وجود الخلاف، فمن أين للعجلوني أن ينفي الخلاف، وما هو إلا قول باطل؟! فليحفظ.
وقال ابن المُنْذِر: عرق اليهودي، والنصراني، والمجوسي طاهر عندي، وقال ابن حزم وغيره من الظاهرية: أن عرق المشركين نجس وهو أحد قولي الشافعي؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وبمفهوم حديث الباب، وادَّعوا أن الكافر نجس العين، وهذا مردود، وأجاب الجمهور عنه: أنهم نجسو الأفعالِ لا الأعضاء، أو أنهم نجسو الاعتقادِ؛ لأنَّهم لا يتحفظون من النجاسة غالبًا، وأن المراد بالمؤمن أنه طاهر الأعضاء؛ لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك؛ لعدم تحفظه عنها، ويوضح هذا أن الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك لا يجب عليه من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلِمَة، فدل هذا على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين؛ إذ لا فرق بين الرجال والنساء، وهذا يردُّ ما تقدم عن «المدونة» وغيرها، وإذا ثبت طهارة الآدمي مسلمًا كان أو كافرًا؛ فعرقه ولعابه طاهران سواء كان جنبًا، أو محدثًا، أو حائضًا، أو نفساء، وإنما خص المؤمن بالذكر في الحديث؛ لشرفه ولمطابقة السؤال في الحديث.
وقال صاحب «عمدة القاري»: (فإن قلت: على ما ذكرت أن المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا ينبغي ألَّا يغسل الميت؛ لأنَّه طاهر؟
قلت: اختلف العلماء من أصحابنا في وجوب غسل الميت، فقيل: إنَّما وجب بحدث يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسته، فإن الآدمي لا ينجس بالموت؛ لكرامته، إذ لو تنجس؛ لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات، وكان الواجب الاقتصار على أعضاء الوضوء، كما في حال الحياة، لكن ذلك إنَّما كان نفيًا للحرج فيما يتكرر كل يوم، والحدث بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة لا يكتفي فيها بغسل الأعضاء الأربعة، بل يبقى على الأصل وهو وجوب غسل البدن لعدم الحرج، فكذا هنا.
وقال العراقيون: يجب غسله؛ لنجاسته بالموت لا بسبب الحدث؛ لأنَّ للآدمي دمًا سائلًا، فيتنجس بالموت قياسًا على غيره من الحيوانات، ألا ترى أنه لو مات في البئر؛ نجسها، ولو حمله المصلي؛ لم تجز صلاته، ولو لم يكن نجسًا؛ لجازت، كما لو حمل محدثًا) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم: (أن الفرعين مبني على مذهبهم؛ أي: الأئمَّة الحنفية وإنه لا يقول بنجس البئر إذا مات فيها؛ لطهارته، وأما في حمل المصلي له؛ فنقول به؛ لما في جوفه من النجاسة مع أنه ميت، بخلاف
%ص 307%
الحي إذا لم يكن مستجمرًا بالأحجار) انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإن قوله: (لا تقول بنجاسة البئر) ممنوع؛ فإن ابن عباس، وابن الزبير، وغيرهما أفتوا بنزح الماء الذي في بئر زمزم حين وقع فيه زنجي ومات، كما هو مبسوط في محله، وليس هذا إلا لنجاسته بالموت؛ إذ لو خرج حيًّا؛ لم ينزح الماء.
وقوله: (وأما في حمل المصلي ... ) إلخ هذا كلام متناقض؛ فافهم؛ لما وافقوه [2] في عدم صحة صلاة حامله؛ يلزمهم القول بنجاسته، وتعليلهم بأنه (لما في جوفه) متناقض؛ لأنَّ الحي كذلك ممتلئ جوفه من النجاسة؛ فيلزم على قولهم: إن الحي لا تجوز صلاة حامله وهو ممنوع بالإجماع.
وقوله: (بخلاف الحي ... ) إلخ هذا تناقض؛ لأنَّ قوله: (لما في جوفه) كذلك الحي، فإن جوفه مملوء، ألا ترى أن الشافعي قال: (إن الميت نجس، وما ذاك إلا لتنجسه بالموت)، وإن كان له قولًا بالطهارة؛ فقد وافق أهل العراق وهو منقول عن مالك أيضًا، كما قدمناه.
وقوله: (إذا لم يكن ... ) إلخ؛ يعني: إذا كان الحي مستجمرًا بالأحجار وحمله آخر وصلى به؛ فصلاته صحيحة.
قلت: وفيه أن الحجر غير مزيل للنجاسة، بل تبقى عينها بعد الاستجمار، بخلاف الماء، ألا ترى أنه لو وقع في الماء القليل؛ فإنه ينجسه، وما هذا [إلا من] التناقض، فحفظت شيئًا وغابت عنك أشياء؛ فافهم.
ونقل ابن العربي الإجماع على طهارة الشهيد بعد الموت، والأنبياء عليهم السلام أحياء في قبورهم) انتهى.
قلت: ولهذا يعفى عن دم الشهيد ما دام عليه، ولو وقع الشهيد في الماء القليل؛ لا يفسده إلا إذا سال منه الدم؛ فافهم.
وأما مدمن شرب الخمر؛ فالصحيح في مذهب الإمام الأعظم أن عرقه طاهر، وقيل: إنه نجس؛ لأنَّه لما صار الخمر عادة له ويتغذى منه؛ كالماء؛ كان عرقه نجسًا، والصحيح الأول؛ فليحفظ.
وقال في «عمدة القاري»: (وفي الحديث استحباب احترام أهل الفضل وأن يوقرهم جليسهم ومصاحبهم، فيكون على أكمل الهيئات، وأحسن الصفات، وقد استحب العلماء لطالب العلم أن يحسن حاله عند مجالسة شيخه، فيكون متطهرًا متنظفًا بإزالة الشعوث المأمور بإزالتها؛ نحو: قص الشارب، وقلم الأظفار، وإزالة الروائح المكروهة، وغير ذلك، وفيه: التسبيح عند التعجب من الشيء واستعظامه).
وقال: (وفيه: من الآداب أن العالم إذا رأى من تابعه أمرًا يخاف عليه فيه خلاف الصواب؛ سأله عنه، وقال له صوابه، وبين له حكمه).
قال: (وفيه: جواز انصراف الجنب في حوائجه قبل الاغتسال ما لم يفته وقت الصَّلاة).
وقال: (وفيه: أن النجاسة إذا لم تكن عينًا في الأجسام لا يضرها، فإن المؤمن طاهر الأعضاء، فإن شأنه المحافظة والنظافة) انتهى.
وزعم ابن حجرأن في الحديث: استحباب استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه.
ورده صاحب «عمدة القاري»: (بأن هذا بعيد؛ لأنَّ الحديث المذكور لا يفهم منه ذلك لا من عبارته، ولا من إشارته، ولا في التابع والمتبوع؛ لأنَّ أبا هريرة لم يكن في تلك الحالة تابعًا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مشيه، وإنما لقيه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بعض طرق المدينة، كما هو نص الحديث) انتهى.
واعترضه ابن حجر في «الانتقاض»، فزعم أن ذلك مبلغهم من العلم، أما توجيه الدعوى؛ فإنها مأخوذة من قوله: «أين كنت؟»؛ لأنَّه لما لقيه؛ ماشاه، كما في رواية الباب الذي يليه: (ثم انخنس فتفقده، فلما رجع إليه؛ قال له: «أين كنت؟»)، فلو كان استأذنه في التوجه للاغتسال؛ لم ينكر عليه، فيؤخذ منه استحباب الاستئذان، وإنكار كون أبي هريرة تابعًا والنبيُّ [صلى الله عليه وسلم] متبوعًا معاندة، لا سيما وقد وقع في رواية الباب الذي بعده: (فمشيت معه)، ومن العجب أن المعترض غفل عن اعتراضه هذا فقال: من حسن الأدب مع من مشى مع رئيسه ألا ينصرف عنه، ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك؛ لقوله لأبي هريرة: «أين كنت؟»، فدل على استحباب ألَّا يفارقه حتى يعلمه؛ فانظر وتعجب) انتهى.
قلت: ويناسب القول هنا وهو زاد في الطنبور نغمة: حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء؛ فإن قوله: (أما توجيه الدعوى ... ) إلخ فاسد غير ظاهر؛ لأنَّ هذا الباب ليس له تعلق في الباب الذي بعده، وقد ظهر التفاوت والاختلاف بينهما لمن له أدنى ذوق في العلم في رجاله، ومتنه، وألفاظه، كما لا يخفى على من له أدنى فطنة، فأين يؤخذ الاستنباط في باب من باب آخر؟ ويستدل لباب من باب آخر، أما علمت أن كل باب مترجم بترجمة خاصة به، وأحاديثه خاصة به أيضًا، فكيف يسمع هذا الكلام؟ وما هو إلا معارضة ومكابرة بالمحسوس على أن قوله مأخوذ [3] من قوله: «أين كنت؟ ... إلخ» فاسد أيضًا، فإنه لا يفهم هذا منه؛ لأنَّ غايته السؤال عن حاله في أي مصلحة كان، فهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، وما هو إلا رجم بالغيب.
وقوله: (فتفقده) هذا ليس موجودًا في هذا الباب ولا في الباب الذي بعده عند جميع الرواة، فمن أين جاء به؟ فهو محض افتراء وكذب مختلق مصنوع، وقد زعم الشافعية أنه حافظ والحافظ هو المتقن وهو الذي يضبط ألفاظ الرواة، فزيادته لفظة: (فتفقده) لم توجد عند الرواة في البابين، فمن أين له هذه اللفظة؟ وهذا يدل على عدم حفظه وإتقانه، وأنه كآحاد الناس؛ فافهم ذلك.
وقوله: (فلما رجع إليه ... ) إلخ هذا ترويج لكلامه وهو لا يفيد ما زعمه، كما لا يخفى.
وقوله: (فلو كان استئذانه ... ) إلخ ممنوع؛ فإنه لم يحصل منه ذلك أصلًا لا قولًا، ولا فعلًا، ولا دلالة، فمن أين يؤخذ منه استحباب الاستئذان؟ وما هو إلا مأخذ أوهى من بيت العنكبوت، وباطل لا دليل عليه.
وقوله: (وإنكار كون أبي هريرة ... ) إلخ فاسد ومحض افتراء؛ لأنَّ رواية الباب الذي بعده لا تدل عليه؛ لما علمت أن هذا الباب والباب الذي بعده لا تعلق لأحدهما في الآخر؛ لأنَّ ما ذكر في هذا الباب قصة واحدة، وكذلك ما ذكر في الباب الذي بعده قصة واحدة، لا تعلق لأحدهما في الأخرى، فكيف يستدل على هذا بما في الباب الذي بعده؟ وما هو إلا استدلال فاسد، ومكابرة ظاهرة، ومعاندة، وتعصب، وشدة بني إسرائيل.
وقوله: (لا سيما ... ) إلخ هذا غاية دليله ولا يخفى فساده؛ لأنَّه لا يدل على ما زعمه هذا القائل الذي قال ولا يدري ما يقول.
وقوله: (وهذا المعترض ... ) إلخ هذا يقال له: مبين الحق لأهل الغفلة والعناد وهو لم يغفل أصلًا، بل الغافل المخطئ هذا القائل؛ فإن في الباب الذي بعد هذا الباب يدل صريحًا لما قاله إمام الشارحين: (أن من حسن الأدب ... ) إلخ؛ لقول أبي هريرة في الباب الآتي: (فأخذ بيدي، ومشيت معه حتى قعد فانسللت منه ... ) إلى أن قال: (ثم جئت وهو قاعد، فقال: «أين كنت يا أبا هريرة؟»)؛ يعني: لمَ [4] ذهبت ولمْ تعلمني بذهابك؟ فهو يدل صريحًا على أنه عليه السلام استحب ألا يفارقه حتى ينصرف معه، كما لا يخفى وقد خفي هذا على المتعنت، فمنعه واعترض ولا يخفى أن اعتراضه مردود عليه؛ فإنه لم يفهم ما تضمنه قصة هذا الباب ولا ما تضمنه القصة في الباب بعده، فخلط هذه القصة في القصة الآتية.
وقوله: (فانظر وتعجب) لا نظر ولا تعجب في هذا؛ لأنَّه قد استدل بدليل صريح يفهمه من له أدنى ذوق في العلم، وإنما النظر والتعجب في كلام هذا القائل حيث ركب فيه متن عَمياء، وخبط خبط عشواء وقال ولا يدري ما يقول، فهذا كلام ابن حجر رئيس الشافعية، وقرَّ أن خراب الدنيا إذا مُثِّل هذا رئيس؛ فافهم.
وزعم العجلوني فقال: ظن صاحب «عمدة القاري» أن الآتي في الباب الثاني قصة أخرى؛ لأنَّه ماشاه فيها، وأما هنا؛ فقال: (لقيه) ولم يقل: ماشاه، فلذا أبدى ما أبداه في الثاني وإن كان تابعًا للكرماني في ذلك، وأما هنا؛ فاعترض على من أبدى، والظاهر: كما يفهم من ابن حجر أنها قصة، وأنه هنا ماشاه أيضًا لما لقيه وانخنس عنه حين قعد مستخفيًا؛ فتأمل.
قلت: كل الديوك ادكدكت ما بقي إلا أبا أنبرة، فهذا كلام فاسد؛ لأنَّ قوله: (ظن ... ) إلخ هذا ليس بظن؛ لأنَّه يحتمل الأمرين، بل هو حق ويقين؛ فإن الذي في الباب الآتي قصة أخرى بدليل اختلاف الرجال، والمتن، والألفاظ، وهو دليل على اختلاف القصة، كما لا يخفى.
وقوله: (فلذا أبدى ... ) إلخ الحق أن هذا
%ص 308%
يفهم من الثاني لا من الأول؛ لاختلاف الألفاظ بينهما، وكل لفظ يدل على استنباط على حدة لا تعلق له بغيره لا كما زعمه ابن حجر، فإنه غير مصيب، كما لا يخفى.
وقوله: (وإن كان تابعًا ... ) إلخ ليس يفهم منه أنه تابعه؛ لأنَّه لم يتعرض له بشيء، بل ذكر هذا من فهمه وحذاقته؛ فليس فيه ما يدل على أنه تابع له.
وقوله: (وأما هنا ... ) إلخ؛ فإنه لما لم يكن في حديث الباب هنا من كونه ماشاه، بل فيه: (لقيه) وهو لا يدل على المماشاة؛ لأنَّ اللقي الاجتماع بالشخص فقط من غير مماشاة ولا غيرها، كما دل على ذلك كلام أهل اللغة، فاعتراضه عليه متوجه صواب، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وقوله: (والظاهر ... ) إلخ ممنوع؛ فإن حق الظاهر أن يظهر من لفظ الحديث لا من كلام هذا القائل؛ لأنَّه يقرر ويتكلم على حسب مراده وهو غير مصيب؛ فلا يعتمد عليه؛ لوقوع الخلل فيه على أنه لا يفهم هذا الظاهر من كلامه، بل إنه لما اضمحل كلامه؛ استند إلى رواية الباب الآتي وهي لا تفيده شيئًا؛ لأنَّ بينهما فرقًا بيِّنًا فهذا الظاهر غير ظاهر، بل مبني على ما فهمه وهو فهم سقيم، على أن الحق الذي هو أحق أن يتبع: أن ما ذكر في هذا الباب قصة غير القصة التي ذكرت في الباب الآتي، فهما قصتان مختلفتان رجالًا، ومتنًا، وألفاظًا، وغير ذلك.
وقوله: (وأنه هنا ماشاه أيضًا ... ) إلخ ممنوع؛ فإنه لم يذكر في الحديث هنا أنه ماشاه لما لقيه، ولا انخنس عنه حين قعد، فإن ذلك كله غير مذكور هنا ولا يفهم منه لا قولًا، ولا فعلًا، ولا إشارةً، ولا دلالةً، وغاية: ما فيه أنه لقيه في الطريق وانخنس عنه فيه، وهذا ظاهر في عدم دلالته على ما زعمه هذا القائل، وليس فيه أنه قعد مستخفيًا، ولا ما يدل على ما زعمه هذا الزاعم، فكيف يثبت شيئًا في الحديث وهو غير مذكور فيه؟ وما هو إلا افتراء وجراءة، وكيف يجعلهما قصة واحدة؟ وما هي إلا دعوى باطلة لا دليل عليها، فقد زاد في الطنبور نغمة هذا القائل وحذا حذو ابن حجر في التعصب، والتعنت، والمكابرة الظاهرة، والعناد، ومن دق الباب؛ سمع الجواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنه بوَّب على استحباب استئذان التابع ابنُ حبان، وفيه الرد على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر فنوى الاغتسال؛ أن ماء البئر ينجس.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا الرد مردود حينئذٍ؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه أصلًا، والحديث يدل بعبارته أن الجنب ليس بنجس في ذاته، ولم يتعرض إلى طهارة غسالته إذا نوى الاغتسال) انتهى.
فكيف قال ابن حجر ما قال؟ ولا يلزم من تبويب ابن حبان أنه يستفاد من الحديث هنا؛ فانظر وتعجب من هذه المحاولة والمكابرة، حيث إنه يستدل من كتاب على كتاب آخر من غير تدبر ولا فهم، ودأبه الخلط والخبط، ومن دق الباب؛ سمع الجواب.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (وفي الحديث: ائتلاف قلوب المؤمنين، ومواساة الفقراء، والتواضع لله تعالى، واتباع أمر الله تعالى؛ حيث قال جل ذكره: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]) انتهى.
واعترضه العجلوني فقال: ما قاله من ائتلاف قلوب المؤمنين والتواضع لله تعالى؛ مسلَّم؛ لقوله له: «أين كنت؟»، وأما قوله: (ومواساة الفقراء، واتباع أمر الله)؛ فأخذهما منه غير ظاهر؛ لأنَّه ليس فيه أنه أعطاه شيئًا واساه به، ولا أنه أتاه فلم يطرده، بل فيه أنه عاتبه على الذهاب، إلا أن يراد بالمواساة ولو في الآنة القول والتفقد وباتباع الله تعالى؛ إذ لازم للنهي المذكور) انتهى.
قلت: قوله: (مسلم؛ لقوله له: «أين كنت؟»)، وأيضًا لقوله: (لقيه)؛ ومعنى اللقي: الاجتماع، ومن لازم الاجتماع السلامُ، والتحية، وتطييب القلوب.
وقوله: (وأما قوله ... ) إلخ؛ فإنه مأخوذ من قوله: (لقيه)، ويلزم من اللقي _وهو الاجتماع_ المواساة بالأقوال، ولا ريب أن السلام والسؤال عن الحال حال الاجتماع فيه مواساة ظاهرة، كما لا يخفى، وفيه أيضًا اتباع أمر الله عز وجل حيث إنه حين جاء إليه لم يطرده، بل فرح به وواساه بقوله: «أين كنت؟».
وقوله: (فأخذهما منه غير ظاهر) ممنوع؛ لأنَّ أخذهما ظاهر كما علمت وهو غير خفي على من له أدنى ذوق في العلم.
وقوله: (لأنَّه ليس فيه أنه أعطاه شيئًا ... ) إلخ ممنوع أيضًا؛ فإن المواساة كما تكون بالفعل تكون بالقول، بل القول أبلغ وأطيب للنفس، على أنه عليه السلام لم يكن يحب الدنيا ولا أصحابُه الكرام، بل كانوا مقبلين على الآخرة، فالمواساة بالقول عندهم وغيرهم ممن أقبل على الآخرة أولى، وأحسن، وأطيب للخواطر، وهذا القائل كان يتبع المشايخ الذين يفعلون التهاليل المنكرة التي لا تخلو عن دخول بيوت الأيتام، والقعود على ثيابهم، والشراب من مائهم، وأخذ الدراهم من أموالهم؛ فلهذا نبه بالمواساة بإعطاء شيء من الدنيا ولم يعلم أنها فانية وحبها رأس كل خطيئة.
وقوله: (ولا فيه أنه أتاه، فلم يطرده) ممنوع؛ فإن قوله في الحديث: (ثم جاء فقال: «أين كنت؟») دليل ظاهر على أنه أتاه فلم يطرده؛ لأنَّ المجيء هو الإتيان، كما لا يخفى على أهل البيان، وفيه الاتباع لأمر الله عز وجل كما في الآية، فكيف يقول هذا القائل: (ولا فيه ... ) إلخ وما هو إلا مكابرة ظاهرة وتعنت وعناد.
وقوله: (بل فيه أنه عاتبه على الذهاب) ممنوع، بل فيه أنه واساه بالقول وهو أبلغ من الفعل في قوله: (لقيه)، وفي قوله: (ثم جاء، فلم يطرده)، وغير ذلك.
وقوله: (إلا أن يراد ... ) إلخ هذه مناقضة لكلامه؛ حيث نفى في أول كلامه، ثم أثبت هنا المواساة بالقول والتفقد والاتباع لله عز وجل في الآية؛ لأنَّها نهي، فالنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فعل كما أمره ربه عز وجل، مع أنه على خلق عظيم، لطيف بأصحابه، رقيق القلب بهم، رحيم بهم صلَّى الله عليه وسلَّم، اللهم؛ عطف قلبه علينا، واحشرنا تحت لوائه يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (النخس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (واقفون)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (مأخوذة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (لما)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (النخس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (واقفون)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (مأخوذة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (النخس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (واقفون)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (مأخوذة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/487)
(24) [باب الجنب يخرج ويمشى في السوق وغيره]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين ويجوز تركه وإضافته إلى ما بعده، لكن يحتاج حينئذٍ إلى أن يقدر الجواب؛ نحو أن يقول له ذلك أو يجوز ذلك ونحوهما، وعند الانفصال لا يحتاج إلى ذلك، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»
قلت: والوجهان مبنيان على الرفع أو الجر في قوله: (الجنب) ومثله الحائض، والنفساء (يخرج)؛ أي: من بيته (ويمشي)؛ بالواو عطف على قوله: (يخرج)، وفي بعض النسخ: (يخرج يمشي)؛ بدون واو العطف، فإن صحت هذه الرواية؛ يكون (يمشي) في موضع النصب على الحال المقدرة، كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني فقال: (المناسب جعله خبر الجنب بعد خبر، على حد زيد عالم تاجر) انتهى.
قلت: وهو ممنوع؛ فإن المناسب للمقام هو الأول وهو الأظهر؛ لأنَّ الخروج والمشي صفتان كل منهما غير لازمة، بخلاف زيد عالم تاجر، فإن العلم والتجارة كل منهما صفة لازمة له، فما قاله في «عمدة القاري»؛ هو الحق، وما زعمه العجلوني؛ باطل؛ فافهم.
(في السوق وغيره)؛ بالجر عطف على قوله: (في السوق)، والضمير فيه عائد إليه؛ والمراد به: البيت، وكذا الصحراء والبستان؛ يعني: يخرج من بيته إلى السوق إلى الصحراء إلى البستان، وغير ذلك، وزعم ابن حجر أنه يحتمل الرفع عطفًا على (يخرج) من جهة المعنى.
قال صاحب «عمدة القاري»: أخذ كلامه هذا القائل من كلام الكرماني؛ فإنه قال: يحتمل رفعه بأن يراد نحو: يأكل وينام عطف على (يخرج) من جهة المعنى، انتهى.
قال: (قلت: وفيه تعسف لا يخفى) انتهى كلامه.
وتبعه البرماوي حيث قال: (وفيه تكلفٌ بلا ضرورة) انتهى.
وزعم العجلوني أن الظاهر أن الكرماني _وتبعه ابن حجر_ أراد أن (غيره) معطوف عطف مفردات على ما قبله؛ لأنَّ المراد بـ (غيره): يأكل، وينام، ونحو ذلك، والضمير على الرفع عائد على (يخرج ويمشي)؛ فحقه التثنية، لكنه أفرده؛ نظرًا لتأويلهما بالمذكور، ويجوز رفعه على أنه مبتدأ وضميره عائد على الجنب، والمراد بـ (غيره): الحائض
%ص 309%
والنفساء، والخبر محذوف يقدَّر بـ (كذلك)؛ فكأنه قال: الجنب يخرج، ويمشي، ويأكل، وينام مثلًا؛ لأنَّ غيره في معنى: مغايرة لا كما قاله البرماوي، وإن كان في الآخر تعسف) انتهى.
قلت: وهذا ممنوع؛ فإن قوله: (والظاهر ... ) إلخ غير ظاهر؛ لأنَّ المراد بـ (غيره): هو الخروج من منزله إلى منزل آخر والمشي من السوق إلى الصحراء وإلى البساتين، وغير ذلك.
وقوله: (والضمير على الرفع ... ) إلخ، ويلزم على ما قاله هذا القائل أن يكون الضمير بلفظ المثنى؛ لأنَّ حقه التثنية.
وقوله: (لكنه أفرده ... ) إلخ غير صحيح، كما لا يخفى؛ لأنَّه إذا وجد التأويل وعدمه؛ فعدمه أولى؛ فافهم.
وقوله: (ويجوز رفعه ... ) إلخ فيه نظر؛ لأنَّ كلًّا من الحائض والنفساء ممنوعة من الخروج والمشي في الأسواق؛ لأنَّهن مأمورات بالقرار في البيوت؛ فهو غير ظاهر فيهما؛ لأنَّ (غيره) في معنى: مغايرة، كما قال والمغايرة بين الجنب والحائض، والنفساء ظاهرة؛ لأنَّ الجنب له الخروج ... إلخ، وأما الحائض والنفساء؛ فإنها ليس لها ذلك، بل لهما الأكل والنوم؛ فهما من هذه الحيثية يطلق عليهما ذلك.
وقوله: (لا) كما قاله البرماوي؛ غير صحيح، فأي تكلف أبلغ من هذا؟
وقوله: (وإن كان في الآخر ... ) إلخ قد علمت ما فيه، والحق أن لفظ (غيرِه) بالجر عطف على (السوق)، وضميره يعود عليه والمراد به: الصحراء، والبساتين، والبيوت، وغيرها؛ فافهم، والله أعلم.
وأشار الإمام المؤلف في هذه الترجمة إلى رد من منع هذه الأفعال من الجنب قبل أن يغتسل أو يتوضأ، وإن ذلك جائز وهو قول عامة الفقهاء، ولا خلاف في ذلك إلا ما حكاه ابن أبي شيبة عن علي، وعائشة، وابن عمر، وأبيه، وشداد بن أوس، وابن المسيب، ومُجَاهِد، وابن سيرين، والزُّهري، ومحمَّد بن علي، والنخعي، زاد البيهقي: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وعطاء، والحسن أنهم كانوا إذا أجنبوا لا يأكلون ولا يخرجون حتى يتوضؤوا، كما نقله صاحب «عمدة القاري»، وليس هذا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الندب والاستحباب، كما صرح به عنهم؛ فليحفظ.
(وقال عطاء) بالمد هو ابن أبي رباح (يحتجم الجنب) ومثله: الفصد والعلق (ويقلم)؛ أي: يقص (أظفاره) وهو جنب في يوم الجمعة، أو الخميس، أو الاثنين، ولا يقصها في السبت؛ لأنَّه يورث الأكلة، وفي الأحد يذهب البركة، ولا في الثلاثاء؛ لأنَّه يورث الهلكة، ولا في الأربعاء؛ لأنَّه يورث سوء الخلق، أما في الاثنين؛ فإنه يورث العز والجاه، وفي الخميس؛ فإنه يورث الغنى، وفي الجمعة يورث العلم والحكم، كما جاء ذلك عن علي الصدِّيق الأصغر ابن أبي طالب رضي الله عنه، (ويحلق رأسه) وهو جنب، ومثله قص الشارب، ونتف الإبط، وتقصير اللحية إلى القبضة (وإن لم يتوضأ)، فكونه قبل الاغتسال أولى.
قال في «عمدة القاري»: مطابقة هذا الأثر للترجمة في قوله: (وغيره) بالرفع ظاهرة، وأما الجر الذي هو الأظهر؛ فلا تكون المطابقة إلا من جهة المعنى؛ وهو أن الجنب إذا جاز له الخروج من بيته والمشي في السوق وغيره؛ جاز له كذلك الأفعال المذكورة في الأثر المذكور، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن جريج عنه، وزاد فيه: (ويطلى بالنورة) انتهى.
قلت: ومثله الحلق، كما هو المسنون، وكذا حلق شعر الصدر والرجلين وغيرها؛ فافهم.
==================
(1/488)
[حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة]
284# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الأعلى بن حمَّاد) وسقط (ابن حمَّاد) للأَصيلي (قال: حدثنا يزيد بن زُريع)؛ بضمِّ الزاي المعجمة، تصغير زرع (قال: حدثنا سَعِيْد)؛ بكسر العين المهملة، هو ابن أبي عَروبة، وقال الغساني: وفي نسخة الأَصيلي بدل (سَعِيْد) لفظ (شعبة)؛ أي: ابن الحجاج وليس صوابًا)، قاله صاحب «عمدة القاري».
قلت: وأجمع الشراح إلى أن هذه النسخة خطأ غير صواب، والظاهر: أنها تحريف من الناسخ الأول؛ فافهم.
(عن قتادة) هو ابن دعامة المفسر: (أن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه (حدثهم)؛ أي: قتادة ومن معه، وفي رواية: (حدثه)؛ أي: قتادة وحده: (أن النبيَّ) ولكريمة: (أن نبي الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم كان يطوف)؛ أي: يدور (على نسائه)؛ أي: في غسل واحد، وهو كناية عن الجماع، والمراد بالطواف: المشي من بيت واحدة إلى بيت أخرى (في الليلة الواحدة) وسبق في باب: إذا جامع ثم عاد في الساعة الواحدة من الليل والنهار (وله يؤمئذٍ)؛ أي: وله عليه السلام حينئذٍ؛ لأنَّه ليس ذلك في يوم معين، فالمراد باليوم: الوقت؛ فافهم، ولفظة (كان) تدل على التكرار والاستمرار (تسع نسوة) زوجات ومارية، وريحانة، فصرن إحدى عشرة، وبه يجمع بين ما هنا وبين ما هناك وهن إحدى عشرة، وأطلق عليهن نساء تغليبًا، ويحتمل أنه يحمل على اختلاف الأوقات؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: ومطابقة الحديث للترجمة تفهم من قوله: (كان يطوف على نسائه)، وذلك أن نساءه كان لهنَّ حُجَر متقاربة؛ فبالضرورة كان عليه السلام إذا أراد الطواف عليهن؛ يحتاج إلى المشي من حجرة إلى حجرة قبل الغسل، والخروج أيضًا منها إلى السوق وإلى غيره.
وزعم ابن حجر أن السوق يؤخذ من الحديث الآتي، فقال: لكن في غير السوق.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: المشي أعم من أن يكون من بيت إلى بيت، ومن بيت إلى سوق وإلى غيره) انتهى.
قلت: ويدل لهذا أنه عليه السلام أمر بسد أبواب الحُجَر من المسجد، كما ورد ذلك فيما سبق، وعلى هذا إن أبواب الحُجَر كانت من السوق، فلا بد وأن يمشي عليه السلام في السوق، وحديث أبي هريرة وإن كانت مطابقته للترجمة ظاهرة، كذلك مطابقة هذا الحديث على الترجمة ظاهرة أيضًا؛ فلا يلزم العناد والشدة من أن السوق يؤخذ من حديث أبي هريرة؛ فإن دلالته هنا ظاهرة، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أن إيراد حديث أنس في هذا الباب يقوي رواية: (وغيرِه)؛ بالجر، وعليه؛ فمناسبة إيراد أثر عطاء من جهة الاشتراك في جواز تشاغل الجنب بغير الغسل، وحديث أنس يقوي أثر عطاء؛ لأنَّه لم يذكر فيه أنه توضأ؛ فكأن المصنف أورده؛ ليستدل له لا ليستدل به.
قلت: وهو غير ظاهر وفيه نظر؛ لأنَّ قوله: (إيراد حديث أنس ... ) إلخ، ويلزم عليه أنه إذا علم أن رواية الجر أقوى، كيف عدل عنها إلى رواية الرفع الضعيفة؟! على أنه ليس في الحديث تقوية، كما زعمه هذا القائل؛ لأنَّ الحديث يدل على أنه عليه السلام كان يخرج ويمشي من حجرة إلى أخرى، ومنها إلى السوق، فهو مطابق للترجمة، وليس فيه ما يقيد الغيرية من أكل، وشرب، ونوم؛ لأنَّه ليس في الحديث ما يدل على هذا.
وقوله: (وعليه؛ فمناسبة ... ) إلخ غير ظاهر، وإنما الظاهر أن مناسبة إيراد أثر عطاء من حيث إن الحجامة، وقلم الأظفار، وحلق الرأس إنَّما يفعلها الحجام في حانوته؛ فيحتاج الجنب ضرورة إلى الخروج من بيته والمشي في السوق حتى يصل إلى حانوت الحجام، وزاد قوله: (وغيره) إلى أنه يمشي في السوق والزقاق، وأنه يشرب في حال مشيه ويكلم الناس، فمطابقة الأثر للترجمة ظاهرة.
وقوله: (وحديث أنس يقوي أثر عطاء) ممنوع؛ لأنَّ أثر عطاء مطابقته ظاهرة، وكذا مناسبته والحديث غاية ما فيه أنه عليه السلام كان يطوف على نسائه، وهذا لا يعد شاغلًا بين الجنابة والغسل؛ لأنَّه إذا وطئ، ثم عاد وهكذا؛ فكأنه وطئ مرة؛ بدليل أنه لا يجب عليه إلا غسل واحد، وليس فيه تشاغل بغير الجماع، فكيف يقال: إنه يقوي أثر عطاء؟! وما هو إلا كلام غير ظاهر.
وقوله: (لأنَّه لم يذكر فيه أنه توضأ) غير ظاهر أيضًا؛ لأنَّ كونه لم يتوضأ قد ذكر في أثر عطاء؛ فهو يقوي الحديث من حيث إنه لم يذكر فيه الوضوء، كما لا يخفى.
فإنه لولا الأثر؛ لاحتمل أن في الحديث أنه توضأ، فكأن الأثر ذكر؛ لأجل بيان الحديث في ذلك.
وقوله: (فكأن ... ) إلخ ممنوع؛ فإن مراد المؤلف بإيراد الأثر: بيان الحديث
%ص 310%
المذكور والاستدلال بالأثر على مفهوم الحديث؛ لأنَّ الحديث مطلق والأثر مقيد، فالحديث قد اكتسب بيانًا من الأثر؛ فافهم، والله أعلم.
==================
(1/489)
[حديث: سبحان الله يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس]
285# وبه قال: (حدثنا عياش)؛ بفتح العين المهملة، وتشديد التحتية، آخره شين معجمة، هو ابن الوليد البصري الرقَّام، وهو ابن عبد الأعلى بن حمَّاد، مات سنة ست وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عبد الأعلى) هو ابن عبد الأعلى السامي؛ بالسين المهملة (قال: حدثنا حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة؛ مصغرًا، المعروف بالطويل، (عن بَكْر)؛ بفتح الموحدة، وسكون الكاف؛ مكبرًا، هو المزني، (عن أبي رافع) هو نُفيع؛ بضمِّ النون، آخره عين مهملة، (عن أبي هريرة)؛ هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (قال: لقيني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: اجتمعنا؛ لأنَّ اللقي: الاجتماع فقط، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا لَقِيَا [1] غُلامًا فَقَتَلَهُ} [الكهف: 74]، (وأنا جنب): جملة اسمية محلها النصب على الحال، (فأخذ بيدي)؛ بالإفراد؛ أي: قبض عليها بيده الشريفة، وفي بعض الأصول: (طريق المدينة) (حتى قعد)؛ أي: حتى وصل دار أحد أصحابه أو غيرها وجلس فيه، (فانْسلَلت)؛ بسكون النون، بعدها مهملة، ثم لامين، أولاهما مفتوحة؛ أي: خرجت، يقال: انسل من بينهم؛ أي: خرج في خفية وتستر (منه)؛ أي: من مجلس النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، أو من النبيِّ نفسه عليه السلام، والأول أظهر، وسقط لفظ: (منه) في رواية، (فأتيت)؛ بـ (الفاء)، وفي رواية: بـ (الواو) (الرحْل)؛ بسكون الحاء المهملة، وهو منزله ومكانه الذي يأوي إليه، (فاغتسلت)؛ أي: بعد أن أحضر لي الماء اغتسلت منه فيه من الجنابة، ولبست ثيابي، وصليت ركعتين، وحمدت الله وأثنيت عليه، (ثم جئت)؛ أي: ثم خرجت من الرحل ومشيت حتى جئت إلى مجلس النبيِّ عليه السلام (وهو قاعد)؛ أي: والحال أنه قاعد فيه، فالجملة حالية، والتراخي مراد به: حقيقة، كما لا يخفى؛ فما استظهره العجلوني من أنه غير مراد؛ فليس بشيء؛ لعدم اطلاعه على ما قررناه؛ فافهم، (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي هريرة (أين كنت) (كان) تامة فلا تحتاج إلى الخبر، أو ناقصة فـ (أين) خبر له، وعلى الأول؛ فهو حال؛ فافهم (يا با هريرة؟»)؛ بحذف الهمزة من الأب تخفيفًا، وهو الرواية، وما في بعض النسخ من إثباتها تحريف من النساخ، وللكشميهني: (يا با هر)؛ بالحذف والترخيم، (فقلت) القائل: أبو هريرة (له)؛ أي: للنبيِّ عليه السلام، مقول القول محذوف؛ أي: قلت له: إن سبب رواحي الاغتسال من الجنابة؛ لأني كنت جنبًا حين لقيتك؛ فكرهت مجالستك وأنا على غير طهارة، (فقال) عليه السلام: (سبحان الله) منصوب بفعل محذوف لازم الحذف، وهو يراد به: التعجب؛ ومعناه: كيف خفي عليك مثل هذا الظاهر؟! (يا با هريرة)؛ بالحذف أيضًا، وفي رواية الأَصيلي وغيره: (يا با هر)؛ بالحذف والترخيم، وفي رواية أبوي ذر والوقت بحذف لفظ (يا با هريرة) فقط، وهذا الترخيم قاله جميع الشراح.
واعترضهم العجلوني فزعم أنه مبني على مذهب الكوفيين، وإلا؛ فتسميته ترخيمًا لا يخلو من شيء؛ لأنَّ المضاف إليه يرخم ترخيم نداء عند البصريين، وليس بترخيم ضرورة، ولعل المراد بالترخيم: لازم معناه اللغوي؛ وهو الترقيق والتليين ولو جعل (يا با هر) كنية أخرى له فلا حذف ولا ترخيم؛ لكان له وجه) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه قوله: (أنه مبني ... ) إلخ؛ لا يخفى أنهم إنَّما بنوه على مذهب الكوفيين؛ لكونه الصحيح المعتمد.
وقوله: (وإلا؛ فتسميته ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه مبني على القول الضعيف، فلا يعول عليه.
وقوله: (ولعل ... ) إلخ ممنوع أيضًا، بل هو ترخيم اصطلاحي للنحويين.
وقوله: (ولو جعل ... ) إلخ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لا حاجة إلى هذا الجعل بعد أن كان ترخيمًا، وليس لما ذكره وجه، كما لا يخفى؛ فافهم، والله أعلم.
(إن المؤمن) إنَّما أكده؛ دفعًا لما توهمه أبو هريرة (لا ينجُس)؛ بضمِّ الجيم، هو الرواية؛ أي: في ذاته ما لم تعرض له نجاسة تحل به، وفي الحديث: التسبيح عند التعجب من الشيء واستعظامه، ألا ترى أنه كيف خفي على أبي هريرة طهارة الجنب حتى قال: (وأنا جنب)، فأنكر عليه ذلك قائلًا: «سبحان الله ... »؛ الحديث.
وفي «عمدة القاري»: (وفي الحديث: أنه يجوز للجنب التصرف في أموره كلها قبل الوضوء أو الغسل، وفيه: رد على من أوجب عليه الوضوء، وفيه: جواز أخذ الإمام والعالم بيد تلميذه ومشيه معه معتمدًا عليه ومرتفقًا به، وفيه: أن من حسن الأدب لمن مشى مع رئيسه ألَّا ينصرف عنه ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك، ألا ترى إلى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي هريرة: «أين كنت؟» فدل ذلك على أنه عليه السلام استحب ألَّا يفارقه حتى ينصرف معه، وفيه: أن أخذ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بيد أبي هريرة يدل على طهارة الجنب وأنه غير نجس) انتهى.
ولا تغتر بما تعجبه ابن حجر من استنباط عدم المفارقة؛ لأنَّ له العصبية الزائدة، والشدة العادية، وقد استوفينا الرد عليه فيما مضى؛ فافهم.
وزعم العجلوني أن في الحديث: جواز مصافحة الجنب ومخالطته، انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ليس في الحديث أنه عليه السلام صافح أبا هريرة، غاية ما فيه: أنه أخذ بيده ومشى معه وهو لا يدل على المصافحة، كما لا يخفى؛ فافهم.
وقدمنا الكلام مستوفًى في الباب [الذي] قبله، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (لقي)، والمثبت موافق للتلاوة.
%ص 311%
==================
(1/490)
(25) [باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ قبل أن يغتسل]
هذا (باب) جواز (كينونة) أي: استقرار (الجنب في البيت إذا توضأ)؛ أي: الجنب وضوءه للصلاة (قبل أن يغتسل)؛ أي: من الجنابة، و (الكينونة) مصدر (كان)، يقال: كان كونًا وكينونة أيضًا شبهوه بالجيدودة، والطيرورة من ذوات الياء، ولم يجئ من الواو على هذا إلا أحرف كينونة، وكيعوعة، وديمومة، وقيدورة، وأصله كيِّنونة؛ بتشديد الياء، ثم خففوا وحذفوا كما حذفوا من هين وميت، ولولا ذلك؛ لقالوا كونونة، كذا قاله في «عمدة القاري» قال: وسقط في رواية الحمُّوي، والمستملي: (إذا توضأ قبل أن يغتسل)، وتمامه فيه.
==========
%ص 311%
==================
(1/491)
[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقد وهو جنب]
286# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون، هو الفضل بن دُكين؛ بالدال المهملة (قال: حدثنا هشام)؛ بكسر الهاء، هو الدستوائي (وشيبان)؛ هو ابن عبد الرحمن النحوي المؤدب صاحب صروف وقراءات؛ كلاهما (عن يحيى) زاد ابن عساكر: (ابن أبي كثير)، (عن أبي سَلَمَة)؛ هو ابن عبد الرحمن بن عوف.
قال في «عمدة القاري»: (وفي رواية ابن أبي شيبة بتحديث أبي سَلَمَة، ورواه النسائي عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سَلَمَة، عن ابن عمر رضي الله عنهما) انتهى؛ فافهم.
(قال) أي: أبو سَلَمَة: (سألت عائشة)؛ أي: الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: (أكان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ الهمزة في (أكان) للاستفهام (يرقُد)؛ بضمِّ القاف؛ أي: ينام (وهو جنب؟): جملة اسمية وقعت حالًا من (النبي صلَّى الله عليه وسلَّم)، (قالت)؛ أي: عائشة: (نعم)؛ أي: يرقد؛ (ويتوضأ)؛ فهو معطوف على محذوف؛ تقديره: نعم؛ يرقد ويتوضأ.
فإن قلت: هل كان يتوضأ بعد الرقاد؟
قلت: الواو لا تدل على الترتيب؛ والمعنى: أنه يجمع بين الوضوء والرقاد، ولمسلم من طريق الزُّهري، عن أبي سَلَمَة: (كان إذا أراد أن ينام وهو جنب؛ يتوضأ وضوءه للصلاة)، وهذا أوضح، وعليه؛ فكأن عائشة قالت: نعم؛ إذا أراد النوم؛ يقوم ويتوضأ ثم يرقد، ويوضح هذا أيضًا حديث ابن عمر الذي ذكره المؤلف عقيب هذا الحديث على ما يأتي، كذا قرره صاحب «عمدة القاري».
ثم قال رحمه الله تعالى: ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، قيل: أشار
%ص 311%
المصنف بهذه الترجمة وحديثها إلى تضعيف ما رواه أبو داود وغيره من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب، ولا صورة، ولا جنب».
ورده في «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا بعيد؛ لأنَّ المراد من هذا الجنب: الذي يتهاون بالاغتسال ويتخذه عادة حتى تفوته صلاة أو أكثر، وليس المراد منه: من يؤخره ليفعله أو يكون المراد منه: من لم يرفع حدثه كله أو بعضه؛ لأنَّه إذا توضأ؛ ارتفع بعض الحدث عنه، والحديث المذكور صححه ابن حبان، والحاكم، والذي ضعفه قال في إسناده: «نُجَي الخضرمي»؛ بضمِّ النون، وفتح الجيم، لم يرو عنه غير ابنه عبد الله، فهو مجهول، لكن وثقه العجلي وغيره) انتهى كلامه، وقد تبعه ابن حجر والعجلوني؛ فافهم.
قلت: ويدل لهذا أن المراد بـ (الكلب) غير المأذون في اتخاذه؛ ككلب الصيد والماشية، وأن المراد بـ (الصورة) الكبيرة، أما الصغيرة التي لا تبدو للناظر كالتي على الدراهم والدنانير؛ فإنها معفوٌّ عنها، كما ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى.
وفي «عمدة القاري»: (ويستنبط من الحديث: أن الجنب إذا أراد النوم؛ يتوضأ، ثم ينام، ثم هذا الوضوء مستحب أو واجب يأتي الكلام فيه عن قريب) انتهى.
قلت: وفيه رد على من زعم أن الوضوء هنا اللغوي؛ لما سبق من رواية مسلم؛ فليحفظ.
==================
(1/492)
(26) [باب نوم الجنب]
واعلم أنه وقع في رواية كريمة فقط هنا: (باب نوم الجنب)، وهو ساقط لأبوي ذر والوقت، والأَصيلي، والمستملي، وغيرهم من الرواة، قال صاحب «عمدة القاري»: (ولا حاجة إلى هذا؛ لحصول الاستغناء عنه بالباب الذي يأتي عقيبه) انتهى، وتبعه القسطلاني.
وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون ترجم على الإطلاق وعلى التقييد، فلا تكون زائدة.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا يخرج عن كونه زائدًا؛ لأنَّ المعنى الحاصل فيها واحد وليس فيه زيادة فائدة، فلا حاجة إلى ذكره) انتهى.
واعترضه العجلوني فقال: (قد يقال: الغرض من المطلق التنبيه على جواز نومه وإن لم يتوضأ، وإن أجيب بالتقييد، وأما المقيدة الآتية؛ فلبيان الأفضل وأنه لا كراهة فيه؛ فتأمل).
قلت: تأملته فرأيت أن يناسب هنا، ذلك مبلغهم من العلم؛ فإن التناقض في كلامه ظاهر، فإن قوله: (الغرض ... ) إلخ لا معنى لهذا الكلام؛ لأنَّ جواز النوم للجنب بغير وضوء يعلم ضرورة من الترجمة الآتية؛ لأنَّ فيها جواز النوم وزيادة على أن حديث ابن عمر يدل صريحًا للترجمة التي سبقت؛ لأنَّ فيه أن رقاد الجنب في البيت يقتضي جواز كينونته فيه إذا توضأ قبل أن يغتسل؛ فهذا الحديث تابع للترجمة التي سبق ذكرها، كما لا يخفى.
وقوله: (وأما المقيدة ... ) إلخ؛ انظر ما فيه من التناقض؛ فإن الترجمة الآتية صريحة في الدلالة على أن النوم للجنب جائز، وأن الأفضل له أن يتوضأ، وكيف يقال إذا كان لبيان الأفضل وأنه لا كراهة؟! وما هذا إلا خروج عن الظاهر؛ لأنَّه إذا كان وضوءه هو الأفضل ضرورة؛ تنتفي الكراهة؛ لأنَّ الكراهة لا تجتمع مع الفضل، كما لا يخفى.
وحاصله: أن الترجمة الآتية دالة صريحًا على أن النوم للجنب جائز وإن الأفضل أن ينام على وضوء؛ فلا حاجة إلى ذكره، كما لا يخفى، ولا تغتر ممن يزيد في الطنبور نغمة؛ لأنَّ مقصده ترويج كلامه، وإظهار حاله ومرامه؛ فافهم.
==========
%ص 312%
==================
(1/493)
[حديث: نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب]
287# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا قتيبة)؛ بضمِّ القاف، وفتح الفوقية، هو ابن سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة (قال: حدثنا الليث)؛ هو ابن سعد _بسكون العين المهملة_ وهو من تلامذة الإمام الأعظم رضي الله عنه، وفي رواية الأَصيلي: (عن الليث)، (عن نافع)؛ هو مولى عبد الله بن عمر، (عن ابن عمر) رضي الله عنه: (أن) أباه (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، قال في «عمدة القاري»: وهذا الإسناد تقدم في باب «ذكر العلم والفتيا في المسجد» فالإسنادان سواء غير أن هناك نسب الرواة وهنا اكتفي بأسمائهم، وأن الذي هناك يوضح الذي هنا ومع هذا لكل واحد منهما متن خلاف متن الآخر حيث قال: (عن عبد الله بن عمر: أن رجلًا قام في المسجد ... )؛ الحديث.
فإن قلت: هذا الحديث يعد من مسند عمر بن الخطاب أو من مسند ابنه عبد الله؟
قلت: ظاهره أن ابن عمر حضر سؤال أبيه عمر، فيكون الحديث من مسنده وهو المشهور من رواية نافع، وروي عن أيُّوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنه قال: (يا رسول الله) أخرجه النسائي، وعلى هذا؛ فهو من مسند عمر، وكذا رواه مسلم من طريق يحيى القطان، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، وهذا لا يقدح في صحة الحديث) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
قلت: وأشار بقوله: (وهذا) إلى الاختلاف وأنه غير قادح؛ فافهم، وذكر نحوه ابن حجر.
واعترضه العجلوني: (بأن رواية مسلم والنسائي ليستا صريحتين في عدم حضور ابن عمر، بل يجوز حضوره، وحينئذٍ؛ فهو من مسنده كأبيه) انتهى.
قلت: وهو ممنوع؛ فإن الروايتين صريحتان في عدم حضوره السؤال؛ لأنَّه لو كان حاضرًا؛ لكان حقه أن يقال: عن ابن عمر أن عمر ... ؛ الحديث، أما الصيغة الأولى؛ فصريحة في عدم حضوره، كما لا يخفى.
وقوله: (بل يجوز ... ) إلخ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لا دليل يدل على حضوره، وحينئذٍ؛ فهو من مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خلافًا لما زعمه هذا القائل، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في معاني التركيب.
(سأل) أي: عمر رضي الله عنه (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فقال له: (أيرقد أحدنا) الهمزة فيه للاستفهام عن حكم الرقاد لا عن تعيين الوقوع؛ والمعنى: أيجوز الرقود لأحدنا (وهو جنب؟) جملة اسمية وقعت حالًا، (قال) أي: النبيُّالأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (نعم) أي: يجوز له النوم؛ (إذا توضأ أحدكم)؛ أي: وضوءه للصلاة، فالمراد به: الوضوء الشرعي؛ (فليرقد) فـ (إذا) متعلقة بـ (يرقد)؛ لأنَّهاظرف محض له، وكذا إذا كانت متضمنة للشرط على المشهور؛ والمعنى: إذا أراد أحدكم الرقاد؛ فليرقد بعد التوضؤ، وإذا كانت شرطية؛ فالمسبب الرقاد أو الأمر به؛ لأنَّ العامل فيها جوابها، وذهب ابن هشام وجماعة إلى أن العامل فيها شرطها؛ لعدم إضافتها عندهم إليه مجازًا؛ لأنَّ الوضوء سبب لهما والأمر بالرقاد للإباحة؛ لأنَّ الإجماع قائم على عدم وجوبه وندبه؛ فتأمل، وذكر نحوه الكرماني.
واعترضه صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: ذهب الإمام أبو يوسف، والثوري، والحسن بن حي، وابن المسيب إلى أنه لا بأس للجنب أن ينام من غير أن يتوضأ، واحتجوا في ذلك بما رواه الترمذي عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ينام وهو جنب ولا يمس ماء).
وروى ابن ماجه أيضًا عن الأسود عن عائشة قالت: (إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إن كانت له إلى أهله حاجة؛ قضاها، ثم ينام كهيئته لا يمس ماء)، وأخرجه أحمد كذلك، وأخرجه الحافظ الطحاوي من سبعة طرق؛ منها: ما رواه عن أبي داود، عن مسدد قال: حدثنا أبو الأحوص قال: حدثنا أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا رجع من المسجد صلى ما شاء، ثم مال إلى فراشه وإلى أهله، فإن كانت له حاجة؛ قضاها، ثم ينام كهيئته ولا يمس طيبًا)، وأرادت بالطيب: الماء، كما وقع في الروايات الأخرى، ولا يمس ماء وذلك؛ لأنَّ الماء يطلق عليه الطيب، كما ورد في الحديث؛ فإن الماء طيب؛ لأنَّه يطيب ويطهر، وأي طيب أقوى في التطهير من الماء؟
وذهب الإمام الأعظم، والإمام محمَّد، والليث بن سعد، ومالك، والأوزاعي، وإسحاق، وابن المبارك، وأحمد، والشافعي، وآخرون: إلى أنه ينبغي للجنب أن يتوضأ للصلاة قبل أن ينام، ولكنهم اختلفوا في صفة هذا الوضوء وحكمه؛ فذهب أكثر الفقهاء إلى أن ذلك على الندب والاستحباب لا على الوجوب، فقال الإمام الأعظم، والثوري: لا بأس أن ينام الجنب على غير وضوء، وأحبُّ إلينا أن يتوضأ؛ فإذا أراد أن يأكل؛ تمضمض وغسل يديه، وهو قول الحسن بن حي.
وقال الأوزاعي: الحائض والجنب إذا أرادا أن يطعما؛
%ص 312%
غسلا أيديهما.
وقال الليث: (لا ينام الجنب حتى يتوضأ رجلًا كان أو امرأة).
وقال أحمد: (يستحب للجنب إذا أراد أن ينام، أو يطأ ثانيًا، أو يأكل؛ أن يغسل فرجه ويتوضأ)، روي ذلك عن علي، وابن عمر.
وقال سَعِيْد بن المسيِّب: (إذا أراد أن يأكل؛ يغسل كفيه، ويتمضمض)، وحكي نحوه عن أحمد، وإسحاق.
وقال مُجَاهِد: (يغسل كفيه).
وقال مالك: (يغسل يديه إن كان أصابهما أذًى).
وذهبت طائفة إلى أن الوضوء المأمور به الجنب هو غسل الأذى منه، وغسل ذكره ويديه، وهو للتنظيف، وذلك عند العرب يسمى وضوءًا، قالوا: وقد كان ابن عمر لا يتوضأ عند النوم الوضوء الكامل، وهو روى الحديث وعلم مخرجه.
وقال مالك: (لا ينام الجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة)، قال: (وله أن يعاود أهله ويأكل قبل أن يتوضأ إلا أن يكون في يديه قذر فيغسلهما)، قال: (والحائض تنام قبل أن تتوضأ).
وقال الشافعي في نحو قول مالك، وقال القاضي عياض: (ظاهر مذهب مالك أنه ليس بواجب إنَّما هو مرغب فيه)، وابن حبيب يروي وجوبه وهو مذهب داود الظاهري.
وقال ابن حزم في «المحلى»: (ويستحب الوضوء للجنب إذا أراد الأكل، أو النوم، أو لرد السلام، أو لذكر الله تعالى، وليس ذلك بواجب).
قال في «عمدة القاري»: (قد خالف ابن حزمٍ داودَ في هذا الحكم).
وقال ابن العربي: قال مالك والشافعي: (لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ).
فزعم ابن حجر أن بعض المتأخرين أنكر هذا النقل، وقال: (لم يقل الشافعي بوجوبه ولا يعرف ذلك أصحابه، وهو كما قال، لكنَّ كلام ابن العربي محمول على أنه أراد: نفي الإباحة المستوية للطرفين لا إثبات الوجوب، أو أراد بأنه واجب وجوب سنة؛ أي: يتأكد الاستحباب، ويدل عليه أنه قابله بقول ابن حبيب وهو واجب وجوب الفرائض) انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: إنكار بعض المتأخرين هذا الذي نقل عن الشافعي إنكار مجرد؛ فلا يقاوم الإثبات، وعدم معرفة أصحابه ذلك لا يستلزم ذلك قول الشافعي بذلك، وأبعد من هذا قول هذا القائل وهو كما قال؛ فكيف يقول بهذا وقد بينا فساده؟! وأبعد من هذا كله حمل هذا القائل كلام ابن العربي على ما ذكره، يعرف ذلك من دقق نظره فيه) انتهى.
قلت: فقوله: (أنكر بعض المتأخرين ... ) إلخ الإنكار معناه: النفي، وكلام ابن العربي معناه: الإثبات، والقاعدة عند الأصوليين أن المثبت مقدم على النافي.
وقوله: (ولا يعرف ذلك ... ) إلخ هذا ليس بدليل لما زعمه؛ لأنَّه لا يلزم من عدم معرفتهم ذلك أن لا يكون قولًا لإمامهم؛ لاحتمال عدم اطلاعهم [1] على أقوال إمامهم.
وقوله: (لكن ... ) إلخ هذا الحمل باطل؛ لأنَّ عدم الجواز دليل الوجوب؛ فكيف يقول: نفي الإباحة؟! وما هو إلا رجم بالغيب على أن هذا الاستدراك غير صحيح؛ لأنَّه لما ظن أن ذلك ليس بقول إمامه ارتقى في جوابه، وقال: وهو كما قال؛ فلو كان كما قال؛ كيف يلزم حمله على ما ذكره؟! وما هذا إلا تناقض وهو يدل على أن ذلك قول إمامه، كما قاله ابن العربي.
وقوله: (أو أراد بأنه ... ) إلخ هذا ممنوع؛ فإن الواجب لا يراد به السنية والاستحباب؛ فإن مذهب إمام هذا القائل أن الواجب هو الفرض؛ فكيف يراد ما قاله؟! وما هو إلا خروج عن الظاهر.
وقوله: (ويدل عليه ... ) إلخ هذا لا يدل لما قاله، بل هو دليل على الوجوب؛ لأنَّه لم يقابله، بل ذكره عقيبه وعادة العلماء الأعلام ذكر ما قالوا بالفرض على حده، وما قالوا بالوجوب كذلك، وما قالوا بالاستحباب كذلك؛ فكيف يقول هذا القائل ما قال؟! وكأنه لم يعرف عادة العلماء المؤلفين فقال ما قال؛ فافهم، والله أعلم.
قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: واعلم: أن الحافظ الطحاوي أجاب عن حديث عائشة رضي الله عنها المذكور فقال: وقالوا هذا الحديث غلط؛ لأنَّه حديث مختصر اختصره أبو إسحاق من حديث طويل؛ فأخطأ في اختصاره إياه، وذلك لأنَّ أبا إسحاق قال: أتيت الأسود بن يزيد وكان لي أخًا وصديقًا فقلت له: يا أبا عمر؛ حدثني ما حدثتك به عائشة أم المؤمنين عن صلاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ينام أول الليل ويجيء آخره، ثم إن كانت له حاجة؛ قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يمس ماء، فإذا كان عند النداء الأول؛ وثب _وما قالت: قام _فأفاض عليه الماء، وما قالت: اغتسل، وأنا أعلم ما تريد، وإن نام جنبًا؛ توضأ وضوء الرجل للصلاة؛ فهذا الأسود بن يزيد قد بيَّن في حديثه لما ذكره بطوله أنه كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وأما قولها: (فإن كانت له حاجة قضاها، ثم نام قبل أن يمس ماء)؛ فيحتمل أن يكون ذلك على الماء الذي يغتسل به لا على الوضوء.
وقال أبو داود: قال يزيد بن هارون: حديث أبي إسحاق وهم، وفي رواية عنه: ليس بصحيح، وقال مهنى: سألت أبا عبد الله عنه، فقال: ليس بصحيح، قلت: لِمَ قال: لأنَّ شعبة روى عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: (أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة)؟ قلت: من قبل مَن جاء هنا الاختلاف؟ قال: من قبل أبي إسحاق.
وقال الترمذي، وأبو علي الطوسي: روى غير واحد عن الأسود، عن عائشة: (أنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتوضأ قبل أن ينام وهو جنب يتوضأ وضوءه للصَّلاة [2])، وهذا أصح من حديث أبي إسحاق، قال: وكانوا يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق، وقد تصدى جماعة لتصحيح هذا الحديث، كما قاله ابن ماجه منهم الدارقطني؛ فإنه قال: يشبه أن يكون الخبران صحيحين؛ لأنَّ عائشة قالت: ربما قدم الغسل وربما أخره، كما حكى ذلك عصيف، وعبد الله بن أبي قَيْس، وغيرهما عن عائشة وأن الأسود حفظ ذلك عنها؛ فحفظ أبو إسحاق عنه تأخير الوضوء والغسل، وحفظ إبراهيم وعبد الرحمن تقدم [3] الوضوء على الغسل، ومنهم البيهقي.
قال إمام الشارحين: وملخص كلامه: أن حديث أبي إسحاق صحيح من جهة الرواية، وذلك أنه بيَّن فيه سماعه من الأسود في رواية زهير عنه، والمدلس إذا بين سماعه ممن روى عنه وكان ثقة؛ فلا وجه لرده، ووجه الجمع بين الروايتين على وجه يحتمل وقد جمع بينهما أبو العباس بن فريح فأحسن الجمع، وسئل عنه وعن حديث عمر: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: «نعم؛ إذا توضأ أحدكم؛ فليرقد»، ففسر ذلك فيه: الوضوء وبه نأخذ، ومنهم ابن قتيبة؛ فإنه قال: يمكن أن يكون الأمران جميعًا وقعا؛ فالفعل لبيان الاستحباب، والترك لبيان الجواز ومع هذا قالوا: إنا وجدنا لحديث أبي إسحاق شواهد ومتابعين، فممن تابعه: عطاء، والقاسم، وكُريب، والدستوائي، كما ذكره أبو إسحاق الحري، قال: وأحسن الوجوه في ذلك إن صح حديث أبي إسحاق، فيما رواه ووافقه هؤلاء أن تكون عائشة أخبرت الأسود: أنه كان ربما يتوضأ وربما أخر الوضوء والغسل حتى يصبح، فأخبر الأسود إبراهيم أنه كان يتوضأ، وأخبر أبا إسحاق أنه كان يؤخر الغسل، وهذا أحسن الوجوه.
فإن قلت: قد روي عن عائشة ما يضاد ما روي عنها أولًا: هو أن الحافظ الطحاوي روى من حديث الزُّهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل كفيه)، ويروى عنها: (أنه كان يتوضأ وضوءه للصلاة)؟
قلت: أجيب عن هذا بأنها لما أخبرت بغسل الكفين بعد أن كانت علمت بأنه عليه السلام أمر بالوضوء التامفدل ذلك على ثبوت النسخ عندها.
وزعم ابن حجر أن الطحاوي جنح إلى أن المراد بالوضوء التنظيف، واحتج بأن ابن عمر راوي الحديث وهو صاحب القصة كان يتوضأ وهو جنب ولا يغسل رجليه، كما رواه مالك في «الموطأ» عن نافع.
وأجيب: بأنه ثبت تقييد الوضوء بالصَّلاة في رواية من رواية عائشة؛ فيعتد بها، ويحمل قول
%ص 313%
ابن عمر: (غسل رجليه)، إن ذلك كان لعذر.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا القائل ما أدرك كلام الحافظ الطحاوي ولا ذاق معناه؛ فإنه قائل بورود هذه الرواية عن عائشة، ولكنه حملها على النسخ، كما ذكرناه، وكذلك ما روي عن ابن عمر حمله على النسخ؛ لأنَّ فعله هذا بعد علمه أنه عليه السلام أمر بالوضوء التام في الجنب يدل على ثبوت النسخ عنده؛ لأنَّ الراوي إذا روى شيئًا عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو علمه منه، ثم فعل أو أفتى بخلافه؛ يدل على ثبوت النسخ عنده؛ لأنَّه لو لم يثبت ذلك؛ لما كان له الإقدام على خلافه، وكذلك روى من قول ابن عمر ما رواه من حديث أيُّوب عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: «إذا أجنب الرجل وأراد أن يأكل، أو يشرب، أو ينام؛ غسل كفيه، وتمضمض، واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، وغسل فرجه، ولم يغسل قدميه»، فهذا قول هذا القائل، ويحتمل ترك ابن عمر غسل رجليه على أرضه كان لعذر) انتهى كلامه رضي الله عنه.
واعترضه العجلوني فزعم أنه لو كان كما قال من أنهما يريان النسخ وأن الطحاوي يعلم بذلك؛ لما احتج بحديثهما؛ فتأمل.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإن ما قاله إمام الشارحين هو الحق من أنهما يريان النسخ، كما يعلم ذلك من تتبع ما قدمناه عن الحافظ الطحاوي، وأنه جزم بحمل ما روى عنهما على النسخ، كما بينا الكلام في ذلك.
وقوله: (وأن الطحاوي يعلم ذلك) لا يخفى أن الحافظ الطحاوي يعلم ذلك من حين كان العجلوني منيًّا في ظهر آبائه في عجلون، كيف لا يعلم وقد أطبق الحفاظ على حفظه وإتقانه وضبطه؟!
وقوله: (لما احتج ... ) إلخ ممنوع؛ فإنه لم يحتج بحديثهما، بل رواه وبيَّن طرقه ورواياته ولا يلزم من ذكر ذلك أن يحتج بذلك؛ فإن المحدثين كثيرًا ما يروون الأحاديث ولا يأخذون بها؛ فهو لا يدل على احتجاجهم بها، كما زعمه هذا القائل المتعصب، على أن هذا القائل لم يفرق بين الناسخ والمنسوخ، وإنما تعلق هذا القائل بما زعمه ابن حجر في أول كلامه وهما ممنوعان؛ فأي دليل دلهما على أنه احتج بحديثهما؟! وما هي إلا دعوى باطلة، بل إنَّما جزم بالنسخ وادَّعاه وتكلم على بيان الروايات، ولا يلزم من ذكرها الاحتجاج بها؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري»: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن رقاد الجنب في البيت يقتضي جواز كينونته فيه؛ أي: استقراره فيه يقظانًا؛ لعدم الفارق، ولأن نومه مسلتزم للجواز؛ لوجود اليقظة بين نومه ووضوئه، ولا فرق بين القليل والكثير)، والله تعالى أعلم، واستغفر الله العظيم.
==========
[1] في الأصل: (اضطلاعهم)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الصلاة).
[3] في الأصل: (فقدم)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (اضطلاعهم)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الصلاة).
[1] في الأصل: (اضطلاعهم)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (الصلاة).
(1/494)
(27) [باب الجنب يتوضأ ثم ينام]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين وعدمه: (الجنب يتوضأ، ثم ينام)؛ أي: في بيان حكمه والمناسبة بين البابين ظاهرة.
==================
(1/495)
[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ]
288# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا يحيى ابن بُكير)؛ بضمِّ الموحدة؛ مصغرًا، نسبه إلى جده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو يحيى بن عبد الله بن بكير المصري (قال: حدثنا الليث)؛ هو ابن سعد _بسكون العين المهملة_ المصري إمام أهل مصر من أتباع الإمام الأعظم رضي الله عنه، (عن عبيد الله) بالتصغير (بن أبي جعفر)؛ هو أبو بكر الفقيه المصري المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئة، (عن محمَّد بن عبد الرحمن) أبو الأسود الأسدي المدني المشهور بيتيم عروة بن الزبير، كان أبوه أوصى به إليه، المتوفى آخر سلطنة بني أمية، (عن عُروَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وفتح الواو، هو ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة) أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أفادت لفظة (كان) على أن ذلك عادته على الدوام والاستمرار؛ لأنَّها تدل على ذلك (إذا أراد أن ينام وهو جنب): جملة اسمية محلها النصب؛ لأنَّها حالية، وقوله: (غسل فرجه)؛ أي: القبل والدبر وما حولهما مما بقي عليها من المني وغيره جواب (إذا) (وتوضأ للصلاة)؛ أي: وضوءًا مختصًا بالصَّلاة؛ يعني وضوءًا شرعيًّا لا وضوءًا لغويًّا، وليس معناه أنه توضأ لأداء الصَّلاة له قبل الغسل؛ لأنَّه ممنوع، أو يقدر محذوف؛ أي: توضأ وضوءًا كما توضأ للصلاة، وفي بعض الروايات: (توضأ وضوءه للصلاة)، كذا قرره في «عمدة القاري».
قلت: وفي الحديث: أن غسل الجنابة على التراخي لا على الفور، وإنما يتضيق في آخر الوقت، وهذا من عادته الكريمة؛ لما سبق قريبًا، وقدمنا أنه عليه السلام نام وهو جنب من غير وضوء بيانًا للجواز؛ لأنَّه نادر؛ فليحفظ.
وفي الحديث: أن المني نجس؛ لقوله: (غسل فرجه)، وإنما أصابه المني وفيه أن وقت الجماع إنَّما يكون بعد صلاة العشاء الأخيرة، والله أعلم.
==========
%ص 314%
==================
(1/496)
[حديث: استفتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب]
289# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) هو التبوذكي (قال: حدثنا جُويرة)؛ بضمِّ الجيم، تصغير جارية، هو ابن أسماء بن عبيدة الصيفي، فاسمه واسم أبيه مما هو غالب في النساء، وكنيته أبو مِخراق _بكسر الميم_ أو أبو المُخارق _بضمِّها_، البصري المتوفى سنة ثلاث وسبعين ومئة، (عن نافع) مولى ابن عمر، (عن عبد الله)؛ أي: ابن عمر، وفي رواية ابن عساكر: (عن ابن عمر) (قال: استفتى عمر)؛ هو ابن الخطاب؛ أي: والده (النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: طلب عمر الفتوى من النبيِّ عليه السلام، فالسين والتاء (للطلب) فقال عمر للنبيِّ عليه السلام: (أينام)؛ الهمزة للاستفهام (أحدنا) فهو بيان لصورة الاستفتاء (وهو جنب): جملة حالية؟ (قال)،وفي رواية: (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (نعم) جواب الاستفتاء؛ أي: نعم ينام أحدنا وهو جنب؛ (إذا توضأ) ولمسلم من طريق ابن جُريج عن نافع: (ليتوضأ، ثم لينم)؛ أي: وضوءه للصلاة، فالمراد بالوضوء: الشرعي لا اللغوي، وهو للندب والاستحباب عند الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور من الفقهاء وغيرهم، وذهب أهل الظاهر وابن حبيب المالكي أنه للوجوب، وهو المنقول عن مالك، والشافعي، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالوضوء اللغوي الذي هو غسل اليدين، والذكر، والأذى، والروايات السابقة تدل هذا كما بيناه؛ فافهم.
==================
(1/497)
[حديث: توضأ واغسل ذكرك ثم نم]
290# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن عبد الله بن دينار)، قال في «عمدة القاري»: هكذا رواه مالك في «الموطأ» عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وكذا رواه أبو زيد، ورواه ابن السكن عن الفربري فقال: مالك عن نافع، وقال الجياني في بعض النسخ جعل (نافعًا) بدل (عبد الله بن دينار)، وكلاهما صواب؛ لأنَّ مالكًا يروي هذا الحديث عنهما، لكنه برواية عبد الله أشهر، وقال ابن عبد البر: الحديث لمالك عنهما جميعًا، لكن المحفوظ عن عبد الله بن دينار، وحديث نافع غريب.
قلت: (لا غرابة فيه؛ لأنَّه رواه عنه كذلك عن نافع خمسة أو ستة، ولكن الأول أشهر) انتهى؛ فافهم.
(عن عبد الله بن عمر) أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما (أنه قال: ذكر عمر)؛ هو والده ابن الخطاب رضي الله عنه (لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وهذا يقتضي أن يكون الحديث من مسند ابن عمر كما يأتي: (أنه)؛ بفتح الهمزة لتقدير الباء الثابتة في رواية الحمُّوي والمستملي، والضمير فيه وفي قوله: (تصيبه الجنابة من الليل)؛ أي: فيه يرجع إلى عبد الله بن عمر لا إلى عمر يدل عليه رواية النسائي من طريق ابن عون عن نافع قال: أصاب ابن عمر جنابة، فأتى عمر رضي الله عنه فذكر ذلك له؛ فأتى عمر النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فاستأمره، فقال: «ليتوضأ وليرقد».
%ص 314%
(فقال له) ولفظة (له) ليست بموجودة في رواية الأَصيلي (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) مخاطبًا لابن عمر إن كان حاضرًا، ويحتمل أنَّ الخِطَاب لعمر جوابًا لاستفتائه وهو في الحقيقة لابنه.
فإن قلت: ظاهر عبارة المؤلف يدل على أن الضمير في (أنه) و (له) يرجع إلى عمر؟
قلت: الظاهر كذا رواية النسائي أن الضمير لعبد الله، فكأنه حضر إلى رسول الله عليه السلام بعد أن ذكر عمر ذلك؛ فلهذا خاطبه وإن لم يكن حضر؛ فالخطاب لعمر؛ لأنَّه جواب استفتائه، ولكنه يرجع إلى ابنه عبد الله؛ لأنَّ الاستفتاء من عمر؛ لأجل عبد الله، كما دل عليه ما رواه النسائي، كذا قرره في «عمدة القاري».
(توضأ)؛ أي: وضوءك للصلاة كما دلت عليه الروايات السابقة، (واغسل ذكرك)؛ معناه: اجمع بينهما؛ لأنَّ (الواو) لا تدل على الترتيب، كما هو الأصل؛ لأنَّه من المعلوم أن يقدم غسل الذكر على الوضوء، وفي رواية أبي نوح عن مالك: «اغسل ذكرك، ثم توضأ»، وهو على الأصل، وفيه رد على من حمل الرواية الأولى على ظاهرها، وأجاز تقديم الوضوء على غسل الذكر؛ لأنَّه ليس بوضوء ينقضه الحدث، وإنما هو للتعبد، كذا قاله في «عمدة القاري»، (ثم نم)؛ أي: ما تيسر لك من الليل، وفيه: من أنواع البديع تجنيس التصحيف، وقوله: (توضأ) أدل على الوجوب، وقد قدمنا أن الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور على أن المراد بالوضوء: الشرعي وأنه للندب والاستحباب، واختلفوا في الحكمة فيه.
فقال في «عمدة القاري»: قيل: فيه تخفيف الحدث، لا سيما على القول بجواز تفريق الغسل؛ فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء وإن لم ينو، ويدل عليه ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: (إذا أجنب أحدكم من الليل، ثم أراد أن ينام؛ فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة)، وقيل: لأنَّه إحدى الطهارتين، فعلى هذا؛ يقوم التيمم مقامه، وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها: (أنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ، أو تيمم)، قال في «عمدة القاري»: (الظاهر: أن التيمم هذا كان عند عدم الماء، وقيل: لينشط إلى العود، أو إلى الغُسل).
وقال ابن الجوزي: (الحكمة فيه: أن الملائكة تبعد عن الوسخ والريح الكريهة، بخلاف الشياطين، فإنها تقرب من ذلك) انتهى.
وقيل: ليبيت على إحدى الطهارتين؛ خشية الموت في المنام.
وقال في «منهل الطلاب»: (وليس على الحائض والنفساء الوضوء عند إرادة النوم؛ لأنَّها لو اغتسلت؛ لم يرتفع حدثها، بل هي مضمخة بالنجاسة؛ فلا يطلب منها، فإذا انقطع دمها لتمام عادتها؛ فقد وجب عليها الغسل؛ فلا فائدة في الوضوء هنا إلا إذا أرادت الاغتسال، فيندب لها الوضوء قبله) انتهى وبه قال الشافعي.
وفي «المنية»: (إذا أراد الجنب الأكل والشرب؛ ينبغي له أن يغسل يديه وفاه، ثم يأكل أو يشرب؛ لأنَّه يورث الفقر) انتهى؛ أي: لأنَّ الأكل والشرب بدون ما ذكر سبب للفقر، كذا في «الحلية»، وفي «الفتاوى الخانية»: (المستحب له ذلك، وإن ترك؛ لا بأس به) انتهى.
لكن في «منهل الطلاب»: (أن تركه مكروه)، ونص أئمتنا وصرح به في «الدر المختار» وغيره أنه يكره النوم قبل الوضوء، ولا خلاف عندنا أن هذا الوضوء ليس بواجب، وهذا بخلاف الحائض إذا أرادت الأكل؛ لأنَّ سؤرها لا يصير مستعملًا ما لم تُخَاطب بالاغتسال ذكره في «شرح المنية»، وفي «الخانية»: واختلفوا في الحائض قيل: كالجنب، وقيل: لا يستحب لها؛ لأنَّ الغسل لا يزيل نجاسة الحيض عن الفم واليدين، وتمامه في «الحلية»، قال في «منهل الطلاب»: (والنفساء كالحائض، وينبغي لهما، ويستحب غسل اليدين للأكل بلا خلاف؛ لأنَّه يستحب للطاهر؛ فهما أولى، ولهذا قال في «الخلاصة» إذا أرادت أن تأكل؛ تغسل يديها، وفي المضمضة خلاف) انتهى.
وينبغي أرجحية القول باستحبابها أيضًا، كما لا يخفى.
وفي «جامع الفتاوى» وغيرها: (وللحائض والجنب زيارة القبور، وقراءة الدعوات، وإجابة المؤذن، ونحوها) انتهى؛ أي: من تسبيح وتهليل، ودخول مصلى عيد، وجنازة، كما صرح غير واحد من أئمتنا الأعلام، وقدمنا عن ابن عمر أن المراد بالوضوء: اللغوي، فإذا أراد الأكل؛ يندب لهم هذا الوضوء وهو ظاهر رواية مسلم السابقة، وقال مالك: له أن يأكل قبل أن يتوضأ إلا أن يكون في يديه قذر؛ فيغسلهما وهل ينتقض وضوء الجنب بالحدث الأصغر؟
فعندنا: لا ينتقض؛ لأنَّه للتعبد، وليس بوضوء ينقضه الحدث، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وبه قال الإمام مالك، وقال اللخمي من أصحاب مالك: ينتقض، ولم يتعرض العجلوني لمذهب إمامه هنا: ما الحكم فيه مع شدة تعصبه لمذهب إمامه، وبيانه ولعله خفي عليه الحكم وهو ظاهر؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
==================
(1/498)
(28) [باب إذا التقى الختانان]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان حكم ما (إذا التقى) أي: اجتمع (الختانان)؛ يعني: ختان الرجل وختان المرأة، فـ (إذا) شرطية وجوابها محذوف؛ أي: فقد وجب الغسل، ويحتمل أن تكون (إذا) لمجرد الظرفية؛ فلا جواب لها، والـ (باب) مضاف إليها على تقدير مضافين؛ أي: بيان حكم الغسل وقت التقاء الختانين، والأول الأظهر، كما لا يخفى.
وزعم ابن حجر أن المراد بهذه التثنية ختان الرجل وخفاض المرأة، وإنما ثنيا بلفظ واحد؛ تغليبًا له.
قال في «عمدة القاري»: (وذكر هذا هكذا بناء على عادة العرب؛ فإنهم يختنون النساء، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «الختان للرجال سنة، وللنساء مكرمة»، رواه الإمام الخصاف في «أدب القاضي» عن شداد بن أوس رضي الله عنه).
قلت: وعلى هذا؛ فلا تغليب، كما زعمه هذا القائل؛ فليحفظ، ثم الختان: قطع الجلدة؛ وهي ما دون حزة الحشفة وهي الكمرة، وكذا الختن، والخفاض: قطع جلدة في أعلى الفرج تشبه عرف الديك بينها وبين مدخل الذكر جلدة رقيقة، وكذلك الخفض؛ لأنَّ مدخل الذكر هو مخرج المني والولد والحيض، وفوق مدخل الذكر مخرج البول؛ كإحليل الرجل وبينهما جلدة رقيقة يقطع منها في الختان، والمراد بالتقائهما: اجتماعهما ومحاذاتهما، وهو عبارة عن إيلاج الحشفة كلها في قُبل أو دُبر، والمراد بالحشفة: ما فوق الختان، كما في «القاموس».
واختلفوا في الموجب للغسل، فقال في «النهاية»: (هذه المعاني موجبة للجنابة لا للغسل على المذهب الصحيح؛ لأنَّها تنقض الغسل، فكيف توجبه؟ لأنَّ الناقض للشيء لا يكون مثبتًا له).
واعترضه في «غاية البيان»: (بأن المراد أن الغسل يجب بهذه المعاني على طريق البدل، وإنما يتوجه ما اعترض به إذا كانت هذه المعاني موجبة لوجود الغسل لا لوجوبه، واعترض أيضًا بأنها تنقض ما كان، وتوجب ما سيكون، فلا منافاة).
وأجاب في «المستصفى»: (بأن هذه المعاني شروط في الوجوب لا أسباب، فأضيف الوجوب إلى الشرط مجازًا؛ لأنَّ السبب يتعلق به الوجود والوجوب، والشرط يضاف إليه الوجود، فشارك الشرط السبب في الوجود) انتهى.
وقال العلامة سعدي أفندي: (الجمهور: على أن هذه المعاني شروط لا أسباب؛ لمنافاتها الطهارة، فجعلها موجبات تسامح) انتهى.
واختار شيخ الإسلام في «المبسوط»: (أن سبب وجوب الغسل إرادة ما لا يحل فعله بسبب الجنابة من صلاة، وقراءة قرآن عند عامة المشايخ).
واعترضه في «غاية البيان»: (بأن الغسل يجب إذا وجد أحد هذه المعاني، سواء وجدت الإرادة أو لم توجد).
ورده في «العناية» قال:
%ص 315%
(وفيه نظر؛ لأنَّ فائدة الوجوب للأداء وهو أمر اختياري، فأضيف الوجوب إلى الأداء؛ لهذا المعنى)؛ فتأمل.
وقيل: إن السبب الجنابة أو ما في معناها، واختاره في «غاية البيان».
وقيل: إن السبب وجوب ما لا يحل مع الجنابة، واختاره المحقق في «فتح القدير».
وقيل: إن السبب إرادة ما لا يحل فعله بسبب الجنابة من صلاة، وقراءة قرآن، ودخول مسجد، ومس مصحف، واختاره في «الكافي»، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام في «المبسوط»، وتمامه في شرحنا على «القدوري» المسمى بـ «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب.
==================
(1/499)
[حديث: إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل]
291# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُعاذ) بضمِّ الميم أوله، وبالذال المعجمة آخره (بن فَضالة) بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة، البصري (قال: حدثنا هشام)؛ هو الدستوائي. (ح): مهملة بين الإسنادين من التحويل، وتقدم أن الأصح أنها للتحويل، قال العجلوني: وفي بعض النسخ هي ساقطة؛ لإغناء الواو عنها في قوله: وحدثنا) انتهى.
قلت: وهو ممنوع فإن فائدة ثبوت (ح) الإشارة إلى تعدد الإسناد، وهي للتحويل من إسناد إلى آخر، و (الواو) لا تدل على هذا بدونها، الأصح ضمها إليه، فهما متلازمان في الدلالة؛ فافهم.
(وحدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون، وسكون التحتية، هو الفضل بن دُكين؛ بضمِّ الدال المهملة، (عن هشام)؛ هو الدستوائي السابق، وإنما فرقهما؛ لأنَّ أبا نعيم قال: (عن)، ومعاذًا قال: (حدثنا)، والرواة إلى الصحابي كلهم بصريون، كذا في «عمدة القاري»، (عن قَتادة) بفتح القاف، هو ابن دعامة المفسر، (عن الحسن) هو البصري، (عن أبي رافع)؛ هو نُفيع _بضمِّ النون_ مصغرًا الصائغ؛ بالمهملة آخره معجمة، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه (قال: إذا جلس) الضمير المرفوع فيه، وفي (جهد) يرجع إلى (الرجل)، وأما الضمير الذي في (شعبها) وفي (جهدها) يرجعان إلى المرأة، وإن لم يمض ذكرها؛ لدلالة السياق عليه، كما في قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، كذا في «عمدة القاري»، وقد صرح بذلك في رواية لابن المُنْذِر من وجه آخر عن أبي هريرة قال: إذا غشي الرجل امرأته فقعد (بين شُعَبها الأربع)؛ بضمِّ الشين المعجمة، وفتح العين المهملة، جمع شعبة، ويروى: (أشعبها) جمع شعيب، وقال ابن الأثير: الشعبة: الطائفة من كل شيء، والقطعة منه، والشعب: النواحي، واختلفوا في المراد بالشعب الأربع؛ فقيل: هي اليدان والرجلان، وقيل: الرجلان والفخذان، وقيل: الرجلان والشفران، واختار القاضي عياض: أن المراد من الشعب الأربع: نواحيها الأربع، والأقرب أن يكون المراد اليدين والرجلين والفخذين، ويكون الجماع مكنيًّا عنه بذلك يكتفى بما ذكر عن التصريح، وإنما رجح هذا؛ لأنَّه أقرب إلى الحقيقة في الجلوس بينهما، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، (ثم جَهَدها)؛ بفتح الهاء والجيم؛ أي: بلغ جهده في العمل فيها، وقيل: بلغ مشقتها، يقال: جهدته وأجهدته [1]؛ إذا بلغت مشقته، وقيل معناه: كدها بحركته.
وفي رواية مسلم من طريق شعبة عن قتادة: (ثم اجتهد)، وقيل: الجهد من أسماء النكاح، فمعنى (جَهَدها): جامعها، وإنما عدل إلى الكناية؛ للاجتناب عما يفحش ذكره صريحًا، وروى أبو داود من طريق شعبة وهشام معًا، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان؛ فقد وجب الغسل»؛ أي: موضع الختان بموضع الختان؛ لأنَّ الختان اسم للفعل، وهذا يدل على أن الجهد هنا كناية عن معالجة الإيلاج.
وفي رواية البيهقي من طريق ابن أبي عَروبة عن قتادة: (إذا التقى الختانان؛ فقد وجب الغسل)، ورواه ابن ماجه من طريق القاسم بن محمَّد، عن عائشة برجال ثقات، ورواه مسلم من طريق أبي موسى الأشعري، عن عائشة، ولفظه: (مس الختان الختان)، والمراد بالمس: الالتقاء، يدل عليه رواية الترمذي، ولفظه: (إذا جاوز)، وليس المراد حقيقة المس حتى لو حصل المس بدون التقاء الختانين؛ فلا يجب الغسل بلا خلاف، كذا في «عمدة القاري».
(فقد وجب الغسل)؛ أي: على كل من الرجل والمرأة، ولا يتوقف على نزول المني، بل متى غابت الحشفة في الفرج؛ وجب الغسل عليهما وإن لم يوجد الإنزال، يدل عليه رواية مسلم من طريق ابن الوراق، عن الحسن في آخر هذا الحديث: (وإن لم ينزل)، ووقع ذلك في رواية قتادة أيضًا.
رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» عن عفان قال: حدثنا همام وأبان؛ قالا: أخبرنا قتادة به، وزاد في آخره: (أنزل أو لم ينزل)، وكذا رواه الدارقطني، وصححه من طريق علي بن سهل، عن عفان، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي عن حمَّاد بن سَلَمَة، عن قتادة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قبلًا أو دبرًا، طائعًا أو مكرهًا، نائمًا أو مستيقظًا، فإن الفسقة يرجحون قضاء الشهوة من الدبر على قضائها من القبل؛ لما يدعون فيه من اللين والحرارة والضيق، والمراد: غيبوبة الحشفة أو قدرها من مقطوعها، أما مجرد التلاقي؛ فلا يوجب الغسل، لكنه يوجب الوضوء عند الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف؛ لأنَّ ذلك لا يخلو على ظهور مذي غالبًا، فصار كالمتحقق، وقال الإمام محمَّد: لا يجب حتى يظهر المذي.
وقيدنا بالرجل والمرأة؛ لأنَّه لو أولج في فرج بهيمة؛ لا يجب الغسل إلا بالإنزال، لكنه يعزَّر وتذبح البهيمة وتحرق على وجه الاستحباب، ولا يحرم أكل لحمها، كذا في «القنية»، وكذلك الميتة إذا أولج في فرجها لا يجب الغسل إلا أن ينزل، ولا يجب الوضوء فيه في المسألتين كما في «شرح النقاية» للعلامة القهستاني، لكنه يغسل ذكره ندبًا، وقيدنا بالرجل والمرأة احتراز عن الصغيرة الغير المشتهاة؛ فلا يجب الغسل بوطئها إلا أن ينزل؛ لعدم كمال السببية، وقال في «السراج»: (فيه خلاف؛ فقيل: يجب الغسل مطلقًا سواء أفضاها _أي: خلط مسلك سبيلها_ أم لا، وقيل: لا يجب مطلقًا، والصحيح: أنه إذا أمكن الإيلاج في محل الجماع من الصغيرة ولم يفضها فهي ممن يجامع مثلها؛ فيجب الغسل، لكن قد صرحوا بأن وجوب الغسل مشروط بزوال البكارة، كما هو مشروط في الكبيرة، ففيها بالأولى)، وقال في «البحر»: (بقاء البكارة دليل على عدم الإيلاج، فلا يجب الغسل)، كما اختاره في «النهاية»، والمراد بالصغيرة: التي لا يجامع مثلها هي بنت ست مطلقًا، أو سبع، أو ثمان إذا لم تكن عبلة؛ أي: سمينة ضخمة، كما في «شرح المنية»، ولو لف على ذكره خرقة وأولج ولم ينزل، قال بعضهم: يجب الغسل، وقال بعضهم: لا يجب، والأصح أنه إن كانت الخرقة رقيقة بحيث يجد حرارة الفرج واللذة؛ وجب الغسل، وإلا؛ فلا، والأحوط وجوب الغسل في الوجهين، كذا في «البحر» عن «السراج».
والصبي ابن عشر لو جامع زوجته البالغة؛ يجب عليها الغسل؛ لوجود إيلاج الحشفة، ولا يجب عليه؛ لانعدام الخطاب إلا أنه يؤمر بالغسل تخلقًا واعتيادًا، كما في «الخانية»، ولا بد أن يكون الصبي ممن يشتهى؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك؛ لا يجب عليها الغسل، كما في «الدر»؛ لأنَّ ذكره بمنزلة الإصبع، ولا يجب الغسل بإدخال إصبع ونحوه؛ كذكر غير آدمي؛ كجني، وقرد، وحمار، وذكر خنثى مشكل، وذكر ميت، وصبي لا يشتهى، وما يضع على صورة الذكر من خشب ونحوه في الدبر أو القبل على المختار، كما في «التجنيس».
لكن في «حواشي نوح أفندي»، و «شرح المنية»: (أن المختار وجوب الغسل في القبل إذا قصد الاستمتاع؛ لغلبة الشهوة فيهن، فأقيم السبب مقام المسبب وهو
%ص 316%
الإنزال دون الدبر؛ لعدمها) انتهى.
ولو كان ذكره طويلًا، فعبث فيه حتى أدخله في دبر نفسه هل يجب عليه الغسل؟ فيه قولان رجح في «النهر» عدم الوجوب إلا بالإنزال، فإذا أنزل؛ وجب الغسل، وإلا؛ فلا، ورجح في «منهل الطلاب» الوجوب؛ يعني: يجب عليه الغسل وإن لم ينزل؛ زجرًا له ولتحقق الإيلاج؛ فليحفظ.
قال: وكبر الذكر دليل على رداءة الأصل وصغره على حسنه، كذا قالوا؛ فليحفظ.
هذا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، ومذهب مالك، والشافعي، وأحمد: (أنه يجب الغسل على كل من الرجل والمرأة بمجرد تغيُّب الحشفة في الفرج وإن لم يحصل إنزال سواء كان الفرج قبلًا أو دبرًا، من آدمي أو بهيمة، حيًّا أو ميتًا، طائعًا أو مكرهًا، نائمًا أو مستيقظًا) انتهى.
قلت: وإيجابهم في البهيمة والميتة الغسل نظر؛ لأنَّ كمال السببية معدومة فيهما، ولأنَّه لا تتحقق الشهوة فيهما إلا بالإنزال فجعل سببًا للوجوب، أما الإيلاج فقط؛ فالوجوب به غير ظاهر؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه؛ لأنَّ صريح الحديث يدل على الآدمي الحي بخلاف غيره، فبقي على الأصل وهو وجود الإنزال؛ فليحفظ.
قال صاحب «عمدة القاري»: يستنبط من الحديث المذكور: أن إيجاب الغسل لا يتوقف على نزول المني، بل متى غابت الحشفة؛ يجب الغسل عليهما وإن لم ينزلا وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان الخلاف فيه في الصدر الأول، فإن جماعة ذهبوا إلى أن من وطئ في الفرج ولم ينزل؛ فليس عليه غسل، وممن ذهب إلى هذا عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، ورافع بن خديج، وأبو [2] سَعِيْد الخدري، وأُبيُّ بن كعب، وأبو [3] أيُّوب الأنصاري، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، وجمهرة الأنصاري رضي الله عنهم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، وأبي سَلَمَة بن عبد الرحمن، وهشام بن عروة، والأعمش، وبه قالت الظاهرية، واحتجوا بآثار:
منها: ما رواه المؤلف من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه الآتي في الباب بعده، وأخرجه مسلم أيضًا والحافظ الطحاوي، والبزار، ولفظه: (عن زيد بن خالد الجهني: أنه سأل عثمان عن الرجل يجامع ولا ينزل؟ فقال: ليس عليه إلا الوضوء، وقال عثمان: أشهد أني سمعت ذلك من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم).
ومنها: حديث أُبيِّ بن كعب رواه مسلم عنه قال: سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الرجل يصيب من المرأة، ثم يكسل؟ فقال: «يغسل ما أصابه من المرأة، ثم يتوضأ»، وأخرجه الحافظ الطحاوي، وابن أبي شيبة، وأحمد ابن حنبل.
ومنها: حديث أبي سَعِيْد الخدري أخرجه الشيخان عنه: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مر على رجل من الأنصار فأرسل إليه؛ فخرج ورأسه يقطر فقال: «لعلنا أعجلناك؟» قال: نعم؛ يا رسول الله، قال: «إذا [4] أعجلت أو قحطت؛ فلا غسل عليك وعليك الوضوء»، وأخرج مسلم عنه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الماء من الماء»، وأخرجه الطحاوي أيضًا.
ومنها: حديث أبي هريرة أخرجه الحافظ الطحاوي عنه قال: بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى رجل من الأنصار؛ فأبطأ فقال: «ما حبسك؟» قال: كنت أصبت أهلي؛ فلما جاءني رسولك؛ اغتسلت من غير أن أحدث شيئًا، فقال: «الماء من الماء والغسل على من أنزل».
ومنها: حديث عتبان الأنصاري رواه أحمد عنه وابن عتبان الأنصاري قال: يا نبي الله؛ إني كنت مع أهلي؛ فلما سمعت صوتك؛ أقلعت فاغتسلت، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الماء من الماء».
ومنها: حديث رافع بن خديج أخرجه الطبراني وأحمد عنه: نادى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل، فاغتسلت فأخبرته أنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل فاغتسلت، فقال عليه السلام: «الماء من الماء».
ومنها: حديث عبد الرحمن بن عوف، أخرجه أبو يعلى عنه.
ومنها: حديث عبد الله بن عباس، أخرجه البزار عنه.
ومنها: حديث عبد الله بن عبد الله بن عقيل، أخرجه معمر بن راشد عنه في «جامعه»، وفي آخر هذه الأحاديث: «الماء من الماء»، وحجة الجمهور حديث الباب وحديث عائشة رضي الله عنها: (أنها سئلت عن الرجل يجامع فلا ينزل؟ فقالت: فعلته أنا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاغتسلنا منه جميعًا)، أخرجه الحافظ الطحاوي، وأخرجه الترمذي عنها أيضًا، ولفظه: (إذا جاوز الختان الختان؛ وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فاغتسلنا)، وهذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه أيضًا، فعائشة رضي الله عنها أعلم بهذا؛ لأنَّها شاهدت ذلك وعاينته عملًا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقولها أولى وأحق ممن لم يشاهد ذلك.
وروى مالك عن يحيى بن سَعِيْد، عن سَعِيْد بن المسيِّب: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أتى عائشة أم المؤمنين فقال: لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أمر إني لأعظم أن استقبلك به فقالت: (ما هو؟ ما كنت سائلًا عنه أمك؛ فسلني عنه)، فقال لها: الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل، قالت: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال أبو موسى: لا أسأل أحدًا عن هذا بعدك أبدًا)، وأخرجه البيهقي من طريقه، وقال أحمد: هذا إسناد صحيح إلا أنه موقوف على عائشة، وقال أبو عمر: هذا الحديث موقوف في «الموطأ» عند جماعة من رواته، وروى موسى بن طارق، وأبو قرة عن مالك، عن يحيى بن سَعِيْد، عن سَعِيْد بن المسيِّب، عن أبي موسى، عن عائشة: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إذا التقى الختانان؛ وجب الغسل»، ولم يتابع على رفعه عن مالك.
وأخرج الحافظ الطحاوي أيضًا عن عائشة مرفوعًا، وأخرجه عن جابر بن عبد الله قال: أخبرتني أم كلثوم عن عائشة: (أن رجلًا سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الرجل يجامع أهله، ثم يكسل: هل عليه غسل؟) وعائشة جالسة فقال عليه السلام: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل».
قالوا: فهذه الآثار أخبرت عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه كان يغتسل إذا جامع وإن لم ينزل، وقالت الطائفة الأولى: هذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد يجوز أن يفعل ما ليس عليه؛ يعني: كان يفعله بطريق الاستحباب لا بطريق الوجوب؛ فلا يتم الاستدلال بها والآثار الأُوَل تخبر عما يجب وعما لا يجب، فهي أولى.
وأجاب الجمهور عن هذا: أن هذه الآثار على نوعين؛ أحدهما: «الماء من الماء» لا غير، فهذا ابن عباس قد روى عنه أنه قال: مراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من هذا أن يكون في الاحتلام، وأخرج الترمذي عن علي بن حجر، عن شريك، عن أبي [5] الجحاف، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: (الماء من الماء في الاحتلام)؛ يعني: إذا رأى أنه يجامع ثم لم ينزل؛ فلا غسل عليه، والنوع الآخر الذي أمر [6] وأخبر فيه بالقصة وأنه لا غسل في ذلك حتى يكون الماء، قد جاء خلاف ذلك عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وهذا ناسخ لتلك الآثار.
فإن قلت: ليس فيه دليل على النسخ؛ لعدم التعرض إلى شيء من التاريخ؟
قلت: قد جاء ما يدل على النسخ صريحًا، روى أبو داود: حدثنا أحمد بن
%ص 317%
صالح: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو _يعني: ابن الحارث_ عن ابن شهاب قال: حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد الساعدي أخبره: أن أُبيَّ بن كعب أخبره: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام؛ لقلة الثبات، ثم أمرنا بالغسل ونهى عن ذلك، قال أبو داود: يعني: الماء من الماء، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا.
وأخرج أبو داود أيضًا: حدثنا محمَّد بن مهران الرازي قال: أخبرنا مبشر الحلبي عن محمَّد أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: حدثني أُبيُّ بن كعب: أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد، وأخرجه ابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
فإن قلت: الحديث الأول مجهول وهو قوله: (حدثني بعض من أرضى).
قلت: الظاهر: أنه أبو حازم سَلَمَة بن دينار الأعرج؛ لأنَّ البيهقي روى هذا الحديث، ثم قال: ورويناه بإسناد آخر موصول عن أبي حازم، عن سهل بن سعد؛ الحديث محفوظ عن أُبيِّ بن كعب كما أخرجه أبو داود، وقال ابن عبد البر في «الاستذكار»: إنما رواه ابن شهاب عن أبي حازم، وهو حديث صحيح ثابت بنقل العدول له.
وأخرج ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن عبيد ابن رافع، عن أبيه رفاعة بن رافع قال: بينا أنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إذ دخل عليه رجل فقال: (يا أمير المؤمنين؛ هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة)، فقال عمر: (علي به)، فجاء زيد فلما رآه عمر؛ قال: (أين عدو نفسه؟ قد بلغت أنك تفتي الناس برأيك؟)، فقال: (يا أمير المؤمنين؛ بالله ما فعلت، لكن سمعت من أعمامي حديثًا فحدثت به من أبي أيُّوب، ومن أُبيِّ بن كعب، ومن رفاعة بن رافع)، فأقبل عمر على رفاعة بن رافع فقال: (وقد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم من المرأة وأكسل لم يغتسل)، فقال: (قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم يأتنا فيه تحريم ولم يكن من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيه نهي)، قال: (ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعلم ذلك؟)، قال: (لا أدري)، فأمر عمر رضي الله عنه بجمع المهاجرين والأنصار فجُمِعوا له فشاورهم، فأشار الناس أن لا غسل في ذلك إلا ما كان من معاذ وعلي رضي الله عنهما؛ فإنهما قالا: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال عمر رضي الله [عنه]: (هذا وأنتم أصحاب بدر وقد اختلفتم، فمن بعدكم أشد اختلافًا)، قال: فقال علي رضي الله عنه: (يا أمير المؤمنين؛ إنه ليس أحد أعلم بهذا من شأن [7] رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من أزواجه)، فأرسل إلى حفصة رضي الله عنها، فقالت: (لا علم لي بهذا)، فأرسل إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال عمر: لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربًا)، ورواه الحافظ الطحاوي أيضًا وفيه: (لا أعلم أحدًا فعله، ثم لم يغتسل إلا جعلته نكالًا)، ولم يتقن الكلام أحد في هذا الباب مثل الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي، فإن أراد أحد أن يتقنه؛ فعليه بكتابه «معاني الآثار» وشرحه المسمى بـ «مباني الأخبار» لشيخ الإسلام والمسلمين إمام الشارحين السيد بدر الدين محمود العيني رضي الله تعالى عنه.
قال في «عمدة القاري»: فإن قلت: ادَّعى بعضهم أن التنصيص على الشيء باسم الماء يوجب نفي الحكم عما عداه؛ لأنَّ الأنصار فهموا عدم وجوب الغسل بالانكسال من قوله عليه السلام: «الماء من الماء»؛ أي: الاغتسال واجب بالمني، فـ (الماء) الأول: هو المطهر، والثاني: هو المني، و (من) للسببية، والأنصار كانوا من أهل اللسان وفصحاء العرب، وقد فهموا التخصيص منه حتى استدلوا به على نفي وجوب الاغتسال بالإكسال لعدم الماء، ولو لم يكن التنصيص موجبًا للنفي؛ لِمَ صح استدلالهم على ذلك؟
قلت: الذي يقول هذا أبو بكر الدقاق، وبعض الحنابلة، والجواب: أن ذلك ليس من دلالة التنصيص، بل إنَّما هو من (اللام) المعرفة الموجبة للاستغراق عند عدم المعهود، ونحن نقول: هذا الكلام للاستغراق والانحصار، كما فهمت الأنصار، لكن لما دل الدليل وهو الإجماع على وجوب الاغتسال من الحيض والنفاس أيضًا؛ نفى الانحصار فيما وراء ذلك مما يتعلق بالمني، وصار المعنى: جميع الاغتسالات المتعلقة بالمني منحصر فيه لا يثبت لغيره.
فإن قلت: فعلى هذا؛ ينبغي ألا يجب الغسل بالإكسال لعدم الماء.
قلت: الماء فيه ثابت تقديرًا؛ لأنَّه تارة يثبت عيانًا، كما في حقيقة الإنزال، وتارة دلالة، كما في التقاء الختانين، فإنه سبب لنزول الماء، فأقيم مقامه بكونه أمرًا خفيًا؛ كالنوم أقيم مقام الحدث؛ لتعذر الوقوف عليه.
فإن قلت: المنسوخ ينبغي أن يكون حكمًا شرعيًّا، وعدم وجوب الغسل عند عدم الإنزال ثابت بالأصل.
قلت: عدمه ثابت بالشرع؛ لأنَّ مفهوم الحصر إنَّما يدل عليه؛ لأنَّ معنى الحصر إثبات المذكور ونفي غير المذكور، فيفيد أنه لا ماء من غير الماء) انتهى.
وزعم الكرماني أن الراجح من الحديثين؛ يعني: حديث: «الماء من الماء»، وحديث أبي هريرة المذكور في الباب حديث: «التقاء الختانين»؛ لأنَّه يدل بالمنطوق على وجوب الغسل، وحديث: «الماء من الماء» يدل بالمفهوم على عدمه، وحجة المفهوم مختلف فيها، وعلى تقدير ثبوتها؛ المنطوق أقوى من المفهوم، وعلى هذا التقدير؛ لا يحتاج إلى القول بالنسخ) انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: عدم دعوى الاحتياج إلى القول بالنسخ؛ غير صحيح؛ لأنَّ المستنبطين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما وفقوا بين الأحاديث التي في هذا الباب المتضادة إلا بإثبات النسخ على ما ذكرنا.
فإن قلت: حديث «الالتقاء» مطلق، وحديث: «الماء من الماء» مقيد، فيجب حمل المطلق على المقيد؟
قلت: سؤال الكرماني مبني على مذهبه، ثم أجاب: ليس ذلك مطلقًا، بل عامًّا؛ لأنَّ الالتقاء وصف يترتب الحكم عليه، وكلما وجد الوصف؛ وجد الحكم، وهذا ليس مقيدًا، بل خاصًّا، وكأنه قال: بالالتقاء يجب الغسل، ثم قال: بالالتقاء مع الإنزال يجب الغسل، فيصير من باب قوله عليه السلام: «أيُّما إهاب دبغ؛ فقد طهر»، وقوله عليه السلام: «دباغها طهورها»، وإفراد فرد من العام بحكم العام ليس من المخصصات) انتهى، والله تعالى أعلم.
(تابعه) أي: تابع هشامًا (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة، هو ابن مرزوق البصري أبو عثمان الباهلي، يقال: مولاهم، وصرح به في رواية كريمة، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين، (عن شعبة): هو ابن الحجاج، وزعم الكرماني أن قوله: (تابعه) يحتمل أن يراد به: عن شعبة، عن قتادة، أو عن شعبة، عن الحسن، فيختلف الضمير في (تابعه) بحسب المرجع.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا اختلاف للضمير فيه، بل هو راجع إلى هشام على كل حال) انتهى؛ فليحفظ، والله أعلم.
(مثله) أي: مثل حديث الباب، وهذا التعليق وصله هشام بن أحمد بن السماك نحو سياق حديث الباب، لكن في روايته: (ثم أجهدها) من باب الإجهاد، وتمامه في «عمدة القاري»، (وقال موسى) هو ابن إسماعيل التبوذكي: (حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (أَبان)؛ بفتح الهمزة، وتخفيف الموحدة، هو ابن يزيد العطار (قال: حدثنا قَتادة)؛ بفتح القاف، هو ابن دِعامة (قال: أخبرنا الحسن) هو البصري (مثله)؛ أي: مثل حديث الباب، ومن فوائد هذا الإسناد: أن فيه التصريح بتحديث الحسن لقتادة؛ لأنَّ في رواية حديث الباب (عن قتادة، عن الحسن)، وقتادة ثقة ثبت، لكنه مدلس، وإذا صرح بالتحديث؛ لا يبقى كلامٌ.
وزعمَ الكرماني
%ص 318%
فإن قلت: لم قال: (تابعه عمرو)، وقال: (قال موسى)، ولم يسلك فيهما طريقًا واحدًا؟ قلت: المتابعة أقوى؛ لأنَّ القول أعم من الذكر على سبيل النقل والتحميل، أو من الذكر على سبيل المجاورة والمذاكرة، فأراد الإشعار بذلك، ويحتمل سماع البخاري من عمرو وموسى؛ فلا يجزم بأنه ذكرهما على سبيل التعليق.
قال صاحب «عمدة القاري»: (قلت: كلاهما تعليق صورة، ولكن الاحتمال المذكور موجود؛ لأنَّ كليهما من مشايخ البخاري) انتهى.
وتمامه في «عمدة القاري» فإنه شرح لم يسبق بمثله، ومن أراد بيان المعاني والتحقيق والتدقيق؛ فعليه به، فإنه مشحون من الفوائد والفرائد، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم إنه تواب رحيم.
==========
[1] في الأصل: (اجتهدته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (إذ لا)، والمثبت موافق لما في «الصحيحين».
[5] سقط من الأصل: (أبي).
[6] في الأصل: (الأمر)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (فمن سأل)، والمثبت موافق لما في «المصنف».
==================
[1] في الأصل: (اجتهدته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (إذ لا)، والمثبت موافق لما في «الصحيحين».
[5] سقط من الأصل: (أبي).
[6] في الأصل: (الأمر)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (اجتهدته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (إذ لا)، والمثبت موافق لما في «الصحيحين».
[5] سقط من الأصل: (أبي).
[6] في الأصل: (الأمر)، وليس بصحيح.
(1/500)
(29) [باب غسل ما يصيب من فرج المرأة]
هذا (باب) حكم (غسل ما) موصولة، أو نكرة موصوفة (يصيب) أي: الرجل، أو العضو، أو الشيء (من) بيانية (فرج المرأة)؛ أي: امرأته، أو أمته عند الجماع.
==========
%ص 319%
==================
(1/501)
[حديث زيد: أنه سأل عثمان: أريت إذا جامع امرأته فلم يُمنِ]
292# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو مَعمَر)؛ بفتح الميمين، هو عبد الله بن عمرو؛ بالواو (قال: حدثنا عبد الوارث) هو ابن سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة، (عن الحسين المعلم)؛ هو ابن ذكوان، وسقط (المعلم) في رواية (قال يحيى)؛ هو ابن أبي كثير؛ أي: قال الحسين: قال يحيى، ولفظ (قال) الأولى تحذف في الخط في اصطلاحهم، قاله في «عمدة القاري»: (وأخبرني) بالإفراد (أبو سَلَمَة)؛ بفتحات، هو ابن عبد الرحمن بن عوف، هذا معطوف على مقدر؛ تقديره: قال يحيى: وأخبرني بكذا وكذا، وأخبرني هذا، وإنما احتجنا إلى التقدير؛ لأنَّ (أخبرني) مقول (قال)، وهو مفعول حقيقة، فلا يجوز دخول (الواو) بينهما، ووقع في رواية مسلم بحذف الواو على الأصل، وفي رواية المؤلف دقة وهو الإشعار بأن هذا من جملة ما سمع يحيى مِن أبي سَلَمَة.
فإن قلت: قول الحسين: (قال يحيى) يوهم أنه لم يسمع من يحيى، وكذا قال ابن العربي: إنه لم يسمع من يحيى، فلذلك قال: (قال يحيى)؟
قلت: وقع في رواية مسلم في هذا الموضع: (عن الحسين، عن يحيى).
فإن قلت: العنعنة لا تدل صريحًا على التحديث.
قلت: الحسين ليس بمدلس، وعنعنة غير المدلس محمولة على السماع على أنه قد وقع التصريح في رواية ابن خزيمة في رواية الحسين عن يحيى بالتحديث، ولفظه: حدثني يحيى بن أبي كثير، وأيضًا لم ينفرد به الحسين مع ذلك، فقد رواه عن يحيى أيضًا معاوية بن سلام، أخرجه ابن شاهين، وشيبان بن عبد الرحمن، أخرجه المؤلف في باب (الوضوء من المخرجين)، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(أن عطاء بن يَسار)؛ بفتح التحتية أوله، فسين مهملة، ضد اليمين: (أخبره أن زيد بن خالد الجُهني)؛ بضمِّ الجيم، وفتح الهاء، وبالنون نسبة إلى جُهينة بن زيد؛ بضمِّ الجيم أيضًا: (أخبره أنه سأل عثمان بن عفان) ثالث خلفاء سيدي المرسلين المسمى بذي النورين الذي تستحي منه ملائكة خالق الكونين رضي الله تعالى عنه مستفتيًا له، (فقال) أي: زيد لعثمان: (أرأيت) وفي رواية: (فقال له: أرأيت) أي: أخبرني: (إذا جامع الرجل امرأته) أي: أو أمته (فلم يُمْنِ)؛ بضمِّ التحتية أوله، وسكون الميم من الإمناء؛ أراد: أنه لم ينزل منه المني، وهذا أفصح اللغات، والثاني منها: فتح التحتيتة، وسكون الميم، والثالث: ضم التحتية مع فتح الميم، وتشديد النون، كذا في «عمدة القاري»، (قال عثمان) أي: ابن عفان رضي الله عنه في جواب الاستفتاء: لا يجب عليه الغسل، لكنه (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة)؛ أي: يتوضأ وضوءًا شرعيًّا لا لغويًّا، (ويغسل ذكره) أي: يجمع بينهما؛ لأنَّ (الواو) لا تدل على الترتيب، وظاهر اللفظ يدل على أنه يقدم الوضوء على غسل الذكر؛ لأنَّ غسله ليس باستنجاء، ولأن مسه غير ناقض للوضوء، وهو ظاهر لفظ (عثمان) رضي الله عنه، ولفظ غيره من الصحابة الآتي ذكرهم؛ فليحفظ وإنما أمره بالوضوء وغسل الذكر؛ لأنَّه لا بد في هذه الحالة من خروج مذي منه وهو نجس ناقض للوضوء، ويحتمل لما أصابه من فرج المرأة؛ حيث إنه ينزل منها إلى فرجها المذي المسمى من النساء: القذى فيختلط في رطوبة الفرج فينجس الذكر بذلك؛ فلذلك أمره بغسله، وفيه المطابقة للترجمة، كما لا يخفى؛ فافهم، (فقال) وفي رواية: (قال) (عثمان)؛ أي: ابن عفان رضي الله عنه: (سمعته) أي: ما ذكره من قوله: (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره) (من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فالضمير المنصوب يرجع إلى ما ذكره، وذلك باعتبار المذكور؛ فهذا سماع ورواية، والأول فتوى منه، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذه الفتوى يحتج بها؛ لأنَّها لا تقال من قبل الرأي، بل عن سماع ورواية، لا سيما وقد صرح بالسماع؛ فليحفظ.
والظاهر: أن هذا هو المباشرة الفاحشة الناقضة للوضوء، وهي مس فرج أو دبر بذكر منتصب بلا حائل يمنع حرارة الجسد، كما في «إمداد الفتاح» وهو صادق بألَّا يكون حائل أصلًا وبأن يكون حائل رقيق لا يمنع الحرارة، وكما ينتقض وضوءه ينتقض وضوءها، كما في «الفتاوى القنية» وجهه: أن المباشرة الفاحشة لا تخلو عن خروج المذي غالبًا، والغالب كالمتحقق وهو الاحتياط، كما في «مجمع الأنهر».
وظاهر الحديث يدل على هذا؛ لأنَّ قوله: (إذا جامع ... ) إلخ؛ أي: أراد الجماع، لكنه حصل منه مس الذكر بالفرج، ولا ريب أنه في هذه الحالة لا ينزل منه المني، بل يخرج منه المذي وهذا ظاهر؛ لأنَّه لو كان جامع حقيقة بأن أدخل الذكر في الفرج؛ فالغالب نزول المني منه، والغالب كالمتحقق، لا سيما في بعض الناس التي غلبت شهوتهم، فإنهم بمجرد التماس يحصل الإنزال، بل وبمجرد التفكر يمني؛ فتأمل، والله تعالى أعلم.
(فسألت عن ذلك)؛ أي: عن الحكم المذكور؛ وهو ما إذا جامع ولم يُمنِ وهذا مقول قول محذوف؛ أي: قائله عثمان رضي الله عنه؛ أي: الذي أفتيت به زيد بن خالد، ويحتمل على بعد؛ أي: يكون قائله زيد بن خالد؛ لأنَّ قول عثمان: (سمعته من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) يدل على أن القائل: (فسألت عن ذلك) عثمان رضي الله عنه، فضمير المتكلم يعود عليه، وهو ظاهر (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، قيل: إنه مدفون في سفح جبل قاسيون في صالحية دمشق عند مرقد الزعبي، وأبي بكر بن قوام، وقيل: عند طريق القوافل فوقه بنحو من ثلاثين ذراعًا، وقيل: في حارة الأكراد، وأوسطها أعدلها، (والزُّبير) بضمِّ الزاي (بن العَوَّام)؛ بفتح العين المهملة، وتشديد الواو، وهو مدفون في داخل طاحونة الزبيرية التي في مرج الدحداح عند النهر، وقد زرته، والله أعلم (وطلحة بن عبيد الله)؛ بالتصغير، أحد العشرة (وأُبيَّ بن كعب) أقرأ الصحابة بشهادة من تظله الغمامة، وهو مدفون خارج باب شرقي دمشق قبلي المنارة البيضاء التي ينزل عليها عيسى ابن مريم عليه السلام، عليه قبة مهابة يقصد بالزيارة والتبرك، لا سيما لأولاد الصغار عند ابتداء قراءتهم القرآن، فيلحسون الشاهدة المكتوب عليها خط كوفي؛ فيحصل المراد بإذن رب العباد رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال في «عمدة القاري»: (والظاهر: أن سؤاله منهم استفتاء من عثمان وفتوى منهم لا رواية، لكن رواه الإسماعيلي مرة
%ص 319%
بإظهار أنه رواية، وصرح به أخرى ولم يذكر عليًّا رضي الله عنه، ثم ذكر بعد ذلك روايات، وقال: لم يقل أحد منهم عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم غير الحمامي وليس هو من شرط هذا الكتاب) انتهى؛ فافهم.
(فأمروه) أي: الرجل المجامع، فالضمير المنصوب فيه يرجع إلى المجامع الذي دل عليه قوله: (إذا جامع) وهذا من قبيل قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ أي: العدل أقرب للتقوى، كذا في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني أنه ليس من هذا القبيل إلا أن يكون سقط من نسخة صاحب «عمدة القاري» (الرجل).
قلت: وهذا ليس بشيء؛ فإنه سواء سقط لفظ (الرجل) أو وجد؛ فهو من هذا القبيل، ومنعه تعصب وعناد، والضمير المرفوع يرجع إلى هؤلاء الصحابة المذكورين، ويحتمل إرجاع الضمير المنصوب إلى زيد بن خالد الذي سأل عثمان عن الرجل الذي جامع امرأته ولم ينزل؟ وعلى هذين الوجهين؛ فلا التفات في قوله: (فأمروه) أصلًا، كما أنه لا التفات فيه أيضًا على أنه من مقول عطاء بن يسار الراوي عن زيد بن خالد؛ فيكون مرسلًا؛ لأنَّ المقام للغيبة والسائل للصحابة المذكورين عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين، هذا ما ارتضاه إمام الشارحين وتبعه العجلوني، وإليه جنح القسطلاني وهو الحق؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن فيه التفاتًا؛ لأنَّ الأصل أن يقول: فأمروني.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: وليس فيه التفات أصلًا؛ لأنَّ عثمان رضي الله عنه سأل هؤلاء الصحابة عن المجامع الذي لم يُمنِ، فأمروه بذلك؛ أي: بغسل الذكر والوضوء، والإشارة ترجع إلى الجملة باعتبار المذكور) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض»؛ فزعم أن إنكاره الالتفات مكابرة ولو كان الذي قدره محتملًا، لكن لم يتحقق أنه كان هناك رجل سأل، وإنما صور زيد المسألة في رجل وقع له ذلك ماذا يفعل؟ لا أن رجلًا بعينه سأله عن ذلك، فالضمير لزيد بن خالد، وأمرهم له أعم من أن يكون وقع له بنفسه، فالحكم في حقه ذلك، أو وقع لغيره وتولى هو السؤال عنه، وأنه في حق الرجل ذلك، وأما جزم المعترض بأن عثمان هو الذي سأل الأربعة المذكورين؛ فغلط منه لا سلف له فيه، وإنما الذي جزم به الأئمَّة أن زيد بن خالد لما سأل عثمان؛ فأجابه بما ذكر سأل بعده الأربعة المذكورين، فوافقوا عثمان، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، وإثبات الالتفات عناد وتعصب بارد؛ فإن الضمير في قوله: (فأمروه) المنصوب عائد إلى الرجل في قوله: (أرأيت إذا جامع الرجل امرأته)، كما رجع إليه ضمير قوله: (يتوضأ)، وهذا ظاهر على من له أدنى ذوق في العلم، وعليه؛ فلا التفات فيه أصلًا؛ لأنَّ زيد بن خالد لما سأل عثمان عن الرجل إذا جامع امرأته ولم يُمنِ، وأجابه: بأنه يتوضأ ويغسل ذكره؛ فقد اكتفى بهذا الجواب؛ لأنَّ عثمان ثالث خلفاء سيد المرسلين؛ فلا ريب أنه يكتفى بجوابه، ولما رأى عثمان أنه قد يقع في نفس السائل شيء بادر وسأل هؤلاء الصحابة المذكورين؛ حتى يكون الجواب واحدًا متفقًا عليه، ويزول ما في نفس السائل، فالسائل لهم عثمان رضي الله عنه، ولأن مثل هذا السؤال قد يستحى بذكره؛ فربما سأل زيد عثمان خفية، وعثمان سأل هؤلاء جهرًا، وعلى كل حال؛ فالسائل عثمان رضي الله عنه، وعليه فلا التفات فيه أصلًا خلافًا لما زعمه هذا القائل، فقوله: (إن إنكاره ... ) إلخ، بل إثبات الالتفات فيه هنا معاندة وشدة؛ لأنَّه خلاف الظاهر المتبادر من اللفظ.
وقوله: (ولو كان الذي ... ) إلخ هذا الاحتمال هو الحق؛ لأنَّه الموافق لظاهر لفظ الحديث، وغيره مصادمة للحديث.
وقوله: (لكن لم يتحقق ... ) إلخ فاسد، بل تحقق ذلك؛ لأنَّ قوله: (أرأيت إذا جامع الرجل امرأته) يدل على أن الضمير عائد إلى الرجل المذكور الذي صدر منه هذا الفعل، فقد تحقق أنه كان هناك رجل [1] سأل، كما لا يخفى.
وقوله: (وإنما صور زيد المسألة ... ) إلخ ممنوع باطل؛ فأي مانع يمنع من أن يكون رجلًا بعينه سأله عن ذلك، ثم هو سأل عن ذلك عثمان؟
وقوله: (فالضمير ... ) إلخ فاسد، بل الضمير لعثمان رضي الله عنه، وأمرهم بذلك إنَّما كان لعثمان رضي الله عنه؛ لأنَّ قوله: (قال عثمان: سمعته ... ) إلخ.
وقوله: (فسألت عن ذلك) صريح في أن السائل كان عثمان رضي الله عنه؛ لأنَّ الضمير لا يعود إلا إلى أقرب مذكور، وأقرب المذكور إنَّما هو عثمان، فالضمير يعود إليه، والسائل عثمان؛ لأنَّ ضمير المتكلم في قوله: (فسألت) إنَّما يرجع إليه، كما لا يخفى، فكيف خفي هذا على هذا القائل المتعصب؟! فقوله: (وأما جزم المعترض ... ) إلخ باطل وفاسد؛ لأنَّ ظاهر الحديث المذكور يدل بمنطوقه ومفهومه على أن السائل عثمان رضي الله عنه، فالحديث سلفه ومستنده وهو ليس بغلط، كما زعمه هذا القائل المتعنت؛ لأنَّ الغلط الذي لا يدل عليه ظاهر الحديث، أما إذا دل الحديث على شيء؛ فلا يسع أحدًا أن يقول أنه غلط، والقائل به مفترٍ ومتعصب ومتعنت لا يلتفت إليه.
وقوله: (وإنما الذي جزم به الأئمَّة ... ) إلخ ممنوع؛ فإن أراد بالأئمَّة: شراح «الصحيح»؛ فغير مسلم وفساده ظاهر، فقد أجمعوا على أن الضمير لعثمان والسائل لهم عثمان رضي الله عنه، وإن أراد غيرهم؛ فيحتاج إلى ذكرهم على أنه ليس لأحد أن يدَّعي هذه الدعوى الباطلة، ومن ادَّعاها؛ فلا يسع أحدًا أن يقول عنه: إنه إمام، بل ولا طالب من الطلبة الصغار؛ لأنَّ هذه بعيدة أصلًا، ولم يدل دليل على أن الصحابة المذكورين وجهوا الأمر إلى زيد بن خالد حتى يكون فيه التفاتٌ [2]، بل إنَّما وجهوا الأمر للرجل الدال عليه إذا جامع ولم يُمنِ، فالحق الذي لا يرجع إلا إليه أن الضمير في (فأمروه) يعود على الرجل، وأن السائل للصحابة عثمان، وليس في ذلك التفات أصلًا، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، ومن دق الباب؛ سمع الجواب، والله ولي الصواب، ولا يخفى هذا على أولي الألباب.
(بذلك)؛ أي: بغسل الذكر والوضوء دون الغسل؛ لأنَّ إلزام الوضوء من حيث إنه يخرج منه المذي، وغسل الذكر من حيث إن المذي نجس، فهو ناقض نجس، فلذلك أمروه بذلك.
وعند الإسماعيلي: (فقالوا مثل ذلك عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم)، فصرح بالرفع بخلاف ما أورده المؤلف هنا، لكن قال الإسماعيلي: (لم يقل أحد ذلك غير الحمامي، وليس هو من شرط المؤلف)، نعم؛ روى عن عثمان، وعلي، وأُبيِّ بن كعب رضي الله عنهم أنهم أفتوا بخلافه، ولهذا قال ابن المديني شيخ المؤلف: (إن حديث زيد بن خالد شاذ)، وقال أحمد: (فيه علة).
وأجيب: بأن كونهم أفتوا بخلافه لا يقدح في صحة الحديث؛ فكم من حديث صحيح وهو منسوخ، فلا منافاة بينهما، فقد كان الحكم في ابتداء الإسلام هكذا، ثم جاءت السنة بوجوب الغسل، ثم أجمعوا عليه بعد ذلك، وعلله الحافظ أبو جعفر الطحاوي بأنه مفسد للصوم وموجب للحد والمهر وإن لم ينزل، فكذلك الغسل، والظاهر: أن هؤلاء الصحابة المذكورين لم يبلغهم النسخ سوى من أفتى منهم بخلافه، وقدمنا أول الباب غيرهم من الصحابة، وكذا من التابعين، وأهل الظاهر وأن ما نقل عنهم قد روي عن بعضهم ما يخالفه وانعقد الإجماع على خلافه وأنه منسوخ؛ فافهم.
(قال يحيى) هو ابن أبي كثير: (وأخبرني) بالإفراد (أبو سَلَمَة)؛ بفتحات، هو ابن عبد الرحمن، كذا في رواية الأكثرين، وسقط في رواية أبي ذر: (قال يحيى) فقط، والأول هو المراد؛ لأنَّه معطوف على قوله: (قال يحيى: وأخبرني أبو سَلَمَة: أن عطاء بن يسار) فهو معطوف على الإسناد الأول، فيكون هذا داخلًا في الإسناد؛ فبهذا يندفع قول من يقول: إن ظاهره معلق، والدليل عليه أيضًا ما رواه مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه بالإسنادين جميعًا، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»: (أن عُروة)؛ بضمِّ العين المهملة (بن الزُّبير)؛ بضمِّ الزاي، هو ابن العوام (أخبره: أن أبا أيُّوب)؛ هو خالد بن زيد بن كليب بن النجار الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه الذي نزل عليه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما قدم المدينة فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده، وروي عن سَعِيْد بن المسيِّب: أن أبا أيُّوب الأنصاري أخذ من شعرات لحية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شيئًا، فقال له: «لا يصيبك
%ص 320%
السوء يا أبا أيُّوب»، لزم الجهاد في حياة المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم وبعده إلى أن توفي في غزاة القسطنطينية سنة اثنتين وخمسين، ودفن بها، وهي دار خلافة بني عثمان، وقبره هناك مشهور معظم، بنى عليه السلطان محمَّد الفاتح جامعًا عظيمًا، وجعل على مرقده الشريف قبة عظيمة، يزار ويتبرك به وهو مشهور باستجابة الدعاء وهو رضي الله عنه جدي وسندي وعمدتي وإليه أنتسب وشفيعي عند سيد العالمين، فنسبي متصل به، ولولا الإطالة؛ لذكرته، ونعم هذا الجد والسند، اللهم؛ احشرنا في زمرته تحت لواء سيد المرسلين صلَّى الله عليه وسلَّم.
(أخبره: أنه سمع ذلك)؛ أي: الحكم المذكور؛ وهو غسل الذكر والوضوء دون الغسل فيمن جامع ولم ينزل (من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فتذكير الإشارة بالاعتبار المذكور، قال الدارقطني: (فيه وهم؛ لأنَّ أبا أيُّوب لم يسمعه من رسول الله عليه السلام، وإنما سمعه من أُبي بن كعب، عن رسول الله عليه السلام)، قال ذلك هشام عن أبيه، عن أبي أيُّوب، عن أُبيِّ بن كعب.
ورده صاحب «عمدة القاري» بأن قوله: (لم يسمعه من رسول الله عليه السلام) نفي، وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر عن أبي أيُّوب عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو إثبات، والإثبات يقدم على النفي، على أن أبا سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عوف أكبر قدرًا، وسنًّا، وعلمًا من هشام بن عروة، وحديث الإثبات رواه الدارمي، وابن ماجه.
فإن قلت: حكي عن أحمد أن حديث ابن خالد المذكور معلول؛ لأنَّه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث.
قلت: كونهم أفتوا بخلافه لا يقدح في صحة الحديث؛ لأنَّ كم من حديث منسوخ وهو صحيح، فلا منافاة بينهما، ألا ترى أُبيًّا رضي الله عنه كان يرى الماء من الماء؛ لظاهر الحديث، ثم أخبر عنه سهل بن سعد: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم جعل الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمره بالغسل، وأما الذي يستنبط من حديث الباب أن الذي يجامع امرأته ولم ينزل منيه؛ لا يجب عليه الغسل وإنما يغسل ذكره ويتوضأ، وهذا منسوخ؛ لما بيناه، ومذهب الجمهور: هو أن إيجاب الغسل لا يتوقف على إنزال المني، بل متى غابت الحشفة في الفرج؛ وجب الغسل على الرجل والمرأة، ولهذا جاء في رواية أخرى في الصحيح: (وإن لم ينزل)، وقال أصحابنا: التقاء الختانين يوجب الغسل مع تواري الحشفة، أما نفس الملاقاة بين الفرجين من غير تواري؛ فلا يوجب الغسل وإنما يوجب الوضوء عند الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، وقال الإمام محمَّد: لا يوجبه أيضًا ما لم يظهر المذي، وقال في «المحيط»: لو أتى المرأة وهي بكر؛ فلا غسل ما لم ينزل؛ لأنَّ بقاء البكارة دليل عدم الإيلاج، ولكن إذا جومعت البكر فيما دون الفرج فحبلت؛ فعليهما الغسل؛ لوجود الإنزال، فإنه لا حبل بدونه، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
==========
[1] تكرر في الأصل: (رجل).
[2] في الأصل: (التفاتًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] تكرر في الأصل: (رجل).
[1] تكرر في الأصل: (رجل).
(1/502)
[حديث: يغسل ما مسَّ المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي]
293# وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا يحيى) هو ابن القطان، (عن هِشام) بكسر الهاء؛ هو ابن عروة (قال: أخبرني) بالإفراد (أَبي)؛ بفتح الهمزة، هو عروة بن الزبير بن العوام، وأشار بقوله: (أخبرني أبي)؛ لدفع ظن ظان أنه أُبيٌّ بضمِّ الهمزة، وهو أُبيُّ بن كعب لكونه في الإسناد؛ فليحفظ نبه عليه في «عمدة القاري» (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو أيُّوب)؛ هو خالد بن زيد الأنصاري النجاري الخزرجي جدي وأستاذي وسندي رضي الله عنه، (قال: أخبرني) بالإفراد (أُبيُّ)؛ بضمِّ الهمزة (بن كعب) رضي الله تعالى عنه (أنه قال)؛ أي: أبي: (يا رسول الله)، وفي الرواية الأولى أن أبا أيُّوب سمعه من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولا منافاة بينهما؛ لأنَّه لا مانع من كونه سمعه تارة من النبيِّ الأعظم عليه السلام، وتارة أخرى من أُبيِّ بن كعب، وذكره الواسطة تكون للتقوية أو لغرض آخر؛ لأنَّ الطريقين مختلفان في اللفظ والمعنى وإن توافقا في بعض الأحكام مع جواز سماعه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومن أُبيِّ بن كعب كليهما، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (إذا جامع الرجل المرأة) وفي رواية: (امرأته)؛ أي: أو أمته؛ يعني: أفتنا يا رسول الله فيما إذا جامع الرجل امرأته، (فلم يُنْزل؟)؛ بضمِّ التحتية، وسكون النون؛ أي: لم ينزل منيه (قال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يَغْسل)؛ بفتح التحتية، وسكون الغين المعجمة؛ أي: الرجل المجامع (ما مس المرأة منه) متعلق بـ (يغسل) وضميره للرجل، أو بـ (مس)، وضميره عائد إلى (ما)، والمراد به: العضو، أو بيان لـ (ما) الموصولة أو الموصوفة، ومحلها النصب على أنها مفعول (يغسل)؛ أي: يغسل الرجل المذكور العضو الذي مس فرج المرأة من أعضائه.
وقال الكرماني: (فإن قلت: المقصود منه بيان ما أصابه من رطوبة فرج المرأة، فكيف يدل عليه وظاهر أن ما مس المرأة من يد أو رجل ونحوها لا يجب غسله؟ قلت: فيه إما إضمار أو كناية؛ لأنَّ تقديره: يغسل عضوًا مس فرج المرأة، أو هو من إطلاق اسم اللازم؛ وهو مس المرأة، وإرادة الملزوم؛ وهو إصابة رطوبة فرجها) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن كلًّا من العضو الذي مسته الرطوبة مأمور بغسله، وكذا الرطوبة، لكن ظاهر الحديث يدل على أنه العضو المعبر عنه بـ (ما)؛ لأنَّه الذي يمس المرأة، ويحتمل إرادة الرطوبة على حذف مضاف؛ أي: رطوبة ما مس المرأة، فالحديث قابل للأمرين معًا، وكل منهما يصح أن يقصد، لا أن المقصود هو الرطوبة لا غير، وغسل أحدهما يلزم منه غسل الآخر، وشمول الحديث لما ادَّعى الكرماني أنه ظاهر، غير ظاهر؛ فإن السؤال دال على أن ما يمس المرأة منه رطوبة الفرج، وكذا دعواه أن المقصود منه بيان ما أصاب من رطوبة فرج المرأة وإن كان ظاهرًا في أحدهما، انتهى.
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّ المأمور بغسله إنَّما هو العضو الذي مس فرج المرأة؛ لما عليه من الرطوبة الحاصلة من المذي منهما في الفرج، فيتلطخ العضو بذلك؛ فلهذا أمره بغسله وهذا ظاهر الحديث ودال عليه، لا ما قاله هذا القائل من أن كلًّا من العضو ... إلخ؛ لأنَّ هذا لا يدل عليه ظاهر الحديث وفيه خبط وخلط، كما لا يخفى.
وقوله: (ويحتمل إرادة ... ) إلخ هذا الاحتمال غير ظاهر أيضًا؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه؛ لأنَّ قوله: (ما مس المرأة منه) صريح في أنه العضو الذي مس فرج المرأة؛ لتنجسه بالرطوبة المخالطة للمذي في الفرج، لا إرادة الرطوبة فقط؛ لأنَّ الحديث غير دال عليها ولم يشعر بها، كما لا يخفى، فقوله: (فالحديث قابل للأمرين ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل على هذا وما هو إلا مصادمة للحديث، ولا يصح أن يقصد أحدهما دون الآخر؛ لأنَّ فائدة الأمر بالغسل إنَّما هو لأجل ما على العضو مما ذكرنا، فهما أمران متلازمان لا يصح قصد أحدهما بدون الآخر.
وقوله: (وشمول الحديث ... ) إلخ غير ظاهر؛ لأنَّ السؤال دالٌّ على أن ما يمس المرأة منه العضو الذي مسها لا الرطوبة فقط، فكلام الكرماني ظاهر، كما لا يخفى.
وقوله: (وكذا دعواه ... ) إلخ، فإنه ظاهر أيضًا؛ لأنَّ المقصود بيان العضو الذي مس فرج المرأة بغمسه رطوبة فرجها المخلوطة بالمذي الموجود منهما، ولا ريب أن ظهور المذي ناقض للوضوء؛ فأمره بالوضوء، وكل ناقض نجس، فالمذي نجس وقد اختلط برطوبة الفرج، فلهذا أمره بغسل ذكره، ويدل على هذا: ما تقدم من الأحاديث التي صرحت بأنه يغسل ذكره، فهذا هو العضو الذي مس المرأة من الرجل، وهذا القائل داء به التعصب والتشديد ولا جرم، فإن كل من دق الباب سمع الجواب، والله ولي الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم، والله أعلم.
وفي يوم السادس عشر رجب سنة سبع وسبعين ومئتين وألف نزل ثلج ومطر فعم الأسطحة ودلفت ووقع برد وشرد ونعوذ بالله من غضبه، وسخطه، والنار، ونسأله رضاه والجنة يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى
%ص 321%
آله وصحبه.
(ثم يتوضأ)؛ أي: وضوءه للصلاة، كما زاده عبد الرزاق، عن الثوري، عن هشام، وهو صريح بتأخير الوضوء عن غسل ما يصيبه منها، كذا في «عمدة القاري» (ويصلي)؛ أي: ما كتب له من فرض أو نفل، وهذا تصريح في الدلالة على ترك الغسل من الحديث الذي قبله، (قال أبو عبد الله) فاعل (قال) محذوف وهو الراوي عن البخاري، و (أبو عبد الله) كنية البخاري، كذا قاله في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر، وزعم العجلوني أن القائل البخاري نفسه لكن فيه تجريد، انتهى.
قلت: ليس كما قال، بل هو قول الراوي عن المؤلف وهو الأظهر، ولا حاجة لحمله على التجريد؛ لأنَّه خلاف الظاهر المتبادر؛ فافهم.
وقال الكرماني: (ووقع: «قال أبو عبد الله ... » إلخ بعد حديث: «إذا جلس بين شعبها»، وذلك أولى) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن ذِكْره هنا أولى؛ لأنَّه حينئذٍ تظهر المفاضلة لذكر الشيئين بخلاف ما لو قدمه؛ فافهم انتهى؛ فتأمل.
ومقول القول قوله: (الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وزعم العجلوني: أن في «الفرع» بفتحها.
قلت: والمشهور الأول؛ أي: الاغتسال لجميع الجسد من الجماع بغير إنزال المذكور في أحاديث كثيرة منها ما سبق في باب (إذا التقى الختانان).
(أحوط)؛ أي: أكثر احتياطًا في أمر الدين من الاكتفاء بغسل الذكر والوضوء المذكورين في أحاديث هذا الباب المروية عمن تقدم من الصحابة، وعلى هذا؛ ينبغي أن يحمل ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: لا تطيب نفسي حتى أغتسل؛ أي: من الجماع من أجل اختلاف الناس للأخذ [1] بالعروة الوثقى.
قلت: لأنَّ العبادة المتفق على صحتها خير من المختلف في صحتها، كما لا يخفى، ولهذا ينبغي للإمام أن يحتاط في وضوئه وصلاته، ويفعل ما أجمع عليه الأئمَّة الأعلام؛ لتكون عبادته موافقة لهم، ومجمعًا [2] على صحتها لا ما يفعله بعض المتعصبين من الشافعية الذين يظنون أنفسهم من المتورعين، ويحتاط على مذهب إمامه ويفعل ما هو مخل أو مفسد في مذهب غير إمامه من الأئمَّة الكبار، فإن هذا ليس من الاحتياط في شيء، وإنما هو تعصب، وشدة في أمر الدين، ومخالفة لسيد المرسلين القائل: «بعثت بالدين الحنيفية السمحة»؛ فافهم ذلك، ولا تكن ممن غلب جهله على علمه، أو جهله على عقله أو دينه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(وذلك)؛ باللام، وفي بعض النسخ: (وذاك) بدونها، والإشارة إلى الحديث الدال على لزوم الغسل لجميع الجسد (الأخير)؛ بمثناة تحتية من غير مد على وزن (فعيل) هو رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: (الآخِر)؛ بالمد بغير مثناة تحتية، وكسر الخاء المعجمة، وعليها؛ فالمعنى: وذاك المذكور في العبارة لذكره في الباب الثاني، وقال ابن التين: (ضبطناه بفتح الخاء)؛ أي الحديث من فعل الشارع عليه السلام المغاير الدال على عدم لزوم الغسل، وقال في «عمدة القاري»: (وأشار بقوله: «وذلك الأخير» إلى أن هذا الحديث غير منسوخ؛ أي: آخر الأمرين من الشارع) انتهى؛ أي: بل هو ناسخ لما قبله؛ فتأمل، (إنما بيَّنا) وللأَصيلي: (بيناه)؛ بالهاء، ولابن عساكر بالواو، لكن الأنسب حذفها؛ لأنَّ الجملة خبر (وذلك الأخير) تابع له؛ (لاختلافهم) ولكريمة: (اختلافهم)، وعلى الأولى؛ فهو متعلق بـ (بيَّنا) على أنه علة له؛ أي: ذكرنا الحديث الذي يدل على عدم لزوم الغسل في هذه الحالة؛ لنبين اختلاف الصحابة في الوجوب وعدمه، أو اختلاف المحدثين في صحته وعدمه، لا لأنا نقول به ونرتضيه، ويؤيد هذا الحمل ما في نسخة الصغاني: إنما بيَّنا الحديث الآخر؛ لاختلافهم والماء أنقى والظاهر أن معنى قول المؤلف: (وذلك الأخير) الإشارة للحديث الدال على لزوم الغسل، ومعنى كونه الأخير: أنه آخر الأمرين من فعل الشارع فهو ناسخ لما أفتى به عثمان ومن ذكر من الصحابة، فـ (ذلك) مبتدأ و (الأخير) خبره، ومثله على كسر الخاء بلا ياء، وأما على فتحها؛ فهو بظاهره غير مفيد؛ لأنَّه تابع لذاك، فإن قُدِّر له خبر نحو هو المعول عليه كان مفيدًا صحيحًا ويكون قوله: (إنما بينا؛ لاختلافهم) على هذه الوجوه مستأنفًا، وضمير (بيناه) الموجود أو المقدر راجع إلى ما تقدم من حديث زيد بن خالد، وعلى هذا؛ فيكون كلام المؤلف موافقًا لما عليه الإجماع من وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل، وليس في هذا ميل لمذهب داود الظاهري وإن نقله البرماوي عن السفاقسي حيث قال: وقال السفاقسي: (رويناه بفتح الخاء)، وقيل: إنه الوجه، وقال في قوله: (إنما بيناه؛ لاختلافهم): (ميل لمذهب داود، والجمهور على أنها منسوخة).
قلت: (إنما يكون ميلًا [3] لمذهب داود إذا فتحت الخاء من «آخَر»، أمَّا بالكسر؛ فيكون جزمًا بالنسخ) انتهى، ولا يتوجه عليه أيضًا اعتراض ابن العربي حيث قال: قد روى جماعة من الصحابة المنع، ثم رجعوا حتى رُوِيَ عن عمر أنه قال: من خالف في ذلك؛ جعلته نكالًا، وانعقد الإجماع على ذلك، ولا يعبأ بخلاف داود فيه، فإنه لولا خلافه ما عرف، وإنما الأمر الصعب خلاف البخاري في ذلك، وحكمه: بأن الغسل أحوط وهو أحد علماء الدين، والعجب منه أنه يساوي بين حديث عائشة في وجوب الغسل بالتقاء الختانين وبين حديث عثمان وأُبيِّ بن كعب إلا بالإنزال، وحديث عثمان ضعيف، وحديث أُبيِّ بن كعب التعلق به ضعيف؛ لأنَّه قد صح رجوعه عما روى لما سمع وعلم ما هو أقوى منه، ثم قال: يحتمل أن قول البخاري: (الغسل أحوط)؛ يعني: في الدين وهو باب مشهور في الأصول وهو الأشبه بإمامة الرجل وعلمه.
قال ابن حجر: (هذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل، وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث بغير هذه المسألة)،
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: من ترجمته يفهم جواز ترك الغسل؛ لأنَّه اقتصر على غسل ما يصيب الرجل من المرأة، إنَّما هو الجواب، والغسل غير واجب، ولكنه يستحب؛ للاحتياط) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض»: (بأن هذا إنَّما يفهم من جواب السؤال، وأما غسل الذكر وهو المترجم به؛ فمقصود من يترجم به أنه مشروع أعم من أن يكون غسل جميع البدن واجبًا أم لا، وهذا على رأي من لا يرى اندراج إزالة النجاسة في غسل جميع الجسد، بل يشترط لها غسلًا آخر) انتهى.
قلت: وهذا فاسد ظاهر الفساد؛ لأنَّ ما ترجم به المؤلف من غسل ما يصيب فرج المرأة بيان على أن ترك الغسل جائز، والجائز غير واجب، فبقي على الاستحباب؛ للاحتياط، وهذا ظاهر.
وقوله: (وأما غسل الذكر ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّ غسل الذكر مشروع في الاستنجاء؛ فلا حاجة لبيانه هنا، وإنما ترجم به؛ للإشارة إلى أن الجماع تارة يكون واجبًا وهو ما إذا أنزل، وتارة يكون مستحبًّا وهو ما إذا لم ينزل؛ ولأجل اختلاف الناس في ذلك ترجم بما يصيب المرأة وإصابتها أعم من [أن] يكون واجبًا أو مستحبًّا، وهذا مفهوم ضرورة من الترجمة؛ فافهم، والله أعلم.
واعترض ابن حجر على ابن العربي في نفيه الخلاف، فزعم أن الخلاف مشهور في الصحابة والتابعين، يثبت عن جماعة منهم ومن التابعين، انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: لقائل أن يقول: انعقد الإجماع عليه، فارتفع الخلاف)؛ بيانه: ما رواه الحافظ الطحاوي: حدثنا روح بن الفرج قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكير قال: حدثني الليث قال: حدثني معمر بن أبي حُيَيَّة؛ بضمِّ الحاء المهملة، وفتح المثناة التحتية المكررة، فهي حيية بنت مرَّة بن عمرو بن عبد الله بن شعيب، ومعمر هذا يروي عن عبد الله بن عدي بن الجبار قال: تذاكر أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند عمر بن الخطاب الغسل من الجنابة، فقال
%ص 322%
بعضهم: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، وقال بعضهم: (الماء من الماء)، قال عمر رضي الله عنه: (قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف الناس بعدكم؟!) فقال علي بن أبي طالب: (يا أمير المؤمنين؛ إن أردت أن تعلم ذلك؛ فأرسل إلى أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فسلهن عن ذلك)، فأرسل إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك: (لا أسمع أحدًا يقول: الماء من الماء؛ إلا جعلته نكالًا)،
قال الحافظ الطحاوي: (فهذا عمر رضي الله عنه قد حمل الناس على هذا بحضرة أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم ينكر ذلك عليه منكِر) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن الخصم ينازع في الإجماع بما نقله مما تقدم، فكيف يتوجه الرد عليه بما ذكره؛ فتأمل.
قلت: تأملته، فناسب أن يقال هنا: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ} [النجم: 30]؛ ولا يخفى أنه لا نزاع في الإجماع؛ لأنَّ المراد بالإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم وهو المعتبر في الدلائل الشرعية لا إجماع التابعين؛ لأنَّه غير معتد فيه في الشرع، فهذا القائل لم يفرق بين إجماع الصحابة وإجماع من بعدهم، ولا يسع أحدًا أن ينكر إجماع الصحابة في هذه المسألة؛ لثبوته عنهم، كما رواه الحافظ الطحاوي، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في «مصنفه» على غير هذه الصفة، كما ذكرنا ذلك في باب: (إذا التقى الختانان) عن «عمدة القاري»، وفيه إجماع الصحابة على لزوم الغسل وإن لم ينزل، ولهذا قال الشافعي في «اختلاف الحديث»: حديث «الماء من الماء» ثابت، لكنه منسوخ ... ) إلى أن قال: (فخالفنا بعض أهل الحجاز فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل، فعرف بهذا أن الخلاف مشهور بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب) انتهى، فقد علمت أنه نفى الخلاف بين الصحابة؛ لوقوع الإجماع وثبوته عنهم، وأثبت الخلاف بين التابعين ومن بعدهم، فهذا القائل لم يدر الفرق بين إجماع هؤلاء وبين إجماع هؤلاء وبينهما فرق كما بين السماء والأرض، وعلى كل؛ فالرد متوجه على ابن حجر بما زعمه، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
وادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، قال في «عمدة القاري»: وفيه نظر؛ لأنَّ الخطابي قال: (قاله من التابعين الأعمش)، وتبعه القاضي، ولكنه قال: (لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره).
قال في «عمدة القاري»: (وفيه نظر؛ لأنَّه قد ثبت أن أبا سَلَمَة بن عبد الرحمن كان يفعل ذلك، وكذا عطاء بن أبي رباح، كما رواه ابن عبد الرزاق) انتهى.
والحاصل: أن إجماع الصحابة ثابت قائم على وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل، وأن اختلاف التابعين فيه ثابت، وما بعد الإجماع إلا الرجوع إليه، ثم أجمعت المجتهدون على ذلك، فلا يجوز العمل إلا بما عليه أئمة المذاهب الأربعة الأعلام، والله ولي الألباب وهو الصواب؛ فافهم.
وفي رجب سنة سبع وسبعين ومئتين وألف ظهر قحط من قلة القمح وغيره، وقلة البيع والشراء، وتعطلت الطرقات من الثلج، وظهرت السقعة في كل يوم من العصر على وجه ماء البحرات، فالبرد شديد، والخبز عزيز، والدرهم قليل، والمصرف كثير، والحي باقٍ لا يزول، اللهم؛ أحسن أحوال المسلمين، ورخص أسعارهم بجاه النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وآله وأصحابه أجميعين آمين.
==================
[1] في الأصل: (لأخذ)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مجمع)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/503)
((6)) [كتاب الحيض]
ولما فرغ المؤلف من الأحداث التي يكثر وقوعها؛ كالأصغر والأكبر والأحكام المتعلقة بها أصلًا وخلفًا؛ أراد أن يذكر لنا عقيب ذلك حكم الأحداث التي يقل وقوعها، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) كذا هي ثابتة في «الفرع»، وساقطة في أكثر الروايات، هذا (كتاب) في بيان أحكام (الحيض) ولأبي ذر تقديم (كتاب) على البسملة، وفي رواية: (باب) بدل (كتاب)، ولا يخفى أن التعبير بـ (كتاب) أولى؛ لاشتماله على الأنواع الداخلة تحته، بخلاف الـ (باب)؛ فافهم، وإنما ترجم بـ (الحيض) دون غيره من النفاس والاستحاضة؛ لكثرة وقوع الحيض على غيره، أو لكونه أصلًا في هذا الباب دون غيره، ولأنَّه أصل في الأحكام، ولهذا أفرده الإمام محمَّد بن الحسن محرر مذهب الإمام الأعظم في كتاب مستقل، ولأنَّ معرفة مسائله من أعظم المهمات؛ لما يترتب عليها ما لا يحصى من الأحكام؛ كالطهارة، والصَّلاة، والقراءة، والصوم، والحج، والاعتكاف، والبلوغ، والوطء، والطلاق، والعدة، والاستبراء، وغير ذلك مما مقرر في كتب الفروع.
واختلفوا في التعبير عن الحيض والنفاس بأنهما من الأحداث أو الأنجاس، فذهب جماعة إلى الثاني، وذهب جماعة إلى الأول، قال في «العناية»: (والأنسب أنه الأول)، واستظهر في «البحر» الثاني، ثم قال: (والظاهر أنه لا ثمرة لهذا الاختلاف) انتهى.
قلت: ويرد عليه أن إزالة النجاسة تبيح الدخول في الصَّلاة، واغتسال الحائض ما دامت متصفة به لا يبيح ذلك، فعلم بهذا أنه ليس نجسًا حقيقيًّا، والطهارة منه طهارة حدث لا طهارة نجس، ولأن الأحكام المتعلقة به هي الأحكام المختصة بالأحداث، فالتحقيق أنه من الأحداث، كذا في «منهل الطلاب»، وفيه: وللحيض أسماء وهي خمسة عشر اسمًا، جمعها بعضهم في بيتين من البسيط، فقال:
للحيض عشرة أسماء وخمستها ... حيض محيض محاض طمث إكبار
طمس عراك فراك مع أذى ضحك ... درس دراس نفاس قرء إعصار
والطمث الأول بالمثلثة، ويقال: بالمثناة الفوقية، ويقال بالهمز أيضًا، والثاني: بالسين المهملة، والعراك؛ بالعين المهملة، وذكر في «النهر» أن الحيض لا يكون في غير المرأة إلا في الأرنب والضبع والخفاش، زاد القسطلاني: (الكلبة، والناقة، والوزغة) انتهى، وزاد بعضهم: الحجرة؛ وهي الأنثى من الخيل، والعرس؛ وهي لبوة الأسد، والجمع: أعراس، وسمكة شبيهة بالنساء ذات شعور وفروج عظام فهي تسعة أصناف، وقد نظمها بعضهم في بيتين، فقال:
الحيض يأتي للنساء وتسعة ... وهي النياق وضبعها والأرنب
والوزغ والخفاش حجرة كلبة ... والعرس والحيات منها تحسب
والبعض زاد سميكة وعاشة ... فاحفظ ففي حفظ النظائر يرغب
والحيض المنسوب إلى هذه الحيوانات؛ بمعنى: السيلان، والحيض في اللغة: السيلان، يقال: حاضت السمرة؛ وهي شجرة يسيل منها شيء؛ كالدم، ويقال: الحيض لغة: الدم الخارج، يقال: حاضت الأرنب؛ إذا خرج منها الدم، وذكر في «العباب»: (التحييض: التسييل، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحاضًا ومحيضًا)، وعن اللحياني: (حاض، وخاض، وحاص؛ بالمهملتين، وحار؛ كلُّها بمعنًى، والمرأة حائض وهي اللغة الفصيحة الفاشية بغير تاء).
واختلف النحاة في ذلك، فقال الكوفيون: (إنه استغني عن علامة التأنيث؛ لأنَّه وصف لازم مخصوص بالمؤنث؛ فلا لبس في ذلك)، وقال سيبويه: (إن ذلك صفة شيء مذكر؛ أي: شيء أو إنسان، أو شخص حائض)، وقال الخليل: (لما لم يكن جاريًا على الفعل؛ كان بمنزلة المنسوب بمعنى: حائض؛ أي: ذات حيض؛ كذراع، ونامل، وتامر، ولَابِن، وكذا طالق، وطامث، وقاعد للآيسة؛ أي: ذات طلاق)، وحكى الفراء: (حائضة)، وتمامه في «منهل الطلاب»، و «عمدة القاري».
وأما معناه شرعًا؛ فعلى قول من يقول: إنه من الأحداث؛ فهو صفة شرعية مانعة عما تشترط له الطهارة؛ كالصَّلاة، ومس المصحف، وعن الصوم، ودخول المسجد، والقرآن بسبب الدم المذكور، وعلى القول بأنه من الأنجاس؛ فهو دم ينفضه رحم المرأة البالغة لا داء بها، ولا حبل، ولم تبلغ سن الإياس، وقال الإمام
%ص 323%
الكرخي: الحيض: دم تصير به المرأة بالغة بابتداء خروجه، وقيل: هو ممتد خارج عن موضع مخصوص وهو القبل، وأما الاستحاضة؛ فهي جريان الدم في غير أوانه وهو ما تراه حال الحبل، أو في أقل من ثلاثة أيام، أو في أكثر من عشرة أيام، أو في حال الصغر، أو في حال المرض، أو بعد بلوغ سن الإياس، أو غير ذلك، كما هو مقرر في الفروع، فإن جميع ذلك استحاضة؛ ويسمى دم الاستحاضة: العاذل بالذال المعجمة، قاله الأزهري، وحكى ابن سيده إهمالها، والجوهري بدل (اللامِ) (راء)؛ فليحفظ.
(وقولِ اللهِ تعالى) وللأَصيلي: (عز وجل)؛ بالجر عطفًا على قوله: (الحيض) المضاف إليه لفظ (كتاب)، وفي رواية: (قولُ الله)؛ بالرفع، وهذه الآية في سورة البقرة ({وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ}) مصدر؛ كالمجيء والمبيت، ويصلح للزمان والمكان أيضًا، وقد استعملوا لفظ المحاض؛ بمعنى: المصدر، فقالوا: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا ومحاضًا، فبنوا المصدر على (مفعل) بالكسر والفتح، والمراد عن الحيض نفسه؛ أي: حكمه، والحِيضة _بالكسر_ الاسم، والجمع الحيض، وأصله من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل؛ فاض، وحاضت الثمرة؛ سالت رطوبتها، ذكر الطبراني عن السدي: أن السائل ثابت بن الدحداح، وقيل: أُسَيْد بن حُضَير، وعَبَّاد بن بشير، وهو قول الأكثرين، وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد تأسَّوا بسيئة بني إسرائيل في تجنب مواكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، وقال مُجَاهِد بذلك، وروى مسلم في «صحيحه» عن أنس: (أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم؛ لم يواكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أُسَيْد بن الحُضَير، وعَبَّاد بن بشير فقالا: يا رسول الله؛ إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى ظننا أنه قد وجد عليه، فخرجنا فاستقبلهما هدية من لبن، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما).
قال أئمتنا الأعلام: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض؛ فأمر الله تعالى بالقصد بين هذين، وأمر النبي عليه السلام أن يواكلوهن، ويشاربوهن، وأن يكونوا معهن، وأن يفعلوا كل شيء إلا الوطء، فإنكم لم تؤمروا باعتزالهن من البيوت، وإنما أمرتم باعتزال الفروج إذا حضن، ويؤتين إذا طهرن.
({قُلْ هُوَ}) أي: الحيض ({أَذًى})؛ أي: شيء مستقذر مؤذٍ من يقربه نفرة منه، ولا ريب أن اللوث الخارج من الرحم كذلك، فإن الأذى لغة: اسم لما يكره من كل شيء، ولهذا سمى الله تعالى الكلام المكروه أذًى في قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]، وقال فيما يسأمه الإنسان من مكروه المطر: أذًى في قوله تعالى: {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ} [النساء: 102]، وفي «عمدة القاري» وقال الطبري: وسمِّي الحيض أذًى؛ لنتنه، وقذره، ونجاسته، وقال الخطابي: (الأذى المكروه الذي ليس بشديد، كما قال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} [آل عمران: 111]؛ فالمعنى: أن المحيض الأول الدم، وأما الثاني؛ فقد اختلف فيه: أهو نفس الدم أو زمن الحيض أو الفرج؟ والأول هو الأصح) انتهى، وإنما وصفه بالأذى ورتب الحكم عليه بالفاء؛ إشعارًا بأنه العلة، فلذا قال: ({فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ})؛ أي: اجتنبوهن، وتنحَّوا عنهن، يقال: عزلته فانعزل فاعتزل ونحيته فتنحَّى، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} [هود: 42]، والمراد: ترك المجامعة لهن ({فِي المَحِيضِ})؛ أي: تنحَّوا عنهن حال حيضهن؛ أي: في نفس الدم؛ أي: حال سيلأنه، فيكون مصدرًا.
قال في «عمدة القاري» وتبعه القسطلاني: (وهو الأصح، أو زمن الحيض؛ أو المراد: الفرج فيكون موضعًا، ويدل له أن ناسًا من الأعراب قد شق عليهم اعتزال الحيض والبرد شديد، فسألوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقال: «إنكم لم تؤمروا باعتزالهن من البيوت، وإنما أمرتم باعتزال الفروج إذا حضن»).
قلت: والظاهر أن المراد: زمن الحيض؛ لأنَّ دم الحيض قد لا يُدرَى إلا في أول العادة وآخرها، ويبقى في أوسطها منقطعًا، والحال أن المرأة كلها حيض، وقد يقال: إنَّ المراد: وجوده حقيقة أو حكمًا؛ فتأمل، وعموم الآية يقتضي أن الواجب اعتزال الرجل فراش زوجته إذا حاضت، وهو مروي عن ابن عباس، وعبيدة السلماني، ولما سمعت ميمونة ذلك من ابن عباس؛ قالت له: (أراغب أنت عن سنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم).
ومذهب الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والأوزاعي، ومالك، وهو أحد قولي الشافعي: أن له مباشرتها بما فوق المئزر وما نزل عنه؛ لقوله عليه السلام للسائل حين سأله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال: «تشد عليها إزارها، ثم شأنك [1] بأعلاها»، وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت: «شدِّي على نفسك إزارك، ثم عودي إلى مضجعك»، وقال الإمام محمَّد بن الحسن، والثوري، وداود الظاهري؛ وهو الصحيح من قولي الشافعي: إنه يجتنب موضع الدم فقط؛ لقوله عليه السلام: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، وروى أبو معشر، عن إبراهيم، عن مسروق قال: سألت عائشة: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقالت: (كل شيء إلا الفرج)، ورجحه الإمام العارف الشيخ أحمد السروجي في «شرحه» على «الهداية»، وفي «التأويلات» وبه يفتى، لكن رجح الإمام كمال الدين ابن الهمام في «شرحه» على «الهداية» قول الإمام الأعظم، وتبعه في «البحر»، و «النهر»، وغيرهما قالوا: وعليه الفتوى وهو الصحيح كما في أكثر المعتبرات؛ فيحرم على الزوج الاستمتاع بما بين السرة والركبة؛ وهو المراد بما تحت الإزار، ويحل ما فوق السرة وما تحت الركبة سواء كان بحائل أو لا، ولو تلطخ دمًا كما في «منهل الطلاب»، وتمامه فيه.
فإن قلت: دم الاستحاضة كدم الحيض في كونه أذًى مع أنه لا يوجب الاعتزال وترك الوطء، فلو كانت [2] العلة للاعتزال؛ لوجب الاعتزال عن المرأة وقت الاستحاضة.
قلت: (دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرحم، ولو احتبست تلك الفضلة؛ لمرضت المرأة، فلذلك الدم جارٍ مجرى البول والغائط، فكان أذًى مثلهما وقذرًا نجسًا، وأما دم الاستحاضة؛ فليس كذلك، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر من فم الرحم، فلا يكون أذًى، وإن كان نجسًا؛ فهو دم صحة لا فساد) انتهى.
({وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ})؛ أي: لا تطؤوهن، وفسر بذلك قوله: {فَاعْتَزِلُوا} ولولاه؛ لتوهم بالاعتزال المفارقة بكل البدن في كل شيء، وقيل: أكده بصيغتين؛ نهي وأمر مبالغة في المنع لما أن الزوجين مجتمعان غالبًا ومعهما داعيان إليه ظاهرًا؛ فافهم.
({حتى يطهرن})؛ بالتشديد في قراءة حمزة، والكسائي، وعاصم؛ أي: يغتسلن، وبالتخفيف في قراءة الباقين؛ أي: يخرجن من الحيض بانقطاع الدم، ورجح أبو علي الفارسي قراءة التخفيف؛ لأنَّه ثلاثي مضاد لـ (طمث)، وهو ثلاثي، فإذا كانت أيامها عشرة التي هي أكثر أيام الحيض، فكما انقطع؛ حل للزوج والمولى وطؤها وإن لم تغتسل، وإذا كانت دون ذلك وانقطع؛ حل وطؤها إذا اغتسلت وإن لم تغتسل، فإن مضى عليها وقت صلاة؛ حل أيضًا وهذا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم وهو قول مُجَاهِد، وعكرمة، وطاووس، وغيرهم، وذلك لأنَّ قوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} نهي عن قربانهن إلى غاية وهي أن يطهرن؛ أي: ينقطع حيضهن وإذا كان انقطاع الحيض غاية لهذا النهي؛ وجب ألَّا يبقى هذا النهي عند انقطاع الحيض؛ فإن معنى الغاية في الشرط: هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف هو معنى قوله: {يطَّهَّرن} بالتشديد بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، وقول كميت:
وما كانت الأنصار فيها أذلة ... ولا عسى فيها إذا الناس غيب
%ص 324%
وأيضًا فإن القراءتين كالآيتين؛ فيجب أن يعمل بهما، فنحن نحمل كل واحدة منهما على معنًى، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل؛ فإنا لا نجيز وطأها حتى تغتسل؛ لأنَّه لا يؤمن عوده، ونحمل الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر؛ فيجوز حينئذٍ وطؤها وإن لم تغتسل، وهذا ظاهر الآية المذكورة، ويدل لهذا أنه في مصحف عبد الله بن مسعود، وأُبيِّ بن كعب: {يتطهرن}، وفي مصحف أنس بن مالك: (ولا تقربوا النساء في حيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن) فـ (حتى) في الآية بمعنى: (إلى)، والفعل بعدها منصوب بإضمار (أن)، وأصل (يطَّهَّرن) بالتشديد يتطهرن، كما في هذين المصحفين، فأدغم على أن المراد بالطهارة: الطهارة الحاصلة بانقطاع الدم.
وقال الإمام زفر، ومالك، والشافعي: لا يجوز وطؤها حتى تغتسل بالماء، قالوا: إن الله علق الحكم فيها على شرطين؛ أحدهما: انقطاع الدم، وهو قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، والثاني: الاغتسال بالماء، وهو قوله: {حَتَّى يَطَّهَّرْنَ [3]}؛ أي: يفعلن الغسل بالماء كالجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره.
ورُدَّ بأن مؤدَّى قراءة التخفيف انتهاء الحرمة العارضة على الحل بالانقطاع مطلقًا، وإذا انتهت الحرمة العارضة على الحل؛ حلت بالضرورة، ومؤدَّى قراءة التشديد عدم انتهاء الحرمة عندهم، بل بعد الغسل؛ فوجب الجمع ما أمكن، فحملنا التخفيف على الانقطاع؛ لأكثر المدة، والتشديد عليه؛ لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض وهو المناسب؛ لأنَّ في توقيف قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضًا حكمًا وهو مناف لحكم الشرع عليها؛ لوجوب الصَّلاة المستلزم إنزاله إياها طاهرة قطعًا، بخلاف تمام العادة، فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر، بل يجوز الحيض بعده، ولهذا لو زادت ولم تجاوز العشرة؛ كان الكل حيضًا بالاتفاق.
بقي أن مقتضى التشديد ثبوت الحرمة قبل الغسل؛ فرفع الحرمة قبله بخروج الوقت معارضة للنص بالمعنى، والجواب: أن قراءة التشديد خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف، فجاز أن تخص ثانيًا بالمعنى، كما لا يخفى وتمامه في «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب.
({فَإِذَا تَطَهَّرْنَ})؛ أي: اغتسلن، كما في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ أي: اغسلوا أبدانكم؛ فإن الاغتسال بعد تمام العادة قبل الأكثر فرض، وبعد الأكثر مستحب هذا ظاهر الآية، وحاصل الكلام: أن الدم إما أن ينقطع؛ لتمام العشرة، أو دونها؛ لتمام العادة، أو دونها؛ ففي الأول يحل وطؤها بمجرد الانقطاع، ويستحب له ألَّا يطأها حتى تغتسل، وفي الثالث لا يقربها وإن اغتسلت ما لم تمض عادتها، وفي الثاني إن اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة؛ حل، وإلا؛ فلا؛ يعني: خرج وقت الصَّلاة حتى صارت الصَّلاة دينًا في ذمتها، وعلى هذا التفصيل انقطاع النفاس إن كان لها عادة فيها فانقطع دونها؛ لا يقربها حتى تمضي عادتها بالشرط أو لتمامها؛ حل إذا خرج الوقت التي طهرت فيه، أو لتمام الأربعين؛ حل مطلقًا، كذا في «منهل الطلاب» ({فَأْتُوهُنَّ})؛ أي: جامعوهن، فكنى بالإتيان عن الوطء، وهذا أمر إباحة ورخصة يدل عليه ما قال مُجَاهِد: سألت ابن عباس عن هذا فقال: هذا أمر إباحة ورخصة، وينصرف إلى ما وقع النهي عنه وهو القربان في موضع الحيض لأجل الحيض، فإذا زال؛ أبيح الإتيان في ذلك الموضع، وقد انعقد الإجماع على أن الأمر هنا للإباحة، وبه يظهر عدم دلالته على أن المراد بالتطهير: الغسل بالماء؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لكان الأمر واجبًا؛ لأنَّ الأمر الواجب هو الذي يقتضي الوجه الأكمل بخلاف هذا، فإنه لا يقتضيه، بل المراد بالتطهير: الاغتسال فيما إذا انقطع لدون العشرة، أو الانقطاع فقط فيما إذا كان انقطع لتمام العشرة وهذا ظاهر؛ لأنَّ الحائضة في العادة تتلطخ بالدم وهو نجس إجماعًا أخبث من غيره لنتن ريحه، وإذا كانت كذلك؛ صدق عليها أنها نجسة، وصدق عليها حالة الانقطاع لتمام العشرة أنها طهرت وإن لم تغتسل، وهذا من باب عموم المجاز؛ بأن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز، كما عرف في الأصول؛ فافهم، ({مِنْ حَيْثُ})؛ أي: في حيث، فـ (من)؛ بمعنى: (في)؛ كقوله تعالى: {إِذَا [4] نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]؛ أي: في يوم الجمعة، وقيل: المعنى: أي: من الوجه الذي ({أَمَرَكُمُ اللهُ})؛ أي: أذن لكم فيه وهو القبل في غير صوم، وإحرام، واعتكاف؛ لأنَّ الله تعالى لما حرم إتيان القبل في أيام الحيض للأذى؛ فيحرم إتيان الدبر في الأحوال كلها؛ لما فيه من الأذى وهو القذر، ولأن المراد من قوله تعالى: {وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: 16] أهل اللواطة، فهو مخصوص بالرجال، كذا قال مُجَاهِد وغيره، وما ذلك إلا للأذى؛ فحرمة اللواطة ثابت بالقياس على حرمة وطء الحائض والجامع بينهما الأذى في كلٍّ، وتمامه في كتب الأصول، ({إِنَّ اللهَ يُحِبُّ}) أي: يرحم ويثيب ({التَّوَّابِينَ}) أي: من الذنوب والشرك، ({وَيُحِبُّ}) أي: يرحم ويثيب ({المُتَطَهِّرِينَ}) [البقرة: 222]؛ أي: المتنزهين عن الفواحش والأقذار؛ كمجامعة الحائض، والإتيان في أدبارهن، يدل له قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، وإنما قدَّم الذي أذنب على من لم يذنب؛ لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، يدل عليه قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، والله أعلم.
بقي ما لو وطئها في الفرج حالة الحيض عالمًا بالحرمة عامدًا مختارًا غير مستحل له، فقال الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والشافعي: إنه كبيرة وليس عليه سوى التوبة والاستغفار، وهو قول ربيعة، ويحيى بن سَعِيْد، وبه قال داود الظاهري.
قال علماؤنا: وهل يجب التعزير أم لا؟
توقف فيه صاحب «البحر» واستظهر في «منهل الطلاب»: أنه إذا كان جاهلًا أو ناسيًا أو مكرهًا؛ لا يعزر، وإن كان عالمًا بالحرمة عامدًا مختارًا غير مستحل؛ يعزر؛ لأنَّه حرام، ويورث داء الجذام، كما صرح به علماء الطب.
وقال علماؤنا: يستحب له أن يتصدق بدينار، وقيل: بنصفه، كما في «الجوهرة»، وهو قول الإمام محمَّد بن الحسن، وأحمد ابن حنبل، ويدل لذلك ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يتصدق بدينار أو نصف دينار».
وقال في «فتح القدير»: (إن وطئ في أول الحيض؛ يستحب أن يتصدق بدينار، وإن كان في وسطه أو آخره؛ فنصف دينار، وقيل: إن كان الدم أسود؛ يتصدق بدينار، وإن كان أصفر؛ فبنصف دينار)، ويدل لذلك ما رواه أبو داود، والحاكم وصححه: إذا واقع الرجل أهله وهي حائض إن كان دمًا أحمر؛ فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر؛ فليتصدق بنصف دينار، ورواه الترمذي، والدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا.
والظاهر: أنه كما يندب له التصدق يندب لها؛ لتمكينها نفسها إياه، ومصرف ذلك مصرف الزكاة، فإن وطئها مستحلًّا؛ يكفر، كما جزم به في «الجوهرة»، و «فتح القدير»، و «المبسوط»، و «الاختيار»، وغيرها؛ لأنَّ حرمته ثبتت بدليل قطعي.
وفي «النوادر» عن الإمام محمَّد بن الحسن أنه لا يكفر، وصحح هذه الرواية صاحب «الخلاصة»، و «البزازية»، قال صاحب «البحر»: (فعلى هذا لا يفتى
%ص 325%
بتكفير مستحله لما في «الخلاصة» أن المسألة إذا كان فيها وجوه؛ توجب التكفير، ووجه واحد يمنع؛ فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك الوجه) انتهى.
ووطء النفساء كالحائض؛ لأنَّ حكم النفاس حكم الحيض في كل شيء، إلا فيما استثني وليس هذا منه، كما صرح به في «شرح الهاملية»، و «الجوهرة» وعلى هذا: الخلاف وطء الدبر من المرأة والغلام، وتمامه في «منهل الطلاب».
كذا ذكرت الآية بتمامها في رواية ابن عساكر، ولأبوي الوقت وذر: {فَاعْتَزِلُوا .. } إلى قوله: {وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وللأَصيلي كذلك إلى قوله: {المُتَطَهِّرِينَ}، وفي رواية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ .. }؛ الآية.
قال في «عمدة القاري»: (فإن قلت: أورد هذه الآية ههنا، ولم يبين منها شيئًا، فما كانت فائدة ذكرها هنا؟
قلت: أقل فائدة ذكرها هنا التنبيه على نجاسة الحيض، وفيه: الإشارة أيضًا إلى وجوب الاعتزال عنهن في حالة الحيض، وغير ذلك)، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (شابك)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (كان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يتطهرن)، والمثبت موافق للتلاوة.
[4] في الأصل: (فإذا)، والمثبت موافق للتلاوة.
==================
[1] في الأصل: (شابك)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (كان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يتطهرن)، والمثبت موافق للتلاوة.
[1] في الأصل: (شابك)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (كان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (يتطهرن)، والمثبت موافق للتلاوة.
(1/504)
(1) [باب كيف كان بدء الحيض]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين بالقطع عما بعده، خبر لمبتدأ محذوف، ويجوز ترك التنوين للإضافة إلى قوله: (كيف) وهي اسم بالقطع؛ لدخول الجار عليه بلا تأويل في قولهم: على كيف تتبع الأحمرين؟ ومحلها من الإعراب النصب على الحال، كما في قولك: كيف جاء زيد؟ أي: على أي حالة جاء زيد؛ والتقدير هنا: على أي حالة (كان بدء) من بدأ يبدأ بدءًا؛ أي: ظهر، والبدء بالهمز في آخره على (فعْل) بسكون العين المهملة من بدأت الشيء بدأ ابتدأت به (الحيض)؛ أي: ابتداؤه، ولفظة (كان) من الأفعال الناقصة تدل على الزمان الماضي من غير تعرُّض لزواله في الحال أو لا زواله، وبهذا يفرق عن (صار)، فإن معناه الانتقال من حال إلى حال، ولهذا لا يجوز أن يقال: صار الله، ولا يجوز أن يقال: إلا كان الله تعالى، والله أعلم، والباب أصله: بَوَبَ بالتحريك قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ويجمع على أبواب وأبوبة، والمراد من الباب هنا: النوع كما في قولهم: من فتح بابًا من العلم؛ أي: نوعًا، كذا قرره في «عمدة القاري»، (وقول النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): بالجر بدل مما قبله، وبالرفع على الابتداء أو الخبر، والأول أظهر: (هذا)؛ أي: الحيض (شيء كتبه الله على بنات آدم)؛ لأنَّه من أصل خلقتهن الذي فيه صلاحهن، ويدل عليه قوله تعالى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] المفسر بـ (أصلحناها)؛ للولادة بِرَدِّ الحيض إليها بعد عقرها، وقد روى الحاكم بإسناد صحيح من حديث ابن عباس: (أن ابتداء الحيض كان على حواء عليها السلام بعد أن أُهبِطت من الجنة).
قال في «عمدة القاري»: (وهذا من تعليقات [1] البخاري، والآن نذكره موصولًا عقيب هذا، وسنذكره أيضًا في الباب السادس من جملة حديث) انتهى.
وزعم ابن حجر أن قوله: (وقول النبيذِ ... ) إلخ يشير إلى حديث عائشة المذكور عقيبه.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: هذا الكلام غير صحيح، بل قوله: (هذا شيء) يشير به إلى الحيض، فكذلك بلفظ (شيء) في الحديث الذي يأتي في الباب السادس، ولكنه بلفظ: (فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم)، وعلى كل تقدير؛ فالإشارة بقوله: (هذا) إلى الحيض، انتهى.
واعترض البرماوي على ابن حجر في قوله: هذا التعليق المذكور وصله المؤلف بلفظ (شيء) من طريق أخرى بعد خمسة أبواب، فقال: (ليس في الباب المذكور شيء، بل هو الحديث الذي أورده البخاري في هذا الباب، فلا حاجة لادِّعاء وصله بموضع آخر، نعم؛ لفظه هناك (أمر) بدل (شيء)، فـ (شيء) إما رواية بالمعنى، وإما أنه مروي أيضًا) انتهى.
ورده القسطلاني فقال: والصواب ما قاله ابن حجر، فإنه في الباب المذكور كذلك، نعم؛ قال فيه: (فإن ذلك شيء) بدل قوله هنا: (هذا شيء) انتهى.
قلت: وهذا يدل على أنه ليس بموصول هناك إلا أن يقال: اختلاف اللفظ لا يدل على التعدد، هذا وقد قال ما قاله ابن حجر إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، كما علمت عبارته، فالصواب ما قاله في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(وقال بعضهم)؛ هو عبد الله بن مسعود، وعائشة رضي الله عنهما: (كان أولُ)؛ بالرفع اسم (كان) (ما أُرسل)؛ بضمِّ الهمزة مبني للمفعول (الحيضُ)؛ بالرفع نائب عن الفاعل، وكلمة (ما) مصدرية؛ والتقدير: كان أول إرسال الحيض (على) بنات (بني إسرائيل) خبر (كان)، وأشار المؤلف بهذا إلى ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود وعائشة بإسناد صحيح، ولفظه: (كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، وكانت المرأة تتشرف للرجل، فألقى الله عليهن الحيض، ومنعهن المساجد)، قاله في «عمدة القاري»، ثم قال: فإن قلت: الحيض أُرسِل على بنات إسرائيل ولم يرسل على بنيه، فكيف قال على بني إسرائيل؟
وأجاب الكرماني: بأن بني إسرائيل يستعمل ويراد به: أولاده، كما يراد من بني آدم أولاده، أو المراد على هذا القول: القبيلة.
ورده صاحب «عمدة القاري» بأن هذا من حيث اللغة يمشي، ومن حيث العرف لا يذكر الابن ويراد به: الولد، حتى لو أوصى بثلث ماله لابن زيد، وله ابن وبنت؛ لا تدخل البنت فيه، ودخول البنات في بني آدم بطريق التبعية، وقوله: (أو المراد به: القبيلة) ليس له وجه أصلًا؛ لأنَّ القبيلة تجمع الكل، فيدخل فيه الرجال أيضًا، وقد علم أن طبقات العرب ست، فالقبائل تجمع الكل، ويمكن أن يقال: إن المضاف فيه محذوف؛ تقديره: على بنات بني إسرائيل، يشهد بذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كتبه الله على بنات آدم»، ونذكر التوفيق بينهما عن قريب انتهى كلامه.
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف نفسه، كذا في الرواية وهو ساقط في بعضها: (وحديث النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أن: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم» (أكثر)؛ بالمثلثة؛ أي: أشمل من قول ابن مسعود وعائشة المذكور، قال في «عمدة القاري»: (وكأنه أشار بهذا الكلام إلى وجه التوفيق بين الخبرين، وهو أن كلام الرسول أكثر قوة وقبولًا من كلام غيره من الصحابة).
وزعم الكرماني ويروى: (أكبر)؛ بالموحدة؛ ومعناه على هذا: وحديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعظم، وأجل، وآكد ثبوتًا، وقرأ الكرماني: (الأكثر)؛ بالمثلثة.
وقال الداودي: (ليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم).
وزعم ابن حجر أنه على هذا؛ فقوله: (من بنات آدم) عام أريد به الخصوص.
وردهما صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ما أبعد كلام الداودي في التوفيق بينهما! نعم؛ نحن لا ننكر أن نساء بني إسرائيل من بنات آدم، ولكن الكلام في لفظ الأولوية فيهما، ولا ينبغي المخالفة إلا بالتوفيق بين لفظي الأولوية، وأبعد من هذا قول هذا القائل: عام أريد به الخصوص، فكيف يجوز تخصيص عموم كلام النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بكلام غيره؟!).
ثم قال ابن حجر: (ويمكن أن يجمع بينهما؛ بأن الذي أُرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن لابتداء وجوده).
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا كلام من لا يذوق المعنى، وكيف يقول: لابتداء وجوده، والخبر فيه أول ما أرسل وبينه وبين كلامه منافاة، وأيضًا في أين ورد أن الحيض طال مكثه في بني إسرائيل؟! ومن نقل هذا؟!.
وقد روى الحاكم بإسناد صحيح عن ابن عباس: (أن ابتداء الحيض كان على حواء عليها السلام بعد أن أُهبطت من الجنة)، وكذا رواه ابن المُنْذِر، وقد روى الطبراني وغيره
%ص 326%
عن ابن عباس وغيره: أن قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71]؛ أي: حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب؛ لأنَّ إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام)، ثم قال إمام الشارحين: (ولقد حضرني جواب في التوفيق من الأنوار الإلهية بقوته ولطفه وهو: أنه يمكن أن الله تعالى قطع حيض بني إسرائيل عقوبة لهن ولأزواجهن؛ لكثرة عنادهم، ومضت على ذلك مدة، ثم إن الله تعالى رحمهم وأعاد حيض نسائهم؛ لأنَّ من حكمة الله تعالى أنه جعل الحيض سببًا لوجود النسل، ألا ترى أن المرأة إذا انقطع حيضها؛ لا تحمل عادة؛ فلما أعاده عليهن؛ كان ذلك أول الحيض بالنسبة إلى مدة الانقطاع، فأطلق الأولية عليه بهذا الاعتبار؛ لأنَّها من الأمور النسبية) انتهى كلامه، وقد ارتضاه الشارحون؛ فليحفظ.
هذا (باب) بيان (الأمر بالنُّفساء إذا نفس)؛ بضمِّ النون وفتحها، والضمير الذي فيه يرجع إلى (النفساء)، وتذكيره باعتبار الشخص أو لعدم الالتباس؛ لأنَّ الحيض مخصوص بالنساء، والجمع نظرًا للجنس، والباء في قوله: (بالنفساء) زائدة؛ لأنَّ النفساء مأمورة لا مأمور بها، فيكون التقدير الأمر الملتبس بالنفساء، كذا في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني فإن قلت: البحث في الحيض، فما وجه تعلقه به؟ قلت: المراد بـ (النفساء): الحائض.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: النفساء مفرد، وجمعه نفاس)، وقال الجوهري: ليس في الكلام من (فعلاء) يجمع على (فعال) غير نفساء وعشراء؛ وهي الحامل من البهائم)، قال إمام الشارحين: (ويجمع أيضًا على نُفس؛ بضمِّ النون)، وقال صاحب «المطالع»: (وبالفتح أيضًا، ويجمع على نُفُس؛ بضمِّ النون، والفاء)، قال: ويقال في الواحد: نُفسى؛ مثل: كبرى، وبفتح النون أيضًا، وامرأتان نفساوان، ونفسًا، ونفاس، والنفساء أيضًا مصدر سُمِّي به الدم، كما يسمى بالحيض، مأخوذ من تنفس الرحم؛ لخروج النفس الذي هو الدم، وفي «المغرب»: (النفاس مصدر نفسة المرأة؛ بضمِّ النون وفتحها، إذا ولدت؛ فهي نفساء) انتهى كلامه.
وهذا الباب والترجمة هكذا ثابت في رواية أبوي ذر والوقت، وهما ساقطتان في أكثر الروايات، وفي رواية «الفرع»: (باب الأمر للنساء إذا نَفِسْن)؛ بفتح النون، وكسر الفاء، وسكون السين المهملة، آخره نون؛ أي: حضن، وعليها شرح القسطلاني.
==========
[1] في الأصل: (التعليقات)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/505)
[حديث: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج]
294# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله) ولابن عساكر: (علي)؛ يعني: ابن عبد الله، هو المَدِيني؛ بفتح الميم، وكسر الدال المهملة، قال ابن الأثير: (منسوب إلى مدينة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا أحد ما استعمل بالنسب فيه خارجًا عن القياس، فإن قياسه: المدني)، وقال الجوهري: (تقول في النسب إلى مدينة الرسول: مدني، وإلى مدينة المنصور: مديني؛ للفرق)، كذا في «عمدة القاري» (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عيينة (قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم) هو ابن محمَّد (قال)؛ أي: عبد الرحمن: (سمعت) أبي (القاسم)؛ هو ابن محمَّد، كما في رواية الأَصيلي: هو ابن أبي بكر الصديق الأكبر رضي الله عنه (يقول): جملة محلها النصب على الحال: (سمعت عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنها (تقول): جملة محلها النصب على الحال أيضًا: (خرجنا) حال كوننا (لا نُرى)؛ بضمِّ النون؛ يعني: لا نظن، فالجملة محلها نصب على الحال، وفي رواية: (لا نَرى)؛ بفتح النون (إلا الحج)؛ أي: إلا قصد الحج؛ لأنَّهم كانوا يظنون امتناع العمرة في أشهر الحج، فأخبرت عن اعتقادها عن الغالب من حال الناس، أو من حال الشارع، أما هي؛ فقد قالت: إنها لم تحرم إلا للعمرة، كذا في «عمدة القاري»، (فلما كنتُ)؛ بتاء المتكلم، كذا في رواية الأَصيلي، والكشميهني، وفي رواية: (فلما كنا) (بسَرِف)؛ بفتح السين المهملة، وكسر الراء، آخره فاء؛ وهو اسم موضع قريب من مكة بينهما نحو [1] من عشرة أميال، وقيل: تسعة، وقيل: سبعة، وقيل: ستة، وهو غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وقد يصرف نظرًا لإرادة المكان؛ فافهم.
(حِضت)؛ بكسر الحاء المهملة؛ لأنَّه من حاض يحيض؛ كـ (بِعت) من باع يبيع، أصله حَيِض؛ بفتح المهملة، وكسر التحتية، قلبت الياء التحتية ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت؛ لالتقاء الساكنين فصار: حضت بالفتح، ثم أبدلت الفتحة كسرة؛ لتدل على الياء التحتية المحذوفة، كذا في «عمدة القاري»، (فدخل علي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: إلى مكاني الذي أنا فيه فرآني (وأنا أبكي): جملة اسمية وقعت حالًا بالواو، (فقال): ولأبي الوقت: (قال): (ما لكِ)؛ بكسر الكاف؛ لأنَّه خطاب المؤنث (أنفست؟») الهمزة فيه للاستفهام، وهو بضمِّ الفاء وفتحها في الحيض والنفاس، لكن الضم في الولادة، والفتح في الحيض أكثر، وحكى صاحب «الأفعال» الوجهين جميعًا، وفي «شرح مسلم» المشهور في اللغة أن نَفِست بفتح النون، وكسر الفاء؛ معناه: حضت، وأما في الولادة؛ فيقال: نُفست؛ بضمِّ النون، وقال الهروي: (نفست؛ بضمِّ النون وفتحها في الولادة، وفي الحيض بالفتح لا غير)، كذا في «عمدة القاري»، (قلت: نعم)؛ أي: نفست، (قال) عليه السلام لها: (إن هذا) أي: الحيض (أمر)؛ أي: شأن، وزعم الكرماني أن هنا (أمر)، وفي الترجمة (شيء) فهو إما من باب نقل الحديث بالمعنى، وإما أن اللفظين ثابتان.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا يحتاج إلى الترجمة، واللفظان ثابتان) انتهى.
(كتبه الله) سبحانه وتعالى (على بنات آدم)؛ لأجل أن يمتحنهن به، وليظهر صبرهن وعدمه على العبادة، وهنا محل مطابقة الحديث للترجمة، (فاقضي) خطاب لعائشة؛ فلهذا لم تسقط الياء؛ ومعناه: فأدِّي؛ لأنَّ القضاء يأتي بمعنى: الأداء، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة: 10]؛ أي: فإذا أُدِّيت صلاة الجمعة، كذا في «عمدة القاري» (ما يقضي الحاج)؛ أي: من المناسك، وهو اسم فاعل أصله حاجج، وإنما يأتي في ضرورة الشعر هكذا؛ كقول الراجز:
بكل شيخ عامرأوحاجج
وفي «الصحاح» تقول: حججت البيت أحجه حجًّا، فأنا حاجٌّ، ويجمع على حجج؛ مثل: بازل وبزل، كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني المراد من الحاج: الجنس، فيشمل الجمع، وهو كقوله تعالى: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67].
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: لا ضرورة إلى هذا الكلام؛ فافهم.
(غيرَ) بالنصب (ألَّا)؛ بالتشديد أصله: أن لا، ويجوز أن تكون أن مخففة من المثقلة، وفيه ضمير الشأن، و (أن) [2] زائدة، وقوله: (تطوفي) مجزوم بـ (لا)؛ والمعنى: لا تطوفي ما دمت حائضًا؛ لفقدان صحة الطواف؛ وهو الطهارة، وزاد في الرواية الآتية: (حتى تطهري)، (قالت)؛ أي: عائشة: (وضحَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن نسائه) وهن تسع أو إحدى عشرة بزيادة مارية وريحانة، وسماهما نساء تغليبًا؛ لأنَّهما مملوكتان، وهذا ظاهر في عدم الإذن منهن له عليه السلام؛ لأنَّه لو كان ثمة إذن؛ لذكرته، غايته: أنها ذكرت فعله عليه السلام من نفسه بدون إذن من أحد نسائه الطاهرات (بالبقر) ويروى: (بالبقرة)، والفرق بينهما كتمرة وتمر، وعلى تقدير عدم التاء: يحتمل التضحية بأكثر من بقرة واحدة، كذا قاله في «عمدة القاري».
ثم قال: وفي الحديث: أن المرأة إذا حاضت بعد الإحرام ينبغي لها أن تأتي بأفعال الحج كلها غير أنها لا تطوف بالبيت، فإن طافت قبل أن تتطهر؛ فعليها بدنة، وكذلك النفساء والجنبة عليها
%ص 327%
بدنة بالطواف قبل التطهُّر من النفاس والجنابة، وأما الحدث، فإن طاف طواف القدوم؛ فعليه صدقة.
وزعم الشافعية أنَّه لا يعتد به، والطهارة شرط له عندهم، وكذا الحكم في كل طواف، وهو تطوع، ولو طاف طواف الزيارة محدثًا؛ فعليه شاة، وإن كان جنبًا؛ فعليه بدنة، وكذا الحائض والنفساء.
وفيه: جواز البكاء والحزن لأجل حصول مانع للعبادة، وفيه: جواز التضحية ببقرة واحدة لجميع نسائه، وفيه: دليل على جواز تضحية الرجل لامرأته بدون إذن منها.
وزعم النووي أنه محمول على أنه عليه السلام استأذنهن في ذلك، فإن تضحية الإنسان عن غيره لا تجوز إلا بإذنه.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا في الواجب، وأما في التطوع؛ فلا يحتاج إلى الإذن، كما هو صريح حديث الباب.
وذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والشافعي: إلى أن التضحية بالبدنة أفضل من البقرة؛ لحديث ساعة الجمعة، فإن فيه تقديم البدنة على البقرة، وهو يقتضي الأفضلية، وذهب مالك: إلى [أن] البقر أفضل من البدنة في التضحية؛ لحديث الباب، ورد بأن حديث الباب لا دلالة فيه على الأفضلية؛ لاحتمال أنه عليه السلام لم يجد يومئذٍ إلا البقر؛ فيتعين.
قال في «عمدة القاري»: (وهنا حديث طويل فيه أحكام كثيرة وخلافات بين العلماء وموضعها كتاب «الحج») انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (نحوًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (نحوًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (نحوًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/506)
(2) [باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله]
هذا (باب) حكم (غَسل)؛ بفتح الغين المعجمة (الحائض) ومثلها النفساء والجنبة (رأس زوجها وترجيلِه)؛ أي: وحكم ترجيل رأسِه، وهو بالجر عطف على (غسل) المجرور بالإضافة، وهو أيضًا بالجيم: تسريح شعر الرأس، وقال ابن السِّكِّيت: (شعر رجل)؛ بفتح الجيم وكسرها إذا لم يكن شديد الجعودة ولا سبطًا تقول منه: رجل شعره ترجيلًا.
==========
%ص 328%
==================
(1/507)
[حديث: كنت أرجل راس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حايض]
295# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن هشام بن عُرْوة) بضمِّ العين المهملة، وسكون الواو، (عن أبيه) هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قال: كنت أُرجِّل) بضمِّ الهمزة، وتشديد الجيم؛ أي: أسرح (رأس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فيه إضمار؛ تقديره: كنت أرجل شعر رأس رسول الله عليه السلام؛ لأنَّ الترجيل للشعر لا للرأس، ويجوز أن يكون من باب إطلاق المحل، وإرادة الحال، كذا في «عمدة القاري» (وأنا حائض): جملة اسمية وقعت حالًا، وفيه المطابقة للترجيل في الترجمة لـ (رأس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، وأما أمر الغسل؛ فلا مطابقة له، كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنه ألحق به الغسل قياسًا أو إشارة إلى الطرق الآتية في باب (الحيض)، فإنه صريح في ذلك.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: الوجهان اللذان ذكرهما هذا القائل لا وجه لهما أصلًا، أما الأول؛ فلأن وضع التراجم في الأبواب: هل هو حكم من الأحكام الشرعية حتى يقاس حكم منها على حكم آخر؟! وأما الثاني؛ فهو وضع لوجه ترجمة في باب، والإشارة إلى المترجم الذي وضع لها في الباب الثالث) انتهى.
وفي الحديث: جواز ترجيل الحائض شعر رأس زوجها، وفيه: جواز استخدام الزوجة برضاها وهو بالإجماع، وكذا لا خلاف لأحد في غسل الحائض رأس زوجها وترجيله إلا ما نقل عن ابن عباس: أنه دخل على خالته ميمونة رضي الله عنها فقالت: (إي بني؛ ما لي أراك شعث الرأس؟) فقال: إن أم عمار ترجلني وهي الآن حائض، فقالت: إي بني؛ ليست الحيضة باليد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يضع رأسه في حجر إحدانا وهي حائض)، ذكره ابن أبي شيبة في «مصنفه»، والله أعلم.
==========
%ص 328%
==================
(1/508)
[حديث عروة: أخبرتني عائشة أنها كانت ترجِّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم]
296# وبه قال: (حدثنا إبراهيم بن موسى)؛ هو ابن يزيد التميمي الرازي أبو إسحاق الفراء، يعرف بالصغير، وكان أحمد ينكر على من يقول له: الصغير ويقول: هو كبير في العلم والجلالة (قال: حدثنا هشام بن يوسف) هو الصنعاني أبو عبد الرحمن قاضي صنعاء، من أبناء الفرس وهو أكبر اليمانيين وأحفظهم وأتقنهم، مات سنة سبع وتسعين ومئة: (أن ابن جُرَيج)؛ بضمِّ الجيم، وفتح الراء، واسمه: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي القرشي الموصلي، رومي الأصل، أحد العلماء المشهورين، وهو أول من صنف في الإسلام في قول، وكانت كنيته أبو الوليد، أو أبو خالد، مات سنة خمسين ومئة، وهو جاوز السبعين (أخبرهم)؛ أي: أخبر هشام [1] بن يوسف وأصحابه (قال: أخبرني) بالإفراد، وفي رواية: (أخبرنا) (هشام) زاد في رواية: (ابن عروة)، ففيه أن ابن جريج يروي عن هشام، وهشام يروي عن ابن جريج، فالأعلى ابن عروة، والأدنى ابن يوسف، وهي لطيفة حسنة، (عن عروة) هو أبوه هو ابن الزبير بن العوام: (أنه)؛ أي: عروة (سُئِل)؛ بالبناء للمجهول: (أتخدمني الحائض؟) الهمزة فيه للاستفهام، ومثل الحائض النفساء والجنبة، ولم يُعرَف السائل، (أو تدنو) أي: تقرب (مني المرأة) حالة النوم، أو الأكل، أو اللبس، أو غير ذلك (وهي جنب): جملة اسمية وقعت حالًا، ولفظ (جنب) يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع، وهي اللغة الفصيحة، كذا في «عمدة القاري»؛ لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، (فقال عروة): في جواب السائل: (كل ذلك) الإشارة إلى الخدمة والدنوِّ اللذين يدل [2] عليهما لفظ: (يخدمني)، و (تدنو)، وجاءت الإشارة بلفظ: (ذلك) للمثنى في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] (على هيِّن)؛ أي: سهل، وهو بالتشديد والتخفيف؛ كميت وميت، وأصله: هيون اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وسقط لفظ (على) فقط في رواية، (وكل ذلك)؛ أي: الحائض والجنب، والتذكير باعتبار المذكور لفظًا، ووجه التثنية قد ذكرناه، و (كل) مرفوع على الابتداء أو منصوب على الظرف (تخدمني) في الأكل، والشرب، وغيرهما، (وليس على أحد) أي: أنا وغيري (في ذلك بأس)؛ أي: حرج، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: وليس عليَّ في ذلك بأس، لكنه قصد بذلك التعميم مبالغة فيه، ودخل هو فيه بالقصد الأول، كذا قاله إمام الشارحين (أخبرتني) بالإفراد (عائشة): الصديقة رضي الله عنها: (أنها كانت ترجَّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: تسرح شعر رأس النبيِّ الأعظم عليه السلام؛ وفي رواية يعني: رأس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (وهي حائض)؛ بالهمزة، والجملة حالية، وإنما لم يقل: حائضة؛ لعدم الالتباس لاختصاص الحيض بالنساء، وأما قوله: جاءت الحاملة والمرضعة في الاستعمال؛ فلإرادة التباسهما بذلك الصفة بالفعل، فإذا أريد التباسهما بالقوة؛ تكون بلا تاء، قال الإمام الزمخشري في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} [الحج: 2]، فإن قلت: لم قيل: مرضعة دون مرضع؟
قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع في حال وضعها به، كذا في «عمدة القاري».
(ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حينئذٍ) أي: حين الترجل (مجاور) أي: معتكف (في المسجد) أي: مسجده عليه السلام (يُدني)؛ بضمِّ التحتية؛ أي: يقرب (لها)؛ أي: لعائشة (رأسه) الشريف عليه السلام (وهي في حُجرتها)؛ بضمِّ الحاء المهملة؛ أي: بيتها، والجملة حالية؛ أي: والحال
%ص 328%
أنها في حجرتها، وكانت حجرتها ملاصقة للمسجد النبوي، (فترجله)؛ أي: فترجل عائشة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: تسرح شعر رأسه (وهي حائض) الجملة حالية؛ أي: والحال أنها حائض، والحديث دال على جواز خدمة الحائض فقط، وأما دلالته على دنوِّ الجنب؛ فبالقياس عليها، والجامع اشتراكهما في الحدث الأكبر وهو القياس الجلي؛ لأنَّ الحكم بالفرع أولى؛ لأنَّ الاستقذار في الحائض أكثر، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: (ومما يستنبط من الحديث: أن المعتكف إذا أخرج يده، أو رأسه، أو رجله من المسجد؛ لم يبطل اعتكافه، وأن من حلف لا يدخل دارًا ولا يخرج منها، فأدخل بعضه أو أخرج بعضه؛ لا يحنث، وفيه: استخدام الزوجة في الغسل ونحوه برضاها، وأما بغير رضاها؛ فلا يجوز؛ لأنَّ عليها تمكين الزوج من نفسها وملازمة بيته فقط) انتهى.
قلت: وفيه: دليل على أن الحائض ومثلها النفساء والجنب لا تدخل المسجد تنزيهًا له وتعظيمًا؛ لأنَّه لا يؤمن تلوثه، وفيه: دليل على أن المباشرة لا تنقض الوضوء؛ كمس اليد، والرأس، وغيرهما، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وقال ابن بطال: (والحديث حجة في طهارة الحائض وجواز مباشرتها، وفيه: دليل على أن المباشرة التي قال الله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187] لم يرد بها كل ما وقع عليه اسم المس، وإنما أريد بها: الجماع أو ما دونه من الدواعي؛ كاللذة لا المس؛ أي: لأنَّه غير ناقض للوضوء، وفيه: ترجيل الشعر للرجال وما في معناه من الزينة، وفيه: أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيهًا وتعظيمًا له، وهو المشهور من مذهب مالك، وحكى ابن مسَلَمَة أنها تدخل هي والجنب، وفي رواية: «يدخل الجنب ولا تدخل الحائض»، وفيه حجة على الشافعي في أن المباشرة مثل ما ذكر في الحديث لا تنقض الوضوء) انتهى.
وزعم ابن حجر تبعًا للكرماني أنه لا حجة فيه؛ لأنَّ الاعتكاف لا يشترط فيه الوضوء، وليس في الحديث أنه عقَّب ذلك الفعل بالصَّلاة، وعلى تقدير ذلك؛ فمس الشعر لا ينقض الوضوء، انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» (بأنه ليس في الحديث أيضًا أنه توضأ عقيب ذلك) انتهى.
قلت: والحق أن الحديث حجة واضحة على الشافعي؛ لأنَّه لا يلزم من عدم اشتراط الوضوء للاعتكاف ألَّا يكون وقتئذٍ متوضئًا، بل من عادته عليه السلام أنه يكون دائمًا على الوضوء في جميع أحواله، على أن كونه في المسجد دليل على أنه كان متوضِّئًا، ولأنَّه لا يلزم من أنه لم يذكر في الحديث أنه عقَّب ذلك الفعل بالصَّلاة ألَّا يصلي أصلًا، بل من عادته عليه السلام أنه مواظب على الصَّلاة التي هي عبادة الرب عز وجل؛ فإنه عليه السلام كان يقوم الليل إلا قليلًا، فالنهار حال الاعتكاف أولى به بالصَّلاة على أنه كونه في المسجد دليل على أنه كان يصلي عقب ذلك؛ لأنَّ هذا الفعل للزينة والله تعالى أحق أن يتزين له.
وعلى كلٍّ؛ فالحديث حجة عليه؛ لأنَّ من عادة مس الشعر أنه تمس البشرة؛ لأنَّه وإن كان مس الشعر غير ناقض عندهم إلا أنه من عادة تسريح الشعر أنه تمس البشرة وتمس اليد وغيرها، على أنه عليه السلام من عادته أن يدهن بعد التسريح، وإن لم يذكر في الحديث؛ فإنه ظاهر والله يتولى السرائر.
==========
[1] في الأصل: (هشامًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اللذان يدل)، والمثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (هشامًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (هشامًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/509)
(3) [باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض]
هذا (باب) حكم (قراءة الرجل) وفي رواية: (باب قراءة القرآن)، وقوله: (في)؛ بمعنى: (على)، كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ [1] فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]؛ أي: عليها (حجْر)؛ بفتح الحاء المهملة وكسرها، وسكون الجيم، والجمع حُجُور، ومحل الجار والمجرور نصب على الحال؛ والتقدير: قراءة الرجل حال كونه متكئًا على حجر (امرأته)؛ أي: أو أمته، ويجوز أن يقدر واضعًا رأسه على حجر امرأته، أو مستندًا إليه، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (وكان أبو وائل)؛ بالهمزة، هو شقيق بن سَلَمَة الأسدي، أدرك النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يره، يروي عن كثير من الصحابة، قال يحيى بن معين: (ثقة لا يسأل عن مثله)، قال الواقدي: (مات في خلافة عمر بن عبد العزيز)، وهذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند صحيح، كذا في «عمدة القاري» (يرسل خادمه)؛ الخادم اسم لمن يخدم غيره، ويطلق على الغلام والجارية، فلهذا قال: (وهي حائض) فأنَّث الضمير (إلى بني رَزِين)؛ بفتح الراء، وكسر الزاي المعجمة، اسمه: مسعود بن مالك الأسدي مولى أبي وائل الكوفي التابعي، روى له مسلم، والأربعة (لتأتيه)، وفي رواية: (فتأتيه) (بالمصحف، فتمسكه بعِلاقته)؛ بكسر العين المهملة؛ ما يعلق به المصحف من الخيط الذي يربط به كيسه، وكذلك علاقة السيف.
ووجه مطابقته للترجمة ما قال في «التلويح»: لما ذكر البخاري حمل الحائض العلاقة التي فيها المصحف؛ نظرها بمن يحفظ القرآن فهو حامله؛ لأنَّه في جوفه، كما روي عن ابن المسيب وابن جبير: (هو في جوفه)، ولما قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ورقة وهو جنب قال: في جوفه أكثر من هذا، ونزَّل ثياب الحائض بمنزلة العلاقة، وقراءة الرجل بمنزلة المصحف؛ لكونه في جوفه) انتهى، وتبعه صاحب «التوضيح».
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا في غاية البعد؛ لأنَّ بين قراءة الرجل في حجر امرأته وبين حمل الحائض المصحف بعلاقته فرقًا عظيمًا [2] من الجهة التي ذكرت؛ لأنَّ قوله: «نظرها» إما تشبيه، وإما قياس، فإن أراد به التشبيه؛ فهو تشبيه مخصوص بمفعول فلا وجه له، وإن أراد به القياس؛ فشروطه غير موجودة فيه، ويمكن أن يقال: وجه التطابق بينهما هو جواز الحكم في كل منهما، فكما تجوز قراءة الرجل في حجر الحائض كذلك يجوز حمل الحائض المصحف بعلاقته، وفي كل منهما دخل للحائض، وفيه وجه التطابق، ثم لو قيل ما قيل في ذلك؛ فلا يخلو عن تعسف) انتهى.
ثم قال: (وفي الأثر دليل: على جواز حمل الحائض المصحف بعِلاقته؛ يعني: بغير مسه ومثلها النفساء والجنب، وممن أجاز ذلك ابن عمر، وعطاء، وحمَّاد، والحسن، ومُجَاهِد، وأبو زيد، وطاووس، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وأبي ثور، والشعبي، والقاسم بن محمَّد، ومالك، والشافعي، وأحمد)، وقال ابن حزم: قراءة القرآن، والسجود فيه، ومس المصحف، وذكر الله تعالى؛ جائز بوضوء وبغير وضوء للجنب والحائض، وهو قول ربيعة، وابن المسيب، وابن جبير، وابن عباس، وداود، وجميع أصحابنا، أما مس المصحف؛ فإن الآثار التي احتج بها من يجيز للجنب مسه؛ فإنه لا يصح منها شيء؛ لأنَّها إما مرسلة، وإما عن مجهول، وإما عن ضعيف، والصحيح: عن ابن عباس، عن أبي سفيان حديث هرقل الذي فيه: {[قُلْ] يَا أَهْلَ [3] الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، فهذا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد بعث كتابًا فيه قرآن للنصارى، وقد أيقن أنهم
%ص 329%
يمسونه، فإن ذكروا حديث ابن عمر: (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ؛ مخافة أن يناله أهل الحرب)؟
قلنا: هذا حق يلزم اتباعه، وليس فيه: لا يمس المصحف جنب ولا كافر، وإنما فيه ألا ينال أهل الحرب القرآن فقط.
وإن قالوا: إنَّما بعث إلى هرقل بآية واحدة؟
قيل لهم: ولم يمنع من غيرها وأنتم أهل قياس؛ فإن لم تقَيْسوا على الآية ما هو أكثر منها؛ فلا تقَيْسوا على هذه الآية غيرها.
فإن ذكروا قوله جل وعلا: {لاَ يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].
قلنا: لا حجة فيه؛ لأنَّه ليس أمرًا، وإنما هو خبر، والرب سبحانه لا يقول إلا حقًّا، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي أو إجماع متيقن؛ فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر؛ علمنا أنه لم يعن المصحف وإنما عنى كتابًا آخر عنده، كما جاء عن ابن جبير في هذه الآية: هم الملائكة الذي في السماء، وكان علقمة إذا أراد أن يتخذ مصحفًا؛ أمر نصرانيًّا بنسخه له) انتهى.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: والجواب عما قاله فقوله: (فإن الآثار التي احتج بها ... إلى آخره) ليس كذلك، فإن أكثر الآثار في ذلك صحاح:
منها: ما رواه الدارقطني في «سننه» بسند صحيح متصل عن أنس: (خرج عمر بن الخطاب متقلدًا سيفًا؛ فدخل على أخته وزوجها حباب وهم يقرؤون سورة طه، فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه، فقالت له أخته: إنك رجس و {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، فقم فاغتسل، أو توضأ، فقام فتوضأ، ثم أخذ الكتاب).
ومنها: ما رواه الدارقطني أيضًا بسند صحيح من حديث سالم يحدث عن أبيه قال: (قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يمس القرآن إلا طاهر»)، قال الجوزقاني: (هذا حديث مشهور حسن).
ومنها: ما رواه الدارقطني أيضًا من حديث الزُّهري عن أبي بكر محمَّد بن حزم، عن أبيه، عن جده: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كتب إلى أهل اليمن كتابًا فيه: «لا يمس القرآن إلا طاهر»)، ورواه في «الغرائب» من حديث إسحاق الطباع، عن مالك مسندًا، ومن الطريق الأولى أخرجه الطبراني في «الكبير»، وابن عبد البر، والبيهقي في «الشعب».
وقد وردت أحاديث كثيرة تمنع قراءة القرآن للجنب والحائض:
منها: حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب)، قال أبو عمر: (رويناه من وجوه صحاح).
ومنها: حديث عمر بن مرة، عن عبد الله بن سَلَمَة، عن علي رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلَّا الجنابة»، صححه جماعة منهم: ابن خزيمة، وابن حبان، وأبو علي الطوسي، والترمذي، والحاكم، والبغوي، وأخرجه ابن الجارود في «المنتقى»، زاد ابن حبان: (قد يتوهم غير المتبحر في الحديث أن حديث عائشة رضي الله عنها: «كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه» يعارض هذا وليس كذلك؛ لأنَّها أرادت الذكر الذي هو غير القرآن؛ لأنَّ القرآن يجوز أن يسمى ذكرًا، وكان لا يقرأ وهو جنب، ويقرؤه في سائر الأحوال).
ومنها: حديث جابر رضي الله عنه: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا تقرأ الحائض، ولا الجنب، ولا النفساء من القرآن شيئًا»، رواه الدارقطني، ثم البيهقي، وقال: (إسناده صحيح).
ومنها: حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا علي؛ لا تقرأ القرآن وأنت جنب»، رواه الدارقطني، وعن الأسود أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند لا بأس به، وإبراهيم: (لا يقرأ الجنب)، وعن الشعبي، وأبي وائل مثله بزيادة: (والحائض).
والجواب عن الكتاب إلى هرقل فنحن نقول به: لمصلحة الإبلاغ والإنذار، وأنه لم يقصد به التلاوة، وأما الجواب عن الآية بـ أن المراد بالمطهرين: الملائكة، إن تخصيص الملائكة من بين سائر المطهرين على خلاف الأصل وكلهم مطهرون، والمس والاطلاع عليه إنَّما هو لبعضهم دون الجميع انتهى كلامه.
قلت: فالمراد بقوله: {إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} من الآدميين، و {يَمَسُّهُ} مجزوم بـ (لا) الناهية، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح بذلك جماعة، وقالوا: إنَّه مذهب البصريين، بل قيل: إنَّ سيبويه لم يحفظ في نحوه إلَّا الضم، انتهى.
قلت: وظاهر الأحاديث التي سبق ذكرها يشمل الآية وما دونها؛ لأنَّها مطلقة والمطلق ينصرف إلى الجميع، وهو قول الإمام الكرخي، وصححه صاحب «الهداية»، ومشى عليه حافظ الدين في «المستصفى»، وقواه في «الكافي»، ونسبه صاحب «البدائع» إلى عامة أصحابنا، وصححه الإمام الجليل قاضيخان، وإليه أشار الإمام القدوري، وروى الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (أنه يباح للحائض، والنفساء، والجنب قراءة من دون الآية)، وصححه صاحب «الخلاصة»، ومشى عليه فخر الإسلام في «شرح الجامع الصغير»، ونسبه في «المجتبى» إلى الأكثر، ووجهه صاحب «المحيط» بـ (أن النظم والمعنى يقصر فيما دون الآية، ويجري مثله في محاورات الناس وكلامهم، فتمكنت فيه شبهة عدم القرآن، ولهذا لا تجوز الصَّلاة به).
قال صاحب «البحر»: (والذي ينبغي ترجيحه القول بالمنع فيما دون الآية؛ لأنَّ الأحاديث لم تفصل بين القليل والكثير، والتعليل في مقابلة النص مردود، ولأن «شيئًا» في الحديث نكرة في سياق النفي، فتعم، وما دون الآية قرآن؛ فيمتنع كالآية) انتهى.
ومحل الخلاف فيما إذا لم تكن الآية طويلة، فلو كانت طويلة؛ كان بعضها كآية؛ لأنَّها تعدل ثلاث آيات، كذا ذكره صاحب «الحلية» عن شرح «الجامع» لفخر الإسلام، وهذا كله إذا قرأ على قصد أنه قرآن، أما إذا قرأ على قصد الدعاء، أو الثناء، أو افتتاح أمر؛ فإنه لا يحرم، كما في «البحر» عن «الخلاصة»، وهذا إذا كان مشتملًا على الذكر، أما إذا كان مشتملًا على حكم أو خبر؛ فلا يجوز ولو قصد الذكر فيه كما في «الشرنبلالية»، و «الإمداد».
قال الإمام الفقيه أبو الليث في «العيون»: (قراءة الفاتحة على وجه الدعاء أشياء من الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد القرآن؛ لا بأس به).
وفي «غاية البيان»: أنه المختار، واختاره شمس الأئمَّة الحلواني.
ويكره للجنب، والحائض، والنفساء قراءة التوراة، والإنجيل، والزبور هو الصحيح؛ لأنَّ الكل كلام الله تعالى، كذا في «الخلاصة»؛ لأنَّ ما تبدل منه بعض غير معين، وما لم يبدل غالب وهو واجب الصون والتعظيم، وإذا اجتمع المحرم والمبيح؛ غلب، وقال عليه السلام: «دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك»، وبهذا ظهر فساد قول الشافعية: إنه يجوز الاستنجاء بما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فإنه مجازفة عظيمة على الله عز وجل؛ لأنَّه تعالى لم يخبرنا بأنهم بدلوها عن آخرها، وكونه منسوخًا لا يخرجه عن كونه كلام الله تعالى؛ كالآيات المنسوخة من القرآن، كما في «شرح المنية».
قلت: على أن [4] الأحرف وحدها قرآن أنزل على هود عليه السلام، فيجب
%ص 330%
تعظيمها لحرمتها، ولو كانت مقطعة، كذا قاله الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وصرح به القسطلاني في «الإشارات».
قلت: ومقتضاه الحرمة بالمكتوب مطلقًا يدل عليه أن غرضهم بالتبديل للأحكام لا للأسماء والدعوات فهي باقية على حالها، وخلوُّ اسم معظم منها غير ممكن ولو سلم، فهو موهوم غير متحقق، والأحكام لا تبنى على الوهم، فما قاله الشافعية افتراء وجراءة على الله عز وجل نعوذ بالله من قولهم، وما هو إلا جهل مركب، اللهم؛ إنا نعوذ بك من الجهل.
وكذا يكره لهم مس التفسير القرآني، وكتب الفقه، والسنن، والأحاديث، وكذا مس شروح النحو؛ لأنَّها لا تخلو عن آيات، وهذا قول الإمامين الهمامين أبي يوسف، ومحمَّد بن الحسن رحمهما الله تعالى، وقال الإمام الأعظم: لا يكره، وهو الأصح، كما في «الخلاصة»، ووجهه: أنه لا يسمى ماسًّا للقرآن؛ لأنَّ ما فيها منه بمنزلة التابع، فكان كما لو توسد خُرْجًا فيه مصحف، أو ركب فوقه في السفر، كذا في «شرح المنية».
وقال في «الأشباه»: (وقد جوز أصحابنا مس كتب التفسير للمحدث ولم يفصلوا بين كون الأكثر تفسيرًا أو قرآنًا، ولو قيل به اعتبارًا للغالب؛ لكان حسنًا) انتهى؛ أي: بأن يقال: إن كان التفسير أكثر؛ لا يكره، وإن كان القرآن أكثر؛ يكره، والأولى إلحاق المساواة بالثاني.
قلت: وهو المنقول عن الشافعي، وقال في «السراج»: (كتب التفسير لا يجوز مس موضع القرآن منها، وله أن يمس غيره) انتهى.
وقال في «المحيط»: (ويكره للحائض مس المصحف بالكُمِّ عند البعض، والعامة على أنه لا يكره) انتهى، وهو المختار، كما في «الكافي»، ومثل الكم غيره من الثياب، كما في «فتح القدير»، ومثل الغلاف صندوق الرَّبْعَة، وكذا كرسي المصحف وإن لم يكن مسمرًا؛ لأنَّه غلاف وزيادة، كذا في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (لأصلبنكم)، والمثبت موافق للتلاوة.
[2] في الأصل: (فرق عظيم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ويا أهل)، والمثبت موافق للتلاوة.
[4] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (لأصلبنكم)، والمثبت موافق للتلاوة.
[2] في الأصل: (فرق عظيم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ويا أهل)، والمثبت موافق للتلاوة.
[1] في الأصل: (لأصلبنكم)، والمثبت موافق للتلاوة.
[2] في الأصل: (فرق عظيم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ويا أهل)، والمثبت موافق للتلاوة.
(1/510)
[حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن]
297# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو نُعيم) بضمِّ النون (الفضل بن دُكين) بضمِّ الدال المهملة أنه (سمع زُهيرًا) بضمِّ الزاي المعجمة؛ هو ابن معاوية بن جرير الجعفي، (عن منصور ابن صفية)؛ هي بنت شيبة، وأبو منصور عبد الرحمن الحجبي العبدري المكي، كان يحب البيت، وهو شيخ كبير، وإنما نسب منصور إلى أمه؛ لأنَّه اشتهر بها، ولأنَّه روى عنها، كذا في «عمدة القاري»: (أن أمه) أي: صفية بنت شيبة المذكورة (حدثته) أي: حدثت ابنها منصور: (أن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (حدثتها) أي: حدثت صفية: (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتكئ)؛ بالهمزة من باب (الافتعال)، أصله: يوتكي قلبت الواو تاء [1] وأدغمت التاء في التاء [2]، وثلاثيه وكاء، وهي جملة في محل النصب؛ لأنَّها خبر (كان) (في حجري) كذا في الروايات وهو الصواب، ووقع في رواية العذري: (حجرتي)؛ بتاء مثناة من فوق، وهو وهم، كذا في «عمدة القاري» (وأنا حائض): جملة اسمية وقعت حالًا، قال الكرماني: إما من فاعل (يتكئ)، وإما من المضاف إليه وهو ياء المتكلم.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: من فاعل «يتكئ» لا وجه له على ما لا يخفى، وما هي إلا من ياء المتكلم في «حجري»، ولا يمنع وقوع الحال من المضاف إليه إذا كان بين المضاف والمضاف إليه شدة الاتصال؛ كما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125]).
وكلمة (في) في قوله: (حجري)؛ بمعنى (على)، كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ [3] فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71].
فإن قلت: ما فائدة العدول عنه؟
قلت: لبيان التمكن فيه لتمكن المظروف من الظرف، كذا في «عمدة القاري».
(فيقرأ القرآن)؛ بالفاء، كذا في النسخ، وفي نسخة: (ثم يقرأ القرآن).
قلت: والفاء هي الصواب؛ لإفادتها التعقيب؛ لأنَّ التراخي هنا لا معنى له وهو غير مراد، وعند المؤلف في (التوحيد): (كان يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض)، قال في «عمدة القاري»: (فعلى هذا: المراد بالإتكاء: وضع رأسه في حجرها)، وقال ابن دقيق العيد: (في هذا القول إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأنَّ قراءتها لو كانت جائزة؛ لما توهم امتناع القراءة في حجرها، حتى احتيج إلى التنصيص عليها، وفيه: جواز ملامسة الحائض؛ لأنَّها طاهرة، وفيه: جواز القراءة بقرب محل النجاسة).
ونظر فيه صاحب «عمدة القاري»: (لأن الحائض طاهرة، والنجاسة هو الدم وهو غير طاهر في كل وقت من أوقات الحيض، فعلى هذا؛ لا تكره قراءة القرآن بحذاء بيت الخلاء، ومع هذا ينبغي أن يكره تعظيمًا للقرآن؛ لأنَّ ما قرب للشيء؛ يأخذ حكمه)، وفيه: جواز استناد المريض في صلاته إلى الحائض إذا كانت ثيابها طاهرة، قاله القرطبي.
قال في «عمدة القاري»: (وفيه نظر)، ولم يذكر وجهه.
قلت: ولعل وجهه أن الحائض طاهرة، كما أفصح به الحديث ولا يلزم طهارة ثيابها؛ لأنَّ المريض المصلي إذا استند إليها؛ لا يسمى حاملًا للنجاسة التي على ثيابها؛ فصار كمن صلى وبقربه نجاسة، فإن صلاته جائزة، والله أعلم.
قال صاحب «التوضيح»: (وجه مناسبة إدخال حديث عائشة فيه أن ثيابها بمنزلة العِلاقة، والشارع بمنزلة المصحف؛ لأنَّه في جوفه وحامله؛ إذ غرض البخاري بهذا الباب الدلالة على جواز حمل الحائض المصحف، وقراءتها القرآن، فالمؤمن الحافظ له أكبر أوعيته).
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ليس في الحديث إشارة إلى الحمل وفيه الاتكاء، والاتكاء غير الحمل، وكون الرجل في حجر الحائض لا يدل على جواز الحمل، وغرض البخاري الدلالة على جواز القراءة بقرب موضع النجاسة، لا على جواز حمل الحائض المصحف، وبهذا رد الكرماني على ابن بطال في قوله: «غرض البخاري» في هذا الباب أن يدل على جواز حمل الحائض للمصحف وقراءتها القرآن)، واعترضه صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: رده عليه إنَّما لا يستقيم في قوله: «وقراءتها»؛ لأنَّه ليس في الحديث ما يدل على جواز قراءة الحائض القرآن، والذي فيه يدل على جواز قراءة القرآن في حجر الحائض، وعلى جواز حمل المصحف لها بعلاقته، فأورد حديثًا وأثرًا، فالحديث يدل على الأول، والأثر على الثاني، لكنه غير مطابق للترجمة، وكلما كان من هذا القبيل؛ ففيه تعسف ولا يقرب من الواقعة إلا بالجر الثقيل) انتهى كلامه رضي الله عنه.
==================
[1] في الأصل: (ياء)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (الياء في الياء)، وهو تصحيف.
(1/511)
(4) [باب من سمى النفاس حيضًا]
هذا (باب) بيان (من سمَّى النفاس حيضًا) كان ينبغي أن يقول: (باب من سمَّى الحيض نفاسًا)؛ لأنَّ الذي في الحديث الآتي: فقال: «أنفست؟»؛ أي: أحضت؟ فأطلق على الحيض النفاس، كذا قاله صاحب «عمدة القاري».
وقال ابن بطال: (لما لم يجد البخاري للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم نصًّا في النفاس وحكم دمها في المدة المختلفة، وسمى الحيض نفاسًا في هذا الحديث؛ فهم منه أن حكم دم النفاس حكم دم الحيض في ترك الصَّلاة؛ لأنَّه إذا كان الحيض نفاسًا؛ وجب أن يكون النفاس حيضًا؛ لاشتراكهما في التسمية
%ص 331%
من جهة اللغة؛ لأنَّ الدم هو النفس، ولزم الحكم لما لم ينص عليه مما نص، وحكم النفاس ترك الصَّلاة ما دام دمها موجودًا).
وقال الخطابي: (ترجم أبو عبد الله بقوله: «من سمى النفاس حيضًا» والذي ظنه في ذلك وهم، وأصل هذه الكلمة: مأخوذ من النفس وهو: الدم إلا أنهم فرقوا فقالوا: نَفست بفتح النون؛ إذا حاضت، وبضمِّ النون؛ إذا ولدت).
وقال الكرماني: (ليس الذي ظنه وهمًا؛ لأنَّه إذا ثبت هذا الفرق والرواية التي بالضم صحيحة؛ صح أن يقال حينئذٍ: سمى النفاس حيضًا، وأيضًا يحتمل أن الفرق لم يثبت عنده لغة، بل وضعت نَفست مفتوح النون ومضمومها عنده للنفاس بمعنى: الولادة، كما قال بعضهم بعدم الفرق أيضًا بأن اللفظين للحيض والولادة كليهما).
وقال ابن المنيِّر: (كيف تطابق الترجمة للحديث وفيه تسمية الحيض نفاس لا تسمية النفاس حيضًا؟
قلت: للتنبيه على أن حكم النفاس والحيض في منافاة الصَّلاة ونحوها واحد، وألجأه إلى ذلك أنه لم يجد حديثًا على شرطه في حكم النفاس؛ فاستنبط من هذا الحديث أن حكمها واحد) انتهى.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: قلت: هذا الكلام في الحقيقة مضمون كلام ابن بطال، وكلامه يشعر بالمساواة بين مفهومي الحيض والنفاس، وليس كذلك؛ لجواز أن يكون بينهما عموم وخصوص من وجه؛ كالإنسان والحيوان، وقول الكرماني: (يحتمل أن الفرق لم يثبت عنده لغة ... إلى آخره) غير سديد؛ لأنَّ هذا لا يقال عن أحد إلا ممن يكون من أئمة اللغة، والبخاري من أئمة الحديث، والصواب الذي يقال ههنا على وجهين؛ أحدهما: أن هذه الترجمة لا فائدة في ذكرها؛ لأنَّه لا ينبني عليها مزيد فائدة، والثاني: لو سلمنا أن لها فائدة؛ فوجهها أن يقال: لما لم يثبت الفرق عنده بين مفهومي الحيض والنفاس؛ يجوز ذكر أحدهما وإطلاق الآخر، ففي الحديث ذكر النفاس، وأريد الحيض؛ فلذلك ذكر المصنف النفاس وأراد الحيض، وعلى هذا معنى قوله: (باب من سمى النفاس حيضًا)؛ يعني: ذكر النفاس وأراد به: الحيض، فكذلك المذكور في الحديث نفاس والمراد به: الحيض، وذلك أنه لما قال عليه السلام: «أنفست؟» أجابته بـ (نعم)، وكانت حائضًا، فقد جعلت النفاس حيضًا، فطابق الحديث ما ترجم به، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
زاد في رواية الكشميهني: (والحيض نفاسًا).
==================
(1/512)
[حديث أم سلمة: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميصة إذ حضت]
298# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مكي) وفي رواية: (المكي) (بن إبراهيم) هو ابن بشير التميمي البلخي أبو السكن (قال: حدثنا هشام) هو الدستوائي، (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة، (عن أبي سَلَمَة)؛ هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وفي رواية مسلم روى عنه بالتحديث قال: (حدثني أبو سَلَمَة): (أن زينب بنت) وفي رواية: (ابنة) (أم سَلَمَة) الصحابية بنت أم المؤمنين (حدثته) أي: حدثت أبا سَلَمَة: (أن أم سَلَمَة) أم المؤمنين، واسمها هند بنت أبي أمية (حدثتها) أي: حدثت زينب، في السند (أبو سَلَمَة) و (أم سَلَمَة) وليست كنيتان باعتبار شخص واحد، بل سَلَمَة الأول: هو والد عبد الرحمن، وسَلَمَة الثاني: هو ولد بن عبد الأسد، والغرض أن أبا سَلَمَة ليس أباربيب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (قالت: بينا)؛ بغير ميم أصله: (بين)، فأشبعت فتحة النون بالألف، و (بينا) و (بينما) ظرفان؛ بمعنى: المفاجأة، ومضافان إلى جملة من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما ألا يكون فيه (إذ) و (إذا)، وههنا جاء الجواب بـ (إذ)، وهو قوله: (إذ حضت) وهو العامل فيه، كذا قرره صاحب «عمدة القاري» (أنا مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم مضطجعة) أصله: مضتجعة؛ لأنَّه من باب (الافتعال)، فقلبت التاء طاء، ويجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع؛ فعلى الخبرية، وأما النصب؛ فعلى الحال (في خَمِيصة)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم؛ وهو كساء مربع له علمان، وقيل: الخماص: ثياب من خزتجان سود وحمر، ولها أعلام ثخان أيضًا قاله ابن سيده، وفي «الصحاح»: (كساء أسود مربع وإن لم يكن معلمًا؛ فليس بخميصة)، وقال الأصمعي: (الخمائص: ثياب خز أو صوف معلمة، وهي سود كانت من لباس الناس)، كذا في «الغريبين»، وقال ابن سيده: (والخميصة: القطيفة)، وقال السكري: (الخميل: القطيفة ونحوها مما ينسج، ويفضل له فضول)، وفي
%ص 332%
«الصحاح»: (هي الطنفسة).
وزعم النووي أن أهل اللغة قالوا: هو كل ثوب له خمل من أي لون كان، وقيل: هي الأسود من الثياب، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: (إذ حضت) جواب (بينا)، لكنه غير فصيح؛ لما قدمنا أن الأفصح في جوابها ألَّا يكون بـ (إذ) أو (إذا)؛ فافهم، (فانسللت)؛ أي: ذهبت في خفية؛ لاحتمال وصول الشيء من الدم إليه صلَّى الله عليه وسلَّم، أو لأنَّها تقذرت نفسها ولم ترضها عليه السلام لمضاجعته، أو خافت أن ينزل الوحي فانسلت لئلا يشغله حركتها عما هو فيه من الوحي وغيره، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، (فأخذت ثياب حِيضتي)؛ بكسر الحاء المهملة؛ وهي حالة الحيض هذا هو الصحيح المشهور، وزعم الكرماني وقيل: يحتمل فتح الحاء هنا، فإن الخميصة بالفتح؛ هي الحيض).
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: لا يقال هنا بالاحتمال، فإن كلًّا منهما لغة ثبتت عن العرب وهي أن الحِيضة بالكسر: الاسم من الحيض والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، وأما الحَيضة بالفتح؛ فالمرة الواحدة من دفع الحيض أو نوبه، وأنت تفرق بينهما بما تقتضيه قرينة الحال من مساق الحديث، وجاء من حديث عائشة: (ليتني كنت حِيضة ملقاة) وهي بالكسر؛ خرقة الحيض، وجزم الخطابي هنا برواية الكسر، ورجحه النووي، ورجح القرطبي رواية الفتح؛ لوروده في بعض طرقه بلفظ: (حيضي)؛ بغير تاء، كذا في «عمدة القاري».
قلت: فمعنى رواية الكسر: أخذت ثيابي التي أعددتها لألبسها حالة الحيض، ومعنى رواية الفتح: أخذت ثيابي التي ألبسها زمن الحيض، والله أعلم.
(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية: (قال)؛ أي: لها (أنَفِست؟)؛ بفتح النون، وكسر الفاء، وقيل: بضمِّ النون وفتحها، وفي الحيض بالفتح لا غير، وفي «الواعي»: نُفست؛ بضمِّ النون؛ حاضت، قال النووي: (هذا هو الصحيح في اللغة بمعنى: حضت، فأما في الولادة؛ فنُفِست؛ بضمِّ النون، وكسر الفاء)، وفي «نوادر اللحياني»: (نفِست المرأة تنفِس؛ بالكسر في الماضي والمستقبل إذا حاضت)، وفي «أدب الكتاب» عن ثعلب: (النفساء الواحدة، والحامل والحائض)، وقال ابن سيده: (والجمع من كل ذلك نفساوات، ونِفاسٌ، ونفس، ونُفُّس، ونُفَس، ونُفَاس)، كذا في «عمدة القاري»، (قلت)؛ بضمِّير المتكلم؛ أي: قالت أم سَلَمَة: (نعم)؛ أي: نفست، (فدعاني)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فاضطجعت) فيه حذف؛ تقديره: فجئت إليه واضطجعت (معه) أي: مع النبيِّ عليه السلام (في الخميلة)؛ باللام بدل الصاد، قال السكري: (الخميل: القطيفة ونحوها مما ينسج ويفضل له فضول)، وقال ابن سيده: (الخميصة: القطيفة)، وفي «الصحاح»: (هي الطنفسة)، وزعم النووي أنها كل ثوب له خمل من أي لون كان، وقيل: هي الأسود من الثياب، كما قدمناه،
وفي الحديث: دليل على جواز النوم مع الحائض في ثيابها والاضطجاع معها في لحاف واحد، ومثلها النفساء، وفيه: استحباب اتخاذ المرأة ثيابًا للحيض غير ثيابها المعتادة، وفيه: أن عرقها طاهر، وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ} [البقرة: 222]؛ معناه: فاعتزلوا وطأهن، وفيه: التنبيه على أن حكم الحيض والنفاس واحد في منع وجوب الصَّلاة وعدم جواز الصوم، ودخول المسجد، والطواف، وقراءة القرآن، ومس المصحف، ونحو ذلك، كذا قاله في «عمدة القاري».
وقال المهلب: إنما لم ينصَّ البخاري على حكم النفاس وحده؛ لأنَّه لم يجد حديثًا على شرطه في حكم النفاس، واستنبط من الحديث أن حكمهما واحد.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: النصوص فيها كثيرة؛ منها حديث أم سَلَمَة: (كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله عليه السلام أربعين يومًا)، قال الحاكم: (صحيح الإسناد)، وحسنه البيهقي والخطابي.
وعند الدارقطني: أن أم سَلَمَة سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: كم تجلس المرأة إذا ولدت؟ قال: «أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك»، وعند ابن ماجه من حديث سلام بن سليم، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه: (وقَّت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للنفساء أربعين يومًا)، ومثله حديث عثمان، عن أبي العاص قال الحاكم: مرسل صحيح، وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أخرجه الحاكم في «المستدرك»، وحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه الحاكم وأحمد في (الحيض)، وحديث جابر بن عبد الله رواه الطبراني في «الأوسط»، وحديث أبي هريرة، وأبي الدرداء رواه ابن عدي بالإرسال، وأما موقوف ابن عباس؛ فسنده صحيح في «مسند» الدارمي، وأخرجه أيضًا ابن الجارود في «المنتقى»، وفي كتاب «الأحكام» لأبي علي الطوسي: أجمع أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصَّلاة أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك؛ فإنها تغتسل وتصلي، فإذا رأت الدم بعد الأربعين؛ فإن أكثر أهل العلم قالوا: لا تدع الصَّلاة بعد الأربعين، وهو قول أكثر أهل العلم من الفقهاء، ويروى عن الحسن: أنها تدع الصَّلاة خمسين يومًا، وعن عطاء: أنها تدع الصَّلاة ستين يومًا، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وما قاله أكثر أهل العلم هو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وسيدهم، وأصحابه، والجمهور، وما روي عن الحسن هو قول مالك، وما روي عن عطاء هو قول الشافعي، ولا يخفى أن الأحاديث الصحاح المارَّة دليل واضح لما قاله الإمام الأعظم؛ لأنَّ أكثر النفاس أربعون يومًا،÷ فإذا زاد الدم؛ يكون استحاضة؛ فهو دم صحة لا دم فساد، فيجب عليها الصَّلاة، والصوم، ويأتيها زوجها، وتجري عليها أحكام الطاهرات، ونسأله تعالى العفو عن الزلات، وتضاعف الحسنات، وتفريج الكربات، وتنفيس الهمومات بجاه سيد السادات وآله وأصحابه النجوم الواضحات.
==================
(1/513)
(5) [باب مباشرة الحائض]
هذا (باب) حكم (مباشرة) الرجل مع زوجته (الحائض) وأراد بالمباشرةهنا: مماسة الجلدين لا الجماع، فإن جماع الحائض حرام على ما سيأتي بيانه.
==========
%ص 333%
==================
(1/514)
[حديث: كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد]
299# بالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قَبِيْصَة)؛ بفتح القاف، وكسر الموحدة، وسكون التحتية، وفتح الصاد المهملة، هو ابن عُقْبَة _بضمِّ العين المهملة، وسكون القاف، وفتح الموحدة_ أبو عامر الكوفي (قال: حدثنا سفيان) هو الثوري، (عن منصور) هو ابن المعتمر، (عن إبراهيم)؛ هو النخعي.
فإن قلت: إبراهيم هل أدرك أحدًا من الصحابة، أو سمع من أحد منهم؟
قلت: ذكر العجلي أن إبراهيم النخعي لم يحدث عن أحد من الصحابة، وقد أدرك منهم جماعة، وقد رأى عائشة رضي الله عنها، ويقال: إنه رأى أبا جحيفة، وزيد بن أرقم، وابن أبي أوفى، ولم يسمع منهم، وعن ابن حبان: (أنه سمع المغيرة)، والله أعلم كذا في «عمدة القاري»، (عن الأسود) هو خالد بن يزيد، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كنت أغتسل)؛ أي: من الجنابة (أنا والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع والنصب، أما الرفع؛ فبالعطف على الضمير المرفوع في (كنت)، وأما النصب؛ فعلى أن الواو؛ بمعنى: المصاحبة، وذكر (أنا)؛ لأنَّ في عطف الظاهر على المضمر المستكن بدون التأكيد خلافًا، كذا في «عمدة القاري» (من إناء واحد) تختلف أيدينا فيه؛ (كلانا جنب): جملة محلها النصب على الحال، وإنما لم يقل: كلانا جنبان؛ لأنَّها اختارت اللغة الفصيحة، وقد ذكرنا أن الجنب يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمثنى والجمع في اللغة الفصحى وإن كان يقال: جنبان وجنبون) انتهى.
(وكان) وللأَصيلي: (فكان)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يأمرني)؛ أي: بالاتزار لأجل حاجته، (فأَتَّزر)؛ بفتح الهمزة، وتشديد المثناة الفوقية، أصله: أَأْتزر؛ بهمزتين أولهما مفتوحة، والثانية ساكنة؛ لأنَّ أصله من أزر، نقل إلى باب (الافتعال)، فصار اتَّزر، وكذا استعمل في حديث آخر وهو: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يباشر بعض نسائه وهي مؤتزرة في حالة الحيض)، وقال ابن الأثير: وقد جاء في بعض الروايات: «وهي متزرة»، وهو خطأ؛ لأنَّ الهمزة لا تدغم في التاء الفوقية.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (قلت: فعلى هذا؛ يكتفي أن يقرأ فآتزر بالمد؛ لأنَّ الهمزتين إذا اجتمعتا وكانت الأولى متحركة والثانية ساكنة؛ أبدلت الثانية حرف علة من جنس حركة الأولى؛ فتبدل ألفًا بعد الفتحة، فكذلك هنا؛ لأنَّ أصله: أَأْتزر؛ بهمزتين الأولى متحركة، والثانية ساكنة، أبدلت الثانية ألفًا فصار: آتزر؛ بالمد).
وقال ابن هشام: وعوام المحدثين يحرفونه فيقرؤونه بألف وتاء مشدودة، ولا وجه له؛ لأنَّه (افتعل) من الإزرار، ففاؤه همزة ساكنة بعد همزة المضارعة المفتوحة)، وكذا أنكر الإدغام إمام الصنعات الزمخشري.
وزعم الكرماني فإن قلت: لا يجوز الإدغام فيه عند البصريين؟ قال صاحب «المفصل»: (وقول من قال: اتزر خطأ؟ قلت: قول عائشة وهي من فصحاء العرب حجة في جوازه، فالمخطئ مخطئ). ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: إنَّما يصح ما ادعاه إذا ثبت عن عائشة أنها قالت بالإدغام، فلم لا يجوز أن يكون هذا خطأ مثل ما قال معظم أئمة هذا الشأن ويكون الخطأ من بعض الرواة أو من عوام المحدثين لا من عائشة رضي الله عنها؟) انتهى كلامه؛ فليحفظ.
قلت: وقد حاول ابن مالك جوازه، وقال: إنه مقصور على السماع؛ كـ (اتكل)، ومنه قراءة ابن محيصن: (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اتُّمِن) [البقرة: 283]؛ بهمزة وصل، وتاء مشددة)، ونقل الصغاني في «مجمع البحرين»: (أنه مذهب الكوفيين)، والله أعلم.
(فيباشرني) عليه السلام؛ أي: تلامس بشرته بشرتي (وأنا حائض): جملة حالية.
قالت عائشة: (وكان)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (يخرج رأسه) أي: من مسجده النبوي (إليَّ) أي: وهي في حجرتها (وهو معتكف)؛ أي: في المسجد، والجملة حالية، (فأغسله)؛ أي: بالماء وأسرح شعره، وأدهنه كما هي عادته عليه السلام، والاعتكاف لغة: مجرد اللبث، وشرعًا: لبث في المسجد مع الصوم، وهو من باب (الافتعال)، من عكف يعكف عكوفًا؛ إذا أقام وعكفه عكفًا؛ إذا حبسه (وأنا حائض) جملة حالية أيضًا،
%ص 333%
ففي الحديث: دليل على جواز اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد، وقد سبق، وفيه: دليل على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، ألا ترى إلى قولها: (وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله)، فإنه دليل على ذلك؛ لأنَّ الاعتكاف وإن كان الوضوء ليس من شرطه إلا أن عادة النبيِّ عليه السلام خصوصًا حال الاعتكاف الدوام على الوضوء لا سيما والمسجد محل الصَّلاة، وفيه: دليل على جواز استخدام الزوجات، وفيه: طهارة عرق الحائض، وفيه: أن إخراج الرأس في المسجد لا يبطل الاعتكاف، وفيه: دليل على جواز مباشرة الحائض: وهي الملامسة من لمس بشرة الرجل بشرة المرأة، وقد ترد المباشرة بمعنى: الجماع، والمراد بها هنا: المعنى الأول بالإجماع.
واعلم أن مباشرة الحائض على أقسام:
أحدها: حرام بالإجماع ولو اعتقد حله؛ يكفر، وهو أن يباشرها في الفرج عامدًا، فإن فعله غير مستحل؛ يستغفر الله ولا يعود إليه، وهل تجب عليه الكفارة أو لا فيه خلاف؛ فذهب جماعة إلى وجوب الكفارة؛ منهم: قتادة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، والشافعي في القديم، وقال أكثر العلماء: لا شيء عليه سوى الاستغفار، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، وبه قال مالك، وربيعة، وداود، ويحيى بن سَعِيْد، والشافعي في الجديد، فلو فعله غير معتقد حله بأن كان ناسيًا، أو جاهلًا بوجود الحيض، أو جاهلًا بتحريمه، أو مكرهًا؛ فلا إثم عليه ولا كفارة، وعليه التوبة والاستغفار، وإن كان عالمًا بالحرمة، وبالحيض عامدًا مختارًا؛ فقد ارتكب المعصية؛ لأنَّها كبيرة، فيجب عليه التوبة والاستغفار، ويعزر بما يليق به، ولا كفارة عليه عند الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، واختلف الشافعي في وجوبها، والأصح: عدمها، وقيل: إنها عتق رقبة، وقيل: دينار ونصف دينار، وقيل: دينار أول الدم، ونصفه آخره، وقيل: دينار زمن الدم، ونصفه بعد انقطاعه.
قلت: واختار هذا التفصيل المتأخرون من الأئمَّة الحنفية على وجه الاستحباب لا الوجوب، وقدمناه مفصلًا.
فإن قلت: روى أبو داود عن ابن عباس، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: «يتصدق بدينار، أو بنصف دينار»، ورواه بقية الأربعة.
قلت: رواه البيهقي وأعله بأشياء؛ منها: أن جماعة روَوه عن شعبة موقوفًا على ابن عباس، وأن شعبة رجع عن رفعه، ومنها: أنه روي مرسلًا، ومنها: أنه روي معضلًا، وهو رواية الأوزاعي عن يزيد بن أبي مالك، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أمرت أن يتصدق بخُمسي دينار»، والمعضل نوع خاص من المنقطع، فكل معضل منقطع، وليس كل منقطع معضلًا، وقوم يسمونه: مرسلًا، ومنها: أن في متنه اضطرابًا؛ لأنَّه روي: (بدينار أو نصف دينار) على الشك، وروي: (يتصدق بدينار، فإن لم يجد؛ فبنصف دينار)، وروي: (يتصدق بنصف دينار)، وروي: (إن كان دمًا أحمر؛ فدينار، وإن كان أصفر؛ فنصف دينار)، وروي: (إن كان الدم عبيطًا؛ فليتصدق بدينار، وإن كان صفرة؛ فنصف دينار)، قال صاحب «عمدة القاري»: هذا الحديث صححه الحاكم، وابن القطان، وذكر الخلَّال عن أبي داود: أن أحمد قال: ما أحسنَ حديث عبد الحميد! وهو أحد رواة هذا الحديث، وهو من رجال «الصحيح»، وهو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن نفيل القرشي الهاشمي العدوي، عامل محمَّد بن عبد العزيز على الكوفة، رأى عبد الله بن عباس وسأله، وروى عن حفصة زوج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم إن شعبة إن كان رجع عن رفعه؛ فإن غيره رواه مرفوعًا، وهو عمرو بن قَيْس الملائي، وهو ثقة ومن طريقه أخرجه النسائي، وكذا رواه قتادة مرفوعًا، فأسقطا في روايتهما عبد الحميد، ومقتضى القواعد: أن رواية الرفع أشبه بالصواب؛ لأنَّه زيادة ثقة، أما ما روي فيه من (خمسي دينار)، أو (عتق نسمة)، وغير ذلك؛ فما منها شيء يعول عليه، والذين ذهبوا إلى عدم وجوب الصدقة أجابوا: أن قوله عليه السلام: «يتصدق» محمولًا على الاستحباب، إن شاء يتصدق، وإلا؛ فلا، وعن الحسن أنه قال: عليه ما على من واقع أهله في رمضان.
والنوع الثاني: من المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة بالذكر، وبالقبلة، وبالمعانقة، أو اللمس، أو غير ذلك؛ فهذا حلال بالإجماع، إلا ما حكي عن عبيدة السَّلماني وغيره: من أنه لا يباشر شيئًا منها، وهو شاذ منكر مردود بالأحاديث الصحيحة المذكورة في «الصحيحين» وغيرهما من مباشرة النبيِّ عليه السلام فوق الإزار.
والنوع الثالث: المباشرة فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر، فعند الإمام الأعظم: حرام، وهو رواية عن إمام أبي يوسف، وهو قول مالك، وابن المسيب، وشريح، وطاووس، وعطاء، وابن يسار، وقتادة، وهو القول الأصح للشافعي، وعند الإمام محمَّد بن الحسن: يجتنب شعار الدم، وهو رواية عن الإمام أبي يوسف، وهو قول علي، وابن عباس، وأبي طلحة، والأوزاعي، وأبي ثور، والثوري، والشعبي، والنخعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المُنْذِر، وداود، وأصبغ؛ لحديث أنس رضي الله عنه عند مسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، واقتصار النبيِّ عليه السلام في مباشرته على ما فوق الإزار محمول على الاستحباب، وذكر القرطبي عن مُجَاهِد: كانوا في الجاهلية يتجنبون النساء في الحيض، ويأتون النساء في أدبارهن في حدثه، والنصارى كانوا يجامعوهن [1] في فروجهن، والمجوس يبالغون في هجرانهن وبتنجيسهن، ويعتزلوهن بعد انقطاع الدم وارتفاعه سبعة أيام، ويزعمون أن ذلك في كتابهم، انتهى.
قلت: فأبطل الله تعالى كل ذلك بآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ ... }؛ الآية كما قدمناها؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (يجامعهن)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/515)
[حديث عائشة: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا فأراد رسول الله أن]
302# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا) ولأبي ذر: (أخبرنا) (إسماعيل بن خليل)؛ بدون الألف واللام في رواية أبي ذر وكريمة، وفي رواية الأصيلي، وابن عساكر: (الخليل)؛ بالألف واللام.
فإن قلت: هو علم، فلا يدخله أدوات التعريف؟
قلت: إذا قصد به لمح الصفة؛ يجوز كما في العباس، والحارث، ونحوها.
وهو أبو عبد الله الكوفي الخزاز _بالخاء المعجمة، والزايين المعجمتين؛ أولاهما مشددة_ قال البخاري: (جاءنا نعيه سنة خمس وعشرين ومئتين) (قال: أخبرنا علي بن مُسْهِر)؛ بضمِّ الميم، وسكون السين المهملة، وكسر الهاء، وبالراء؛ هو أبو الحسن القرشي الكوفي، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة (قال: أخبرنا أبو إسحاق): هو سليمان بن فيروز التابعي، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة (هو الشيباني): أشار المؤلف إلى أنه تعريفًا له من تلقاء نفسه،
%ص 334%
وليس من كلام شيخه، كذا في «عمدة القاري»، (عن عبد الرحمن بن الأسود): هو ابن يزيد النخعي، من كبار التابعين، المتوفى سنة تسع وتسعين، (عن أبيه): هو الأسود بن يزيد المذكور، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كانت إحدانا)؛ أي: إحدى زوجات النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية: (كان إحدانا)؛ بدون التاء، وحكى سيبويه في «كتابه»: (أن بعض العرب تقول: قال [1] امرأة) انتهى، (إذا كانت حائضًا)؛ أي: متلبسة بالحيض (فأراد رسول الله): وللأصيلي: (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم أن يباشرها): من المباشرة التي هي أن يمس الجلد الجلد، وليس المراد به الجماع، بالإجماع كما قدمناه، فإذا أراد مباشرتها؛ (أمرها أن تتَّزر)؛ بتشديد الفوقية، وللكشميهني: (أن تأْتزر)؛ بهمزة ساكنة بدون إدغام، وهي اللغة الفصحى كما قدمناه، وفي «المصابيح»: (أنه القياس) (في فَوْرِ)؛ بفتح الفاء، وسكون الواو، آخره راء (حَيضتها)؛ بفتح الحاء المهملة لا غير، وأرادت به معظم حيضها، ووقت كثرتها، وقال الجوهري: (فورة الحر؛ شدته، وفار القدر فورًا؛ إذا جاشت)، كذا في «عمدة القاري»، ووقع في رواية أبي داود: (فوح)؛ بالحاء المهملة، (ثم يباشرها)؛ أي: بملامسة بشرته لبشرتها، (قالت) أي: عائشة: (وأيكم يملك إِرْبه؟)؛ بكسر الهمزة، وسكون الراء، بعدها موحدة، قيل: هو عضوه التي يستمتع به، وقيل: حاجته، وفي كتاب «المنتهى»: (فيه لغات: إرب، وإربة، وأرب، ومأرَبة، ومأرُبة)، وعن ابن سَلَمَة: (ولكنه أملككم لإربه)، قال الأصمعي: (هي الحاجة؛ أي: أضبطكم لشهوته)، وقال ابن الأعرابي: أي: لحزمه، وضبط نفسه، وقد أرب يأرب أربًا؛ إذا احتاج، يقال: إن فلانًا لأرب بفلانة؛ إذا كان همَّ بها، ويشهد لقول ابن الأعرابي ما جاء في بعض الروايات: (أملككم لنفسه)، وفي «المحكم» و «الجامع»: (والمأرب وهي الآراب والإرَب)، وقال الخطابي: (وأكثر الرواة يقولون: لإربه، والإرب: العضو، وإنما هو الأرَب _مفتوحة الراء_؛ وهي الوطء وحاجة النفس، وقد تكون الإرب الحاجة أيضًا، والأول أبين)، وكذا حكى صاحب «الواعي»، وأما ابن سيده، وابن عديس في «الكتاب الباهر»؛ فقالا: (الإِرَب؛ بكسر الهمزة: جمع إربة؛ وهي الحاجة)، وقال أبو جعفر النحاس: (أخطأ من رواه بكسر الهمزة)، قال: (وإنما هي بفتحها)، وفي «مجمع الغرائب» لعبد الغافر: (هو في الكلام معروف الإرب والإربة بمعنى: الحاجة، فإن كان الأول محفوظًا _يعني: في حديث عائشة_؛ ففيه ثلاث لغات: الإرب، والأرب، والإربه، والأرب، ويكون بمعنى العضو، فيحتمل أنها أرادت: كان أملككم لعضوه؛ لأنَّها ذكرت التقبيل في الصوم)، وفي «المغيث» لأبي موسى: (أرب في الشيء؛ رغب فيه)، كذا في «عمدة القاري».
(كما كان النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يملك إربه): فهو عليه السلام أملك الناس لإربه، فلا يُخْشَى عليه ما يُخْشَى على غيره ممن يحوم حول الحمى، وكان يباشر فوق الإزار تشريعًا لغيره ممن ليس بمعصوم، وبحديث الباب استدل إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وسَعِيد بن المسيب، وشريح، وطاووس، وسليمان بن يسار، وقتادة، والشافعي في الأصح: على تحريم الاستمتاع بما بين سرتها وركبتها في غير القبل والدبر بوطء أو غيره، ولحديث الترمذي محسنًا أنَّه عليه السلام سئل عما يحل من الحائض؟ فقال: «ما وراء الإزار»، وهو قول مالك، وعطاء، ورواية عن الإمام أبي يوسف، وذهب الإمام محمَّد بن الحسن إلى أن الممنوع هو الوطء دون غيره، وهو رواية عن الإمام أبي يوسف أيضًا، وهو قول الأوزاعي، والثوري، والنخعي، والشعبي، ومُجَاهِد، وأحمد، وأصبغ، وأبو ثور، وإسحاق، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره النووي، ورجحه الحافظ الطحاوي؛ لحديث مسلم عن أنس: أنه عليه السلام قال: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فجعلوه مخصصًا لحديث الترمذي السابق، وحملوا حديث الباب وشبهه على الاستحباب جمعًا بين الأدلة.
وعند أبي داود: (أنه عليه السلام كان إذا أراد من الحائض؛ ألقى على فرجها ثوبًا)، وإسناده قوي، وهذه المباشرة إنَّما تجوز له إذا كان يضبط نفسه، ويمنعها من الوقوع في الجماع، وإن كان لا يملك ذلك؛ فلا يجوز له ذلك؛ لأنَّ من رعى حول الحمى؛ يوشك أن يقع فيه، فلا بدَّ للحائض من الاتِّزار في أيام حيضها؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذ والركبتين تحتجز به؛ أي: تمتنع المرأة به؛ أي: بالإزار عن الجماع، وفي رواية: (محتجزة به)؛ أي: حال كون المرأة ممتنعة به عن الجماع، وأصله من حجزه يحجزه حجزًا؛ أي: منعه، من باب (نصر ينصر)، ومنه الحاجز بين الشيئين؛ وهو الحائل بينهما.
والتقييد بقولها: (في فور حيضته) يدل على الفرق بين ابتداء الحيض وما بعده، ويشهد لذلك ما رواه ابن ماجه في «سننه» بإسناد حسن عن أم سَلَمَة: (أنه عليه السلام كان يتقي سورة [2] الدم ثلاثًا، ثم يباشرها بعد ذلك، ولا منافاة بينه وبين الأحاديث الدَّالة على المباشرة مطلقًا؛ لأنَّها تجمع على اختلاف الحالين)، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم.
(تابعه)؛ أي: تابع عليَّ بن مسهر في روايته لهذا الحديث (خالدُ): هو ابن عبد الله الواسطي، وقد وصلها أبو القاسم التنوخي من طريق وهب بن منبه عنه، (و) تابعه (جرير)؛ بالجيم، هو ابن عبد الحميد في رواية هذا الحديث؛ كلاهما (عن الشيباني): هو أبو إسحاق السابق، وقد وصل هذه المتابعة أبو داود قال: حدثنا عثمان ابن أبي شيبة قال: حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأمرنا في فوح حيضتنا ... )؛ الحديث، ورواه أيضًا الإسماعيلي، والحاكم في «مستدركه»، وقولها: (فوح)؛ بالفاء والحاء المهملة: معظمه وأوله، ومثله: فوعة الدم، يقال: فاع وفاح بمعنى واحد، وفوعة الطيب: أول ما يفوح منه، ويروى: بالغين المعجمة، وهو لغة فيه، كذا في «عمدة القاري».
==========
[1] في الأصل: (قالت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (سودة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (قالت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (قالت)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/516)
[حديث ميمونة: كان رسول الله إذا أراد أن يباشر امرأةً من نسائه]
303# وبه قال: (حدثنا أبو النعمان): هو محمَّد بن الفضل السدوسي _بمهملات_، المعروف بعارم (قال: حدثنا عبد الواحد): هو ابن زياد البصري (قال: حدثنا الشيباني): هو أبو إسحاق السابق (قال: حدثنا عبد الله بن شداد)؛ بالشين المعجمة، وبالدالين المهملتين، أولاهما مشددة، هو ابن أسامة بن الهادي الليثي (قال: سمعت مَيْمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وسكون التحتية، وضم الميم الثانية، هي بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها (قالت: كان النبي) الأعظم، وفي رواية: (تقول: كان رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم): فالرواية الأولى رواية أبوي ذر والوقت، والأصيلي، وابن عساكر، والثانية رواية غيرهم، والجملة محلها نصب على الحال (إذا أراد أن يباشر
%ص 335%
امرأة من نسائه): الطاهرات رضي الله عنهنَّ، والمراد بالمباشرة: أن يمسَّ الجلد الجلد، وليس المراد به: الجماع إجماعًا، كما قدمناه؛ (أمرها)؛ أي: بالاتَّزار (فاتَّزرت): فيه حذف؛ تقديره: فامتثلت الأمر فاتَّزرت، وقدَّمنا أن اللغة الفصحى: (فأْتزرت)؛ بالهمزة بدون إدغام، قيل: وهو الرواية هنا؛ فتأمل، (وهي حائض): جملة حالية، قال الكرماني: (يحتمل أن تكون من مفعول «يباشر»، أو من مفعول «أمر»، أو من فاعل «اتزرت») انتهى، قلت: والوجه الأول هو الظاهر وهو الوجه الصحيح، وعليه القسطلاني، والوجهان الآخران لا وجه لهما، كما لا يخفى؛ فافهم، وهذا الحديث أخرجه مسلم، وأبو داود؛ كلاهما عن الشيباني به، وأخرجه ابن ماجه بسند صحيح من حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: (كانت إحدانا في فورها أول ما تحيض تشد عليها إزارًا إلى أنصاف فخذها، ثم تضطجع معه صلَّى الله عليه وسلَّم)، وأخرجه أبو يعلى الموصلي من حديث عمر رضي الله عنه: (له ما فوق الإزار، وليس له ما تحته)، وفي لفظ: (ولا يطلعن إلى تحته حتى يطهرن)، وأخرج أبو داود بسند صحيح عن بعض أزواج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (أنه كان إذا أراد من الحائض شيئًا؛ ألقى على فرجها ثوبًا)، وأخرج أبو داود أيضًا بسند جيد عن أم سَلَمَة: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يباشرها وعلى قبلها ثوب)؛ يعني: وهي حائض، وأخرج أبو داود أيضًا من حديث معاذ وعبد الله بن سعد: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال: «ما فوق الإزار»، وفي حديث معاذ: (والتعفف عن ذلك أجمل)، وأخرج عبد الله بن وهب بسند صحيح من حديث كريب قال: سمعت أم المؤمنين تقول: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب)، وأخرج الدارمي في «مسنده» من حديث أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل: قالت أم المؤمنين: (كنت أتَّزر وأنا حائض
==================
[وأدخل مع النبي في لحافه)، وإسناده صحيح، وفي «الموطأ» عن زيد بن أسلم: سأل رجل النبي: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟] [1] قال: «لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها»، قال أبو عمر [2]: ولا أعلم أحدًا روى هذا الحديث مسندًا بهذا اللفظ، كذا في «عمدة القاري».
(رواه)؛ يعني: روى هذا الحديث، وللأصيلي وكريمة: (ورواه) (سفيان): يحتمل أنه الثوري، ويحتمل أنه ابن عيينة، ولا بأس بالإبهام؛ لأنَّ كلًّا منهما على شرط البخاري، كذا قاله الكرماني، وزعم ابن حجر أنه الثوري على القطع، قلت: وهو فاسد، والظاهر أنه ابن عيينة، ويدل عليه قول صاحب «التلويح»: (كأن البخاري يريد بمتابعة سفيان هذا المعنى لا القطع، وذلك أن أبا داود قال: حدثنا محمَّد بن الصَّبَّاح، عن سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق الشيباني: سمع عبد الله بن شداد عن ميمونة: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ... ؛ الحديث)، قلت: فهذا يعين أنه ابن عيينة، ورواه أحمد عن الثوري من طريق أخرى غير هذا، فلا دليل فيه لما زعمه ابن حجر، فإنه يقطع ولا يدري من أين دليل القطع، (عن الشيباني)؛ هو أبو إسحاق المذكور، ورواه عنه أيضًا بهذا الإسناد خالد بن عبد الله عند مسلم، وجرير بن عبد الحميد عند الإسماعيلي، وأسباط بن محمَّد عند أبي عوانة في «صحيحه»، قلت: وهذا أيضًا يعين ما قلناه؛ فافهم، وإنما قال: (رواه) ولم يقل: تابعه؛ لأنَّ الرواية أعم من المتابعة، فلعله لم يروها متابعة، كذا في «عمدة القاري»، والله الهادي وعليه اعتمادي.
==================
[1] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري».
(1/517)
(6) [باب ترك الحائض الصوم]
هذا (باب) بيان (ترك الحائض) ومثلها النفساء (الصوم) في أيام حيضها أو نفاسها، قال في «عمدة القاري»: (وجه المناسبة بينهما من حيث أن كلًّا منهما يشتمل على حكم من أحكام الحيض.
فإن قلت: الحائض تترك الصَّلاة [أيضا، فما وجه ذكر الصوم في تركها دون الصلاة مع أنهما مذكوران في حديث الباب؟] [1].
==================
[1] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري».
قلت [2] [تركها الصلاة] [3] لعدم وجود شرطها وهي الطهارة، فكانت ملجأة [4] إلى ذلك بخلاف الصوم، فإن الطهارة ليست بشرط، وكان تركها إياه [5] من باب التعبد، وأيضًا فإن تركها للصلاة لا إلى خلف، بخلاف الصوم فإنه إلى خلف وهو القضاء، فخص الصوم بالذكر دون الصَّلاة؛ إشعارًا لما ذكرناه) انتهى.
==================
[3] ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري».
[4] في الأصل: (ملجأ)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/518)
[حديث: يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار]
304# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا سَعِيد بن أبي مريم): هو سَعِيد بن الحكم بن محمَّد بن سالم، المعروف بابن أبي مريم الجمحي المصري، (قال: حدثنا): وفي رواية: (أخبرنا) (محمَّد بن جعفر): هو ابن أبي كثير _بفتح الكاف، وبالمثلثة_ الأنصاري (قال: أخبرني) بالإفراد (زيد هو ابن أسلم)؛ بلفظ الماضي، أبو أسامة المدني، وسقط (هو ابن أسلم) للأصيلي وابن عساكر، وهي ثابتة لغيرهما، وأشار إلى أنه تعريف له من تلقاء نفسه، وليس من كلام شيخه، (عن عِياض) بكسر العين المهملة (بن عبد الله): هو ابن أبي سرح العامري، ولأبيه صحبة، (عن أبي سَعِيد الخدري): واسمه سعد بن مالك رضي الله عنه (قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: خرج إما من بيته، أو من مسجده، كذا قاله في «عمدة القاري»، قلت: والظاهر الثاني؛ لأنَّه عليه السلام كان يصلي الفجر في مسجده وقت الإسفار كما قال: «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر»، وهذه عادته، وكان يقعد في مصلَّاه حتى ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحين، ثم يخرج من المسجد يريد صلاة العيد في المصلى، وهذا من عادته عليه السلام؛ فليحفظ، فتأمل، (في) يوم عيد (أَضْحى)؛ بفتح الهمزة، وسكون الضاد المعجمة، جمع أضحاة، والأضحية: شاة تذبح يوم الأضحى، وفيها أربع لغات: ضم الهمزة وكسرها، وأضحية كما ذكرناها ضبطًا، وضَحيَّة؛ بفتح الضاد المعجمة، وتشديد التحتية، والجمع أضحاة وأضحى، وبها سمي يوم الأضحى، والأضحى يذكر ويؤنث، وقيل: سميت بذلك؛ لأنَّها تفعل في الأضحى؛ وهو ارتفاع النهار، كذا في «عمدة القاري»، (أو) في يوم عيد (فطر)؛ أي: عقب رمضان، والشك من الراوي، وزعم الكرماني أن الشك من أبي سَعِيد، ورده صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: لا يتعين ذلك) انتهى، أي: بل الشك من الراوي أي كان، وهو الظاهر؛ فافهم، (إلى المصلى): متعلق بقوله: (خرج) وهو موضع صلاة العيدين وصلاة الجنازة قرب الجبانة، وإنما أعده عليه السلام لذلك؛ لتنزيه المسجد عن الكلام المباح فيه حال الاجتماع فيه من المعايدة حين لقاء الناس بعضهم بعضًا، ولتنزيهه أيضًا عن الجنازة؛ لاحتمال خروج شيء من الميت إلى المسجد، ولهذا قال الإمام الأعظم رأس المجتهدين: إن صلاة الجنازة بالمسجد مكروهة؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قد أعد لها المصلَّى، وقال: «من صلى على جنازة في مسجد؛ فلا أجر له»، وفي رواية: «فلا ثواب له»، وهذا حجة على من منع الكراهة في المسجد، وسيأتي تمامه في (الجنائز) إن شاء الله تعالى؛ فافهم، والله أعلم.
(فمر) عليه السلام (على النساء)؛ لأنَّه يجوز خروجهن أيام العيد إلى المصلى للصلاة مع الناس كما يأتي، (فقال): يحتمل أنه عليه السلام قال ذلك لهن حال مروره إلى المصلى للصلاة؛ لأنَّهن لمَّا رأين النبي عليه السلام خارجًا إلى المصلى؛ وقفن حتى يمر عليه السلام، فلما رآهنَّ؛ قال لهن ذلك، فيكون الوعظ لهنَّ فقط، ويحتمل التعميم، ويحتمل أنَّه عليه السلام وعظ الناس وأمرهم بالصدقة بعد الصَّلاة، ثمَّ التفت إلى النساء، والظاهر الأول؛ يدل عليه قوله: (فمر)؛ بالفاء التعقيبية، فإنه يفيد أن قوله ذلك كان بعد خروجه قبل الصَّلاة؛ فتأمل: (يا معشر النساء): المعشر: الجماعة متخالطين كانوا أو غير ذلك، وقال الأزهري: أخبرني المُنْذِر عن أحمد بن يحيى قال: (المعشر، والنفر، والقوم، والرهط؛ هؤلاء معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم للرجال دون النساء)، وقال الليث: (المعشر: كل جماعة أمرهم واحد)، وهذا هو الظاهر، وقول [1] أحمد بن يحيى مردود [2] بالحديث وجمع على معاشر، انتهىكذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذا يرد
%ص 336%
على ما نقله الأزهري من تخصيصه بالرجال، إلا إن كان مراده بالتخصيص حالة إطلاق المعشر لا تقييده كما في الحديث؛ فافهم.
وقوله: (تصدقن) مقول القول، والفاء في قوله: (فإني) للتعليل (أُرِيتكن)؛ بضمِّ الهمزة، وكسر الراء على صيغة المجهول (أكثرَ أهل النار)؛ أي: أراني الله إياكنَّ أكثر أهل النار، فـ (أكثر) منصوب؛ لأنَّ قوله: (أريتكن) [3] متعد إلى ثلاثة مفاعيل؛ الأول التاء التي هي مفعول ناب عن الفاعل، والثاني قوله: (أكثر أهل النار)، كذا ارتضاه صاحب «عمدة القاري»، وقال صاحب «التلويح»: (أكثر) بنصب الراء على أن (أريت) [4] يتعدى إلى مفعولين، أو على الحال إذا قلنا: إن (أفعل) لا يتعرف بالإضافة، كما صار إليه الفارسي وغيره، وقيل: إنه بدل من الكاف في (أريتكن) [5] انتهى ومنعه صاحب «عمدة القاري».
فإن قلت: في أين أريهن أكثر أهل النار؟
قلت: في ليلة الإسراء، وفي حديث ابن عباس الآتي في صلاة الكسوف: أن الرواية المذكورة وقعت في صلاة الكسوف، وعن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: «أريت النار فرأيت أكثر أهلها النساء».
فإن قلت: ورد في الحديث قال: «لكل رجل زوجتان من الآدميين»؟
قلت: لعل هذا قبل ورود الشفاعة، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وحاصله أنه عليه السلام رأى النار ليلة الإسراء، فرأى أكثر أهلها النساء هذا هو المتعين؛ فافهم.
(قلن): وفي رواية: (فقلن): (وبم يا رسول الله؟): الواو للعطف على مقدر؛ تقديره: ما ذنبنا، والباء للسببية، وكلمة (ما) استفهامية حذفت ألفها وجوبًا؛ لأنَّها مجرورة، وبقيت الفتحة دليلًا عليها؛ مثل: (إلامَ) و (علامَ)، وعلة الحذف الفرق بين الاستفهام والخبر، فلهذا حذفت في {فِيمَ أَنْتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]، {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ} [النمل: 35]، وأما قراءة عكرمة وعيسى: (عما يتساءلون) [عمَّ: 1]؛ فنادر، كذا قاله صاحب «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أن الواو في (وبم) استئنافية، والباء تعليلية، وحذفت الألف من (ما) تخفيفًا، انتهى، قلت: ومنعه صاحب «عمدة القاري»، قلت: لعدم ظهور وجهه، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم؛ لأنَّ الواو عاطفة على المقدر المناسب لما قبلها من الأمر، ولأن الباء ذكرت لأجل السببية في كونهن أكثر أهل النار، وقوله: (وحذفت الألف ... ) إلخ: هذا أبعد بعيد عما قاله؛ لأنَّ (ما) الاستفهامية إذا جُرَّت؛ وجب حذف ألفها، فالحذف واجب، لا لأجل التخفيف كما زعمه هذا القائل، وهذا ما عليه النحويون، فمن أين جاء ما قاله؟ فافهم.
(قال)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: لإنَّكنَّ (تكثرن اللعن): من الإكثار، واللعن لغة: الطرد والإبعاد من الخير، واللعنة: الاسم؛ ومعناه: أنهنَّ يتلفظنَّ باللعنة، ففيه ذم الدعاء باللعن؛ لأنَّه دعاء بالإبعاد من رحمة الله عزَّ وجلَّ، وقالوا: إنَّه محمول على ما إذا كان في معيَّن؛ لأنَّه لا تعرف خاتمة أمره بالقطع إلى أين مصيره؟ أمَّا من عرف خاتمة أمره ومصيره بالقطع؛ فيجوز كأبي جهل، ومثله لعن صاحب وصف بدون تعيين؛ كالكافرين والظالمين؛ فإنَّه جائز، (وتكفرن العشير): هو الزوج، سمِّي بذلك؛ لمعاشرته إيَّاها، وفي «الموعب»: (عشيرك: الذي يعاشرك، أيديكما وأمركما واحد، لا يكادون يقولون في جمعه: عشراء [6]، ولكنهم معاشروك [7] وعشرك)، وقال الفراء: (يجمع على عشراء؛ مثل: جليس وجلساء، وإن العرب لتكرهه كراهة أن يشاكل قولهم: ناقة عشراء، والعشير: الصديق، والزوج، وابن العم)، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال: (وتكفرن): من الكفر؛ وهو الستر، وكفران النعمة وكفرها: سترها بترك أداء شكرها، والمراد: أنهنَّ يجحدن نعمة الزوج ويستقللن ما كان منه، ففيه أنَّ الكلام القبيح كاللعن والشتم حرام، وأنَّه من المعاصي، فإن داوم عليه؛ صار كبيرة، واستدل النووي على أنَّ اللعن والشتم من الكبائر بالتوعَّد عليهما بالنار، وفيه إطلاق الكفر على الذنوب [8] التي لا تخرج عن الملة تغليظًا على فاعلها، وفيه إطلاق الكفر على غير الكفر بالله عزَّ وجلَّ، وفيه أنَّ جحد النعم حرام وكفران النعمة مذموم، وفيه أنَّ الصدقة تدفع [العذاب]، وأنها تكفر الذنوب، وفيه الإشارة إلى الإغلاظ في النصح بما يكون سببًا لإزالة الصفة التي تعاب أو الذنب الذي يتصف به الإنسان، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الله تعالى.
(ما رأيت من ناقصات): صفة موصوف محذوف؛ أي: ما رأيت أحدًا من ناقصات (عقل): العقل في اللغة: ضد الحمق، وعن الأصمعي: (هو مصدر عقل الإنسان يعقل)، وقال ابن دريد: (هو مشتق من عقال الناقة؛ لأنَّه يعقل صاحبه عن الجهل؛ أي: يحبسه، ولهذا قيل: عقل الدواء بطنه؛ أي: أمسكه)، وفي «العين»: (عقلت بعد الصبا؛ أي: عرفت بعد الخطأ الذي كنت فيه، واللغة الغالبة عقل، وقالوا: عقل يعقل؛ مثل: حكم يحكم، وهو المعقول)، وقال ابن الأنباري: (العاقل: الجامع لأمره ورأيه)، وقال الأزهري: (العاقل: الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذًا من قولهم: اعتقل لسانه؛ إذا حبس ومنع من الكلام)، وفي «المختصر»: (قال سيبويه: قالوا: العقل كما قالوا: الظرف [9]، أدخلوه في باب عجز؛ لأنَّه مثله، والعقل من المصادر المجموعة من غير أن تختلف أنواعها)، وقال الإمام الرئيس أبو علي ابن سينا: (العقل والحجى والنهى؛ كلها متقاربة المعاني)، وعن الأصمعي: (هو الإمساك عن القبيح، وقصر النفس وحبسها على الحسن، وقالوا: عاقل وعقلاء، وهو الحلم، واللب، والحجر، والطعم، والمحت، والمرجح، والجول، والجنجيب، والذهن، والهرمان [10]، والحصاة)، وفي «المحكم»: (وجمعه: عقول)، وقال القزاز: (مسكنه عند قوم في الدماغ، وعند آخرين في القلب)، قال صاحب «عمدة القاري»: (الأول قول الإمام الأعظم، والثاني قول الشافعي، وقيل: مسكنه الدماغ، وتدبيره في القلب، وعن هذا قالوا: العقل جوهر خلقه الله في الدماغ، وجعل نوره في القلب، يدرك به المغيبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة)، وقال بعض المتكلمين: العلم: العقل، وقيل: بعض العلوم الضرورية، وقيل: قوة يميز بها حقائق المعلومات، وقال الإمام الرئيس أبو علي: (هو اسم مشترك لمعان عدة: عقل لصحة الفطرة الأولى في الناس، وهو قوة يميز بها بين الأمور القبيحة والحسنة، وعقل لما يكتسبه بالتجارب من الأحكام يكون مقدمة يحصل بها المصالح، وعقل بمعنى آخر، وهذه هيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه)، وأما الحكماء؛ فقد فرقوا بينه وبين العلم، وقالوا: العقل الفطري والعملي بالفعل والمبادئ والفعال، وتحقيقه في كتبهم، وإنما سمي العقل عقلًا من قولهم: ظبي عاقل؛ إذا امتنع في أعلى الجبل، فسمي هذا به؛ لأنَّه في أعلى الجسد بمنزلة الذي في أعلى الجبل، وقيل: العاقل: الجامع لأموره برأيه، مأخوذ من قولهم: عقلت الفرس؛ إذا جمعت قوائمه، كذا حققه إمام الشارحين في «عمدة القاري».
وحكى ابن التين عن بعضهم: أن المراد من العقل: الدية؛ لأنَّ ديتها على النصف من دية الرجل، ورده صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ظاهر الحديث يأباه) انتهى.
%ص 337%
قلت: وهو ظاهر يدل عليه قوله: (ودين) ... إلخ، فإنه عليه السلام حين سألنه لم يُجِبْهُنَّ بأن المراد من العقل: الدية، وهذا دليل على منع ما حكاه ابن التين؛ فافهم.
وقال في «عمدة القاري»: (وقوله: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير» جواب تام، فكأنه من باب الاستتباع، إذالذم بالنقصان؛ استتبع لأمر آخر غريب، وهو كون الرجل الكامل الحازم منقادًا للنساء الناقصات دينًا وعقلًا) انتهى.
(أذهب): أفعل التفضيل، من الإذهاب، على مذهب سيبويه حيث جوَّز بناء (أفعل) التفضيل من الثلاثي المزيد فيه، وكان القياس فيه: أشد إذهابًا، كذا في «عمدة القاري»، (للُبِّ)؛ بضمِّ اللام، وتشديد الموحدة: العقل الخالص من الشوائب، فهو خالص ما في الإنسان من قواه، فكلُّ لبِّ عقلٌ، وليس كلُّ عقلٍ لُبًّا [11] (الرجل الحازم)؛ بالحاء المهملة، والزاي المعجمة؛ أي: الضابط لأمره، وهو على سبيل المبالغة في وصفهن بذلك؛ لأنَّه إذا كان الضابط لأمره ينقاد لهن؛ فغيره أولى، (قلن): ويروى: (فقلن): (وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟): وهذا استفسار منهنَّ عن وجه نقصان دينهنَّ وعقلهنَّ، وذلك لأنَّه خفي عليهنَّ ذلك حتى استفسرن، وزعم ابن حجر أنَّ هذا السؤال دالٌّ على النقصان؛ لأنَّهنَّ سلمن ما نسب إليهنَّ من الأمور الثلاثة الإكثار، والكفران، والإذهاب، ثم استشكل كونهنَّ ناقصات، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: قلت: هذا الاستفسار وليس باستشكال؛ لأنَّهنَّ بعد أن سلمن هذه الأمور الثلاثة لا يكون عليه إشكال، ولكن لمَّا خفي سبب نقصان دينهنَّ وعقلهنَّ؛ سألن عن ذلك بقولهنَّ: (ما نقصان ديننا وعقلنا؟)، والتسليم بهذه الأمور كيف يدل على النقصان؟ وبين صلَّى الله عليه وسلَّم ما خفي عليهنَّ من ذلك بقوله: (قال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟): هذا جواب منه عليه السلام بلطف وإرشاد من غير تعنيف ولا لوم، بحيث خاطبهنَّ على قدر فهمهنَّ؛ لأنَّه عليه السلام كان يخاطب الناس على قدر عقولهم، انتهى كلامه، (قلن: بلى) يا رسول الله.
وقال النووي: (أما وصفه النساء بنقصان الدين؛ فلتركهنَّ الصَّلاة والصوم، فقد يستشكل معناه، وليس بمشكل، فإنَّ الدين والإيمان والإسلام مشترك في معنى واحد، فإن من كثرت عبادته؛ زاد إيمانه ودينه، ومن نقص عبادته؛ نقص دينه)، ورده صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: دعواه الاشتراك في هذه الثلاثة غير مسَلَّمَة؛ لأنَّ بينها فرق لغة وشرعًا، وقوله: «زاد إيمانه أو نقص» ليس راجعًا إلى الذات، بل هو راجع إلى الصفة كما تقدر هذا في موضعه) انتهى، قلت: وهذا ظاهر، وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب (الإيمان)؛ فافهم.
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (وقوله: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟» إشارة إلى قوله عزَّ وجلَّ: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
فإن قلت: ما النكتة في تفسيره لهذه العبارة، ولم يقل: أليس شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل؟
قلت: لأنَّ في عبارته تلك تنصيص على النقص صريحًا بخلاف ما ذكرت، فإنه يدلُّ عليه ضمنًا؛ فافهم، فإنه دقيق.
فإن قلت: أليس ذلك ذمًّا لهنَّ؟
قلت: لا، ولكنَّه على معنى التعجب بأنهنَّ مع اتصافهنَّ بهذه الحالة يفعلن بالرجل الحازم كذا وكذا) انتهى كلامه.
ثم قال: (ففيه تنبيه على أن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وفيه دليل على أن ملاك الشهادة العقل، وفيه مراجعة المتعلمِ والتابعِ المتبوعَ والمعلِّمَ فيما قالاه إذا لم يظهر له معناه) انتهى.
(قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (فذلكِ)؛ بكسر الكاف، خطاب للواحدة التي تولَّت الخطاب، ويجوز فتح الكاف على أنَّه خطاب للعام، والإشارة إلى ما ذكر من قوله: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟»، كذا قاله صاحب «عمدة القاري» (من نقصان عقلها): فإن قلت: هذا خطاب للإناث والمعهود فيه (فذلكنَّ)؛ قلت: قد عهد في خطاب المذكر الاستغناء بـ (ذلك) عن (ذلكم)، قال تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ} [البقرة: 85]، فهذا مثله في المؤنث على أنَّ بعض النحاة نقل لغة بأنَّه يكتفى بكاف مكسورة مفردة لكلِّ مؤنث، أو الخطاب لغير معيَّن من النساء؛ ليعم الخطاب كلًَا منهن على سبيل البدل، إشارة إلى أنَّ حالتهنَّ في النقص تناهت في الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها، فلا تختص به واحدة دون أخرى، كذا في «المصابيح».
ثم قال عليه السلام: (أليس إذا حاضت)؛ أي: المرأة منكنَّ (لم تصل) الصَّلاة المفروضة (ولم تصم) الصوم المفروض؛ لوجود المانع فيها من الحيض؟ (قلن: بلى) يا رسول الله، وهذا محل مطابقة الحديث للترجمة، (قال)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (فذلكِ)؛ بكسر الكاف، خطابًا للواحدة التي تولَّت الخطاب، ويجوز فتح الكاف على أنَّه للخطاب العام؛ فافهم، ففيه ألَّا يواجه [12] بذلك الشخص المعين، فإن في الشمول تسلية وتسهيلًا؛ فليحفظ، (من نقصان دينها).
فإن قلت: هذا العموم فيهنَّ يعارضه قوله عليه السلام: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم»، وفي رواية: «أربع»، وهو ما رواه الترمذي وأحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد».
قلت: أجاب ابن حجر: بأن بعض الأفراد خرج عن ذلك؛ لأنَّه نادر قليل، وردَّه صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: (والجواب السديد في ذلك: هو أنَّ الحكم على الكلِّ بشيء لا يستلزم الحكم على كلِّ فرد من أفراده بذلك الشيء)، وقال النووي: (ونقص الدين قد يكون على وجه يأثم؛ كمن ترك الصَّلاة بلا عذر، وقد يكون على وجه لا يأثم به؛ كمن ترك الجمعة لعذر، وقد يكون على وجه هو مكلف به؛ كترك الحائض الصَّلاة والصوم، فإن قيل: إذا كانت معذورة فهل تثاب على ترك الصَّلاة في زمن الحيض وإن كانت لا تقضيها كما يثاب المريض، ويكتب له في مرضه مثل نوافل الصلوات التي كان يفعلها في صحته؟ قلت: وظاهر هذا الحديث أنَّها لا تثاب، والفرق أنَّ المريض كان يفعلها بنيَّة الدوام عليها مع أهليَّته لها، والحائض ليست كذلك، بل نيَّتها ترك الصَّلاة في زمن الحيض، وكيف لا وهي حرام عليها؟) قال صاحب «عمدة القاري»: (قلت: ينبغي أن تثاب على ترك الحرام) انتهى.
قلت: وقال أئمة المذهب المعظم: يستحب للحائض أن تتوضأ لكل وقت، وتجلس في مصلَّاها تذكر الله تعالى حتى تكون معتادة على إقامة الصَّلوات، ولا ريب أنَّها تثاب على هذا الفعل، وتمامه في «منهل الطلاب».
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (وفي الحديث استحباب خروج الإمام مع القوم إلى مصلى العيد في الجبانة لأجل صلاة العيد، ولم يزل الصدر الأول يفعلون ذلك، ثمَّ تركه أكثرهم؛ لكثرة الجوامع، ومع هذا فإنَّ أهل بلاد شتَّى لم يتركوا ذلك، وفيه الحثُّ على الصدقة؛ لأنَّها من أفعال الخيرات والمبرَّات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، ولا سيما في مثل يومي العيدين؛ لاجتماع الأغنياء والفقراء، وتحسُّر الفقراء عند رؤيتهم الأغنياء عليهم الثياب الفاخرة، ولا سيما أيتام الفقراء والأرامل الفقراء، فإن الصدقة
%ص 338%
عليهم في مثل هذا اليوم مما يُقِلُّ تحسرهم وهمهم، وأما تخصيصه عليه السلام النساء في ذلك اليوم حيث أمرهنَّ بالصدقة؛ فلغلبة البخل عليهنَّ، وقلة معرفتهنَّ بثواب الصدقة، وما يترتب عليها من الحسن والفضل في الدنيا قبل يوم الآخرة) انتهى.
وزعم الخطابي أنَّ في الحديث دليل على أنَّ النقص من الطاعات نقص من الدين، وردَّه صاحب «عمدة القاري»، فقال: (لا ينقص من الدين شيء، وإنما النقص والزيادة يرجعان إلى الكمال) انتهى.
قلت: ويدلُّ لهذا أنَّه عليه السلام قال في هذا الحديث: «أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟ ... » إلخ، فإنَّه صريح في أنَّ الزيادة أو النقص يرجعان إلى الثمرات، فإنَّ الإيمان هو التصديق، وهو لا يزيد ولا ينقص، وإنما الذي يقبل الزيادة والنقصان ثمراته من الصَّوم والصَّلاة، فإنَّ الحائض حال نزول الدم غير مخاطبة بالفرائض فيه، وتمامه فيما كتبناه في كتاب (الإيمان).
وقال في «عمدة القاري»: وفي الحديث جواز خروج النساء أيام العيد إلى المصلَّى للصلاة مع الناس، وقال العلماء: هذا في زمنه عليه السلام، وأما اليوم؛ فلا تخرج الشابة ذات الهيئة، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: (لو رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما أحدث النساء بعده؛ لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل)، قال إمام الشارحين: (قلت: هذا الكلام من عائشة بعد زمن يسير جدًّا بعد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَّا اليوم، فنعوذ بالله من ذلك؛ فلا يرخص في خروجهنَّ مطلقًا للعيد وغيره، ولا سيما نساء مصر على ما لا يخفى) انتهى.
قلت: ولا سيما نساء ديارنا الشريفة الشاميَّة؛ فإنهنَّ أكثرن الفساد، وجئن بالتبزير مع الآثام، وأوقعن الرجال بالهلكات، ولا يبعد أن يقال: يحرم على الزوج أن يأذن لهنَّ بالخروج مطلقًا لعيد وغيره، كما لا يخفى، وتمامه في «منهل الطلاب».
ونقل في «عمدة القاري» عن «التوضيح» رأى جماعة [ذلك] حقًّا عليهن؛ يعني: في خروجهن للعيد وغيره؛ منهم: أبو بكر، وعلي، وابن عمر، وغيرهم، ومنهم من منعهنَّ ذلك؛ منهم: عروة، والقاسم، ويحيى بن سَعِيد الأنصاري، ومالك، وأبو يوسف، وأجازه الإمام الأعظم مرة ومنعه أخرى، ومنع بعضهم في الشابَّة دون غيرها، وهو مذهب مالك وأبي يوسف، وقال الحافظ الطحاوي: (لأنَّ الأمر بخروجهنَّ أول الإسلام لتكثير المسلمين في أعين العدو)، قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (قلت: كان ذلك لوجود الأمن أيضًا، واليوم قلَّ الأمن والمسلمون كثير، ومذهب أصحابنا في هذا الباب ما ذكره صاحب «البدائع»: أجمعوا على أنَّه لا يرخص للشابة الخروج للعيدين والجمعة وشيء من الصلوات؛ لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب: 33]؛ لأنَّ خروجهنَّ سببٌ للفتنة، وأما العجائز؛ فرخص لهن الخروج في العيدين، ولا خلاف أنَّ الأفضل ألَّا يخرجن في صلاة، فإذا خرجن؛ يصلين صلاة العيد في رواية الحسن بن زياد عن الإمام الاعظم، وفي رواية الإمام أبي يوسف عن الإمام الأعظم: لا يصلين، بل يكثرن سواد المسلمين وينتفعن بدعائهم، وفي حديث أم عطية قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يخرج العواتق ذات الخدور والحُيَّض، وأمر الحيَّض: «فليعتزلن المصلى، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين»، أخرجه الشيخان، وقال عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، أخرجاه أيضًا، وفي رواية أبي داود: «ليخرجن [وهنَّ] تفلات»: غير عطرات، والعواتق: جمع عاتق؛ وهي البنت التي بلغت، وقيل: التي لم تتزوَّج، والخدور: جمع خدر؛ وهو الستر، وزعم النووي يكره للشابة أو لمن تشتهى الحضور؛ لخوف الفتنة عليهنَّ وبهنَّ) انتهى كلامه.
ثم قال: (ففي الحديث جواز عظة النساء على حدة، وهذا للإمام، فإن لم يكن؛ فلنائبه، وفيه نص على أن الحائض يسقط عنها فرض الصوم والصَّلاة لكن الأول إلى خلف، والثاني لا؛ للحرج، وفيه الشفاعة للمسلمين وغيرهم أن يسأل لهم، وفيه حجة لمن كره السؤال لغيره، وفيه ما يدل على ما كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من الخلق العظيم، والصفح الجميل، والرأفة، والرحمة على أمته عليه أفضل الصلوات وأشرف التحيات) انتهىوالله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (قال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مورود)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (رأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (رأيت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أرأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (يعاشروك)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (الذنب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (الطرف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (والمهرمان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (لب).
[12] في الأصل: (يؤاخذ)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (قال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مورود)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (رأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (رأيت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أرأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (يعاشروك)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (الذنب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (الطرف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (والمهرمان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (لب).
[1] في الأصل: (قال)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (مورود)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (رأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (رأيت)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أرأيتكن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (يعاشروك)، ولعل المثبت هو الصواب.
[8] في الأصل: (الذنب)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (الطرف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (والمهرمان)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (لب).
(1/519)
(7) [باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت]
هذا (باب)؛ بالتنوين؛ لأنَّه مقطوع عما بعده، فيه بيان أن المرأة إذا حاضت بعد الإحرام؛ (تقضي) أي: تؤدي (الحائض المناسك كلها): فتأتي بجميع المناسك (إلا الطواف بالبيت)؛ أي: لأنَّها لا تطوف بالبيت الحرام، و (المناسك) جمع منسَك؛ بفتح السين المهملة وكسرها؛ وهو التعبد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، وسميت أمور الحج كلها مناسك، وسئل ثعلب عن المناسك ما هو؟ فقال: (هو مأخوذ من النسيكة؛ وهي سبيكة الفضة المصفاة؛ كأنه [1] صفى نفسه لله تعالى)، وفي «المطالع»: (مواضع متعهدات الحج، والمنسك: المذبح أيضًا، وقد نسك ينسك نسكًا؛ إذا ذبح، والنسيكة: الذبيحة، وجمعها نسك أيضًا: الطاعة والعبادة وكلُّ ما يتقرب به إلى الله تعالى، والنسك: ما أمرت به الشريعة، والورع: ما نهت عنه، والناسك: العابد، وجمعه النُّسَّاك، والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأنَّ في الأول ترك الحائض الصوم وهو فرض، وفي هذا تركها الطواف الذي هو ركن، وهو أيضًا فرض، وبقية الطواف كالركعتين بعده أيضًا لا يعمل إلا بالطهارة، وهل هي شرط في الطواف أم لا؟ فيه خلاف مشهور) انتهى قلت: والجمهور وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه: أنها ليست بشرط والأحاديث الصحيحة تدل عليه، وزعم الشافعية أنها شرط فيه، وقاسوه على الصَّلاة، وهو قياس مع الفارق ودعوى غير صحيحة، كما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
(وقال إبراهيم) هو النخعي: (لا بأس) أي: لا حرج (أن تقرأ) أي: الحائض (الآية)؛ أي: من القرآن، وهذا الأثر وصله الدارمي بلفظ: (أربعة لا يقرؤون القرآن: الجنب، والحائض، وعند الخلاء، وفي الحمام إلا آية)، وعن إبراهيم فيه أقوال؛ في قول: يستفتح رأس الآية ولا يتممها، وهو قول عطاء، وسَعِيد بن جبير؛ لما روى ابن أبي شيبة: حدثنا خالد الأحمر، عن حجاج، عن عطاء، وعن حمَّاد، وعن إبراهيم، وسَعِيْد بن جبير: (في الحائض والجنب يستفتحون رأس الآية، ولا يتمون آخرها)، وفي قول: يكره قراءة القرآن للجنب، وروى ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن حمَّاد: أن سَعِيد بن المسيب قال: (يقرأ الجنب القرآن)، قال: (فذكرته لإبراهيم فكرهه)، وفي قول: يقرأ ما دون الآية، ولا يقرأ آية تامة، وفي قول: يقرأ القرآن ما لم يكن جنبًا؛ لما روى ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن حمَّاد، عن إبراهيم، عن عمر قال: (لا تقرأ الحائض القرآن)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
ثم قال: (وجه تطابق هذا الأثر للترجمة والآثار التي بعده من حيث إن الحيض لا ينافي كل عبادة، بل تصح معه عبادات بدنية من إدراك نحو التسبيح والتحميد ونحو ذلك، وقراءة ما دون الآية عند جماعة، والآية عند إبراهيم، ومناسك الحج كذلك من جملة ما لا ينافيه الحيض إلا الطواف، فإنه مستثنًى من ذلك، وكذلك الآية وما فوقها مستثنًى من ذلك، وهذا وجه يطابق هذا الأثر للترجمة، وكذلك الآثار التي
%ص 339%
بعده الآتية، وحكم الجنب حكم الحائض فيما ذكرنا، وإذا وجد التطابق بأدنى شيء يكتفى به، والتطويل فيه يؤول إلى تعسف) انتهى كلامه رحمة الله عليه.
(ولم ير) أي: يعتقد (ابن عباس) رضي الله عنهما (بالقراءة للجنب)؛ أي: بقراءته القرآن (بأسًا)؛ أي: حرجًا، وهذا الأثر وصله ابن المُنْذِر بلفظ: (أن ابن عباس كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب، فقيل له في ذلك، فقال: ما في جوفي أكثر منه)، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا الثقفي، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أنه كان لا يرى بأسًا أن يقرأ الجنب الآية والآيتين)، ورخص الحافظ الطحاوي: قراءة ما دون الآية للجنب، والحائض، والنفساء، وصححه صاحب «الخلاصة»، ومشى عليه فخر الإسلام، ووجهه ما ذكره صاحب «المحيط»: أنَّ النظم والمعنى يقتصر فيما دون الآية، ويجري مثله في محاورات الناس وكلامهم، فتمكَّنت فيه شبهة عدم القرآن، فلهذا لا تجوز الصَّلاة به، والصحيح المنع مطلقًا؛ لأنَّ الأحاديث لم تفصِّل بين القليل والكثير كما سيأتي، وكان أحمد يرخِّص للجنب أن يقرأ الآية ونحوها، وبه قال مالك، وقد حكي عنه أنَّه قال: (تقرأ الحائض ولا يقرأ الجنب؛ لأنَّ الحائض إذا لم تقرأ؛ نسيت القرآن؛ لأنَّ أيام الحيض تتطاول، ومدة الجنابة لا تطول)، قال في «شرح المنية»: (قيل: يكره قراءة ما دون الآية على وجه الدعاء والثناء، وقيل: لا يكره، وهو الصحيح، قاله في «الخلاصة») انتهى.
قلت: فما ذكر عن ابن عباس هنا مبنيٌّ على أنه قصد الدعاء والثناء، ويدل عليه ما رواه ابن المُنْذِر عنه: أنَّه كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب، ولا يخفى أن الورد يقال بقصد الدعاء والثناء، ولهذا قال الفقيه أبو الليث في «العيون»: [إذا] قرأ الفاتحة على وجه الدعاء أو شيئًا من الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد القراءة؛ لا بأس به، وهو المختار كما في «غاية البيان»، واختاره شمس الأئمَّة الحلواني، والجمهور من أئمة الحنفية والشافعية وغيرهم أنَّه لا يجوز لحائض ونفساء وجنب قراءة القرآن؛ لقوله عليه السلام: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئًا من القرآن»، رواه الترمذي، وابن ماجه عن ابن عمر، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وشمل إطلاقه الآية وما دونها، وهو قول الإمام الكرخي، وصححه صاحب «الهداية»، والإمام قاضيخان، وحافظ الدين النسفي، وغيرهم، فالحديث حجَّة على إبراهيم النخعي، وعلى مالك، وأحمد، وغيرهم؛ لأنَّ (شيئًا) في الحديث نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، وما دون الآية قرآن، فيمتنع كالآية، وفيه نصٌّ على أن الحائض كالجنب في الأحكام المذكورة، فهو حجَّة على مالك في قوله: (إنها تقرأ القرآن)، وتعليله بأنها تنسى القرآن؛ لطول مدة الحيض؛ ممنوع؛ لأنَّ مدته لا تحتمل نسيانه؛ لأنَّها مهما تطاولت؛ لا تزيد على خمسة عشر يومًا على الخلاف وهي غير طويلة، ولا تحتمل نسيانه فيها على أنه قد يمكنها أن تقرأ في قلبها من غير تلفُّظ به؛ فافهم.
قال في «البحر»: وإنما يحرم إذا قصدأنَّه قرآن، أمَّا إذا قرأ على قصد الدعاء أو الثناء؛ فإنَّه لا يحرم، هذا إذا كان مشتملًا على الذكر، أما لو كان مشتملًا على حكم أو خبر؛ فلا يجوز ولو قصد الذكر فيه، كذا في «الخلاصة» و «الشرنبلالية»، وذلك كسورة (أبي لهب) ونحوها؛ فإنه لا يؤثر قصد غير القرآنية في حله؛ فليحفظ، وتمامه في «منهل الطلاب».
(وكان النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): مما وصله مسلم في «صحيحه» من حديث عائشة رضي الله عنها (يذكر اسم الله) أي: بالقرآن وغيره (على كل جنابة): ويروى: (على كل أحواله)، ويروى: (على كل أحيانه)، و (على كل) فيدخل فيه حال الجنابة، قال صاحب «عمدة القاري»: (وأراد البخاري بإيراد هذا وبما ذكره في هذا الباب الاستدلال على قراءة الجنب والحائض؛ لأنَّ الذِّكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وبه قال الطبري، وداود، وابن المُنْذِر) انتهى.
قلت: وظاهر هذا الحديث بل صريحه يدل على أن المراد بقوله: (يذكر اسم الله): الأذكار الغير القرآنية؛ كالبسملة، والحمدلة، والحوقلة، والحسبلة، وغيرها من الثناء على الله عزَّ وجلَّ، ومثلها الدعوات الواردة، ويدل عليه أنَّه لم يقيده بكونه من القرآن، فلو كان المراد به الأعم؛ لقيده، وعدم تقييده دليل على أنَّ المراد به الأذكار الغير القرآنية على أنَّ المراد بالذكر لغة وشرعًا الأذكار، وإن كان القرآن يسمَّى ذكرًا، وقد صرَّح في الحديث بلفظ (اسم الله)، وهو يدل على ما قلنا، وبهذا لا دلالة فيه للمؤلف؛ فافهم.
قال في «منهل الطلاب»: (وأما الأذكار؛ فالمنقول إباحتها لجنب وحائض مطلقًا، ويدخل فيها: «اللهم اهدنا فيما هديت ... » إلى آخره)، كذا في «البحر»، قال في «النهر»: (بلا خلاف).
واختلف في دعاء القنوت، وهو: «اللهم إنا نستعينك ... » إلى آخره الذي هو دعاء القنوت عند الأئمَّة الحنفية؛ فظاهر المذهب عن الإمام الأعظم: أنَّه لا يكره لهم، وعليه الفتوى كما في «الفتاوى الظهيرية» وغيرها، وروي عن الإمام محمَّد: أنه يكره؛ لشبهة كونه قرآنًا؛ لاختلاف الصحابة في كونه قرآنًا، فلا يقرؤه احتياطًا، قلنا: قد حصل الإجماع القطعي اليقين على أنَّه ليس بقرآن، ومعه لا شبهة توجب الاحتياط المذكور، نعم؛ المذكور في «الهداية» وغيرها: استحباب الوضوء لذكر الله تعالى، وترك المستحب لا يوجب كراهة، كما في «البحر»، وقال في «النهر»: (واختلف في دعاء القنوت، والفتوى على عدم كراهته؛ أي: تحريمًا، وإلا؛ فالوضوء لذكر الله مطلقًا مندوب، وتركه خلاف الأولى، وهو مرجع كراهة التنزيه، فما في «البحر» من أن ترك المندوب لا يوجب كراهة مطلقًا؛ ممنوع) انتهى، فافهم.
(وقالت أم عطية): مما وصله المؤلف في أبواب (العيدين) في أبواب (التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة عنها)، ولفظه: قالت: (كنا نؤمر)؛ أي: من قبل النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أن نُخرِج)؛ بنونٍ مضمومة، وكسر الراء، يوم العيد حتى تخرج البكر في خدرها، وحتى تخرج (الحِيَضَ)؛ بالنصب على المفعولية مع كسر الحاء المهملة، وفتح التحتية، وهذه رواية الأصيلي، وأبي ذر، وابن عساكر، وفي رواية: (أن يَخرج)؛ بمثناة تحتية مفتوحة، و (الحِيَضُ): مرفوع على الفاعلية، فيكنَّ خلف الناس، (فيكبِّرن بتكبيرهم، ويدعون): بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته، ورواه أيضًا في باب (خروج النساء الحيض إلى المصلى)، ووجه الاستدلال به ما ذكرناه من أنه لا فرق بين الذكر والتلاوة؛ لأنَّ الذكر أعم، كذا قاله في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أن (يدعون) لأكثر الرواة، وللكشميهني: (ويدعين)؛ بتحتية بدل الواو، فرده إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ حيث قال: (قلت: هذا الذي ذكره مخالف لقواعد التصريف؛ لأنَّ هذه الصيغة معتل اللام من ذوات الواو، ويستوي فيها جماعة الذكور والإناث في الخطاب والغيبة جميعًا، وفي التقدير مختلف، فوزن الجمع المذكر: يفعون، ووزن الجمع المؤنث: يفعلن، وسيأتي تمامه في محله) انتهى.
قلت: وظاهر هذا الحديث بل صريحه يدل على أن المباح للحائض والجنب الدعوات فقط الشاملة للذكر والتكبير، فلا دلالة فيه للمؤلف كما لا يخفى، يدلُّ عليه قولها: (فيكبرون بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم)، وهذا لا يشمل القرآن؛ لأنَّه لا يقال فيه: إنه دعاء وتكبير، كما لا يخفى، فالحقُّ ما عليه الجمهور أنَّ الجنب والحائض يحرم عليه قراءة القرآن كما ذكرنا، وقال أئمتنا الأعلام: واختلف المتأخرون في تعليم الحائض والجنب، والأصح: أنَّه لا بأس به إذا كان يلقِّن كلمة كلمة، ولم يكن من قصده أن يقرأ آية،
%ص 340%
كذا في «النهر» عن «الخلاصة»، قال في «النهاية»: (وهذا على تخريج الإمام الكرخي، أما على تخريج الحافظ الطحاوي؛ فتُعلِّم نصف آية) انتهى، وقال في «النهر»: (ولا يكره التهجي بالقرآن، وهو كالتعليم كلمة كلمة، لا يعد قارئًا ولا يسمى به) انتهى.
والمراد: أنه مع القطع بين كل كلمتين كما قيده صاحب «البحر» تبعًا لصاحب «النهاية»، ومثله: ما لو كانت الكلمة آية؛ كـ {ص}، و {ق}، ونحوها؛ فإنه يجوز كما نقله نوح أفندي في «الحواشي»، وفرَّق في «الجوهرة» بين الحائض والجنب: (بأن الحائض مضطرة إلى التعليم؛ لأنَّها لا تقدر على رفع حدثها، بخلاف الجنب؛ فلا يجوز له ذلك؛ لأنَّه قادر على رفع حدثه) انتهى، والمختار أنه لا فرق بين الحائض والجنب في حلِّ التلقين، كما قاله شيخ الإسلام نوح أفندي في «حواشيه»، وتمامه في «منهل الطلاب».
(وقال ابن عباس): هو عبد الله، حبر هذه الأمة، الرافع عنها الغمة، ترجمان القرآن، وبحر البيان، مما وصله المؤلف في (بدء الوحي) وغيره، ولفظه: (أخبرني) بالإفراد (أبو سفيان) هو ابن حرب: (أن هرقل) أرسل إليه في ركب من قريش إلى أن قام، ثم (دعا بكتاب النبي) الأعظم، وهناك: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم): الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، (فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم): «من محمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتَّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تولَّيت؛ فعليك إثم الأريسيين»، (و {يَا أَهْلَ الكِتَابِ})؛ بزيادة الواو في أكثر الروايات، وفي رواية: بإسقاطها ({تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ... }؛ الآية [آل عمران: 64])؛ بالرفع خبر المبتدأ محذوف؛ تقديره: هذه الآية، وبالنصب مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: اقرأ الآية، وهي {أَلَّانَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ... ؛ الحديث، وجه استدلال المؤلف به: أنَّه عليه السلام كتب إلى الروم وهم كفَّار والكافر جنب، كأنَّه يقول: إذا جاز مسِّ الكتاب للجنب مع كونه مشتملًا على آيتين؛ فكذا يجوز له قراءته، وحاصله أنَّه عليه السلام بعث للكفَّار القرآن مع أنَّهم غير طاهرين، فجوَّز مسهم وقراءتهم له، فدل ذلك على جواز القراءة للجنب، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وظاهر حديث هرقل بل صريحه يدلُّ على عدم جواز قراءة القرآن لجنب وحائض؛ لأنَّ المذكور في كتاب النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعض القرآن وهو آية، وذكر غيره من كلامه عليه السلام وهو أكثر من الآية، فصار كالتفسير الذي هو أكثر من القرآن؛ فإنه يجوز مسُّه وقراءته؛ لأنَّه لا يحرم في غير المصحف إلا المكتوب؛ أي: موضع الكتابة، كما صرَّح به في «البحر»، وقال في «الأشباه»: (وقد جوَّز أصحابنا مسَّ كتب التفسير للمحدث، ولم يفصِّلوا بين كون الأكثر تفسيرًا أو قرآنًا، ولو قيل به اعتبارًا للغالب؛ لكان حسنًا) انتهى، وفي «السراج»: (أنَّ كتب التفسير لا يجوز مسُّ موضع القرآن منها، وله أن يمسَّ غيره)، كذا في «الإيضاح».
قلت: وكتاب النبي عليه السلام لمَّا قُرِئ؛ العادة فيه أنَّه لا يمسُّ موضع الكتابة، بل المسُّ إنَّما يكون على الخارج عن الكتابة، كما هو العادة في المكاتبات، إذا علمت هذا؛ ظهر لك عدم جواز القراءة للجنب والحائض القرآن بقصد التلاوة، وما هنا فإنه قصد به قراءة المكتوب لا التلاوة، ولأن هذا شيء مأمور به شرعًا؛ لأجل الإنذار والدخول في الإسلام، ونظيره ما قاله أئمتنا الأعلام من أن الحربي أو الذمي إذا طلب تعلم القرآن والفقه والأحكام؛ يُعلَّم رجاء أن يهتدي، لكن يمنع من مس المصحف إلا إذا اغتسل؛ فلا يمنع بعد ذلك، كذا في «الخانية»، ومثله في «البحر» عن «التجنيس»، ولهذا قال لعليِّ [2] الصدِّيق الأصغر: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم»، فالنبي عليه السلام إنَّما قصده الاهتداء والدخول في الإسلام، فأنذره بهذا الكتاب الشريف الذي هو موجود عندهم إلى يومنا هذا يعظم ويتبرك به، وهو يدل على بقاء ملكهم ما دام الكتاب عندهم؛ لأنَّه كلام خالق الكونين، وكلام جد الحسنين عليه السلام.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح (عن جابر): هو ابن عبد الله الأنصاري، مما وصله المؤلف في كتاب (الأحكام) في باب (قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت»)، وفيه: قال جابر: (كنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلبينا بالحج، وقدمنا مكة ... ) إلى أن قال: (حاضت عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما؛ أي: حين قدمت مكة، فأمرها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن تنسك المناسك غير ألَّا تطوف ولا تصلي حتى تطهر، (فنَسَكت) بفتح النون، والسين المهملة (المناسك)؛ أي: أقامت بأمور الحج (كلها غير الطواف بالبيت) العتيق، وقوله: (ولا تصلي): يحتمل أن يكون من كلام البخاري، قاله في «عمدة القاري».
قلت: ففيه دليل على إباحة الأذكار والدعوات للحائض والجنب، وليس فيه دليل على جواز قراءة القرآن لهما، كما لا يخفى؛ فافهم.
(وقال الحكم)؛ بفتح الحاء المهملة، وفتح الكاف، هو ابن عُتَيْبَة _بضمِّ العين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة_، الكوفي، وهذا التعليق وصله البغوي في «الجعديات» من روايته عن علي بن الجعد، عن شعبة عنه قال: (إني لأذبح)؛ أي: الذبيحة (وأنا)؛ أي: والحال أني (جنب): فالجملة حالية، ولكن لا بدَّ أن أذكر الله تعالى، (وقال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]): فأراد بهذا أن الذبح مستلزم شرعًا لذكر الله تعالى بمقتضى هذه الآية، فدلَّ على أن الجنب يجوز له التلاوة، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وكونه يستلزم ذكر الله تعالى لا يلزم منه جواز التلاوة للجنب، بل الذي دلَّ عليه أنَّه يجوز له الأذكار والأدعية فقط، كما لا يخفى، وهذا الأثر دليل ظاهر على أنَّه لا تحل ذبيحة تارك التسمية عمدًا؛ لهذه الآية الكريمة، فإنَّها صريحة في ذلك، ولوصف ما لم يذكر اسم الله عليه بالفسق، حيث قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}: وهو النجس، فهي ميتة، ويحل ذبيحة تارك التسمية ناسيًا؛ لقوله عليه السلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ... »؛ الحديث، رواه الشيخان، وهذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله عنه، وهو مذهب علي، وابن عباس رضي الله عنهما، وقال الشافعي: تحل ذبيحة تارك التسمية عمدًا؛ لقوله عليه السلام: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليها»، وهو رواية عن مالك، ورد بالآية المذكورة، فإنها صريحة بخلافه، وعلى حرمة متروك التسمية عمدًا انعقد الإجماع فيمن كان قبل الشافعي، فهذا القول منه عُدَّ خرقًا للإجماع، وإنما كان الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيًا؛ فمذهب ابن عمر: أنَّه يحرم، ومذهب علي وابن عباس: أنَّه يحلُّ، ولهذا قال الإمام أبو يوسف: إنَّ متروك التسمية عمدًا لا يسوغ فيه الاجتهاد، حتى لو قضى القاضي بجواز بيعه؛ لا ينفذ قضاؤه؛ لكونه مخالفًا للإجماع، وما رواه الشافعي مخالف للدليل القطعي والإجماع، فكان مردودًا، وعلى فرض صحته يحمل على حالة النسيان ومشهور مذهب
%ص 341%
مالك كمذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، ومذهب أحمد: أنه يحرم ذبيحة متروك التسمية عمدًا أو نسيانًا، وإليه ذهب داود، وفي المشهور عن أحمد كمذهبنا، وسيأتي تمامه في محله إن شاء الله تعالى.
قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: واعلم أن البخاري ذكر في هذا الباب ستة من الآثار إلى هنا، واستدل بها على جواز قراءة الجنب القرآن، وفي كل ذلك مناقشة، ورد عليه الجمهور بأحاديث وَرَدَتْ بمنع الجنب عن قراءة القرآن؛ منها: حديث علي رضي الله عنه، أخرجه الأربعة؛ ولفظ أبي داود: حدثنا جعفر بن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلَمَة قال: دخلت على علي رضي الله عنه أنا ورجلان؛ رجل منا ورجل من بني أسد ... إلى أن قال: فدخل المخرج، ثم خرج فدعا بماء، فأخذ منه حفنة، فتمسح بها، ثم جعل يقرأ القرآن فأنكروا ذلك فقال: (إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يجيء من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة)، وقوله: (لا يحجزه)؛ بالزاي المعجمة؛ أي: لا يمنعه، ويروى بالراء المهملة أيضًا، ويروى: (لا يحجبه) بمعناه أيضًا.
فإن قلت: ذكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سَلَمَة، وحكى البخاري عن عمرو بن مرة كان عبد الله بن سَلَمَة يحدثنا فنعرف وننكر، وكان قد كبر، لا يتابع في حديثه، وذكر شعبة مثله كما نقله البيهقي، وذكر الخطابي أن أحمد كان يوهن حديث علي هذا، ويضعف أمر عبد الله بن سَلَمَة، وذكره ابن الجوزي في «الضعفاء والمتروكين»؟
قلت: الترمذي لما أخرجه؛ قال: (حديث حسن صحيح)، وصححه ابن حبان أيضًا، وقال الحاكم في عبد الله بن سَلَمَة: (إنه غير مطعون فيه)، وقال العجلي: (هو تابعي ثقة)، وقال ابن عدي: (أرجو أنه لا بأس به)، ومن الأحاديث حديث ابن عمر أخرجه الترمذي وابن ماجه عن إسماعيل بن عباس، عن موسى بن عُقْبَة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن».
ومنها حديث جابر رواه الدارقطني في «سننه» من حديث محمَّد بن الفضل، عن أبيه، عن طاووس، عن جابر مرفوعًا نحوه، ورواه ابن عدي في «الكامل» وهما ضعيفان، فإنَّ الأول ضعف بإسماعيل بن عباس، قال أحمد: (روايته عن أهل الحجاز ضعيفة)، والثاني أعله ابن عدي بمحمَّد بن الفضل، وأغلظ في تضعيفه على البخاري، والنسائي، وأحمد، وابن معين، قال إمام الشارحين: (وربما يعضدان بحديث علي المذكور، ولم يصح عند البخاري في هذا الباب حديث؛ فلذلك ذهب إلى جواز قراءة الجنب والحائض أيضًا، واستدل على ذلك بحديث عائشة الذي رواه مسلم، الذي ذُكِر عن قريب، فإنه قد صح عنده وعند غيره).
وقال الطبري: (الصواب أن ما روي عنه عليه السلام من ذكر الله على كل أحيانه، وأنه كان يقرأ ما لم يكن جنبًا؛ أن قراءته طاهرًا اختيارٌ منه لأفضل الحالتين والحالة الأخرى أراد تعليم الأمة أن ذلك جائز لهم غير محظور عليهم ذكر الله وقراءة القرآن) انتهى.
قلت: فيه نظر، بل الصواب أنه عليه السلام كان يقرأ طاهرًا تعظيمًا للقرآن، وكان يقرأ جنبًا بقصد الذكر لا التلاوة، على أنه ذكر الله على غير طهارة خلاف الأدب؛ لأنَّ حديث علي قد صححه الترمذي، وابن حبان، وغيرهما، والقول بضعفه شاذ، لا سيما قد اعتضد بالطرق، وبها يتقوى إلى درجة الصحيح، وإذا وجد الحاظر والمبيح؛ يقدم الحاظر عند المحققين، وشهادة الصحة إثبات، وشهادة الضعف نفي، والإثبات مقدم على النفي عند المدققين.
ولا دليل للمؤلف في حديث عائشة على جواز قراءة القرآن جنبًا؛ لأنَّ غاية [ما] في حديثها: أنه عليه السلام أمرها أن تنسك المناسك كلها غير ألَّا تطوف ولا تصلي حتى تطهر، ففيه دليل على جواز ذكر الله تعالى حالة الحيض، وليس فيه أنها تقرأ القرآن، فقياس الذكر على قراءة القرآن قياس مع الفارق؛ وإن كان القرآن يسمى ذكرًا.
وفيه دليل على منع قراءة القرآن حالة الحيض؛ لأنَّ قوله: (ولا تصلي ولا تطوفي) يلزم منه المنع عنها، فيدل على عدم الجواز، وقد اتفق الجمهور على المنع ولذلك مزيد كلام بينته في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (كأنها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (علي)، ولعله تحريف.
==================
[1] في الأصل: (كأنها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (كأنها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/520)
[حديث: خرجنا مع النبي لا نذكر إلا الحج فلما جئنا]
305# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون، هو الفضل بن دكين _بالدال المهملة_ (قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سَلَمَة) بفتحات، (عن عبد الرحمن بن القاسم)؛ هو ابن محمَّد، (عن) أبيه (القاسم بن محمَّد)؛ هو ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، (قالت: خرجنا مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) حال كوننا (لا نَذْكر)؛ بفتح النون، من الذُّكر _بضمِّ الذال المعجمة_، وفي الرواية السابقة: (لا نرى)؛ بضمِّ النون وفتحها؛ ومعناه: لا نظن (إلا الحج)؛ أي: إلا قصد الحج؛ لأنَّهم كانوا يظنون امتناع العمرة في أشهر الحج، فأخبرت عن اعتقادها عن الغالب من حال الناس، أو من حال الشارع؛ أمَّا هي فقد قالت: إنَّها لم تحرم إلا للعمرة، (فلما جئنا) وفي الرواية السابقة: (فلما كنت) (سَرِف)، وفي الرواية السابقة: (بسرف)؛ بزيادة الموحدة أوله، وهو بفتح السين المهملة، وكسر الراء، آخره فاء، اسم موضع قريب من مكة، بينهما نحوًا من عشر أميال، أو تسعة، أو سبعة، أو ستة، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، وقد يصرف نظرًا لإرادة المكان؛ (طمَثت)؛ بفتح الميم، وكسرها؛ أي: حِضْتُ، وهناك صرحت بقولها: (حضت)، (فدخل عليَّ)؛ بتشديد المثناة التحتية (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: إلى مكاني الذي أنا فيه، فرآني (وأنا أبكي): جملة اسمية وقعت حالًا بالواو، (فقال: ما) استفهامية؛ معناه: أي شيء (يبكِيكِ؟)؛ بكسر الكافين؛ أي: أي شيء أصابك، ومن شدته بكيت؟ (فقلت)؛ بتاء المتكلم؛ أي: له عليه السلام: (لودِدت)؛ بكسر الدال المهملة الأولى، وهو جواب قسم محذوف، والقسم التالي وهو قولها: (والله)؛ تأكيد له (أَني)؛ بفتح الهمزة (لم أحج العام)؛ أي: لم أقصد الحج في هذه السنة؛ لأنَّ قولها ذلك كان قبل شيء من الحج، (قال) عليه السلام لها: (لعلكِ)؛ بكسر الكاف (نَفست؟)؛ بفتح النون لا غير؛ أي: حضت، وجوز بعضهم الضم على قلة كما سبق، (قلت: نعم)؛ أي: نفستُ، (قال) عليه السلام: (فإن ذلكِ)؛ بكسر الكاف، وباللام، وفي رواية: (فإن ذاك)، وفي السابقة: (إن هذا) والمراد: الحيض (شيء) وفي السابقة: (أمرٌ) (كتبه الله على بنات آدم)؛ لأجل امتحانهنَّ به ليظهر صبرهنَّ وعدمه على العبادة فليس هو خاصًّا بك، وقصد عليه السلام تسليتها والتخفيف لهمِّها، (فافعلي) وفي السابقة: (فاقضي)، وهذا خطاب لعائشة، ومعناه: أدِّي (ما)؛ أي: الذي أو الشيء (يفعل)؛ أي: يؤدِّيه (الحاج)؛ أي: من المناسك، وهو اسم فاعل أصله: حاجج، والمراد به الجنس فيشمل الجمع، وتمامه قد مضى، (غيرَ) بالنصب (ألَّا)؛ بالشديد، أصله: أن لا، ويجوز أن تكون (أن) مخفَّفة من المثقلة، وفيه ضمير الشأن، و (لا) زائدة، وقوله: (تطوفي) مجزوم بـ (لا)؛ أي: لا تطوفي ما دمت حائضًا؛ لفقدان صحة الطواف؛ وهو الطهارة، ولهذا قال: (حتى تطهري)؛ أي: بانقطاع الحيض وإن لم تغتسلي، ومثلها النفساء والجنب، فإنَّ الاغتسال ليس بشرط لصحَّة الطواف، لكنه واجب فلو طافت بعد الانقطاع للركن؛ يجب عليها بدنة، ولو حاضت عند طواف الصَّدَر؛ تركته؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إنه عليه السلام أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)، متفق عليه، وقال الشافعي: لا بدَّ لصحة الطواف من الانقطاع والغسل؛ لحديث: «الطواف بالبيت صلاة» فيشترط له ما يشترط لها، ورُدَّ بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29]، واشتراط الطهارة بخبر الواحد زيادة على النصِّ، وهو نسخ فلا يثبت فيه، والمراد من التشبيه إنَّما هو في الثواب دون الحكم، ألا ترى أن الانحراف والمشي فيه لا يفسده؟! ولا يلزم موافقة المشبه المشبه به في جميع الوجوه، فإنك إذا قلت: زيد كحمار؛ يعني: في عدم الفهم؛ فلا يلزم أنَّه يمشي على أربع، وسيأتي تمامه في (الحج)، إن شاء الله تعالى.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ فإن المرأة إذا حاضت بعد الإحرام تأتي بأفعال الحج كلها غير أنها لا تطوف بالبيت، فإن طافت بعد الانقطاع؛ صح طوافها وعليها بدنة؛ لعدم الاغتسال.
وفي الحديث جواز البكاء والحزن لأجل حصول مانع للعبادة، وفيه أن العبد إذا وقع في مصيبة؛ لا بأس لغيره أن يسلِّيه بمثلها في غيره، ويخفِّفها عنه، كأن يقول له: انظر لفلان، فإنه حصل له كذا وكذا مثلها، والله أعلم.
%ص 342%
==================
(1/521)
(8) [باب الاستحاضة]
هذا (باب) حكم (الاستحاضة): وهي جريان دم المرأة من فرجها في غير أوانه، وهو أنواع:
الأول: ما تراه المرأة في أقل من ثلاثة أيام التي هي أقل مدة الحيض.
الثاني: ما تراه المرأة في أكثر من عشرة أيام التي هي أكثر مدة الحيض، فالناقص عن الأقل والزائد على الأكثر استحاضة؛ لأنَّ الشارع لما بين أقله وأكثره؛ علم أن الناقص عن الأقل والزائد على الأكثر؛ استحاضة ضرورة.
الثالث: ما زاد على حيض المبتدئة وحيضها عشرة من كل شهر؛ فهو استحاضة.
الرابع: ما زاد على نفاس المبتدئة؛ وهو أربعون.
الخامس: ما زاد على العادة في الحيض والنفاس، وجاوز أكثرهما؛ أي: عادة عرفت لحيض وجاوزت العشرة، أو نفاس وجاوز الأربعين، فإذا كان لها عادة معروفة في الحيض؛ كسبعة مثلًا فرأت الدم اثني عشر يومًا فخمسة أيام بعد السبع استحاضة، وإذا كانت لها عادة معروفة في النفاس؛ كثلاثين يومًا مثلًا، فرأت الدم خمسين يومًا فالعشرة التي بعد الثلاثين استحاضة، كذا في (الدرر).
وإنما لم يقل: فالعشرون التي بعد الثلاثين؛ لأنَّ المحتاج إلى البيان العشرة التي بعد الثلاثين.
السادس: ما تراه الحامل؛ فإنه استحاضة ولو في حال الولادة؛ لأنَّ الله تعالى أجرى عادته بانسداد فم الرحم ما دام الولد فيه؛ حتى قالوا: إن الدم يكون غذاء للولد، والرحم كالقربة، له أفواه قيل: خمسة، وقيل: أكثر.
وأقل مدة تحيض فيها المرأة تسع سنين، وهي أقل مدة لو ادعت فيها الأنثى البلوغ؛ صدقت؛ لأنَّ الحيض لا يعلم إلا منها، وأقل مدة الحمل ستة أشهر، وأكثره سنتان.
السابع: ما تراه الآيسة؛ فإنه استحاضة؛ وهي من بلغت خمسين سنة، أو خمسًا وخمسين سنة.
الثامن: ما تراه الصغيرة؛ فإنه استحاضة؛ وهي ما دون تسع سنين.
التاسع: ما تراه المريضة مرض الرحم؛ فإنه استحاضة، وتمامه في (منهل الطلاب)، والتتبع ينفي الحصر.
==================
(1/522)
[حديث: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة]
306# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن هشام بن عُرْوة) بضمِّ العين المهملة، وسكون الراء المهملة أيضًا، هو ابن الزبير، وسقط لابن عساكر: (بن عروة)، (عن أبيه) هو عروة المذكور ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (أنها قالت) أي: عائشة: (قالت فاطمة بنت أبي حُبَيْش) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره معجمة، القرشية الأسدية، واسم أبي حبيش قَيْس بن عبد المطلب بن أسد، هذا هو الصواب، وما قيل: إنَّه ابن المطلب؛ فخطأ ظاهر؛ فافهم، (لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) متعلق بقوله: (قالت): (يا رسول الله؛ إني) امرأة (لا أطهر) بضمِّ الهاء؛ أي: لا ينقطع دمي على العادة، بل يستمر، ووجه استعمالها (إنَّ) هنا؛ لتحقيق نفس القضية إذ كانت بعيدة عن الوقوع نادرة الوجود، فلهذا أكدت قولها بكلمة (إنَّ)؛ لأنَّ كلمة (إنَّ) لا تستعمل إلا عند إنكار المخاطب؛ لدخوله أو التردد فيه، ولم يكن النبيُّ الأعظم عليه السلام منكرًا لاستحاضتها ولا تردد فيها، وظنَّت أن طهارة الحائض بالانقطاع؛ فكنَّت بعدم الطهر عن اتصال الدم، وكانت علمت أن الحائض لا تصلي، وظنَّت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم من الفرج، فأرادت تحقيق ذلك.
فقالت: (أفأدع) أي: أفأترك (الصَّلاة؟) أي: جنسها؛ فرضها، وواجبها، ونفلها، (فقال رسول الله) وللأصيلي: (النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): لا تدعي الصَّلاة أيام استحاضتك، ومثلها الصوم؛ والمعنى: صلي وصومي ولو قطر الدم على الحصير.
فإن قلت: في هذا التركيب وجدت الهمزة؛ وهي تقتضي عدم المسبوقية بالغير، ووجدت الفاء؛ وهي تقتضي المسبوقية به، فكيف يجتمعان؟
قلت: الهمزة مقحمة وتوسطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة؛ لعدم انسحاب ذكر الأول على الثاني، أو الهمزة ليست باقية على صرافة الاستفهامية؛ لأنَّها للتقرير هنا فلا تقتضي الصدارة أو هو عطف على مقدر؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟ قاله الكرماني.
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (هذا سؤال على استمرار حكم الحائض في حالة دوام الدم وإزالته؛ وهو كلام من تقرر عنده أن الحائض ممنوعة من الصَّلاة) انتهى.
والحاصل: أن في مثل هذا التركيب وجهين؛ أحدهما: وعليه جمع أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها، وثانيهما: وعليه جرى الإمام جار الله أن الفاء للعطف على مقدر بين الهمزة والفاء؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟
قال عليه السلام: (إنما ذلكِ) بكسر الكاف (عِرْق) بكسر العين المهملة، وسكون الراء المهملة أيضًا، وهو المسمى بالعاذِل _بالعين المهملة، والذال المعجمة المكسورة وقد تهمل، وباللام أو بالراء_ أي: دم عرق انفجر ليس من الرحم، وعلامته أنه أحمر رقيق لا رائحة له، (وليس بالحَيضة) بفتح الحاء المهملة؛ لأنَّه عليه السلام أراد إثبات الاستحاضة ونفي الحيض، وقيل: بكسرها على إرادة الحال، والفتح هو الأظهر هنا، بل المتعين، وعليه أكثر المحدثين، بل كلهم؛ فافهم.
وإنَّما لم يكن حيضًا؛ لأنَّ دم الحيض متغير اللون، ثخين، منتن الرائحة، لذاع _بالذال المعجمة، ثم العين المهملة_؛ لأنَّ ما كان بغير الحيوان كالنار؛ فهو لذع_بالمعجمة ثم المهملة_ وما كان بالحيوان ذي السم كالعقرب؛ فهو لدغ_بالمهملة، ثم المعجمة_ ولم يرد إهمالهما معًا ولا إعجامهما كذلك، وقد نظم بعضهم ذلك فقال:
فلدغ لذي سم بإهمال أول ... وفي النار بالإهمال للثان فاعرفا
والاعجام في كل والإهمال فيهما ... من المهمل المتروك حقًّا بلا خفا
ومعنى كونه لذاعًا: محرق؛ أي: موجع ومؤلم، كذا في «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب، اللهم؛ فرج عني والمسلمين بجاه النَّبيِّ عليه السلام والآل والأصحاب.
(فإذا أقبلت) أي: وجدت (الحَيضة) بفتح الحاء المهملة أيضًا، ويجوز كسرها على ضعف؛ (فاتركي الصَّلاة) فرضها ونفلها، ومثلها الصوم، والطواف، وغيرها، ففيه نهي المستحاضة عن الصَّلاة في زمن الحيض وهو نهي تحريم، ومقتضاه فساد الصَّلاة هنا، وهو إجماع، وظاهر الحديث يعم الصَّلاة المفروضة والنافلة، ويتبعها الطواف وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة والشكر وغيرها.
(فإذا ذهب قدرها) أي: قدر الحيضة، وفي الرواية السابقة: (وإذا أدبرت)، والمراد: انقطاع الحيض، وعلامته: الزمان والعادة، فهو الفصيل، فإذا أضلت عادتها؛ تحرت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل، (فاغسلي عنكِ) بكسر الكاف (الدم) أي: دم الحيضة، (وصلِّي) أي: بعد الاغتسال، كما سيأتي التصريح به في باب (إذا حاضت في شهر ثلاث حيض)، وفي لفظ: (فدعي الصَّلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)، وفي لفظ: (ثم توضئي لكل صلاة)، وفي لفظ: (تغتسل الغسل الأول، ثم تتوضأ لكل صلاة)، وعند أبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها: (أنَّ أمَّ حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فاستفتت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ هذه ليست بالحيضة ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي»، وكانت تغتسل في مركز في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو
%ص 343%
حمرة الدم على الماء)، وعنده من حديث عائشة: (أن سهلة بنت سهل استحيضت، فأتت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك؛ أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح)، وعنده من حديث عائشة أيضًا قالت: (استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمرت أن تعجل العصر، وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلًا، وأن تؤخر المغرب، وتعجل العشاء، وتغتسل لهما، وتغتسل لصلاة الصبح)، وعنده من حديث عائشة: (المستحاضة تغتسل مرة واحدة، ثم تتوضأ إلى أيام أقرائها)، وفي لفظ: (فاجتنبي الصَّلاة إثر محيضك، ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وإن قطر الدم على الحصير)، وعند أبي عوانة الإسفراينيِّ: (فإذا ذهب قدرها؛ فاغسلي عنك الدم)، وعند الترمذي مصححًا: (توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت)، وعند الإسماعيلي: (فإذا أقبلت الحيضة؛ فلتدع الصَّلاة، وإذا أدبرت؛ فلتغتسل ولتتوضأ لكل صلاة)، وعند الحافظ الطحاوي مرفوعًا: (فاغتسلي لطهرك، وتوضئي عند كل صلاة)، وعند الدارمي: (فإذا ذهب قدرها؛ فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلِّي).
قال هشام: (وكان أبي يقول: تغتسل غسل الأول، ثم ما يكون بعد ذلك؛ فإنها تطهر وتصلي)، وعند أحمد: (اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وصلي)، وقال الشافعي: ذكر الوضوء عندنا غير محفوظ ولو كان محفوظًا؛ لكان أحب إلينا من القياس.
وفي «التمهيد» رواه أبو حنيفة الإمام الأعظم عن هشام مرفوعًا، كرواية يحيى عن هشام سواء قال فيه: (وتوضئي لكل صلاة)، وكذلك رواه حمَّاد بن سَلَمَة عن هشام مثله، وقال حمَّاد في هشام: (ثقة ثبت).
وروى سبط ابن الجوزي عن الإمام الأعظم أنه عليه السلام قال: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة»، وفي «شرح مختصر الحافظ الطحاوي»: روي عن الإمام الأعظم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أنَّ النَّبيَّ عليه السلام قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «توضئي لوقت كل صلاة»، فالوضوء محفوظ في الروايات، وهذا محكم لا يحتمل غيره بالنسبة إلى كل صلاة بخلاف: (توضئي لكل صلاة)، فإن لفظ (الصَّلاة) شاع استعمالها في لسان الشرع والعرف في وقتها؛ فمن الأول: قوله عليه السلام: «إن للصلاة أوَّلًا وآخرًا»؛ أي: لوقتها، فوجب حمل (توضئي لكل صلاة) على المحكم؛ لأنَّ اللام للوقت؛ كما في قوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]؛ أي: زوالها، فكان ما رواه الشافعي نصًّا محتملًا للتأويل، وما رواه الإمام الأعظم مفسر لا يحتمل التأويل، فيترجح عليه كما عرف في موضعه، على أن الحفاظ اتفقوا على ضعف ما رواه الشافعي؛ كذا حكاه النووي في «المهذب»، وباقي أصحاب الأعذار في حكم المستحاضة، فالدليل يشملهم.
قال في «عمدة القاري»: ووطء المستحاضة جائز في حال جريان الدم عند جمهور العلماء، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وحكاه ابن المُنْذِر عن ابن عباس، وابن المسيب، والحسن، وعطاء، وسَعِيْد بن جبير، وقتادة، وحمَّاد بن سليمان، والأوزاعيِّ، والثوري، ومالك، وإسحاق، وأبي ([1]) ثور، والشافعيِّ، والمزنيِّ، تعلقوا بما في كتاب أبي داود بسند جيد: (أنَّ حمنة كانت مستحاضة وكان زوجها يأتيها).
قال ابن المُنْذِر: وروِّينا عن عائشة أنها قالت: (لا يأتيها زوجها)، وبه قال النخعيُّ، والحكم، وسليمان بن يسار، والزُّهْرِيُّ، والشعبيُّ، وابن عُليَّة، وكرهه ابن سيرين، وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها، وفي رواية: (لا يجوز وطؤها إلا أن يخاف زوجها العنت)، وقال أئمتنا الأعلام: ودم الاستحاضة كرعاف لا يمنع الصوم، ولا الصَّلاة ولو نفلًا، ولا الوطء وإن لزم منه تلطخ بالدم، ولا قراءة القرآن، ولا مس المصحف، ولا دخول المسجد، ولا الطواف إذا أمنت من اللوث؛ كذا في «شرح النقاية» للقهستانيِّ عن «الخزانة». وقال منصور: تصوم ولا يأتيها زوجها، ولا تمس المصحف، وتصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل، وقال الإمام الأعظم: طهارتها مقدرة بالوقت، وتصلي في الوقت بطهارتها الواحدة ما شاءت من الفرائض والنوافل، وهو محكيٌّ عن الثوريِّ، وعروة، وأبي ثور، ورواية عن أحمد.
وقال الشافعيُّ: لا تصلي بطهارة واحدة أكثر من فريضة واحدة مؤداة ومقضية، وفي وجه له: لا يستبيح النافلة أصلًا.
وقال مالك وربيعة وداود: دم الاستحاضة لا ينقض الوضوء، فإذا تطهرت؛ فلها أن تصلي بطهارتها ما شاءت إلا أن تحدث بغير الاستحاضة.
وقال صاحب «عمدة القاري»: ويصح وضوءها لفريضة قبل دخول وقتها خلافًا للشافعيِّ، ولا يجب عليها اغتسال لشيء من الصلوات، ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها، وبه قال جمهور العلماء، وهو مذهب الإمام الأعظم، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول عروة، وأبي سَلَمَة، ومالك، وأحمد، وروي عن ابن عمر وعطاء بن أبي رباح وابن الزبير أنهم قالوا: يجب عليها أن تغتسل كل يوم غسلًا واحدًا، وعن ابن المسيب والحسن: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر، انتهى.
فائدة: ذكر إمام الشارحين: أنه كان في زمنه عليه السلام جماعة من النساء مستحاضات؛ منهنَّ: أم حبيبة بنت جحش، وسيأتي حديثها، وزينب أم المؤمنين، وأسماء أخت ميمونة لأمها، وفاطمة بنت أبي حبيش، وحمنة بنت جحش ذكرها أبو داود، وسهلة بنت سهل ذكرها أيضًا، وكذا زينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة ذكرها العلاء بن المسيب، عن الحكم، عن أبي جعفر محمَّد بن علي بن حسين، وزينب بنت أم سَلَمَة ذكرها الإسماعيلي في جمعه لحديث يحيى بن أبي كثير، وأسماء بنت مرشد الحارثيَّة ذكرها البيهقي، وبادية بنت غيلان ذكرها ابن الأثير قال: (قلت: هي الثقفية ([2]) التي قال عنها هيت المخنث: تقبل بأربع وتذهب بثمان، تزوجها عبد الرحمن بن عوف، وأبوها أسلم، وتحته عشرنسوة) انتهى، والله تعالى أعلم.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ لأنَّه في حكم الاستحاضة، ومرَّ هذا الحديث في باب (غسل الدم)، وصرَّح به بالاستحاضة، وذلك في رواية أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: يا رسول الله؛ إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصَّلاة؟ ... ؛ الحديث؛ كذا في «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي، وعليه توكلي واعتمادي.
==========
[1] في الأصل: (وأبو).
[2] في الأصل: (الثقيفة)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (وأبو).
[1] في الأصل: (وأبو).
(1/523)
(9) [باب غسل دم المحيض]
هذا (باب) بيان (غَسل) بفتح الغين المعجمة (دم الحيض) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية: (المحيض) بالميم، وفي أخرى: (الحائض)، وقد ذكر في كتاب (الوضوء)، باب (غسل الدم)، وهو أعم من هذه الترجمة، كما لا يخفى.
==========
%ص 344%
==================
(1/524)
[حديث: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه]
307# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ هو التنيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، (عن هشام) زاد الأصيلي: (ابن عروة)؛ هو ابن الزبير، (عن فاطمة بنت المُنْذِر)؛ هو ابن الزبير بن العوام زوجة هشام المذكور وابنة عمه، (عن أسماء بنت أبي بكر الصديق) رضي الله عنهما، وفي رواية سقط لفظ (الصديق)، وهي جدة فاطمة وزوجها لأبويهما المعروفة بذات النطاقين أم عبد الله بن الزبير، وهي آخر المهاجرات وفاة، توفيت في جمادى الأول، سنة ثلاث وسبعين بمكة بعد ابنها عبد الله بأيام، بلغت مئة سنة، لم يسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل رضي الله عنها (أنها قالت) أي: أسماء: (سألت امرأةٌ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) والمرأة السائلة هي أسماء بنت يزيد التي يقال لها: خطيبة النساء، وقيل: هي أسماء بنت مَشكَل؛ بفتحتين، قال جماعة من المحدثين: والأولى هي الصواب، وقواه النووي واعتمده، وما قيل: إنَّها أسماء بنت أبي بكر المذكورة، وأبهمت نفسها لغرض؛ فقد ردَّه النووي، وقدمنا أنَّها لو كانت هي السائلة؛ لم تبهم نفسها؛ لأنَّه لا عذر لها، ولا غرض فيه، بل التصريح أشرف وأحسن لها، لا يقال: إن الحياء منعها من التصريح؛ لأنَّا نقول: هذا حكم شرعي، والنَّبيُّ الأعظم عليه السلام نهى عن الحياء في الأحكام الشرعية والسؤال عنها، ولهذا إنَّ أم سليم لما أتته تسأله قالت: إن الله لا
%ص 344%
يستحي من الحق، فالحياء من الحق مذمومٌ شرعًا، وأسماء رضي الله عنها من كبار الصحابة المهاجرات، وهي أشد اتباعًا لسنة النَّبيِّ الأعظم عليه السلام فلا يمنعها ذلك؛ فافهم، والله أعلم.
(فقالت: يا رسول الله؛ أرأيت)؛ أي: أخبرني، وفيه تجوز لإطلاق الرؤية وإرادة الإخبار؛ لأنَّ الرؤية سبب الإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر؛ بجامع الطلب، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم، (إحدانا) بالنصب مفعول (أرأيت) على معنى: أخبرني عن إحدانا، وجوز في «عمدة القاري» رفعه على الابتداء، والجملة بعده خبره.
قلت: وهو معنًى صحيحٌ؛ لأنَّه على معنى الاستئناف، فكأنها قالت: أخبرني حكم؛ وهو إحدانا ... إلخ؛ فافهم.
(إذا أصاب ثوبَها الدمُ) بالرفع فاعل (أصاب)، وبنصب (ثوب) على المفعولية، (من الحَيضة)؛ بفتح الحاء المهملة، متعلق بقوله: (أصاب)، وجملة (كيف تصنع؟)؛ أي: في الثوب المذكور محلها نصب على أنها مفعول ثان لـ (رأيت)، أو بدل من الأول، أو لا محل لها، أو محلها الرفع؛ فتأمل.
(فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) لها في الجواب: (إذا أصاب ثوب) بالنصب مفعول (أصاب) (إحداكن الدم) بالرفع فاعله (من الحَيضة) بفتح الحاء المهملة أيضًا؛ (فلتَقْرُصه)؛ أي: الدم الموجود في الثوب المذكور، وهو بفتح الفوقية، وسكون القاف، وضم الراء، وبالصاد المهملة الساكنة؛ أي: تدلكه بأطراف الأصابع حتى تقلع الأثر، قال في «المحكم»: (القرص ([1]): التخميش، والغمز بالإصبع)، وقدمنا تمامه، (ثم لتَنضَحُه) بفتح الفوقية، بعدها نون، وبفتح الضاد المعجمة، وضم الحاء المهملة، من باب (فتح)، وما قيل: إنَّه بكسر الضاد المعجمة؛ فقد غلط، ووفق بعضهم بأن الفتح أفصح، والكسر لغة، ولا ريب أن غير الفصيح شاذ وغلط، فتعين الفتح فقط، وقدمنا تمامه؛ فافهم، والمراد بالنضح: الغسل؛ أي: تغسله، ويدل له قوله في الحديث السابق: (فاغسلي عنك الدم)، فهو يعين أن المراد بالنضح في كلامهم: الغسل لا غير؛ فافهم، والمراد: أنها تفرك مواضع الدم بأطراف أصابعها (بماء)؛ أي: مع صب عليه؛ ليتخلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه، ولا يضر بقاء أثرٍ شقَّ زواله، فلا يتكلف في إزالته لنحو صابون، أو أشنان، أو ماء حار، أو غيرها؛ فإنه غير لازم للحرج، وهو مدفوع بالنص، والحك بالضلع، والماء المملح الواقع في بعض الروايات إن صح؛ فهو محمول على الندب لا الوجوب؛ لأنَّ الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر ذلك، كما أوضحناه فيما سبق، (ثم لتصلي فيه)؛ أي: بذلك الثوب، فقد علمت أن الضمير المنصوب في (فلتقرصه) يرجع إلى الدم الذي أصاب الثوب، والضمير في قوله: (لتنضحه) يرجع إلى الماء، وهذا هو الأصل في إرجاع الضمير.
واستدل الإمام محمَّد بن الحسن والشافعي بهذا الحديث على أنَّ النجاسات إنَّما تزال بالماء دون غيره من المائعات الطاهرة؛ لأنَّ جميع النجاسات بمثابة الدم إجماعًا.
قلت: وهو مردود؛ فإن ذكر الماء في الحديث خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، والمعنى في ذلك: أن الماء أكثر وجودًا من غيره، فصرح به باعتبار الكثرة والغالب، ورد أيضًا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينفي الحكم عما عداه، ورد أيضًا بأن هذا مفهوم اللقب، وهو غير حجة عند الشافعي، ويدل لهذا حديث عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض؛ قالت بريقها، فمصعته بظفرها)، وعند أبي داود: (بلته بريقها)، فلولا أن الريق مطهِّر؛ لزادت النجاسة، فعلم أن الرِّيق وغيره من المائعات الطاهرة مطهر للنجاسة كالماء، فلا خصوصية للماء في ذلك، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور.
واعترض باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره، ثم غسلته بعد ذلك.
قلت: وهذا احتمال بعيد بارد؛ لأنَّه لا دليل يدل على أنها غسلته بعد ذلك، بل ظاهره صريح في أنها اقتصرت على الريق، ولئن سلمنا أنها غسلته؛ فبالغسل يحصل تحليل أثره من غير احتياج إلى مضغه أو بله بريقها، فعلم بذلك أنها لم تغسله، ومضغه أو بله بريقها دليل على أنها لم تغسله، وهو كذلك؛ لأنَّه لم يثبت عنها ذلك ولا أحد نقله عنها، فاحتمال الغسل بعد ذلك دعوى باطلة لا يعتد بها، على أن المقصود من تطهير النجاسات إزالة عينها وأثرها، والمائعات الطاهرات وكذا الريق لا ريب أنها تزيل العين والأثر، وبها يحصل المقصود، فلا خصوصية للماء، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وفي الحديث دليل على أن الدم نجس، وهو بالإجماع، وفيه دلالة على أن العدد ليس بشرط في إزالة النجاسة، بل المراد الإنقاء، وفيه دليل على أنها لم تر في ثوبها شيئًا من الدم ترش عليه، وتصلي فيه لأجل دفع الوسوسة، وتمامه فيما قدمناه؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (القرض)، وهو تصحيف، وكذا في بعض المواضع اللاحقة.
==================
(1/525)
[حديث: كانت إحدانا تحيض ثم تقترص الدم من ثوبها]
308# وبالسَّند قال: (حدثنا أصبغ) بالصاد المهملة، بعدها موحدة، آخره غين معجمة، هو ابن الفرج الفقيه المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن وهب) هو عبد الله بن وهب المصري (قال: حدثني) وفي رواية: (أخبرني) بالإفراد فيهما (عَمرو) بفتح العين المهملة (بن الحارث) بالحاء المهملة، هو المصري، (عن عبد الرحمن بن القاسم) هو ابن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه (حدثه) أي: حدث عمرو بن الحارث، (عن أبيه) هو القاسم بن محمَّد، (عن عائشة): الصديقة بنت الصديق رضي الله عنه أنها (قالت: كانت إحدانا)؛ أي: غير زوجات النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومعناه: أنهنَّ لم يصبن ذلك في زمنه عليه السلام، وهذا المعنى منتفٍ، وحكم هذا الحديث الرفع، ويؤيده حديث أسماء الذي قبله، وقال ابن بطال: حديث عائشة يفسر حديث أسماء، والمراد بالنضح في حديث أسماء: الغسل، وأما قول عائشة: (وتنضح على سائره)؛ فإنما فعلت ذلك؛ دفعًا للوسوسة، كذا في «عمدة القاري».
(تحيض، ثم تقرص) بالقاف، والصاد المهملة على وزن (تفعِل)؛ أي: تغسله بأطراف أصابعها، وفي رواية: (تقترص) بزيادة مثناة فوقية، وبالصاد المهملة على وزن (تفتعل) (الدم من ثوبها)؛ أي: دم الحيض، وقال ابن الجوزي: معنى (تقرص): تقطع كأنها تحوزه دون باقي المواضع، والأول أشبه بحديث أسماء؛ لأنَّ فيه: (فلتقرُصه)؛ بالقاف، وضم الراء، والصاد المهملة، وإنما أمر النَّبيُّ عليه السلام بالقرص؛ لأنَّ الدم وغيره مما يصيب الثوب إذا قرص؛ كان أحرى بأن يذهب أثره، وينقى الثوب منه؛ لأنَّ القرص يكون بالإصبعين، وهو قلعه وإزالته بهما، (عند طهرها) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية: (عند طهره) أي: الثوب؛ أي: عند إرادة تطهيره، (فتغسله)؛ أي: الثوب بالماء وبكل مائع طاهر بأطراف أصابعها، (وتنضح) بالضاد المعجمة، والحاء المهملة؛ أي: الماء؛ أي: ترشه (على سائره) أي: سائر الثوب؛ لأجل دفع الوسوسة، (ثم تصلي فيه)؛ لأنَّه طاهر، وفي الحديث دليل على أن النجاسة في الثوب إذا خفي مكانها وتحرى وغسلها؛ طهر الثوب، ويرش على باقيه الماء؛ دفعًا للوسوسة، وفيه دليل على استحباب رش الماء على السراويل بعد الاستنجاء، وفيه دليل على أن العدد ليس بشرط في تطهير النجاسة، بل المقصود إنقاء المحل من العين والأثر، والله تعالى أعلم.
وفي يوم الثامن من رمضان سنة سبع وسبعين ومئتين وألف جاءت البوسطة من بيروت من أبرص من الماغوصه بنعي شيخنا وسيدنا العلامة الكبير والنحرير الشهير السيد محمَّد عمر نور الدين الغزيِّ العامري، مفتي الشافعية بدمشق، ودفن هناك، قدس سره، ورحمه الله رحمة واسعة، ألا وهو رأس تاج أهل دمشق، وفريد الأعصار، ونور الأمصار، ولبيب المعاني، وفصيح المباني، درة المحدثين، وخاتمة المحققين، ولا غرو؛ فإنه الشافعي الصغير، والهمام النحرير، نفعنا به في الدارين آمين.
==========
%ص 345%
==================
(1/526)
(10) [باب الاعتكاف للمستحاضة]
هذا (باب) حكم (اعتكاف) المرأة (المستحاضة) في المسجد؛ يعني: يجوز اعتكاف المستحاضة إذا أمنت التلوث منها للمسجد، والاعتكاف في اللغة: هو اللبث، والعكف: هو الحسن، وفي الشريعة: هو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف، وفي رواية: (باب الاعتكاف للمستحاضة)، وأكثر الروايات على ما ذكرنا؛ فافهم.
==========
%ص 345%
==================
(1/527)
[حديث: أن النبي اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم]
309# وبالسَّند قال: (حدثنا إسحاق بن شاهِين)؛ بكسر الهاء، أبو بِشْر؛ بكسر الموحدة، وسكون الشين المعجمة، الواسطي، جاوز المئة، وفي رواية: سقط: (بن شاهين)، وبدله: (الواسطي) (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (خالد بن عبد الله) هو أبو الهيثم؛ بالمثلثة، الطحان، المتصدق بوزن نفسه فضة ثلاث مرات، (عن خالد) هو ابن مهران الذي يقال له: الحذَّاءبالحاء المهملة، والذال المعجمة المشددة، وبالمد، (عن عِكرمة) بكسر العين المهملة، هو ابن عبد الله،
%ص 345%
ومولى ابن عباس رضي الله عنهما، أصله بربري، ثقة، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا ثبتت عنه بدعة، واحتج به المؤلف، وأصحاب السنن، وأثنى عليه غير واحد من أهل عصره وكل عصر، والله أعلم، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: (إنَّ النَّبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم اعتكف معه) أي: في مسجده النبوي (بعضُ) بالرفع فاعل (اعتكف) (نسائه) قيل: هي سودة بنت زمعة، وقيل: هي رملة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وقيل: هي زينب بنت جحش الأسدية أول من مات من أزواج النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعده، (وهي مستحاضة): جملة اسمية وقعت حالًا، ووجه التأنيث مع أن لفظة (هي) ترجع إلى لفظ (بعض) اكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه، أو التأنيث باعتبار ما صدق عليه لفظ البعض وهو المراد، وإنما لحق تاء التأنيث في المستحاضة وإن كانت الاستحاضة من خصائص النساء؛ للإشعار بأن الاستحاضة حاصلة لها بالفعل، كذا في «عمدة القاري»، (ترى الدم): جملة من الفعل والفاعل والمفعول، صفة لازمة للمستحاضة، وهو دليل على أن المراد: أنَّها كانت في حال الاستحاضة، لا أنها من شأنها الاستحاضة؛ يعني: أنها مستحاضة بالفعل لا بالقوة، ويجوز أن تكون الفاء في قوله: (فربما) لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، وإنما لم يجز أن يقال: المستحيضة على بناء المعلوم؛ لأنَّ المتبع هو الاستعمال وهو لم يستعمل إلا مجهولًا؛ كما في (جُنَّ) من الجنون، وقال الجوهري: (استحيضت المرأة؛ استمر بها الدم بعد أيامها، فهي مستحاضة)، وقال ابن الجوزي: ما عرفنا من أزواج النبي [صلى الله] عليه وسلم من كانت مستحاضة، والظاهر: أنَّها ([1]) عائشة رضي الله عنها؛ إشارة بقولها: (من نسائه)؛ أي: من النساء المتعلقات به، وهي أم حبيبة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبي عليه السلام.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: كأن ابن الجوزي ذهل عن الروايتين في هذا الباب؛ أحدهما: (امرأة من أزواجه)، والأخرى: (كان بعض أمهات المؤمنين اعتكفت وهي مستحاضة) على ما يأتي قريبًا، وأيضًا فقد يبعد أن يعتكف مع النبي عليه السلام امرأة من غير زوجاته وإن كان لها به تعلق، وذكر ابن عبد البر أن بنات جحش الثلاث كن مستحاضات؛ زينب أم المؤمنين، وحمنة زوج طلحة، [و] أم حبيبة زوج عبد الرحمن بن عوف، وهي المشهورة منهن بذلك، ويأتي حديثها، وذكروا في المبهمة ثلاثة أقوال التي تقدمت، وأما على ما زعم ابن الجوزي من أن المستحاضة ليست من أزواجه عليه السلام؛ فقد روي: (وكانت زينب بنت أم سَلَمَة استحيضت)، وهي لها تعلق بالنبي عليه السلام؛ لأنَّها ربيبته، ولكن هذا الحديث رواه أبو داود من حكاية زينب على غيرها، وهو الأشبه، فإن زينب كانت صغيرة في زمنه عليه السلام؛ لأنَّه دخل على أمها في السنة الثالثة وزينب ترضع، انتهى كلامه؛ فافهم.
(وضعت الطَّست)؛ بفتح الطاء: وعاء من النحاس يتخذ لتغسيل الأيدي من الطعام، أصله (الطسُّ) بالتضعيف، فأبدلت إحدى السينين تاء؛ للاستفعال، فإذا جمعت أو صغرت؛ رددت إلى أصله؛ فقلت: طساس وطسيس، وفي اللغة البلدية بالشين المعجمة، ويجمع على طشوت، كذا في «عمدة القاري»، (تحتها من الدم) كلمة (من) للتعليل هنا، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أنها ابتدائية؛ أي: لأجل الدم.
قلت: والأول أظهر، كما لا يخفى.
(وزعم عكرمة) فعل وفاعل، وهو بمعنى: قال، أو لعله ما ثبت صريح القول من عكرمة بذلك، بل علم من القرائن الأحوال منه؛ فلهذا لم يسند القول إليه صريحًا، وهذا إما تعليق من المؤلف، وإما من تتمة قول خالد الحذاء؛ فيكون مسندًا، وهو عطف من جهة المعنى على عكرمة؛ أي: قال خالد: قال عكرمة ... ، وزعم عكرمة، كذا قاله الكرماني.
وزعم ابن حجر أنه معطوف على معنى العنعنة؛ أي: حدثني عكرمة بكذا، وزعم كذا، وأبعد من زعم أنه معلَّق.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا القائل يريد بذلك: الرد على الكرماني، ولا وجه لرده؛ لأنَّ رد الكلام هو الذي قاله، وتردد هذا الاحتمال لا يدفع بقوله: (وزعم) معطوف على معنى العنعنة، والعطف من أحكام الظواهر في الأصل، انتهى؛ فافهم.
(أن عائشة): الصديقة رضي الله عنها (رأت ماء) بالمد (العُصْفُر) بضمِّ العين المهملة، والفاء، وسكون الصاد المهملة، وهو زهر القرطم، كذا في «عمدة القاري»، (فقالت) أي: عائشة: (كأنَّ) بتشديد النون، قبلها همزة (هذا) أي: الأصفر (شيء كانت فلانة) الظاهر: أنها هي المرأة التي ذكرت قبل، و (فلانة) غير منصرف؛ كناية عن اسمها، وقال الإمام الزمخشري: فلان وفلانة كناية عن أسماء الأناسي، وإذا كنوا عن أسماء البهائم؛ فقالوا: الفلان والفلانة، كذا في «عمدة القاري»، (تجده)؛ أي: في زمان استحاضتها، قال في «عمدة القاري»: ومما يستنبط من الحديث جواز اعتكاف المستحاضة وجواز صلاتها؛ لأنَّ حالها حال الطاهرات، وإنما تضع الطست؛ لئلا يصيب ثوبها أو المسجد، وأنَّ دم الاستحاضة رقيق كدم الحيض، ويلحق بالمستحاضة ما في معناها؛ كمن به سلس البول، والمذي، والودي، ومن به جرح يسيل في جواز الاعتكاف، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (أنه)، وهو تحريف.
==================
(1/528)
[حديث: اعتكفت مع رسول الله امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم]
310# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا قُتَيْبَة) بضمِّ القاف، وفتح الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة، هو ابن سَعِيْد _بكسر العين المهملة_ (قال: حدثنا يزيد) بفتح التحتية أوله (بن زُريع) بضمِّ الزاي، آخره عين مهملة، (عن خالد) هو الحَذَّاء _بالحاء المهملة_ (عن عكرمة): المفسر المشهور مولى ابن عباس رضي الله عنهما، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: اعتكفتْ) بتاء التأنيث (مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم امرأة) أي: مستحاضة (من أزواجه) الطاهرات، قيل: إنها سودة بنت زمعة، وقيل: رملة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهذا الحديث يرد ما زعمه ابن الجوزي من أن المستحاضة ليست من أزواج النَّبيِّ عليه السلام؛ لأنَّ من البعيد أن يعتكف مع النَّبيِّ الأعظم عليه السلام امرأةٌ من غير زوجاته وإن كان لها تعلق به، كما لا يخفى، (فكانت) أي: المرأة المبهمة (ترى الدم) أحمر في حال الاستحاضة، (و) ترى (الصُفرة) بضمِّ الصاد المهملة، وهو كناية عن الاستحاضة؛ فكأنها تراه تارة أحمر وتارة أصفر، فالأول: دم حقيقي، والثاني: دم حكمي؛ لاستحالته، (والطَّست)؛ بفتح الطاء: الوعاء من النحاس وغيره (تحتها) جملة حالية بالواو، وفي نسخة بدونها وهو جائز، (وهي تصلي) جملة حالية بالواو أيضًا، ففي الحديث جواز الحدث في المسجد بشرط عدم تلويثه، وفيه جواز صلاة المستحاضة، ويلحق بها أصحاب الأعذار مثل من به جرح لا يرقأ، ومن به سلس بول، ومن به استطلاق بطن، ونحوهم، فإنهم يصلون بوضوئهم في الوقت ما شاؤوا من الفرائضوالنوافل، فإذا خرج الوقت؛ بطل وضوءهم؛ فليحفظ.
==================
(1/529)
[حديث: أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت وهي مستحاضة]
311# وبه قال: (حدثنا مُسَدد) بضمِّ الميم، وفتح السين المهملة، هو ابن مسرهد _بالمهملات_ (قال: حدثنا مُعْتَمِر) بضمِّ الميم الأولى، وكسر الثانية، بينهما فوقية مفتوحة، قبلها عين مهملة ساكنة، هو ابن سليمان بن طرخان البصري، (عن خالد) هو الحذاء، (عن عكرمة) مولى ابن عباس، (عن عائشة) الصديقة رضي الله عنها قالت: (إنَّ) بكسر الهمزة (بعض أمهات المؤمنين) الطاهرات، قيل: سودة، وقيل: رملة، كما سبق، وهو يرد على ما زعمه ابن الجوزي أيضًا، وإنَّما سميت أزواج النَّبيِّ الأعظم عليه السلام (أمهات المؤمنين)؛ لحرمة نكاحهن بعده، قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ... }؛ الآية [الأحزاب: 6]؛ فهن أمهات؛ من حيث تعظيم حقهن، وتحريم نكاحهن على التأبيد، لا في حق النظر إليهن، والخلوة بهن؛ فإنه حرام في حقهن، كما في حق الأجانب، قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، ولا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين، ولا لأخواتهن وإخوانهن: هم أخوال المؤمنين وخالاتهم، واختلفوا في أنهن هل كنَّ أمهات النساء المؤمنات؟ قيل: كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعًا، وقيل: كن أمهات المؤمنين دون النساء، وروى الشعبي عن مسروق: (أن امرأة قالت لعائشة: يا أمه؛ فقالت: لست لك بأمٍّ؛ إنَّما أنا أمُّ رجالكم) فبان بهذا أن معنى هذه الأمومية: تحريم نكاحهن؛ فافهم، والله أعلم، (اعتكفت) أي: مع النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجده النبويِّ (وهي مستحاضة) جملة حالية بالواو، ولم يذكر في هذه الرواية: وضع الطست تحتها؛ لأنَّها كانت آمنة من تلويث المسجد بوضع الخروق في حالها، كما هي عادة النساء، وفي الحديث جواز الاعتكاف للمستحاضة ونحوها مع أمن تلويث المسجد،
%ص 346%
وفيه مشروعية الاعتكاف للنساء كالرِّجال، وفيه أنه يقال لأزواج النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: أمهات المؤمنين، كما ورد في القرآن المجيد، وفيه أن دم الاستحاضة لونه تارة أحمر وتارة أصفر، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
==================
(1/530)
(11) [باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه؟]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين فيه (هل) استفهام استفسار، وسؤال (تصلي المرأة في ثوب) أي: في ثوبها الذي (حاضت فيه؟) وجواب الاستفهام محذوف، تقديره: يجوز أو نحو ذلك؛ لأنَّ عادة المؤلف إطلاق التراجم من الجواز وعدمه، ويحيل الحكم على الحديث الذي يذكره بعدها، ولا يخفى وجه المناسبة بين البابين؛ لأنَّ هذه الأبواب كلها فيما يتعلق بأحكام الحيض؛ فافهم.
==================
(1/531)
[حديث: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه]
312# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو نُعَيْم) بضمِّ النون، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، هو الفضل بن دُكين _بالدال المهملة_ (قال: حدثنا إبراهيم بن نافع) بالنون، والفاء، هو المخزومي أوثق شيخ بمكة في زمانه، (عن ابن أبي نَجِيح) هو عبد الله، واسم أبي نَجِيح يَسار _بفتح التحيتة أوله_ ضد اليمين، وهو بفتح النون وكسر الجيم، آخره حاء مهملة، المكي، (عن مُجَاهِد) بضمِّ الميم، هو المفسر ابن جُبير، بضمِّ الجيم (قال) وفي رواية بإسقاطها: (قالت عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، قال في «عمدة القاري»: قيل: هذا الحديث منقطع ومضطرب، أما الانقطاع؛ فإن أبا حاتم، ويحيى بن معين، ويحيى بن سَعِيْد القطان، وشعبة، وأحمد قالوا: إنَّ مُجَاهِدًا لم يسمع من عائشة، وأمَّا الاضطراب؛ فلرواية أبي داود له عن محمَّد بن كثير، عن إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم بدل (ابن أبي نجيح).
ورُدَّ عليه بأنَّ البخاريَّ صرَّح بسماعه منها في غير هذا الإسناد في عدة أحاديث، وكذا أثبت سماعه منها ابن المديني وابن حبان مع أن الإثبات مقدم على النفي، وأما الاضطراب الذي ذكره؛ فهو ليس باضطراب؛ لأنَّه محمول على أن إبراهيم بن نافع سمعه من شيخين، وشيخ البخاري أبو نعيم أحفظ من شيخ أبي داود محمَّد بن كثير، وقد تابع أبا نعيم خالد بن يحيى، وأبو حذيفة، والنعمان بن عبد السلام، فرجحت روايته، والمرجوح لا يوثق في الراجح، والحديث المذكور أخرجه أبو داود أيضًا، فقال: حدثنا محمَّد بن كثير قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع قال: سمعت إسحاق بن أبي سَلَمَة يذكر عن مُجَاهِد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا) أي: من زوجات النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (إلا ثوب واحد) وقولها: (تحيض فيه): جملة في محل الرفع على أنها صفة لـ (ثوب).
قال الكرماني: فإن قلت: هذا النفي لايلزم أن يكون عامًّا لكلهن؛ لصدقه بانتفاء الثوب الواحد منهن؛ قلت: وهو عام؛ إذ صدقه بانتفاء الثوب لكلهن، وإلا لكان لإحداهن ثوب؛ فيلزم الخلف، ولفظ المضاف المفرد من صيغ العموم على الأصح، انتهى.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (لا يقال: إنَّ هذا الحديث معارض لحديث أم سَلَمَة؛ فإنَّ فيه: (فأخذت ثياب حيضتي) وهو يدل على: تعدد الثوب؛ لإمكان عدم كون التعدد في بدء الإسلام؛ فإنهن كانوا حينئذٍ في شدة وقلة، ولما فتح الله الفتوح واستغنت أحوالهم؛ اتخذت النساء ثيابًا للحيض سوى لباسهن، فأخبرت أم سَلَمَة عنه) انتهى.
وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون مراد عائشة بقولها: (ثوب واحد) مختص بالحيض، وليس في سياقها ما ينفي أن يكون لها غيره في زمن الطهر؛ فيوافق حديث أم سَلَمَة، انتهى.
قلت: وهذا الاحتمال ممنوع ومردود؛ لأنَّ قول عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه) معناه: ليس لإحدانا إلا ثوب واحد تلبسه في حال الحيض والطهر؛ يعني: وليس لها غيره، كما دل عليه لفظ السياق، فإن ذلك يفيد الحصر في الثوب الواحد لحال الطهر والحيض، فقوله: (وليس في سياقها ما ينفي أن يكون لها غيره في زمن الطهر) فاسد؛ فإن لفظ السياق يفيد صريحًا أن الثوب الواحد المذكور هو لحال الطهر والحيض، يدل لذلك: تقللهن من الدنيا، وعدم اعتنائهن بالتعدد من الثياب، كما أنهن كن يتقللن في المأكل، كذلك في الملبس؛ فليحفظ.
(فإذا أصابه) أي: الثوب (شيء) أي: قدر (من دم) وللأصيلي: (من الدم) أي: من دم الحيض، وهو صادق بكون الدم كثيرًا وقليلًا، بل الظاهر من الإطلاق: أنه كثير فاحش؛ (قالت بريقها) يعني: صبت عليه من ريقها، وقد ذكرنا أن القول يستعمل في غير معناه الأصلي بحسب ما يقتضيه المقام أو المعنى؛ أي: بلته بريقها، كما صرح به في رواية أبي داود، كذا في «عمدة القاري»، (فمصعته) بالميم والصاد المهملة؛ يعني: فركته وحكته، ومادته ميم، وصاد وعين مهملتان، كذا في أكثر الروايات، قال في «عمدة القاري»: وفي رواية: (فقصعته)؛ بالقاف والصاد والعين المهملتين، كما في رواية أبي داود، انتهى، ومثله قاله ابن حجر، قال القسطلاني: (ومفهومه أن هذه الرواية ليست للبخاري) ا. هـ
قلت: هذا غير صحيح، بل المفهوم منه أن هذه الرواية للبخاري، كما أنها لأبي داود، لا سيما وهي ثابتة في «فرع اليونينية» للمؤلف، فكيف قال القسطلاني ما قال؟! فافهم.
(بظُفُرها) بضمِّ الظاء المعجمة، وضم الفاء وإسكانها، والضم أفصح، ومعنى (قصعته): دلكته وعالجته، يقال: قصع القملة؛ إذا شدخها بين أظفاره، وأما فصع الرطبة؛ فهو بالفاء؛ وهو أن يأخذها بإصبعيه فيغمزها أدنى غمزة، فتخرج رطبة خالعة قشرها، كذا في «عمدة القاري».
ثم قال رحمه الله تعالى: (ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إن من لم يكن لها إلا ثوب واحد تحيض فيه، لا شك أنها تصلي فيه، لكن بتطهيرها إياه، دل عليه قولها: (فإذا أصابه شيء من دم ... ) إلى آخره) انتهى؛ يعني: إن صب الريق عليه ودلكه ونحو ذلك تطهير للثوب من الدم، يدل لذلك: أن الشخص إذا تغوط وتمسح بالأحجار؛ فهو طهارة المحل، وكذا لو كان النجس في غير موضع الاستنجاء، فإذا قلعه بالأحجار ونحوها؛ يطهر، فتجوز صلاته بدون غسله، وطهارته تقليل لها مجاز؛ لأنَّه إذا دخل الماء القليل؛ نجسه، وزعم البيهقي أن هذا في الدم اليسير الذي يكون معفوًّا عنه، وأما الكثير منه؛ فصح عنها أنها كانت تغسله.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هم لا يرون بأن اليسير من النجاسات عفو، ولا يعفو عندهم منها عن شيء سواء كان قليلًا أو كثيرًا، وهذا لا يتمشى إلا على مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ فإن اليسير عنده عفو؛ وهو ما دون الدرهم، فحينئذٍ الحديث حجة عليهم؛ حيث اختصوا في إزالة النجاسة بالماء) انتهى.
قلت: وقول البيهقي: (وأما الكثير منه ... ) إلخ غير صحيح؛ لأنَّه لم يصح عن عائشة أنها قالت: كانت تغسله، فالغسل لم يصح عنها، وإنما هو احتمال وتردد ذكره ترويجًا لما ذهب إليه الشافعي، والاحتمال البعيد لا يدفع النظر؛ فالحديث حجة على الشافعي ومن قال بقوله؛ على أنه لو كانت غسلته؛ لذكرته، فعدم ذكرها الغسل دليل على اقتصاره بالتطهير على الريق، كما لا يخفى.
وزعم القسطلاني أن الحديث ليس مخالفًا لما تقدم؛ لأنَّه من باب حمل المطلق على المقيد، أو لأنَّ هذا الدم الذي مصعته قليل معفو عنه لا يجب غسله؛ فلذا لم يذكر أنها غسلته بالماء، وأما الكثير؛ فصح عنها أنها كانت تغسله، قاله البيهقي، لكن يبقى النظر في مخالطة الدم بريقها؛ فقد قالوا فيه بعدم العفو، وليس فيه أنها صلت فيه؛ فلا يكون فيه حجة لمن أجاز إزالة النجاسة بغير
%ص 347%
الماء، وإنما أزالت الدم بريقها؛ ليذهب أثره، ولم تقصد تطهيره) انتهى.
قلت: وهذا فاسد وكلام بارد؛ لأنَّ قوله: (إن الحديث ليس مخالفًا لما تقدم ... ) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا حاجة إلى هذا الحمل، وليس فيه حمل المطلق على المقيد، بل هذا الحديث صريحه في هذه الحادثة فقط، وما تقدم في حادثة أخرى؛ فالحمل غير صحيح، وقوله: (أو لأنَّ هذا الدم ... ) إلخ فاسد؛ فإن إمامهم الشافعي لم ير العفو في شيء من النجاسات حتى قال: يجب غسل ما يراه الطرف من النجاسة، فكيف يقول بالعفو؟! فالحديث حجة عليه قطعًا، وقوله: (فلذا لم يذكر أنها غسلته ... ) إلخ هذا اعتراف منه بأن الغسل لم يصح عنها؛ فانظر إلى هذا الاضطراب في كلامه، وقوله: (وأما الكثير ... ) إلخ قد علمت أن مذهبهم عدم الفرق بين القليل والكثير، وقوله: (فصح عنها ... ) إلخ فاسد؛ لأنَّه لم يصح عنها ذلك أصلًا، وإنما هو من قول البيهقي، قاله ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، ولأنَّه لو كان صحيحًا؛ لذكرته عائشة هنا، فعدم ذكرها دليل على الاكتفاء بالريق للتطهير، وأنه مطهر ولا خصوصية للماء في التطهير؛ لأنَّ المقصود الإزالة، وقد حصلت، وقوله: (لكن يبقى النظر ... ) إلخ هذا هو عين ما قدمه، وقد اعترف بعدم العفو عنه؛ فانظر إلى هذا الكلام المتناقض، وقوله: (وليس فيه أنها صلت ... ) إلخ فاسد وممنوع، فقد كانت تصلي في هذا الثوب الذي مصعته بريقها، وتعتكف فيه، يدل عليه قول عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه) فهو يعين عدم التعدد في الثوب؛ يعني: ليس لكل واحدة منهن إلا ثوب واحد للحيض والطهر، والحديث الثاني الذي ساقه المؤلف صريح أنها كانت تصلي فيه؛ لأنَّه قالت عائشة: (اعتكفت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم امرأة من أزواجه ... ) إلى أن قالت: (وهي تصلي) فهو صريح في أنها كانت تصلي في هذا الثوب؛ لأنَّه لم يكن لها غيره، كما قالت عائشة، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا، ويدل لذلك أن القصة واحدة، ولهذا ذكر المؤلف هذه الأحاديث في باب واحد وفرقها وإن كانت القصة واحدة؛ لما عليه من العادة التي اتبعها من أنه يذكر ما سمعه من أشياخه، فكم رأيت حديثًا واحدًا يذكره كثيرًا في مواضع متعددة! وليس له فائدة سوى تعدد أشياخه، فالحديث المذكور حجة قوية، ومحجة مستقيمة لمن قال: إن إزالة النجاسة تجوز بغير الماء من كل مائع طاهر قالع، وهو قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وسيدهم صاحب المذهب المعظم رضي الله عنه، وقوله: (وإنما أزالت الدم ... ) إلخ ممنوع؛ فإنما فعلت بريقها لأجل تطهيره وهو قصدها؛ لأنَّها لو لم يكن قصدها ذلك؛ لما كان يلزم لها الريق، فقد كانت تحتُّه بظفرها بدون الريق لو كان مرادها ذهاب أثره، فإجراء الريق عليه دليل على أن مرادها التطهير من النجاسة، كما لا يخفى.
وفي الحديث دليل على أن إزالة النجاسة لا يشترط فيها العدد، بل المراد: الإنقاء.
وفيه دليل على جواز إزالة النجاسة بغير الماء، وفيه أن الدم نجس، وهو إجماع.
وفيه دليل على أن قدر الدرهم من النجاسة معفو عنه، وتصح معه الصَّلاة.
وفيه دليل على أن النجاسة إذا كانت كثيرة في ثوبه أو بدنه؛ يجب عليه تقليلها بالأحجار ونحوها إن لم يجد ما يزيلها حتى تصير بمقدار المعفو عنه، والله تعالى أعلم.
==================
(1/532)
(12) [باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض]
هذا (باب) استحباب استعمال (الطيب للمرأة) غير المحرمة (عند غُسلها)؛ بضمِّ الغين المعجمة، أي: اغتسالها (من الحيض) ولابن عساكر: (من المحيض) بزيادة الميم، وكذا النفاس؛ لإزالة الرائحة الكريهة، وكذا الجنابة؛ لأنَّه أنشط للمعاودة، لكن الأول آكد في الاستحباب، قال في «عمدة القاري»: (وجه المناسبة بين البابين؛ من حيث إن في الباب الأول إزالة الدم من الثوب، وهو التنظيف والإنقاء، وفي هذا الباب التطيب، وهو زيادة التنظيف).
==================
(1/533)
[حديث: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث]
313# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب) هو أبو محمَّد الحجبي البصري، بالحاء المهملة، بعدها جيم، ثم موحدة (قال: حدثنا حمَّاد بن زيد) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الميم، (عن أيُّوب): هو السختياني، (عن حفصة) هي بنت سيرين الأنصارية أم الهذيل، زاد في رواية المستمليوكريمة: (قال أبو عبد الله أو هشام بن حسان، عن حفصة)، و (أبو عبد الله) هو المؤلف، و (حسان) بالصرف وعدمه؛ من الحس أو الحسن، فكأن المؤلف شك في شيخ حمَّاد أهو أيُّوب أو هشام؟ وليس ذلك عند بقية الرواة، ولا عند أصحاب الأطراف، وقد أورد المؤلف هذا الحديث في كتاب «الطلاق» بهذا الإسناد؛ فلم يذكر ذلك، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، (عن أم عطية) هي نُسَيبة _بضمِّ النون، وفتح السين المهملة_ بالتصغير، بنت الحارث، كانت تمرض المرضى، وتداوي الجرحى، وتغسل الموتى رضي الله عنها (قالت: كنا نُنهى)؛ بضمِّ النون الأولى على صيغة المفعول، والناهي هو: النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كما دلت عليه رواية هشام المعلقة المذكورة في آخر الحديث، وهذه الصيغة في حكم المرفوع، وكذلك كنا وكانوا، ونحو ذلك؛ لأنَّه وقع في زمن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقرَّرهم عليه، فهو مرفوعٌ معنًى، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري» (أن نُحِد) بضمِّ النون، وكسر الحاء المهملة، وفي رواية: (تحد) بمثناة فوقية؛ أي: المرأة، من الإحداد؛ وهو الامتناع من الزينة، قال الجوهري: أحدَّت المرأة؛ أي: امتنعت من الزينة والخضاب بعد وفاة زوجها، وكذلك حدَّت تحُدُّ بالضم، وتحِدُّ بالكسر حدادًا، أو هي حاد، ولم يعرف الأصمعي إلا أحدت، فهي محدة، كذا في «المحكم»، وأصل هذه المادة: المنع، ومنه قيل للبواب: حدَّاد؛ لأنَّه يمنع الدخول والخروج، وأغرب بعضهم؛ فحكاه بالجيم، من جددت الشيء، فكأنها قد انقطعت عن الزينة، وعما كانت قبل ذلك، كذا في «عمدة القاري»، وكلمة «أن» مصدرية، والتقدير: كنا ننهى عن الإحداد (على ميْت)؛ بتخفيف التحتية: مَن حلَّ به الموت، وبتشديدها: من سيموت، قال الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وهذه التفرقة لجمهور العلماء، وبعضهم لم يفرق بينهما، فيقال لمن حل به الموت: بالتشديد، (فوق ثلاث) تعني به: الليالي مع أيامها، ولذلك أنث العدد (إلا على زوج) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية المستملي، والحموي: (إلا على زوجها)، والأول موافق للفظ «نحد» بالنون، والثاني موافق للفظ «تحد» بالغيبة، وقال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: ويقال في توجيه الثاني: إن الضمير يعود على الواحدة المندرجة في قولها: (كنا ننهى) أي: كل واحدة منهن، انتهى، وقد خبط وخلط الكرماني هنا؛ فاجتنبه، (أربعة أشهر وعشرًا) أي: عشر ليال، إذ لو أريد به الأيام؛ لقيل: عشرة بالتاء، قال إمام الصنعة العلامة الزمخشري في قوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]: (لو قلت في مثله: «عشرة»؛ لخرجت عن كلام العرب، لا نراهم قط يستعملون التذكير فيه)، وقيل: الفرق بين المذكر والمؤنث في الأعداد إنَّما هو عند ذكر المميز، أما ما لم يذكر؛ جاز فيه التاء وعدمه مطلقًا، فإن قلت: و (عشرًا) منصوب بماذا؟ قلت: هو عطف على
%ص 348%
قوله: (أربعة) وهو منصوب على الظرفية، كذا في «عمدة القاري»، وقال المبرد: إنما أنث العشر؛ لأنَّ المراد به: المدة المعينة، وعشر: مدة، وكل مدة من يوم وليلة، فالليلة مع يومها مدة معلومة من الدهر، وقيل: لم يقل: عشرة؛ تغليبًا لحكم الليالي؛ لأنَّ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها، و (عشرًا) أخف في اللفظ؛ فتغلب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ؛ لأنَّ ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال، فلما كان أول الشهر الليلة؛ غلب الليلة، تقول: صمنا خمسًا من الشهر، فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار، وقيل: تأنيث العشر بدون التاء؛ اعتبارًا بكون معدودها الليالي، والليالي مؤنث، قال تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7]، والوجه في اعتبار الليالي وجعلها مبدأ للتأريخ أن شهور العرب قمرية، وابتداؤها من طلوع الهلال وهو في الليل؛ فيكون الليل في تاريخهم سابقًا على النهار؛ فلهذا خصوا تاريخهم بالليالي دون الأيام حتى قالوا: صمنا عشر ليالٍ، والصوم إنَّما يكون في الأيام، وتذكير المعدود يقتضي زيادة التاء في اسم العدد من الثلاثة إلى العشرة، وإنما قدرت هذه المدة؛ لأنَّ الجنين في غالب الأحوال يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرًا، ولأربعة إن كان أنثى؛ فاعتبر أقصى الأجلين، وزيد عليه العشر استعانة بتلك الزيادة على العلم ببراءة الرحم؛ إذ ربما تضعف حركته في المبادئ فلا يحس بها، وقيل: إنَّما قدرت بذلك؛ لأنَّ الولد يكون أربعين يومًا نطفة، وأربعين يومًا علقة، ووأربعين يومًا مضغة، ثم ينفخ فيه الروح في العشر، فلما كان الأمر كذلك؛ أمرت بتربص أربعة أشهر وعشر؛ ليتبين الحمل إن كان بها؛ فافهم، (ولا نكتحل) بالرفع في أكثر الروايات، ويروى بالنصب، فتوجيهه أن تكون «لا» زائدة، أو توكيدًا، فإن قلت: لا يؤكد إلا إذا تقدم النفي عليه؛ قلت: قد تقدم معنى النفي: وهو النهي، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ يعني: أنه على رواية النصب معطوف على المنصوب السابق، وما قاله إمام الشارحين قد ارتضاه الدماميني، وتبعه القسطلاني وغيره.
(ولا نتطيب) بالنون فيهما، (ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا) سواء كان بزعفران أو بعصفر، أو بمفرة (إلا ثوب عَصْب)؛ بفتح العين، وسكون الصاد المهملتين، آخره موحدة، هو من برود اليمن يصبغ غزلها ثم ينسج، وفي «المحكم»: (هو ضرب من برود اليمن يعصب غزله)؛ أي: يجتمع ثم ينسج، ثم يصبغ، وقيل: هي برود مخططة، وفي «المنتهى»: (العصب في اللغة: إحكام القتل [1] والطي، وشدة الجمع واللي، وكل شيء أحكمته فقد عصبته، ومنه أخذ [2] عصب اليمن؛ وهو المفتول من برودها، والعصب: الخيار)، وفي «المحكم»: (وليس من برود الرقم ولا يجمع، وإنما يقال: برود عصب، وبرود عصب، وربما اكتفوا بأن يقولوا عليه المعصب، لا البرد عرف بذلك)، زاد في «المخصص»: (لا يُثنَّى ولا يجمع؛ لأنَّه أضيف إلى الفعل، وإنما العلة فيه الإضافة إلى الجنس)، قال الجوهري: (ومنه قيل للسحاب كاللطخ: عصب)، قال القزاز: (وكان الملوك تلبسها)، وروي عن عمر رضي الله عنه: أنه أراد أن ينهى عن عصب اليمن، وقال: (نبت يصبغ بالبول)، ثم قال: (نهينا عن التعمق)، وفي حديث ثوبان: «اشتر لفاطمة قلادة من عصب»، قال الخطابي: (إن لم يكن الثياب اليمانية؛ فلا أدري، وما أدري أن القلادة تكون منها)، وقال أبو موسى: (ذكر لي بعض أهل اليمن أنه: سن دابة مجرية تسمى: فرس فرعون يتخذ منها الخرز، ويكون أبيض)، كذا في «عمدة القاري»، (وقد رخص لنا) أي: رخص النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم التطيب بالتبخير لهن، فهو في حكم المرفوع، كما سبق (عند الطهر) أي: من الحيض والنفاس (إذا اغتسلت إحدانا من محيضها) ونفاسها لإزالة الرائحة الكريهة عنها؛ لما يستقبله من الصَّلاة ومجالسة الملائكة؛ لئلا تؤذيهم برائحة الدم، (في نبْذة)؛ بضمِّ النون وفتحها، وسكون الموحدة، وبالذال المعجمة، وهو الشيء اليسير، والمراد به: القطعة، والجمع أنباذ، كذا في «عمدة القاري»؛ أي: في قطعة يسيرة (من كُسْت ظفار) بضمِّ الكاف، وسكون السين المهملة، كذا هو في هذه الرواية، و (ظَفارِ)؛ بفتح أوله، آخره راء مكسورة، مبني على الكسر، مدينة باليمن وبها قصر الملكة يقال: إن الجن بنتها، وفي أثبت الروايات: (من جزع ظفار)، وفي رواية أخرى: (ظفارى)، وقال ابن التين: (صوابه: قسط ظفار، منسوب إلى ظفار؛ وهي بساحل من سواحل عدن)، وقال القرطبي: هي مدينة باليمن، والذي في «مسلم»: (قسط وظفار) بالواو، وهو الأحسن؛ فإنهما نوعان؛ قيل: هو شيء من العطر أسود، والقطعة منه شبيهة بالظفر، وهو بخور رخص فيه للمغتسلة من الحيض؛ لإزالة الرائحة الكريهة.
وقال الصغاني: (ظفار في اليمن أربعة مواضع؛ مدينتان وحصنان؛ أما المدينتان؛ فإحداهما: ظفار الجعل كان ينزلها المتبايعة، وهي على مرحلتين من صنعاء، وإليها ينسب الجزع، والأخرى: ظفار الساحل قرب سرباط، وإليها ينسب القسط يجلب إليها من الهند، والحصنان؛ أحدهما: في يمان صنعاء على مرحلتين، وتسمى: ظفار الواديين، والثاني: في بلاد همدان، وتسمى: ظفار الطاهر)، وفي «المحكم»: (الظفر: ضرب من العطر أسود مقلب من أصله على شكل ظفر الإنسان، موضع في الدخنة، والجمع أظفار، وأظافير)، وقال صاحب «المعين»: (لا واحد له، وظفر ثوبه؛ طيبه بالظفر)، وفي «الجامع»: (الأظفار: شيء من العطر شبيهة بالأظفار يتخذ منها، ولا يفرد واحدها، وإن أظفر؛ فهو إظفارة)، وفي كتاب «الطيب» للمفضل بن سَلَمَة: (القسط، والكشط، والكست؛ ثلاث لغات) قال: وهو من طيب الأعراب، وسماه ابن البيطار في كتاب «الجامع»: راسنا أيضًا، وقال الأزهري: (واحده ظفر)، وقال غيره: الأظفار: شيء من العطر، وقال الشيخ إسماعيل: (الأظفار: شيء يتداوى به؛ كأنه عود وكأنه يثقب ويجعل في القلادة)، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ فافهم، والله الهادي، (وكنا نُنهى)؛ بضمِّ النون الأولى على صيغة المجهول، والناهي هو النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذه الصيغة في حكم المرفوع، كما قدمناه، (عن اتباع الجنائز) والنهي للتحريم، ففي الحديث تحريم اتباع النساء الجنائز، كما يأتي في موضعه مفصلًا إن شاء الله تعالى، وفي الحديث دليل على وجوب الإحداد على المرأة الكبيرة الحرة سواء كانت مدخولًا بها أو غيرها، وسواء كانت بكرًا أو ثيبًا، أما الصغيرة الأمة؛ فلا إحداد عليها؛ وذلك لأنَّ الأحاديث الواردة في هذا الباب مطلقة؛ فتنصرف إلى الكامل، وهي البالغة الحرة، ولأن الصغيرة لا تحسن الإحداد، ولا يلزم أهلها أن يجنبوها ذلك، والأمة خارجة عن الإحداد؛ لأنَّ الأحاديث وقعت في الأحرار، وهي قرينة قوية على أنه لا إحداد عليهما؛ فالخطاب في وجوب الإحداد إنَّما كان لمعين وهو الحرة
%ص 349%
البالغة، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه، والجمهور، وذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم: أن على الصغيرة والأمة الإحداد أيضًا، وأجمعوا على أنه لا إحداد على أم الولد والأمة إذا توفي عنها سيدها؛ لأنَّ الأحاديث إنَّما جاءت في الأزواج وهما ليسا بزوجة، ولا على الرجعية، لكن يستحب لها التزين والتطيب؛ ترغيبًا للزوج، كما صرح به في «الدر المنتقى» عن «السراجية».
وفي المطلقة ثلاثًا قولان؛ فمذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والحكم، وأبو ثور، وأبو عبيد؛ أن عليها الإحداد، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال الحسن بن حي، وسَعِيْد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وابن سيرين، والثوري، ومذهب مالك، والشافعي: لا إحداد عليها، وبه قال ربيعة، وعطاء، والليث، وابن المُنْذِر، ومذهب الحسن البصري: أنه لا يجب الإحداد على المطلقة ولا على المتوفى عنها زوجها، وهو شاذ، كما قاله أحمد ابن حنبل، وقال ابن عبد البر: (أجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها إلا الحسن، فإنه قال: ليس بواجب، واحتج بما رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر [3] بن أبي طالب؛ قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تسلي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت»).
قال ابن المُنْذِر: (كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد على المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها، وقد بينت الأخبار عن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالإحداد، وليس الإحداد بلغته إلا التسليم، ولعل الحسن لم تبلغه أو بلغته، وتأولها بحديث أسماء بنت عميس: أنها استأذنت النبي عليه السلام أن تحد على جعفر وهي امرأته؛ فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن: «تطهري واكتحلي»، وقد دفع هذا الحديث أهل العلم بوجوه؛ وكان إسحاق يقول: إن هذا الحديث شاذ، وكذا كان يقول أحمد ابن حنبل، فلا يؤخذ به) انتهى.
وفي قول النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا» دليل على أن الكتابية المتوفى عنها زوجها المسلم لا حداد عليها، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، وأبو ثور، وابن كنانة، وابن رافع، وهو رواية أشهب عن مالك، وروى عنه ابن القاسم: أن عليها الإحداد كالمُسْلِمَة، وبه قال الليث، والشافعي، وعامة أصحاب مالك، وصريح الحديث يرده؛ لأنَّه عليه السلام وصف المرأة بالإيمان، كما لا يخفى.
وفي قوله عليه السلام: «فوق ثلاث ... » إلخ دليل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثًا تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها.
وقال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: فإن قلت: لم خص الأربعة الأشهر والعشر؟ قلت: لأنَّ غالب الحمل تتبين حركته في هذه، وأنث العشر؛ لأنَّه أراد بها الأيام بلياليها، وهو مذهب العلماء كافة إلا ما حكي عن يحيى بن أبي كثير والأوزاعي أنه أراد أربعة أشهر وعشر ليال، وأنها تحل في اليوم العاشر، وعند الجمهور: لا تحل حتى تدخل ليلة الحادي عشر، وهذا خرج على أحوال المعتدات أنها تعتد بالأشهر، أما إذا كانت حاملًا؛ فعدتها بالحمل، ويلزمها الإحداد في جميع المدة حتى تضع سواء قصرت المدة أم طالت، فإذا وضعت؛ فلا إحداد بعده، وقال بعض العلماء: لا يلزمها الإحداد بعد أربعة أشهر وعشرٍ وإن لم تضع الحمل) انتهى.
ثم قال: وفي الحديث دليل على تحريم الكحل سواء احتاجت إليه أم لا، وجاء في «الموطأ» وغيره عن أم سَلَمَة: «اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار»، ووجه الجمع إذا لم تحتج إليه؛ لا يحل لها فعله، وإن احتاجت إليه؛ لم يجز بالنهار دون الليل، والأولى تركه؛ لحديث: (إن ابنتي اشتكت عينها أفتكحلها؟ قال: «لا»)؛ ولهذا إنَّ سالمًا وسليمان بن يسار قالا: [إنها] إذا خشيت على بصرها، إنها تكتحل وتتداوى به وإن كان مطيبًا، وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ لأنَّ الضرورات تبيح المحظورات، وبه قال مالك في غير مطيب، وقال صاحب «التوضيح»: (والمراد بالكحل: الأسود والأصفر، وأما الأبيض؛ فلا تحريم فيه عند أصحابنا؛ إذ لا زينة فيه، وحرمه بعضهم على الشعثاء حتى تتزين) انتهى، ثم قال: وفي الحديث دليل على تحريم الطيب، وهو ما حرم عليها في حال الإحرام سواء كان في ثوبها أو بدنها، وقال صاحب «التوضيح»: (يحرم عليها كل طعام فيه طيب) انتهى.
قلت: وفيه تحريم الخضاب بالحناء إلا لعذر، قال ابن المُنْذِر: (لا أعلم خلافًا أن الخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها).
وقال صاحب «عمدة القاري»: (وفي الحديث دليل على تحريم لبس الثياب المعصفرة)، وقال ابن المُنْذِر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة والمصبوغة إلا ما صبغ بسواد؛ فرخص فيه عروة بن الزبير، والإمام الأعظم، ومالك، والشافعي، وكرهه الزُهْرِي.
قلت: وعلله أئمتنا الأعلام بأن الأسود لا يقصد به الزينة، وكذا الأزرق، وقال في «المحيط»: (والمراد بالثوب: ما كان جديدًا يقع به التزين، أما الثياب الخلقة؛ فلا بأس بلبسها؛ لأنَّه لا يقصد بها إلا ستر العورة، والأحكام تبنى على المقاصد) انتهى.
وفي «الدر المنتقى»: (ويحرم لبس المصبوغ بمفرة أو عصب) انتهى، هذا مذهب إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم، وبه قال الزُهْرِي؛ لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن عصب اليمن، وقال: (نبت يصبغ بالبول)، وقال مالك: (لا يلبس رقيق عصب اليمن)، ووسع في غليظه؛ لأنَّ رقيقه بمنزلة المصبغة.
لا يقال: هذا مخالف للحديث؛ لأنا نقول: إن الحديث محمول على ما لم يصبغ بالبول، على أن العصب الموجود في زمان الإمام الأعظم وغيره من التابعين لم يكن زمن النبي الأعظم عليه السلام، فلعله قد نسج بحرير، أو تغيرت ألوانه، أو غير ذلك، كما هو مبين في محله، والله أعلم؛ فافهم.
وقال ابن المُنْذِر: (ورخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض)، والأصح عند الشافعية: تحريم البرد مطلقًا رقيقًا أو غيره، وهذا الحديث حجة لمن أجازه وعلى من منعه، ومذهب الإمام الأعظم: أنه تحرم الزينة بأنواعها حليًّا كان، أو قصبًا، أو خزًّا، حريرًا غير أسود، قال شارح «الملتقى»: (ومنه الامتشاط بضيِّق الأسنان، فلا يحل؛ وذلك لعموم هذا الحديث، وروى ابن المواز عن مالك: أنها لا تلبس حليًّا وإن كان حديدًا، وكل لباس تلبسه المرأة على وجه التجمل يحرم على الحادِّ لبسه)، وقال الشافعي: كل صبغ كان زينة؛ فلا تمسه الحادة غليظًا كان أو رقيقًا، وروي عنه: منع جيد البياض والرفيع من السواد، والحديث المذكور حجة عليه؛ لأنَّ البياض مباح، وإذا منعت من المصبغ؛ فلم يبق إلا البياض، ولأن الأسود لا يقصد التزين به؛ فهو ممنوع، كما لا يخفى.
وفي الحديث: دليل على الترخيص للحادة إذا اغتسلت من الحيض، وكذا النفاس التطيب؛ لإزالة الرائحة الكريهة؛ لأنَّ الدم له ريح، فرخص لها في التبخر بالطيب؛ لدفع رائحة الدم عنها؛ لما تستقبله من الصَّلاة ومجالسة الملائكة؛ لئلا تؤذيهم برائحة الدم، ولأن ذلك يكون أسرع إلى علوق الولد وتنشط البدن.
وفي الحديث: تحريم اتباع النساء الجنائز، وسيأتي الكلام عليه مفصلًا في بابه إن شاء الله تعالى، والله الكريم أسأل أن يفرج عنا وعن المسلمين.
%ص 350%
(قال أبو عبد الله) أي: المؤلف، كذا في رواية الأصيلي، وابن عساكر، وفي رواية: (قال) فقط، وسقط لفظ: (أبو عبد الله) (ورواه) أي: هذا الحديث المذكور، وفي رواية: (روى)؛ بإسقاط الواو والهاء، وفي أخرى: (وروى)؛ بالواو (هشام بن حسان)؛ بالصرف وتركه؛ من الحس أو الحسن، كما سبق، وأشار به إلى أن الحديث موصول، ورواه في كتاب «الطلاق» موصولًا من حديث هشام المذكور على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، (عن حفصة) هي بنت سيرين، (عن أم عطية) كعب الغاسلة رضي الله عنها، (عن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) قال الكرماني: (وهو إما تعليق من البخاري، وإما مقول حمَّاد؛ فيكون مسندًا).
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» فقال: قلت: قوله: (إما تعليق)؛ فظاهر، وأما قوله: (وإما مقول حمَّاد)؛ فلا وجه له، وفي نسخة ذكر البخاري حديث هشام أولًا، وفي بعضها ذكره آخرًا، ورواه مسلم في «صحيحه»، وفائدته: أن أم عطية أسندته إلى النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صريحًا، وكذا هو في «سنن أبي داود»، و «النسائي»، و «ابن ماجه» من حديث هشام مسندًا، وقال البخاري في موضع آخر: توفي ابن لأم عطية، فلما كان يوم الثالث؛ دعت بصفرة فمسحت به، وقالت: (نهينا أن نحد أكثر من ثلاث إلا لزوج)، وعند الطبراني: (وأمرنا ألَّا نلبس في الإحداد الثياب المصبغة إلا العصب، وأمرنا ألَّا نمس طيبًا إلا أدناه للطهرة؛ الكست والأظفار)، وفي لفظ: (لا تختضب)، وفي لفظ: (إلا ثوبًا مغسولًا) انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الطفل)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (الحد)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (علي)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الطفل)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (الحد)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (الطفل)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (الحد)، وهو تحريف.
(1/534)
(13) [باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض]
هذا (باب) في بيان استحباب (دلك المرأة نفسها) يعني: فرجها؛ الداخل والخارج (إذا تطهرت) يعني: اغتسلت (من المحيض) أي: الحيض، فهو مصدر كـ «المبيت، والمجيء»، (و) في بيان (كيف تغتسل) المرأة؛ يعني: بيان الصفة المختصة بغسلها من المحيض؛ فهو عطف على قوله: (دلك المرأة نفسها)، (و) كيف (تأخذ) عطف على (تغتسل) أي: وكيف تأخذ (فِرْصَة)؛ بكسر الفاء، وسكون الراء، وفتح الصاد المهملة، هي القطعة، يقال: فرصت الشيء فرصًا؛ أي: قطعته، وقال الجوهري: (هي قطعة قطن أو خرقة تمسح بها المرأة من الحيض)، (ممسَّكة)؛ بتشديد السين المهملة، وفتح الكاف، ولها معنيان؛ أحدهما: قطعة فيها مسك، والآخر: قطعة مستعملة بالإمساك عليها على ما سيجيء)، (فتَتبِع) بلفظ الغائبة، مضارع «التفعل»، وأصله بالتاءات الثلاث، فحذفت إحداهما، وفي رواية: (فتَتَّبِع) بتشديد التاء الثانية، وتخفيف الموحدة المكسورة، ولأبي ذر: (تتْبَع) بدون الفاء، وبسكون التاء الثانية، وفتح الموحدة (بها) أي: بتلك الفرصة (أثر الدم؟) أي: دم الحيض، ومثله النفاس؛ لأنَّه آخره.
والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأنَّ في كل منهما استعمال الطيب.
==================
(1/535)
[حديث: خذي فرصة من مسك فتطهري بها]
314# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى) هو ابن موسى البلخي الخَتِّي، بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الفوقية، كذا جزم به ابن السكن في روايته عن الفربري، وقال الغساني في «تقييد المهمل»: (قال ابن السكن: يحيى المذكور في باب «الحيض» هو يحيى بن موسى)، وقال في موضع آخر عنه: (كلما كان للبخاري في «صحيحه» «عن يحيى» غير منسوب؛ فهو يحيى بن موسى البلخي المعروف بـ «خت»، كان من خيار المسلمين، مات سنة أربعين ومئتين)، وبهذا ظهر فساد قول البيهقي: أنه يحيى بن جعفر؛ أي: البيكندي، يروي عن ابن عيينة، وكذا ذكر أبو نصر الكلاباذي، وذكره الكرماني، وأسنده لبعض النسخ، وكله غير ظاهر، ويدل لهذا ما قاله صاحب «التوضيح» أنه قال: (وقع في شرح بعض شيوخنا: «حدثنا يحيى»؛ يعني: ابن معاوية، ولا أعلم في «البخاري» من اسمه كذلك، وفي أسماء رجال «الصحيحين»: (يحيى بن موسى بن غندر بن سالم أبو زكريا السختياني الحذاء) أي: البلخي، يقال له: ختي، روى عنه البخاري في (البيوع)، و (الحج)، ومواضع أخر، وذكره ابن ماكولا أيضًا فقال: خت؛ بخاء معجمة، ومثناة من فوق، فهو يحيى بن موسى يعرف بابن خت البلخي، كذا ذكره صاحب «عمدة القاري».
(قال: حدثنا ابن عيينة) بضمِّ العين المهملة، وفتح التحتية الأولى، وسكون الثانية، وفتح النون، هو سفيان المشهور، (عن منصور) بالصاد المهملة (ابن صفية) بالصاد المهملة، بعدها فاء، ثم تحتية، نسبه إليها؛ لشهرته بها، وإلا؛ فاسم أبيه عبد الرحمن بن طلحة، (عن أمه) هي صفية المذكورة، وهي بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري، قال في «عمدة القاري»: (ووقع في «مسند الحميدي» التصريح بالسماع في جميع السند)، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: (أن امرأة)؛ أي: من الأنصار، كما زاده وهيب في روايته، وسماها مسلم في رواية الأحوص عن إبراهيم بن مهاجرة: (أسماء بنت شَكَل) بفتح الشين المعجمة والكاف، وفي آخره لام، ولم يسم أباها في رواية غندر، عن شعبة، عن إبراهيم، وقال الخطيب: (هي أسماء بنت يزيد بن السكن، بالمهملة)، وجزم بأنها الأنصارية التي يقال لها: خطيبة النساء، وتبعه ابن الجوزي في «التنقيح»، وكذا الدمياطي، وزاد عليه: أن الذي وقع في «مسلم» تصحيف، ويحتمل أن يكون (شكل) لقبًا، لا اسمًا، وإنما هو (سكن)؛ بالسين المهملة، والنون، نسبة إلى جدها، والمشهور في المسانيد والجوامع في هذا الحديث: (أسماء بنت شكل)، كما في «مسلم»، و (أسماء) بغير نسب كما في «أبي داود»، وكذا في «مستخرج أبي نعيم»، وحكى النووي في «شرح مسلم» الوجهين من غير ترجيح، وتبع رواية مسلم جماعات؛ منهم: ابن طاهر، وأبو موسى في كتابه «معرفة الصحابة»، وصوب بعض المتأخرين أنها أسماء بنت يزيد الأنصارية؛ لأنَّه ليس في الأنصار من اسمه شكل، وقال في «التوضيح»: ويجوز تعدد الواقعة، ويؤيده تفريق ابن منده بين الترجمتين، وابن سعد والطبراني وغيرهما لم يذكروا هذا الحديث في ترجمة يزيد، ولم ينفرد بذلك، فقد أخرجه ابن أبي شيبة في «مسنده»، وأبو نعيم في «مستخرجه»، كما ذكره مسلم سواء، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري».
قلت: والصواب أنها أسماء بنت شكل الأنصارية، كما ذكره هؤلاء الجماعة، وبه ظهر فساد ما زعمه الدمياطي، وظهر أيضًا فساد ما زعمه الخطيب، كما لا يخفى على اللبيب.
(سألَتِ النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم عن غُسلها)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وبفتحها، أي: الصفة المختصة بغسلها، أو اغتسالها (من المحيض)؛ بالميم أوله، أي: الحيض، وكلاهما مصدران، (فأمرها) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (كيف تغتسل) أي: من المحيض، وقوله: (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (خذي)؛ بالخاء المعجمة: هو بيان لأمرها.
قال الكرماني: (فإن قلت: كيف يكون بيانًا للاغتسال وهو إيصال الماء إلى جميع البشرة لا أخذ الفرصة؟ قلت:
%ص 351%
السؤال لم يكن عن نفس الاغتسال؛ لأنَّ ذلك معلوم لكل أحد، بل إنَّما كان ذلك مختصًا بغسل الحيض؛ فلذلك أجاب به، أو الجملة حالية، لا بيانية) انتهى.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» حيث قال: قلت: هذا الجواب غير كاف؛ لأنَّها سألت عن غسلها من المحيض، وليس هذا إلا سؤال عن ماهية الاغتسال؛ فلذلك قال عليه السلام في جوابه إياها: «فأمرها كيف تغتسل» يعني: قال لها: اغتسلي كذا وكذا، وهذا معناه.
ثم قوله: «خذي ... » إلخ: ليس بيانًا للاغتسال المعهود.
وقوله: (لأن ذلك معلوم لكل أحد) فيه نظر؛ لأنَّه يحتمل ألَّا يكون معلومًا لها على ما ينبغي، أو كان في اعتقادها أن الغسل عن المحيض خلاف الغسل من الجنابة؛ فلذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (سألَتِ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن غسلها من المحيض)، قال: والأوجه عندي أن الذي رواه البخاري مختصرًا من لفظ الحديث، وفيه بيان كيفية الغسل وغيره على ما رواه مسلم: أن أسماء سألت عن غسل المحيض، فقال عليه السلام: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرها، فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها»، فقالت أسماء: وكيف تطهر [1] بها؟ فقال: «سبحان الله، تطهري بها؟!»، فقالت عائشة رضي الله عنها _كأنها تخفي ذلك_: تتبعين بها الدم، وسألته عن غسل الجنابة، فقال: «تأخذ ماء، فتطهر، فتحسن الطهور، وتبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه حتى يبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء»، فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) انتهى كلامه رضي الله عنه، وتبعه القسطلاني وغيره فكان هو الصواب.
(فِرْصة): المشهور فيه كسر الفاء، وسكون الراء، كذا في «عمدة القاري»، ويفهم منه أن فاءه مثلثة، وبه صرح القسطلاني، وكان أبو الأحوص وأبو عوانة يقولان: (فرصة)، وقال ابن سيده: (فرص الجلد فرصًا: قطعه، والمفراص: الحديدة التي يقطع بها، والفرصة والفرصة والفرصة: القطعة من الصوف أو القطن)، وقال كراع: (هي الفَرصة؛ بالفتح، والفرصة: القطعة من المسك)، وقال أبو علي: (فرص يفرص لزيد في حقه؛ يعني: قطع له منه شيئًا)، وقال أبو سليمان: (يفرص وأفرص لزيد فرصة من حقه؛ بجر الفاء لا اختلاف فيها، وأفرص لي من حقي فرصة، والفرصة: الخرقة التي تستعملها الحائض؛ لتعرف التبرئة ونقاءها عند الحيض في آخره)، وقال أبو عبيدة: (هي القطعة من الصوف، أو القطن، أو غيرها)، وقال ابن عديس: (الفِرص بالكسر، والصاد المهملة: جمع لـ «فرصة»؛ وهي القطعة من المسك)، وأنكر ابن قتيبة كونها بالفاء وقال: (إنما هي قرضة؛ بالقاف، والضاد المعجمة؛ وهي القطعة)، وزعم ابن حجر أنها قرصة؛ بالقاف، والصاد المهملة، قال المُنْذِري: (أي: شيئًا يسيرًا يشمل القرصة بطرف الأصبعين)، كذا قرره في «عمدة القاري».
قلت: والرواية ثابتة بالفاء والصاد المهملة، ولا مجال للرأي في مثله، والمعنى صحيح بنقل أئمة اللغة، فلا وجه لإنكار ابن قتيبة، وكذا لا وجه لما زعمه ابن حجر؛ فإنه بعيد جدًّا، ولعله لم يطلع على ما قاله أئمة اللغة، فقال ما قال على أنه المعنى على ما ذكره غير صحيح، بل هو فاسد مردود عليه؛ فانظر كلامه؛ تجده لم يقله صغار الطلبة فضلًا عمن تصدر لشرح هذا الكتاب؛ فإنه لم يشم رائحة الصواب، والله ولي الألباب.
(من مَسك) بفتح الميم في أكثر الروايات، قاله القاضي عياض، وقال ابن قتيبة: (بكسر الميم)، ورجحه النووي؛ وهو دم الغزال المعروف، وهو جلد عليه شعر، وقال ابن قتيبة: (المسك لم يكن عندهم من السعة بحيث يتمونونه في هذا، والجلد ليس فيه ما يميز غيره فيختص به)، وإنما أراد: وأقرصة من شيء صوف، أو قطن، أو خرقة، أو نحوه، يدل عليه الرواية الأخرى: (فرصة مُمَسَّكة)؛ بضمِّ الميم الأولى، وفتح الثانية، وتشديد السين المهملة مع فتحها، أي: قطعة من صوف ونحوها مطيبة بالمسك، وروي: (مُمْسَكة)؛ بضمِّ الميم الأولى، وسكون الثانية، وسين مهملة مخففة مفتوحة، وقيل: مكسورة، أي: من الإمساك، وفي بعض الروايات: (خذي فرصة ممسكة فتحملي بها) قيل: أراد الخلِق التي أمسكت كثيرًا؛ كأنه [2] أراد ألَّا تستعمل الجديد من القطن وغيره؛ للارتفاق به، ولأن الخلِق أصلح لذلك، ووقع في كتاب عبد الرزاق: (يعني: بالفرصة: المسك وهي الذريرة)، وفي «الأوسط» للطبراني: (خذي سكيلك)، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (فتطهري) أي: تنظفي، وفي الرواية الآتية [3]: (توضئي ثلاثًا) (بها) أي: بالفرصة المذكورة (قالت) أي: أسماء المذكورة: (كيف أتطهر بها؟) وإنما أتت بالاستفهام؛ لأنَّ التطهر لم يكن معلومًا لها على ما ينبغي، أو كان في اعتقادها أن التطهر من الحيض خلاف التطهر من الجنابة؛ فلهذا كررت السؤال؛ فافهم هذا، وما عداه ساقط واهٍ؛ فليحفظ، (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (سبحان الله) وهو في مثل هذا الموضع يراد به التعجب، ومعنى التعجب هنا كيف يخفى مثل هذا الظاهر الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر؟! وزاد في الرواية الآتية: (ثم إن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم استحى فأعرض بوجهه)، وفي رواية الإسماعيلي: (فلما رأيته يستحي؛ علَّمتها)، وزاد الدارمي: (وهو يسمع ولا ينكر)، كذا قاله في «عمدة القاري»، وعلى الله اعتمادي، (تطهري) ولابن عساكر: (تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله، تطهري بها؟!)، قالت عائشة رضي الله عنها: (فجذبتها) بالجيم، بعدها ذال معجمة، ثم موحدة، ثم فوقية، وفي بعض الروايات: (فاجتذبتها) بجيم، ثم فوقية، ثم ذال معجمة، ثم موحدة، ثم فوقية، وفي رواية: (فأجذبتها) بإسقاط الفوقية بين الجيم والذال، يقال: جذب واجتذب واجتبذ، كذا في «عمدة القاري» (إليَّ) بتشديد الياء آخر الحروف، وهذا مقول عائشة رضي الله عنها، (فقلت) أي: قالت عائشة لأسماء رضي الله عنهما: (تتبعي) أمر من التتبع، وهو المراد من (تطهري) (بها) أي: بالفرصة المذكورة (أثر الدم) بنصب «أثر» على المفعولية لـ «تتبعي»، والمراد به: الفرج، فيستحب لها أن تتطيب في كل موضع أصابه الدم من بدنها، يدل عليه رواية الإسماعيلي: (تتبعي بها مواضع الدم)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
ثم قال
%ص 352%
رضي الله عنه: ومطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة إلا في الدلك وكيفية الغسل صريحًا؛ لأنَّ الترجمة مشتملة على الدلك أولًا وكيفية الغسل، وأخذ الفرصة الممسكة، والتتبع بها أثر الدم، والحديث أيضًا مشتمل على هذه الأشياء ما خلا الدلك وكيفية الغسل؛ فإنه لا يدل عليهما صريحًا، ويدل على الدلك بطريق الاستلزام؛ لأنَّ تتبع أثر الدم يستلزم الدلك، وهو ظاهر، وأما كيفية الغسل؛ فالمراد بها: الصفة المختصة بغسل المحيض؛ وهي التطيب، لا نفس الاغتسال، ولئن سلمنا أن المراد الكيفية _أي: كيفية نفس الغسل_؛ فهي في أصل الحديث الذي ذكره واكتفى به على عادته أنه يذكر ترجمة، ويذكر فيها ما تضمنه بعض طرق الحديث الذي يذكره؛ إما لكون تلك الطريق على غير شرطه أو باكتفائه بالإشارة إليه أو لغير ذلك من الأغراض، وتمامه عند مسلم؛ فإنه أخرجه من طريق ابن عيينة عن منصور التي أخرجه منها البخاري، فذكر بعد قوله: (كيف تغتسل): ثم تأخذ، ثم رواه من طريق أخرى عن صفية عن عائشة، وفيها كيفية الاغتسال، ولفظه: فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها _أي: أصوله_ ثم تصب عليها، ثم تأخذ فرصة ... »؛ فذكر الحديث، وإنما لم يخرجه البخاري من هذا الطريق؛ لكونه من رواية إبراهيم بن مهاجرة عن صفية، وليس هو على شرطه، فقال البخاري عن علي ابن المديني: (لإبراهيم هذا نحو من أربعين حديثًا)، وقال ابن مهدي: (قال سفيان: لا بأس به)، وقال أحمد: (لا بأس به)، وقال يحيى بن سَعِيْد القطان: (لم يكن بقوي، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء) انتهى كلامه
قلت: ابن الجوزي مشهور بالتعصب والعناد والمكابرة؛ فلا عبرة به، وابن القطان كلامه غير ظاهر، فالمراد على كلام ابن مهدي وسفيان وأحمد بن حنبل: أنه لا بأس به، وكفى بذلك شهادة من هؤلاء الأئمَّة والمثبت مقدم على النافي، وإذا وجد التعديل والجرح؛ فالمقدم التعديل، وعلى هذا؛ كان على المؤلف أن يذكر الحديث؛ لكونه أظهر، والإحالة على غير مذكور غير مناسبة مع ما فيه من الركاكة والخفاء، والله أعلم؛ فافهم.
ثم قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: وفي الحديث: استحباب التطيب للمغتسلة من الحيض والنفاس على جميع المواضع التي أصابها الدم من بدنها؛ لأنَّه أسرع إلى العلوق وأدفع للرائحة الكريهة، واختلف في وقته؛ فقال جماعة: بعد الغسل، وقال آخرون: قبله، وفيه دليل على أنه لا عار على من سأل عن أمر دينه، وفيه: استحباب تطييب [4] فرج المرأة بأخذ قطعة من صوف ونحوها، وتدخلها في فرجها بعد الغسل، والنفساء مثلها، وفيه التسبيح عند التعجب، وفيه استحباب الكنايات فيما يتعلق بالعورات، وفيه سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي يختم بها؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في نساء الأنصار: (لم يمنعهنَّ الحياء أن يتفقهن في الدين)، وفيه الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجنة، وفيه تكرير الجواب لإفهام السائل، وفيه تفسير كلام العالم بحضرته لمن خفي إذا عرف أن ذلك ينجيه، وفيه أن السائل إذا لم يفهم وفهمه بعض من في مجلس العالم والعالم يسمع؛ أن ذلك سماع من العالم؛ لجواز أن يقول فيه: «حدثني» و «أخبرني»، وفيه الأخذ عن المفضول مع وجود الفاضل وحضرته، وفيه صحة العرض على المحدث إذا أقره ولو لم يقل عقيبه: نعم، وفيه أنه لا يشترط فهم السامع لجميع ما يسمعه، وفيه الرفق بالمتعلم وإقامة العذر لمن لا يفهم، وفيه أن المرء مطلوب بستر عيوبه، وفيه دلالة على حسن خلق النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، اللهم؛ إني أسألك بجاهه أن تفرج عنا وعن المسلمين ما أهمنا، اللهم؛ عليك بالظالمين الباغين الفاجرين، فإنهم لا يعجزونك، يا أكرم الأكرمين.
==========
[1] في الأصل: (تطهير).
[2] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (الآتي)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (تطيب).
==================
[1] في الأصل: (تطهير).
[2] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (الآتي)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (تطهير).
[2] في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (الآتي)، وهو تحريف.
(1/536)
(14) [باب غسل المحيض]
هذ (باب) بيان كيفية (غسل) بضمِّ الغين المعجمة وفتحها، والأول أفصح؛ أي: المرأة من (الحيض) وفي رواية: (المحيض)؛ وكلاهما مصدران، وغسلها من الحيض كغسلها من الجنابة سواء، غير أنها تزيد على ذلك استعمالها الطيب، وهذا الباب في الحقيقة لا فائدة في ذكره؛ لأنَّ الحديث الذي فيه هو الحديث المذكور في الباب الذي قبله غير أن ذلك عن يحيى عن منصور، وهذا عن مسلم، عن وهيب، عن منصور، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
==========
%ص 353%
==================
(1/537)
[حديث: خذي فرصةً ممسكةً، فتوضئي ثلاثًا]
315# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسلم) بضمِّ الميم الأولى، هو ابن إبراهيم، كما في رواية الأصيلي (قال: حدثنا وهيب) بضمِّ الواو مصغرًا، هو ابن خالد (قال: حدثنا منصور) هو ابن عبد الرحمن بن طلحة، (عن أمه) هي صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: (أن امرأة من الأنصار) واسمها أسماء بنت شَكَل _بفتح الشين المعجمة والكاف، آخره لام، كما في رواية مسلم_ الأنصارية التي يقال لها: خطيبة النساء، هذا هو الصواب كما سبق لأولي الألباب، (قالت للنبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو في حجرته (كيف أغتسل من المحيض؟)؛ بالميم، أي: الحيض؛ وكلاهما مصدران، (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (خذي) هو بيان الكيفية، وذلك كما في رواية مسلم: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى يبلغ شؤون رأسها_أي: أصوله_؛ ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ» (فِرْصة)؛ بكسر الفاء، وسكون الراء، أي: قطعة من صوف أو قطن، وما زعمه ابن حجر من أن «القرصة» بالقاف والصاد المهملة؛ أي: شيئًا بطرف الأصابع؛ مردود بنقل أئمة اللغة مع ما فيه من خلاف المعنى المقصود، وهذا قول من لم يشم شيئًا من رائحة العلم، (مُمَسَّكة)؛ بضمِّ الميم الأولى، وفتح الثانية، وتشديد السين المهملة مع فتحها، أي: مطيبة بالمسك؛ وهو دم الغزال المعروف، (وتوضئي)؛ أي: تنظفي؛ لأنَّ الوضوء في اللغة: النظافة، وفي رواية: (فتوضئي)، وفي أخرى: (فتوضئي بها) أي: بالفرصة (ثلاثًا) متعلق بـ (قال) أي: ثلاث مرات، لا بـ (توضئي)، ويحتمل تعلقه بـ (قالت)
%ص 353%
أيضًا بدليل الحديث المتقدم، قاله صاحب «عمدة القاري»، (ثم إن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهذا مقول عائشة رضي الله عنها (استحى) لأنَّه عليه السلام كامل الأوصاف الحميدة، (فأعرض) ولابن عساكر، وأبي ذر، والأصيلي: (وأعرض) (بوجهه) الشريف عنها؛ لما تكرر منه الجواب وهي تسأله ولا تستحي، فاستحياؤه عليه السلام من تكرار الجواب لسؤالها الخاص بالنساء_ (أو قال) شك من عائشة: (توضئي بها) أي: تنظفي بالفرصة_والفرق بين الروايتين زيادة لفظ «بها»؛ يعني: تطهري بالفرصة، ووقع في رواية ابن عساكر بالواو من غير شك، (فأخذتُها فجذبتُها) بالجيم، والذال المعجمة، ثم موحدة، ثم فوقية، وهذا مقول عائشة، وإنما أخذتها؛ لإعراضه عليه السلام عنها؛ والمعنى: باعدتها عن مجلس النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فأخبرتُها) والضمير في الثلاثة للمتكلم، وهي عائشة (بما)؛ أي: بالجواب الذي (يريد) أي: يريده (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: من تتبع أثر الدم وإزالة الرائحة الكريهة.
قيل: الترجمة لغسل الحيض والحديث لم يدل عليها؛ فلا مطابقة.
وأجاب إمام الشارحين في «عمدة القاري» بأنه إن كان لفظ «الغسل» في الترجمة بفتح الغين المعجمة، والمحيض اسم مكان؛ فالمعنى ظاهر، وإن كان بضمِّ الغين المعجمة، والمحيض مصدر؛ فالإضافة بمعنى «اللام» الاختصاصية؛ فلهذا ذكر خاصة هذا الغسل وما به امتاز [1] عن سائر الأغسال، والكلام فيما يتعلق به قد مضى في الباب الذي قبله، والله تعالى أعلم، اللهم؛ فرج عنا ما أهمنا يا أرحم الراحمين.
==========
[1] في الأصل: (ممتاز).
==================
(1/538)
(15) [باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض]
هذا (باب) بيان (امتشاط المرأة) مطلقًا بكرًا كانت أم ثيبًا، حرة كانت أم رقيقة (عند غُسلها)؛ بضمِّ الغين المعجمة وفتحها، والأول أفصح (من المحيض)؛ بالميم، أي: الحيض؛ وكلاهما مصدران، ومثلها النفساء والجنب، كما لا يخفى، والامتشاط «افتعال» من المَشط، بفتح الميم وهو التسريح؛ يعني: تسريح شعر رأسها عند اغتسالها من الحدث الأكبر، ووجه المناسبة بين؛ من حيث إن في كل منهما ما يشعر بزيادة التنظيف والنقاء، كما لا يخفى.
==================
(1/539)
[حديث: انقضي راسك وامتشطي وأمسكي عن عمرتك]
316# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) هو التبوذكي (قال: حدثنا إبراهيم) هو ابن سعد _بسكون العين المهملة_ ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، نزيل بغداد (قال: حدثنا ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزُهْرِي (عن عروة) بضمِّ العين المهملة، هو ابن الزبير _بضمِّ الزاي_ هو ابن العوام، ومن لطائف هذا الإسناد أن إبراهيم يروي عن الزُهْرِي بلا واسطة، وروى عنه في باب «تفاضل أهل الإيمان» بواسطة؛ روى عن صالح عن الزُهْرِي: (أن عائشة) بفتح الهمزة، وتشديد النون، وهي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: أهللت) أي: أحرمت ورفعت الصوت بالتلبية (مع رسول الله) وللأصيلي: (مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وذلك (في حجة الوداع)؛ بفتح الواو وكسرها، والدال المهملة مخففة مفتوحة، سميت بذلك؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ودع الناس فيها، (فكنت ممن تمتع) فيه التفات من المتكلم إلى الغائب؛ لأنَّ أصله أن يقال: فتمتعت، ولكن ذكر باعتبار لفظ «من»، كذا قاله إمام الشارحين، وتبعه القسطلاني وغيره.
واعترض بعضهم بأنه لا التفات هنا، والأولى أن يقال: وفيه مراعات لفظ «من»، ولو روعي معناها؛ لقيل: ممن تمتعوا؛ تأمل.
قلت: وهو مردود، بل فيه التفات نوعي، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، وقوله: (والأولى ... ) إلخ هذا عين ما قاله إمام الشارحين؛ فقد زاد هذا القائل في الطنبور نغمة؛ فافهم.
(ولم يسق الهدي)؛ بفتح الهاء، وسكون الدال المهملة، وبكسرها مع تشديد المثناة التحتية، وهو اسم لما يهدى إلى مكة من الأنعام.
وزعم الكرماني أن هذا كالتأكيد؛ لبيان التمتع؛ لأنَّ المتمتع لا يكون معه الهدي.
ورده إمام الشارحين فقال: (قلت: المتمتع على نوعين؛ أحدهما: أنه يسوق معه الهدي، والآخر: لا يسوق، وحكمهما يختلف كما ذكر في فروع الفقه) انتهى.
(فزعمت أنها حاضت) أي: تلبست بالحيض، وإنما لم يقل: فقالت؛ لأنَّها لم تتكلم به صريحًا إذ هو مما يستحى في تصريحه (ولم تطهر) أي: من حيضها (حتى دخلت ليلة عرفة) هي ليلة التاسع من ذي الحجة، فيحتمل أنها حاضت بعد دخول النبي الأعظم عليه السلام مكة، ويحتمل قبله.
وزعم القسطلاني معزيًا للدماميني أن فيه دلالة على أن حيضها كان ثلاثة أيام خاصة؛ لأنَّ دخوله عليه السلام مكة كان في الخامس من الحجة، فحاضت يومئذٍ فطهرت يوم عرفة، ويدل على أنها حاضت يومئذٍ: قوله عليه السلام في باب (كيف تهل الحائض بالحج والعمرة): «من أحرم بعمرة ... »؛ الحديث، قالت: فحضت، ففيه دليل على أن حيضها كان يوم القدوم إلى مكة، قالت: فلم أزل حائضًا حتى كان يوم عرفة، انتهى.
قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّ خصوصية كون حيضها ثلاثة أيام يحتاج إلى دليل، ولم يوجد، بل الصواب الاحتمال، وهو أنه قد حاضت أربعة أيام أو خمسة أو أكثر، ولا يلزم أن تكون حاضت في مكة، بل يحتمل أنها حاضت قبل دخولها مكة كما هو الظاهر، وما استدل به من أن دخوله عليه السلام كان في الخامس من الحجة لا ينهض؛ لاحتمال دخوله عليه السلام مكة يوم الرابع أو الثالث من الحجة، وهو الصواب؛ لأنَّ عادته عليه السلام التعجيل في أمر العبادة، ولأجل التأهب لأفعال الحج، وما استدل به من أنها حاضت يومئذٍ لا ينهض دليلًا له، بل الظاهر المتبادر من قوله عليه السلام في باب (كيف تهل الحائض) أنها حاضت قبل القدوم إلى مكة، ولا مانع من استمرار الحيض حتى قدمت مكة، ولم يشعر به عليه السلام حتى قدم مكة؛ لأنَّ إظهار ذلك مما يستحى منه، فلم يعلم عليه السلام ذلك منها حتى دخلت مكة، على أن الحديث مطلق، فليس فيه دليل على ما قاله هذا القائل؛ فافهم.
(وقالت) أي: عائشة، وفي رواية: (فقالت)، وكلاهما عطف على (حاضت)، وفي رواية: (قالت) بغير عطف: (يا رسول الله؛ هذه ليلة يوم عرفة) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية: (هذه ليلة عرفة) يعني: هذا الوقت، وفي رواية: (هذه يوم عرفة) يعني: ليلة يوم عرفة، (وإنما كنت تمتعت بعمرة) أي: وأنا حائض، وهذا تصريح بما علم ضمنًا؛ لأنَّ التمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج مَن على مسافة القصر من الحرم، ثم يحرم بالحج في سنة تلك العمرة بلا عود إلى ميقات، وبعد هذا الكلام مقدر؛ تقديره: تمتعت بعمرة وأنا حائض، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري».
%ص 354%
(فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) في الجواب: (انقُضي)؛ بضمِّ القاف، وفي بعض الروايات: (انفضي)؛ بالفاء؛ ومعناه: حلي وفكي (رأسك) أي: شعره، فالمضاف محذوف، (وامتشطي)؛ أي: تسرحي، (وأمسكي) بهمزة قطع (عن عمرتك)؛ بكسر الكاف، أي: لا تفعلي شيئًا من أفعال العمرة، وهذا يدل على أن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أمرها برفض عمرتها، وأن تخرج منها قبل إتمامها؛ ولهذا قال الأئمَّة الكوفيون في المرأة: تحيض قبل الطواف، وتخشى فوات الحج: أنها ترفض العمرة، وقال رأس المجتهدين الإمام الأعظم والجمهور: إنها تردف الحج وتكون قارنة، وبه قال مالك، وأبو ثور، والشافعي، وحمله بعض أصحاب مالك على أنه عليه السلام أمرها بالإرداف ولا تنقض، واعتذروا عن هذه الألفاظ بتأويلات؛ أحدها: أنها كانت مضطرة إلى ذلك؛ فرخص لها كما رخص لكعب بن عجرة في الحلق للأذى، ثانيها: أنه خاص بها، ثالثها: أن المراد بالنقض والامتشاط: تسريح الشعر لغسل [1] الإهلال بالحج، ولعلها كانت لبدت رأسها، ولا يتأتى إيصال الماء إلى البشرة مع التلبيد إلَّا بحلِّ الضفر والتسريح، وقد اختلف العلماء في نقض المرأة عند الاغتسال، فأمر به ابن عمر، والنخعي، ووافقهما طاووس في الحيض دون الجنابة، ولا يتبين فرق بينهما، ولم يوجبه عليها، فنهى عائشة، وأم سَلَمَة، وابن عمر، وجابر، وبه قال الكوفيون، ومالك، والشافعي، وعامة الفقهاء، والعبرة بالوصول، فإن لم يصل؛ فينقض، كذا قرره إمام الشارحين، ثم قال: وقول عائشة رضي الله عنها: (فتمتعت بعمرة) يدل على: أنها كانت معتمرة أولًا.
فإن قلت: أصح الروايات عن عائشة أنها قالت: (لا نرى إلا الحج، ولا نذكر إلا الحج، وخرجنا مهلين بالحج) فكيف الجمع بينهما وبين ما قالت عائشة: (تمتعت بعمرة)؟
قلت: الحاصل أنها أحرمت بالحج، ثم فسخته إلى عمرة حين أمر الناس بالفسخ، فلما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة؛ أمرها النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالإحرام بالحج، فأحرمت به، فصارت مدخلة للحج على العمرة وقارنة؛ لما ثبت من قوله عليه السلام: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك»، ومعنى (انسكي من عمرتك): ليس إبطالها بالكلية والخروج منها بعد الإحرام بنية الخروج، وإنما يخرج منها بالتحلل بعد فراغها، بل معناه: اقضي العمل فيها وإتمام أفعالها، وأعرضي عنها، ولا يلزم من نقض الرأس والامتشاط إبطال العمرة؛ لأنَّهما جائزان عندنا في الإحرام بحيث لا ينتف شعرًا، لكن يكره الامتشاط إلا لعذر، وتأولوا فعلها: على أنها كانت معذورة؛ بأن كان برأسها أذى، وقيل: ليس المراد بالامتشاط حقيقته، بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل؛ لإحرامها بالحج، لا سيما إن كانت لبدت رأسها، فلا يصح غسلها إلا بإيصال الماء إلى جميع شعرها، ويلزم منه نقضه.
فإن قلت: إذا كانت قارنة، فلم أمرها بالعمرة بعد الفراغ من الحج؟
قلت: معناه: أرادت أن يكون لها عمرة منفردة عن الحج، كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من أصحابه الذين فسخوا الحج إلى العمرة، ثم أحرموا بالحج، فحصل لهم عمرة منفردة وحج منفرد، فلم يحصل لها إلا عمرة مندرجة في حجة بالقران، فاعتمرت بعد ذلك مكان عمرتها التي كانت أرادت أولًا: حصولها منفردة غير مندرجة، ومنعها الحيض منه، وإنما فعلت ذلك؛ حرصًا مع كثرة العبادات، كذا زعمه النووي، ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» فقال إمام الشارحين: والمشهور: الثالث؛ وهو أن عائشة رضي الله عنها كانت منفردة بالحج، وأنه عليه السلام أمرها برفض العمرة، وقولها في الحديث: (وأرجع بحجة واحدة) دليل واضح على ذلك، وقولها: (ترجع صواحبي بحجة وعمرة، وأرجع أنا بالحج) صريح في رفض العمرة؛ إذ لو أدخلت الحج على العمرة؛ كانت هي وغيرها سواء، ولمَا احتاجت إلى عمرة أخرى بعد العمرة والحج اللذين فعلتهما، وقوله عليه السلام من عمرتها الأخيرة بـ «هذه مكان عمرتك» صريح في أنها خرجت من عمرتها الأولى ورفضتها؛ إذ لا تكون الثانية مكان الأولى إلا والأولى مفقودة، وفي بعض الروايات: (هذه قضاء من عمرتك).
وزعم البيهقي: (أن معنى قوله عليه السلام: «ودَعي العمرة»: أمسكي عن أفعالها، وأدخلي عليها الحج).
ورده إمام الشارحين فقال: (هذا خلاف حقيقة قوله عليه السلام: «ودعي العمرة»، بل حقيقته أنه أمرها برفض العمرة بالحج، وقوله عليه السلام: «انقضي رأسك وامتشطي» يدل على ذلك، ويدفع تأويل البيهقي الإمساك عن أفعال العمرة؛ لأنَّ المحرم ليس له أن يفعل ذلك) انتهى.
وزعم الشافعي أنه لا يعرف في الشرع رفض العمرة بالحيض.
ورده إمام الشارحين بما قاله الإمام أبو الحسن القدوري في «التجريد»: (إنه ما رفضتها بالحيض، لكن تعذرت أفعالها وكانت ترفضها بالوقوف، فأمرها بتعجيل الرفض)، والله تعالى أعلم.
قالت عائشة: (ففعلت)؛ أي: فعلت النقض، والامتشاط، والإمساك، وهنا مقدر أيضًا وهو في قولها: (فلما قضيت) أي: أديت (الحج) أي: بعد إحرامي به؛ (أمر) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (عبد الرحمن) هو ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فهو أخوها (ليلة الحَصْبة)؛ بفتح الحاء، وسكون الصاد المهملتين، ثم بالباء الموحدة، وهي الليلة التي نزلوا فيها في
%ص 355%
المحصب؛ وهو المكان الذي نزلوه بعد النفر من منًى خارج مكة، وهي الليلة التي بعد أيام التشريق، سميت بذلك؛ لأنَّهم نفروا من منًى فنزلوا في المحصب وباتوا فيه، والحصبة والحصباء، والأبطح، والبطحاء، والمحصب، وحنيف بني كنانة يراد بها: موضع واحد، وهو بين مكة ومنًى، كذا في «عمدة القاري»، (فأعمرني) وفي رواية: (فاعتمر بي)، وهي مفسرة للأولى؛ فافهم، (من التنعيم) وهو «تفعيل» من النعمة؛ وهو موضع على فرسخ من مكة على طريق المدينة، وفيه مسجد عائشة رضي الله عنها (مكان عمرتي) وفي رواية: (موضع عمرتي) يعني: بدلها، وفي رواية: (قضاء عمرتي) (التي نسكت) من النسك، كذا في رواية الأكثرين؛ ومعناه: أحرمت بها، وفي رواية أبي زيد المروزي: (سكت) من السكوت؛ أي: عمرتي التي تركت أعمالها وسكت عنها، وروى القابسي: (شكت)؛ بالشين المعجمة؛ أي: شكت العمرة من الحيض، وإطلاق الشكاية عليها؛ كناية عن اختلالها وعدم بقاء استقلالها، ويجوز أن يكون الضمير فيه راجعًا إلى عائشة، وكان حقه التكلم، وذكره بلفظ الغيبة التفاتًا، كذا قرره إمام الشارحين.
ثم قال: وظاهر هذا الحديث: أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بعمرة أولًا، وهو صريح حديثها الآتي في الباب بعد، وقولها في الحديث الذي مضى: (خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا نذكر إلا الحج)، وقد اختلفت الرواية عن عائشة فيما أحرمت به اختلافًا كثيرًا، ففي رواية عروة: (فأهللنا بعمرة)، وفي رواية أخرى: (ولم أهل إلا بعمرة)، وفي رواية: (لا نذكر إلا الحج)، وفي أخرى: (لا نرى إلا الحج)، وفي رواية القاسم عنها: (لبينا بالحج)، وفي أخرى: (مهلين بالحج)، واختلف العلماء في ذلك؛ فمنهم: من رجح روايات الحج، وغلط روايات العمرة، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، ومنهم: من جمع _لثقة راويها_ بأنها أحرمت أولًا بالحج ولم تسق الهدي، فلما أمر الشارع من لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة إن شاء، ففسخت هي فيمن فسخ وجعلته عمرة وأهلت بها، ثم إنها لم تحل منها حتى حاضت، فتعذر عليها إتمامها والتحلل منها، فأمرها أن تحرم بالحج فأحرمت فصارت قارنة، ووقفت وهي حائض، ثم طهرت يوم النحر فأفاضت، وذكر ابن حزم أنه عليه السلام خيرهم بسرف بين فسخه إلى العمرة والتمادي عليه، وأنه بمكة أوجب عليهم التحلل إلا من معه الهدي، وفي «الصحيح»: أنها حاضت بسرف أو قريب منها، فلما قدم مكة؛ قال عليه السلام: «اجعلوها عمرة».
وقال أبو عمر: الاضطراب في حديث عائشة بالحج عظيم، وقد أكثر العلماء في توجه الروايات فيه، ودفع بعضهم بعضًا فيه ببعض، ولم يستطيعوا الجمع بينهما، ورام قوم الجمع في بعض معانيها: روى محمَّد بن عبد الله، عن حمَّاد بن زيد، عن أيُّوب، عن ابن أبي مليكة قال: ألا تعجب من اختلاف عروة والقاسم! قال القاسم: أهلَّت [2] عائشة بالحج، وقال عروة: أهلَّت [3] بالعمرة، وذكر الحارث بن مسكين، عن يوسف بن عمر، وعن وهب، عن مالك أنه قال: ليس العمل في رفض العمرة؛ لأنَّ العمل عليه عنده في أشياء كثيرة؛ منها: أنه جائز للإنسان أن يعمل بعمرة، ومنها: أن القارن بطواف واحد أو غير ذلك.
وزعم ابن حزم أن حديث عروة عن عائشة منكر وخطأ عند أهل العلم، ثم روى بإسناده إلى أحمد ابن حنبل، فذكر حديث مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة: (خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عام حجة الوداع ... )؛ الحديث، فقال أحمد: أثر في هذا الحديث من العجب! هذا خطأ، قال الأشرم: فقلت له: الزُهْرِي عن عروة، عن عائشة تخالفه، قال: نعم؛ وهشام بن عروة.
ودفع الأوزاعي وأبو ثور حديث عروة وابن علية هذا وقالوا: هو غلط لم يتابع عروة على ذلك أحد من أصحاب عائشة، وقال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء _يعني: القاسم، والأسود، وعُمَيْرة_ على أن أم المؤمنين كانت محرمة بحجة، لا بعمرة، فعلمنا بذلك أن الرواية عن عروة غلط، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري».
قال الداودي ومن تبعه: ليس في الحديث دليل على الترجمة؛ لأن [4] أمرها بالامتشاط كان للإهلال وهي حائض، لا عند غسلها، وأجاب الكرماني بأن الإحرام بالحج يدل على غسل الإحرام؛ لأنَّه سنة ولما سن الامتشاط عند غسله؛ فعند غسل الحيض بالطريق الأولى؛ لأنَّ المقصود منه التنظيف؛ وذلك عند إرادة إزالة أثر الحيض الذي هو نجاسة غليظة أهم، أو لأنَّه إذا سن في النفل؛ ففي الفرض أولى.
وقال إمام الشارحين: (إن الإهلال بالحج يقتضي الاغتسال صريحًا في هذه القصة؛ فيما أخرجه مسلم من طريق ابن الزبير عن مُجَاهِد، ولفظه: «فاغتسلي، ثم أهلي بالحج»، وقيل: جرت عادة البخاري في كثير من التراجم أنه يشير إلى ما تضمنه بعض طرق الحديث وإن لم يكن منصوصًا فيما ساقه) انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (للغسل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أهللت).
[3] في الأصل: (أهللت).
[4] في الأصل: (لا).
==================
[1] في الأصل: (للغسل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أهللت).
[3] في الأصل: (أهللت).
[1] في الأصل: (للغسل)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أهللت).
[3] في الأصل: (أهللت).
(1/540)
(16) [باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض]
هذا (باب) بيان حكم (نقض) أي: حل وفك (المرأة) مطلقًا، حرة أم أمة، بكرًا أم ثيبًا (شعرها)؛ بالتحريك، أي: شعر رأسها (عند غُسل) بفتح الغين المعجمة، وبضمِّها، وهو الأفصح (المحيض) أي: الحيض، وجوابه مقدر؛ أي: هل يجب أم لا؟ وظاهر الحديث الوجوب، وقد ذكرنا الاختلاف في الباب السابق.
والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأنَّ النقض والامتشاط من جنس واحد وحكم واحد.
==========
%ص 356%
==================
(1/541)
[حديث: دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي]
317# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبيد) بضمِّ العين المهملة؛ مصغرًا (بن إسماعيل) هو ابن محمَّد الهَبَّاري _بفتح الهاء، وبالباء الموحدة المشددة، وبالراء_ الكوفي، ويقال: اسمه عبيد الله، مات سنة خمسين ومئتين (قال: حدثنا أبو أسامة) هو حمَّاد بن أسامة الهاشمي الكوفي، (عن هشام) هو ابن عروة، (عن أبيه) هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) هي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنهما (قالت: خرجنا)
%ص 356%
أي: الصحابة مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من المدينة (موافين لهلال ذي الحجة) أي: مكملين ذا القعدة مستقبلين هلال ذي الحجة، وفي رواية: (موافقين)، وزعم النووي أي: مقارنين لاستقباله، واعترضه في «عمدة القاري»، وجزم أن معناه: مشرفين، يقال: أوفى على كذا؛ أي: أشرف، ولا يلزم الدخول فيه، وكان خروجهم قبله لخمس ليال بقين من ذي القعدة يوم السبت، وقدم النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مكة لأربع أو خمس من ذي الحجة، فأقام في طريقه إلى مكة تسعة أيام أو عشرة أيام، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني صحيح؛ فافهم.
(فقال) ولأبوي ذر والوقت: (قال) (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) لأصحابه: (من أحب أن يهلَّ)؛ بلام واحدة مشددة، وفي رواية: (يهلل)؛ بلامين؛ أي: يحرم (بعمرة؛ فليهل)؛ بتشديد اللام في رواية الأكثرين، وفي رواية: (فيلهلل)؛ بفك الإدغام؛ أي: فليحرم بها، (فإني لولا أني أهديت) أي: سقت الهدي، وإنما كان وجود الهدي علة؛ لانتفاء الإحرام بالعمرة؛ لأنَّ صاحب الهدي لا يجوز له التحلل حتى ينحر، ولا ينحر إلا في يوم النحر، والمتمتع يتحلل قبل يوم النحر؛ فهما متنافيان؛ (لأهللت) كذا في رواية، وفي أخرى: (لأحللت) (بعمرة).
قال الكرماني: هذا الحديث دليل على أن التمتع أفضل من الإفراد، فماذا قال الشافعي في دفعه؟
وأجاب إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: إنه عليه السلام إنَّما قاله؛ من أجل فسخ الحج إلى العمرة والذي هو خاص بهم في تلك السنة خاصة؛ لمخالفة الجاهلية؛ حيث حرموا العمرة في أشهر الحج، ولم ير بذلك التمتع الذي فيه الخلاف وقال: هذا تطييبًا لقلوب أصحابه وكانت نفوسهم لا تسمح بفسخ الحج إليها؛ لإرادتهم موافقته عليه السلام، ومعناه: ما يمنعني من موافقتكم مما أمرتكم به إلا سوق الهدي ولولاه؛ لوافقتكم، قلت: الرواية عن الإمام الأعظم رأس المجتهدين أن الإفراد أفضل من التمتع، وتبعه الشافعي، ولكن المذهب أن التمتع أفضل من الإفراد؛ لأنَّ فيه جمعًا بين عبادتي العمرة والحج في سفر واحد، فأشبه القران) انتهى كلامه.
قلت: والقران أفضل من التمتع فالحج قارنًا؛ كالصَّلاة إمامًا، والحج متمتعًا؛ كالصَّلاة مقتديًا، والحج مفردًا؛ كالصَّلاة منفردًا، هذا هو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم؛ لقول الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله، كذا فسرته الصحابة رضي الله عنه، وهو القران، وحديث أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لبيك عمرة وحجًّا، لبيك عمرة وحجًّا» رواه الشيخان، وعن علي رضي الله عنه قال: أتيت النبي عليه السلام فقال: «كيف أهللت؟» فقلت: أهللت بإهلالك، فقال: «إني سقت الهدي وقرنت» رواه أبو داود والنسائي، وهذا حجة على مالك، وأحمد، والشافعي؛ حيث قالوا: إن الإفراد أفضل، ثم التمتع، ثم القران؛ لما روي عنه عليه السلام: القران رخصة؛ فالعزيمة أولى، قلنا: هذا نفي لقول الجاهلية: إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، أو يقال: سقوط سفر العمرة صار رخصة، وتمامه فيما قدمناه؛ فليحفظ.
(فأهل بعضهم) أي: بعض الصحابة (بعمرة) أي: صاروا متمتعين، (وأهل بعضهم) أي: بعض الصحابة (بحج) أي: صاروا مفردين (وكنت أنا ممن أهل بعمرة) وهذا مقول عائشة، فصارت متمتعة، (فأدركني يوم عرفة) وهو التاسع من ذي الحجة (وأنا حائض) أي: متلبسة به، (فشكوت)؛ بالشين المعجمة، من الشكاية؛ أي: شكت العمرة من الحيض (إلى النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وإطلاق الشكاية عليها؛ كناية عن اختلالها وعدم بقاء استقلالها، (فقال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (دعي عمرتك)؛ بكسر الكاف، حقيقة؛ ذلك أنه أمرها برفض العمرة بالحج، وقوله: (وانقضي)؛ بالقاف؛ أي: حلي وفكي [1] (رأسك) أي: شعره، (وامتشطي) أي: سرحيه [2] يدل على ما قلناه، وقول الكرماني وتبعه القسطلاني: (أي: أفعال العمرة لا نفسها) خلاف الحقيقة؛ لأنَّ المحرم ليس له أن يفعل ذلك، كما تقدم، (وأهلي بحج) أي: مكان العمرة، أو مع العمرة، (ففعلت) أي: فعلت النقض، والامتشاط، والإهلال بالحج (حتى إذا كان ليلة الحَصْبة)؛ بفتح الحاء، وسكون الصاد المهملتين، وبالباء الموحدة؛ وهي الليلة التي نزلوا فيها بالمحصب؛ موضع بين مكة ومنًى يبيتون فيه إذا نفروا منها، وهذا كلام إضافي، و (كان) تامة بمعنى: وجدت، ويجوز نصب (الليلة) على أن تكون (كان) ناقصة، ويكون اسم (كان) الوقت، كذا قرره في «عمدة القاري»؛ (أرسل) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (معي أخي عبد الرحمن بن أبي بكر) أي: الصديق الأكبر رضي الله عنهم، (فخرجت) أي: معه (إلى التنعيم)؛ «تفعيل» من «النعمة»: موضع على فرسخ من مكة على طريق المدينة، وفيه مسجد عائشة الصديقة، (فأهللت بعمرة) أي: من التنعيم (مكان عمرتي) أي: التي رفضتها.
فإن قلت: ليس في الحديث دلالة على الترجمة؛ لأنَّ أمرها بنقض الشعر كان للإهلال وهي حائض، لا عند غسلها؟
قلت: إنَّ نقض شعرها كان لغسل الإحرام وهو سنة، فالغسل للحيض أولى؛ لأنَّه فرض، وقد كان ابن عمر يقول بوجوبه، وبه قال الحسن البصري، وطاووس في الحائض دون الجنب، وبه قال أحمد، ورجح جماعة من أصحابه الاستحباب فيهما، ومذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والشافعي، والجمهور السنية؛ لحديث أم سَلَمَة: (إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للجنابة؟ قال: «لا») رواه مسلم، وحملوا حديث عائشة هذا على الاستحباب؛ جمعًا بين الروايتين إلا إذا لم يصل الماء إلا بالنقض، فحينئذٍ يجب نقضه، والله تعالى أعلم، (قال هشام) هو ابن عروة، هذا يحتمل التعليق، ويحتمل أن يكون عطفًا من جهة المعنى على لفظ «هشام»، ثم قول هشام يحتمل أن يكون معلقًا، ويحتمل أن يكوت متصلًا بالإسناد
%ص 357%
المذكور، والظاهر: الأول، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
(ولم يكن في شيء من ذلك هدي، ولا صوم، ولا صدقة) وظاهره مشكل؛ فإنها إن كانت قارنة؛ فعليها الهدي للقران عند كافة العلماء إلا داود، وإن كانت متمتعة؛ فكذلك، لكنها كانت فاسخة كما سلف، ولم تكن [3] قارنة ولا متمتعة، وإنما أحرمت بالحج، ثم نوت فسخه في عمرة، فلما حاضت ولم يتم لها ذلك؛ رجعت إلى حجها، فلما أكملته؛ اعتمرت عمرة مبتدأة، نبه عليه القاضي عياض، واعترضه إمام الشارحين في «عمدة القاري» بأنه يعكر عليه قولها: (وكنت ممن أهل بعمرة)، وأجاب: بأن هشامًا لما لم يبلغه ذلك؛ أخبر بنفيه، ولا يلزم من ذلك نفيه في نفس الأمر، ويحتمل أن يكون لم يأمر به، بل نوى أنه يقوم به عنها، بل روى جابر رضي الله عنه: أنه صلَّى الله عليه وسلَّم أهدى عن عائشة بقرة، وقال القاضي عياض: فيه دليل على أنها كانت في حج مفرد، لا تمتع ولا قران؛ لأنَّ العلماء مجمعون على وجوب الدم فيهما) انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (وفك)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (سريحه)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (يكن)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (وفك)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (سريحه)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (وفك)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (سريحه)، وهو تحريف.
(1/542)
(17) [باب: {مخلقة وغير مخلقة}]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان قول الله عز وجل _كما للأصيلي_ أو قول النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (مخلقة)؛ يعني: إذا أراد الله أن يقضي خلقه؛ قال الملك: مخلقة، وإذا لم يرد ذلك؛ قال: (غير مخلقة) أي: تامة أو غير تامة، قاله قتادة، وعن الشعبي: (النطفة، والعلقة، والمضغة إذا كسيت في الخلق؛ كانت مخلقة، وإذا قذفتها قبل ذلك؛ كانت غير مخلقة)، وعن أبي العالية: (المخلقة: المصورة، وغير المخلقة: السقط)، وقال جار الله الزمخشري: (مخلقة: أي: مسواة ملساء من العيب والنقصان، يقال: خلق السواد؛ إذا سواه وملسه، وغير مخلقة؛ أي: غير مسواة)، وروي عن علقمة: (إذا وقعت النطفة؛ قال له الملك: مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة؛ مجها الرحم دمًا، وإن قال: مخلقة؛ قال: ذكر أم أنثى)، ويحتمل أن يكون المؤلف أراد الآية الكريمة فأورد الحديث؛ لأنَّ فيه ذكر المضغة، والصفة مخلقة وغير مخلقة، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنه رواه بالإضافة؛ أي: باب تفسير قوله: مخلقة وغير مخلقة.
ورده إمام الشارحين فقال: قلت: ليت شعري؛ هل روى هذا عن البخاري نفسه أم عن الفربري؟! وكيف يقول: باب تفسير قوله تعالى: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، وليس في متن حديث الباب: مخلقة وغير مخلقة، وإنما فيه ذكر المضغة، وهي مخلقة وغير مخلقة؟) انتهى.
قلت: على أنه ليس مراد المؤلف تفسير المخلقة وغير المخلقة، وإنما مراده: أن الحامل لا تحيض، يدل لذلك أنه بصدد كتاب (الحيض)، ومحل ما زعمه هذا القائل كتاب (التفسير) فكيف خفي هذا على من ادعى الرساخة في العلم، وليس عنده شيء من الفهم؟! والأحسن في إعرابه أن يكون (باب) منونًا، ويكون خبر مبتدأ محذوف، كما قدرناه؛ فليحفظ.
واعلم: أن غرض المؤلف هنا الإشارة إلى أن الحامل لا تحيض؛ لأنَّ اشتمال الرحم على الولد يمنع خروج دم الحيض، ويقال: إنه يصير غذاء للجنين، وممن ذهب إلى أن الحامل لا تحيض رأس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والأئمَّة الكوفيون، وأحمد ابن حنبل، وأبو ثور، والأوزاعي، والثوري، والحسن البصري، وعطاء، وسَعِيْد بن المسيب، والشعبي، والزُهْرِي، والحكم، وحمَّاد، ومكحول، ومحمَّد بن المنكدر، وجابر بن زيد، وابن المُنْذِر، وأبو عبيد، والشافعي في أحد قوليه، وهو القول القديم، وقال في الجديد: إنها تحيض، وبه قال إسحاق، وعن مالك روايتان، وحكي عن بعض المالكية: إن كان في آخر الحمل؛ فليس بحيض، وإن كان في أوله؛ فحيض، وذكر الداودي: (أن الاحتياط أن تصوم وتصلي، ثم تقضي الصوم، ولا يأتيها زوجها).
وقال ابن بطال: (غرض البخاري بإدخال هذا الحديث في أبواب الحيض تقوية مذهب من يقول: إن الحامل لا تحيض) انتهى؛ يعني: وضعف من يقول: إنها تحيض، وأنه قول شاذ، لا يعتمد عليه.
وزعم ابن حجر (أن في الاستدلال بالحديث المذكور على أنها لا تحيض نظر؛ لأنَّه لا يلزم من كون ما يخرج من الحامل من السقط الذي لم يتصور ألا يكون الدم الذي تراه المرأة التي [1] يستمر حملها ليس بحيض، وما ادعاه المخالف؛ من أنه رشح من الولد، ومن فضلة غذائه، أو دم فاسد، أو لعلة؛ فيحتاج إلى دليل؛ لأنَّ هذا دم بصفات دم الحيض، وفي زمن إمكانه، فله حكم دم الحيض، فمن ادعى خلافه؛ فعليه البيان) انتهى.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» فقال: قلت: إنَّما ادعيت الخلاف، وعليَّ البيان، أما أولًا؛ فنقول: لنا في هذا الباب أحاديث وأخبار؛ منها: حديث سالم عن أبيه وهو: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء؛ أمسكها، وإن شاء؛ طلقها قبل أن يمس، فذلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء» متفق عليه.
ومنها: حديث أبي سَعِيْد الخدري رضي الله عنه قال في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» رواه أبو داود.
ومنها: حديث زريع بن ثابت قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يحل لأحد أن يسقي ماءه زرع غيره، ولا يقع على أمة حتى تحيض، أو يتبين حملها» رواه أحمد ابن حنبل، فجعل النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وجود الحيض علامة على براءة الرحم من الحبل في الحرتين، ولو جاز اجتماعهما؛ لم يكن دليلًا على انتفائه، ولو كان بعد الاستبراء بحيضة احتمال الحمل؛ لم يحل وطؤها للاحتياط في أمر الإبضاع.
وأما الأخبار؛ فمنها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقًا للولد)، رواه ابن شاهين.
ومنها: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الله رفع الحيض وجعل الدم رزقًا للولد مما تفيض الأرحام)، رواه ابن شاهين أيضًا.
ومنها: ما رواه الدارقطني والأشرم بإسنادهما عن عائشة رضي الله عنها في الحامل ترى الدم فقال عليه السلام: «الحبلى لا تحيض، وتغتسل وتصلي»، وقولها: (تغتسل) استحباب؛ لكونها مستحاضة، ولا يعرف عن غيرهم خلافه) انتهى؛ فافهم.
وزعم ابن حجر: أن هذه الأخبار لم تثبت، نقله عنه القسطلاني.
قلت: قد علمت غير مرة عناد ابن حجر وتعنته وتعصبه، وقد حذا حذوه شيخ قسطلان، وهذا فاسد؛ لأنَّ هذه الأخبار والآثار قد علمت وسمعت أنها روتها الثقات من المحدثين الحفاظ الكبار، لا سيما حافظ السنة على التحقيق الإمام أحمد، وكذا أبو داود والدارقطني، وغيرهم، وكيف يدعي فيما رأَوه هؤلاء عدم الثبوت وما هي إلا دعوى أوهى من بيت العنكبوت، ولا يدعيها إلا من لم يشم شيئًا من رائحة العلم.
وقول القسطلاني: (وأقوى حجج من ذهب أن الحامل لا تحيض أن استبراء الأمة اعتبر بالحيض؛ لتحقق براءة الرحم من الحمل، فلو كانت الحامل تحيض؛ لم تتم البَرَاءة بالحيض) باطل؛ فإن هذا تفسير وبيان للحكم، فإن حجج الجمهور الأحاديث النبوية البالغة حد التواتر الواردة في الباب المذكور، وهي دالة حقيقة على أن الحامل لا تحيض، وكفى بذلك حجة.
وبقي
%ص 358%
دليل من زعم أن الحامل تحيض، ولم يوجد لهم دليل يدل على ما زعموه، فإن كان؛ فهو مخالف لنص النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولنص عائشة، وأبي سَعِيْد الخدري، وزريع بن ثابت، وابن عمر، وأبيه عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم، وما خالف النص؛ فهو مردود غير مقبول لا يعتمد عليه، ولا يسمع أذني عن سماعه صم، والله أعلم.
وقال ابن التين: (والدليل على أن دم الحامل ليس بحيض أن الملك موكلًا برحم الحامل، والملائكة لا تدخل بيتًا فيه قذر)، واعترضه ابن حجر، فزعم بأنه لا يلزم من كون الملك موكلًا به أن يكون حالًّا فيه، ثم هو مشترك الإلزام؛ لأنَّ الدم كله قذر، انتهى.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ولا يلزم أن يكون حالًّا فيه، والدم في معدته لا يوصف بالنجاسة، وإلا؛ يلزم ألَّا يوجد أحد طاهرًا خاليًا عن النجاسة) انتهى.
ثم قال رحمه الباري: (ووجه المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله من حيث إن الباب الذي قبله يشتمل على أمور من أحكام الحيض، وهذا الباب أيضًا يشتمل على حكم من أحكام الحيض؛ وهو أن الحامل إذا رأت دمًا؛ هل يكون حيضًا أم لا؟ وقد ذكرنا أن غرض المؤلف من وضع هذا الباب هو الإشارة إلى أن الحامل لا تحيض كما سيأتي) انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الذي)، وليس بصحيح.
==================
(1/543)
[حديث: إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكًا يقول: يا رب نطفة]
318# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا حمَّاد) هو ابن زيد البصري، (عن عُبِيد الله) بضمِّ العين المهملة، بلفظ التصغير (ابن أبي بكر) هو ابن أنس بن مالك الأنصاري، (عن أنس بن مالك) هو جده الأنصاري، يروي عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه (قال: إن الله عز وجل وكَّل)؛ بالتشديد كما في قوله تعالى: {مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] من التوكيل، يقال: وكل زيد عمرًا بكذا؛ إذا فوض إليه.
وزعم ابن حجر أن في روايته بالتخفيف؛ مِن وكله؛ إذا استكفاه إياه، وصرف أمره إليه، انتهى.
قلت: ليت شعري؛ هل روى هذا عن البخاري نفسه أم عن الفربري؟! وكيف يقول بالتخفيف، وقد جاءت الرواية بالتشديد عند جميع الرواة وبها جاء التنزيل؟! لا يقال: من حفظ حجة على من لم يحفظ؛ لأنا نقول رواية التخفيف شاذة، ولو كانت غير شاذة؛ لذكرها بعض الرواة، فعدم ذكرها من أحدهم دليل على عدم وجودها أو على شذوذها، والحق أنها غير موجودة أصلًا، فقد زاد هذا القائل في الطنبور نغمة؛ فافهم.
(بالرحم)؛ هو وعاء الولد وله ثلاثة أفواه، وقيل: خمسة، وقيل: أكثر، فإذا سقطت النطفة؛ بادرت تلك الأفواه بالاجتذاب منها، فإن جذب واحد؛ جاء ولد واحد، وإن أخذ اثنان؛ جاء ولدان، وهكذا يخلق الله ما يشاء بحكمته (ملكًا) بالنصب، وناصبه قوله: (وكل)؛ وهو جسم لطيف نوراني يتشكل بأشكال مختلفة (يقول) جملة من الفعل والفاعل، وهو الذي فيه يرجع إلى الملك في محل نصب؛ لأنَّها صفة الملك، وظاهر قوله: (إن الله ... ) إلخ يدل على أن بعثه إليه عند وقوع النطفة في الرحم، وفيه اختلاف الروايات سيأتي بيانها؛ فافهم، فليحفظ.
(يارب)؛ بحذف ياء المتكلم، وفي مثله يجوز: يا ربي، ويا رب، ويا رباه؛ بالهاء وقفًا، (نُطفة)؛ بضمِّ النون، قال الجوهري: النطفة: الماء الصافي، قل أو كثر، والجمع النطاف، ونطفان الماء؛ سيلانه، وقد نطف ينطُف، وينطِف من باب (نصر ينصر)، و (ضرب يضرب)، وليلة نطوف تمطر إلى الصباح، ويقال: جمع النطفة: نطف أيضًا، وكل شيء خفي نطفة ونطافة، حتى إنهم يسمون الشيء الخفي بذلك، وأصله للماء القليل يبقى في الغدير، أو السقاء، أو غيره من الآنية، ويقال له ما دام نطفة: صراة، ذكره صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: ويجوز في (نطفة) الرفع والنصب، أما النصب؛ فهو رواية القابسي، ووجهه أن يكون منصوبًا بفعل مقدر؛ تقديره: جعلت المني نطفة في الرحم، أو خلقت نطفة، وأما وجه الرفع؛ فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: يا رب؛ هذه نطفة، والرفع رواية غير القابسي؛ فافهم.
(يا رب) بحذف ياء المتكلم كما سبق (علقة)؛ بفتح اللام، وهي الدم الجامد الغليظ، ومنه قيل لهذه الدابة التي تكون في الماء: علقة؛ لأنَّها حمراء؛ كالدم، وكل دم غليظ علق، قاله الأزهري، وذكر في «الموعب»: (أن العلق: الدم ما كان)، وقيل: هو الجامد قبل أن ييبس، وقيل: هو ما اشتدت حمرته، والنطفة منه علقة، وفي «المغيث»: (هو ما انعقد قبل اليابس، كأن بعضه علق ببعض تعقدًا ويبسًا [1])، كذا قاله إمام الشارحين، ثم قال: (ويجوز في «علقة» النصب والرفع) كما قدمناه؛ فافهم.
(يا رب) بحذف ياء المتكلم كذلك (مضغة) قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنا لا نتغافل المضغ بيننا؛ يعني: أراد الجراحات، وسماها مضغًا على التشبيه بمضغة الإنسان في حلقه، يذهب بذلك إلى تصغيرها وتقليلها، وقال الجوهري: المضغة: قطعة لحم، وفي «الغريبين» وجمعها: مضغ، ويقال: مضيغة، ويجمع على مضائغ، ويقال: المضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ، كذا في «عمدة القاري»، وفيه: أنه يجوز في (مضغة) الرفع والنصب، كما سبق.
فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد نطفة، علقة، مضغة؟
قلت: هذه الأخبار الثلاثة تصدر من الملك في أوقات متعددة لا في وقت واحد، ولا يقال: ليس فيه فائدة الخبر، ولا لازمه؛ لأنَّ الله علام الغيوب؛ لأنا نقول: هذه إنَّما تكون إذا كان الكلام جاريًا على ظاهره، أما إذا عدل عن الظاهر؛ فلا يلزم أحد المذكورين، وههنا المراد: التماس إتمام خلقه أو الدعاء بإقامة الصورة الكاملة عليه، أو المراد: الاستعلام عن ذلك، ونحوها، ومثل هذا كثير واقع في القرآن أيضًا في قوله تعالى حكاية عن أم مريم عليها السلام: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} [آل عمران: 36]؛ فإنه يكون للاعتذار وإظهار التأسف والحزن) انتهى كلامه رحمه الباري.
(فإذا أراد) أي: الخالق تبارك وتعالى (أن يقضي) أي: يتم، وفي رواية الأصيلي: (فإذا أراد الله أن يقضي) (خلقه) أي: خلق ما في الرحم من النطفة التي صارت علقة، ثم صارت مضغة، ويجيء (القضاء) بمعنى: الفراغ أيضًا، كذا في «عمدة القاري»، وفيه: (وجه تطابق هذا الحديث للترجمة أنه يفسر المخلقة وغير المخلقة، فإن قوله هنا: «فإذا أراد أن يقضي خلقه» هو المخلقة وبالضرورة يعلم منه أنه إذا لم يرد خلقه؛ تكون غير مخلقة، وقد بين ذلك حديث رواه الطبري بإسناد صحيح من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا وقعت النطفة في الرحم؛
%ص 359%
بعث الله ملكًا، فقال: يا رب؛ مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة؛ مجها الرحم دمًا، وإن قال: مخلقة؛ قال: يا رب؛ فما صفة هذه النطفة؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، وهو موقوف لفظًا مرفوع حكمًا؛ لأنَّ الإخبار عن شيء لا يدركه العقل محمول على السماع) انتهى كلامه رحمه الباري
(قال) أي: الملك: (أذكر) هو (أم أنثى؟) فـ (ذكر) مبتدأ أو خبر، وعلى كونه خبرًا تكون لفظة (هو) المقدرة مبتدأ، ولا يقال: النكرة لا تقع مبتدأ؛ لأنَّ فيه من المسوغ لوقوعها مبتدأ هي كونها قد تخصصت بثبوت أحدهما؛ إذ السؤال فيه عن التعيين؛ فصلح الابتداء به وهو من جملة المخصصات؛ لوقوع المبتدأ نكرة، وفي رواية الأصيلي: (أذكرًا)؛ بالنصب، ووجهها إن صحت الرواية بها؛ أي: أتريد أو تخلق ذكرًا؟ كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (أشقي) هو؛ أي: عاصي لك يا رب (أم سَعِيْد) أي: مطيع لك، فـ: (شقي) مبتدأ أوخبر، كما سبق، وسوغ الابتداء به [2] وإن كان نكرة؛ لتخصيصه بثبوت أحد الأمرين؛ لأنَّ السؤال فيه عن التعيين، وفي رواية الأصيلي: (شقيًّا أم سَعِيْدًا)؛ بالنصب على تقدير: أتريد أو تخلق؟
فإن قلت: (أم) المتصلة ملزومة لهمزة الاستفهام، فأين هي؟
قلت: هي مقدرة، ووجودها في قرينتها يدل عليه، كما في قول الشاعر:
بسبع رمين الخمر أم بثمان ... .....
أي: أبسبع، انتهى.
(فما الرزق) أي: الحظ؛ لأنَّ الرزق في كلام العرب: الحظ، قال عز وجل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]؛ أي: حظكم من هذا الأمر، والحظ: هو نصيب الرجل، وما هو خاص به دون غيره، وقيل: الرزق: كل شيء يؤكل، أو يستعمل، وهذا باطل؛ لأنَّ الله تعالى أمرنا بأن ننفق ما رزقنا، فقال عز وجل: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} [المنافقون: 10]، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل؛ لما أمكن إنفاقه، وقيل: الرزق: هو ما يملك وهو لا يملك الولد والزوجة، وأما في عرف الشرع؛ فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحسن البصري: الرزق: هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، والحظر على غيره؛ أي: منعه من الانتفاع به، ولما فسرت المعتزلة الرزق بهذا؛ قالوا: الحرام لا يكون رزقًا، وقال أهل السنة: الحرام رزق؛ لأنَّه في أصل اللغة: الحظ والنصيب لما ذكرنا، فما انتفع بالحرام؛ فذلك الحرام حظًّا له ونصيبًا، فوجب أن يكون رزقًا، وأيضًا قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقول طول عمره لم يأكل من رزقه شيئًا، كذا قرره في «عمدة القاري»، (وما الأجل) ويروى: (والأجل)؛ بدون كلمة (ما [3])، و (الأجل): هو الزمان الذي علم الله أن الشخص يموت فيه، أو مدة حياته؛ لأنَّه يطلق على غاية المدة وعلى المدة، كذا في «عمدة القاري»، (فيكتب) على صيغة المعلوم، قيل: الضمير الذي هو فاعله هو الله تعالى، وقيل: يرجع إلى الملك، ويروى على صيغة المجهول، وهذه الكتابة يجوز أن تكون حقيقة؛ لأنَّها أمر ممكن، والله على كل شيء قدير، ويجوز أن تكون مجازًا عن التقدير، كذا قرره إمام الشارحين، ثم قال: (وبيان هذا في حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن داود، عن عامر، عن علقمة، عن ابن مسعود يرفعه: «أن النطفة إذا استقرت في الرحم؛ أخذها الملك بكفه، قال: أي رب؛ ذكر أم أنثى؟ ما الأمر؟ بأي أرض تموت؟ وقال له: انطلق إلى أم الكتاب؛ فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد صفتها في أم الكتاب») انتهى، وفي رواية الأصيلي: (قال: فيكتب) (في بطن أمه) ظرف لقوله: (يكتب) وهو المكتوب فيه، والشخص هو المكتوب عليه، كما تقول: كتبت في الدار، فإن في الدار ظرف؛ لقوله: كتبت، والمكتوب عليه خارج عن ذلك؛ والتقدير أزلي: وهو أمر عقلي محض، ويسمى قضاء، والحاصل في البطن تعلقه بالمحل الموجود، ويسمى قدرًا، والمكتوب: هو الأمور الأربعة المذكورة، كذا في «عمدة القاري».
وقد أوعدناك في اختلاف الرواية في بعثة الملك إلى الرحم، فظاهر الحديث هنا: يدل على أن بعثة الملك إليه عند وقوع النطفة في الرحم، وذكر في الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سَعِيْد»، وظاهر هذا: إرسال الملك بعد الأربعين الرابعة، وفي رواية: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة، فيقول: يا رب؛ شقي أم سَعِيْد؟»، وعند مسلم: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون، أو ثلاثة وأربعون، أو خمسة وأربعون»، وفي أخرى: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة؛ بعث الله إليها ملكًا يصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها»، وفي رواية حذيفة بن أُسَيْد: «إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك»، وفي أخرى: «إن ملكًا وكل بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئًا؛ يأذن له لبضع وأربعين ليلة»، وجمع العلماء بين هذا الاختلاف بأن الملائكة لازمة ومراعية لحال النطفة في أوقاتها، وأنه يقول: هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة في أوقاتها، وكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى وهو أعلم، ولكلام الملك وتصرفه أوقات؛ أحدها: حين يكون نطفة، ثم ينقلها علقة وهو أول علم الملك أنه ولد؛ إذ ليس كل نطفة تصير ولدًا، وذلك عقيب الأربعين الأولى، وحينئذٍ يكتب رزقه، وأجله، وشقي أو سَعِيْد، ثم للملك فيه تصرف آخر، وهو تصويره وخلق سمعه، وبصره، وكونه ذكرًا أو أنثى، وذلك إنَّما يكون في مدة الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، وقبل انقضاء هذه الأربعين، وقبل نفخ الروح فيه؛ لأنَّ النفخ لا يكون إلا بعد تمام صورته، والرواية السالفة (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة) ليست على ظاهره، بل المراد تصورها، وخلق سمعها إلى آخره، وأنه يكتب ذلك، ثم يفعله في وقت آخر؛ لأنَّ التصور عقيب الأربعين الثالثة حتى يكمل له أربعة أشهر، ودخوله في الخامس.
واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وقال الراغب: (ذكر الأطباء: أن الولد إذا كان ذكرًا؛ يتحرك بعد ثلاثة أشهر، وإن كان أنثى؛ بعد أربعة أشهر).
فإن قلت: وقع في رواية البخاري: «أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وشقي أم سَعِيْد،
%ص 360%
ثم ينفخ فيه الروح»، فأتى فيه بكلمة (ثم) التي هي تقتضي التراخي في الكتب إلى ما بعد الأربعين الثالثة، والأحاديث الثانية تقتضي الكتب عقيب الأربعين الأولى.
قلت: أجيب: بأن قوله: «ثم يبعث إليه الملك، فيؤذن بأربع كلمات فيكتب ... » معطوف على قوله: «فيجمع في بطن أمه»، ومتعلقًا به، لا بما قبله، وهو قوله: «ثم يكون مضغة مثله»، ويكون قوله: «ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله» معترضًا بين المعطوف والمعطوف عليه، وذلك جائز موجود في القرآن، والفصيح، وكلام العرب.
وقال القاضي عياض: (والمراد بإرسال الملك في هذه الأشياء: أمره بها والتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلا؛ فقد صرح في الحديث بأنه موكل بالرحم ملكًا، وأنه يقول: يا رب؛ نطفة، يا رب؛ علقة، وقوله في حديث أنس: «وإذا أراد الله أن يقضي خلقًا؛ قال: يا رب؛ أذكر أم أنثى؟» لا يخالف ما قدمناه، ولا يلزم منه أن يقول ذلك بعد المضغة، بل هو ابتداء كلام، وإخبار عن حالة أخرى، فأخبر أولًا بحال الملك مع النطفة، ثم أخبر أن الله تعالى إذا أراد خلق النطفة علقة؛ كان كذا وكذا، ثم المراد بجميع ما ذكر من الرزق، والأجل، والشقاوة، والسعادة، والعمل، والذكورة، والأنوثة يظهر ذلك للملك، فيأمره بإنفاذه، وكتابته، وإلا؛ فقضاء الله، وعلمه، وإرادته سابق على ذلك) انتهى.
ذكر ما يستنبط منه: قال إمام الشارحين: (اعلم: أن هذا الحديث جامع لجميع أحوال الشخص؛ إذ فيه بيان حال المبدأ؛ وهو ذاته ذكرًا أو أنثى، وحال المعاد؛ وهو الشقاوة، والسعادة، وما بينهما؛ وهو الأجل، وما يتصرف فيه؛ وهو الرزق، وقد جاء أيضًا: «فرغ الله من أربع: من الخَلق، والخُلق، والأجل، والرزق»، والخَلق _بفتح الخاء المعجمة_ إشارة إلى الذكورة والأنوثة، وبضمِّها إلى السعادة وضدِّها).
وقال المهلب: (إن الله تعالى علم أحوال الخلق قبل أن يخلقهم)، وهو مذهب أهل السنة، وأجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما أسقطته من ولد تام الخلق، واختلفوا فيمن لم يتم خلقه من المضغة والعلقة، فقال مالك والأوزاعي: تكون بالمضغة أم ولد مخلقة كانت أو غير مخلقة، وتنقضي بها العدة، وعن أبي القاسم: تكون أم ولد بالدم المجتمع، وعن أشهب: لا تكون به أم ولد وتكون بالمضغة والعلقة، وقال الإمام الأعظم رأس المجتهدين، والجمهور، وأصحابه، والشافعي: إن كان قد تبين في المضغة شيء من الخلق إصبع أو غير ذلك؛ فهي أم ولد، وعلى مثل هذا انقضاء العدة، وإلا؛ فلا.
وقال القاضي عياض: (ولم يختلف أن نفخ الروح فيه يكون بعد مئة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يقول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستحقاق، ووجوب النفقات، وذلك للنفسة بحركة الجنين في الجوف، وقيل: إن الحكمة في عدتها من الوفاة بأربعة أشهر والدخول في الخامس تحقُّقُ براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل، ونفخ الملك في الصورة سبب لخلق الله عنده فيها الروح والحياة؛ لأنَّ النفخ المتعارف إنَّما هو إخراج ريح من النافخ فيصل بالمنفوخ فيه، فإن قدر شيء عند ذلك النفخ؛ فذلك بإحداث الله تعالى لا بالنفخ، وغاية النفخ أن يكون سببًا عادة لا موجبًا عقلًا، وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة، والله أعلم) انتهى، وهو حسبي ونعم الوكيل الله.
==================
[1] في الأصل: (يعقدًا وييبسًا)، وهو تحريف.
[2] (به): تكرر في الأصل.
(1/544)
(18) [باب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (كيف تهل الحائض بالحج والعمرة؟)؛ يعني: كيفية إهلالها بهما، والمراد من الكيفية: الحال من الصحة، والبطلان، والجواز، وغير الجواز فكأنه قال: باب صحة إهلال الحائض، أو باب جوازها، والمقصود من الصحة أعم من أن تكون في الابتداء، أو في الدوام، والمناسبة بين البابين من حيث إن المؤلف أراد من وضع الباب السابق الإشارة إلى أن الحامل لا تحيض وهو حكم من أحكام الحيض، وهذا الباب أيضًا حكم من أحكام الحيض، وفيه نوع تعسُّف، وفي بعض النسخ: هذا الباب قد ذكر قبل الباب السابق، كذا قاله إمام الشارحين.
==================
(1/545)
[حديث: من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل]
319# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى ابن بكير) بضمِّ الباء الموحدة، وفتح الكاف، وسكون التحتية (قال: حدثنا الليث) هو ابن سعد _بسكون العين المهملة_ المصري الحنفي، (عن عُقَيل) بضمِّ العين المهملة، وفتح القاف، هو ابن خالد بن عَقيل _بفتح العين المهملة_ الأيلي، (عن ابن شهاب): هو محمَّد بن مسلم الزُهْرِي، (عن عروة) بضمِّ العين المهملة، هو ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما (قالت: خرجنا) أي: أنا والصحابة (مع النبي) الأعظم، وللأصيلي: (مع رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: من المدينة المنورة (في حجة الوداع)؛ بفتح الواو وكسرها، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، وإنما سميت بحجة الوداع؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ودع الناس فيها، (فمنا من أهل) أي: أحرم (بعمرة) أي: صاروا متمتعين، (ومنا من أهل) أي: أحرم (بحَِجة) أي: صاروا مفردين _بكسر الحاء المهملة، وفتحها، وبالتاء آخرها_ رواية المستملي، وفي رواية غيره: (بحج) بدون التاء، (فقدِمنا) بكسر الدال المهملة (مكة) المكرمة، (فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: لأصحابه الذين معه: (من أحرم بعمرة) بأن كان متمتعًا، (ولم يُهد)؛ بضمِّ الياء التحتية أوله من الإهداء، وهي جملة وقعت حالًا؛ (فيلحلل)؛ بكسر اللام من الثلاثي، وفي مثل هذه المادة يجوز الإدغام وفكه، كذا في «عمدة القاري»، والمراد: أنه يحل قبل يوم النحر حتى يحرم بالحج، (ومن أحرم بعمرة وأهدى) أي: الهدي؛ (فلا يحلُ)؛ بضمِّ اللام؛ أي: من إحرامه (حتى يَحِل)؛ بفتح المثناة التحتية أوله، وكسر الحاء المهملة، وفتح اللام (نحر هديه)؛ يعني: يوم العيد، ويروى: (بنحر هديه)؛ بزيادة الموحدة، لا يقال: إنه ممتنع، فلا بد له من تحلُّله عن العمرة، ثم إحرامه بالحج قبل الوقوف؛ لأنا نقول: لا يلزم أن يكون ممتنعًا؛ لجواز أن يدخل الحج في العمرة، فيصير قارنًا، فلا يتحلل، كذا قاله إمام الشارحين، (ومن أهل بحجة) كذا هو في رواية المستملي، والحمُّوي، وفي رواية غيرهما: (بحج)؛ بدون التاء؛ ومعناه: أهلَّ بحجة،
%ص 361%
ونوى الإفراد سواء كان معه هدي أم لا، ولهذا لم يقيد بـ (لم يهد)، ولا بـ (أهدى)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، (فليتم حجه) مطلقًا سواء كان معه هدي أم لا، (قالت) أي: السيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها: (فحضت)؛ أي: طرأ عليها الحيض بسرف، (فلم أزل حائضًا) أي: استمر بها دم الحيض (حتى كان) هي تامة (يوم عرفة) فـ (يوم) مرفوع (ولم أُهلِل) بضمِّ الهمزة، وكسر اللام الأولى (إلا بعمرة) فيحتمل أنها فعلت العمرة بحضرة النبيِّ الأعظم عليه السلام، ويحتمل أنها فعلت ذلك وسألته بعد الفراغ، ويحتمل أنها لم تفعله، بل سألته عن ذلك، والظاهر الأول، فلما رآها عليه السلام؛ أمرها، ولهذا قالت: (فأمرني النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم أن أنقض)؛ بالقاف؛ أي: أحل وأفك (رأسي) أي: شعره، (و) أمرني أن (أمتشط) أي: أسرحه، (و) أمرني أن (أُهل) بضمِّ الهمزة وبلام واحدة آخره (بحج)؛ أي بأن أنوي الإفراد به، (و) أمرني أن (أترك العمرة) أي: أبطلها، وهذا صريح بفسخ العمرة وهو حجة على الشافعي وأصحابه؛ فافهم.
(ففعلت) أي: فعلت النقض، والامتشاط، والإهلال بالحج، وترك العمرة (حتى قضيت حجتي) بالمثناة الفوقية رواية الأكثرين، وفي رواية: (حجي) بدونها، (فبعث) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (معي) يعني: امتثلت أمره وذهبت، فبعث معي أخي (عبد الرحمن بن أبي بكر) أي: الصديق الأكبر رضي الله عنه، (فأمرني) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بالفاء العاطفة، وفي رواية بدونها؛ أي: وأمرني (أن اعتمر مكان عمرتي من التنعيم) متعلق بقوله: (اعتمر) ففيه أن الحائض تهل بالحج والعمرة وتبقى على إحرامها وتفعل ما يفعل الحاج كله غير الطواف، فإذا طهرت؛ اغتسلت وطافت وأكملت حجها، وأمر النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها أن تنقض شعرها وتمتشط وهي حائض ليس للوجوب، وإنما ذلك؛ لإهلالها بالحج؛ لأنَّ من سنة الحائض والنفساء أن يغتسلا له، كذا في «عمدة القاري»، والله الهادي.
ومطابقة الحديث للترجمة في قولها: (وأهل بحج) فإن فيه إهلال الحائض بالحج؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها كانت حائضة حين أهلت بالحج، وعلى قول مَن قال: إنها كانت قارنة؛ كانت المطابقة أظهر؛ لأنَّها أحرمت بالحج وهي حائض وكانت معتمرة؛ فلهذا قالت: (أمرني النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن أترك العمرة)، وترك الشيء لا يكون إلا بعد وجوده، أفاده إمام الشارحين رحمه أرحم الراحمين، اللهم؛ فرج عنا بكرمك يا أكرم الأكرمين آمين.
==================
(1/546)
(19) [باب إقبال المحيض وإدباره]
هذا (باب) بيان (إقبال الحيض وإدباره) وعلامة ذلك الزمان والعادة، فإذا أقبلت عادتها؛ تحرت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وأصحابه، والجمهور، وقال مالك: إقبال الحيض: هو الدفعة من الدم، وإدباره: إقبال الطهر، والمناسبة بين البابين من حيث وجود حكم الحيض في كل منهما، ثم أورد الأثر الذي ذكره مالك في «الموطأ» عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (وكن)؛ بصيغة جمع المؤنث، وفيه ضمير يرجع إلى النساء، ويسمى هذا الضمير بالضمير المبهم، وجوز ذلك بشرط أن يكون مشعرًا بما بعده، فإذا كان كذلك؛ لا يقال: إنه إضمار قبل الذكر (نساء) بالرفع؛ لأنَّه بدل من الضمير الذي في (كن)، وهذا على لغة (أكلوني البراغيث)، وفائدة ذكره بعد أن علم من لفظ (كن) إشارة إلى التنويع والتنوين فيه يدل عليه، والمراد: أن ذلك كان من بعضهن لا من كلهن، كذا في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أن التنكير في النساء للتنويع، انتهى.
قلت: ورد هذا إمام الشارحين؛ حيث قال: قلت: إن لم يكن هذا مصحفًا من الناسخ؛ فهو غلط؛ لأنَّه ما ثَمَّ [1] كسر في النساء وإنما فيه الرفع، كما ذكر، أو النصب على الاختصاص، لا يقال: إنه نكرة، وشرط النصب على الاختصاص أن يكون معرفة؛ لأنا نقول: قد جاء نكرة كما جاء في معرفة، وقال الهذلي:
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثًا مراضيع مثل السعالي
انتهى كلامه، رحمه الباري.
وفي رواية مالك في «الموطأ»: (كان النساء) (يبعثن إلى عائشة) أي: الصديقة زوجة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ورضي عنها (بالدُّرْجة) بضمِّ الدال، وسكون الراء المهملتين، قاله ابن قرقول، قال: (وقيل: بكسر الدال، وفتح الراء)، وعند الباجي: بفتح الدال والراء، وقال ابن قرقول: (وهي بعيدة عن الصواب)، وقال أبو المعالي: (والدرْج؛ بالتسكين: حفش النساء، والدرجة: شيء يدرج فيدخل في حياء الناقة، ثم تشمه فيقطعه ولدها قدام أمه)، وكذا ذكره القزاز، وصاحب «الصحاح»، وابن سيده، وزاد: (والدرجة أيضًا: خرقة توضع فيها دواء، ثم تدخل في حياء الناقة، وذلك إذا اشتكت منه)، وفي «الباهر»: (الدرجة؛ بالكسر، والإدراج جمع الدرج؛ وهو سقط صغير، والدرجة مثل رطبة)، وقال ابن دريد: (الدرج: سقط صغير تجعل فيه المرأة طيبها وما أشبهه)، وقال ابن قرقول: (ومن قال بكسر الدال، وفتح الراء؛ فهو عنده جمع درج؛ وهو سقط صغير؛ نحو: جرح وجرحه، ونحو: ترس وترسه)، كذا قرره إمام الشارحين، (فيها الكُرْسُف)؛ بضمِّ الكاف، وإسكان الراء، وضم السين المهملة، آخره فاء؛ وهو: القطن، كذا قاله أبو عبيد، وقال الدينوري: وزعم بعض الرواة أنه يقال له: الكرفس، على القلب، ويجمع الكرسف على كراسيف) (فيه) أي: في القطن (الصُفْرَة)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وسكون الفاء، وفتح الراء، وهي علامة حاصلة من أثر دم الحيض بعد وضع ذلك في الفرج؛ لاختبار الطهر، وقال في «المحكم»: (وإنما اختير القطن لبياضه، ولأنَّه ينشف الرطوبة فيظهر فيه من آثار الدم ما لا يظهر من غيره)، كذا في «عمدة القاري».
(فتقول)؛ أي: عائشة رضي الله عنها، وفي الكلام حذف دل عليه رواية مالك، ولفظه: (فيه الصفرة من دم الحيض يسألنها عن الصَّلاة، فتقول لهن:) (لا تعجلْن) بسكون اللام، والمثناة التحتية، نهي لجمع المؤنث المخاطبة، ويأتي كذلك للجمع المؤنث الغائبة، ويجوز هنا الوجهان، وكذا في (ترين)؛ فافهم أفاده إمام الشارحين؛ والمعنى: لا تعجلن بإقدامكنَّ على الصَّلاة بظن الطهر، بل (حتى ترين) صيغة جمع المؤنث المخاطبة، وأصلها: (ترييين) على وزن (تفعلين)؛ لأنَّها من رأى يرأى: رؤية بالعين، وتقول للمرأة: أنت ترين، وللجماعة: أنتن ترين؛ لأنَّ الفعل للواحدة، والجماعة سواء في المواجهة في خبر المرأة من بنات الياء [2]، إلا أن النون التي في الواحدة علامة الرفع، والتي في الجمع نون الجمع.
فإن قلت: إذا كان أصل (ترين) تريين، كيف فعل به حتى صار ترين؟
قلت: نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم قلبت ألفا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت؛ لالتقاء الساكنين، فصار (ترين) على وزن (تفلن)؛ لأنَّ المحذوف منه عين الفعل وهو الهمزة فقط، ووزن الواحدة تفين؛ لأنَّ المحذوف منه عين الفعل ولامه، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الكريم الباري.
%ص 362%
(القَصَّة البيضاء)؛ بفتح القاف، وتشديد الصاد المهملة، وفي تفسيرها أقوال؛ قال ابن سيده: (القصة والقص: الجص، وقيل: الحجارة من الجص)، وقال الجوهري: (هي لغة حجازية، يقال: قصص داره؛ أي: جصصها، ويقال: القصة: القطنة أو الخرقة البيضاء التي تحتشي بها المرأة عند الحيض)، وقال القزاز: (القصة: الجص، هكذا قرأته بالقاف، وحكيت بالكسر)، وفي «المغرب»، و «الجامع»، و «الغريبين»: (القصة: شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كله)، وقال في «المحيط»: (من كتب الأئمَّة الحنفية: القصة: الطين الذي تغسل به الرأس، وهو أبيض يضرب إلى الصفرة، وجاء في الحديث: «الحائض لا تغتسل حتى ترى القصة البيضاء» أي: التي تخرج القطنة البيضاء التي تحتشي بها كأنها جصة لا تخالطها صفرة).
قال إمام الشارحين: (قلت: أريد بها: التشبيه بالجصة في البياض والصفاء، وأنث؛ لأنَّه ذهب إلى المطابقة، كما حكى سيبويه من قولهم: لبنة وعسلة) انتهى.
وقال ابن قرقول: قد بين [ذلك] مالك القصة بقوله: (تريد)؛ أي: عائشة رضي الله عنها (بذلك) أي: بقولها حتى ترى القصة البيضاء (الطهر من الحيضة) وفسره الخطابي: (بالبياض التام)، وقال ابن وهب: (رأت القطن الأبيض كأنه هو)، قال مالك: (سألت النساء عن القصة البيضاء، فإذا ذلك أمر معلوم عندهن يرينه عند الطهر)، وروى البيهقي من حديث ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن فاطمة بنت محمَّد وكانت في حجر عمرة، فقالت: أرسلت امرأة من قريش إلى عمرة كرسفة قطن [3] فيها: أظنه أراد الصفرة، تسألها [4] إذا لم ترين الحيضة إلا هذا؛ طهرت، قال: فقالت: لا، حتى ترى البياض خالصًا، وهو مذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وبه قال مالك والشافعي؛ فإن رأت صفرة في زمن الحيض ابتداء؛ فهو حيض عندهم، وقال الإمام أبو يوسف: (ليس بحيض حتى يتقدمها دم)، كذا في «عمدة القاري».
وقال الهروي: (معنى القصة: أن يخرج ما تحتشي به الحائض نقيًّا؛ كالقصة، كأنه ذهب إلى الجفوف [5])، وقال القاضي عياض: (وبينهما عند النساء وأهل المعرفة فرق بيِّن)، وقال في «المصابيح»: (وسببه أن الجفوف عدم، والقصة وجود، والوجود أبلغ دلالة على أن الرحم قد يجف في أثناء الحيض، وقد تنظف الحائض فيجف رحمها ساعة، والقصة لا تكون إلا طهرًا) انتهى.
وفي ذلك دليل على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، ومطابقة هذا الأثر للترجمة في قولها: (حتى ترى القصة البيضاء) فإنها علامة إدبار الحيض، قاله إمام الشارحين، ثم قال: (وهذا الأثر رواه مالك في «الموطأ»، فقال: عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة أنها قالت ... ) إلخ.
وقال ابن حزم: خولفت أم علقمة بما هو أقوى من روايتها، واسم علقمة مرجانة، سماها ابن حبان في كتاب «الثقات»، وقال العجلي: (مدنية تابعية ثقة)، وفي «التلويح»: كذا ذكر البخاري هذا معلقًا مجزومًا به، وبه تعلق النووي، فقال: هذا تعليق صحيح؛ لأنَّ البخاري ذكره بصيغة الجزم، وما علم أن هذه العبارة قد لا تصح كما سبق في بيانه في كثير من التعاليق المجزوم بها عند البخاري، ولو نظر كتاب «الموطأ» لمالك بن أنس؛ لوجده قد قال: عن علقمة ... إلى آخره، ولو وجد ابن حزم؛ لما ذكره، قال: خولفت أم علقمة بما هو أقوى من روايتها.
قال إمام الشارحين: (قلت: حاصل كلامه أنه يرد على النووي في دعواه الجزم به، ولهذا قال ابن الحصار: هذا حديث خرجه البخاري من غير تقييد) انتهى.
وفي ختام جمادى أول سنة ثمان وسبعين جاءت وزارة الصدارة لفؤاد باشا، وصارت زينة في ديارنا ثلاثة أيام، والله الكريم أسأل أن يفرج عنا ما أهمنا برحمته وكرمه وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه.
(وبلغ) بالغين المعجمة (بنت) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية: (ابنة) (زيد بن ثابت) وهي أم سعد، بسكون العين المهملة، قال إمام الشارحين: (هكذا وقع هنا ذكر (بنت زيد) مبهمًا، وكذا وقع في «موطأ مالك» فإنه أخرجه في «موطَّئه»: (عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته، عن ابنة زيد بن ثابت)؛ فذكره، وعمة ابن أبي بكر اسمها عمرة بنت حزم، واختلف في بنت زيد المذكورة، وقال الحافظ الدمياطي: (لزيد بن ثابت من البنات أم إسحاق وحسنة، وعمرة، وأم كلثوم، وأم حسن، وأم محمَّد، وفزيبة، وأم سعد)، وقال في «التوضيح»: (ويشبه أن تكون هذه المبهمة أم مسعد؛ فقد ذكرها ابن عبد البر في الصحابيات) انتهى.
وزعم ابن حجر أنه لم ير للواحدة منهن؛ يعني: من بنات زيد رواية إلا لأم كلثوم، وكانت زوج سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فكأنها هي المبهمة ههنا، وزعم بعض الشراح أنها أم سعد، قال: لأنَّ ابن عبد البر ذكرها في الصحابة، ثم قال ابن حجر: (وليس في ذكره لها دليل على المدعى؛ لأنَّه لم يقل: إنها صاحبة هذه القصة، بل لم يأت لها ذكر عنده ولا عند غيره إلا من طريق عنبسة بن عبد الرحمن، وقد كذبوه وكان مع ذلك يضطرب فيها، فتارة يقول: بنت زيد، وتارة يقول: امرأة زيد، ولم يذكر أحد من أهل الحديث بالنسب في أولاد زيد من يقال لها: أم سعد) انتهى.
قلت: وكلام هذا القائل قريب الفساد، وقد رده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: قلت: قد ذكره الذهبي فقال: أم سعد بنت زيد بن ثابت، وقيل: امرأته، وأيضًا عدم رؤية هذا القائل رواية لواحدة من بنات زيد إلا لأم كلثوم لا ينافي رواية غيرها من بناته؛ لأنَّه ليس من شأنه أن يحيط بجميع الروايات.
وقوله: (وزعم بعض الشراح) أراد به: صاحب «التوضيح» فليت شعري؛ ما الفرق بين زعم هذا وزعمه هو؟ حيث قال: (فكأنها هي المبهمة)؛ أي: أم كلثوم هي المبهمة في هذا الأثر؛ على أن صاحب «التوضيح» ما جزم بما قاله، بل قال: ويشبه أن تكون هذه المبهمة أم سعد) انتهى.
قلت: والحق أن هذه المبهمة هنا هي أم سعد، فإنها صحابية، ولا يلزم أن تكون صاحبة هذه القصة، كما زعمه ابن حجر ردًّا على صاحب «التوضيح»؛ لأنَّ بنت زيد هذه بلغها هذه القصة، كما هو صريح عبارة البخاري ومالك في «الموطأ»؛ فلا يلزم حضورها، بل بلوغها ذلك كاف على أنه قد جاءت الرواية عنها من طرق متعددة، وإن زعم ابن حجر التكذيب في بعضها؛ لأنَّها قد تقوت باختلافها، وقوله هذا تعصُّب وعناد؛ لأنَّه ليس من شأنه أن يحيط بجميع الرواة، بل شأنه ينظر لكلام الفحول من الرجال، وليس هو رجلًا يعد، بين هذهالرجال؛ فإنه قد نفى أم سعد من بنات زيد وقد أثبتها الحافظ الذهبي، كما سمعت كلامه، وما هذا إلا لعدم اطِّلاعه على ما ذكره أهل الحديث من الحفاظ، وهذا يدل على فساد من يدعي أن ابن حجر حافظ، بل ليس بشارح كما ينبغي، فكيف يدعى أنه حافظ؟!؛ لأنَّ الحفاظ لا يصدر منهم كذب ونفي واختلال، وهذا قد صدر من هذا القائل؛ فهو ليس
%ص 363%
بشيء يعبأ به؛ فافهم.
(أَن) بفتح الهمزة (نساء) بالتنكير في أكثر الروايات، وفي رواية بالتعريف، والأول أعم، والمراد من التعريف: العهد، وهو نساء الصحابة رضي الله عنهنَّ، أفاده إمام الشارحين (يدعون) بلفظ الجمع المؤنث، ويشترك في هذه المادة الجمع المذكر والمؤنث، وفي التقدير يختلف، فوزن الجمع المذكر: يفعون، ووزن الجمع المؤنث: يفعلن، أفاده في «عمدة القاري» (بالمصابيح): جمع مِصباح _بكسر الميم_؛ وهو النور في الوعاء؛ والمعنى: يطلبن المصابيح (من جوف)؛ أي: وسط (الليل) أي: في جوفه، فـ (من) بمعنى في؛ لأنَّ حروف الجر يستعار بعضها لبعض (ينظرن) أي: بالمصابيح (إلى) ماء الكراسيف حتى يقفن على ما يدل على (الطهر) أي: من القطنة، وفي رواية الكشميهني: (يدعين)، زعم ابن حجر أن في نسبة هذا إليه نظر لا يخفى، وقال صاحب «القاموس»: (تكلم فيه) انتهى.
قلت: انظر إلى هذا الكلام المتناقض، ونظر هذا القائل مردود عليه، فإن توجيه هذه الرواية ممكن بأن يكون المراد كل فرد من أفراد النساء تدعى المصباح؛ لتنظر إلى الطهر، على أن أصل تدعين تدعون، كما هو مقرر في كتب التصريف؛ فافهم.
(فقالت) أي: أم سعد بنت زيد لهنَّ: (ما كان النساء) أي: الصحابيات (يضعن هذا) أي: طلب المصابيح؛ لينظرن إلى الطهر في جوف الليل، (وعابت) أي: أم سعد المذكورة (عليهنَّ) أي: على النساء المذكورة، وهذا يعين رواية التنكير، وأن المراد: الأعم؛ فافهم، قال إمام الشارحين: (وإنما عابت عليهن؛ لأنَّ ذلك يقتضي الحرج وهو مذموم، وكيف لا وجوف الليل ليس إلا وقت الاستراحة؟! أو لكون ذلك كان في غير وقت الصَّلاة، وهو جوف الليل) انتهى.
وزعم ابن حجر أن فيه نظر؛ لأنَّه وقت العشاء، ورده صاحب «عمدة القاري» إمام الشارحين، حيث قال: (قلت: فيه نظر؛ لأنَّه لم يدل شيء أنه كان وقت العشاء؛ لأنَّ طلب المصابيح لأمر غالبًا لا يكون إلا في شدة الظلمة، وهي لا تكون إلا في جوف الليل)، وروى البيهقي من حديث عباد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرة عن عائشة: (أنها كانت تنهى النساء أن ينظرن إلى أنفسهنَّ ليلًا في الحيض، وتقول: إنها قد تكون الصفرة والكدرة)، وعن مالك: لا يعجبني ذلك، ولم يكن للناس مصابيح، وعنه: (أنهن كن لا يقمن بالليل) انتهى كلامه
قلت: ونظر ابن حجر غير وارد، وهو مردود عليه؛ لأنَّ المقصود من عيبها عليهن ليلًا؛ لوجود الظلمة التي تؤدي إلى اختلاف ألوان الدم وليس هو؛ لكون الوقت وقت العشاء، يدل لهذا حديث عائشة الذي ذكره إمام الشارحين، فإنه بيَّن فيه أن علة ذلك خوف عدم بيان الصفرة والكدرة، وكأن ابن حجر لم يطلع على حديث عائشة فقال ما قال؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري»: (وقال صاحب «التوضيح»: يشبه أن تكون ابنة زيد عابت على النساء كان في أيام الصوم لينظرن الطهر لنية الصوم؛ لأنَّ الصَّلاة لا تحتاج لذلك؛ لأنَّ وجوبها عليهن إنَّما يكون بعد طلوع الفجر.
واختلف الفقهاء في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر، ولا تغتسل حتى يطلع الفجر؛ فقال الإمام الأعظم رأس المجتهدين رضي الله عنه: إن كانت أيامها أقل من عشرة؛ صامت وقضت، وإن كانت عشرة؛ صامت ولم تقض، وقال مالك، والشافعي، وأحمد: هي بمنزلة الجنب تغتسل وتصوم، ويجزئها صوم ذلك اليوم، وعن ابن الماجشون: يوم ذلك يوم فطر، وقال الأوزاعي: تصومه وتقضيه، وفي «القواعد» لابن رشد: اختلفوا في علامة الطهر؛ فقال قوم: إن علامته القصة أو الجفوف، وقال ابن حبيب: سواء كانت المرأة من عادتها أن تطهر بهذه أو بهذه، وفرق قوم فقالوا: إن كانت ممن لا تراها؛ فطهرها الجفوف، وقال ابن حبيب: الحيض أوله دم، ثم يصير صفرة، ثم تُربيَّة، ثم كدرة، ثم يكون ريقًا كالقصة؛ ثم ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل وخفي أصلًا؛ فذلك إبراء الرحم، وفي «المنصف»: عن عطاء: الطهر الأبيض: الجفوف الذي ليس معه صفرة ولا ماء، الجفوف الأبيض، وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: وسئلت عن الصفرة اليسيرة، فقالت: اعتزلن الصَّلاة ما رأين ذلك حتى لا ترين إلا لبنًا خالصًا) انتهى.
والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم، إنَّه تواب كريم.
==========
[1] في الأصل: (تم)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (الهاء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (قلن)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (تسأله)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (الجفوق)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (تم)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (الهاء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (قلن)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (تسأله)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (تم)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (الهاء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (قلن)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (تسأله)، وليس بصحيح.
(1/547)
[حديث: ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة]
320# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن محمَّد) هو المسندي (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عيينة، لا يقال: إنه الثوري؛ لأنا نقول: إن المسندي هذا لم يسمع من الثوري، بل من ابن عيينة، فهو المتعين، (عن هشام) هو ابن عروة، (عن أبيه) هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائش) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أن فاطمة بنت أبي حُبَيْش) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره شين معجمة (كانت تُستحاض)؛ بضمِّ المثناة الفوقية أوله، مبينًا للمفعول؛ أي: يستمر معها الدم، (فسألت النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: عن دم الاستحاضة ما حكمه؟ (فقال) عليه السلام لها: (ذلكِ)؛ بكسر الكاف (عِرْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الراء المهملة، يسمى بالعاذل، (وليست بالحَيضة) بفتح الحاء المهملة وبكسرها، (فإذا أقبلت الحيضة) عليك؛ (فدعي الصَّلاة) أي: أيام الحيض، (وإذا أدبرت) أي: انقطع دم الحيض، وهذا محل مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (فإذا أقبلت) و (إذا أدبرت)، وهذا الحديث قد سبق في باب (غسل الدم)، ولفظه هناك: «فإذا أدبرت؛ فاغسلي عنك الدم وصلي»، من غير إيجاب الغسل، وقال عروة: (ثم توضئي لكل صلاة)؛ بإيجاب الوضوء، وههنا قال: (فاغتسلي وصلي) بإيجاب الغسل؛ لأنَّ أحوال المستحاضة مختلفة، فيوزع عليها، أو نقول: إيجاب الغسل والتوضؤ لا ينافي عدم التعرض لهما، وإنما ينافي التعرض لعدمهما، وقوله: (فاغتسلي وصلي) لا يقتضي تكرار الاغتسال لكل صلاة، بل يكفي غسل واحد، ولا يرد عليه حديث أم حبيبة كانت تغتسل لكل صلاة؛ لأنَّها لعلها كانت من المستحاضات التي يجب عليها الغسل لكل صلاة، أو لعلها كانت تفعله تطوُّعًا؛ لأنَّه ليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، أفاده إمام الشارحين، وقد سبق هذا الحديث في باب (الاستحاضة) أيضًا، وتقدم الكلام عليه مستوفًى، فلا حاجة إلى الإعادة، والله أعلم.
==========
%ص 364%
==================
(1/548)
(20) [باب: لا تقضي الحائض الصلاة]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (لا تقضي الحائض): ومثلها النفساء (الصَّلاة) أي: المفروضة، وإنما قال: لا تقضي الصَّلاة، ولم يقل: تدع الصَّلاة، كما في حديث جابر وأبي سَعِيْد؛ لأنَّ عدم القضاء أعم وأشمل، والمناسبة بين البابين من حيث إن في الباب الأول ترك الصَّلاة عند إقبال الحيض، وهذا الباب فيه كذلك، أفاده إمام الشارحين، (وقال جابر بن عبد الله) كذا في أكثر الروايات، وسقط لفظ: (ابن عبد الله) في رواية، (وأبو سَعِيْد) بكسر العين المهملة؛ هو الخدري رضي الله عنهما، (عن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه قال: (تدع) أي: الحائض، وكذا النفساء (الصَّلاة): قال إمام الشارحين: مطابقة هذا التعليق للترجمة من حيث ترك الصَّلاة، فإنه يستلزم عدم القضاء؛ لأنَّ الشارع أمر بالترك، ومتروك الشرع لا يجب فعله، فلا يجب قضاؤه إذا ترك.
أما التعليق عن
%ص 364%
جابر؛ فقد أخرجه البخاري في كتاب (الأحكام) من طريق حبيب عن جابر في قصة حيض عائشة في الحج، وفيه: (غير أنها لا تطوف ولا تصلي)، ومعنى قوله: (تدع الصَّلاة) رواه مسلم بنحوه من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه.
وأما التعليق عن أبي سَعِيْد الخدري؛ فأخرجه أيضًا في باب (ترك الحائض الصوم)، وفيه: (إذا حاضت؛ لم تصم)، كذا في «عمدة القاري».
فإن قلت: عقد الباب في القضاء لا في الترك، والترك مطلقًا أداء وقضاء؟
قلت: عقد الباب في عدم القضاء وعدم القضاء ترك، والترك أعم، قاله الكرماني، واعترضه ابن حجر، فزعم أن الذي ظهر له أن هذا الكلام صادر من غير تأمل؛ لأنَّ الترك والقضاء بمعنًى واحد في الحقيقة، وكلامه يشعر بالتباين بينهما، فإذا سلمنا ذلك؛ كان يتعين عليه أن يشير إليهما في الترجمة، وحيث لم يشر إلى ذلك فيها؛ علمنا أن ما بينهما مغايرة؛ فلذلك اقتصر في الترجمة على أحدهما) انتهى.
قلت: وكلام هذا القائل هو الصادر عن غير تأمل وفكر، فإن الترك والقضاء ليسا بمعنًى واحد؛ لأنَّ الترك قد يكون لغير قضاء، وقد يكون لقضاء، فهو مشترك بينهما، فالترك لا ريب أنه أعم وأشمل، وكلام المؤلف يشير إلى هذا؛ لأنَّ قوله: (لا تقضي الحائض) يشعر بأنها تركت الصَّلاة في أيام الحيض تركًا مؤبدًا؛ يعني: إلى غير قضاء، فقد أشار في الترجمة إلى ما قلنا، وانظر كلام هذا القائل حيث يستند إلى المعنى اللغوي من الترجمة، ويعترض عليه ويترك حقائق الكلام، وما هذا إلا من قلة البضاعة، وقصر الهمة، فكلام الكرماني صحيح، وكلام هذا القائل قبيح؛ فافهم، وعجبت من إمام الشارحين؛ لمَّا لم يتعرض لذلك وكأنه بيَّض له فاخترمته المنية، فرحمه الله تعالى آمين.
==================
(1/549)
[حديث: كنا نحيض مع النبي فلا يأمرنا به]
321# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل): هو المنقري التبوذكي (قال: حدثنا همَّام)؛ بالتشديد، هو ابن يحيى بن دينار العوذي، مات سنة ثلاث وستين ومئة (قال: حدثنا قتادة): هو الأكمه المفسر المشهور (قال: حدثتني) بالإفراد والتأنيث (مُعاذة)؛ بضمِّ الميم، وبالعين المهملة، وبالذال المعجمة، هي بنت عبد الله العدوية الزاهدة، كانت تحيي الليل، ماتت سنة ثلاث وثمانين، قال إمام الشارحين: (وفيه تصريح بسماع قتادة عن معاذة، وهو رد على ما ذكره شعبة وأحمد أنه لم يسمع منها) انتهى.
(أن امرأة) أبهمها همَّام، وبين في روايته عن قتادة: أنها هي معاذة الراوية، وأخرجه الإسماعيلي من طريقه، وكذا مسلم من طريق عاصم وغيره عن معاذة، أفاده إمام الشارحين، وتمامه في «عمدة القاري»، (قالت لعائشة) أي: الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما، وفي رواية مسلم: (قالت: سألت عائشة: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصَّلاة؟) (أتَجزِي)؛ بفتح المثناة الفوقية، وكسر الزاي، غير مهموز، وحكى بعضهم الهمز؛ ومعناه: أتقضي، وبه فسروا قوله تعالى: {لَّاتَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123]، ويقال: هذا الشيء يجزي عن كذا؛ أي: يقوم مقامه، كذا في «عمدة القاري»، (إحدانا صلاتَها)؛ بالنصب على المفعولية، ويروى: (أتُجزَى) على صيغة المجهول، وعلى هذا؛ (صلاتُها) بالرفع؛ لأنَّه مفعول قام مقام الفاعل؛ ومعناه: أتكفي المرأة الصَّلاة الحاضرة، ولا يحتاج إلى قضاء عن الفائتة؟ أفاده إمام الشارحين، (إذا طَهُرت) بفتح الطاء المهملة، وضم الهاء؛ أي: من الحيض؛ (فقالت) أي: عائشة رضي الله عنها لها: (أحَرُورية) بفتح الحاء المهملة، وضم الراء الأولى المخففة (أنتِ؟)؛ بكسر التاء، جملة من المبتدأ، وهو (أنتِ)، والخبر وهو (أحرورية)، دخلت عليها همزة الاستفهام الإنكاري، وفائدة تقديم الخبر الدلالة على الحصر؛ أي: أحرورية أنت لا غير؟ وهي نسبة إلى حروراء؛ قرية بقرب الكوفة، وكان أول اجتماع الخوارج فيها، وقال الهروي: (تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها)، فمعنى كلام عائشة هذا: أخارجية أنت؟ لأنَّ طائفة من الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصَّلاة الفائتة في زمن الحيض، وهو خلاف الإجماع.
وكبار فرق الحرورية ستة: الأزارقة، والصفرية، والنجدات، والعجاردة، والإباضية، والثعالبة، والباقون فروع، وهم الذين خرجوا على سيدنا علي الصدِّيق الأصغر رضي الله عنه، ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما، ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، وكان خروجهم على عهد علي الصدِّيق الأصغر رضي الله عنه لما حكَّم أبا موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، وأنكروا على علي رضي الله عنه في ذلك، وقالوا: شككت في أمر الله تعالى، وحكَّمت عدوك، وطالت خصومتهم، ثم أصبحوا يومًا وقد خرجوا ثمانية آلاف وأميرهم ابن الكوا عبد الله، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس رضي الله عنهم فناظرهم، فرجع منهم ألفان وبقيت ستة آلاف، فخرج إليهم علي الصدِّيق الأصغر فقاتلهم، وكانوا يشددون في الدين ومنه: قضاء الصَّلاة على الحائض؛ إذ لم يسقط في كتاب الله عنها على أصلها.
وقد قلنا: إن حروراء اسم قرية؛ وهي ممدودة، وقال بعضهم بالقصر أيضًا، حكاه أبو عبيد.
وزعم أبو القاسم الغوراني أن حروراء هذه موضع بالشام وفيه نظر؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه إنَّما كان بالكوفة، وقتالهم له إنَّما كان هناك، ولم يأت أنه قاتلهم بالشام؛ لأنَّ الشام لم تكن في طاعة علي رضي الله عنه، وعلى ذلك اتفق المؤرخون، والنسبة إلى حروراء حروراوي، وكذلك كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة، ولكنه نسب إلى البلد بحرف الزوائد، فقيل: الحروري، كذا قرره في «عمدة القاري»، وزاد في رواية مسلم: (قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل) قالت: يعني: أسأل سؤالًا لمجرد العلم لا للتعنُّت.
(كنا) وللأصيلي: (قد كنا)؛ أي: نساء الصحابة رضي الله عنهم (نحيض مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: مع وجوده أو في عهده، والغرض منه: بيان أنه عليه السلام كان مطلعًا على حالهنَّ من الحيض، وتركهنَّ الصَّلاة في أيامه، (فلا) وفي رواية الأصيلي: (ولا) (يأمرنا به) أي: وقد كان عليه السلام لا يأمرنا بقضاء الصَّلاة، ولو كان واجبًا؛ لأمرهنَّ به، فإن التقرير على ترك الواجب غير جائز؛ فلا يجب قضاؤها، (أو قالت) أي: عائشة رضي الله عنها؛ فإنها المخبرة على ما وقع في عهده عليه السلام في النساء الحُيَّض، وما زعمه القسطلاني من أنها معاذة خطأ ظاهر؛ لأنَّ معاذة سائلة، والجواب من عائشة، وهذا جوابها، نعم، الشك في الجواب من معاذة، كما يأتي؛ فافهم.
(لا نفعله) أي: القضاء ولفظة (أو) للشك، قال الكرماني: والظاهر أنه من معاذة، وعند الإسماعيلي من وجه آخر: فلم نكن نقضي ولم نؤمر، كذا في «عمدة القاري»، وفي الحديث دليل: على أن الحائض لا تقضي الصَّلاة، ولا خلاف في ذلك بين الأمة إلا لطائفة من الخوارج، قال الزُهْرِي: (تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصَّلاة)، قال معمر: (قلت: عمَّن، قال: أجمع المسلمون عليه، وليس في كل شيء يجد الإسناد القوي، أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا يجب عليهما الصوم ولا الصَّلاة في الحال، وعلى أنه لا يجب عليهما قضاء الصَّلاة، وعليهما قضاء الصوم، والفرق بينهما: أن الصَّلاة كثيرة متكررة، فيشق قضاؤها، بخلاف الصوم؛ فإنه يجب في السنة مرة واحدة).
ومذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين: أنه يستحب للحائض والنفساء أن تتوضأ عند كل وقت صلاة،
%ص 365%
وتجلس في مسجد بيتها تسبح وتهلل مقدار أداء الصَّلاة لو كانت طاهرة حتى لا تبطل عادتها،
وذكر في «معراج الدراية»: (يكتب لها أحسن صلاة كانت تصلي)، وروي عن عُقْبَة بن عامر: أنه كان يأمر الحائض بأن تتوضأ عند وقت الصَّلاة، وتذكر الله تعالى، وتستقبل القبلة ذاكرة لله تعالى جالسة، وروي ذلك عن كثير من السلف منهم مكحول، وقال: كان ذلك من هدي نساء المسلمين في حيضهنَّ، وقال عبد الرزاق: بلغني: أن الحائض كانت تؤمر بذلك عند وقت كل صلاة، وقال عطاء: (لم يبلغني ذلك وإنه لحسن).
فإن قلت: هل الحائض مخاطبة بالصوم أم لا؟
قلت: غير مخاطبة، وإنما يجب عليها القضاء بأمر جديد، وقيل: مخاطبة به، مأمورة بتركه، كما يخاطب المحدث بالصَّلاة، وأنه لا تصح منه في زمن الحدث، وهذا غير صحيح، وكيف يكون الصوم واجبًا عليها ومحرمًا عليها بسببٍ لا قدرة لها على إزالته؟ بخلاف المحدث؛ فإنه قادر على الإزالة، انتهى.
وقال أبو عمر: (وضوء الحائض عند وقت الصَّلاة أمر متروك عند جماعة الفقهاء، بل يكرهونه)، وقال أبو قلابة: (سألنا عنه؛ فلم نجد له أصلًا)، وقال سَعِيْد بن عبد العزيز: (ما نعرفه، وإنا لنكرهه).
قلت: بل هذا أمر غير متروك استحبه جماعة من السلف؛ كالإمام الأعظم، وأصحابه، وعطاء، وعبد الرزاق، ومكحول، وعُقْبَة بن عامر، وكفى بذلك قدوة.
وقول أبي قلابة: (سألنا عنه ... ) إلخ ليس بشيء؛ لأنَّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، والمثبت مقدم على النافي، ولا ينافي عدم وجوده له عدم وجوده بالكلية، بل قد ثبت عند غيره وجوده، وأنه أمر معمول به.
وقول ابن عبد العزيز: (ما نعرفه) لا يقتضي عدم معرفة غيره؛ فإنه إذا كان لم يقف عليه لا يلزم عدم وقوف غيره، بل فوق كل ذي علم عليم، لا سيما وقد علم من حال النساء التهاون في أمر العبادة، لا سيما الصَّلاة، فإذا كانت في حال الحيض تتوضأ تعتاد في غير الحيض؛ فيلزم عدم ترك الصَّلاة، وهذا وجه الاستحباب وهو أمر مرغوب إليه، وليس فيه مشقة ولا حرج، فأين تأتي الكراهة؟! بقي على النافي ثبوت دليل الكراهة، ومن أين له دليلها؟ وما هو إلا قول لا دليل عليه؛ لأنَّه لم يثبت نهي عن ذلك أصلًا، فإن كانت الكراهة لأمر خارجي؛ فهو غير صحيح؛ لأنَّ الأحكام لا تثبت إلا بدليل شرعي، وإن كان لأمر موهوم؛ فالأحكام لا تثبت بالوهم، وإن كان لأمر احتياطي؛ فالاحتياط فعله، وعلى كل لا دليل لنافي ذلك، ولا لثبوت الكراهة، فالحق ما عليه الإمام الأعظم والجمهور: من أنه أمر مرغوب فيه مستحب غير مكروه، والله تعالى أعلم.
==================
(1/550)
(21) [باب النوم مع الحايض وهي في ثيابها]
هذا (باب) في بيان حكم (النوم مع) زوجته (الحائض) ومثلها: النفساء (وهي) أي: والحال أنها (في ثيابها) أي: التي هي معدة لحيضها، وهو جائز؛ لدلالة حديث الباب عليه، والمناسبة بين البابين من حيث اشتمال كل منهما على حكم مختص بالحائض.
==========
%ص 366%
==================
(1/551)
[حديث: حضت وأنا مع النبي في الخميلة فانسللت]
322# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا سعْد) بسكون العين المهملة (بن حفص)؛ بالحاء والصاد المهملتين، هو المعروف بالضخم الطلحي الكوفي (قال: حدثنا شيبان) هو النحوي، (عن يحيى)؛ هو ابن أبي كثير بالمثلثة، (عن أبي سَلَمَة) بفتح السين المهملة، واللام، هو عبد الله أو إسماعيل بن عبد الرحمن بن عوف الزُهْرِي المدني، (عن زينب بنت) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية: (ابنة) (أبي سَلَمَة)؛ بفتحات، هو عبد الله المذكور أنها (حدثته: أن أم سَلَمَة): هي أم المؤمنين، واسمها هند بنت أبي أمية رضي الله عنها (قالت: حِضت) بكسر الحاء المهملة (وأنا مع النبي) الأعظم، وللأصيلي: (مع رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم في الخميلة) هي القطيفة ونحوها مما ينسج ويفضل له فضول، قاله السكري، وفي «الصحاح»: (هي الطنفسة)، وقال ابن سيده: (والخميصة: القطيفة)، قال الأصمعي: (الخمائص: ثياب خز أو صوف معلمة، وهي سود كانت من لباس الناس)، وفي «الصحاح»: (كساء أسود مربع معلم، وإن لم يكن معلمًا؛ فليس بخميصة)، (فانسللت) أي: ذهبت في خفية، (فخرجت منها)؛ أي: من الخميلة؛ لاحتمال وصول شيء من آلته عليه السلام، أو لأنَّها تقذرت نفسها، ولم يرضها لمضاجعته عليه السلام، أو خافت أن ينزل عليه الوحي فانسلت؛ لئلا يشغله حركتها عما هو فيه من الوحي أو غيره، (فأخذت ثياب حِيضتي)؛ بكسر الحاء المهملة، وهي حالة الحيض، هذا هو الصحيح المشهور، وزعم الكرماني أنه يحتمل الفتح.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» بأنه لا يقال هنا بالاحتمال؛ فإن كلًّا منهما لغة ثبتت عن العرب، وهي أن الحِيضة بالكسر: الاسم من الحيض، والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيُّض؛ كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، فأما الحَيضة بالفتح؛ فالمرة الواحدة من دفع الحيض أو ثوبه، وتمامه فيه؛ فافهم.
(فلبستها) أي: عوضًا عن ثيابي، (فقال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) حين رأى مني ذلك (أنَفِست؟) بفتح النون، وكسر الفاء، وقيل: بضمِّ النون وفتحها، وفي الحيض بالفتح لا غير، وفي «الواعي»: نُفست؛ بضمِّ النون: حاضت قيل: هذا هو الصحيح، فأما في الولادة؛ فنُفِست بضمِّ النون، وكسر الفاء، وتمامه في «عمدة القاري»، (قلت: نعم)؛ أي: نفست، (فدعاني فأدخلني معه في الخميلة)؛ وهي الخميلة الأولى؛ لأنَّ المعرفة إذا أعيدت معرفة؛ يكون الثاني عين الأول، قاله إمام الشارحين.
وفي هذا الحديث دليل: على جواز النوم مع الحائض في ثيابها والاضطجاع معها في لحاف واحد، وهو محل المطابقة للترجمة.
وفيه استحباب اتخاذ المرأة ثيابًا للحيض غير ثيابها المعتادة.
وفيه أن عرقها طاهر، وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ} [البقرة: 222]؛ معناه: فاعتزلوا وطئهن.
(قالت) أي: زينب، قال إمام الشارحين: (وظاهره التعليق، لكن السياق مشعر بأنه داخل تحت الإسناد المذكور) انتهى، وقولها: (حدثتني) بالتأنيث، والإفراد عطف على مقدر هو مقول القول؛ أي: على (قالت) الأول، أو عطف جملة كما في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [الأعراف: 19]؛ أي: وليسكن زوجك (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقبلها وهو صائم) ففيه جواز تقبيل الرجل زوجته أو ولده الصغير وهو صائم، سواء كان في رمضان أو في غيره (وكنت) عطف على مقدر؛ تقديره: وقالت: كنت، وأظهر بعده؛ لصحة العطف عليه، وهو لفظ النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أغتسل أنا والنبي) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع والنصب، أما الرفع؛ فبالعطف على الضمير المرفوع في (كنت)، وأما النصب؛ فعلى أن (الواو) بمعنى: المصاحبة، وقوله: (أنا) ذكر؛ لأنَّ في عطف الظاهر على الضمير المستكن بدون تأكيد خلافًا، كما عرف في موضعه؛ فافهم.
(من إناء واحد من الجنابة) كلمة (من) فيهما يتعلقان بقوله: (أغتسل)، ولا يمتنع هذا؛ لأنَّ الابتداء في الأول من عين، وهو الإناء، وفي الثاني من معنى: وهو الجنابة، وإنما تمنع إذا كان الابتداء من شيئين هما من جنس واحد؛ كزمانين؛ نحو: رأيته من شهر من سنة، أو مكانين؛ نحو: خرجت من البصرة من الكوفة؛ فافهم قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
وفي الحديث دليل: على جواز اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد.
وفيه جواز استخدام الزوجات.
وفيه طهارة الماء المستعمل.
وفيه طهارة عرق الجنب، وكذا الحائض والنفساء.
%ص 366%
==================
(1/552)
(22) [باب من اتخذ ثياب الحيض سوى ثياب الطهر]
هذا (باب) في بيان (من اتخذ) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية الكشميهني، كما ذكره إمام الشارحين في «عمدة القاري»: (باب من أعد)؛ بالعين والدال المهملتين من الإعداد، وفي رواية: (من أخذ) بوب عليه القسطلاني، ولم يعزها لأحد من الرواة، والعهدة عليه؛ لأني لم أر لها ذكر، ولهذا لم يتعرض لها إمام الشارحين، فالظاهر أنها خطأ أو سهو؛ فافهم؛ والمعنى: من اتخذ أو أعد من النساء (ثياب الحيض)؛ يعني: ثيابًا معدة للحيض (سوى ثياب الطهر)؛ يعني: سوى ثيابها التي تلبسها وهي طاهرة، والمناسبة بين البابين من حيث المذكور فيهما واحد؛ فافهم.
==========
%ص 367%
==================
(1/553)
[حديث أم سلمة: بينا أنا مع النبي مضطجعة في خميلة]
323# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُعاذ) بضمِّ الميم، آخره ذال معجمة (بن فُضَالة) بضمِّ الفاء وفتحها مع فتح الضاد المعجمة، هو أبو زيد الزهراني البصري (قال: حدثنا هشام) هو الدستوائي، (عن يحيى) هو ابن أبي كثير بالمثلثة، (عن أبي سَلَمَة)؛ بفتحات: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن زينب بنت أبي سَلَمَة)؛ بفتحات: هي بنت أم سَلَمَة الصحابية بنت أم المؤمنين، (عن أم سَلَمَة)؛ بفتحات: وهي أم المؤمنين، واسمها هند بنت أبي أمية رضي الله تعالى عنها (قالت: بينا) أصله (بين) فأشبعت فتحة النون بالألف، و (بينا) و (بينما) ظرفان؛ بمعنى: المفاجأة، ومضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما ألا يكون فيه (إذ)، و (إذا)؛ فافهم.
(أنا مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم مضطجعة) أصله: مضتجعة؛ لأنَّه من باب (الافتعال)، فقلبت التاء طاء، ويجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع؛ على الخبرية، وأما النصب؛ فعلى الحال (في الخَمِيلة)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم، وهي القطيفة ونحوها مما ينسج ويفضل له فضول، كما تقدم؛ (حِضت)؛ بكسر الحاء المهملة لا غير، جواب (بينا) وهو العامل فيه، (فانسللت) أي: ذهبت خفية؛ لاحتمال وصول شيء من آلته عليه السلام، أو لاستقذارها نفسها، أو لخوف نزول الوحي عليه (فأخذت ثياب حِيضتي)؛ بكسر الحاء المهملة لا غير؛ أي: فلبستها، فرآني النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (فقال) لها: (أنَفِست؟)؛ بفتح النون، وكسر الفاء، وقيل: بضمِّ النون وفتحها، وفي الحَيض بالفتح لا غير، وفي «الواعي»: (بضمِّ النون: حاضت)، كما قدمناه، (فقلت) وفي رواية بإسقاط الفاء: (قلت) (نعم) أي: نفست، (فدعاني) إلى المكان الذي هو فيه، وأمرني (فاضطجعت معه في الخميلة) أي: القطيفة الأولى؛ لأنَّ المعرفة إذا أعيدت معرفة؛ يكون الثاني عين الأول، كما سبق.
قال إمام الشارحين: (ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة)، وقال ابن بطال: إن قيل: هذا الحديث يعارض قول عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه).
قيل: لا تعارض، فإن حديث عائشة في بدء الإسلام؛ لقيام الشدة والقلة، إذن قبل فتح الفتوح في الغنائم، فلما فتح عليهم؛ اتسعت واتخذت النساء ثيابًا للحيض سوى ثيابهن للباس، فأخبرت أم سَلَمَة عن ذلك الوقت) انتهى.
وفي الحديث دليل على جواز النوم مع الحائض في ثيابها، والاضطجاع معها في لحاف واحد، وفيه استحباب اتخاذ المرأة ثيابًا للحيض غير ثيابها المعتادة، وفيه: أن عرقها طاهر إلى غير ذلك مما قدمناه؛ فليحفظ.
==========
%ص 367%
==================
(1/554)
(23) [باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى]
هذا (باب) في بيان حكم (شهود) أي: حضور المرأة (الحائض) ومثلها: النفساء يومي (العيدين) أي: الأضحى والفطر (ودعوةَ المسلمين)؛ بالنصب عطف على (العيدين)، وهي الاستسقاء، نص عليه الكرماني، واعترضه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» بأن دعوة المسلمين أعم من الاستسقاء على ما لا يخفى.
قلت: وتبع الكرماني القسطلاني فقد وهم كما وهم، والحق أنها أعم، فتشمل صلاة الكسوف، والخسوف، والجنازة، وغيرها، كما يأتي بيانه؛ فليحفظ.
(ويعتزلن) أي: حال كونهن يعتزلن، وفي رواية ابن عساكر: (واعتزالهن) (المصلى) وهو مكان الصَّلاة تحرزًا وتنزيهًا، وصيانة عن وقوع شيء منها في المصلى فيتنجس، وعن مخالطة الرجال من غير حاجة، ولا صلاة، بل وعن المخالطة مطلقًا ولو لحاجة؛ لفساد الزمان، وإنما لم يحرم دخولهن، وكذا الجنب؛ لأنَّه ليس بمسجد من كل وجه، وإنما جمعه؛ لأنَّ الحائض اسم جنس؛ فبالنظر إلى معناه يجوز الجمع والمناسبة بين البابين من حيث إن المذكور فيه حكم من أحكام الحيض، كما أن الحائض في الباب السابق كذلك؛ فافهم.
==========
%ص 367%
==================
(1/555)
[حديث حفصة: كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين]
324# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية أبي ذر: (محمَّد بن سلام)، وفي رواية كريمة: (محمَّد هو ابن سلَام)؛ بتخفيف اللام، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، والمراد به: البيكندي (قال: حدثنا) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة: (أخبرنا) (عبد الوهاب)؛ هو الثقفي بالمثلثة، (عن أيُّوب) هو السختياني، (عن حفصة) هي بنت سيرين أم الهذيل الأنصارية البصرية أخت محمَّد بن سيرين أنها (قالت: كنا نمنع عواتقَنا) بالنصب مفعول (نمنع)، وهذه الجملة في محل النصب؛ لأنَّها خبر (كنا)، كذا قاله إمام الشارحين، ثم قال: (والعواتق جمع عاتق؛ بمعنى: شابة أول ما أدركت؛ فخدرت في بيت أهلها، ولم تفارق أهلها إلى زوج)، وفي «الموعب»: قال أبو زيد: (العاتق من النساء: التي أدركت وبين التي قد عنست، والعاتق: التي لم تتزوج)، وعن الأصمعي: (هي من الجواري فوق المعصر)، وعن أبي حاتم: (هي التي لم تبن عن أهلها)، وعن ثابت: (هي البكر التي لم تبن إلى الزوج)، وعن ثعلب: (سميت عاتقًا؛ لأنَّها عتقت عن خدمة أبويها ولم يملكها زوج بعد)، وفي «المخصص»: (التي أوشكت البلوغ)، وقال الأزهري: هي الجارية التي قد أدركت وبلغت ولم تتزوج، وقيل: هي التي بلغت أن تدرع، وعتقت من الصبا [1] والاستعانة بها في مهنة أهلها) انتهى.
(أن يخرجن) أي: من أن يخرجن، و (أن) مصدرية؛ أي: من خروجهن (في العيدين) الأضحى والفطر إلى المصلى، (فقدِمت)؛ بكسر الدال المهملة المخففة (امرأة) قال إمام الشارحين: (لم أقف على اسمها) (فنزلت قصر بني خلف) كان بالبصرة، منسوب إلى طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي المعروف بـ (طلحة الطلحات)، كذا زعمه ابن حجر.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ليس منسوبًا إلى طلحة، بل هو منسوب إلى خلف جد طلحة المذكور، وكذا جاء مبينًا في رواية) انتهى.
(فحدثت عن أختها) قيل: هي أخت أم عطية، وقيل: غيرها، ونص القرطبي على أنها أم عطية، قاله إمام الشارحين (وكان زوج أختها) قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (لم أقف على اسمه)؛ فافهم، (غزا مع النبي) الأعظم، وللأَصيلي: (مع رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم ثنْتي)؛ بسكون النون، وقيل: بكسرها (عشرة غزوة) كذا في رواية الأَصيلي، وفي رواية غيره بإسقاط لفظ (غزوة) فقط: (وكانت أختي) أي: قالت المرأة المحدثة: (كانت أختي)، ولا بد من تقدير قالت حتى يصح المعنى، وتقدير القول في الكلام غير عزيز؛ فافهم، (معه) أي: مع زوجها أو مع النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (في ست) أي: في ست غزوات، وروى الطبراني: أنها غزت معه سبعًا، كذا في «عمدة القاري»، (قالت)؛ أي: الأخت لا المرأة (كنا) وإنما قالت: (كنا) بلفظ الجمع؛
%ص 367%
لبيان فائدة حضور النساء الغزوات على سبيل العموم، قاله إمام الشارحين (نداوي)؛ بضمِّ النون، من المداواة (الكَلْمَى) بفتح الكاف، وسكون اللام، وفتح الميم، جمع كليم، وهو على القياس؛ لأنَّه فعيل بمعنى: مفعول، والمراد به: الجرحى، وقال ابن سيده: جمع كليم كلوم، وكلام، وكلمة، وتكلمة، وتكلمة من باب (نصر ينصر)، و (ضرب يضرب)، وكلمًا؛ بالفتح مصدره، وكلمه جرحه، ورجل مكلوم وكليم)، وفي «الصحاح»: (التكليم: التجريح)، قاله في «عمدة القاري»، وقوله: (ونقوم على المَرْضى) بفتح الميم، وسكون الراء محمول عليه؛ لأنَّ الكلمى هو: المرضى، إلا أن يقال: الكلمى: الجرحى، والمرضى: من به مرض غير الجراحة؛ فليحفظ
يدل لما قلنا قولها في الأول: (نداوي)، وفي الثاني: (نقوم)، فدل على المغايرة؛ فافهم.
(فسألتْ) بتاء التأنيث (أختي النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) عن عدم تسترهن بحضرة الكلمى والمرضى حيث يتعاهدنهم، فقالت له: (أعلى إحدانا) الهمزة فيه للاستفهام (بأس) أي: حرج وإثم بفعلنا ذلك (إذا) وللأصيلي: (إن) (لم يكن لها جِلْباب؟)؛ بكسر الجيم، وسكون اللام، وبموحدتين بينهما ألف؛ وهو خمار واسع كالملحفة تغطي به المرأة رأسها وصدرها، وتجلبت المرأة وجلببها غيرها، ولم يدغم؛ لأنَّه ملحق، وفي «المحكم»: (الجلباب: القميص، وقيل: ثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، وقيل: ما يغطى به الثياب من فوق كالملحفة)، وفي «الصحاح»: (الجلباب: الملحفة، والمصدر: الجلبية، ولم يدغم؛ لأنَّها ملحقة بدحرجة)، وفي «الغريبين»: (الجلباب: الإزار، وقيل: هي الملاءة التي تشتمل بها)، وقال القاضي عياض: (هي أقصر من الخمار وأعرض، وهي المقنعة، وقيل: هي الرداء تغطي به المرأة ظهرها وصدرها)، كذا قاله في «عمدة القاري»، (ألَّا تخرج)؛ أي: ليلًا تخرج، و (أن) مصدرية؛ أي: لعدم خروجها إلى المصلى للعيد (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (لتلبسْها)؛ بجزم السين المهملة، وقوله: (صاحبتُها)؛ بالرفع فاعله، وفي رواية: (فتلبسُها)؛ برفع السين المهملة، وبالفاء بدل اللام (من جلبابها) أي: تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه، وقيل: تشركها معها في لبس الثوب الذي عليها، وهذا مبني على أن يكون الثوب واسعًا حتى يسع فيه اثنان، وفيه نظر كما ما سيأتي في باب (إذا لم يكن لها جلباب في العيدين)، وقيل: هو مبالغة؛ ومعناه: يخرجن ولو كانت ثنتان في ثوب واحد، كذا قاله إمام الشارحين.
قلت: والأظهر الثاني؛ يعني: أنَّه على سبيل المبالغة؛ لأجل الجزر، ولئلا يتحيلن في عدم الجلباب، وهو أقرب إلى الصواب، والله أعلم.
(ولتشهد الخير) أي: ولتحضر مجالس الخير؛ كسماع الحديث، والعلم، وعيادة المريض، ونحو ذلك، (ودعوة المسلمين) كلام إضافي منصوب عطفًا على (الخير)، وذلك كالاجتماع لصلاة الاستسقاء، وفي رواية الكشميهني: (ودعوة المؤمنين)، قالت حفصة: (فلما قدِمت) بكسر الدال المهملة المخففة (أم عطية) واختلف في اسمها فقيل: نُسيبة؛ بضمِّ النون، وقيل: بفتح النون، وكسر السين المهملة، كذا زعمه الخطيب، وزعم القشيري: أنها بنون، وشين معجمة، وزعم ابن الجوزي أنها لُسَيْنَة؛ بلام مضمومة، وسين مهملة مفتوحة، وتحتية ساكنة، ونون مفتوحة، واختلف أيضًا في اسم أبيها فقيل: الحارث، وقيل: كعب؛ (سألتها) أي: سألت حفصة أم عطية: (أسمعت النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) الهمزة فيه للاستفهام؛ وتقديره: هل سمعت النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يقول المذكور؟ والمفعول الثاني محذوف، وقد قدمنا أن النحاة اختلفوا في (سمعت) هل يتعدى إلى مفعولين؟ على قولين؛ فالمانعون يجعلون الثاني حالًا، كذا في «عمدة القاري» (قالت)؛ أي: أم عطية (بأبِيْ)؛ بموحدة بعدها همزة، ثم موحدة مكسورة، ثم تحتية ساكنة، هذه الرواية المشهورة، وفي رواية الكشميهني: (بيبي [2])؛ بقلب الهمزة ياء تحتية، وفي رواية الأصيلي: (بأبا)؛ بفتح الموحدة، وإبدال ياء المتكلم ألفًا، وفي رواية: (بيبا)؛ بقلب الهمزة ياء، وفتح الموحدة، قال إمام الشارحين بعد ذكر اللغات الأربع قلت: الباء في (بأبي) متعلقة بمحذوف؛ تقديره: أنت مفدى بأبي، فيكون المحذوف اسمًا، وما بعده في محل الرفع على الخبرية، ويجوز أن يكون المحذوف فعلًا؛ فعلى تقديره يكون المحذوف فديتك، ويكون ما بعده في محل النصب، وهذا المحذوف حذف؛ طلبًا للتخفيف؛ لكثرة الاستعمال، وعلم المخاطب به، واللغتان الأولتان فصيحتان، وأصل بابا: بأبي هو، ويقال: بأبأت [3] الصبي؛ إذا قلت له: بأبي أنت وأمي؛ فلما سكنت الياء؛ قلبت ألفًا، وفي رواية الطبراني: (بأبي هو وأمي) انتهى.
(نعم) أي: سمعته يقول المذكور، (وكانت) أي: أم عطية (لا تذكره) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (إلا قالت: بأبي) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مفدى بأبي أو أنت مَفْديٌّ بأبي، ويحتمل أن يكون قسمًا؛ أي: أقسم بأبي، لكن الوجه الأول [4] أقرب إلى السياق، وأظهر، وأولى، قاله في «عمدة القاري»، (سمعته يقول)؛ فالجملة إما مفعول ثان، أو حال على اختلاف القولين، قال إمام الشارحين: وهذا ليس من تتمة المستثنى؛ لأنَّ الحصر هو في قوله: (بأبي) فقط بقرينة ما تقدم من قولها: (بأبي، نعم) انتهى.
(تخرج) أي: لتخرج (العواتق) وهذا خبر متضمن للأمر؛ لأنَّ إخبار الشارع عن الحكم الشرعي متضمن للطلب، لكنه هنا للندب لدليل آخر، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، (وذوات) فيه ثلاث روايات؛ الأولى: بواو العطف، والثانية: بلا واو، ويكون صفة للـ (العواتق)، والثالثة: (ذات)؛ بالإفراد، فالأولى: رواية الحمُّوي وكريمة، والثانية: أبي ذر عن الكشميهني، والثالثة: رواية الأصيلي، (الخُدور) بضمِّ الخاء المعجمة، والدال المهملة، جمع خِدْر بكسر الخاء، وسكون الدال؛ وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه، وقال ابن سيده: الخدر: ستر يمد للجارية في ناحية البيت، ثم صار كلما واراك [5] من البيت ونحوه خدر، والجمع خدور، وأخدار، وأخادير جمع الجمع، والخدر: خشبات تنصب فوق قتب البعير مستورة بثوب، وهودج مخدور، ومخدَّر [6]، وخدر، وقد أخدر الجارية، وخدرها، وتخدرت هي، واختدرت، وفي «المخصص»: الخدر: ثوب يمد في عرض الخباء، فتكون فيه الجارية البكر، وقيل: هو هودج، وقال ابن قرقول: سرير عليه ستر، وقيل: الخدر: البيت، كذا قرره إمام الشارحين، _ (أو العواتق ذوات الخدور) على الشك_ وأكثر النسخ بإسقاط الشك، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني، والأصيلي: (ذات الخدر) بغير واو فيهما؛ والمعنى: لتخرج الأبكار الشابة أصحاب التستر (والحُيَّض) بضمِّ الحاء المهملة، وتشديد المثناة التحتية، جمع حائض، وهو معطوف على (العواتق)، (وليشهدن) وفي رواية ابن عساكر: (ويشهدن) (المخير) أي: مجالس الخير؛ كمجلس وعظ ونحوه، قال في «عمدة القاري»: (وليشهدن) عطف على قوله: (يخرج العواتق).
فإن قلت: كيف يعطف الأمر على الخبر؟
قلت: الخبر من الشارع من الأحكام الشرعية محمول على الطلب، فمعناه: لتخرج العواتق وليشهدن) انتهى.
(ودعوة المسلمين) وفي رواية: (ودعوة المؤمنين) كالاجتماع لصلاة الاستسقاء ونحوه، (ويعتزلن) بلفظ الجمع على لغة (أكلوني البراغيث)، وفي رواية: (يعتزل)؛ بالإفراد (الحُيَّض) بضمِّ المهملة، وتشديد التحتية، جمع حائض (المصلى)؛ أي: مكان الصَّلاة، وهو المساجد؛ فإنهن
%ص 368%
يمنعن من دخولها؛ كالجنب والنفساء، (قالت حفصة)؛ أي: الراوية (فقلت) أي: لأم عطية: (آلحيض؟!) بهمزة ممدودة على الاستفهام التعجبي من إخبارها بشهود الحيض، (فقالت)؛ أي: أم عطية: (أليس)؛ بهمزة الاستفهام (تشهد) أي: الحيض، واسم (ليس) ضمير الشأن، وفي رواية الكشميهني: (أليستْ تشهد)؛ بالتاء التأنيث في (ليس)، وفي رواية الأصيلي: (ألسن يشهدن)؛ بنون الجمع في (ألسن) مع همزة الاستفهام (عرفة) فيه الظرف محذوف؛ أي: يوم عرفة في عرفات، (وكذا) أي: نحو منًى والمزدلفة، (وكذا)؛ أي: نحو صلاة الاستسقاء وغيرها؟
ففيه دليل: على أن الحائض لا تهجر ذكر الله عز وجل.
وفيه دليل: على جواز استعارة الثياب للخروج إلى طاعة الله عز وجل.
وفيه غزو النساء، ومداواة الجرحى وإن كنَّ غير ذي محارم منها.
وفيه دليل: على قبول خبر المرأة.
وفي قوله: (كنا نداوي) جواز فعل الأعمال التي كانت في زمن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وإن كان لم يجز شيئًا من ذلك.
وفيه دليل: على جواز النقل عمن لا يعرف اسمه من الصحابة خاصة وغيرهم إذا بين مسألة ودل عليه.
وفيه دليل: على امتناع خروج النساء بدون الجلابيب.
وفيه جواز تكرار يأتي في الكلام.
وفيه جواز السؤال بعد رواية العدل عن غيره؛ تقوية لذلك.
وفيه جواز شهود الحائض عرفة.
وفيه دليل على وجوب صلاة العيدين، وزعم القرطبي أنه لا يستدل بذلك على الوجوب؛ لأنَّ هذا إنَّما توجه لمن ليس بمكلف بالصَّلاة باتفاق، وإنما المقصود والندب على الصَّلاة والمشاركة في الخير، وإظهار كمال الإسلام، وزعم القشيري أن أهل الإسلام إذ ذاك كانوا قليلين) انتهى.
قلت: وهذا غير صحيح؛ فإن في الحديث دليل واضح: على وجوب صلاة العيدين؛ لأنَّ قوله: (وليشهدن الخير ودعوة المسلمين) أمر من الشارع، وهو وإن كان محمولًا على الندب بدليل آخر إلا أنه هنا المراد به: الطلب في الشهود، وهو يقتضي الوجوب؛ لأنَّه أمر من الشارع، فإذا كان شهود الحائض التي هي غير مكلفة وقتئذٍ مطلوبًا؛ فكيف بالمكلف الطاهر؟ فيجب عليه ذلك وهو دليل الوجوب؛ لا سيما وقد واظب على صلاة العيدين النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ومن بعده كالخلفاء الراشدين وغيرهم؛ والمواظبة دليل الوجوب قطعًا، فكان كالإجماع على وجوبها، وسوف يأتي تمامه في محله إن شاء الله تعالى.
وقال الخطابي: (فيه دليل على أنهن يشهدن مواطن الخير ومجالس العلم، خلا أنهن لا يدخلن المساجد).
قلت: فيه نظر؛ فإن مصلى العيدين مسجد، وقد أبيح لهن دخوله؛ فافهم.
وقال ابن بطال: (فيه جواز خروج النساء الطاهرات والحُيض إلى العيدين، وشهود الجماعات، وتعتزل الحُيض المصلى، ولكن فيمن تدعو وتؤمن رجاء بركة المشهد الكريم)، وقال القاضي عياض: وقد اختلف السلف في خروجهن؛ فرأى جماعة ذلك حقًّا؛ منهم: أبو بكر، وعلي، وابن عمر، وآخرون [7] رضي الله عنهم، ومنعهن جماعة؛ منهم: عروة، والقاسم، ويحيى بن سَعِيْد الأنصاري، ومالك، والإمام أبو يوسف، وأما الإمام الأعظم؛ فأجازه مرة، ومنعه مرة أخرى، وفي «الترمذي»: (وروي عن ابن المبارك: أكره اليوم خروجهن في العيدين، فإن أبت المرأة إلا تخرج؛ فلتخرج في أطهارها بغير زينة، فإن أبت ذلك؛ فللزوج أن يمنعها)، ويروى عن الثوري: أنه كره اليوم خروجهن.
قال إمام الشارحين: (قلت: اليوم الفتوى على المنع مطلقًا، ولا سيما في الديار المصرية) انتهى.
قلت: ولا سيما في ديارنا الشامية، بل المنع لهن كان واجبًا، وقوله: (مطلقًا) يعني: في جميع الصلوات ولو كانت عجوزًا ولو كانت غير متزينة، كيف ما كانت؛ لفساد الزمان؛ فإن المعاصي قد تجاهروا بفعلها، والأعمال الصالحات قد تركوا العمل بها، فالفساق في الأسواق كثير، لا سيما بالمساجد العظام، ولا أحد ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف؛ فالمنع واجب، ولا يخفى أن هذا اختلاف زمان لا حجة وبرهان.
وقال النووي: (قال أصحابنا _يعني: الشافعية_: يستحب إخراج النساء في العيدين غير ذوات الهيئات والمستحسنات، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن المفسدة في ذلك الزمن كانت مأمونة، بخلاف اليوم، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لو رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما أحدث النساء بعده؛ لمنعهنَّ المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل) انتهى.
قلت: فقد اعترف بأنه اختلاف زمان، وعليه؛ فالمنع واجب وهو اتفاق؛ فافهم، وفيه اعتزال الحُيض من المصلى، واختلفوا فيه؛ فقال الجمهور: هو منع تنزيه، وسببه: الصيانة والاحتراز عن مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة، وإنما لم يحرم؛ لأنَّه ليس بمسجد [8]، كذا قاله إمام الشارحين.
وزعم ابن حجر أنه يحرم المكث في المصلى عليها، كما يحرم مكثها في المسجد؛ لأنَّه موضع الصَّلاة؛ فأشبه المسجد، قال صاحب «عمدة القاري»: (والصواب الأول).
قلت: ووجهه أن المصلى حكمه حكم الصحراء؛ بدليل: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي العيدين في الصحراء، وأصحابه بعده كذلك، فاتخذ المصلى؛ صيانة لحرمة الصَّلاة.
وقول هذا القائل: (يحرم ... ) إلخ ممنوع؛ فلا وجه للحرمة في ذلك، ولا دليل يدل عليها، ولا بدَّ لها من دليل قطعي ولم يوجد؛ فلا يحرم عليها المكث في المصلى، ومثلها الجنب والنفساء، وقوله: (لأنَّه موضع الصَّلاة) ممنوع؛ فإن الصحراء موضع الصَّلاة، ولم يسع أحدًا أن يقول بحرمة مكثها فيها، وقوله: (فأشبه المسجد) ممنوع أيضًا، كما لا يخفى؛ فإن المشبه لا يعطى له حكم المشبه به من كل وجه، وكيف خفي هذا على هذا القائل؟ فإن المصلى قد أشبه المسجد في الاجتماع للصلاة، والصَّلاة فيه لا في حرمة دخول الحائض والجنب؛ فإن ذلك مباح لهما، وحديث الباب محمول على المنع التنزيهي [9] بسبب المخالطة، كما قدمناه؛ فافهم.
وقال الكرماني: (فإن قلت: الأمر بالاعتزال للوجوب؛ فهل الشهود والخروج أيضًا واجبان؟ قلت: ظاهر الأمر الوجوب، لكن علم من موضع آخر أنه ههنا للندب) انتهى.
واعترضه ابن حجر فزعم أن الكرماني قد أغرب حيث قال: الاعتزال واجب، والخروج مندوب.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: لم يقل الكرماني بوجوب الاعتزال وندبية الخروج من هذا الموضع خاصة حتى يكون مغربًا، وإنما صرح بقوله: إن الأمر بالاعتزال للوجوب، وأما ندبية الخروج؛ فمن موضع آخر) انتهى.
قلت: فإن دأب ابن حجر الاعتراض على الشراح وإن كان غير صواب حتى يقال وقد قيل: ولا ريب أن ذلك من طول اللسان وكثرة الرياء المحبط للأعمال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فافهم.
%ص 369%
==========
[1] في الأصل: (الصباء).
[2] في الأصل: (بيني)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (بأبات)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (ورك)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (محذور ومحدرز)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
[7] في الأصل: (وآخرين)، ليس بصحيح.
[8] في الأصل: (مسجد)، وهو تحريف.
[9] في الأصل: (الننزيه)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (الصباء).
[2] في الأصل: (بيني)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (بأبات)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (ورك)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (محذور ومحدرز)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
[7] في الأصل: (وآخرين)، ليس بصحيح.
[8] في الأصل: (مسجد)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (الصباء).
[2] في الأصل: (بيني)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (بأبات)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (أول)، وليس بصحيح.
[5] في الأصل: (ورك)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (محذور ومحدرز)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
[7] في الأصل: (وآخرين)، ليس بصحيح.
[8] في الأصل: (مسجد)، وهو تحريف.
(1/556)
(24) [باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان حكم الحائض (إذا حاضت)؛ أي: المرأة، وبه صرح في رواية (في الشهر) أي: الواحد، وفي رواية بدون الألف واللام (ثلاث حِيَض) بكسر الحاء المهملة، وفتح المثناة التحتية، جمع حيضة، (و) في بيان (ما) أي: مدة (يُصدَّق)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، وتشديد الدال المهملة المفتوحة (النساء) أي: البالغات فيها بإدعائهن (في الحيض) أي: في مدة الحيض (والحمل) أي: في مدة الحمل، وفي رواية ابن عساكر: (والحبَل)؛ بفتح الموحدة المفتوحة، (وفيما)؛ بالفاء، وفي رواية ابن عساكر: (وما) (يمكن من الحيض) هذا متعلق بقوله: (تصدق)؛ أي: تصدق فيما يمكن تكرار الحيض، ولهذا لم يقل: وفيما يمكن من الحمل؛ لأنَّه لا معنًى للتصديق في تكرار الحمل، أفاده إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ يعني: فإذا لم يمكن؛ لم تصدق؛ (لقول الله تعالى) وفي رواية بإسقاط لفظ الجلالة، وثبوت الضمير في (قول)، وفي رواية الأصيلي: (عز وجل) ({وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]) هذا تعليل للتصديق، ووجه الدلالة عليه: أنها إذا لم يحل لها الكتمان؛ وجب عليها الإظهار، فلو لم تصدق فيه؛ لم يكن للإظهار فائدة، وروى الطبراني بإسناد صحيح عن الزُهْرِي قال: بلغنا أن المراد بما خلق الله في أرحامهن: الحمل والحيض، ولا يحل لهن أن يكتمن ذلك لتنقضي العدة، ولا يملك الزوج العدة إذا كانت له، وروي بإسناد حسن عن ابن عمر قال: (لا يحل لها إذا كانت حائضًا أن تكتم حيضها، ولا إذا كانت حاملًا أن تكتم حملها)، وعن مُجَاهِد: (لا تقول: إني حائض، وليست بحائض، ولا لست بحائض وهي حائض، وكذا في الحمل)، أفاده إمام الشارحين.
قلت: وفي هذه الآية دليل على أن قولها مقبول في ذلك؛ لأنَّ أمر العدة لما كان مبنيًّا على انقضاء القروء في حق ذوات الأقراء وعلى وضع الحمل في حق الحامل، وكان الوصول إلى علم ذلك متعذرًا على الرجال؛ جعلت المرأة أمينة في ذلك، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها، وزاد في رواية الأصيلي: (إن كن يؤمن)، فقد أغلظ الله تعالى القول عليهنَّ؛ حيث قال: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228]، ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء وتعظيم بليغ لفعلهن؛ حيث بين أن من آمن بالله وبعقابه؛ لا يجترئ على مثله من العظائم، فظهر [1] بما ذكر أن ليس المراد به: أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة؛ لأنَّ المؤمنة والكافرة في هذا الحكم سواء؛ فليحفظ.
(ويُذكر)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، فهو على صيغة المجهول، وسيأتي ما فيه؛ فافهم، (عن علي) هو الصديق الأصغر ابن أبي طالب رضي الله عنه، (و) عن (شريح) بالشين المعجمة، بعدها راء مهملة، بعدها مثناة تحتية، ثم حاء مهملة، هو ابن الحارث _بالمثلثة_ الكندي أبو أمية الكوفي، ويقال: إنه من أولاد الفرس الذي كانوا باليمن، أدرك النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يلقه، استقضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الكوفة، وأقره من بعده إلى أن ترك هو بنفسه زمن الحجاج، كان له مئة وعشرون [2] سنة، مات عام ثمانية وتسعين، وهو أحد الأئمَّة الأعلام، وهذا التعليق بلفظ التمريض قد وصله الدارمي فقال: أنبأنا يعلى بن عبيد: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر _هو الشعبي_ قال: جاءت امرأة إلى علي رضي الله عنه تخاصم زوجها طلقها، فقالت: حضت في شهر ثلاث حيض، فقال علي لشريح: اقض بينهما، قال: يا أمير المؤمنين؛ وأنت ههنا، قال: اقض بينهما، قال شريح: (إن جاءت)، وفي رواية كريمة: (إنِ امرأة جاءت)؛ بكسر النون (ببينة من بِطانة)؛ بكسر الموحدة، أي: من خواص (أهلها) إنَّما خصهم بذلك؛ لأنَّهم أقرب إلى الاضطلاع على ذلك (ممن يرضى دينه) وأمانته؛ أي: بأن يكون من أهل الديانة والصلاح عدلًا.
زعم القاضي إسماعيل ليس المراد: أن تشهد النساء أن ذلك وقع، وإنما هو فيما ترى أن يشهدن أن هذا يكون، وقد كان في نسائهن.
ورده إمام الشارحين بأن سياق الحديث يدفع هذا التأويل؛ لأنَّ الظاهر منه أن المراد: أن يشهدن بأن ذلك وقع منها، وكان مراد إسماعيل: رد هذه القصة إلى موافقة مذهبه) انتهى.
قلت: يعني: ترويجًا لما ذهب إليه إمامه الشافعي، وإن كان خلاف الظاهر المتبادر، ومذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين: أن المرأة لا تصدق في انقضاء العدة في أقل من ستين يومًا، قال ابن بطال: وبه قال الإمام محمَّد بن الحسن، والثوري، وعند الشافعي: تصدق في ثلاثة وثلاثين يومًا، وعن أبي ثور: في تسعة وأربعين يومًا، وذكر ابن أبي زيد عن سحنون أقل العدة أربعون يومًا.
(أنها حاضت في شهر) وفي رواية ابن عساكر: (في كل شهر) (ثلاثًا) أي: ثلاث حيض، تطهر عند كل قرء وتصلي؛ جاز لها، وإلا؛ فلا، قال عليٌّ: قالون: ومعناه بلسان الرومية: أحسنت، ورواه ابن حزم عن الشعبي أيضًا: (أن عليًّا أتي برجل طلق امرأته فحاضت ثلاث حيض في شهر، أو خمسًا في شهر، أو خمسًا [3] وثلاثين ليلة، فقال علي لشريح: اقض بينهما، فقال: إن جاءت بالبينة من النساء العدول من بطانة أهلها من يرضى صدقه وعدله؛ أنها رأت ما يحرم عليها الصَّلاة من الطمث، وتغتسل عند كل قرء وتصلي فيه؛ فقد انقضت عدتها، وإلا؛ فهي كاذبة، فقال عليٌّ: قالون: معناه: أصبت)، قال ابن حزم: (هذا نص قولها) انتهى.
(صُدِّقت) بضمِّ الصاد المهملة، وكسر الدال المهملة المشددة، ففيه المطابقة لما ترجم له من قوله: (وما يصدق النساء ... ) إلى آخره؛ لأنَّ المراد: ما يصدق النساء فيما يمكن من مدة الشهر، والشهر يمكن فيه ثلاث حيض خصوصًا على قول مالك والشافعي، فإن أقل الحيض عند مالك في حق العدة ثلاثة أيام، وفي ترك الصَّلاة والصوم وتحريم الوطء دفعة، وعند الشافعي في الأشهر: أن أقله يوم وليلة، وهو قول أحمد ابن حنبل.
فإن قلت: عند الأئمَّة الحنفية أقل الحيض ثلاثة أيام؛
%ص 370%
فلم شرطوا في تصديقها بستين يومًا على مذهب الإمام الأعظم؟
قلت: لأنَّ أقل الطهر عندهم خمسة عشر يومًا، فإذا أقرت بانقضاء عدتها؛ لم تصدق في أقل من ستين يومًا؛ لأنَّه يجعل كأنه طلقها أول الطهر وهو خمسة عشر يومًا، وحيضها خمسة اعتبارًا للعادة، فتحتاج إلى ثلاثة أطهار وثلاث حيض، انتهى.
وفي «الملتقى» و «شرحه»: (ومن قالت: مضت عدتي بالحيض؛ فالقول لها مع اليمين؛ لأنَّه لا يعلم إلا من جهتها إن مضى عليها ستون يومًا عند الإمام الأعظم، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمَّد بن الحسن: تسعة وثلاثون يومًا وثلاث ساعات للاغتسال)، وقول الإمام هو المختار، كما في «الخانية»، وقيد بالحيض؛ لما في «القنية»: (قالت: انقضت عدتي في يوم أو أقل؛ تصدق أيضًا وإن لم تقل: أسقطت؛ لاحتماله)، قال في «النهر»: (والظاهر أنه لا بد من بيانها صريحًا)؛ ففي «البزازية»: (قالت: ولدت؛ لم يقبل قولها إلا ببينة، ولو قالت: أسقطت سقطًا متبين الخلق؛ قبل قولها، وله أن يحلفها)، وفي «الخلاصة»: (قالت: طلقني زوجي وانقضت عدتي، ووقع في قلبه صدقها وهي عدلة، أو لا؛ حل له تزوجها، وإن قالت: وقع نكاح الأول فاسدًا؛ لم تحل ولو عدلة) انتهى.
قلت: وهذا الأثر المعلق لا يعارض ما قاله الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ لأنَّه غير قوي، ولهذا ذكره المؤلف بلفظ التمريض وهو يدل على ضعفه، ووجهه أنهم اختلفوا في سماع الشعبي من علي رضي الله عنه، فقال الدارقطني: (لم يسمع منه إلَّا حرفًا [4] ما سمع غيره)، وقال الحازمي: (لم يثبت أئمة الحديث سماع الشعبي من علي)، وقال ابن القطان: (منهم من يُدخل بينه وبين عبد الرحمن بن أبي ليلى، وسنُّه محتمل لإدراك علي).
قال صاحب «التلويح»: (وكأن البخاري لمح هذا في علي لا في شريح؛ لأنَّه مصرح بسماع الشعبي منه؛ فينظر في تمريضه الأثر عنه على رأي من يقول: إنه إذا ذكر شيئًا بغير صفة الجزم؛ لا يكون صحيحًا عنده وكأنه غير جيد؛ لأنَّه ذكر في «الغنيمة»: ويذكر عن أبي موسى: «كنا نتناوب»؛ بصيغة الجزم وهو سند صحيح عنده) انتهى.
قلت: وهذا غير صحيح؛ فإن ذكر البخاري هذا الأثر المعلق بصيغة التمريض هنا دليل على عدم صحته، يدل لهذا: أنهم اختلفوا في سماع الشعبي من علي، كما علمت؛ فلأجل [5] الاختلاف فيه ذكره بصيغة التمريض، ولو كان صحيحًا؛ لذكره بصيغة الجزم، وما ذكره في «الغنيمة» عن أبي موسى؛ فإن هناك قرائن وعلامات تدل على صحته، فالصحة جاءت من القرائن لا من لفظ التمريض، وجمهور المحدثين قالوا: إذا ذكر البخاري تعليقًا بصيغة التمريض؛ لا يكون صحيحًا وهو ظاهر؛ لأنَّه لو كان صحيحًا؛ لما وسعه أن يذكره كذلك، بل يذكره بصيغة الجزم، والله تعالى أعلم.
(وقال عطاء) بالمد، هو ابن أبي رباح، مما وصله عبد الرزاق، عن ابن جريج عنه قال: (أقراءها) جمع قرء، والقُرْء؛ بضمِّ القاف وفتحها، مع سكون الراء؛ وهو الحيض؛ لما في «البخاري» من أنه عليه السلام قال: «دعي الصَّلاة أيام أقرائك»، وقد يطلق على الطهر الفاصل بين الحيضتين؛ كقول الأعشى:
مورثة مالًا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فهو من الأضداد يقع على الحيض والطهر، وأكثر استعماله في كلام العرب في الحيض، واختلفوا في أنه حقيقة في الحيض، مجاز في الطهر، أو حقيقة فيهما، والمشهور الأول، وقال جماعة بالثاني وهو بعيد يرده الأحاديث؛ فإن أكثر استعمالها في الحيض، وسيأتي تمامه قريبًا إن شاء الله تعالى؛ فليحفظ، (ما كانت)؛ أي: أقراؤها في زمن العدة ما كانت قبل العدة، فلو ادعت في زمن الاعتداد أقراء معدودة في مدة معينة في شهر مثلًا؛ فإن كانت معتادة بما ادعتها؛ فذاك، وإن ادعت في العدة ما يخالف ما قبلها؛ لم يقبل، كذا في «عمدة القاري»، (وبه) أي: بما قاله عطاء (قال إبراهيم) هو النخعي، مما وصله عبد الرزاق أيضًا عن أبي مسعر، عن إبراهيم، (وقال عطاء)؛ بالمد، هو ابن أبي رباح (الحيض يوم إلى خمسة عشر) هذا إشارة إلى أن أقل الحيض يوم، وأكثره خمسة عشر يومًا، وهذا التعليق وصله الدارمي بإسناد صحيح عنه قال: (أقصى الحيض خمسة عشر، وأدنى الحيض يوم وليلة)، ورواه الدارقطني عنه قال: (أدنى وقت الحيض يوم، وأكثره خمسة عشر).
وقد اختلف العلماء في أقل مدة الحيض وأكثره؛ فمذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: أقله ثلاثة أيام بلياليها وما نقص عن ذلك؛ فهو استحاضة، وأكثره عشرة أيام بلياليها، وما زاد على ذلك؛ فهو استحاضة.
وقال الإمام أبو يوسف: أقله يومان، والأكثر من اليوم الثالث، ودليل الإمام الأعظم: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الحيض ثلاث، وأربع، وخمس، وست، وسبع، وثمان، وتسع، وعشر، فإذا زاد؛ فهو استحاضة»، رواه الدارقطني، وقال: لم يروه غير هارون بن زياد، وهو ضعيف الحديث.
وحديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة، وأكثره ما يكون عشرة أيام، فإذا زاد؛ فهو استحاضة»، رواه الطبراني، وكذا الدارقطني، وفي سنده عبد الملك مجهول، والعلاء بن كثير ضعيف الحديث.
وحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام»، رواه الدارقطني، وفي سنده حمَّاد بن منهال مجهول.
وحديث معاذ بن جبل: أنه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا حيض فوق عشرة
%ص 371%
أيام، فما زاد على ذلك؛ فهي استحاضة تتوضأ لكل صلاة إلا أيام أقرائها»، رواه ابن عدي في «الكامل»، وفي مسنده محمَّد بن سَعِيْد، قال ابن معين: (يضع الحديث).
وحديث أبي سَعِيْد الخدري: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشرة، وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يومًا»، رواه ابن الجوزي، وفيه أبو داود النخعي، واسمه سليمان، زعم ابن حبان أنه يضع الحديث.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «[أقل] الحيض ثلاثة أيام، وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة، وثمانية، وتسعة، وعشرة، فإذا جاوز العشرة؛ فهي مستحاضة»، رواه ابن عدي، وفيه الحسن بن دينار ضعيف.
وحديث عائشة الصديقة رضي الله عنها، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أكثر الحيض عشر، وأقله ثلاث»، رواه ابن الجوزي، وفيه حسين بن علوان، زعم ابن حبان أنه كان يضع الحديث، وفي هذا الباب أحاديث كثيرة، أجاب الإمام أبو الحسن القدوري في «التجريد»: (بأن ظاهر الإسلام يكفي لعدالة الراوي ما لم يوجد فيه قادح، وضعف الراوي لا يقدح إلا أن يقوى من وجه الضعف)، وقال النووي في «شرح المهذب»: (إن الحديث إذا روي من طرق ومفرداتها ضعيفان؛ يحتج به) انتهى.
قلت: وطعن الدارقطني، وابن حبان، وغيرهما في سند هذه الأحاديث تعصب وتعنت، وقالاه ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم الشافعي، فلا يعتد بطعنهما؛ لأنَّ الدارقطني مشهور بالتعصب على الإمام الأعظم رئيس المجتهدين.
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»: (على أنا نقول: قد شهد لمذهبنا عدة أحاديث عن الصحابة رواية [6] بطرق مختلفة كثيرة يقوي بعضها بعضًا وإن كان كل واحد ضعيفًا، لكن يحدث عند الاجتماع ما لا يحدث عند الانفراد؛ على أن بعض طرقها صحيحة، وذلك يكفي [7] للاحتجاج خصوصًا في المقدرات، والعمل به أولى من العمل بالبلاغات والحكايات المروية عن نساء مجهولة، ومع هذا نحن لا نكتفي بما ذكرنا، بل تقوى ما ذهبنا إليه بالآثار المنقولة عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب، وقد أمعنا الكلام فيه في شرحنا على «الهداية») انتهى كلامه
قلت: وقد ذكر هذه الأحاديث وزاد عليها المحقق كمال الدين بن الهمام في «شرحه» على «الهداية» وقال بعد سردها: فهذه عدة أحاديث عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم متعددة الطرق، وذلك يرفع الضعيف إلى درجة الحسن، والمقدرات الشرعية مما لا تدرك بالرأي، فالموقوف فيها حكمه الرفع، بل تسكن النفس بكثرة ما روي فيه عن الصحابة والتابعين إلى المرفوع مما أجاد فيه ذلك الرواي الضعيف، وبالجملة فله أصل في الشرع بخلاف قولهم: أكثره خمسة عشر؛ فإنه لم نعلم فيه حديثًا حسنًا ولا ضعيفًا، وإنما تمسكوا فيه بما روَوه عنه عليه السلام قال في صفة النساء: «تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي» وهو لو صح؛ لم يكن فيه حجة، لكن قال البيهقي: (إنه لم يجده)، وقال ابن الجوزي في «التحقيق»: (هذا حديث لا يعرف، وأقره عليه صاحب «التنقيح») انتهى.
وقال النووي في «شرح المهذب»: (إنه حديث باطل لا يعرف، وإنما ثبت في «الصحيحين»: «تمكث الليالي ما تصلي») انتهى.
واحتج الحافظ الطحاوي لمذهبنا بحديث أم سَلَمَة: إذ سألتْ عن المرأة تهراق الدماء، فقال النبي الأعظم عليه السلام: «لتنظر عدد الليالي والأيام» من غير أن يسألها عن مقدار حيضها قبل ذلك، وأكثر ما يتناوله الأيام عشرة، وأقله ثلاثة أيام) انتهى.
وأما ما استدلوا به على أقله؛ فلا دليل فيه؛ لأنَّه لما جاز كون الصفة موجودة في اليوم والليلة؛ جاز وجودها فيما دونه؛ فلم لم يجعلوه حيضًا؟ أفاده صاحب «البحر الرائق».
قلت: وأجاب العلامة المنلا علي القاري: (بأن الأحاديث المذكورة في هذا الباب وغيره حين وصولها للمجتهد لا سيما الإمام الأعظم التابعي الجليل؛ كانت في غاية الصحة، ووصفها بالضعف حين وصولها إلينا؛ فكان وصفها بالضعف جراءة وسوء أدب في حق المجتهد ... ) إلى آخر كلامه، والله تعالى أعلم.
وذهب مالك في رواية: أنه لا وقت لقليل الحيض ولا كثيره إلا ما يوجد في النساء، وفي أخرى: أنه لا يكون أكثر من خمسة عشر يومًا فما دونها، وما زاد؛ فهو استحاضة، وبه قال الشافعي، والطهر المتخلل بين الدمين خمسة عشر يومًا عند الإمام الأعظم، ومالك، والشافعي.
(وقال مُعْتمر) بضمِّ الميم، وسكون العين المهملة، بعدها مثناة فوقية، هو ابن سليمان، وكان أعبد أهل زمانه، (عن أبيه)؛ هو سليمان المذكور ابن طرخان، قال سَعِيْد: (ما رأيت أصدق من سليمان، كان إذا حدث عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ تغيَّر لونه)، وقال: شكه بيقين، وكان يصلي الليل كله بوضوء العشاء الآخرة، كذا في «عمدة القاري»، وبه تعلم وهم القسطلاني، وهذا الأثر رواه الدارمي عن محمَّد بن عيسى، عن معتمر قال: (سألت) وللأصيلي، وأبي ذر: (قال: سألت) (ابن سيرين) هو محمَّد المشهور (عن المرأة ترى الدم بعد قُرْئها)؛ بضمِّ القاف، وسكون الراء؛ أي: حيضها المعتاد لا طهرها بقرينة قوله: (بخمسة أيام) فإنه يدل على أنها معتادة، والسؤال صادر عنها، ولا يخفى أن المعتادة ترى الدم، فرؤية الدم ليست قرينة على الطهر، كما زعمه القسطلاني ترويجًا لما ذهب إليه إمامه؛ فليحفظ.
(قال) أي: محمَّد بن سيرين (النساء أعلم بذلك) يعني: التمييز بين الدمين راجع إليها؛ فيكون
%ص 372%
المرئي في أيام عادتها حيضًا، وما زاد عليها؛ فهو استحاضة، فإن لم يكن لها علم بالتمييز؛ يكن [8] حيضها ما تراه إلى كثرة مدة الحيض، وما زاد عليها؛ استحاضة، وسيأتي.
وزعم الكرماني أن قوله: (بعد قرئها)؛ أي: طهرها لا حيضها بقرينة لفظ الدم، والغرض منه: أن أقل الطهر يحتمل أن يكون خمسة أيام أم لا.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ليس المعنى هكذا، وإنما المعنى: أن ابن سيرين سئل عن امرأة كان بها حيض معتاد، ثم رأت بعد أيام عادتها خمسة أيام أو أقل [9] أو أكثر، فكيف يكون حكم هذه الزيادة؟ فقال ابن سيرين: «هي أعلم بذلك»؛ يعني: التمييز بين الدمين راجع إليها؛ فيكون المرئي في أيام عادتها حيضًا، وما زاد على ذلك؛ فهو استحاضة، فإن لم يكن لها علم بالتمييز؛ يكن حيضها ما تراه إلى أكثر مدة الحيض، وما زاد عليها؛ يكون استحاضة، وليس المراد من قولها: «بعد قرئها [10]» أي: بعد طهرها، كما قاله الكرماني، بل المراد: بعد حيضتها المعتادة [11]، كما ذكرنا) انتهى.
وقال صاحب «التلويح»: (وهذا الأثر يشهد لمن يقول: القرء: الحيض، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، وقال السفاقسي: وهو قول ابن سيرين، وعطاء، وأحد عشر صحابيًّا: الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، ومعاذ، وقتادة، وقول أبي الدرداء، وأنس بن مالك رضي الله عنهم وهو قول سَعِيْد بن المسيِّب، وابن جبير، وطاووس، والضحاك، والأوزاعي، والنخعي، والشعبي، والثوري، وإسحاق، وأبي عبيد) انتهى.
قلت: وكفى بهؤلاء الأئمَّة قدوة وسندًا، وهو قول أبي موسى، ومُجَاهِد، وعكرمة، والسدي فقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] المراد بـ (القرء) في الآية: الحيض، والدليل عليه: قول النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «طلاق الأَمَة تطليقتان، وعدتها حيضتان»، وقد أجمع العلماء على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة، فوجب أن يكون عدة الحرة هي الحيض الثلاث، وأن تكون هي المرادة بالقروء في الآية.
وزعم الشافعي وغيره إلى أن المراد به: الطهر تمسكًا في قصة ابن عمر مرة: «فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء؛ أمسك بعد، وإن شاء؛ طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء».
قلنا: هذا الحديث لا يقاوم الحديث الأول، لا سيما وقد عضده الإجماع، ويدل لما قدمنا قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فإن معناه: فطلقوهن مستقبلات لعدتهن التي هي ثلاث حيض، وتطليقهن حال توجيههن إليها إنَّما يكون في الطهر؛ كما تقول: فعلته لثلاث بقين من الشهر؛ تريد: مستقبلًا لثلاث، فهذا يدل على أن المراد بالقروء: الحيض، ويدل لذلك ما قاله أبو زيد: قرء [12]؛ بفتح القاف، يقال: أقرأت المرأة؛ حاضت، فهي [13] مقرئ، وقال الأخفش: أقرأت المرأة؛ أي: صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت؛ قلت: قرأت؛ بلا ألف، يقال: أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين، والقرء أيضًا: انقضاء الحيض، وقال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمِّي الحيض قرءًا، ومنهم من يسمِّي الطهر قرءًا، ومنهم من يجمعهما جميعًا فيسمِّي الحيض مع الطهر: قرءًا، ذكره النحاس، وإنِّما سمَّي القرء حيضًا؛ لاجتماع الدم في الرحم، والمشهور أنَّه: حقيقة في الحيض، مجاز للطهر، وقيل: بالعكس، وقيل: حقيقة فيهما، والأوَّل هو الصحيح، وممَّا جاء القرء في الحيض قوله:
يا ربِّ ذي ضفن على قارص ... له قرؤ كقرؤ الحائض
يعني: أنَّه طعنه، وكان له دم كدم الحائض، وتمامه يأتي إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالحال.
==========
[1] في الأصل: (فطهر)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (وعشرين)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (خمس ... خمس)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (خرفًا)، وهو تصحيف.
[5] في الأصل: (فالأجل)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (رؤية)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (يكتفى).
[8] في الأصل: (يكون)، وكذا في الموضع اللاحق.
[9] في الأصل: (قل).
[10] في الأصل: (قرائها).
[11] في الأصل: (المعتاد)، وليس بصحيح.
[12] في الأصل: (قر)، وليس بصحيح.
[13] في الأصل: (فهو)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (فطهر)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (وعشرين)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (خمس ... خمس)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (خرفًا)، وهو تصحيف.
[5] في الأصل: (فالأجل)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (رؤية)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (يكتفى).
[8] في الأصل: (يكون)، وكذا في الموضع اللاحق.
[9] في الأصل: (قل).
[10] في الأصل: (قرائها).
[11] في الأصل: (المعتاد)، وليس بصحيح.
[12] في الأصل: (قر)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (فطهر)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (وعشرين)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (خمس ... خمس)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (خرفًا)، وهو تصحيف.
[5] في الأصل: (فالأجل)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (رؤية)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (يكتفى).
[8] في الأصل: (يكون)، وكذا في الموضع اللاحق.
[9] في الأصل: (قل).
[10] في الأصل: (قرائها).
[11] في الأصل: (المعتاد)، وليس بصحيح.
[12] في الأصل: (قر)، وليس بصحيح.
(1/557)
[حديث: لا إن ذلك عرق]
325# وبالسَّند إلى المؤلِّف قال: (حدثنا أحمد ابن أبي رَجاء) بفتح الراء، وتخفيف الجيم، وبالمدِّ، واسمه عبد الله بن أيُّوب الهروي، ويكنَّى أحمد بأبي الوليد، وهو حنفي النسب لا المذهب، مات بهراة سنة اثنين وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا أبو أسامة) هو حمَّاد بن أسامة الكوفي (قال: سمعت هِشام) بكسر الهاء (بن عُروة) بضمِّ العين المهملة، هو ابن الزبير (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) هي الصدِّيقة بنت الصدِّيق الأكبر رضي الله عنهما: (أن فاطمة بنت أبي حُبَيْش) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره شين معجمة، القرشية الأسدية، واسم أبيها قَيْس بن عبد المطَّلب بن أسد، كذا قاله إمام الشارحين، والذهبي في «تجريد الصحابة»، وهي غير فاطمة بنت قَيْس التي طلِّقت ثلاثًا، وما زعمه ابن حجر؛ فخطأ ظاهر، كما لا يخفى على أهل الظاهر (سألت النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وقوله: (قالت) بيان لقولها: (سألت)، وفي بعض الأصول: (فقالت)؛ بالفاء التفسيرية.
قلت: وهي أولى لظهور المعنى؛ فافهم: (إنِّي) إنَّما أكَّدت بـ: (إن) لتحقيق القضيِّة، لندور وقوعها لا لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم منكر أو متردد (أُسْتَحاض) بضمِّ الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، (فلا أطهر) أي: يستمرُّ بها الدم بعد أيَّام حيضها، والاستحاضة: اسم لما نقص عن أقلِّ الحيض؛ وهو ثلاثة أيام، ولمَا زاد على أكثره؛ وهو عشرة أيام، وإنَّما بني الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الاستحاضة؛ لأنَّ الأوَّل معتاد معروف؛ فنسب إليها، والثاني نادر غير معروف الوقت، وهو منسوب إلى الشيطان، كما ورد: أنها ركضة من الشيطان، والسين فيه يجوز أن تكون للتحويل: كما في استحجر الطين؛ فإنَّه تحوَّل دم الحيض إلى غير دمه، وهو دم الاستحاضة؛ فليحفظ.
(أفأدع) أي: أفأترك (الصَّلاة؟) هذا سؤال عن استمرار حكم الحائض في حالة دوام الدم وإزالته، وهو كلام من تقرَّر عنده أن الحائض ممنوعة من الصَّلاة، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وبه اندفع ما زعمه الكرماني من أنَّه معطوف على مقدَّر؛ أي: أيكون في حكم الحائض؟ أو الهمزة مقحمة، أو توسُّطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة؛ لعدم انسحاب ذكر الأول على الثاني، أو الهمزة ليست باقية على صرافة الاستفهامية؛ لأنَّها للتقرير هنا؛ فلا تقتضي الصدارة؛ فافهم، (فقال)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (لا) أي: لا تدعي الصَّلاة (إن ذلكِ) بكسر الكاف (عِرْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الراء؛ أي: دم عرق؛ لأنَّ الخارج ليس بعرق، وهو المسمَّى بـ (العاذل) بالعين المهملة، والذال المعجمة، وحكي إهمالها، (ولكن) للاستدراك (دعي الصَّلاة) أي: اتركي الصَّلاة (قدر الأيَّام التي كنتِ) بكسر التاء
%ص 373%
(تحيضين فيها) فيوكل ذلك إلى أمانتها، وردها إلى عادتها، فإن كانت عادتها من كلِّ شهر عشرة أيَّام من أوَّلها، أو من وسطها، أو في آخرها؛ فتترك الصَّلاة عشرة أيَّام من هذا الشهر نظير ذلك، وهكذا.
فإن قيل: الاستدراك لا بدَّ أن يكون بين كلامين متغايرين؟
وأجيب: بأنَّ معناه: لا تتركي الصَّلاة في كلَّ الأوقات، لكن اتركيها في مقدار العادة، ولفظة (قدر الأيَّام) تشعر بأنَّها كانت معتادة.
فإن قلت: من أين كانت تحفظ فاطمة عدد أيَّامها التي كانت تحيضها أيَّام الصحَّة؟
قلت: لو لم تحفظ ذلك؛ لم يكن لقوله عليه السلام: «دعي الصَّلاة قدر الأيَّام التي كنت تحيضين فيها» فائدة، وقد جاء في رواية أبي داود وغيره في حديث أم سَلَمَة: «لتنظر عدة الليالي والأيَّام التي كانت تحيض فيها من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها؛ فلتترك [1] الصَّلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك؛ فلتغتسل، ثمَّ تستتر بثوب، ثمَّ لتصلِّي».
وجاء في حديث فاطمة بنت أبي حبيش أيضًا رواه أبو داود والنسائي: فقال لها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا كان دم الحيضة؛ فإنَّه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك؛ فأمسكي عن الصَّلاة، وإذا كان الآخر؛ فتوضَّئي وصلِّي، فإنَّما ذلك عرق».
فإن قلت: كيف الأمر فيمن لم تحفظ عادة أيَّامها؟
قلت: هذه المسألة مشهورة في الفروع، وهو أنَّها تحسب في كل شهر عشرة حيضها، ويكون الباقي استحاضة، واحتجَّ الراوي لأصحابنا في «شرح مختصر الحافظ الطحاوي» بقوله عليه السلام: «قدر الأيَّام التي تحيضين فيها» على تقدير أقل الحيض وأكثره؛ لأنَّ أقل ما يتناوله اسم الأيَّام ثلاثة أيَّام، وأكثره عشرة؛ لأنَّ ما دون الثلاث لا يسمَّى أيَّامًا، وتقول ثلاثة أيَّام إلى عشرة أيَّام، ثمَّ تقول: أحد عشر يومًا، كذا قرَّره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الباري.
(ثم اغتسلي وصلِّي)؛ يعني: أنَّه إذا مضى زمن حيضها؛ وجب عليها أن تغتسل في الحال لأوَّل صلاة تدركها، ولا يجوز لها بعد ذلك أن تترك صلاةً ولا صومًا، ويكون حكمها حكم الطاهرات، هذا مذهب إمامنا الأعظم وأصحابه، وتبعه الشافعي، وهو رواية عن مالك، الثانية: تترك الصَّلاة إلى انتهاء خمسة عشر يومًا، وهو أكثر مدَّة الحيض عنده، والثالثة: تترك ثلاثة أيَّام، وما بعدها استحاضة، ووجه مطابقة الحديث للترجمة: أنَّه عليه السلام وكَّل ذلك إلى أمانتها وعادتها، فقد يقلُّ ذلك ويكثر على قدر عادة النساء.
وفي الحديث جواز استسقاء المرأة بنفسها ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بأمر الدين.
وفيه جواز استماع صوت المرأة عند الحاجة الشرعيَّة.
وفيه نهي المستحاضة عن الصَّلاة في زمن الحيض وهو نهي تحريم، ومقتضاه: فساد الصَّلاة هنا بإجماع المسلمين، ويستوي فيها الفرض، والواجب، والنفل؛ لظاهر الحديث، ويتبعها الطواف، وصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر.
وفيه أنَّ الصَّلاة تجب بمجرَّد انقطاع دم الحيض، وقد سبق ذكر هذا الحديث في باب (غسل الدم).
==========
[1] في الأصل: (فالتترك)، وهو تحريف.
==================
(1/558)
(25) [باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض]
هذا (باب) بيان (الصُفْرة)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وسكون الفاء (والكُدْرة)؛ بضمِّ الكاف، وسكون الدال المهملة؛ اللتين تراهما المرأة (في غير أيام الحيض) يعني: لا يكون حيضًا، وألوان الدم ستَّة: السواد، والحمرة، والصفرة، والكدرة، والخضرة، والتربية.
أمَّا الحمرة؛ فهي اللون الأصلي للدم إلاَّ عند غلبة السوداء عليه؛ فيضرب إلى السواد، وعند غلبة الصفراء عليه؛ فيضرب إلى الصفرة، ويتبيَّن ذلك لمن افتصد.
وأما الصفرة؛ فهي من ألوان الدم؛ إذا رقَّ، وقيل: هي كصفرة البيض، أو كصفرة القزِّ.
وقال الإمام الجليل قاضيخان: (الصفرة تكون كلون القزِّ، أو لون البسر، أو لون التبن، فالسواد، والحمرة، والصفرة حيض).
وأمَّا الكدرة؛ فقال الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن: أنها حيض سواء رأت في أيَّام عادتها أو آخرها، وهي لون كلون الصديد يعلوه إصفرار.
وأمَّا الخضرة؛ فاختلف فيها، فقال الشيخ الإمام أبو منصور: إن رأتها في أوَّل الحيض؛ تكون حيضًا، وإن رأتها في آخر الحيض واتصل بها أيَّام الحيض؛ لا تكون حيضًا، وجمهور الأئمَّة الحنفيَّة: على كونها حيضًا كيفما كانت.
وأمَّا التُرْبِيَّة؛ فهي التي تكون على لون التراب، وهي نوع من الكدرة، وهي بضمِّ المثنَّاة الفوقية، وسكون الراء، وكسر الموحَّدة، وتشديد التحتية، ويقال: الترابية، وقال الإمام الجليل قاضيخان: التربية على وزن (التربة)، وقيل فيها: تريئة [1] على وزن (تفعلة) من الرؤية، وقيل: تربيَّة على وزن (تفعيلة)، وقيل: تريَّة [2]؛ بالتشديد والتخفيف بغير همزة، كذا قرره إمام الشارحين.
ونقل عن ابن الأثير أن التريَّة؛ بالتشديد: (ما تراه المرأة بعد الحيض والاغتسال منه من كدرة أو صفرة، وقيل: هي البياض الذي تراه عند الطهر، وقيل: هي الخرقة التي تعرف به المرأة حيضها من طهرها، والتاء الفوقية فيه زائدة؛ لأنَّه من الرؤية، والأصل فيه: الهمزة، ولكنَّهم تركوه وشدَّدوا الياء التحتية، فصارت اللَّفظة كأنَّها فعيلة) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (تريبة)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (تربة)، وهو تصحيف.
%ص 374%
==================
[1] في الأصل: (تريبة)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (تريبة)، وهو تحريف.
(1/559)
[حديث: كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئًا]
326# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدَّثنا قُتَيبة بن سَعِيْد) بضمِّ القاف، وفتح الفوقية (قال: حدَّثنا إسماعيل) هو ابن أبي عليَّة، بضمِّ العين المهملة، (عن أيُّوب) هو السختياني، (عن محمَّد) هو ابن سيرين، (عن أم عطيَّة) وهي نسيبة، وقيل: نشيبة، وقيل: لسينة، كما تقدَّم قريبًا، ومن لطائف هذا الإسناد أنَّ فيه رواية راوي من رأى أنس بن مالك عن الصحابيَّة، وفيه أنَّه موقوف، كذا قاله ابن عساكر، ولكنَّ قولها: (كنَّا) يعني: في زمن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: مع علمه بذلك، وتقديره: إيَّاهن، وهذا في حكم المرفوع، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(قالت) وهو ساقط في رواية أبي ذرٍّ (كنَّا) أي: نساء الصحابة في زمن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مع علمه بذلك، وتقريره: (لا نعدُّ الكُدْرَة) بضمِّ الكاف، وسكون الدال المهملة، (والصُّفْرة) بضمِّ الصاد المهملة، وسكون الفاء (شيئًا) أي: شيئًا معتدًّا به؛ يعني: أنَّ
%ص 374%
الكدرة والصفرة لا تكون حيضًا إذا كانت في غير أيام الحيض، وهذا هو المراد من الحديث، ويوضِّحه رواية أبي داود، عن أمِّ عطيَّة وكانت بايعت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: (كنَّا لا نعدُّ الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا)، وعلى هذا؛ ترجم البخاري، وصحَّحه الحاكم.
وعند الإسماعيلي: (كنَّا لا نعد الصفرة والكدرة شيئًا في الحيض).
وعند الدارقطني: (كنَّا لا نرى التربيَّة بعد الطهر شيئًا؛ وهي الصفرة والكدرة).
وروى ابن بطَّال من رواية حمَّاد بن سَلَمَة، عن قتادة، عن حفصة قالت: (كنَّا لا نرى التربيَّة بعد الغسل شيئًا).
قال الكرماني: فإن قلت: قد روي عن عائشة: (كنَّا نعدُّ الصفرة والكدرة حيضًا)، فما وجه الجمع بينهما؟
قلت: هذا في وقت الحيض، وذلك في غير وقته)، وردَّه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه ابن حزم بسند واهٍ؛ لأجل أبي بكر النهشلي الكذَّاب، ووقع في «وسيط الغزالي» ذكره له من حديث زينب، ولا تعرف، وروى البيهقي حديث عائشة أنَّها قالت: (ما كنَّا نعد الكدرة والصفرة شيئًا ونحن مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) قال: وسنده ضعيف لا يسوَّى ذكره، قال: وقد روي معناه عن عائشة بسند أمثل من هذا وهو أنَّها قالت: (إذا رأت المرأة الدَّم؛ فلتمسك عن الصَّلاة حتى تراه أبيض؛ كالفضَّة، فإذا رأت ذلك؛ فلتغتسل ولتصلِّي، فإذا رأت صفرة أو كدرة؛ فلتتوضَّأ ولتصلِّي، فإذا رأت ماءً أحمر؛ فلتغتسل ولتصلِّي) انتهى.
قلت: ومراد إمام الشارحين بهذه الروايات وسردها: الردُّ على ما زعمه الكرماني، فإنَّه إذا كان حديث عائشة واهٍ شديد الضَّعف؛ لا يقاوم حديث الباب، وإذا كان كذلك؛ لا يلزم ذكر وجه الجمع بينهما؛ لأنَّه إنَّما يذكر وجه الجمع بين الحديثين إذا كانا في رتبة واحدة، وذلك كونهما في الصحة سواء، فيحصل بينهما التعارض؛ فيحتاج لذكر وجه الجمع بينهما، أمَّا إذا كان الحديث صحيحًا، وحديث يخالفه ضعيف كما هنا؛ فلا يحتاج لذلك؛ لأنَّ من المعلوم أنَّ الصحيح لا يقاوم الضعيف، كما لا يخفى.
وذهب جمهور العلماء في معنى الحديث إلى ما ذهب إليه المؤلِّف في ترجمته، فقال أكثرهم: الصفرة والكدرة حيض إذا كانت في أيام الحيض خاصة، وبعد أيام الحيض؛ ليس بشيء؛ وهو مذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين وأصحابه، وهو مرويٌّ عن عليِّ بن أبي طالب، وبه قال سَعِيْد بن المسيِّب، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، وربيعة، والثَّوري، والأوزاعي، واللَّيث، والشَّافعي، وأحمد، وإسحاق، وقال الإمام أبو يوسف: ليس قبل الحيض حيض، وفي آخر الحيض حيض، وهو قول أبي ثور.
وقال مالك: (حيض في أيَّام الحيض وغيرها).
قال ابن بطَّال: (وأظنُّ [1] أنَّ حديث أمُّ عطية لم يبلغه) انتهى.
قلت: فحديث أمِّ عطيَّة حجَّة على مالك؛ لأنَّه نصٌّ في الباب، وما زعمه مالك مخالف للنص، والحقُّ أحقُّ أن يتَّبع.
وقال إمام الشارحين: وهذا الحديث أخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدَّد، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن زرارة، وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمَّد بن يحيى، عن عبد الرزَّاق، عن معمر، عن أيُّوب به، وقال المزِّي: (رواه وهيب، عن أيُّوب، عن حفصة، عن أمِّ عطية)، قال محمَّد بن يحيى: (خبر وهيب أولاهما عندنا).
واعترضه صاحب «عمدة القاري»؛ حيث قال: قلت: ما ذهب إليه البخاري من تصحيح رواية إسماعيل أرجح لمتابعة معمر له، عن أيُّوب، ولأنَّ إسماعيل أحفظ لحديث أيُّوب من غيره، ويجوز ان يكون أيُّوب قد سمعه من محمَّد، ومن حفصة) انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (وأظنه).
==================
(1/560)
(26) [باب عرق الاستحاضة]
هذا (باب) بيان (عِرْق) بكسر العين المهملة، وسكون الراء (الاستحاضة) أي: المسمَّى بالعاذل، وأراد المؤلِّف بهذا أنَّ دم الاستحاضة من عرق، كما صرَّح به في حديث الباب، وفي رواية أخرجها أبو داود: (وإنَّما ذلك عرق وليست بالحيضة)، والمناسبة بين البابين من حيث إن كلًّا منهما يشتمل على ذكر حكم الاستحاضة.
==================
(1/561)
[حديث: أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين]
327# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدَّثنا إبراهيم بن المُنْذِر) بضمِّ الميم، وسكون النون، وكسر الذال المعجمة، هو الحِزَامي؛ بكسر الحاء المهملة، وبالزاي المخففة (قال: حدَّثنا مَعْن) بفتح الميم، وسكون العين المهملة، بعدها نون، هو ابن عيسى القزَّاز؛ بتشديد الزاي الأولى (قال: حدَّثني)؛ بالإفراد، وفي رواية الأصيلي: (حدَّثنا) (ابن أبي ذِئْب)؛ بكسر الذال المعجمة، وسكون التحتيَّة، وقد تبدَل همزة، هو محمَّد بن عبد الرَّحمن، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزُهْرِي، (عن عُروة) بضمِّ العين المهملة، هو ابن الزُّبير، بضمِّ الزاي، (وعن عَمْرة) بفتح العين المهملة، وسكون الميم، وهو عطف على عروة؛ يعني: أن ابن شهاب يرويه عنها أيضًا، وهي عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصارية، الثقة الحجة العالمة، ماتت سنة ثمان وتسعين، (عن عائشة) هي الصدِّيقة بنت الصديق (زوج النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) و رضي الله عنها، قال إمام الشارحين: (وعن عمرة)؛ بواو العطف؛ كلاهما عن عائشة، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي الوقت، وابن عساكر: (عن عروة، عن عمرة، عن عائشة) بحذف الواو، والمحفوظ إثبات الواو، وأنَّ ابن شهاب رواه عن شيخين عمرة وعروة؛ كلاهما عن عائشة، وكذا أخرجه الإسماعيلي وغيره من طريق ابن أبي ذئب، وكذا أخرجه مسلم من طريق عمرو بن الحارث، وأبو داود من
%ص 375%
طريق الأوزاعي؛ كلاهما عن الزُّهْرِي، عن عروة وحده، وكذا من طريق إبراهيم بن سعد، وأبو داود من طريق يونس؛ كلاهما عن الزُّهْرِي، عن عمرة وحدها، قال الدارقطني: (هو صحيح من رواية الزُّهْرِي، عن عروة وعمرة جميعًا) انتهى.
(أنَّ أمَّ حَبِيبة) بفتح الحاء المهملة، وكسر الموحَّدة، بعدها تحتية، ثم موحَّدة، هي بنت جحش أخت زينب أمِّ المؤمنين، وهي مشهورة بكنيتها.
وزعم الواقدي والحربي أن اسمها حبيبة، وكنيتها أمُّ حبيب؛ بغير هاء، ورجَّحه الدارقطني، والمشهور في الروايات الصحيحة: (أمُّ حبيبة)؛ بإثبات الهاء، وكانت زوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، كما ثبت عند مسلم من رواية عمرو بن الحارث، ووقع في «الموطأ» عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سَلَمَة: (أنها [رأت] زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف كانت تستحاض ... )؛ الحديث فقيل: هو وهم، وقيل: بل صواب، وإنَّ اسمها زينب، وكنيتها أمُّ حبيبة، وأمَّا كون اسم أختها أمُّ المؤمنين زينب؛ فإنَّه لم يكن اسمها الأصلي، وإنَّما كان اسمها برَّة، فغيَّره النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فلعلَّه سمَّاها باسم أختها؛ لكون أختها غلبت عليها الكنية، فأمن اللبس، ولهما أخت أخرى اسمها حَمْنة _بفتح الحاء المهملة، وسكون الميم، آخره نون_ وهي إحدى المستحاضات، وقال ابن الأثير: (روى ابن عيينة، عن الزُهْرِي، عن عمرة، عن عائشة: أنَّ أمَّ حبيبة أو حبيب [1])، وعند ابن عبد البرِّ: أكثرهم يسقطون الهاء، ويقولون: أمَّ حبيب، وأهل السير يقولون: المستحاضة حمنة، والصحيح عند أهل الحديث: أنَّهما كانتا مستحاضتين جميعًا، وقيل: إنَّ زينب استحيضت، كذا قرَّره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، (استحيضت)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: استمرَّ بها دم الحيض بعد العادة، وقوله: (سبع سنين)؛ جمع لسنة، على سبيل الشذوذ من وجهين؛ الأوَّل: أنَّ شرط جمع السلامة أن يكون مفرده مذكَّرًا عاقلًا، وليست كذلك، والآخر كسر أوَّله، والقياس فتحه، كذا في «عمدة القاري»، (فسألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك) أي: عن حكم دم الاستحاضة، (فأمرها) أي: النبيَّ الأعظم صلَّى عليه الله وسلم (أن تغتسل) أي: بأن تغتسل، فـ (أن) مصدريَّة؛ والتقدير: فأمرها بالاغتسال، وفي رواية مسلم، والاسماعيلي: (فأمرها أن تغتسل وتصلي)، وهذا الأمر بالاغتسال مطلق يحتمل الأمر بالاغتسال لكلِّ صلاة، ويحتمل الاغتسال في الجملة.
ويدلُّ للأوَّل ما في «أبي داود»: حدثنا هنَّاد، عن عبدة، عن ابن إسحاق، عن الزُهْرِي، عن عروة، عن عائشة: أنَّ أمَّ حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمرها بالغسل لكلِّ صلاة، فهذه الرواية تدلُّ على الاغتسال لكلِّ صلاة، لكن قال البيهقي: رواية ابن إسحاق عن الزُهْرِي غلط؛ لمخالفتها سائر الروايات عن الزُهْرِي، ويمكن أن يقال: إن كان هذا مخالفة الترك؛ فلا تناقض، وإن كان مخالفة التعارض؛ فليس كذلك؛ لأنَّ الأكثر فيه السكوت عن أمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالغسل عند كلِّ صلاة، وفي بعضها أنها فعلته هي، كما سيأتي، (فقال) أي: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (هذا عِرْق)؛ بكسر العين المهملة، وسكون الراء؛ أي: دم عرق انفجر، وليس بحيض، وقوله: (وكانت تغتسل لكل صلاة) من كلام الراوي؛ ومعناه: تغتسل من الدَّم الذي كان يصيب الفرج؛ فإنَّ المشهور من مذهب عائشة الصدِّيقة أنَّها كانت لا ترى الغسل لكلِّ صلاة، ويدلُّ لصحَّة هذا قوله عليه السلام: «هذا عرق»؛ لأنَّ دم العرق لا يوجب غسلًا، وقيل: إنَّ هذا الحديث منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حبيش، فإنَّ فيه الأمر بالوضوء، رواه البيهقي في باب (المستحاضة إذا كانت مميزة).
ووجه النَّسخ أن عائشة رضي الله عنها أفتت بحديث فاطمة بعد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالفت حديث أم حبيبة، وهذا لأنَّ أبا محمَّد الإشبيلي قال: (حديث فاطمة أصح حديث يروى في الاستحاضة)، وقال الليث بن سعد في روايته عند مسلم: (لم يذكر ابن شهاب أنَّه عليه السلام أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولكن شيء فعلته هي)، وإلى هذا ذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، فقالوا: لا يجب الغسل على المستحاضة لكل صلاة، ولكن يجب عليها الوضوء إلا المتحيرة، وقال محمَّد بن إدريس: إنَّما أمرها عليه السلام أن تغتسل وتصلي، وإنما كانت لكل صلاة تطوُّعًا، وروى أبو الوليد الطيالسي عن سليمان بن كثير، عن الزُهْرِي، عن عروة، عن عائشة: استحيضت زينب بنت جحش، فقال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «اغتسلي لكل صلاة»، وقال أبو داود: ورواه عبد الصمد، عن سليمان بن كثير قال: «توضئي لكل صلاة»، قال أبو داود: (وهو وهم).
وأجيب: بأنه قد ذكر هذا في حديث حمَّاد، أخرجه النَّسائي، وابن ماجه، وقال مسلم في «صحيحه»: (وفي حديث حمَّاد بن زيد حرف تركناه، وهي: «توضئي لكل صلاة)، قال النووي: (وأسقطها مسلم؛ لأنَّها مما انفرد به حمَّاد).
قلنا: لم ينفرد به حمَّاد عن هشام، بل رواه عنه أبو عوانة، كما أخرجه الحافظ الطحاوي في كتاب «الرد على الكرابيسي» من طريقه بسند جيد، ورواه أيضًا حمَّاد بن سَلَمَة، أخرجه الدارمي من طريقه، وأخرجه الحافظ الطحاوي من طريق أبي نعيم، وعبد الله بن يزيد المقري، عن الإمام الأعظم أبي حنيفة، عن هشام، وأخرجه الترمذي، وصححه من طريق وكيع، وعبدة، وأبي معاوية، عن هشام، وقال في آخره: وقال أبو معاوية في حديثه: «توضئي لكل صلاة»، وقد جاء الأمر أيضًا بالوضوء فيما أخرجه البيهقي من حديث فاطمة بنت أبي حبيش على أن حمَّاد بن زيد لو انفرد بذلك؛ لكان كافيًا؛ لثقته وحفظه، لا سيما في هشام، وليس هذا مخالفة، بل زيادة ثقة، وهي مقبولة لا سيما في مثله.
وزعم الخطابي أن هذا الخبر مختص، ليس فيه ذكر حال هذه المرأة، ولا بيان أمرها، وكيفية شأنها، وليس كل مستحاضة يجب عليها الاغتسال لكل صلاة، وإنما هي فيمن تبتلى وهي لا تميز دمها، أو كانت لها أيام فنسيتها، وموضعها، ووقتها، وعددها، فإذا كانت كذلك؛ فإنها لا تدع شيئًا من الصَّلاة، وكان عليها أن تغتسل عند كل صلاة؛ لأنَّه يمكن أن يكون ذلك الوقت قد صادف زمان انقطاع دمها، فالغسل عليها عند ذلك واجب، انتهى.
قلت: وظاهر
%ص 376%
كلامه أنَّه جعل الحديث خاصًّا بالمتحيرة، وهي التي أضلت عادتها، وهذا غير صحيح؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه، فإنه ليس فيه ذلك، وقوله: (ليس فيه ذكر حال هذه المرأة): ممنوع، فإنه عليه السلام قد علم حالها بإخبارها أو بالوحي، فأفتاها على طبق مقصدها ومرامها، وأحكام المتحيرة مذكورة في شرحنا على القدوري المسمى بـ «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب؛ على أنه قد ثبت في الروايات الصحيحة الوضوء دون الغسل، وأن رواية الوضوء أصح من رواية الغسل، لا سيما الرواية التي بينت أنها كانت تفعل ذلك هي وحدها؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (حبيبة)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/562)
(27) [باب المرأة تحيض بعد الإفاضة]
هذا (باب): بيان حكم (المرأة) التي (تحيض بعد) طواف (الإفاضة)؛ وهو الذي يسمى أيضًا: طواف الزيارة، وهو من أركان الحج؛ يعني: هل تنفر وتترك طواف الوداع؟ فالجواب: نعم تترك وتنفر، ووجه المناسبة بين البابين من حيث إن في الباب السابق حكم المستحاضة، وفي هذا الباب حكم الحائض، فالحيض والاستحاضة من واد واحد، أفاده إمام الشارحين.
==========
%ص 377%
==================
(1/563)
[حديث: لعلها تحبسنا؟! ألم تكن أفاضت معكن]
328# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المصري (قال: أخبرنا) وفي رواية الأصيلي: (حدثنا) (مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن عبد الله بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حَزْم المدني الأنصاري، (عن أبيه) هو أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حَزْم_ بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي_ ولي القضاء والإمرة والموسم زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، (عن عَمْرة) بفتح العين المهملة، وسكون الميم (بنت عبد الرحمن) بن سعد الأنصارية المذكورة في الباب السابق، وهي خالته التي تربت في حجر عائشة رضي الله عنها، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (زوج النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) ورضي عنهما: (أنها) أي: عائشة (قالت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) يا رسول الله؛ (إن صَفِيَّة) بفتح الصاد المهملة، وكسر الفاء، وتشديد التحتية، بنت حُيَيٍّ_بضمِّ الحاء المهملة، وباليائين؛ الأولى مفتوحة مخففة، والثانية مشددة_ ابن أخطب _بفتح الهمزة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الطاء المهملة بعد موحدة_ النَّضْرية [1]_بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة_ من بنات هارون أخ موسى صلَّى الله عليهما وسلَّم، سباها النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عام فتح خيبر، ثم أعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، توفيت سنة ستين في خلافة معاوية رضي الله عنه، قاله الواقدي، وقال غيره: توفيت في خلافة علي الصدِّيق الأصغر سنة ست وثلاثين، كذا قرره إمام الشارحين.
(قد حاضت) أي: جاءها دم الحيض، (قال النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: للحاضرين في مجلسه: (لعلها تحبسنا) أي: عن الخروج من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حتى تطهر وتطوف بالبيت، و (لعل) ههنا ليست للترجي، بل للاستفهام، أو للتردد، أو للظن، وما شاكله، قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، (ألم تكن) بهمزة الاستفهام (طافت) أي: طواف الركن (معكن) أي: مع نساء الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن؟ (قالوا) وفي رواية: (فقالوا)؛ بالفاء؛ أي: الحاضرون هناك في مجلسه عليه السلام وفيهم الرجال والنساء، قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» قال: وهذا أوجه مما زعمه الكرماني؛ أي: قال الناس، وإلا فحق القول أن يقال: فقلن أو فقلنا، ومما زعمه ابن حجر؛ أي: النساء ومن معهن من المحارم قال: (وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ فيه تغليب الإناث على الذكور) انتهى.
قلت: وما زعمه الكرماني ليس بصحيح أيضًا، فإن قوله: (قال الناس)؛ فاسد؛ لأنَّ القائل الحاضرون ذكورًا وإناثًا، لا جميع الناس.
وقوله: (وإلا فحق ... ) إلخ: ممنوع هنا؛ لأنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لم يخاطب النساء فقط، بل خاطب كل من كان في مجلسه الشريف، فليس حقه أن يقال ذلك، كما لا يخفى، وما زعمه ابن حجر بعيد عن الأفهام مع ما فيه من فساد الكلام؛ فإنه عليه السلام لم يخاطب إلا النساء والرجال سواء كانوا محارم أم لا، فمن أين جاء التقييد بالمحارم؟ ولا مانع أن ذلك كان قبل نزول الحجاب، فالخطاب متوجه إلى الحاضرين عنده مطلقًا، فالحق ما قاله إمام الشارحين رضي الله عنه، وهو أجدر بهذه التسمية؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
(بلى) يا رسول الله؛ أي: طافت طواف الركن، (قال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (فاخرجي) بالإفراد وبالخطاب، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والكشميهني: (فاخرجن) بصيغة الجمع للإناث، أما الوجه الأول؛ ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ يعني: قال صفية مخاطبًا لها: (اخرجي)، أو يكون الخطاب لعائشة؛ لأنَّها هي القائلة للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: إن صفية قد حاضت، فقال لها: (اخرجي)، فإنها توافقك في الخروج؛ إذ لا يجوز لها تأخر بعدك؛ لأنَّها قد طافت طواف الركن، ولم يبق عليها فرض، وفيه وجه آخر؛ وهو أن يقدر في الكلام شيء، قال لعائشة: قولي لها: اخرجي، وأما الوجه الثاني؛ فعلى السياق.
فإن قلت: ما الفاء في قوله: (فاخرجي)؟
قلت: فيه أوجه؛ الأول: أن تكون جوابًا لـ (أما) مقدرة؛ والتقدير: أما أنت؛ فاخرجي كما يخرج غيرك، والثاني: يجوز أن تكون زائدة، والثالث: يجوز أن تكون [2] عطفًا على مقدر؛ تقديره: اعلمي أن ما عليك التأخر فاخرجي، كذا قرره إمام الشارحين.
وقال النووي في «شرح مسلم»: (ففي الحديث دليل لسقوط طواف الوداع عن الحائض، وأن طواف الإفاضة ركن لا بد منه، وأنه لا يسقط عن الحائض ولا غيرها، وأن الحائض تقيم له حتى تطهر، فإن ذهبت إلى وطنها قبل طواف الإفاضة؛ بقيت محرمة) انتهى.
قلت: تبقى محرمة أبدًا حتى تطوف في حق الجماع مع زوجها، وأما في حق غيره؛ فتخرج عن الإحرام، وفيه دليل على أن الحائض لا تطوف بالبيت، فإن هجمت وطافت؛ ففيه تفصيل، فإن كانت محدثة وكان الطواف طواف القدوم؛ فعليها الصدقة عندنا، وقال الشافعي: لا يعتد به، وإن كان طواف الركن؛ فعليها شاة، وإن
%ص 377%
كانت حائضًا وكان الطواف طواف القدوم؛ فعليها شاة، وإن كان طواف الركن؛ فعليها بدنة، وكذا حكم الجنب من الرجال والنساء، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، والله الهادي.
==========
[1] في الأصل: (النضر به)، وهو تصحيف.
[2] في الأصل: (يكون).
==================
[1] في الأصل: (النضر به)، وهو تصحيف.
[1] في الأصل: (النضر به)، وهو تصحيف.
(1/564)
[حديث ابن عباس: رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت]
329# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُعلَّى) بضمِّ الميم، وتشديد اللام (ابن أسد): مرادف الليث، هو أبو الهيثم البصري، المتوفى سنة تسع عشرة ومئتين (قال: حدثنا وهيب) تصغير وهب، وهو ابن خالد البصري، (عن عبد الله بن طاووس) هو اليماني، المتوفى سنة اثنين وثلاثين ومئة، (عن أبيه) هو طاووس المذكور ابن كيسان اليماني الحميري، من أبناء الفرس، المتوفى سنة بضع عشرة ومئة، (عن ابن عباس) هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (قال: رُخص) بضمِّ الراء مبني للمجهول، والمرخص هو النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو معلوم ضرورة، والرخصة: حكم ثبت على خلاف الدليل؛ لعذر، وقال إمام الشارحين: (الرخصة: حكم شرع تيسيرًا لنا، وقيل: هو الشروع لعذر مع قيام المحرم لولا العذر، والعذر: هو وصف يطرأ على المكلف يناسب التسهيل عليه) انتهى، (للحائض) ومثلها النفساء (أن تنفِر)؛ بكسر الفاء وضمها، والكسر أفصح، وكلمة (أن) مصدرية في محل الرفع؛ لأنَّه فاعل ناب عن المفعول، والتقدير: رخص لها النفور؛ أي: الرجوع إلى وطنها (إذا حاضت) أي: إذا جاءها دم الحيض.
330# (وكان ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهذا من كلام طاووس، وهو داخل تحت الإسناد المذكور (يقول في أول أمره) يعني: قبل وقوفه على الحديث المذكور: (إنها) أي: الحائض (لا تنفر) أي: لا ترجع إلى وطنها حتى تطوف طواف الوداع، (ثم سمعته) أي: قال طاووس: ثم سمعت ابن عمر (يقول: تنفر) يعني: ترجع بعد أن طافت [1] طواف الركن، وأراد: أنه رجع عن الفتوى التي كان يفتيها أولًا إلى خلافها، وقوله: (إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رَخص) بفتح الراء؛ مبني للمعلوم (لهن) أي: للحائض، وإنما جمع؛ نظرًا للجنس، قاله إمام الشارحين من كلام ابن عمر، قاله في مقام التعليل؛ لرجوعه عن فتواه الأولى، وبيان ذلك: أنه لما لم تبلغه الحديث؛ أفتى باجتهاده، ثم لما بلغه؛ رجع عنه، أو كان وقف عليه أولًا، ثم نسيه، ثم لما تذكره؛ رجع إليه، وإما أنه سمع ذلك من صحابي آخر رواه عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فرجع إليه، قاله إمام الشارحين.
قلت: وكل محتمل، والظاهر الأول أو الثالث؛ فليحفظ.
وقال إمام الشارحين: (ذكر البخاريُّ هذين الأثرين عن ابن عباس وابن عمر؛ إيضاحًا لمعنى الحديث السابق) والله أعلم؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (طاقت)، وهو تصحيف.
%ص 378%
==================
(1/565)
(28) [باب إذا رأت المستحاضة الطهر]
هذا (باب)؛ بالتنوين (إذا رأت المستحاضة الطهر) أي: هذا باب في بيان أن المستحاضة [1] إذا رأت الطهر بأن انقطع دمها؛ تغتسل وتصلي ولو كان ذلك الطهر ساعة، هذا هو المعنى الذي قصده البخاري، والدليل عليه ذكره الأثر المروي عن ابن عباس على ما يذكر الآن، كذا قاله إمام الشارحين، وزعم ابن حجر أي: تميز لها دم العرق من دم الحيض، فسمي دم الاستحاضة طهرًا؛ لأنَّه كذلك بالنسبة إلى زمن الحيض، ويحتمل أن يراد به انقطاع الدم، والأول أوفق للسياق.
ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: فيه خدش من وجوه؛ الأول: أن كلامه يدل على أن دمها مستمر، ولكن لها أن تميز بين دم العرق ودم الحيض، والترجمة ليست كذلك، فإنه نص فيها على الطهر، وحقيقته الانقطاع عن الحيض، والثاني: أنه يقول تسمى الاستحاضة طهرًا، وهذا مجاز ولا داعي له ولا فائدة، والثالث: أنه يقول: إن الأوفق للسياق الأول، وهذا عكس ما قصده البخاري، بل الأوفق للسياق ما ذكرناه) انتهى.
(وقال) عبد الله (ابن عباس) رضي الله عنهما، مما رواه أبو بكر ابن أبي شيبة، عن أبي علية، عن خالد، عن أنس بن سيرين، عن ابن عباس به، ورواه أيضًا الدارمي موصولًا قال: (تغتسل) يعني: المستحاضة، إذا رأت الطهر؛ تغتسل (وتصلي) ما شاءت من الفرائض، والواجبات، والنوافل (ولو) كان الطهر (ساعة) واحدة، وفي رواية: (ولو ساعة من نهار)، ويعلم من هذا أن أقل الطهر عند ابن عباس: ساعة، وعند جمهور الفقهاء: أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وهو قول إمامنا الأعظم وأصحابه، وبه قال الثوري، ومحمَّد بن إدريس، وغيرهما، وقال ابن المُنْذِر: (ذكر أبو ثور: أنهم لا يختلفون فيه فيما نعلم)، وفي «المهذب»: (لا أعرف فيه خلافًا)، وقال المحاملي: (أقل الطهر خمسة عشر يومًا بالإجماع)، ونحوه في «التهذيب»، وقال أبو الطيب: (أجمع الناس على أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا)، واعترضهم النووي، فقال: دعوى الإجماع غير صحيح؛ لأنَّ الخلاف فيه مشهور، فإن أحمد ابن حنبل وإسحاق أنكرا التحديد في الطهر، فقال أحمد: الطهر بين الحيضتين على ما يكون، وقال إسحاق: توقيتُهم الطهر بخمسة عشر غير صحيح، وقال ابن عبد البر: (أما أقل الطهر؛ فقد اضطرب فيه قول مالك وأصحابه، فروى ابن القاسم عنه: عشرة أيام، وروى سحنون عنه: ثمانية أيام، وقال ابن الماجشون: أقل الطهر خمسة أيام، ورواه عن مالك)، كذا قرره إمام الشارحين.
قلت: وقال محمَّد بن سَلَمَة: (أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكية، وهو قول الإمام الأعظم، والشافعي، وأصحابهما، وهو الصحيح في الباب؛ لأنَّ الله تعالى قد جعل عدة ذوات الأقراء ثلاث حيض، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضًا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض، فإذا قل الحيض؛ كثر الطهر، وإذا كثر الطهر؛ قل الحيض، فلما كان أكثر الحيض عشرة أيام؛ وجب أن يكون الطهر خمسة عشر فما فوقها؛ ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهنَّ مع دلائل القرآن والسنة) انتهى.
فهذا القول المختار عند أصحاب مالك كمذهب الجمهور، ومثله رواية عن أحمد وإسحاق أولًا، فهذا دليل على أن دعوى الإجماع صحيح، فاعتراض النووي مردود عليه؛ لأنَّ هذه الروايات قد حصل الإجماع على أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وعلى فرض وجود الخلاف؛ فالمراد بالإجماع: الإجماع الأكثري، فكأنهم لم ينظروا
%ص 378%
إلى خلاف أحمد، وإسحاق، ومالك في بعض الروايات السابقة، فكأنهم أرادوا بالإجماع: الإجماع الإجمالي، وهو كافٍ في دعوى الإجماع، فاعتراضه ليس في محله؛ فافهم، والله أعلم.
عن ابن عباس مما وصله عبد الرزاق قال: (ويأتيها) أي: المستحاضة (زوجها) يعني: أنه يطؤها، فدم الاستحاضة لا يمنع صلاةً، ولا صومًا، ولا قراءة قرآن، ولا وطئًا، هذا مذهب إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، وبه قال جمهور الفقهاء، وعامة العلماء، ومنع من وطء المستحاضة جماعة، واستدلوا بسيلان دم الاستحاضة، وقالوا: كل دم هو أذًى يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة؛ لأنَّه كله رجس، وأما الصَّلاة؛ فرخصة وردت بها السنة؛ كما يصلي من به سلس بول، هذا قول إبراهيم النخعي، وسليمان بن يسار، والحكم بن عيينة، وعامر الشَّعبي، وابن سيرين، والزُّهْرِي، واختلف فيه عن الحسن وهو قول عائشة، فإنها قالت: المستحاضة لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية، والمغيرة بن عبد الرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتي، وقال مالك: أمر أهل الفقه والعلم بذلك وإن كان دمها كبيرًا، رواه عنه ابن وهب، وقال أحمد: أحب إلي ألَّا يطأها إلا أن يطول ذلك عليها، وهذا كله مردود، واستدل الجمهور بما رواه المؤلف وغيره من حديث فاطمة بنت أبي حبيش قالت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إني لا أطهر، أفأدع الصَّلاة؟ قال عليه السلام: «إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة»، وروى أبو داود من حديث عائشة: أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فاستفتت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق»؛ يعني: أن دم الاستحاضة دم عرق انفجر، وهو مثل ما لو افتصدت وخرج منها الدم، إلا أن الأول في الباطن، وهذا في الظاهر من الجسد، ولأن دم الاستحاضة ليس بأذًى يمنع الصَّلاة والصوم، فوجب ألَّا يمنع الوطء أيضًا، وروى أبو داود في «سننه» من حديث عكرمة قال: (كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها) أي: يجامعها، ورواه البيهقي أيضًا، وقال ابن عبد البر: (لما حكم الله في دم الاستحاضة بأنه لا يمنع الصَّلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحيض؛ وجب ألَّا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء).
قلت: فقولهم: (كل دم أذًى ... ) إلخ: مسلَّمٌ في كونه هو نجس يجب غسله واجتنابه، وغير مسلم من حيث إنه يمنع الوطء؛ لأنَّ الأذى ما يتأذى منه، فدم الحيض أذًى؛ لنتن ريحه، ودم الاستحاضة ليس بأذى؛ لعدم الرائحة، فهو غير أذى.
وقولهم: (إن الصَّلاة رخصة): يلزم منه أن يكون الوطء رخصة أيضًا؛ لأنَّ فيه حق المخلوق؛ وهو الزوج، فهو مقدم على حق الخالق؛ وهو الصَّلاة.
وقوله: (إذا صلت) ليس له تعلق بقوله: (ويأتيها زوجها) بل هي جملة مستقلة ابتدائية جزائية، وفي جوابها وجهان؛ الأول على قول الكوفيين: جوابها ما تقدمها، وهو قوله: (تغتسل وتصلي)؛ والتقدير على قولهم: المستحاضة إذا صلت _يعني: إذا أرادت الصَّلاة_؛ تغتسل وتصلي، الثاني على قول البصريين: أن الجواب محذوف؛ تقديره: إذا صلت؛ تغتسل، كذا قرره إمام الشارحين، وقوله: (الصَّلاة أعظم) جملة من المبتدأ والخبر كأنها جواب عن سؤال مقدر بأن يقال: كيف يأتي المستحاضة زوجها؟ فقال: الصَّلاة أعظم من الوطء، فإذا جاز لها الصَّلاة التي هي أعظم؛ فالوطء بالطريق الأولى، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والظاهر أن هذا من كلام الراوي كما دل عليه رواية أبي بكر ابن أبي شيبة، ويحتمل أنه من كلام ابن عباس، وعلى كل؛ فهو رد على من منع وطء المستحاضة [2]، وزعم ابن حجر أن الظاهر أن هذا بحث من البخاري، وأراد به بيان الملازمة؛ أي: إن أجازت الصَّلاة؛ فجواز الوطء أولى، واعترضه إمام الشارحين، فقال: (قلت: قوله: «وأراد به بيان الملازمة» أخذه من الكرماني) انتهى.
قلت: يعني: أن هذه العبارة عبارة الكرماني، فساقها ابن حجر ونسبها لنفسه، وهذا دأبه في جميع كتبه يذكر ما قالوه وينسبه لنفسه، وكلامه هذا غير صحيح؛ لأنَّه من ديك لا يصيح، وهذا الظاهر ليس بظاهر؛ لأنَّه لو كان كما زعمه هذا القائل: إنه بحث من البخاري؛ لكان (قال البخاري) قبل هذا الكلام: قال أبو عبد الله، فإن ذلك عادته في جميع الكتب والأبواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وهنا غير مذكور، فهو دليل على أنه ليس من كلامه، ويدل لهذا: أن عادته أخذ الحكم من الحديث، ووضعه ترجمة، ويقتصر على هذا تارة وأخرى يقول: قال أبو عبد الله، وهذا دليل على أنه ليس من كلامه، والظاهر: ما قلناه أنه من كلام الراوي أو ابن عباس، والظاهر الأول؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (الاستحاضة)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (المستحاطة)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (الاستحاضة)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الاستحاضة)، وليس بصحيح.
(1/566)
[حديث: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة]
331# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا أحمد ابن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي الكوفي، ونسبه لجده؛ لشهرته به، (عن زُهير) بضمِّ الزاي مصغرًا: هو ابن معاوية الجعفي الكوفي (قال: حدثنا هشام) وفي رواية: (هشام بن عروة) (عن عُروة) بضمِّ العين المهملة: هو ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما، (قالت: قال النبيُّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: لفاطمة بنت أبي حبيش حين سألته عن استحاضتها: «ذلك عرق وليست بالحيضة»: (إذا أقبلت الحيضة) عليك؛ (فدعي) أي: اتركي (الصَّلاة) أي: أيام الحيض، (وإذا أدبرت) أي: انقطع دم الحيض وجاء الطهر، وعلامة إدبار الحيض وانقطاعه الزمان والعادة، فإذا أقبلت عادتها؛ تحرت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل؛ (فاغسلي) أي: عنك (الدم) أي: دم الحيض، ولم يذكر الاغتسال في هذا الحديث، ولا بد منه، وذكره في باب (إقبال الحيض وإدباره) قال: «فاغتسلي»، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا؛ لأنَّه لا بد من الاغتسال منه، كما لا يخفى، (وصلي) وسبق في باب (غسل الدم)؛ كهنا من غير إيجاب الغسل، وقال عروة: (ثم توضئي لكل صلاة)؛ بإيجاب الوضوء، وهناك: (فاغتسلي)؛ بإيجاب الغسل؛ لأنَّ أحوال المستحاضة مختلفة، فيوزع عليها، أو نقول إيجاب الغسل والتوضُّؤ لا ينافي التعرض لهما، وإنما ينافي التعرُّض لعدمهما، وقوله: (فاغتسلي وصلي) لا يقتضي التكرار للاغتسال لكل صلاة، بل يكفي غسل واحد، ولا يرد حديث أم حبيبة: كانت تغتسل
%ص 379%
لكل صلاة؛ لأنَّها لعلها كانت من المستحاضات التي يجب عليها الغسل لكل صلاة، أو لعلها كانت تفعله تطوُّعًا؛ لأنَّه ليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، وتمامه فيما قدمناه، ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن معنى قوله: (باب إذا رأت المستحاضة الطهر) باب في حكم المستحاضة إذا رأت الطهر كما ذكرناه، والحديث دل على حكمها من وجوب الصَّلاة عليها المصرح فيه بأمر المستحاضة بالصَّلاة، كذا قاله إمام الشارحين.
==================
(1/567)
(29) [باب الصلاة على النفساء وسنتها]
هذا (باب) بيان حكم (الصَّلاة على) المرأة (النُّفساء) بضمِّ النون، (و) بيان (سنتها) أي: سنة الصَّلاة، ولا مناسبة لذكر هذا الباب هنا، وحقه أن يذكره في (الجنائز)، وقد يقال: إن النفاس حكمه حكم الحيض، فلما ذكر الحيض وأحكامه، والاستحاضة وأحكامها؛ ناسب أن يذكر حكم النفاس، والصَّلاة على النفساء حكم من أحكامه من حيث الصَّلاة عليها، فالصَّلاة مع الاستحاضة؛ كالصَّلاة على الميتة النفساء، ومن هذا يعلم أن مراد البخاري في هذا الباب: بيان أن ابن آدم ينجس بالموت؛ لأنَّه قرن حكم الصَّلاة على النفساء مع حكم الصَّلاة مع الاستحاضة، فإنَّ دم الاستحاضة نجس في حكم غيرها من الطاهرات؛ كذلك الموت إذا حل في ابن آدم؛ ينجس في حق غيره من الأحياء من حيث حمله والصَّلاة فيه.
وقال ابن بطال: (يحتمل أن يكون البخاري قصد بهذه الترجمة أن النفساء وإن كانت لا تصلي أن لها حكم غيرها من النساء في طهارة العين؛ لصلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عليها) قال: (وفيه رد على من قال: إن ابن آدم ينجس بالموت؛ لأنَّ النفساء جمعت الموت وحمل النجاسة بالدم اللازم لها فيما لم يضرها ذلك، كان الميت الذي لا يسيل منه نجاسة أولى)، واعترضه ابن المنير بأن هذا كله أجنبي عن مقصود البخاري، وإنما قصد أنها وإن ورد أنها من الشهداء؛ فهي ممن يصلى عليها كغير الشهداء، انتهى.
وقال ابن رُشَيد: (أراد البخاري أن يستدل بلازم من لوازم الصَّلاة؛ لأنَّ الصَّلاة اقتضت أن المستقبل فيها ينبغي أن يكون محكومًا بطهارته، فلما صلى عليها_أي: إليها_؛ لزم ذلك من القول بطهارة عينها) انتهى.
قلت: وهذا مخلص كلام ابن بطال، واعترضهم إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» حيث قال: قلت: كل هذا لا يجزئ والحق أحق أن يتبع، والصواب من القول في هذا أن هذا الباب لا دخل له في كتاب (الحيض)، ومورده في كتاب (الجنائز)، ومع ذلك ليس له مناسبة أصلًا بالباب الذي قبله، ورعاية المناسبة بين الأبواب مطلوبة، وقول ابن بطال: «إن حكم النفساء مثل حكم غيرها من النساء في طهارة العين؛ لصلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عليها»؛ مسلَّمٌ، ولكنه لا يلائم حديث الباب، فإن حديث الباب في أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلى على النفساء وقام وسطها، وليس لهذا دخل في كتاب (الحيض)، وقول ابن رشيد أبعد من الكل؛ لأنَّه ارتكب أمورًا غير موجهة؛ الأول: أنه شرط أن يكون المستقبل في الصَّلاة طاهرًا، وهذا فرض، أو واجب، أو سنة، أو مستحب، والثاني: أنه ارتكب مجازًا من غير داع [1] إلى ذلك، والثالث: ادَّعى الملازمة وهي غير صحيحة على ما لا يخفى انتهى.
قلت: وقول ابن بطال: (يحتمل ... ) إلخ: ممنوع، فإن البخاري لم يقصد بهذه الترجمة ما ذكره، بل مقصده ومرامه ما ذكرناه.
وقوله: (وفيه رد ... ) إلخ: ممنوع أيضًا، فإن الذي يُعلم من كلام البخاري بهذه الترجمة إثباتُ ما قاله الجمهور من أن ابن آدم ينجس بالموت؛ لأنَّه أدخل هذا الباب في كتاب (الحيض)، ووجهه أن صلاة المستحاضة كالصَّلاة على النفساء كما قدمناه آنفًا.
وقوله: (لأن النفساء ... ) إلخ: كلام غير موجه، فإن الحي يصلي وهو حامل للنجاسة في بطنه، فهذا يشمل الطاهر، والحائض، والمستحاضة، والنفساء؛ فلا خصوصية فيه للنفساء.
وقول ابن المنير: (وإنما قصد البخاري ... ) إلخ: غير صحيح، فإن حكم الشهداء لا دخل له هنا، وليس هو بمقصد للبخاري، وإنما مقصده ذكر حكم النفساء، وهو من أحكام الحيض، وعليه: فهو وجه إدخاله هنا، وقول ابن رشيد أخذه من ابن بطال، وهو غير صحيح كما علمت.
وقول إمام الشارحين: (والصواب من القول ... ) إلخ: صحيح، وكان ينبغي أن يذكر وجه المناسبة ولو نوعًا، وقد ذكرناها آنفًا؛ فليحفظ، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (داعي)، ولعله تحريف.
%ص 380%
==================
(1/568)
[حديث: أن امرأةً ماتت في بطن فصلى عليها النبي فقام وسطها]
332# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد ابن أبي سُريج) بضمِّ السين المهملة، آخره جيم: هو أبو جعفر الرازي، واسم أبي سريج: الصبَّاح _بتشديد الموحدة_ نسبه المؤلف لجده؛ لشهرته به؛ لأنَّ أباه اسمه عمر (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (شَبابة) بفتح الشين المعجمة، وتخفيف الموحدتين: هو ابن سَوَّار _بفتح السين المهملة، وتشديد الواو، آخره راء_ الفَزاري _بفتح الفاء، وتخفيف الزاي_ المدائني، وأصله من خراسان، مات سنة أربع ومئتين (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (شعبة) هو ابن الحجاج، (عن حُسيْن) بضمِّ الحاء المهملة، وسكون التحتية (المعلِّم)؛ بكسر اللام، المكتب، (عن ابن بُرَيْدة) بضمِّ الموحدة، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالدال المهملة: هو عبد الله بن بريدة بن الحُصَيْب _بضمِّ الحاء، وفتح الصاد المهملتين، وسكون التحتية، آخره موحدة_ الأسلمي المروزي، التابعي المشهور، قال الغساني: (قد صحف بعضهم فقال: هو خصيب؛ بالخاء المعجمة المفتوحة)، كذا قاله إمام الشارحين، (عن سَمُرة) بفتح السين المهملة، وضم الميم، وهي لغة بني تميم، أو بسكون الميم تخفيفًا؛ نحو: عضْد في عضد، وهي لغة الحجازيين، قاله النسائي (ابن جُندَب) بضمِّ الجيم، وفتح الدال المهملة وضمها: ابن هلال الفَزاري _بفتح الفاء، وتخفيف الزاي_ استخلفه زياد على الكوفة ستة أشهر، مات سنة تسع وخمسين: (أن امرأة) هي أم كعب، سماها مسلم في روايته من طريق عبد الوارث عن حسين المعلم، وذكر أبو نعيم في «الصحابة»: أنها أنصارية، كذا في «عمدة القاري» (ماتت في بطن) وكلمة (في) ههنا للتعليل، كما في قوله عليه السلام: «إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها»، وكما في قوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]؛ والمعنى: ماتت لأجل مرض بطن؛ نحو الاستسقاء وغيره، لكن قال ابن الأثير: الأظهر هنا أنها ماتت في نفاس؛ لأنَّ البخاري ترجم عليه)، وقال التيمي: قيل: وهم البخاري في هذه الترجمة حيث ظن أن المراد: ماتت في الولادة، فوضع الباب على (باب الصَّلاة على النفساء)، ومعنى (ماتت في بطن): ماتت مبطونة، وروي ذلك مبينًا من غير هذا الوجه، واعترضه الكرماني فقال: ليس وهمًا؛ لأنَّه جاء صريحًا في باب (الصَّلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها) في كتاب (الجنائز)، وفي باب (أين يقوم من المرأة عن المرأة)، عن سمرة بن جندب قال: (صليت وراء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها وسطها)،
%ص 380%
فالترجمة صحيحة، والموهم واهم، انتهى.
وزعم ابن حجر (أن قوله: «ماتت في بطن»؛ أي: بسبب بطن؛ يعني: الحمل)، ثم قال ما قاله التيمي، وأجاب عنه بما أجاب به الكرماني، ونسب الجواب لنفسه.
قلت: وهذا دأبه في جميع كتبه يذكر السؤال والجواب لغيره، وينسبه لنفسه، وكل ما ذكروه غير ظاهر، بل الظاهر ما قاله إمام الشارحين؛ حيث قال: (قلت: لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون من سمرة حديثان؛ أحدهما: في التي ماتت في بطن، والآخر: في التي ماتت في نفاسها، ويكون الموهم في استعمال معنى الحديث الثاني الذي قاله التصريح بالنفاس في معنى الحديث الأول الذي فيه التصريح بالبطن) انتهى كلامه رحمه الباري.
(فصلى عليها النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وأصحابه الكرام، (فقام) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وسطها) يعني: قام محاذيًا لوسطها، قال في «عمدة القاري»: (وقد ذكرنا الفرق بين الوسْط بالسكون، والوسَط بالتحريك)، وجاء ههنا كلامه، وضبطه ابن التين: بفتح السين المهملة، وضبطه غيره: بالسكون، وفي رواية الكشميهني: (فقام عند وسطها)، فمن اختار الفتح؛ يقول: إنَّه اسم، ومن اختار السكون؛ يقول: إنَّه ظرف، ولا يقال بالسكون إلا في متفرق الأجزاء؛ كالناس والدواب، وبالفتح فيما كان متصل الأجزاء كالدَّار، انتهى.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وفيه دليل على أن الإمام يقوم من المرأة بحذاء وسطها، واختلف العلماء في ذلك؛ فروى الإمام الحسن عن الإمام الأعظم: أنَّه يقوم من الرجل والمرأة بحذاء صدرهما، وهو أحسن مواقف الإمام، كذا في «مبسوط» شيخ الإسلام، وهو اختيار الحافظ الطحاوي وهو المختار، وبه قال أحمد ابن حنبل، وسفيان الثوري، وهو قول الطبري من الشافعية، واختاره الغزالي، والصيدلاني، وروي عن الإمام الأعظم: أنَّه يقوم بحذاء وسط المرأة وهو قول إبراهيم النخعي، وروي عن الإمام الأعظم أيضًا: أنَّه يقوم بحذاء وسط الرجل، وعند رأس المرأة، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى، وهو قول المحاملي من الشافعية، وروي عن أحمد: أنه يقوم من المرأة بحذاء وسطها، ومن الرجل بحذاء صدره، وسيأتي مزيد كلام لذلك في (الجنائز) إن شاء الله تعالى.
==================
(1/569)
(30) [باب ... ]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين، قال في «عمدة القاري»: أي: هذا باب، إن قرئ بالتنوين، وإلَّا؛ فبالسكون؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، ولمَّا كان حكم الحديث الذي هو في هذا الباب خلاف حكم الحديث الذي قبله؛ فصل بينهما بقوله: (باب)، ولكنَّه ما ترجم له، وهذا في رواية الأصيلي، ورواية غيره لم يذكر لفظ (باب)، بل أدخل حديث ميمونة الآتي في الباب الذي قبله، ولمَّا كان لفظ (باب) كالفصل عمَّا قبله؛ فلا يحتاج إلى ذكر ترجمة؛ لأنَّه ذكره مجردًا، ووجه مناسبة ذكر حديث ميمونة في هذا الباب التَّنبيه، والإشارة إلى أنَّ ثوب الحائض والنفساء طاهرة؛ لأنَّ ثوب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصيبه ثوب ميمونة إذا سجد وهي حائض ولا يضره ذلك؛ فلم يمتنع منه عليه السلام.
==========
%ص 381%
==================
(1/570)
[حديث ميمونة: أنها كانت تكون حائضًا لا تصلي وهي مفترشة]
333# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا الحَسين) بفتح الحاء المهملة (بن مُدرك)؛ بضمِّ الميم، من الإدراك أبو علي السدوسي الحافظ الطحان البصري (قال: حدثنا يحيى بن حمَّاد) هو الشيباني ختن أبي عوانة المتوفى سنة خمس عشرة ومئتين (قال: أخبرنا أبو عَوانة) بفتح العين المهملة، هو الوضاح اليشكري (من كتابه) قيَّد بذلك؛ إشارة إلى تقوية ما روي عنه، قال أحمد ابن حنبل: (إذا حدث أبو عوانة من كتابه؛ فهو أثبت، وإذا حدث من غير كتابه؛ ربَّما وهم)، وقال أبو زرعة: (أبو عوانة ثقة إذا حدث من الكتاب)، وقال ابن مهدي: (كتاب أبي عوانة أثبت من هشيم)، (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (سليمان الشيباني) هو ابن أبي سليمان فيروز أبو إسحاق الشيباني، (عن عبد الله بن شدَّاد) بالشين المعجمة، ودالين، هو ابن الهاد (قال: سمعت خالتي مَيْمُونة) بفتح الميم الأولى، وضمِّ الثانية، بينهما تحتية ساكنة، هي بنت الحارث (زوج النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) فهي خالة عبد الله بن شدَّاد؛ لأنَّ أمَّه سلمى بنت أبي عميس أخت ميمونة لأمِّها: (أنها) أي: ميمونة (كانت تكون) فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون أحد لفظي الكون زائدًا، كما في قوله:
وجيران لنا كرام .........
فلفظ: (كانوا) زائدًا، و (كرام)؛ بالجر صفة لـ: (جيران).
الثاني: أن يكون في (كانت) ضمير القصة، وهو اسمها وخبرها.
والثالث: أن يكون لفظ (يكون) بمعنى: يصير في محل نصب على أنها اسم (كانت)، ويكون الضمير في (كانت) راجعًا إلى ميمونة، وهو اسمها.
وقوله: (حائضًا) في محل النصب خبر (يكون) التي بمعنى: تصير، وقوله: (لا تصلي) جملة مؤكِّدة لقوله: (حائضًا)، كذا أعربه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وأعرب الكرماني (لا تصلي) صفة لـ (حائضًا) في وجه، وفي وجه إعرابه حالًا، وأعرب (لا تصلي) خبرًا لـ (كانت)، قال إمام الشارحين: (وهو خلاف التحقيق، والتحقيق ما ذكرناه) (وهي مفترشة) جملة اسمية وقعت حالًا، يقال: افترش الشيء: انبسط، وافترش ذراعيه: بسطهما على الأرض (بحِذاء)؛ بكسر الحاء المهملة، وبالمد بمعنى: وراءه (مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: موضع سجوده من بيته، وليس المراد منه: المسجد المعروف المعهود، قاله إمام الشارحين، وكذا غيره من الشراح، وتعقبهم صاحب «المصابيح» بأنَّ المنقول عن سيبويه أنَّه إذا أريد موضع السجود؛ قيل: مسجَد؛ بالفتح فقط (وهو يصلي) جملة حالية (على خُمْرته)؛ بضمِّ الخاء المعجمة، وسكون الميم، وهي سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل تنسج بالخيوط سميت بذلك؛ لسترها الوجه والكفين من حر الأرض وبردها، وإذا كانت كبيرة؛ سميت حصيرًا، (إذا سجد؛ أصابني بعض ثوبه) جملة من الفعل والفاعل والمفعول محلها النصب على الحال، وقد عُلِمَ أنَّ الجملة الفعلية الماضية المثبتة إذا وقعت حالًا؛ تكون بلا واو؛ فافهم.
وزعم القسطلاني أنَّ هذا حكاية لفظها، وإلا فالأصل أن تقول: أصابها الثوب.
قلت: وفيه نظر لا يخفى، ولم يذكر ترجمة لهذا الحديث؛ لأنَّه ذكر قوله: (باب) كذا مجردًا؛ لأنَّه بمعنى: فعل؛ لا يحتاج إلى ذكر شيء، وأمَّا على الرواية التي يذكر فيها لفظ (باب)؛ فوجهه ما ذكرناه الآن، كذا قاله
%ص 381%
إمام الشارحين، ثم قال: (وفي الحديث دليل على أنَّ الحائض ليست بنجسة؛ لأنَّها لو كانت نجسة؛ لما وقع ثوبه عليه السلام على ميمونة وهو يصلي، وكذلك النفساء) انتهى.
قلت: يعني: أنَّه عليه السلام لم يأمرها بالتأخر عنه وأقرَّها على ذلك، وفيه دليل: على أن الحائض إذا قربت من المصلِّي؛ لا يضر ذلك صلاته، وفيه جواز ترك الحائض الصَّلاة، وجواز الافتراش بحذاء المصلي، وجواز الصَّلاة على الشيء المتخذ من سعف النخل سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، بل هذا أقرب إلى التواضع والمسكنة، بخلاف صلاة المتكبرين على سجاجيد مثمنة مختلفة الألوان والقماش، ومنهم من ينسج له سجادة من حرير، والصَّلاة عليها مكروهة وإن كان دوس الحرير جائزًا؛ لأنَّ فيه زيادة كبر وطغيان، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري».
قلت: وقال أئمتنا الأعلام: والأفضل الصَّلاة على الأرض، ثم على ما تنبته الأرض، وإنَّما يصلي على السجادة إذا كانت الأرض حارة أو باردة، فما يفعله المتعصبون من الشافعية من حمل السجادة إلى المسجد يمرون بها في الأسواق، وهي على أكتافهم حتى يأتون المسجد فيفرشوها؛ لأجل الصَّلاة، وتارة يقعدون، وتارة يذهبون للوضوء؛ غير مطلوب، بل هو مذموم شرعًا؛ لأنَّ فيه إظهار الكبر والعجب مع ما فيه من التعصب البارد والوسوسة والرياء والسمعة، وكل ذلك خارج عن الشرع، وأيضًا يمنعون الناس من الصَّلاة موضع السجادة، والله تعالى الموفق بمنه وكرمه، آمين.
==================
(1/571)
((7)) [كتاب التيمم]
(بسم الله الرحمن الرحيم)
هذا (كتاب) في بيان أحكام (التيمُّم) كذا في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذر: البسملة مؤخرة عن الكتاب، والأول أولى للحديث الوارد فيه، وأمَّا الثاني؛ فوجهه أن الكتب التي فيها التراجم مثل السور حتى يقال سورة كذا، والبسملة تذكر بعدها على رأس الأحاديث كما تذكر على رؤوس الآيات، ويستفتح بها.
ووجه المناسبة بين هذا الكتاب والكتاب الذي قبله أحكام الوضوء والغسل بالماء، والمذكور هنا التيمم وهو خلف عن الماء؛ فيذكر الأصل أولًا ثم يذكر الخلف بعده، واقتداء بالكتاب؛ لأنَّه تعالى ابتدأ أولًا بالوضوء؛ لأنَّه أعمُّ، ثم بالغسل؛ لأنَّه أندر، ثم بالتيمُّم؛ لأنَّه خلف، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ .. }؛ الآية [المائدة: 6].
و (كتاب) مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هذا كتاب التيمم، والإضافة فيه بمعنى: في؛ أي: هذا كتاب في بيان أحكام التيمم، ويجوز نصب (كتاب) بعامل مقدر؛ تقديره: خذ، أو هاك، أو اقرأ كتاب (التيمم)، والأصل فيه: الكتاب العزيز؛ وهو الآية المذكورة، والسنة؛ وهي أحاديث الباب وغيره، والإجماع على جوازه للمحدث، وفي الجنابة أيضًا، وزعم ابن حزم أنَّه خالف فيه عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والنخعي، والأسود) انتهى.
قلت: وهو غير صحيح؛ فإنَّه قد ثبت رجوعهم عن هذا كما نقله الثقات، وذكره إمام الشارحين، فلا اعتداد بكلام ابن حزم؛ لأنَّه مشهور بالتعصب والنقول الشاذة؛ فافهم.
والتيمم من خصائص هذه الأمَّة فلم يكن مشروعًا لغيرها، وإنما شرع رخصة لنا؛ فهو فضيلة خصت به هذه الأمة دون غيرها من الأمم، ويدل لذلك قوله عليه السلام في هذا الكتاب: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وقيل: إنَّه عزيمة، وفرض سنة ستٍّ أو خمس، كما سيأتي، و (التيمُّم) مصدر (تيمم يتيمم تيممًا) من باب (افتعل)، وأصله من الأمِّ؛ وهو القصد، تقول: أمَّه يؤمُّه أمًّا؛ إذا قصده، وذكر في «الواعي»: (يقال: أمَّ وتأمَّم ويمَّم وتيمَّم بمعنى واحد، وإنما كان أصله في ذلك؛ لأنَّه يقصد التراب فيتمسح به)، وفي «الجامع»: (عن الخليل: يجرى مجرى التوضؤ، تقول: تيمَّم أطيب ما عندك فأطعمنا منه؛ أي: تقصَّد، وأجاز أن يكون التيمُّمالعمد والقصد، وهذا الاسم كثير حتى صار اسمًا للتمسح بالتراب)، وقال الفراء: (ولم أسمع: يممت بالتخفيف)، وقال أبو منصور: (التيمُّم التعمُّد، وهو ما ذكره البخاري في تفسير سورة المائدة، ورواه ابن حاتم، وابن المُنْذِر عن سفيان).
قلت: (التيمُّم) في اللغة: مطلق القصد؛ ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ} [البقرة: 267]؛ أي: لا تقصدوا، وقول الشاعر:
ولا أدري إذا يمَّمت أرضًا ... أريد الخير أيُّهما يليني
وفي الشريعة: قصد الصعيد الطاهر، واستعماله بصفة مخصوصة، وهو مسح الوجه واليدين؛ لاستباحة الصَّلاة، وامتثال الأمر، وشرائط التيمم تسعة: النية، والمسح، وكونه بثلاث أصابع فأكثر، والصعيد، وكونه مطهرًا، وفقد الماء، وطلبه إن ظنَّ قربه، وزوال ما ينافيه، والإسلام.
وسننه ثلاثة عشر: الضرب بباطن كفيه، وظاهرهما، وإقبالهما، وإدبارهما، ونفضهما، وتفريج أصابعه، والتسمية، والترتيب، والولاء، والتيامن، وخصوص الضرب على الصعيد، وكون المسح بالكيفية المخصوصة، وتخليل اللحية، وكون الضرب بظاهر الكفين، وقد نظمها شيخ شيخنا فقال:
ومسح وضرب ركنه العذر شرطه ... وقصد وإسلام صعيد مطهر
وتطلاب ماء ظن تعميم مسحه ... بأكثر كف فقدها الحيض يذكر
وسن خصوص الضرب نفض تيامن ... وكيفية المسح التي فيه تؤثر
وسم ورتب وال بطن وظهرن ... وخلل وفرج فيه أقبل وتدبر
قلت: واشتراط النية يغني عن اشتراط الإسلام؛ لأنَّها لا تصح من كافر، ولهذا اقتصر في النظم على الإسلام فقط، ومن ذكرها؛ فمراده: التوضيح؛ لأنَّها مستلزمة للإسلام، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب».
(وقول الله عز وجل) بواو العطف على (كتاب التيمم)؛ والتقدير: وفي بيان قول الله، وفي رواية الأصيلي: (قول الله تعالى) بدون الواو، فوجهه أن يكون مبتدأ، وخبره قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا}، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أن (الواو) للاستئناف، ورده إمام الشارحين فقال: (وهو غير صحيح؛ لأنَّ الاستئناف جواب عن سؤال مقدَّر، وليس لهذا محل هنا، فإن قال هذا القائل: مرادك الاستئناف اللغوي؟ قلت: هذا أيضًا غير صحيح؛ لأنَّ الاستئناف في اللغة الإعادة ولا محل لهذا المعنى ههنا؛ فافهم).
({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}) كذا في رواية الأكثرين وهو الصواب، وهو الموافق للقرآن المجيد في سورة المائدة والنساء، وفي رواية النسفي، وعبدوس، والحموي، والمستملي: (فإن لم تجدوا)، ووقع التصريح به في رواية حمَّاد بن سَلَمَة، عن هشام، عن
%ص 382%
أبيه، عن عائشة رضي الله عنها في قصتها المذكورة، قال: (فأنزل الله آية التيمم: {فإن لم تجدوا} ... )؛ الحديث، والظاهر أن هذا وهم من حمَّاد أو غيره، أو قراءة شاذة لحمَّاد كذا قاله إمام الشارحين، والمراد بعدم الوجدان: عدم القدرة على استعماله إمَّا لعدمه، أو بعده، أو لفقد آلة الوصول إليه من الدلو والرشاء، أو لمانع عنه من حيَّة، أو عدوٍّ، أو سبع، أو غير ذلك؛ لأنَّ الممنوع عنه كالمفقود، والمترخص بالتيمم إمَّا محدث أو جنب، والحالة المقتضية له في الغالب مرض أو سفر، والجنب لمَّا سبق ذكره؛ اقتصر على بيان حاله، والمحدث لما لم يجر ذكره؛ ذكر أسباب ما يحدث له بالذات، وما يحدث بالعرض، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل أحوال الجنب، وبيان العذر مجملًا، وكأنه قيل: وإن كنتم جنبًا، مرضى، أو على سفر، أو محدثين جئتم من الغائط، أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء؛ ({فَتَيَمَّمُوا}) أي: اقصدوا وتعمَّدوا ({صَعِيدًا}) أي: وجه الأرض ترابًا أو غيره، سمي صعيدًا؛ لكونه صاعدًا عنها، أو لأنَّه يصعد عليها، قال الأصمعي: الصعيد: وجه الأرض (فعيل) بمعنى: مفعول؛ أي: مصعود عليه)، وحكاه ابن الأعرابي، وكذا قاله الخليل، وثعلب، وقيل: هو الظاهر من وجه الأرض، وقال الزجاج في «المعاني»: (الصعيد: وجه الأرض، ولا يبالي أكان في الموضع تراب أم لم يكن؛ لأنَّ الصعيد ليس اسمًا للتراب، وإنَّما هو وجه الأرض ترابًا كان أو صخرًا لا تراب عليه، قال الله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، فأعلمك أن الصعيد يكون زلقًا)، وقال قتادة: (الصعيد: الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر)، ومعنى قوله: ({طَيِّبًا}): طاهرًا، وقال أبو إسحاق: الطيِّب: النظيف، وقيل: الحلال، وقيل: الطيِّب: ما تستطيبه النفس، وأكثر العلماء على أن معناه: طاهرًا، كذا قاله إمام الشارحين، وروي: أن الله تعالى خلق درة فنظر إليها؛ فصارت ماء، وعلا الزبد عليه، فخلق الله تعالى الأرض من زبدة؛ فيكون أحلَّ الأرض من الماء؛ فلهذا أقام تعالى التيمم مقام الماء عند فقده، والله أعلم، فيصح التيمم بكلِّ ما كان من أجزاء الأرض، ولو مسح على صخر أملس وتيمم؛ صحَّ ذلك، هذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، وقتادة، وهو قول أهل التفسير واللغة، ويدلَّ عليه نصوص القرآن، قال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا [1] زَلَقًا}، وقال تعالى: {صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8]، وقال عليه السلام: «يحشر الناس في صعيد واحد»، فهذا ظاهر في أن الصعيد: وجه الأرض، ولا يلزم أن يكون عليه تراب كما زعمه الشافعية، حيث شرطوا أن يكون التيمم على التراب، وهو خلاف القرآن؛ لأنَّه تعالى أمر بالتيمم على الصعيد؛ وهو وجه الأرض، فالتيمم على التراب ليس من النص المأمور به، وسيأتي بيانه، ({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}) أي: فامسحوا الصعيد بها، وقيل: الباء زائدة؛ كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]؛ وتقديره: فامسحوا وجوهكم وأيديكم، واليد لغة: من رؤوس الأصابع إلى الإباط، وشرعًا اختلف فيها، فقال الزُهْرِي: (يشترط مسحها إلى الإباط؛ لأنَّ الاسم لكلها لغة، وفي الوضوء اقتصر على المرافق؛ لأنَّ النص مده إليها)، وقال الأوزاعي: (يشترط مسحها إلى الرسغ، كما في قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]).
وقال الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: يشترط مسحها إلى المرافق وهو قول مالك، ومحمَّد بن إدريس، وأحمد؛ لأنَّ التيمم بدل عن الوضوء؛ فيقدَّر بتقدير الأصل، وأمَّا القطع في السرقة؛ فقد ورد النص بتقديره، وقد ثبت أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ههنا: وأيديكم إلى المرافق، وإنَّما اكتفى بمسح الوجه واليدين؛ لأنَّ التيمم رخصة، فكما رخَّص فيه من حيث الآلة وهو: الاكتفاء بالصعيد الملوث، كذلك رخَّص فيه من حيث محله؛ حيث اكتفى فيه بشطر أعضاء الوضوء، وقيل: إنَّما اكتفى فيه بالمسحتين؛ لأنَّ الأصل في أركان الوضوء غسل الوجه والذراعين؛ حيث لا ينو بهما شيء من المسح، بخلاف الرأس والرجلين، فإنَّ المسح فيها ينوب عن الغسل؛ فلهذا اكتفي بهما؛ فليحفظ.
قلت: وفيه جواب آخر: وهو أنَّه تعالى بين سبب المشروعية في التيمم؛ وهي السفر، والمرض، وعدم وجدان الماء، والمسافر، والمريض، والعادم يشقَّ عليهم خلع النعل وخلع العمامة بسبب البرد والحر؛ فيسر لهم ذلك وجعله رخصة، ولهذا قال في آخر الآية: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]؛ فمن كان عادته أن يعفو عن المذنبين؛ فبأن يرخِّص للعاجزين كان أولى، ورحمته وسعت كل شيء.
وقوله: ({مِّنْهُ}) [النساء: 43] ثابتة في رواية كريمة، ساقطة في رواية أبي ذرٍّ، فعلى الرواية الأولى تعين أنها آية المائدة، وعلى الثانية تعين أنها آية النساء؛ لأن آية المائدة فيها لفظة (منه)، وآية النساء ليس فيها لفظة (منه)، وتعلق بها محمَّد بن إدريس الشافعي وأصحابه، فزعموا أن التيمم لا يصح على الصخر الأملس، بل يشترط أن يكون عليه تراب، فعندهم لا يجوز إلا بالتراب، ووجه تعلقهم أن (من) في الآية؛ للتبعيض، والضمير عائد على الصعيد وهو التراب؛ لما روي عن ابن عباس: أن الصعيد الطيِّب: التراب الخالص، وهذا مردود؛ لأنَّ (من) ليست للتبعيض، بل هي لابتداء الغاية؛ لأنَّه لا يصح فيها ضابط التبعيض والبيان؛ وهو وضع بعض موضعها في الأول، ولفظه (الذي) في الثاني، و (الباء) في الأول بحاله، ويزاد في الثاني جزء؛ ليتم صلة للموصول؛ كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30]؛ أي: الذي هو الأوثان، ولو قيل: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم بعضه؛ أفاد أن المطلوب جعل الصعيد ممسوحًا والعضويين آلته، وهو منتفٍ إجماعًا، وأمَّا الضمير؛ فهو عائد على المحدث بدليل: أن التيمم رخصة للمحدث المذكور في الآية وهو ظاهر؛ فافهم.
وزعم البيضاوي أنَّ جعل (من) لابتداء الغاية تعسُّف؛ إذ لا يفهم من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن إلا للتبعيض.
قلت: وهو مردود؛ فإن عدم الفهم إنَّما نشأ من اقتران (من) بالزمن ونحوه؛ مما هو أسهل التبعيض، ولو قرنت بما ليس كذلك؛ لانعكس الحكم، فيقال: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت يدي من الحجر أو الحائط معنى: (التبعيض) أصلًا، بل معنى: الابتداء، ومدخولها ههنا هو الصعيد، وهو مشتمل على ما يتبعض؛ لشموله التراب وغيره ممَّا على وجه الأرض، ومعناها الحقيقي المجمع عليه: هو الابتداء، فإنَّه لم ينكره أحد من العرب، وأمَّا التبعيض؛ فقد أنكره جماعة من أهل العربية؛ منهم: المبرِّد، والأخفش، وابن السراج، والسهيلي، فقالوا: لا دلالة لها على غير الابتداء، وأمَّا [ما] روي عن ابن عباس؛ فغير صحيح
%ص 383%
عنه، ولو صح؛ فإنَّما قاله احتياطًا، ولأجل تفكر ابن آدم في أنه يعود إلى الأرض، وقدمنا أن الصعيد: هو وجه الأرض ترابًا كان أو غيره، وقال الزجاج: لا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة فيه، وإذا كان هذا مفهومه؛ وجب تعميمه، وتعين حمل ما روي عن ابن عباس على الأغلب، ويدل لذلك قوله عليه السلام: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فإنَّ (اللام) للجنس؛ فلا يخرج شيء منها؛ لأنَّ الأرض كلها جعلت مسجدًا، وما جعل مسجدًا هو الذي جعل طهورًا، وأما الطيِّب؛ فلفظ مشترك يذكر، ويراد به: المنبت؛ كقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} [الأعراف: 58] ويذكر ويراد به: الحلال؛ كقوله تعالى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 160]، وهذا لا يليق ههنا ويذكر، ويراد به: الطاهر، فقد أريد به: الطاهر إجماعًا؛ فلا يراد غيره؛ لأنَّ المشترك لا عموم له، ولأنَّ التيمم شرع لدفع الحرج، كما يفيده سياق الآية، واشتراط التراب ينافي ذلك، ويجاب أيضًا عمَّا روي عن ابن عباس بأنَّ الآية مطلقة، والمطلق لا يتقيَّد بخبر الواحد؛ فكيف بالأثر؟ من باب أولى، ويدل لقوله: والطيب بمعنى: الطاهر: أنه قال في آخر الآية: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (صعيد)، وهو تحريف.
==================
(1/572)
[حديث: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر]
334# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي البصري (قال: حدثنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن عبد الرحمن بن القاسم) هو ابن محمَّد، (عن أبيه) هو محمَّد المذكور ابن أبي بكر الصديق الأكبر، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (زوج النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) و رضي الله عنهما: أنَّها (قالت: خرجنا) أي: من المدينة نحن والصحابة (مع رسول الله)، ولابن عساكر: (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم في بعض أسفاره)؛ قيل: هو في غزوة بني المصطلق، كذا ورد عن ابن سعد، وابن حبان، وجزم به ابن عبد البرِّ في «التمهيد»، و «الاستذكار»، وغزوة بني المصطلق في غزوة المريسيع التي كان فيها قصة الإفك.
وقال ابن سعد: (خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المريسيع يوم الاثنين لليلتين [1] خلتا من شعبان سنة خمس)، ورجَّحه أبو عبد الله في «الإكليل».
وقال البخاري عن ابن إسحاق: (سنة ست)، وقال عن موسى بن عُقْبَة: (سنة أربع).
وزعم ابن الجوزي أن ابن حبيب قال: (سقط عقدها في السنة الرابعة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق قصة الإفك).
قال إمام الشارحين: ويعارض هذا ما رواه الطبراني: أن الإفك قبل التيمم، فقال: حدثنا القاسم عن حمَّاد: حدثنا محمَّد بن حميد الرازي: حدثنا سَلَمَة بن الفضل، وإبراهيم ابن المختار، عن محمَّد بن إسحاق، عن يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: (لمَّا كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا؛ خرجت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة أخرى فسقط أيضًا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، وطلع الفجر؛ فلقيت من أبي بكر ما شاء الله، فقال: يا بنية؛ في كل سفر تكونين عناء وبلاء، ليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك ما علمت لمباركة)، قال إمام الشارحين: وإسناده جيد حسن زاد عن بعضهم تعدُّد السفر برواية الطبراني هذه، ثمَّ إنَّ بعض المتأخرين استبعد سقوط العقد في المريسيع، قال: لأنَّ المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر؛ لقولها في الحديث: (حتى إذا كنَّا بالبيداء أو بذات الجيش)، وهما بين المدينة وخيبر، كما جزم به النووي، ويردُّ هذا ما قاله أبو عبيد البكري في فصل «اللغات»: (إنَّ البيداء أدنى مكَّة من ذي الحليفة؛ وهو المشرف الذي قدَّام ذي الحليفة من طريق مكَّة، وجزم أيضًا ابن [2] التين: أن البيداء هو ذي الحليفة)، وقال أبو عبيد أيضًا: (أي: ذات الجيش من المدينة على بريد) قال: وبينهما وبين العقيق سبعة أميال، والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، ويؤيد هذا ما رواه الحميدي في «مسنده» عن سفيان، حدثنا هشام، عن عروة، عن أبيه في هذا الحديث، فقال فيه: (إن القلادة سقطت ليلة الأبواء) انتهى، والأبواء بين مكة والمدينة، وفي رواية علي بن مسهر في هذا الحديث عن هشام قال: (وكان ذلك المكان يقال له: الصلصل)، رواه جعفر الفريابي، وابن عبد البرِّ من طريقه، والصلصل؛ بصادين مهملتين؛ أولاهما ساكنة، قال البكري: (هو جبل عند ذي الحليفة)، وذكره في حرف الصاد المهملة، ووهم فيه صاحب «التلويح» مغلطاي، فزعم أنه بالضاد المعجمة، وتبعه على ذلك صاحب «التوضيح» ابن الملقن، وقال صاحب «العباب»: (الصلصل: موضع على طريق المدينة، وصلصل: ماء قريب من اليمامة لبني عجلان، وصلصل: ماء في جوف هضبة حمراء، ودارة صلصل لبني عمرو بن كلاب، وهي بأعلى دارها)، ذكر ذلك في الصاد المهملة، وقال في المعجمة: (الضلضلة: موضع) انتهى ما قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الكريم الباري.
(حتى إذا كنَّا بالبيداء) قد سبق عن أبي عبيد البكري: (أن البيداء: أدنى مكة من ذي الحليفة)، ثم قال: (هو المشرف الذي قدام ذي الحليفة من طريق مكة)، و (البَيداء) بفتح الموحدة، وبالمد، (أو بذات الجَيْش) بفتح الجيم، وسكون التحتية، آخره شين معجمة، قال الكرماني: (موضعان بين مكة والمدينة، وكلمة كذا قاله إمام الشارحين، وروي: أن «أو» للشك من عائشة رضي الله عنها) انتهى.
قلت: ويحتمل أن يكون الشك من بعض الرواة عن عائشة، والظاهر الأول، ولهذا جرى عليه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
وما قيل: إنَّه بعيد؛ ليس بشيء؛ لأنَّ الأمكنة البعيدة لا خبرة فيها للنساء، وإنَّما يعرفها الرجال؛ لكثرة مرورهم بها، كما لا يخفى، وروى أبو داود من حديث عمَّار بن ياسر رضي الله عنه، وكذا النسائي عنه بإسناد جيد قال: (عرَّس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بذات الجيش ومعه عائشة زوجه، فانقطع عقدها ... )؛ الحديث، ولم يشك بينه وبين البيداء.
قلت: فيحتمل تعدُّد السفر؛ لما قدَّمنا من رواية الطبراني، فليس فيه دليل على أن الشك من بعض الرواة، كما زعمه القسطلاني، بل يحتمل من كلٍّ منهما، والأظهر أنَّه من عائشة؛ لأنَّها لا خبرة لها بالأمكنة؛ لعدم مرورها عليها، بخلاف الرجال؛ فإنَّهم يمرون عليها كثيرًا، فالخبرة لهم؛ فافهم واحفظ.
(انقطع عِقْد لي) بكسر العين المهملة، وسكون القاف؛ وهو القلادة: وهو كلُّ ما يعقد ويعلَّق في العنق، وذكر السفاقسي: (أنَّ ثمنه كان يسيرًا)، وقيل: كان ثمنه اثني عشر درهمًا، كذا قاله إمام الشارحين، وذكر البغوي في «معالمه» عن عائشة قالت: (فلمست صدري؛ فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع ... )؛ الحديث، ففيه دليل على أنَّ العقد يوضع على الصدر، ويعلق بالعنق، وأنَّه من جزع أظفار، وأنَّه ملك لها؛ لقولها: (لي)، فالإضافة فيه للملك؛ فافهم.
وقال القسطلاني: (والإضافة في قولها: «لي»؛ باعتبار حيازتها للعقد واستيلائها لمنفعة، لا أنَّه ملك لها، بدليل ما في
%ص 384%
الباب اللاحق: أنَّها استعارت من أسماء قلادة) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ وما المانع من أن تكون القلادة ملكًا لها، وأنَّها المقطوعة، والمستعارة غيرها؟ فإنَّ ظاهر هذا الحديث أنَّ القلادة ملك لها، فإَّن قولها: (انقطع عقد لي) ظاهر في الملكية، والاختصاص بها، وكيف تخبر عائشة الصديقة زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ القلادة لها، والحال أنَّها لأسماء؟! وما كان يمنعها عن الإخبار بالواقع، وكيف يقال هذا؟! فعائشة لم تخبر إلَّا بالواقع: وهو أنَّ العقد المقطوع هو ملك لها، وأنَّ الذي استعارته هو غيره؛ لما قدَّمنا من رواية الطبراني، وفيه قالت عائشة: (لمَّا كان من أمر عقدي ما كان ... )؛ الحديث؛ فانظر: كيف أضافته لنفسها، وما هي إلا باعتبار التملك والاختصاص، وقال أبو عبيد البكري في حديث الإفك: (فانقطع عقد لي)، وقال محمَّد بن حبيب الأنصاري: (سقط عقد عائشة ... )؛ الحديث، فهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ العقد ملك لعائشة، ويحتمل تعدُّد القصَّة؛ لما قدَّمنا في حديث الطبراني، قالت: (خرجت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة أخرى؛ فسقط أيضًا عقدي ... )؛ الحديث؛ ولو اضطلع القسطلاني على هذا؛ لما قال ما قال، والحق أحقُّ أن يتَّبع؛ فافهم.
(فأقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على التماسه) أي: لأجل طلب العقد، (وأقام الناس معه) وقال أبو عبيد البكري في حديث الإفك: (فانقطع عقد لي من جزع أظفار، فحبس الناس ابتغاءه) ففيه دليل على حرمة الأموال الحلال، وأنَّه لا يضيِّعها وإن كان قليلًا، ألا ترى أنَّ العقد كان ثمنه اثني عشر درهمًا، كما قدمناه، وفيه دليل على جواز حفظ الأموال وإن أدَّى إلى عدم وجود الماء في الوقت، وفيه دليل على جواز اتِّخاذ النساء الحلي واستعمال القلادة تجمُّلًا لأزواجهنَّ، كذا قرَّره إمام الشارحين، (وليسوا على ماء وليس معهم ماء) كذا في رواية الأكثرين في الموضعين، وسقطت الجملة الثانية في الموضع الأول في رواية أبي ذرٍّ، قاله إمام الشارحين؛ يعني: ليس عندهم ماء يكفي للوضوء، ويحتمل التعميم، والأظهر الأول، (فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق) الأكبر رضي الله عنه، وفيه دليل على أنَّه هو الخليفة بعده عليه السَّلام، وإنَّما أتوا إليه ولم يأتوا النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ يحتمل أنَّهم غلبهم الحياء منه عليه السلام، ويحتمل أنَّهم علموا إن أتوه عليه السلام؛ يغتاظ ويتأذَّى من فعل عائشة، ويحتمل أنَّهم علموا أنَّه عليه السلام كان نائمًا وقتئذٍ، (فقالوا) للصدِّيق الأكبر: (ألا ترى) أي: تعلم (إلى ما صنعت عائشة؟) بإثبات ألف الاستفهام الداخلة على كلمة (لا)، وفي رواية الحمُّوي: (لا ترى)؛ بسقوطها، ففيه نسبة الفعل إلى من كان مسبِّبًا فيه؛ ولذا صرَّحوا باسم عائشة رضي الله عنها، والذي صنعته هو أنَّها (أقامت برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والناس) بالجر عطفًا على المجرور (وليسوا على ماء وليس معهم ماء) وأسندوا الفعل إليها؛ لأنَّه كان بسببها، (فجاء أبو بكر) أي: الصدِّيق الأكبر إلى عند السيدة عائشة (ورسول الله) الواو للحال (صلَّى الله عليه وسلَّم واضع رأسه) الشريف (على فَخِذي) بفتح الفاء، وكسر الخاء، والذال المعجمتين (قد نام) أي: عليه، والظاهر أنَّ الإقامة كانت ليلًا، وأنَّهم لم يصلُّوا صلاة الوتر الواجبة؛ لأنَّ عادته عليه السلام تأخير صلاة الوتر إلى آخر الليل؛ فليحفظ، وفيه الاستدلال على الرخصة في ترك التهجد في السفر إن ثبت أنَّ التهجد كان واجبًا عليه عليه السلام، (فقال) أي: أبو بكر لعائشة (حبستِ)؛ بكسر تاء التأنيث؛ أي: منعت (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) من السفر، (و) حبست (الناس) أي: منعتهم من السفر أيضًا (وليسوا على ماء وليس معهم ماء) يعني: ليس عندهم عين جارية، وليس عندهم في رحالهم ماء يكفي لوضوئهم، ويحتمل أنَّه كان عندهم في رحالهم ماء، لكنَّهم في احتياجه للشرب لهم ولدوابهم وطعامهم؛ لأنَّ القافلة لا تخلو من الماء غالبًا؛ فافهم.
(فقالت عائشة) رضي الله عنها: (فعاتبني أبو بكر) وإنَّما لم تقل عائشة: عاتبني أبي، وسمته باسمه؛ لأنَّ مقام الأبوَّة لمَّا كان يقتضي الحنوَّ والشفقة، وعاتبها أبو بكر؛ صار مغايرًا لذلك، فلذلك أنزلته منزلة الأجنبي؛ فلم تقل: أبي، وكأنها اغتاظت منه لما يأتي، (وقال) أي: أبو بكر لها (ما شاء الله أن يقول)، وفي رواية عمرو بن الحارث، فقال: (حبست الناس في قلادة) أي: لأجلها، وفي رواية الطبراني قال: (يا بنية؛ في كلِّ سفر تكونين عناء وبلاء، ليس مع الناس ماء) (وجعل يطعنُني)؛ بضمِّ النون، والعين المهملة، وكذلك جميع ما هو حسي، وأمَّا المعنوي؛ فيقال: يطعن بالفتح، هذا هو المشهور فيهما معًا، كذا في «المطالع»، وحكى صاحب «الجامع» الضمَّ فيهما، قاله إمام الشارحين.
قلت: فالحسِّيُّ؛ كالرمح والعصا، فهو بالضمِّ، والمعنويُّ؛ كالطعن في النسب والقول، فهو بالفتح أو كلاهما بالفتح، كما علمت.
(بيده في خَاصِرتي)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الصاد المهملة، وهي الشاكلة، (فلا) وللأصيلي: (فما) (يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على فخذي)، وفيه دليل على استحباب الصبر لمن ناله ما يوجب الحركة؛ إذ يحصل به التشويش للنائم، وكذا المصلي، والقارئ، والمشتغل بالعلم أو الذكر، وفيه دليل على جواز دخول الرجل على ابنته وإن كان زوجها عندها، إذا علم رضاه بذلك، ولم يكن حالة مباشرة، وفيه دليل على جواز تأديب الرجل ابنته ولو كانت مزوجة كبيرة خارجة عن بيته، ويلحق بذلك تأديب من له تأديبه ولو لم يأذن له الإمام؛ فافهم.
(فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين أصبح)، وفي رواية: (فنام حتى أصبح)، والمعنى فيهما متقارب؛ لأنَّ كلًّا منهما يدلُّ على قيامه من نومه كان عند الصبح، وليس المراد بقوله: (حتى أصبح) بيان غاية النوم إلى الصباح، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح؛ لأنَّه قيد بقوله: (حين أصبح) بقوله: (على غير ماء) متعلق بـ (قام)، و (أصبح) على طريقة تنازع العاملين، و (أصبح) بمعنى: دخل في الصباح، وهي تامة؛ فلا تحتاج إلى خبر، كذا قرره إمام الشارحين؛ فليحفظ.
ففيه دليل على أنَّ طلب الماء لا يجب إلا بعد دخول الوقت، ويدل لهذا قوله في رواية عمرو بن الحارث: (وحضرت الصَّلاة، فالتمس الماء)، (فأنزل الله آية التيمم) وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .. } إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، كما ذكره الحميدي، وسيأتي.
وقال ابن العربي: (لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة).
وقال ابن بطال: (هي آية النساء أو آية المائدة).
وقال القرطبي: (هي آية المائدة؛ لأنَّ آية النساء تسمَّى آية الوضوء، وليس في آية المائدة ذكر الوضوء).
وقال الواحدي: (عند ذكر آية النساء
%ص 385%
أيضًا والآيتان مدنيتان، ولم تكن صلاة قبل إلا بوضوء، فلمَّا نزلت آية التيمم؛ لم يذكر الوضوء؛ لكونه متقدمًا متلوًّا؛ لأنَّ حكم التيمُّم هو الطارئ على الوضوء، وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولًا أول الآية، وهو فرض التيمم، ثم نزلت [3] عند هذه الواقعة آية التيمم وهو تمام الآية: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} [النساء: 43]، ويحتمل أن يكون الوضوء كان بالسنة لا بالقرآن، ثم نزلا معًا، فعبَّرت عائشة بالتيمم؛ لأنَّه المقصود.
قال إمام الشارحين: (ولو وقف هؤلاء على ما ذكره أبو بكر الحميدي في «جمعه» في حديث عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة ... ؛ فذكر الحديث، وفيه فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ .. }؛ الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ لما احتاجوا إلى هذا التخرُّض، وكأنَّ البخاري أشار إلى هذا؛ إذ تلا بقيَّة الآية الكريمة) انتهى كلامه رحمه الباري.
({فَتَيَمَّمُوا}) [النساء: 43]؛ بصيغة الماضي؛ أي: فتيمم الناس بعد نزول الآية، وهي قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}، والظاهر أنَّ صيغة الأمر على ما هو لفظ القرآن ذكره؛ بيانًا أو بدلًا عن آية التيمم؛ أي: أنزل الله {فَتَيَمَّمُوا} [4]، قاله إمام الشارحين، وفيه دليل على افتراض النية في التيمم؛ لأنَّ معنى قوله تعالى: {تَيَمَّمُوا} [5]: اقصدوا، وهو قول الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والإمام محمَّد بن الحسن، وبه قال مالك، ومحمَّد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل، والجمهور، وقال الإمام زفر، والأوزاعي: النيَّة فيه ليست بفرض قياسًا على الوضوء؛ فإنَّ الماء خلق مطهرًا؛ لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، والتراب أيضًا طاهر لقوله: {صَعِيدًا طَيِّبًا}؛ أي: طاهرًا، فإذا كان الماء مطهرًا بنفسه؛ لا يحتاج إلى نيَّة الوضوء، فكذلك التراب لا يحتاج فيه إلى نيَّة التيمم يدلُّ عليه قوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ... »؛ الحديث، وقوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ... »؛ الحديث رواهما الشيخان، وقال الجمهور: مطلق القصد غير مراد بالإجماع، بل المراد: القصد الشرعي وهو لا يكون بدون النيَّة؛ يعني: أنَّ النصَّ يدلُّ على اشتراط القصد إلى الصعيد للطهارة؛ فإنَّه تعالى أمر بالغسل بالماء الذي هو مطهر طبعًا؛ ليحصِّل الطهارة، ثم أقام الصعيد مقامه عند عدمه في تحصيل ذلك المقصود بقوله: {فَتَيَمَّمُوا [6] صَعِيدًا}، والتيمم: القصد فكأنَّ المراد: فإن لم تجدوا ماءً للتطهير؛ فاقصدوا إلى الصعيد للطهارة، فكان القصد إليه للطهارة داخلًا تحت الأمر على أنَّه التراب غير مطهر حقيقة، بل هو ملوث، فالشرع جعله طهورًا بشرطين؛ أحدهما: عدم الماء، والثاني: بالنية بأن يكون للصلاة؛ لأنَّ التراب غير طهور طبعًا، وإنَّما صار طهورًا في حالة مخصوصة شرعًا، وتمامه في شروح «الهداية»، (فقال) وفي رواية: (قال) (أُسَيْد) بضمِّ الهمزة مصغر: أسد (بن الحُضَيْر) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة، وسكون التحتية، آخره راء، قال الكرماني: وفي بعضها بالنون، وفي بعضها: (الحضير)؛ بالألف واللام، وهو نحو: الحارث من الأعلام التي تدخلها لام التعريف جوازًا، قال إمام الشارحين: (إنَّما يدخلونها للمح الوصفية)، و (أُسَيْد بن الحضير) ابن شمال الدوسي الأنصاري الأشهل أبو يحيى، أحد النقباء ليلة العقبَة الثانية، مات بالمدينة سنة عشرين، وحمل عمر بن الخطاب جنازته مع من حملها وصلَّى عليه، ودفن بالبقيع، ثم قال: فإن قلت: في رواية عبد الله بن نمير، عن هشام: (فبعث رجلًا فوجدها)، وفي رواية مالك: (فبعثنا البعير فأصبنا العقد).
قلت: ليس بينهما تناقض؛ لأنَّه يحتمل أن يكون المبعوث هو أُسَيْد بن حضير، فوجدها بعد رجوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون عليه السلام هو وجدها عند أثارة البعير بعد انصراف المبعوثين إليها؛ فلا يكون بينهما تعارض، قاله المهلب.
واعترضه إمام الشارحين فقال: هما واقعتان كما أشرنا إليه في الرواية الأولى: (عقد)، وفي الأخرى: (قلادة)، فلا تعارض حينئذٍ، ويحتمل أن يكون قوله: (بعث رجلًا) يعني: أميرًا على جماعة كعادته، فعبَّر بعض الرواة بـ (أناس)؛ يعني: أُسَيْدًا وأصحابه، وبعضهم بـ (رجل): يعني: المشار إليه، أو يكون قولها: (فوجده)؛ تعني بذلك: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، لا الرجل المبعوث.
فإن قلت: معنى قول أُسَيْد قاله دون غيره.
قلت: لأنَّه كان رأس المبعوثين في طلب العقد الذي ضاع، انتهى كلامه رضي الله عنه.
(ما هي) أي: البركة؛ فإنَّ القرينة الحالية والمقالية يدلان على أنَّ (هي) يرجع إلى البركة وإن لم يحضر ذكرها، والمراد بها: رخصة التيمم التي حصلت للمسلمين؛ أي: ليس هذه البركة (بأول بركتكم) والبركة: كثرة الخير (يا آل أبي بكر) بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، ولفظة (آل) مقحمة، وأراد به: أبا بكر نفسه، ويجوز أن يراد به: أبا بكر وأهله وأشياعه، و (الآل) يستعمل في الأشراف بخلاف الأهل، ولا يزداد طرًّا الآل، وفرَّق؛ لأنَّه بحسب تصوره ذكر ذلك، أو بطريق التهكم، ويجوز فيه: يال أبي بكر؛ بحذف الهمزة؛ للتخفيف، كذا قاله إمام الشارحين، ثم قال: وفي رواية عمرو بن الحارث: (لقد بارك الله للناس فيكم)، وفي تفسير إسحاق السبتي من طريق ابن أبي مليكة، عن عائشة: أنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال لها: «ما كان أعظم بركة قلادتك»، وفي رواية هشام بن عروة الآتية: «فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه خيرًا»، وفي (النكاح) من هذا الوجه: «إلا جعل الله لك منه مخرجًا، وجعل للمسلمين منه بركة»، وهذا يشعر أنَّ هذه القصة بعد قصة الإفك؛ فيقوى قول من ذهب إلى تعدُّد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمَّد بن حبيب الأنصاري، فقال: (سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق)، وقد اختلف أهل المغازي في أيِّ هاتين الغزاتين كانت أولًا، فقال الداودي: (كانت قصة التيمم في غزوة الفتح)، ثمَّ تردَّد في ذلك، وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: (لمَّا نزلت آية التيمم؛ لم أدر كيف أصنع الحديث؟)، فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأنَّ إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة وهي بعدها بلا خلاف، وسيأتي في (المغازي) إن شاء الله تعالى أنَّ البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى الأشعري، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة، وممَّا يدلُّ أيضًا على تأخُّر القصَّة عن قصَّة الإفك ما رواه الطبراني من طريق عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، وقد تقدم ذكره قريبًا؛ فافهم، انتهى ما قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الغفور الكريم الباري.
%ص 386%
(قالت) أي: عائشة رضي الله عنها: (فبعثنا) أي: أثرنا (البعير)؛ واحد الإبل من معناها؛ لأنَّ الإبل اسم جمع لا واحد لها من لفظها، بل من معناها، وهي مؤنثة (الذي كنت عليه) راكبة حالة السير مع أُسَيْد بن الحضير، (فأصبنا) وفي رواية ابن عساكر: (فوجدنا) (العِقْد)؛ بكسر العين المهملة، وسكون القاف؛ أي: القلادة (تحته) أي: تحت البعير، وهذا يدل على أنَّ الذي توجَّهوا في حاله أوَّلًا لم يجدوه.
قال إمام الشارحين: (فإن قلت: في رواية عروة في الباب الذي يليه: (فبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رجلًا فوجدها) أي: القلادة، وللبخاري في (فضل عائشة) من هذا الوجه، وكذا مسلم: (فبعث ناسًا من الصحابة في طلبها)، وفي رواية أبي داود: (فبعث أُسَيْد بن حضير ناسًا معه).
قلت: الجمع بين هذه الروايات أنَّ أُسَيْدًا [7] كان رأس المبعوثين لذلك، كما ذكرنا؛ فلذلك سُمَّي في بعض الروايات دون غيره، وكذا أسند الفعل إلى واحد منهم، وهو المراد به، وكأنَّهم لم يجدوا العقد أولًا، فلما رجعوا ونزلت آية التيمم وأرادوا الرحيل وآثاروا البعير؛ وجده أُسَيْد بن حضير، وعلى هذا؛ فقوله في رواية عروة الآتية: (فوجدها) أي: بعد جميع ما تقدم من التفسير، وزعم النووي: أنَّه يحتمل أن يكون فاعل (وجدها) هو النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد بالغ الداودي في توهم رواية عروة، ونقل عن إسماعيل القاضي: أنَّه حمل الوهم فيها على عبد الله بن نمير، وقد بان بذلك أن لا تخالف بين الروايتين ولا وهم.
فإن قلت: في رواية عمرو بن الحارث: (سقطت قلادة لي)، وفي رواية عروة الآتية عنها: (أنها استعارت قلادة من أسماء _يعني: أختها_ فهلكت) أي: ضاعت، فكيف التوفيق؟
قلت: إضافة القلادة إلى عائشة؛ لكونها في يدها وتصرفها، وإلى أسماء لكونها ملكها؛ لتصريح عائشة بذلك في رواية عروة المذكورة) انتهى كلامه.
قلت: ولا مانع من تعدُّد القصة، فإنَّ الذي في رواية عمرو بن الحارث ظاهر في أنَّ القلادة كانت ملكًا [8] لعائشة؛ لتصريحها بذلك؛ حيث قالت: (سقطت قلادة لي)، و (اللام) للملك أو الاختصاص، وأنَّ الذي في رواية عروة ظاهر في أنَّها ملك لأسماء، فهما واقعتان؛ لأنَّ ضياع العقد قد تكرر غير مرة كما ذكرنا، ويدل عليه رواية الطبراني، وقد تقدمت، وتمامه فيما قدمناه قريبًا؛ فافهم.
وفي الحديث دليل على أنه يستوي في التيمم الصحيح، والمريض، والمحدث، والجنب، ولم يختلف علماء الأمصار بالعراق، والشام، والمشرق، والمغرب، والحجاز في ذلك، وكان عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يقولان: الجنب لا يطهره إلا الماء؛ لقوله عز وجل: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، وقوله: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، فذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، ولم يتعلق بقولهما أحد من الفقهاء؛ للأحاديث الواردة الثابتة في جواز تيمم الجنب، قاله إمام الشارحين.
قلت: ومثل الجنب الحائض والنفساء إذا طهرتا، وقد قال الثقات من النقاد: إنَّه ثبت رجوع عمر وابن مسعود رضي الله عنهما عن ذلك، وصارا يقولان بجواز تيمم الجنب؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن في الحديث دليلًا [9] على جواز الإقامة في المكان الذي لا ماء فيه، وسلوك الطريق الذي لا ماء فيه.
ورده إمام الشارحين: بأن فيه نظرًا [10]؛ لأنَّ المدينة كانت قريبة منهم، وهم على قصد دخولها، ويحتمل أنه عليه السلام لم يعلم بعدم الماء مع الركب إن كان قد علم بأنَّ المكان لا ماء فيه، ويحتمل أن يكون معنى قوله: (ليس معهم ماء) أي: للوضوء، وأمَّا ما يحتاجون إليه للشرب؛ فيحتمل أنه كان معهم.
قلت: وقدمنا قريبًا ما يتعلق في ذلك، وفي الحديث جواز شكوى المرأة إلى أبيها وإن كان لها زوج، وإنما شكوا إلى أبي بكر؛ لكونه عليه السلام كان نائمًا، وكانوا لا يوقظونه، كذا قالوا، واعترضهم إمام الشارحين: بأنه يجوز أن يكون شكواهم إلى أبي بكر دونه عليه السلام؛ خوفًا على خاطره عليه السلام من تغيره عليها) انتهى.
قلت: ويحتمل أن تكون شكواهم إلى أبي بكر حتى يخبر بها النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن السلطان إذا كان في بلدة وأراد أحد الشكوى على آخر؛ فأولًا يشكو أمره إلى وزيره، والوزير يخبر به السلطان، كما لا يخفى، وفي الحديث دليل على أن الوضوء كان واجبًا عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع، وقال ابن عبد البر معلوم عند جميع أهل المغازي أنَّه عليه السلام لم يصلِّ منذ فرضت الصَّلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل، أو معاند.
فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك، ما الحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به؟
قلت: ليكون فرضه متلوًّا بالتنزيل، ويحتمل أن يكون أول آية الوضوء نزل قديمًا، فعملوا به، ثم نزلت بقيتها؛ وهو ذكر التيمم في هذه القصة، وإطلاق آية التيمم على هذا من إطلاق الكل على البعض، لكن رواية عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم في هذا الحديث نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ .. } إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] يدل على أن الآية نزلت جميعها في هذه القصة، وقد يقال: إنَّ الوضوء كان بالسنة لا بالقرآن أولًا، ثم أنزلا معًا، فعبرت عائشة بالتيمم؛ إذ كان هو المقصود.
فإن قلت: ذكر الجاحظ في كتاب «البرصان [11]» أن الأسلع العرجي الذي كان يرتحل للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال للنبيِّ عليه السلام يومًا: إني جنب، وليس عندي ماء، فأنزل الله آية التيمم؟
قلت: هذا ضعيف، ولئن صح؛ فجوابه: أنه يحتمل أن تكون قضية الأسلع واقعة في قصة سقوط العقد) انتهى ما قاله إمام الشارحين.
قلت: ويحتمل أن الأسلع لم يبلغه نزول الآية مدة، ثم لما ارتحل إلى النبيِّ الأعظم عليه السلام؛ أخبره بنزولها، فعبر كما سمع والله أعلم.
وفي الحديث دليل على جواز التيمم في السفر وهو بالإجماع، واختلفوا في الحضر، ومذهب الإمام الأعظم: أن التيمم جائز سواء كان مسافرًا أو مقيمًا
%ص 387%
بمصر وهو المختار، كما في «شرح الدرر».
قال في «البحر»: (وهو الحق)، وقال فخر الدين الزيلعي: (لا فرق بين المسافر والمقيم، ومن هو خارج المصر أو داخله)، قال في «شرح الملتقى»: وهو الصحيح، وذلك لأنَّ الشرط عدم الماء، فأينما تحقق بعد وجود المقتضي؛ جاز؛ كذا في «العناية» عن «الأسرار»، وعدمه حقيقة أو حكمًا، وذلك بأن كان بينه وبين الماء عدوٌّ سواء كان آدميًّا أو غيره؛ كحية أو نار يخاف منه على نفسه إذا أتاه؛ فإنه يتيمم، وسواء خاف على نفسه أو ماله، كما في «البحر» ولو كان المال أمانة بيده، كما في «المبتغى»، لكن إن أمكن إخفاؤها؛ لم يجز ومقدار المال درهم، كما في «منهل الطلاب»، ويجوز التيمم لمريض يجد الماء، وخاف إن استعمله يشتد مرضه أو يمتد، كما في المتون، وكذا لو كان صحيحًا؛ فخاف حدوث مرض، كما في «القهستاني»، أو خاف الجنب الصحيح في المصر إن اغتسل أن يقتله البرد أو يمرضه؛ فإنه يتيمم عند الإمام الأعظم، وقال الإمام أبو يوسف، والإمام محمد بن الحسن: لا يجوز؛ لأنَّ له أن يسخن الماء أو يدخل الحمام، كذا في «البحر»، ويجوز التيمم لصلاة الجنازة، وذلك إذا حضرت، والولي غيره؛ فخاف إن اشتغل بالوضوء أن تفوته الصَّلاة عليها ومثلها صلاة العيدين، وأما الجمعة؛ فلا يجوز التيمم لها؛ لأنَّ لها خلفًا وهو فرض الظهر، وإذا ضاق الوقت؛ فخشي إن توضأ فات الوقت؛ لم يتيمم، لكنه يتوضأ ويصلي فائتة؛ لأنَّ الفوائت إلى بدل كلا فوات، كذا في «النهر»، وهو ظاهر المذهب، وقال الإمام زفر: يتيمم ولا يتوضأ؛ لأنَّ التيمم شرع؛ لتحصيل الصَّلاة بوقتها وهو قول الليث بن سعد، وأبي نصر بن سلام، ورجحه ابن الهمام في «فتح القدير»، وقال مالك وأصحابه: التيمم في الحضر والسفر سواء إذا عدم الماء، أو تعذر استعماله لمريض، أو خوف شديد، أو خوف خروج الوقت، وقال الشافعي: (لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف)، وبه قال الطبري، وقال الشافعي أيضًا: (إذا عدم الماء في الحضر مع خوف فوت الوقت الصحيح والسقيم؛ يتيمم ويصلي ويعيد)، وقال عطاء ابن أبي رباح: (لا يتيمم المريض إن وجد الماء ولا غير المريض)، والله أعلم.
قال إمام الشارحين: (وفي الحديث دليل على جواز السفر بالنساء في الغزوات وغيرها عند الأمن عليهنَّ، فإذا كان لواحد نساء؛ فله أن يسافر مع أيتهنَّ شاء، لكن يستحب له أن يقرع بينهنَّ، فمن خرجت قرعتها؛ أخرجها معه، هذا مذهب الإمام الأعظم، وعند مالك، والشافعي، وأحمد: القرعة واجبة، وفي الحديث جواز وضع الرجل رأسه على فخذ امرأته، وفيه احتمال المشقة لأجل المصلحة؛ لقول عائشة: (فلا يمنعني من التحول إلا مكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، وفيه دليل على فضيلة عائشة الصديقة، وأبيها الصديق الأكبر رضي الله عنهما، وتكرار البركة منهما) انتهى، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ليلتين).
[2] في الأصل: (أن).
[3] في الأصل: (نزل).
[4] في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (أسيد)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (ملك)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
[10] في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
[11] في الأصل: (البرهان)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (ليلتين).
[2] في الأصل: (أن).
[3] في الأصل: (نزل).
[4] في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (أسيد)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (ملك)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
[10] في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (ليلتين).
[2] في الأصل: (أن).
[3] في الأصل: (نزل).
[4] في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (أسيد)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (ملك)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
[10] في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
(1/573)
[حديث: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي]
335# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن سِنَان) بكسر السين المهملة، وتخفيف النون، زاد الأصيلي: (وهو العَوَقِي)؛ بفتح العين المهملة، والواو، وكسر القاف، البصري الباهلي، (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (هُشَيْم) بضمِّ الهاء، وفتح الشين المعجمة، وسكون التحتية، هو ابن بَشِير _بفتح الموحدة، وكسر الشين المعجمة_ أبو معاوية الواسطي، المتوفى سنة ثلاث وثمانين ومئة ببغداد، قال ابن عوف: (مكث هشيم يصلي الفجر بوضوء العشاء الآخرة قبل أن يموت بعشر سنين)
(ح) مهملة، إشارة إلى التحويل من إسناد إلى إسناد: (وحدثني) بالإفراد، وللأصيلي: (وحدثنا) (سَعِيْد) بكسر العين المهملة (بن النَّضْر) بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، هو أبو عثمان البغدادي، مات بأصل جيحون، سنة أربع وثلاثين ومئتين (قال: أخبرنا هشيم)؛ بالتصغير، هو المذكور، فالبخاري يروي عن هشيم بواسطة شيخين؛ أحدهما: محمَّد بن سنان، والآخر: سَعِيْد بن النضر (قال: أخبرنا سَيَّار) بفتح السين المهملة، وتشديد المثناة التحتية، آخره راء، هو ابن أبي سيار وردان أبو الحكَم _بفتح الكاف_ الواسطي، وهو متفق على توثيقه، وقد أدرك بعض الصحابة، لكن لم يلق أحدًا منهم، فهو من كبار أتباع التابعين روى عنه: الأئمَّة الستة، ولهم شيخ آخر يقال له: سيار، لكنه تابعي شامي، أخرج له الترمذي، وروى معنى الحديث عن أبي أمامة، وتمامه في «عمدة القاري»، مات بواسط سنة اثنتين [1] وعشرين ومئتين (قال: حدثنا يزيد) من الزيادة، زاد في رواية: (هو ابن صهيب)؛ بالتصغير، والتخفيف (الفقير) ضد الغني، أبو عثمان الكوفي أحد مشايخ الإمام الأعظم رئيس المجتهدين رضي الله عنه، وإنَّما قيل له الفقير؛ لأنَّه كان يشكو فقار ظهره، ويقال له: فقِّير؛ بالتشديد أيضًا (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (جابر بن عبد الله) هو الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه: (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قال) أي: في عام غزوة تبوك، كما رواه أحمد ابن حنبل، وسيأتي: (أُعطيت) بضمِّ الهمزة مبني للمفعول، والمعطي هو الله الواحد القهار، فهو معلوم لكل مخلوق (خمسًا) أي: خمس خصال، وعند مسلم من حديث أبي هريرة: «فُضِّلت على الأنبياء عليهم السلام بستٍّ: أعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبوة ... »؛ الحديث، وعنده أيضًا من حديث حذيفة: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وتربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء»، ولفظ الدارقطني: «وترابها طهورًا»، وعند النسائي: «وأوتيت هؤلاء الآيات آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعط منه أحد قبلي، ولا يعط منه أحد بعدي»، وعند أبي محمَّد الجارود في «المنتقى» من حديث أنس رضي الله عنه: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا»، وعن أبي أمامة: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إن الله تعالى قد فضلني على الأنبياء»، أو قال: «أمتي على الأمم بأربع: جعل الأرض كلَّها لي ولأمتي طهورًا ومسجدًا؛ فأينما أدركت الرجل الصَّلاة من أمتي؛ فعنده مسجده، وعنده طهوره، ونصرت بالرعب يسير بين يدي مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي ... »؛ الحديث، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود: «وأوتيت [2] الكوثر»، وفي حديث علي رضي الله عنه عند أحمد: «وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم»، وعند أحمد أيضًا من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه عليه السلام قال ذلك عام غزوة تبوك»، وفي حديث السائب ابن أخت النمر: «فضلت على الأنبياء عليهم السلام بخمس: أرسلت إلى الناس كافة، وادخرت شفاعتي لأمتي، ونصرت بالرعب شهرًا أمامي، وشهرًا خلفي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم».
قال إمام الشارحين: (السائب المذكور: هو ابن يزيد بن سعد
%ص 388%
المعروف بابن أخت نمر، قيل: إنه ليثي كناني، وقيل: أزدي، وقيل: كندي حليف بني أمية، ولد في السنة الثانية، وخرج في الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقى النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مقدمه من تبوك، وشهد حجة الوداع، وذهبت به خالته، وهو وجيع إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فدعا له ومسح برأسه، وقال: «نظرت خاتم النبوة»، وفي «تاريخ نيسابور» للحاكم: «وأحل لي الأخماس»، وإذا تأملت؛ وجدت هذه الخصال اثنتي عشرة [3] خصلة ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك عند إمعان التتبُّع، وقد ذكر أبو سَعِيْد النيسابوري في كتابه «شرف المصطفى» أن الذي اختص به نبينا عليه السلام ستون خصلة) انتهى.
قلت: وقد ذكر الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد المنيني العثماني في كتابه «الخصائص»: (أن الذي اختص به نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فوق المئة)، وذكر السيوطي منها نحو السبعين، وذكر القسطلاني في «المواهب» بعضًا منها، ولم أر أجمع من كتاب «الخصائص» للمنيني، فإنَّه مفيد جدًّا، لم يسبق بنظيره رحمه الله تعالى.
قال إمام الشارحين: (فإن قلت: بين هذه الروايات تعارض؛ لأنَّ المذكور فيها الخمس، والست، والثلاث.
قلت: لا تعارض؛ لأنَّ التنصيص على عدد لا يدل على نفي ما عداه، وقد علم في موضعه)، وأجاب القرطبي: بأن ذكر الأعداد لا يدل على الحصر؛ فإن من قال: عندي خمسة دنانير مثلًا؛ لا يدل على أنه ليس عنده غيرها، ويجوز له أن يقول مرة أخرى: عندي عشرون، ومرة أخرى: ثلاثون، فإن من كان عنده ثلاثون؛ صدق عليه أن عنده عشرين وعشرة؛ فلا تعارض ولا تناقض، ويجوز أن يكون الرب سبحانه وتعالى أعلمه بثلاث، ثم بخمس، ثم بستٍّ) انتهى.
(لم يعطهن أحد) أي: من الأنبياء (قبلي) يعني: لم يجمع لأحد قبله هذه الخمسة؛ لأنَّ نوحًا عليه السلام بعث إلى كافة الناس، وأما الأربع؛ فلم يعط واحد منهن قبله أحد، وأما كونها مسجدًا؛ فلم يأت أن غيره منع منها، وقد كان عيسى عليه السلام يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصَّلاة، كذا قاله الداودي.
قلت: وفيه نظر، فإن قوله: (فلم يأت ... ) إلخ ممنوع؛ فقد أخرج البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب، وفيه: «ولم يكن من الأنبياء أحدٌ يصلي حتى يبلغ محرابه»، وفي حديث آخر مرفوعًا: «وإنَّما كانوا يصلون في كنائسهم»، فهذا نص ثابت للخصوصية.
وظاهر حديث الباب أنَّ كل واحد من الخمس لم يكن لأحد قبله، وهو كذلك، وزاد في حديث ابن عباس: (لا أقولهن فخرًا)؛ فليحفظ.
وقوله: (وقد كان عيسى ... ) إلخ لا ينهض دليلًا لمدعاه؛ لأنَّه يحتمل أن عيسى عليه السلام يسيح في الأرض، ويرجع ويصلي في الكنيسة، ويدل لذلك أن الصَّلاة كانت في شريعته ومن قبله صلاتان؛ صلاة عند طلوع الشمس، وصلاة عند غروبها، قال الله تعالى: { ... } [4]، فإذا كان كذلك فعيسى يصلي أول النهار في محرابه، ثم يسيح إلى أن يقرب الغروب فيرجع فيصلي في محرابه، كما لا يخفى.
وزعم ابن حجر أن نوحًا عليه السلام بعد خروجه من السفينة كان مبعوثًا إلى كل من في الأرض؛ لأنَّه لم يبق إلا من كان مؤمنًا، وقد كان مرسلًا.
وردَّه إمام الشارحين: (بأن هذا العموم الذي في رسالته لم يكن في أصل البعثة، وإنَّما وقع لأجل الحادث الذي حدث؛ وهو انحصار الخلق في الموجودين معه بهلاك سائر الناس وعموم رسالة نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في أصل البعثة) انتهى.
ثم قال: (وزعم ابن الجوزي أنه كان في الزمان الأول إذا بعث إلى قوم؛ بعث غيره إلى آخرين، وكان يجتمع في الزمان الواحد جماعة من الرسل، فأمَّا نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّه انفرد بالبعثة، فصار بذلك الكل من غير أن يزاحمه أحد) انتهى.
ثم قال إمام الشارحين: (فإن قلت: يقول أهل الموقف لنوح، كما صح في حديث الشفاعة: (أنت رسول إلى أهل الأرض)؛ فدل على أنه كان مبعوثًا إلى كل من في الأرض.
قلت: ليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، ولئن سلمنا أنه كان مرادًا؛ فهو مخصوص بتنصيص القرآن؛ حيث أخبر سبحانه وتعالى في عدة آيات أنَّ إرسال نوح إلى قومه، ولم يذكر أنَّه أرسل إلى غيرهم) انتهى.
قلت: أمَّا النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّه سبحانه وتعالى قال في حقه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: 28] والفرق بينهما بيِّن؛ فافهم، ثم قال إمام الشارحين: فإن قلت: لو لم يكن نوح مبعوثًا إلى أهل الأرض كلهم؛ لما أهلك كلهم بالغرق إلا أهل السفينة؛ لقوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
قلت: قد يجوز أن يكون غيره أرسل إليهم في ابتداء مدة نوح، وعلم نوح بأنَّهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم، قيل: هذا جواب حسن، ولكن لم ينقل أنَّه نبئ في زمن [نوح] غيره.
قلت: يحتمل أنَّه قد بلغ جميع الناس دعاؤه قومه إلى التوحيد؛ فتمادوا على الشرك فاستحقوا العذاب، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسيره سورة هود، قال: (وغير ممكن أنَّ نبوته لم تبلغ القريب؛ لطول مدته)، وقال القشيري: (توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عامًّا في حق بعض الأنبياء وإن كان إلزام فروع شريعته ليس عامًا؛ لأنَّ منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازمًا لهم؛ لم يقاتلهم).
قلت: وفيه نظر لا يخفى، وأجاب ابن حجر: بأنَّه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح؛ فبعثته خاصة؛ لكونها إلى قومه فقط؛ لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم؛ لم يكن مبعوثًا إليهم.
قلت: وفيه نظر أيضًا؛ لأنَّه يكون بعثته عامة لقومه؛ لكونهم الموجودين، وعندي جواب آخر: وهو أن الطوفان لم يرسل إلا إلى قومه الذين هو فيهم ولم يكن عامًّا، وهو جيد إن شاء الله تعالى، انتهى كلام إمامنا إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الحليم الباري.
(نُصِرت) بضمِّ النون، وكسر الصاد المهملة (بالرُّعْب)؛ بضمِّ الراء، وسكون العين المهملتين؛ الخوف، زاد أبو أمامة: (يقذف في قلوب أعدائي)، كما ذكرناه، وقرأ ابن عامر، والكسائي: (الرعُب)؛ بضمِّ العين، والباقون
%ص 389%
بسكونها، يقال: رعبت الرجل أرعبه رعبًا؛ أي: ملأته خوفًا، ولا يقال: أرعبته، كذا ذكره أبو المعالي، وحكي عن أبي طلحة: (أرعبته ورعبته، فهو مرعب)، وفي «المحكم»: (فهو رعيب ورعبة ترعيبًا وترعابًا فرعب)، وفي «الجامع»: (رعبته فأنا راعب، ويقال: رعب، فهو مرعوب، والاسم الرعب؛ بالضم)، وفي «الموعب»: (رجل رعب ومرتعب، وقد رعب ورعب)، كذا في «عمدة القاري»، (مسيرة) بفتح الميم (شهر) جعل الغاية شهرًا؛ لأنَّه لم يكن بين المدينة وبين أحد من أعدائه أكثر منه، كذا في «عمدة القاري»، (وجعلت) بضمِّ الجيم (لي) زاد أبو أمامة: (ولأمتي) (الأرض) كلها (مسجدًا)؛ بكسر الجيم؛ موضع سجوده، وهو موضع الجبهة على الأرض، ولم يكن اختص السجود منها بموضع دون موضع آخر، ويحتمل أن يكون المراد من المسجد: هو المسجد المعروف الذي يصلي فيه القوم، فإذا كان جوازها في جميعها؛ كان المسجد المعهود كذلك، قاله إمام الشارحين.
قلت: وعلى هذا الاحتمال؛ فهو مجاز عن المكان المعد للصلاة، وهو من مجاز التشبيه؛ لأنَّ المسجد حقيقة عرفية في المكان المبني للصلاة، فلما جازت الصَّلاة في الأرض كلها؛ كانت كالمسجد في ذلك، فأطلق عليها اسمه.
فإن قلت: فعلى هذا الاحتمال؛ لم [5] عدلوا عن حمله على الحقيقة اللغوية؛ وهي موضع السجود؟
قلت: أجاب في «المصابيح»: (بأنه إن بني على رأي سيبويه أنه إذا أريد به موضع السجود؛ يقال: مسجَد بالفتح فقط؛ فواضح، وإن جوز الكسر فيه؛ فالظاهر أن الخصوصية هي كون الأرض محلًا؛ لإيقاع الصَّلاة بجملتها، لا لإيقاع السجود فقط، فإنه لم ينقل عن الأمم الماضية أنها كانت تخص السجود بموضع دون موضع آخر) انتهى.
قلت: وهذا مردود، فإن من كان قبل نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من الأنبياء عليهم السلام إنَّما أبيح لهم الصلوات في مواضع مخصوصة كالبيع والكنائس، ويدل لهذا: قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ} [آل عمران: 39]، وأخرج أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «وكان من قبل إنَّما يصلون في كنائسهم»، وأخرج البزار من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ نحو حديث الباب، وفيه: «ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه»، فهذا نص صريح في موضع النزاع، فتثبت الخصوصية، فهذه الأمة المحمَّدية خصت بجواز الصَّلاة في جميع الأرض، إلا في المواضع المستثناة بالشرع، أو موضع تيقنت نجاسته، ففي حديث أبي سَعِيْد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام»، رواه أبو داود، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله عز وجل)، رواه الترمذي وابن ماجه.
وقد أخذ الإمام أحمد بظاهرهما؛ فمنع صحة الصَّلاة في هذه المواضع، ورد بأن حديث أبي سَعِيْد قد طعن في سنده الحفاظ، وقال الترمذي: (فيه اضطراب)، وقال غيره: إنه ضعيف، وحديث ابن عمر قد تكلم في رجال سنده الثقات، وقال الترمذي: (إسناده ليس بالقوي)، وقال غيره: إنه ضعيف، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه، فلهذا قال الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: الصَّلاة في هذه المواضع مكروهة، وسيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
قال إمام الشارحين: (فإن قلت: كان عيسى عليه السلام يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصَّلاة.
قلت: ذكر «مسجدًا وطهورًا» وهذا مخصوص بالنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث كان يجوز له أن يصلي في أي موضع أدركته الصَّلاة فيه، وكذلك التيمم) انتهى.
قلت: وقدمنا ما فيه قريبًا، فلا تكن من الغافلين.
(و) جعلت لي الأرض (طهورًا)؛ بكسر الطاء المهملة؛ لأنَّ المراد به الآلة، وهو كل ما على وجه الأرض، وبالفتح: مصدر بمعنى: النظافة، وبالضم: فضل ما يتطهر به، هذا هو المشهور، فقول القسطلاني: (بفتح الطاء على المشهور) غير مشهور عند الجهمور؛ فافهم، و (أل) في (الأرض) للجنس؛ فيشمل جميع أجزائها، فوصفها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالطهارة، وهذا يدل على أنه يجوز التيمم بجميع أجزاء الأرض؛ كالتراب، والرمل، والحجر الأملس المغسول، والجص، والنورة، والزرنيخ، والكحل، والكبريت، والتوتياء، والطين الأحمر، والأسود، والأبيض، والحائط المطين، والمجصص، والياقوت، والزبرجد، والبلخش، والفيروزج، والمرجان، والأرض الندية، والطين الرطب، والآجر، ومسكوك الذهب والفضة، والخليط بالتراب إذا كان التراب غالبًا، وبالخزف، والحديد، والنحاس، وشبههما ما داما على الأرض، فإن جميع هذا أجزاء الأرض بخلاف غيرها؛ كالثلج، فإنه لا يجوز، ومثله الزجاج، وكذا التراب ونحوه المستعمل في التيمم، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس الأئمَّة، وهو قول الأوزاعي، وسفيان الثوري، وجوزاه بالثلج، والمسك، والزعفران أيضًا.
وقال مالك: يجوز بالتراب، والرمل، والحشيش، والشجر، والثلج، والجص، والآجر.
وقال الشافعي، وأحمد: لا يجوز التيمم إلا بالتراب الذي له غبار.
وتعلقًا بحديث حذيفة عند مسلم: «وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا»، ورد بأن الأصيلي قال: (تفرد أبو مالك بهذه اللفظة، وليست ثابتة عند بقية الرواة)، وقال القرطبي: لا يظن أن ذلك مخصص له، فإن التخصيص إخراج ما يتناوله العموم عن الحكم، ولم يخرج هذا الخبر شيئًا، وإنما عين واحدًا مما يتناوله الاسم الأول مع موافقته في الحكم، وصار بمثابة قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وقوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّالِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وغير بعض ما يتناوله اللفظ الأول مع الموافقة في المعنى على جهة التشريف، ولذلك ذكر التوبة في حديث حذيفة، ويقال: الاستدلال بلفظ التربة على خصوصية التيمم بالتراب ممنوع؛ لأنَّ تربة كل مكان ما فيه من تراب وغيره، وأجاب ابن حجر، فزعم أنه ورد في الحديث المذكور
%ص 390%
بلفظ (التراب)، أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: «جعل لي التراب طهورًا»، أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، ورده إمام الشارحين بما ذكره القرطبي آنفًا، ثم قال: (على أن تعيين لفظ «التراب» في الحديث المذكور؛ لكونه أمكن وأغلب، لا لكونه مخصوصًا به، على أنا نقول التمسك باسم الصعيد أولى؛ وهو وجه الأرض، وليس باسم للتراب فقط، بل هو وجه الأرض ترابًا كان أو صخرًا لا تراب عليه أو غيره) انتهى.
قلت: وهو وجيه؛ فإنه لا خلاف بين أهل اللغة أن الصعيد هو وجه الأرض ترابًا أو صخرًا، أملس أو غيرهما كما قاله الزجاج، وبه صرح القرآن في عدة آيات، فالآية مطلقة، والحديث إن صح خبر واحد، ولا يجوز تقييد إطلاق الآية بخبر الواحد؛ لأنَّه نسخ، وهو لا يجوز عند المحققين، فالحق ما عليه إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، ويدل لما قاله قوله: (فأيما رجل)؛ لفظة (أي) مبتدأ يتضمن معنى الشرط، ولفظ (ما) زيدت لزيادة التعميم، ولفظ (رجل) مضاف إليه (من أمتي) متعلق بمحذوف؛ تقديره: كائن من أمتي (أدركته الصَّلاة): جملة من الفعل والفاعل والمفعول محلها الجر؛ لأنَّها صفة (رجل)، وفي رواية أبي أمامة: (فأيما رجل من أمتي أتى الصَّلاة فلم يجد ماء [6]؛ وجد الأرض طهورًا ومسجدًا)، رواه البيهقي، وعند أحمد: «فعنده طهوره ومسجده»، وقوله: (فليصل) خبر المبتدأ، ودخول الفاء فيه؛ لكون المبتدأ متضمنًا معنى الشرط؛ ومعناه: فليتيمم وليصل؛ ليناسب الأمرين المسجد والطهور، فهذا دليل واضح على جواز تيمم الحضري إذا عدم الماء، وخاف فوت الصَّلاة، وعلى أنه لا يشترط له التراب، فإنه قد تدركه الصَّلاة في موضع من الأرض لا تراب عليها أصلًا، بل ولا رمل، ولا جص، ولا غيرهما، وقال عليه السلام: «بعثت بالحنفية السمحة»؛ أي: السهلة، وقال تعالى: {[وَ] مَا [7] جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وتخصيص التراب ينافي هذا؛ لأنَّ فيه حرجًا ومشقة، والحرج مدفوع؛ فليحفظ.
(وأحلت) بضمِّ الهمزة (الغنائم) جمع غنيمة؛ وهي مال حصل من الكفار بإيجاف خيل، وركاب، وقهر، وفي رواية الكشميهني وكذا مسلم: (المغانم)؛ بالميم قبل الغين المعجمة، ثم ألف، وبعدها نون، جمع مغنم، قال الجوهري: (كلاهما بمعنًى واحد) (ولم تحل لأحد) من الأنبياء (قبلي)؛ لأنَّ منهم من لم يؤذن له في الجهاد أصلًا، فلم يكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن إذا غنموا شيئًا؛ لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته، وقيل: المراد: أنه خص بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف شاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى لم يحل لهم أصلًا، كذا قاله إمام الشارحين، (وأعطيت) بضمِّ الهمزة (الشفاعة) وهي سؤال فعل الخير، وترك الضرر عن الغير لأجل الغير على سبيل الضراعة، وذكر الأزهري عن المبرد وثعلب: أنها الدعاء، والشفاعة: كلام الشفيع للملك عند حاجة يسألها، وفي «الجامع»: (الشفاعة: الطلب من فعل الشفيع، وشفعت لفلان؛ إذا كان متوسلًا بك فشفعت له، وأنت شافع له، وشفيع له)، وقال ابن دقيق العيد: الأقرب أن (اللام) للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل، وقيل: الشفاعة لخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار، وقيل: في رفع الدرجات في الجنة، وقيل: قوم استوجبوا النار، فيشفع لهم في عدم دخولهم إياها، وقيل: هي إدخال الجنة بغير حساب، وهي أيضًا مختصة به صلَّى الله عليه وسلَّم، كذا في «عمدة القاري»، (وكان النبي) من الأنبياء قبلي (يبعث إلى قومه) أي: المبعوث إليهم (خاصة) بمعنى: خصوصًا، فهو من المصادر التي جاءت على (فاعلة)؛ كالعاقبة والعافية، منصوب على أنه مفعول مطلق بمحذوف؛ تقديره: أخص النبي من قبلي بالبعث إلى قومه خصوصًا بناء على المشهور من جواز حذف عامل المؤكِّد_بكسر الكاف_ خلافًا لابن مالك، والتاء فيها للتأنيث أو للمبالغة، ويجوز انتصابها أيضًا على الحال؛ بمعنى: مخصوصًا، كذا في شرحنا «منهل الطلاب»، (وبعثت) أي: أنا (إلى الناس) أي: لقومه وغيرهم من العرب، والعجم، والأسود، والأحمر، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: 28]، وقوله: (عامة) بمعنى: عمومًا، منصوب على أنه مفعول مطلق، أو على الحال، كما قدمناه في (خاصة) قريبًا؛ فافهم، وفي رواية أبي هريرة: «وأرسلت إلى الخلق كافة»، رواها مسلم، وهي أظهر الروايات وأشملها، وهي تؤيد قول من قال: إنه عليه السلام قد أرسل أيضًا إلى الملائكة، وهو ظاهر قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] و (العالمَين): جمع عالَم بالفتح؛ وهو كل ما سوى الله عز وجل، فيشمل الإنس، والجن، والملائكة، وجميع الحيوانات، ويدل عليه: حديث الإسراء وحين مولده عليه السلام، وصريح آيات القرآن، ومخاطبته تعالى له عليه السلام في عدة آيات؛ منها: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فالعالم كلهم أمته، لكن من دعي وأجاب؛ يقال لهم: أمة الإجابة كالمسلمين، ومن دعي ولم يجب كالنصارى واليهود؛ يقال لهم: أمة الدعوة [8]، فالنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قد أرسل إلى كافة الخلق، كما نطق بذلك القرآن، والتوراة، والإنجيل، كما لا يخفى على من تتبع، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه تعالى أرسلهم إلى قومهم فقط، فقال في نوح: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1]، وغير ذلك.
وفي الحديث دليل على أن الحجة تلزم بالخبر، كما تلزم بالمشاهدة، وذلك أن المعجزة باقية على مساعدة للخبر [9]، مبينة له، واقعة لما يخشى من آفات الأخبار وهي القرآن الباقي، وخص الله نبيه الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ببقاء معجزته لبقاء دعوته، ووجوب قبولها على من بلغته إلى آخر الزمان، وفيه ما خصه الله تعالى به من الشفاعة وهو أنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا شفع فيه، كما ورد في حديث الشفاعة: «قل: يسمع، واشفع تشفَّع»، ولم يعط ذلك من قبله من الأنبياء عليهم السلام، وفيه: دليل على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض، ولا يشترط فيه التراب فقط، وفيه: دليل على جواز تيمم المقيم بالمصر إذا عدم الماء وخاف فوت الصَّلاة، وفيه: دليل على أن الله تعالى قد أباح الغنائم للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولأمته بعد أن كانت في الأمم الماضية محرمة، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (اثنين)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أتيت)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (اثني عشر).
[4] بياض في الأصل
[5] في الأصل: (لما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (ما)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (ما).
[8] في الأصل: (الدعوى).
[9] في الأصل: (عدة للخير)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (اثنين)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أتيت)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (اثني عشر).
[4] بياض في الأصل
[5] في الأصل: (لما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (ما)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (ما).
[8] في الأصل: (الدعوى).
[1] في الأصل: (اثنين)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (أتيت)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (اثني عشر).
[4] بياض في الأصل
[5] في الأصل: (لما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (ما)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (ما).
[8] في الأصل: (الدعوى).
(1/574)
(2) [باب إذا لم يجد ماء ولا ترابًا]
هذا (باب)؛ يذكرُ فيه ما (إذا لم يجد) الرَّجل (ماءً)؛ بالمد، ليتَوضأ به، أو يغتسل (ولا ترابًا) ولا غيره من أجزاءِ الأرضِ؛ ليتيمم به، وذلك بأن كان في سفينة لا يصل إلى الماء، أو مسجونًا بكنيف نجسة أرضه وجداره، وجواب (إذا) محذوف؛ تقديره: هل يصلي بلا وضوء ولا تيمم أم لا؟ وفيه مذاهب للعلماء على [ما] سنذكره.
ووجه المناسبة في تقديم هذا الباب على بقية الأبواب بعد ذكر كتاب
%ص 391%
التيمم؛ هو أنه صدَّر أولًا بذكر مشروعية التيمم عند عدم الماء، ثم ذكر بعده حكم من لم يجد ماءً ولا ترابًا، هذا على تقدير كون هذا الباب في هذا الموضع، وفي بعض النُّسخ ذكر بعد قوله: (كتاب التيمم): (باب التيمم في الحضر)، ثم ذكر بعده: (باب إذا لم يجد ماءً ولا ترابًا)، وعلى هذا؛ المناسبة بين البابين من حيث إنه ذكر أولًا حكم التيمم في السَّفر، ثم ذكرَ بعده حكمه في الحضر، ثم ذكر حكم عدم الماء والتراب معًا، وهو على هذا الترتيب كما ينبغي، ولم يتعرض لمثل هذه
==================
(1/575)
[حديث عائشة: أنّها استعارت من أسماءَ قلادةً فهلكتْ]
336# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا زكريا بن يحيى) هكذا وقع في جميع الروايات من غير ذكر جده، ولا نسبه، ولا شيء هو مشتهرٌ به، والحال أنَّ المؤلف روى عن اثنين كل منهما يُقال له: زكريا بن يحيى؛ أحدهما: زكريا بن يحيى بن صالح اللؤلؤي البَلخي الحَافظ، المتوفى ببغداد سنة ثلاثين ومئتين، والآخر: زكريا بن يحيى بن عمر الطَّائي الكوفي أبو السَّكَين؛ بفتح السِّين المُهملة، وفتح الكاف، المتوفى ببغدادَ سنة إحدى وخمسين ومئتين؛ وكلاهما يرويان عن ابنِ نُمير، فزكريا هذا يحتملهما، وأيًّا كان منهما؛ فهو على شرطه؛ فلا يوجب الاختلاف بينهما قدحًا في الحديث وصحته، ومالَ الغسَّاني والكلاباذي إلى الأوَّل، فقال الغسَّاني: حديث البخاري عن زكريا البلخي في التيمم وفي غيره، وعن زكريا أبو السَّكَين في (العيدين)، وقال الكلاباذي: البلخي يروي عن ابن نُمير في (التيمم)، وقالَ ابن عدي: (هو زكريا بن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة)، وإلى هذا مال الدَّارقطني؛ لأنَّه كوفي، كذا قالهُ إمام الشَّارحين، (قال: حدثنا عبد الله بن نُمير) بضمِّ النون، الكوفي (قال: حدثنا هشام بن عُرْوة) بضمِّ العين المهملة، وسكون الراء، (عن أبيه) هو عُرْوة بن الزُّبير بن العوام، (عن عائشةَ) الصِّديقة بنت الصِّديق الأكبر رضي الله عنهما: (أنَّها استعارت من أسماءَ) هي أختُها، وهي المُلقبة بذات النِّطاقين (قِلادةً)؛ بكسر القاف، وكانت تُدعى السِّمط، تبلغُ السُّرة، كما صرَّح به الحافظ الطَّحاوي في هذا الحديث من طريق عُرْوةَ، عن عائشة، وكانت من جذعِ أظفار، قاله أبو عُبيد البكري، (فهلكت) أي: ضَاعتْ، وفي رواية الحميدي في «مُسْنده» عن سفيان: حدثنا هشام بن عُرْوة، عن أبيه في هذا الحديث فقال فيه: إنَّ القِلادة سقطت ليلة الأبواء؛ وهي بين مكة والمدينة؛ فليحفظْ.
لا يُقال: إنَّ عائشة قالت في الباب السَّابق: (انقطع عِقدٌ لي إنَّه لأسماء)، وإضافته إلى نفسها هناك باعتبار أنَّه كان تحت يدها وتصرفها بدليل هذه الرِّواية؛ لأنَّا نقول المذكور في الباب السَّابق قصة العقد، والمذكور في هذا الباب قصة القِلادة، فالعِقد غير القِلادة فهما قصتان، ويدل لذلك: أنَّ ضياع العقد قد تعدد مرَّاتٍ، فالعقد الذي في الباب السَّابق هو مِلكٌ لعائشةَ؛ لإخبارها بأنَّه لها، وهي لا تُخْبِر بخلاف الواقع، وهذه القصة وقعت ليلة الأبواء، وقصة الباب السَّابق وقعت في غزوة ذاتِ الرِّقاع، كما قدمناه مفصَّلًا؛ فافهم.
(فبعثَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رجلًا) في طلبها، وهو أُسَيْد بن حُضَيْر؛ بضمِّ الهمزة مصغرًا، وبضمِّ الحاء المهملة، وفتح المعجمة، وسكون التحتية، (فوجدها) أي: القِلادة، ولا منافاة بين هذا وبين قولها في الباب السابق: (فأصبنا العِقد تحت البعير)؛ لأنَّ لفظ (أصبنا) عام يشمل عائشة والرَّجل، فإذا وجد الرَّجل بعد رجوعه؛ صدق قوله: (أصبنا)، ويحتمل أن النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم هو الذي وجده بعد ما بعثه إليه كما سبق؛ فافهم، (فأدركتهم الصَّلاة) وفي رواية الحافظ الطَّحاوي في نحو هذا الحديث: (قالت عائشة: فلمَّا نزلنا مع النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لصلاة الصُّبح ... )؛ الحديث، فعُلِمَ به أنَّها صلاة الفَجر؛ فليحفظْ، (وليس معهم ماء) يُحتَمل أنَّه ليس معهم ماء يكفي للشُّرب لهم، ولدوابهم، وللطَّعام، والوضوء، ويُحتَمل أنَّ الماء قد فرغ منهم بالكلية بسبب مكثهم وإقامتهم في هذا المكان؛ لأجل انتظار القلادة، وهو الظاهر؛ فتأمل، (فصلُّوا) أي: بغير وضوء، كما صرَّح به المُؤلف في (سورة النِّساء) في فضل عائشة، وكذلك مُسلم في «صحيحه» أي: وبغير تيمم، كما صرح به الطبراني في «الكبير»، وفيه: (فصلو [ا] بغير طهور ... )؛ الحديث، وهو شاملٌ للماء والتُّراب، لكن روى الحافظ الطَّحاوي من حديث عُرْوة عن عائشة قالت: (أقبلنا مع النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من غزوة كذا، حتى إذا كنَّا بالمعرض قريبًا من المدينة؛ نفست من الليل، وكانت عَليَّ قِلادة تدعى السمط، تبلغ السُّرة فجعلت أنفس، فخرجت من عنقي، فلمَّا نزلت مع النبيِّ الأعظم صلى الله [عليه] وسلم لصلاة الصبح؛ قلت: يا رسول الله؛ خرجت قلادتي، فقال للناس: «أمكم قد ضلتْ قِلادتها فابتغوها» فابتغاها النَّاس، ولم يكن معهم ماء فاشتغلوا في ابتغائها إلى أن حضرتهم الصَّلاة، ووجدوا القلادة، ولم يَقْدِروا على الماء، فمنهم من تيمم إلى الكفِّ، ومنهم من تيمم إلى المنكِب، ومنهم من تيمم على جِلده، فبلغ ذلك رسول الله، فأنزلت آية التَّيمم) انتهى، فهذا يدل على أنهم صلوا بالتَّيمم؛ لأنَّ فيه التصريح بأنهم تيمموا، وأجاب إمام الشَّارحين: بأنَّ هذا التيمم المختلف فيه عندهم كلا تيمم؛ لعدم وجود النَّص حينئذٍ، فصار كأنهم صلوا بغير طهور، ويؤيد ذلك ما رواه الطَّبراني في «الكبير» من حديث هشام بن عُرْوة عن أبيه، عن عائشة: أنها استعارت قِلادةً من أسماء، فسقطت من عنقها فابتغوها فوجدوها فحضرت الصَّلاة، فصلوا بغير طهور ... )؛ الحديث، فقوله: (بغير طهور) يتناول الماء والتراب، فدل على أنَّ التيمم الذي تيمموه [1] على اختلاف صفته كان حكمه حكم العدم، ألا ترى أنَّه لو كان معتبرًا به ومعتمدًا عليه قبل نُزول الآية؛ لما سأل عمَّار رضي الله عنه الَّذي هو أحد من تيمم ذلك التَّيمم المُختلف فيهرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن صفة التيمم، فسؤاله هذا إنَّما كان بعد تيممه بذلك التيمم.
فإن قلتَ: هذا التَّيمم المختلف فيه هل عملوه باجتهاد ورأي من عندهم أم بالسنة؟
قلتُ: الظَّاهر أنه كان باجتهاد منهم، فرجع هذا إلى المسألة المختلف فيها، وهي أن الاجتهاد في عصره صلَّى الله عليه وسلَّم هل يجوز أم لا؟ فمنهم: من جَوَّزه مطلقًا، وهو المختار عند الأكثرين، ومنهم: من منعه مطلقًا، وقال بعضهم: يجوز للغائيبن عن الرَّسول دون الحاضرين، ومنهم: جوزه إذا لم يوجد مانع، انتهى كلام إمام الشارحين.
قلت: ومراده بقوله: (وقال بعضهم): ابن حجر، ولا وجه لما قاله؛ لأنَّ هذا توفيق بين القولين، وكأنه لم يعلم بأن القول الأول هو المُختار، وأنه قول الأكثرين، وإذا اختلف في مسألة؛ فالعبرة لما اختاره
%ص 392%
الأكثر؛ فلا يحتاج إلى هذا التوفيق الذي قاله على أنَّه لا عُذر للغائبين، فقديسألون برسول، أو كتاب، أو يبلغهم ممن كان بحضرته عليه السلام، فالجواز مطلقًا هو الحق، والحق أحق أن يتبع.
(فشَكوا)؛ بفتح الشين المعجمة، والكاف المخففة، من الشِكاية: وهي رفع الأمر إلى الحاكم أو غيره ممن له قدرة على رفعه (ذلك) أي: المذكور (إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي الرِّواية السَّابقة: (فشَكوا ذلك إلى أبي بكر)، ولا منافاة بينهما؛ فإن في الرواية السابقة عَلموا بقرائن المقال والأحوال أنَّه يتغير خاطره عليه السَّلام على السيدة عائشة، وهنا في هذه الرواية عَلِموا بقرائن الأحوال والمقال: أنَّه لا يتغير خاطره عليه السَّلام عليها، ويحتمل أنَّه هناك شَكوا إلى أبي بكرٍ؛ لكونه عليه السلام كان نائمًا، وهنا كان يقظان؛ فافهم.
(فأنزل الله) سبحانه وتعالى (آية التَّيمم) وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .. } إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] في سورة (المائدة)، والظاهر أنَّه عليه السَّلام قبل نزول الآية توقف عن جوابهم حين شَكوا إليه؛ طمعًا بنزول الوحي، فحقق الله رجاءه؛ لأنَّه لا يَنطقُ عن الهوى؛ فتأمل.
(فقال أُسَيْد بن حُضَيْر) بضمِّ الهمزة؛ مصغرًا، وبضمِّ الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة، وسكون التحتية: هو ابن شمال الدوسي الأنصاري الأشهلي أبو يحيى، أحد النقباء ليلة العَقَبَة (لعائشة): زوج النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي الله عنها (جزاكِ الله خيرًا)؛ بكسر الكاف؛ أي: قابلكِ وأعطاكِ الله الخير الجزيل، (فوالله ما نزل بك أمر) من الأمور (تكرهينه) طبعًا؛ لأنَّه في الشَّرع غير مكروه؛ لأنَّ العبد تحت إرادة الله يُسَيِّره كيف يشاء، لا سيما هذه القصة (إلا جعل الله ذلك) أي: الأمر المكروه طبعًا (لكِ) بكسر الكاف (وللمسلمين فيه خيرًا) حيث دلهم سبحانه على استعمال الصعيد عند فقد الماء في الصَّلاة، ولا ريب أنَّها خيرٌ؛ لأنَّه جعلها عماد الدِّين، وصحتها إنَّما تكون بالطَّهارة؛ لأنَّ أول شيء يُسأل عنه العبد في القبر الطهارة.
وجهُ مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة في قوله: (فأدركتهم الصَّلاة وليس معهم ماءٌ)، وأما وجه زيادة قوله في التَّرجمة: (ولا ترابًا)؛ فهو أنهم لما صلوا بلا وضوء ولم يتيمموا لعدم علمهم به، ولعدم وجود النص؛ فكأنهم لم يجدوا ماءً ولا ترابًا؛ إذ كان حكمه حكم العدم عندهم، فصاروا كأنهم لم يجدوا ماء ولا ترابًا.
فإن قلت: وروى الحافظ الطحاوي في هذا الحديث: (أنَّ منهم من تيمم إلى الكفِّ، ومنهم من تيمم إلى المَنكِب، ومنهم من تيمم على جلده ... )؛ الحديث.
قلت: هذا التيَّمم ليس بشيءٍ؛ لعدم وجود النَّص، فصار كأنهم صلوا بغير طهور، ويؤيده رواية الطَّبراني في هذا الحديث، وفيه: (فصلوا بغير طهور ... )؛ الحديث، وهو شاملٌ للطهارة بالماء وبالتراب، فدلَّ هذا على أن التيمم حكمه حكم العدم، وتمامه فيما قدمناه.
وفي الحديث دليلٌ على جواز الحلف بالله تعالى من غير طلبٍ، وفيه دليلٌ على جَواز الاستعارةِ، وجَواز السَّفر بالعارية عند إِذن صاحبها، وفيه دليل على أنَّ الأموال محترمة، وأنه لا يُضيِّعها وإن قلت.
وفيه دليل على فضل السيدة عائشة رضي الله عنها، وفيه دليل على جواز التيمم في السفر، وجواز السَّفر بالنَّساء، وفي الحديث دليل على أن مَنْ فقد الماء والتُّراب؛ يصلي على حاله، وهذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء، فقال الإمام الأعظم رأس المجتهدين فيمن حُبِسَ في المصر ولم يجد ماءً ولا ترابًا طاهرًا: إنه لا يصلي وقتئذٍ، وعليه قضاؤها، وبه قال محمَّد بن إدريس، وقال الإمام أبو يوسف: يصلي تشبيهًا ويعيد، وكيفية صلاته عنده: أن يصلي قاعدًا بالإيماء، كذا في الزِّيادات، وقول الإمام محمَّد بن الحسن مضطرب، فروي عنه: أنه يصلي، وروي عنه أنه لا يصلي، ووجه قول الإمام أبي يوسف: (أنه يصلي احترامًا للوقت)، وفي رواية عنه: (أنه يتيمم بالتراب النجس)، وفي رواية عنه أيضًا: (أنه يصلي بركوع وسجود، ثم يعيد)، كذا في «المجتبى»، والمعتمد قول الإمام الأعظم صاحب المذهب الذي إلى غير قوله لا يُذْهَب؛ لأنَّه مُحدِث وتحرم الصَّلاة مع الحدث، وقد جاء في الحديث الصحيح: أنه عليه السَّلام قال: «لا صلاة إلا بطهور ... »؛ الحديث، وقد جاء في القرآن العظيم ذلك؛ فافهم.
فإن قلت: ظاهر هذا الحديث أنهم صلوا بغير طهور؟
قلت: ليس المعنى كذلك، وإنما معنى قوله: (فصلوا) دَعَوا؛ يعني: دعوا الله تعالى أن يبيِّن لهم النَّص في ذلك؛ لأنَّهم حصل لهم كربٌ وغمٌّ في ذلك، ويدل لهذا قول أُسَيْد بن حضير لعائشة: (فواالله ما نزل بك أمر تكرهينه)، ولا ريب أن ترك الصَّلاة، أو الصَّلاة بغير طهور أمر مكروه شرعًا، فاجتهدوا في الدعاء، فأنزل الله النَّص في ذلك على أنه قد روى الحافظ الطحاوي في هذا الحديث: (أن منهم من تيمم إلى الكفِّ، ومنهم من تيمم إلى المنكب، ومنهم من تيمم على جلده ... )؛ الحديث، فلو قلنا: إن صلاتهم بركوع وسجود؛ فالأمر ظاهر؛ فإنهم بذلك قد ارتفع حدثهم؛ لأنَّهم فعلوا التيمم مع زيادة، وهذا إنَّما صدرَ منهم بالاجتهاد، وهو في عصره عليه السَّلام جائز سواء كانوا غائبين أم حاضرين، وهو المختار، وقول الجمهور كما بيناه، والله تعالى أعلم.
وقال الشافعي وأحمد: يجب عليه أن يصلي ويعيد الصَّلاة، وعلَّله القسطلاني: بأنهم صلوا معتقدين [2] وجوب الصَّلاة، ولو كانت الصَّلاة ممنوعة؛ لأنكر عليهم الشارع عليه السلام، انتهى.
قلتُ: وهذا ممنوع؛ لأنَّ المراد بالصَّلاة الدعاء كما مر، وعلى فَرَضِ أنها بركوع وسجود كانوا ممنوعين حينئذٍ؛ لأنَّهم مُحدِثُون، والنبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أخبرهم بأن الله لا يقبل الصَّلاة بغير طهور، ولما فرغوا من صلاتهم، وشكوا إليه عليه السلام ذلك؛ فبمجرد شكواهم أنزل الله آية التيمم، فلم يكن حينئذٍ وقت يسع الإنكار عليهم ولا التسليم، ويدل لهذا قوله: فشكوا ذلك إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأنزل الله آية التيمم، فأتى بـ (الفاء) التعقيبية، وهي تفيد أن نزول الآية عقب الشَّكوى بلا مُهلة، فلم يوجد ما يدل على عدم الإنكار، وزعم المزنيُ من الشَّافعية، وسحنون من المالكية، وأحمد: أنه يصلي استحبابًا، ولا إعادة عليه؛ لحديث الباب، فإنه لو كانت الإعادة واجبة عليهم؛ لبيَّنها لهم النبيُّ الأعظم عليه السلام، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأجيب: بأن الإعادة ليست على الفور، ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
قلتُ: ولما كانوا معتقدين وجوب الصَّلاة عليهم وشكوا أمرهم إليه عليه السلام، وأُنزلت الآية تُبين خطأهم؛ فلا ريبَ أنَّهم أعادوا تلك الصَّلاة، ولا يلزم بيانها لهم، بل بيان آية التيمم كافية؛ لأنَّه قد ظهر أنهم صَلُّوا على خلافها، وهو يدل
%ص 393%
على أنهم أعادوا تلك الصَّلاة.
وقال ابن بطال: (الصَّحيح من مذهب مالك أنه لا يصلي، ولا إعادة عليه قياسًا على الحائض) انتهى.
قلت: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا قياسٌ مع الفارق، فإن الصَّلاة لا بد من أدائها أداء أو قضاء، وهذا العذر الذي حصل لهم مِنْ قِبَلِ أنفسهم؛ لأنَّهم لو جدُّوا السَّير؛ لَوصلوا للماء وتطهروا به بخلافِ الحائض، فإن عذرها جاء من قِبَلِ الخالق عزَّ وجل، فكيف يُقَاسُ العذر من المخلوق على العذر من الخالق؟ ولهذا قال أبو عمر: كيف أقدم أن أجعل هذا صحيحًا؟ وعلى خلافه جمهور السَّلف، وعامة الفقهاء، وكأنه قاسه على من كَتَّفهُ الوالي وحبسه، فمنعه من الصَّلاة حتى خرج وقتها؛ أنه لا إعادة عليه) انتهى.
قلتُ: فقوله: (وكأنه قاسه ... ) إلخ: هذا أيضًا قياس فاسد؛ لأنَّ العذر فيمن كتَّفه أو حبسه جاء من قبل العباد، وكلما جاء العذر من قبل العباد؛ تجبُ فيه الإعادة؛ لأنَّ الصَّلاة قد تقررت في ذمته بيقين؛ لأنَّه مُخَاطبٌ بها، لكنَّه ممنوعٌ من أدائها بسبب الحبس والمنع، فيلزمه قضاؤها، وهذا أيضًا مخالفٌ لجمهور السَّلف وعامة الفقهاء، وقد قال الإمام الأعظم رأس المجتهدين: في الأسير إذا منعه الكفَّار من الوضوء والصَّلاة؛ فإنه يتيمم، ويومئ إيماء، ثمَّ يُعيد، وكذلك المحبوس المُقيد؛ فإنَّه يتيمم، ويُومئ، ثم يُعيد، كذا في «منهل الطلاب»، وبه قال محمَّد بن إدريس، وفي رواية عنه: أنه يصلي ويعيد، والمشهور الأول؛ فافهم، وقال الإمام زفر: لا يتيمم، ولا يصلي ولو وجد ترابًا نظيفًا؛ لأنَّ عنده التيمم في الحضر غير جائز؛ فافهم، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
==========
[1] في الأصل: (تتيمموه)، ولعله تحريف.
[2] في الأصل: (مقتقدين)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (تتيمموه)، ولعله تحريف.
[1] في الأصل: (تتيمموه)، ولعله تحريف.
(1/576)
===============================
6. كتاب مجلد 6. : أصل الزراري شرح صحيح البخاري موسوعة صحيح الإمام البخاري
للعلامة/ عبد القادر بن عبد الله الأسطواني الدِّمشقي (1249 - 1314 هـ) (3) [باب التيمم في الحضر]

هذا (باب) بيان حكم (التيمم في الحضر) يعني: في الأمصار، و (الحضر) خلاف السَّفر (إذا لم يجد) الرَّجل (الماء) الكافي لطهارته، والمراد بعدم الوجدان: عدم القدرة على استعماله، وهو حقيقةً أو حكمًا، فالأول: ما إذا لم يجده أصلًا، والثاني: ما إذا وجده في بئر وليس عنده آلة الاستقاء، أو كان بينه وبينه سبعٌ، أو عدوٌّ، أو حيةٌ، أو غير ذلك، (وخاف) وللأصيلي: (فخاف) (فوت) وقت (الصَّلاة) وجواب (إذا) محذوفٌ يدل عليه ما تقدمه؛ تقديره: يتيمم المحدث العادم الخائف فوتَ الوقتِ، (وبه) أي: بما ذُكِرَ من أن فاقد الماء في الحضر الخائف فوت الوقت يتيمم، (قال عطاء)؛ بالمد: هو ابن أبي رباح، وبه قال محمَّد بن إدريس، وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» موصولًا عن عمر، عن ابن جريج، عن عطاء قال: (إذا كنتَ في الحضر وحضرت الصَّلاة وليس عندك ماء؛ فانتظر الماء، فإن خشيت فوت الصَّلاة؛ فتيمم وصلِّ)، وزعم ابن حجر: أن قوله: (وبه) أي: بهذا المذهب، وردَّه إمام الشارحين حيث قال: (قلتُ: المعنى الذي يستفاد من التركيب هو ما ذكرته، ولا يرد عليه شيء) انتهى.
يعني: ما قلناه، وصريح هذا التعليق الموصول عند ابن أبي شيبة أنه لا يتيمم عند فقدان الماء أول الوقت، بل ينتظر، ويتفقد الماء آخر الوقت، فإن لم يجده وخشي فوت الوقت؛ فحينئذٍ يتيمم ويصلي، وظاهره أنه لا إعادة عليه [في] الأمصار غالبًا، وقال في «معراج الدِّراية»: الأصل أن في كل موضع يفوت الأداء لا إلى خلف؛ يجوز له التيمم، وفي كل موضع يفوت الأداء إلى خلف؛ لا يجوز، فالصلوات ثلاثة أنواع: نوع لا يخشى فواتها أصلًا؛ لعدم توقتها؛ كالنوافل، ونوع يُخشى فواتها أصلًا؛ كصلاة الجنازة والعيدين، ونوع يُخشى فواتها، وتقضى بعد وقتها أصلًا أو بدلًا؛ كالجمعة والمكتوبات، فالنوع الأول: لا يتيمم لها عند وجود الماء، والثاني: يتيمم لها عند وجود الماء في المصر، والثالث: لا يتيمم، فأما الجمعة؛ فلأنَّها تفوت إلى خُلفٍ؛ وهو الفرض الأصلي، وهو الظهر، فلا يتيمم لها، وأما المكتوبات؛ فلأنَّها تفوت إلى خلف أيضًا، وهو القضاء، فلم يكن عادمًا للماء في حقها، فلا يجوز التيمم، وبقول عطاء قال ابن عمر والحسن، وهو قول الإمام زُفَر واللَّيث بن سعد، وهو رواية عن الإمام محمَّد بن الحسن، وهو قول الإمام أبي نصر بن سليمان، وهو رواية عن الإمام الأعظم رئيس المجتهدين؛ لأنَّ التيمم إنَّما شرع لتحصيل الصَّلاة في وقتها، فلم يلزمه قولهم: إن الفوات إلى خُلْف كلا فوت، ولم يتوجه لهم سوى أنَّ التقصير جاء من قبله، فلا يوجب الترخيص عليه، وهو إنَّما يتيمم إذا أخر لعذر، كذا في «فتح القدير»، و «القنية»، وغيرهما.
وقال في «القنية»: وعلى هذا؛ لو كان شخص في سطحٍ ليلًا وفي بيته ماء، لكنه يخاف الظُّلمة إن دخل البيت؛ فإنه يتيمم إن خاف فوت الوقت.
وقال في «خزانة الفتاوى»: (إذا لم يمكن قطع المسافة للماء في الوقت؛ يتيمم) انتهى.
وقال في «المبتغى»: ومن كان في وكلة؛ جاز تيممه لخوف البرق، أو مطر، أو حرٍ شديد إن خاف فوت الوقت، وفي «منهل الطلاب»: ازدحم جمعٌ على بئر لا يمكن الاستقاء منها إلا بالمناوبة؛ لضيق الموقف، أو لاتحاد الآلة للاستقاء، فإن كان يتوقع وصول النوبة إليه قبل خروج الوقت؛ لم يتيمم بالاتفاق، وإن علم أنها لا تصل إليه إلا بعد خروج الوقت؛ فإنه يتيمم، فالعبرة في هذه المسائل خوف فوت وقت الصَّلاة، والمَرويُّ في ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف: أنَّ العِبرة للبعد، فالحضري العادم الماء؛ لا يتيمم وإن خرج الوقت، وقال الإمام الفقيه أبو الليث: يتيمم للوقت، ويصلي، ثم يقضيها بالوضوء؛ ليخرج عن العهدة بيقين، كذا قاله برهان الدين الحلبي، وهو الاحتياط، وهذا القول توفيق بين القولين، واعتمده جماعة من المتأخرين كالعلَّامة ابن أمير حاج في «الحُلية»، وشيخه المحقق كمال الدين بن الهمام، ومشى عليه العلامة علاء الدين في «الدر المختار»، وقال الإمام القدوري: (ويستحب لمن لا يجد الماء في أول الوقت وهو يرجو أن يجد الماء في آخر الوقت؛ أن يؤخر الصَّلاة إلى آخر الوقت) انتهى.
يعني: بأن كان
%ص 394%
بينه وبين الماء ميل فأكثر، والمراد بالرجاء: غلبة الظن، ومثله التيقن، كما في «البحر»، و «الخلاصة»، وقيَّدَبالرجاء؛ لأنَّه لو لم يكن على طمع من الماء؛ فإنه يتيمم ويصلي، كما في «الخانية»، وما قاله القدوري هو ظاهر الرواية؛ ليقع الأداء بأكمل الطهارتين، ورُويَ عن الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف: أن التأخير حتم؛ أي: واجب؛ لأنَّ غالب الرأي كالمتحقق، لكن بشرط ألَّا يفرط في التأخير حتى لا تقع [1] الصَّلاة في وقتٍ مكروه، فلا يؤخر العصر إلى تغير الشَّمس، كما في «الخانية».
واختلف في تأخير المغرب، فقيل: يُؤخر، وقيل: لا يؤخر، كما في «التاتارخانية».
وحاصله: أنه إذا رجا الماء؛ يؤخر إلى آخر الوقت المستحب؛ بحيث لا تقع الصَّلاة في وقتٍ مكروه، وإن كان لا يرجو الماء؛ يصلي في الوقت المستحب؛ كوقت الإسفار في الفجر، والإبراد في ظهر الصَّيف، ونحو ذلك، ويدل لهذا ما رواه الدارقطني من حديث أبي إسحاق، عن علي الصدِّيق الأصغر رضي الله عنه: (إذا أجنب الرجل في السفر؛ يتلوم؛ أي: يتربص ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء؛ يتيمم، ويصلي)، قال ابن حزم: (وبه قال سفيان، وسَعِيْد، وأحمد ابن حنبل، وعطاء)، وقال النووي: (التأخير أفضل بكل حال).
وهذه المسألة أول مسألة خالف الإمام الأعظم فيها شيخه حمَّاد بن سليمان الكوفي حين خرجا لتشييع الأعمش المدفون بديارنا الشَّريفة الشَّامية عند مَقبرة مرج الدَّحداح، فصلى المغرب حمَّاد بالتيمم في أول الوقت، وإمامنا الأعظم صلى بالماء في آخره، وكان ذلك عن اجتهاد منه، فصوَّبه الله تعالى، وأظهره، وجعله إمام الأئمَّة، ورئيس المجتهدين، وفي أتباعه الأولياء الكرام، والملوك العظام رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، ونفعني به والمسلمين آمين.
وقال مالك: (لا يُعجل ولا يُؤخر، ولكن في وسط الوقت)، وفي رواية عنه: (إن أيقن بوجودِ الماء قبل خروج الوقت؛ يؤخر، وإن كان موقنًا أنه لا يجد الماء حتى يخرج الوقت؛ فليتيمم في أول الوقت ويُصلي)، وعن الأوزاعي: (كل ذلك سواء)، وفي رواية عن مالك: إذا وجد الحاضر الماء في الوقت؛ هل يُعيد أم لا؟ ذكر في «المدونة» قولان، وقيل: يعيد أبدًا؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
(وقال الحسن) هو البصري رضي الله عنه، مما وصله القاضي إسماعيل في «الأحكام» من وجه صحيح (في المريض عنده الماء)؛ بالتعريف، وفي رواية (ماء)؛ بالتنكير، (ولا يجد من يناوله)؛ أي: يعطيه ويساعده على استعمال الماء؛ (يتيمم) وفي رواية: (تيمم) على صيغة الماضي، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وهذا الأثر فيه تفصيل، وبيانه: أن المريض إذا كان يجد الماء المطلق الطاهر [2] الكافي لطهارته، فخاف إن استعمله اشتد مرضه، أو امتد _أي: طال زمنه_؛ فإنه يتيمم، وكذا لو كان صحيحًا فخاف حدوث مرض، كذا في «شرح النقاية» للقهستاني، وهذا إنَّما يُعْلم بغلبة الظن عن أمارةٍ، أو تجربة، أو إخبار طبيب حاذق مسلم غير ظاهر الفسق، كذا في «الحلية»، فإن كان المريض لا يخاف اشتداد مرضه ولا امتداده لكنه لا يقدر بنفسه على استعمال الماء ولا يجد مَنْ يُوَضئه بأن كان الماء في بئر أو بعيدًا عنه وهو لا يقدر على القيام؛ فإنه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه، فإن وجد خادمًا؛ كعبده، أو ولده، أو أجيره؛ لا يجزئه التيمم اتفاقًا، كما في «البحر» عن «المحيط» وإن وجد غير خادمه ممن لو استعان به أعانه ولو زوجته؛ فظاهر المذهب أنه لا يتيمم أيضًا بلا خلاف، كما يفيده كلام «المسبوط»، و «البدائع»، ونقل صاحب «التجنيس» عن شيخه خلافًا بين الإمام الأعظم وصاحبيه: الإمام أبي يوسف والإمام محمَّد بن الحسن؛ فعلى قول الإمام الأعظم: يجزئه التيمم، وعلى قول صاحبيه: لا يجزئه، وعلى هذا الخلاف؛ إذا كان مريضًا لا يقدر على الاستقبال أو كان في فراشه نجاسة ولا يقدر على التحول عنها ووجد من يُحوِّله ويُوجِّهه؛ لا يفترض عليه ذلك عند الإمام الأعظم، وعلى هذا؛ الأعمى إذا وجد قائدًا؛ لا تلزمه الجمعة والحج؛ لأنَّ عنده: لا يعتبر المكلف قادرًا بقدرة غيره، وعندهما: يُعدُّ قادرًا، وكان الإمام حسام الدِّين يختار قولهما، وتمامه في «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب، وبقول الحسن، قال محمَّد بن إدريس: (وإن وجد من يناوله بالمرض الذي يخاف من الغُسل معه مَحذورًا؛ فإنه يتيمم، ولا يجب عليه القضاء) انتهى.
(وأقبل ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما، ومعه نافع مما وصله مالك في «موطئه» (من أرضه بالجُرُف)؛ بضمِّ الجيم، والراء، وقد تُسكَّن الراء، وهو ما يجرف فيه السيول، وأكلته من الأرض، وهو جمع جِرَفه؛ بكسر الجيم، وفتح الراء، وزعم الزُّبير أن الجُرُف على ميل من المدينة، وقال ابن إسحاق: (على فرسخ)، وهناك كان المسلمون يعسكرون إذا أرادوا الغزو، وزَعم ابن قرقول أنه على ثلاثة أميال إلى جهة الشَّام، وبه أموال عمر، وأموال أهل المدينة، ويعرف ببئر حشم، ومن جمل، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(فحضرت العصر) أي: صلاتها، وهما على غير وُضُوء، وليس عندهما ماء (بمَربد)؛ بفتح الميم، كذا قال السفاقسي: (رويناه، وهو في اللغة بكسرها)، وفي «المحكم»: (المِربد) (بمِرْبَد)؛ بكسر الميم عند الجمهور، وهو الموافق للُّغة، وقال السَّفاقسي: (رويناه بفتح الميم)؛ فافهم، وبسكون الراء، وفتح الموحدة، آخره دال مهملة، قال في «المحكم»: (المربد: موضع تحبس فيه الإبل، وقيل: هي خشبة أو عصًا تعترض صدور الإبل، فتمنعها من الخروج، ومربد التمر: جرينهالذي يوضع فيه بعد الجداد؛ لييبس، ومربد البصرة من ذلك؛ لأنَّهم كانوا يحبسون فيه الإبل)، وقال سيبويه: (هو اسم؛ كالمطبخ)، وإنما مثَّله به؛ لأنَّ المطبخ ييبس، وقال السهيلي: (المربد، والجرين، والمسطح، والبيدر، والإندر، والجرجا لغات بمعنًى واحد)، كذا في «عمدة القاري» (النَّعَم)؛ بفتح النون، والعين المهملة، وفي رواية: (الغنم) بالغين المعجمة بعدها نون، وهو مآل الراعية، وأكثر ما يقع النعم على الإبل، وهو على ميلين من المدينة؛ فليُحفظ.
(فصلَّى) أي: ابن عمر
%ص 395%
صلاة العصر؛ أي: بعد أن تيمم، كما في رواية مالك، ولفظه عن نافع: (أنه أقبل هو وعبد الله بن عمر من الجرف حتى إذا كان بالمِربد؛ نزل عبد الله فتيمم صعيدًا طيَّبًا، فمسح وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم صلى) انتهى، يعني: العصر، ورواه البيهقي من حديث عمرو بن محمَّد بن أبي رزين، حدثنا هشام بن حسَّان، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أنَّ النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم تيمم وهو ينظر إلى بيوت المدينة بمكان يقال له: مِربد النعم، وفي «سنن» الدارقطني قال: (حدَّثنا ابن صاعد: حدَّثنا ابن زيتون: حدَّثنا فُضيل بن عِياض، عن ابن عجلان، عن نافع: أن ابن عمر تيمم وصلَّى وهو على ثلاثة أميال أو ميلين من المدينة)، وفي خَبر عمر بن زُرارة من طريق ميسرة، عن ابن عمر مثله، (ثم دخل المدينة) المنوَّرة (والشمس مرتفعة) عن الأفق والصفرة دخلتها، (فلم يعد) أي: تلك الصَّلاة، وهذا يقتضي جواز التيمم في السفر القصير؛ لأنَّ السفر المعتبر هنا هو العرفي والشرعي، فإنَّ قليل السفر وكثيره سواء في التيمم، والصَّلاة على الدَّابة خارج المصر، وإنَّما الفرق بين القليل والكثير في ثلاثة: قصر الصَّلاة، والإفطار، والمسح على الخفين، كما صرَّح به في «الفتاوى الخانية»، وظاهر هذا الأثر: أن ابن عمر كان يرى التيمم في السفر القصير؛ لأنَّ المكان الذي صلى فيه _وهو المِربد_ كان بينه وبين المدينة ميل، أو ميلان، أو ثلاثة، وعلى كلٍّ؛ فيجوز له التيمم، وقال محمَّد بن مسَلَمَة: إنَّما تيمم ابن عمر بالمِربد؛ لأنَّه خاف فوات الوقت المستحب، وهو أن تصفرَّ الشَّمس، يدل عليه قوله: (والشَّمس مرتفعة) يعني: أنَّها مرتفعة عن الأفق والصُّفرة دخلتها، ويحتمل أن يكون ظنَّ أنَّه لا يدخل المدينة حتَّى يخرج الوقت، فتيمم على ذلك بالاجتهاد، وقال ابن القاسم: (من رجا إدراك الماء في آخر الوقت فتيمَّم في أوله وصلى؛ أجزأه، ويعيد في الوقت استحبابًا، فيحتمل أنَّ ابن عمر كان يرى هذا) انتهى.
قلت: من رجا وجود الماء في آخر الوقت فتيمَّم في أوَّله وصلَّى، ثمَّ وجد الماء في آخر الوقت؛ لا يعيدها، وأجزأته تلك الصَّلاة، كما صرَّح به في «الدرر والغرر» حيث كان بينه وبين الماء ميل، وإلَّا؛ فلا، كما في «الدر المختار»، وظاهر الأثر: أن مذهب ابن عمر هكذا؛ لأنَّه قد تيمَّم في المِربد وهو على ميل أو أكثر من المدينة، وتيممه كان في الوقت المستحب، وحين وصوله المدينة كان الوقت باقيًا، فلم يُعِدِ الصَّلاة؛ فافهم.
وقال في «شرح الموطَّأ»: كان ابن عمر على وُضُوء؛ لأنَّه كان يتوضأ لكلِّ صلاة، فجعل التيمم عند عدم الماء عِوَض الوضوء، كذا قاله سُحْنون.
قلتُ: وهذا فاسد؛ لأنَّ التيمم على الوضوء غير مشروع، وكيف يقال هذا، فإنَّ طهارته بالوضوء أقوى، والتيمم شُرِعَ لأجل الرخصة، ولا رخصة هنا، فإن الطهارة موجودة، فالتيمم عليه يكون عبثًا؛ لأنَّه مُلَوِّث، والوضوء على الوضوء نور على نور، أما التيمم على التيمم أو على الوضوء؛ فإنه غير مشروع، كما لا يخفى، وظاهر الأثر أنَّ ابن عمر كان على غير وضوء، فتيمم عن الحدث، يدل عليه نزوله عن [دابته] في ذلك الموضع لأجل التيمم، ولو لم يكن كذلك؛ لما تيمم، ولو سلَّمنا أنه كان يتوضأ لكل صلاة؛ لا نسلِّم أنه كان يتيمم على الوضوء؛ لأنَّه لم ينقل عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولا عن أحدٍ من أصحابه فعل ذلك، فهذا الاحتمال غير صحيحٍ؛ فافهم.
وقيل: إنَّ ابن عمر كان يرى أنَّ الوقت إذا دخل؛ حَلَّ التيمم، وليس عليه أن يؤخر؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، كذا قاله سُحْنون.
قلتُ: وفيه نظر؛ لأنَّ ظاهر هذا الأثر يخالف هذا، فإنَّ ظاهره أنَّه كان يرى التأخير إلى قُبيل الوقت المكروه، فإنَّ عادته أنَّه إذا كان في السفر؛ يؤخر إلى الوقت المُستحب، ويدلُّ عليه: هذا الأثر، فإنَّه قد دخل المدينة في الوقت المكروه؛ لأنَّه دخلها والشمس مرتفعة دخلتها الصفرة، فلو أخَّر؛ لوقعت الصَّلاة مكروهة؛ فليحفظ.
وقول القسطلاني: وهذا الأثر يدلُّ على أنَّ ابن عمر كان يرى جواز التيمم للحاضر؛ لأنَّ السفر القصير في حكم الحضر ممنوع، فإنَّ ظاهر هذا الأثر ليس كذلك، ولا يدلُّ على هذا، بل ظاهره أنه كان يرى جواز التيمم في السفر القصير؛ وهو ما كان على ميل أو أكثر من الماء، يدلُّ عليه فعل ابن عمر حيث تيمم في المربد، ولم يُؤخرْ إلى دخوله المدينة، ولو كان كما قال؛ لكان ابن عمر أعاد الصَّلاة في المدينة، وصَرَّح في الأثر أنه لم يعدها؛ فافهم.
وقال في «شرح المُنية»: (لو أُخبر إنسان عدل بعدم الماء عند غَلبة الظَّن ونحوه؛ جاز له التيمم بلا خِلاف؛ لأنَّ خبر الواحد العدل مقبول، وحجة في الديانات؛ لشمول الإلزام له أيضًا بخلاف الشهادة) انتهى.
وقال إمام الشَّارحين: (إنَّ البُخاري ذكر هذا التعليق مختصرًا، ولم يذكر فيه ذكر التيمم مع أنَّه لا يطابق ترجمة الباب إلا به).
وزعم ابن حجر أنَّه لم يظهر له في سبب حذفه.
وأجاب إمام الشارحين: بأن الذي يظهر له أن ترك هذا ما هو في البخاري، والظاهر أنه من الناسخ، واستمر الأمر عليه، وليس له وجه غير هذا؛ فليحفظ، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يقع).
[2] في الأصل: (المطاهر)، وليس بصحيح.
==================
[1] في الأصل: (يقع).
[1] في الأصل: (يقع).
(1/577)
[حديث: أقبل النبي من نحو بِئر جمل]
337# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى ابن بُكير) بضمِّ الموحدة، تصغير بكر نسبه لجده؛ لشهرته به: فهو يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي أبو زكريا المصري (قال: حدثنا الليث) هو ابن سعد من أتباع الإمام الأعظم رأس الأئمَّة والمجتهدين رضي الله عنه، (عن جعفر بن ربيعة)؛ هو ابن شرحبيل الكندي المصري، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئة، و [ما] في رواية الإسماعيلي: (حدثني جعفر)؛ بالإفراد، (عن الأعرج) هو عبد الرَّحمن بن هُرمز المدني، وفي رواية ابن عساكر: (عن حميد الأعرج)، وهو ابن قَيْس المكي أبو صفوان القارئ، من السادسة، المتوفى سنة ثلاثين، أو بعدها، كذا قيل.
قلت: وعلى كلٍّ؛ فهما ثقتان لا يضرُّ الحديث تخالفهما؛ فليحفظ.
(قال: سمعت عُمَيْرًا) بضمِّ العين المهملة مصغر عمرو بن عبد الله الهاشمي، المتوفى بالمدينة سنة أربع ومئة (مولى ابن عباس) رضي الله عنهما.
فإن قلت: عُمَيْر هذا هو مولى أمِّ الفضل بنت الحارث والدة ابن عباس، فكيف يقول: مولى ابن عباس؟
قلت: وإذا كان مولى أم الفضل؛ كان مولى أولادها؛ فصح قوله: مولى ابن عباس؛ لأنَّه لا فرق بين الأم وأولادها، وقد روى ابن إسحاق هذا الحديث، وقال: (مولى عبيد الله بن عبَّاس)، وقد روى موسى بن
%ص 396%
عُقْبَة، وابن لهيعة، وأبو الحارث هذا الحديث عن الأعرج، عن أبي الجُهَيْم، ولم يذكروا بينهما (عُمَيْرًا)، والصواب: إثباته، وليس له في «الصحيح» غير هذا الحديث، وحديث آخر عن أم الفضل، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الباري.
(قال: أقبلت أنا وعبد الله) لفظة (أنا) تأكيد للضمير المرفوع البارز، ويجوز فيه النَّصب على أنَّه مفعول معه؛ أي: مع عبد الله، قيل: هذا من عطف الجُمَل، وقيل: من عطف المفردات، وعليه الجمهور؛ فافهم
(ابن يَسَار)؛ بفتح التحتية، والسين المهملة المخففة، ضِد اليمين: المدني الهلالي و (عبد الله) هذا: هو أخو عطاء بن يسار التابعي المشهور، ووقع عند مُسلم في هذا الحديث: (عبد الرحمن بن يَسَار)، وهو وهمٌ، وليس له في هذا الحديث رواية، ولهذا لم يذكره المصنفون في رجال «الصحيحين»، كذا قاله إمام الشارحين (مولى مَيْمُونة) بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، بينهما تحتية ساكنة: هي بنت الحارث (زوج النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) ورضي عنها (حتى دخلنا على أبي جُهَيْم) بضمِّ الجيم، وفتح الهاء، وسكون التحتية؛ بالتَّصغير، وفي رواية: (أبي الجُهَيْم)؛ بالألف واللام: هو عبد الله (بن الحارث)؛ بالمثلثة (ابن الصِّمَّة) بكسر الصاد المهملة، وتشديد الميم: هو ابن عمرو بن عتيك الخزرجي (الأنصاري) الصحابي الجليل، وقال الذهبي: (أبو جُهَيْم)، ويقال: أبو الجُهَيْم بن الحارث بن الصِّمَّة، كان أبوه من كبار الصحابة، و (أبو جهم): عبد الله بن جُهَيْم، وقال أبو نعيم، وابن منده: (أبو جهم [و] ابن الصِّمَّة واحد [1])، وكذا قاله مُسلم، وجعلهما ابن عبد البر اثنين، وعن ابن أبي حاتم، عن أبيه قال: (ويقال: أبو الجُهَيْم: هو الحارث بن الصِّمَّة)، فعلى هذا؛ تكون لفظة (ابن) في متن الحديث زائدة، لكن صحح أبو حاتم: أنَّ الحارث اسم أبيه لا اسمه، وفي الصحابة شخص آخر يقال له: أبو الجُهَيْم، وهو صاحب الأنبجانية، وهو غير هذا؛ لأنَّه قُرَشي، وهذا أنصاري.
قلتُ: أبو الجُهَيْم هذا هو الذي قاله الذهبي: (أبو جُهَيْم: عبد الله بن جُهَيْم)، كذا بسطه إمام الشَّارحين.
(فقال جُهَيْم) وفي رواية أبي الوقت، والأصيلي: (أبو الجُهَيْم)، وفي رواية ابن عساكر: (فقال الأنصاري) (أقبل النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم من نحو بئر جَمَل)؛ بالجيم والميم المفتوحتين: موضع بقرب المدينة فيه مال من أموالها؛ أي: من جهة الموضع الذي يُعرف ببئر الجمل، وفي رواية: (ببئر الجمل)، وكذا في رواية النسائي، (فلقيه رجل) هو أبو الجُهَيْم الرَّاوي، قاله إمام الشَّارحين، فوجد النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يبول، ففي رواية ابن ماجه من حديث أبي هريرة: (مرَّ رجل على النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يبول ... )؛ الحديث، وعند البزار بسند صحيح، عن نافع عنه: (أنَّ رجلًا مرَّ على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يبول ... )؛ الحديث، وعند أبي داود من حديث حبوة بن الهاد: أنَّ نافعًا حدَّثه، عن ابن عمر قال: (أقبل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الغائط ... )؛ الحديث، ومثله في الطبراني؛ فليحفظ.
(فسلَّم عليه) أي: على النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فلم يردَّ عليه النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: السلام، ويجوز في (داله) الحركات الثلاث؛ الكسر؛ لأنَّه الأصل، والفتح؛ لأنَّه أخف، والضم؛ لإتباع الراء، قاله إمام الشَّارحين، والذي في الرواية الفتحُ (حتى أقبل) أي: النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (على الجِدار)؛ الألف واللام فيه لـ (العهد) الخارجي؛ أي: جدارٌ هناك كان مباحًا؛ فلم يحتج إلى الإذن في ذلك، أو كان مملوكًا لغيره وكان راضيًا فيه؛ فضرب يده على الحائط المذكور (فمسح بوجهه ويديه) وفي رواية أبي الوقت، والأصيلي: (وبيديه)؛ بزيادة الموحدة، ففيه: أنَّ التيمم مسح الوجه واليدين، لا يقال: أطلق يديه فيتناول إلى الكفين، وإلى المرفقين، وإلى ما وراء ذلك؛ لأنا نقول: المراد منه: ذراعيه، ويفسره رواية الدارقطني وغيره في هذا الحديث: (فمسح بوجهه وذراعيه)، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وفي هذا دليل واضح على جواز التيمم على الحجر؛ لأنَّه عليه السلام تيمم على الجِدار، وجُدران المدينة كلها مبنية بحجارة سود، وهذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والجمهور، وخالفهم الشافعية، فزعموا: أنَّ التيمم لا يجوز على الحجر، بل لا بد من التُّراب، وأجابوا عن هذا الحديث: بأنَّه معلوم أنَّه يعلق به تراب، فإنَّ الجدار قد يكون عليه تراب، وقد لا يكون، بل الغالب وجود الغبار على الجدار، وتعلَّقوا بما رواه البغوي في «شرح السُّنة» بإسناده من حديث الشافعي، عن إبراهيم بن محمَّد، عن أبي بكر بن الحويرث، عن الأعرج، عن أبي جُهَيْم بن الصِّمَّة قال: مررت على النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يبول، فسلَّمت عليه، فلم يردَّ عليَّ حتى قام إلى جدار فحتَّه بعصًا كان معه، ثمَّ وضع يده على الجدار، فمسح وجهه وذراعيه، ثمَّ ردَّ عليَّ، قال: هذا حديث حسن، كذا زعمه الكرماني.
وردَّه إمام الشارحين: بأنَّ الجدار إذا كان من حجر لا يحمل التُّراب أصلًا؛ لأنَّه لا يثبت عليه، خصوصًا جدران المدينة؛ لأنَّها من صخرة سوداء، وما رواه البَغوي ضعيف لا يعوَّل عليه، لا يقال: حسَّنه البغوي؛ لأنَّا نقول: كيف حسَّنه وشيخ الشافعي وشيخ شيخه ضعيفان لا يُحتجُّ بهما، كما قَاله مالك وغيره؟ وأيضًا فهو مُنقطع؛ لأنَّ ما بين الأعرج وأبي جُهَيْم عُمَيْر، كما سبق عند البخاري وغيره، ونصَّ عليه البيهقي أيضًا وغيره، وفيه عِلَّة أخرى، وهي حكُّ الجدار، ولم يأت بها أحد غير إبراهيم، والحديث رواه الطبراني، وأبو داود، والبزار، والطَّبراني في «الأوسط»، والحاكم، والطَّحاوي، والنَّسائي، وابن ماجه، وأحمد، والبيهقي، وابن حبَّان، وغيرهم، وليس في حديث أحدهم هذه الزيادة، والزيادة إنَّما تقبل إذا كانت من ثِقةٍ، ولو وقف الكرماني على هذا؛ لما قال ما قال، انتهى.
قلتُ: وأيضًا لم يذكر واحد من هؤلاء الجماعة في حديث أحدهم أنَّه كان مع النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عصًا، ولو كان معه عصًا؛ لذكروها في الحديث، ووجه ضَعف إبراهيم بن محمَّد، وأبي بكر: أنَّه كان كلٌّ منهما قد اختلط وساء حفظه، فالحديث الذي رواه البغوي معلول، ومُعَارض؛ فلا يُحتج به ولا يُعوَّل عليه وليس هو من حمل المُطلق على المُقيد؛ لأنَّ القَيد غير ثابت، فكيف يُحمل عليه؟ وما هذا إلا عناد وهذيان باردٌ؛ فافهم، والله أعلم.
(ثمَّ ردَّ عليه) أي: على الرَّجل (السَّلام)، زاد في رواية الطبراني في «الأوسط»: (حتى إذا كان الرجل يتوارى في السُّكة، ثمَّ ضرب يديه على الحائط، فمسح وجهه، وذراعيه، ثم ردَّ على الرجل السَّلام، وقال: «إنَّه لم يمنعني أن أردَّ عليك إلا أنِّي كنت على غير طُهرٍ»)، وفي رواية البزار بسند صحيح عن نافع عنه: أنَّ رجلًا مرَّ على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يبول، فسلَّم عليه الرجل، فردَّ عليه السَّلام، فلمَّا جاوزه؛ ناداه عليه السلام، فقال له: «إنَّما حملني على الردِّ عليك خشية أن تذهب فتقول: إني سلمت على النبيِّ، فلم يردّْ عليَّ، فإذا
%ص 397%
رأيتني على هذه الحالة؛ فلا تُسلِّم عليَّ، فإنَّك إن تفعل؛ فلا أردُّ عليك»، وعند الطَّبراني من حديث جابر بن سمرة بسند فيه ضعف قال: (سلَّمت على النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يَبول، فلم يردَّ عليَّ، ثم دخل إلى بيته، فتوضأ، ثمَّ خرج، فقال: «وعليكَ السَّلام»)، وعند الحاكم من حديث المهاجر بن قنفذ قال: (أتيت النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يتوضأ فسلَّمت عليه، فلم يردَّ عليَّ، فلمَّا فرغ من وضوئه؛ قال: «إنَّه لم يمنعني من [أن] أردَّ عليك إلا أنِّي كنت على غير وضوء»)، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا، ولفظه: «إلا أنِّي كرهت أن أذكر الله لا على طُهرٍ، أو على طهارة»، وأخرجه النَّسائي، وابن ماجه، وأحمد، والبيهقي، وابن حبان، والطَّبراني، وزاد: (فقمت مهمومًا، فدَعا بوضوء، فتوضأ، وردَّ عليَّ، وقال: «إنِّي كرهت أن أذكر الله على غير وضوء»)، كذا في «عمدة القاري»، ثُمَّ قال: (ووجه مطابقة هذا الحديث للتَّرجمة: هو أنَّه عليه السَّلام لما تيمم في الحضر؛ ليردَّ السَّلام وكان له أن يردَّه عليه قبل تيممه؛ دلَّ ذلك على أنَّه إذا خشي فوات الوقت في الصَّلاة في الحضر؛ أنَّ له التيمم، بل ذلك آكد؛ لأنَّه لا يجوز الصَّلاة بغير وضوء، ولا تيمم، ويجوز السَّلام بغيره) انتهى.
قلتُ: وفي الحديث دليل على جواز التيمم في المصر لصلاة الكسوف، والخسوف، والسُّنن الرَّواتب؛ وهي التي بعد الظهر، والمغرب، والعشاء، والجمعة، وكذا ما قبل الظهر والجمعة، فإنَّه إذا أخرها بحيث لو توضأ؛ فات وقتها؛ فله التيمم لها، وكذلك المُستحبات من الصَّلوات التي يخاف فوتها لو اشتغل بالوضوء؛ كصلاة الضحى، فإنَّه إذا خاف خروج وقتها بزوال الشمس؛ يتيمم لها، وكذلك صلاة الليل إذا خاف طلوع الفجر، وكذلك سنة العشاء القبلية والبعدية، وسُنة العصر القَبلية، وغيرها، فإنَّه إذا ضاق وقتها؛ يجوز التيمم لها.
قال في «البحر»: (وكذلك كلُّ ما لا تشترط له الطهارة، فيجوز التيمم لنوم وسلام وردُّه وإن لم تَجز [2] الصَّلاة به).
وفي «المُبتغى»: (وجاز لدخول مسجدٍ مع وجود الماءِ، وللنوم فيه).
وفي «شرح المنية»: (يجوز تيممه لمسِّ مُصحف).
وفي «القهستاني»: المختار جواز التيمم مع وجود الماء لسجدة التلاوة، وكذلك لقراءة القرآن، أو كتابته، أو تعليمه، وكذلك لزيارة القبور، وعيادة المرضى، ودفن الموتى، والأذان، والإقامة، فإنَّه يجوز التيمم لهذه المذكورات مع وجود الماء، لكنَّ التيمم للتسعة الأخيرة لا تجوز الصَّلاة به، كما في «مِعراج الدِّراية» عن «الخبازية» وما قبلها اختلف فيها، فصحح جماعة جواز الصَّلاة به، وصحح آخرون عدم الجواز، والمعتمد الجواز، وفيه تفصيل بيَّنته في شرحي «منهل الطلاب»، وكذلك سجدة الشكر.
وأمَّا سنة الفجر، فإن خاف فوتها مع الفريضة؛ لا يتيمم، وإن خاف فوتها وحدَها؛ فعلى قول الإمام محمَّد بن الحسن: لا يتيمم، وعلى قول الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف: يتيمم، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، وفي الحديث دليلٌ على جواز التيمم لصَلاة الجنازة عند خوف فواتها، وهو قول الأئمَّة الكوفيون، والليث، والأوزاعي؛ لأنَّه عليه السَّلام تيمم؛ ليردَّ السلام في الحضر لأجل خوف فوت فضيلة السَّلام، والطهارة فيه ليست بشرط وإن كان ليس شرطًا، ومنع مالك، والشافعي، وأحمد ذلك، والحديث حُجَّة عليهم، كذا قاله إمام الشَّارحين نقلًا عن الحافظ أبي جعفر الطَّحاوي.
قلتُ: وفي الحديث دليلٌ على جواز التيمم لصلاة العيدين؛ لأنَّهما يفوتان لا إلى بدل؛ لاشتراط الجماعة فيهما، ويدلُّ لهذا حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إذا جئت العيد فخشيت فوتها؛ فصلِّ بالتيمم)، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا وجدت جنازة فخشيت فوتها؛ فصلِّ عليها بالتيمم)، فكما أنَّه عليه السلام تيمم لردِّ السَّلام خشية الفوات _مع أنَّ الطهارة ليست بشرط في الردِّ_ دلَّ على جواز التيمم للصلاة التي يخشى فواتها لا إلى بدلٍ؛ كصلاة الجنازة، والعيدين.
وقال إمام الشَّارحين: (ويُستنبط من الحديث جواز التيمم في الحضر، وعليه بوَّب البخاري)، وقال بعضهم: فيه دليل على التيمم في الحضر، لكن لا دليل فيه أنَّه رفع بذلك التيمم الحدث رفعًا استباح به الصَّلاة؛ لأنَّه إنَّما فعله كراهة أن يذكر الله على غير طهارة، وكذا رواه حمَّاد في «مصنفه»، وزعم ابن الجوزي: أنَّه كره عليه السلام أن يردَّ عليه السلام؛ لأنَّه اسمٌ من أسماء الله تعالى، أو يكون هذا في أول الأمر، ثُمَّ استقر الأمر على غير ذلك، وقال في «شرح مختصر» الحافظ الطَّحاوي: حديث المنع من ردِّ السلام منسوخ بآية الوضوء، وقيل: بحديث عائشة قالت: «كان عليه السَّلام يذكر الله على كلِّ أحيانه»، وقد جاء ذلك مصرَّحًا به في حديث رواه جابر الجعفي، عن عبد الله بن محمَّد بن أبي بكر بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء [3]، عن أبيه قال: كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أراد الماء نكلِّمه؛ فلا يكلِّمنا، ونسلِّم عليه؛ فلا يُسلم علينا حتى نزلت آية الرخصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]، وزعم ابن دقيق العيد وحديث مهاجر بن القُنفذ مَعلول ومُعَارض، أمَّا كونه مَعلولًا؛ فلأنَّ سَعِيْد بن أبي عروبة كان قد اختلط في آخر عمره؛ فيراعى فيه سماع مَنْ سمع منه قبل الاختلاط، وقد رواه النسائي من حديث شعبة عن قتادة به، وليس فيه: (أنَّه لم يمنعني ... ) إلى آخره، ورواه حمَّاد بن سَلَمَة، عن حُميد، وغيره عن الحسن بن مُهاجر مُنقطِعًا، فصار فيه ثلاثُ عِلل، وأمَّا كونه مُعَارضًا؛ فلما رواه البخاري ومُسلم من حديث كريب عن ابن عباس قال: (نمتُ عند خالتي ميمونة ... )؛ الحديث؛ ففي هذا ما يدل على جواز ذكر الله، وقراءة القرآن مع الحدث، وزعم الحسن أن حديث مُهاجر غير منسوخ، وتمسك بمقتضاه، فأوجب الطهارة للذِّكر، وقيل: يتأوَّل الخبر على الاستحباب؛ لأنَّ ابن عمر ممن روى في هذا الباب كما ذكرناه، والصحابي الراوي أعلم بالمقصود، انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (أحمد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (تجر)، وهو تصحيف.
[3] في الأصل: (القعوا)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (أحمد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (تجر)، وهو تصحيف.
[1] في الأصل: (أحمد)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (تجر)، وهو تصحيف.
(1/578)
(4) [باب: المُتيمم هل ينفخ فيهما؟]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين، يذكر فيه، وقوله: (المُتيمم) ثابتٌ في رواية الأكثرين، ساقط في روايةٍ (هل ينفخ فيهما) أي: في اليدين بعد ما يضرب بهما الصعيد للتيمم، وإنَّما أورده بلفظ الاستفهام على سبيل الاستفسار؛ لأنَّ نفخه صلَّى الله عليه وسلَّم في يديه في التيمم على ما يأتي في حديث الباب يحتمل وجوهًا ثلاثة:
الأول: أن يكون لشيء عَلِق بيده؛ فخشي عليه السلام أن يصيب وجهه الكريم؛ فنفخ لذلك.
الثاني: أن يكون قد علق بيده من التراب ما يكرهه؛ فلذلك نفخ فيهما.
والثالث: أن يكون لبيان التشريع، وهو الظَّاهر، ولهذا احتج الإمام الأعظم رئيس المجتهدين بذلك، ولم يشترط التصاق التُّراب بيد المُتيمم؛ وعلى هذا؛ هذه الاحتمالات المذكورة التي ذهب إليها بعضهم غير سديدة، بل ظاهر الحديث لبيان التشريع، والحكمة فيه: إزالة التلوث عن الوجه واليدين، وتبويب البخاري بالاستفهام أيضًا غير سديد، ووجه المناسبة بين البابين ظاهرٌ؛
%ص 398%
وهو أنَّ المذكور فيما قبله أحكام التيمم والنفخ فيه أيضًا من أحكامه، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري».
==================
(1/579)
[حديث: إنَّما كان يكفيكَ هكذا]
338# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا آدم)؛ بالمد: هو ابن أبي إياس؛ بكسر الهمزة (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج (قال: حدثنا الحَكَم) بفتح الحاء المهملة، والكاف: هو ابن عُتَيْبَة؛ بضمِّ العين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة، (عن ذَرٍّ) بفتح الذَّال المُعجمة، وتشديد الراء: هو ابن عبد الله الهمْداني؛ بسكون الميم، (عن سَعِيْد) بكسر العين المهملة (بن عبد الرحمن بن أَبْزَى) بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، وبالزَّاي المفتوحة، مقصورًا، (عن أبيه) هو عبد الرَّحمن الصَّحابي الخزاعي الكوفي، استعمله علي الصدِّيق الأصغر رضي الله عنه على خَرَاسان (قال) أي: عبد الرحمن (جاء رجلٌ) أي: من أهل البادية، كذا صَرَّح به الطبراني في روايته (إلى عُمَر بن الخطاب) أمير المؤمنين رضي الله عنه، (فقال)؛ أي: الرَّجل: يا أمير المؤمنين؛ (إني أَجنبت) بفتح الهمزة؛ أي: صِرْت جُنبًا، وفي رواية: (جُنِبت)؛ بضمِّ الجيم، وكسر النون، (فلم أُصب الماء)؛ بضمِّ الهمزة، من الإصابة؛ أي: لم أجدهُ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ المسافر له أن يطأ جاريته وإن علم أنَّه لا يجد الماء؛ لأنَّ الصَّعيد شرع طهورًا بحال عدم الماء، ولا تكره الجنابة حال وجود الماء، فكذا حالة عدمه، وبهذا صرَّح في «البحر» عن «المحيط»؛ فليُحفظ.
(فقال عمَّار) بتشديد الميم (بن ياسر) هو العَنْسي؛ بفتح العين المهملة، وسكون النون، الصحابي ابن الصَّحابي، شهد هو وأبوه المشاهد كلَّها، وأخرج التِّرمذي: أنَّه عليه السَّلام قال: «إنَّ عمارًا مُلِئَ إيمانًا»، واستأذن عليه، فقال له: «مرحبًا بالطَّيب المطيَّب»، وقال: «من عادى عمَّارًا؛ عاداه الله، ومن أبغض عمارًا؛ أبغضه الله»، وكان من السَّابقين الأولين، له في «الصَّحيح» أربعة أحاديث؛ منها قوله هنا (لعمر بن الخطاب) رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين؛ (أَما)؛ بفتح الهمزة للاستفهام، وكلمة (ما) للنفي (تذكُر) من الذِكر؛ بضمِّ الذال المعجمة؛ أي: تحفظ، وتفطن، وتعلم (أنَّا) وفي رواية الأصيلي: (إذا)، وموضع (أنا) نصب على أنَّه مفعول (تذكر) (كنَّا في سفر) وفي رواية مسلم: (في سرية)، وزاد: (فأجنبنا) (أنا وأنت) تفسير لضمير الجمع في (كنا) (فأمَّا أنت؛ فلم تُصلِّ) تفصيل لما وقع من عمَّار وعمر رضي الله عنهما؛ ومعناه: أنَّه لم يصلِّ بالتيمم؛ لأنَّه كان يتوقع الوصول إلى الماء قبل خروج الوقت، أو أنَّه جعل آية التيمم مختصة بالحدث الأصغر، وأدَّاه اجتهاده إلى أنَّ الجُنب لا يتيمم، فقاسه عمار عليه، ولم يذكر في هذه الرواية جواب عمر، وكذلك روى البخاري هذا الحديث في الباب الذي يليه من رواية ستة أنفس عن شُعبة، ولم يذكر فيها جواب عمر، وذكره مُسلم من طريق يحيى بن سَعِيْد، والنَّسائي عن حجاج بن محمَّد، فقال: (لا تُصلِّ)، وزاد السراج: (حتى تَجد الماء)، وهذا مذهب مشهور عن عمر، ووافقه عليه ابن مسعود، وجرت فيه مناظرة بين أبي موسى وابن مسعود على ما سيأتي في باب (التيمم ضربة)، وقيل: إن ابن مسعود رجع عن ذلك، قاله إمام الشَّارحين.
قلتُ: قدمنا أنَّ عمر وابن مسعود قد ثبت رجوعهما عن ذلك، وقالا: بصحة التيمم عن الجنابة؛ فليحفظ.
ويدلُّ لذلك: ما قاله في «عمدة القاري»: (وفي لفظ للبخاري: قال أبو موسى لابن مسعود: إذا لم تجد الماء؛ لا تصلِّ، قال عبد الله: لو رُخِّصت لهم في هذا كان إذا وجد أحدهم البرد؛ قال هكذا _يعني: تيمم وصلى_ قال أبو موسى: فقلت: أين قول عمار لعمر رضي الله عنهما؟ قال: إني لم أر قنع عمر بقول عمار)، وفي لفظ آخر: (كيف تصنع بقول عمار حين قال له النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «كان يكفيك»؟ قال: لم نر عمر يقنع بذلك منه، فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار، كيف تصنع بهذه الآية؟ فما درى عبد الله ما يقول) انتهى.
قلت: وظاهره أنَّه رجع عن ذلك وهو يدلُّ لما قدمناه؛ فافهم.
(وأمَّا أنا؛ فتمعكت) وفي الرواية الآتية: (فتمرغت)؛ بالغين المعجمة؛ أي: تقلبت بالتراب، وفي لفظ: (بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة ... )؛ الحديث، (فصليت)؛ لأنَّه قد ارتفع حدثه، وكأنَّه اجتهد أنَّ التيمم إذا وقع بدل الوضوء؛ وقع على هيئة الوضوء، واجتهد أنَّ التيمم عن الغُسل يقع على هيئة الغسل، فلهذا تمعَّك، وهذا اجتهاد منه في ذلك، وهو صحيح وإن كان في عصره عليه السَّلام؛ لأنَّ الجمهور: جوَّزوا الاجتهاد في عصره عليه السلام مطلقًاسواء كانوا غائبين عن الرسول أو حاضرين في بلده عليه السلام، وهو المختار، ولهذا لم يأمره النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حين سأله بإعادة الصَّلاة؛ لأنَّه فعل أكثر ما كان يجب عليه في التيمم؛ حيث تقلَّب على الصعيد، ففيه دليل على جواز الاجتهاد في جهة القِبلة إذا كان في صحراء، أو ظلمة، أو غير ذلك، فلو صلى الظهر مثلًا واجتهد لجهة، ثم تبدل اجتهاده لجهة أخرى؛ ينحرف ويصلي، فلو تبدل أيضًا؛ ينحرف، وهكذا، فصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه، وإن كان كل ركعة لجهة؛ لأنَّه فعل ما في وسعه؛ فليحفظ.
(فذكرت) وقوله: (ذلك) ثابت في رواية، ساقط في أخرى (للنَّبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: فعله المذكور، (فقال النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي رواية الأصيلي: (فقال صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: لعمار في الجواب: (إنَّما كان يكفيك)، زاد في لفظ: (أن تَصنع)، (هكذا) بالكاف بعد الهاء، وفي رواية الحموي، والمستملي: (هذا)، وفي لفظٍ: (وضرب بكفيه على الأرض، ثم نفضهما، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه)، وفي لفظٍ: (مسح وجهه وكفيه واحدة)، كذا في «عمدة القاري»، قال: وهذا ظاهر في تقديم الكف على الوجه، وهو شاهدٌ لما ذهب إليه الإمام الأعظم، وهو قول محمَّد بن إدريس، وبه قال ابن حزم، وحكاه عن الأوزاعي، وسيأتي تمامه.
(فضرب النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) ولأبي ذر: (فضرب) (بكفيه)؛ بالتثنية (الأرضَ) وللأصيلي: (في الأرض) (ونفخ فيهما)، وفي لفظ: (فأدناهما، ثم أدناهما، ونفخ فيهما)، وفي لفظ: (قال عمَّار: وتفل فيهما)، وفي لفظ: (ثم نفضهما)، وهذا يدل على أنَّه لم يُبْقِ عليهما من التراب شيئًا؛ لأنَّ النَّفخ، وأدناهما منه، والتفل فيهما يزيل أثر التُّراب بالكلية، كما هو مُشَاهد، ويدلُّ
%ص 399%
لهذا ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله، عن عمَّار: (فأمر المسلمين فضربوا بأكفهم التُّراب، ولم يقبضوا من التراب شيئًا ... )؛ الحديث؛ يعني: من شدة النفخ لم يحملا من التراب شيئًا؛ لأنَّ النفض وكذا التَّفل _وهو النفخ الشَّديد_ لا سيما دُنوُّهما منه يزيل أثر التراب بالكلية، كما لا يخفى، فهذا يدلُّ لما ذهب إليه الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، والجمهور: من أنه إذا تيمم على صخر؛ جاز؛ لأنَّ الواجب المسح بكفٍّ موضوعٍ على الأرض لا استعمال التراب، وخالفهم الشَّافعية، فزعموا أنه لا بد من التُّراب، وحملوا هذا الحديث على أنَّ النفخ كان لأجل تخفيف التراب وهو محمول على أنَّه كان كثيرًا.
قلتُ: وهذا كلام غير موجه؛ لأنَّ اشتراط التُّراب غير ثابت عند الشَّارع، وإنَّما الثَّابت اشتراط الصَّعيد، وهو وجه الأرض؛ كحجرٍ، ومَدَرٍ، وتُراب، وغير ذلك، وهو ما أجمع عليه أهل التفسير، وأهل اللغة كما سبق، وقولهم: إن النفخ كان لأجل التخفيف كلام فاسد؛ لأنَّه جاء بلفظ (التفل)، وجاء بلفظ (النفض)، وجاء: أنه أدناهما، وهذا كله يدل على أنَّه أزال عنهما التراب بالكلية، وهذا إذا ثبت أنَّه ضَرب يديه على التُّراب، والظاهر منه: أنه ضرب بيديه على الحصى كبارًا وصغارًا، فإنَّ حكمة النَّفض والنَّفخ؛ لأجلألَّا يعلق بهما شيء من ذلك فيؤذي وجهه الشَّريف، ولأنَّه يصير الشخص مثلة في تبديل خلقه وتغيير هيئته، وهو منهيٌّ عنه؛ لأنَّه يصير هزأةً بين الناس لا يقال: إنه أثر عِبَادة؛ لأنَّا نقول التُّراب ملوث مبدِّل للخلقة، فإنَّه وإن كان طهورًا إلا أنه لا يصلح لذلك؛ لاحتمال أنَّه قد دخل الغبار ونحوه بخلاف الماء، فإنه منظف؛ فافهم.
فإن الأرض تُطلق: على الحجر، والمدر، والحصى، وغير ذلك إذا كان منبسطًا، وعلى فرض أنَّه على التُّراب، فالتفل _وهو شدة النفخ_ وأدناهما منه دليل واضح على أنه لم يُبْقِ فيهما شيء من التُّراب، كما لا يخفى.
وقولهم: (وهو محمول على أنَّه كان كثيرًا) كلام باطل؛ لأنَّ اليدين إذا ضرب بهما الأرض؛ لم يحملا ترابًا كثيرًا، وإنما يتلوثان بالغبار، كما هو مشاهد لأولي الألباب، فكيف يوصف بالكثير؟ وما هذا إلا تعنت وعناد، ولا حاجة إلى هذا الحمل؛ لأنَّه قد ورد عند أبي داود: (ولم يقبضوا من التراب شيئًا)، كما سبق قريبًا، و (شيئًا) نكرة، وهي في سياق النفي تعمُّ فتشمل القليل والكثير؛ يعني: لم يبق عليهما تراب لا قليلًا ولا كثيرًا؛ فافهم، والله أعلم.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة من حيث ذكر النفخ، ولكن ليس في الحديث استفهام فيه، ولهذا قلنا: إن تبويبه بالاستفهام ليس بسديدٍ) انتهى.
قلتُ: واختُلِفَ هل ينفخ مرة واحدة أو مرتين؟
قلتُ: وظاهر الحديث أنَّه ينفض بقدر ما يتناثر التَّراب عنهما؛ لئلَّا يصير مثلة، وبه صرَّح في «الهداية»، فالمقصود: تناثر التُّراب إنْ حصل بمرةٍ؛ اكتفى بها، وإن لم يحصلْ؛ ينفض مرتين، كذا قاله في «البدائع».
(ثم مسح بهما) أي: يديه (وجهه) مستوعبًا، فيخلل لحيته، ويمسح عذاره، والوترة التي بين المنخرين، وما تحت الحاجبين، وموق العينين؛ لأنَّ الاستيعاب شرطٌ على المُختار، وهو ظاهر الحديث، وظاهره أيضًا أنَّه يُشْترط المسح بجميع اليد أو بأكثرها، فلا يجوز أن يمسح بإصبع أو إصبعين، كما في «السِّراج الوهاج»، (وكفيه) فيخلل أصابعه، ويحرك الخاتَم، وظاهر الحديث أنَّه لا يُشترط الترتيب في التيَّمم كأصله؛ لأنَّ الواو لمطلق الجمع عند المحققين، فلا تفيدُ التَّرتيب، ولا التَّعقيب، وهو كذلك لكنَّه سُنة، وظاهر الحديث أيضًا أنَّه على التوزيع، فمسح باليد اليمنى وجهه، وباليسرى كفَّيه؛ لأنَّه لا يشترط المسح باليدين حتى لو مسح بإحدى يديه وجهه، وبالأخرى يده؛ أجزأه في الوجه واليد، ويعيد الضَّرب لليد الأخرى، كذا في «النهر».
واعلم أن: المؤلف لم يسق هذا الحديث بتمامه، والأئمَّة الستة أخرجوه مطولًا ومختصرًا، وكان لعمَّار في هذا الباب أحاديث مختلفة مضطربة، فاختار كل واحد من العلماء حديثًا منها ممَّا صحَّ عنده، فذهب الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، والإمام أبو [1] يوسف، والإمام زُفَر إلى أنَّ التيَّمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين، وهو قول الحسن بن حي، وابن أبي ليلى، واللَّيث بن سعد، وبه قال مالك والشافعي، وهو رواية عن الأوزاعي.
واستدلوا على هذا بأحاديثَ، وآثارٍ، وقياس، أمَّا الأحاديث؛ فمنها: حديث الأسلع بن شُريك التميمي خادم النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، عن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التيمم ضربتان؛ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين»، رواه الحافظ الطَّحاوي، والطَّبراني، والدَّارقطني، والبيهقي.
ومنها: حديث ابن عمر، رواه الدَّارقطني مرفوعًا من حديث نافع، عن ابن عمر، عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التيمم ضربتان؛ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين»، قال الدَّارقطني: كذا رواه علي بن طهمان مرفوعًا، ووقفه يحيى القطَّان، وهشيم، وغيرهما، ورواه الحافظ الطَّحاوي من طرق موقوفًا.
ومنها: حديث جابر رواه الدارقطني من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للذراعين إلى المرفقين»، وأخرجه البيهقي أيضًا، والحاكم أيضًا من حديث إسحاق الحربي، وقال: هذا إسناد صحيحٌ، وقال الذَّهبي أيضًا: (إسناد صحيح).
ومنها: حديث أبي أمامة أخرجه الطَّبراني بإسناده إليه عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين»، وفيه جعفر بن الزُّبير [وهو] ضعيف.
ومنها: حديث عائشة أخرجه البزَّار بإسناده إليها عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التَّيمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين»، وفي إسناده الحويش بن حريث، ضعَّفه أبو زُرْعة.
ومنها: حديث عمَّار رواه أبو داود من حديث عبد الله عن عمَّار قال: (فأمر النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم المسلمين فضربوا بأكفهم التُّراب ولم يقبضوا من التُّراب شيئًا فمسحوا وجوههم مسحةً واحدةً، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم)، قال أبو داود: (وكذا رواه ابن إسحاق، قال به عن ابن عباس، وذكر ضربتين، كما ذكره يونس عن الزُهْرِي، ورواه معمر، وذكر ضربتين).
ومنها: حديث عبد الله رواه ابن ماجه من حديث محمَّد بن أبي ليلى القاضي عن الحكم، وسَلَمَة بن كهيل، فإنهما سألا عبد الله بن أبي أوفى عن التَّيمم، فقال: (أمر النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّارًا أن يفعل هكذا، وضرب بيديه إلى الأرض، ثُمَّ نفضهما، ومسح على وجهه)، قال الحكم: (ويديه)، وقال سَلَمَة: (ومرفقيه).
ومنها: ما رواه أبو داود: قال: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبان، عن قتادة، عمن حدثه، عن الشَّعبي، عن عبد الرَّحمن بن أَبْزَى، عن عمَّار قال: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التَّيمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين»، ورواه ابن أبي ذئب، عن الزُهْرِي، فذكر
%ص 400%
فيه ضربتين.
ومنها: ما رواه البيهقي بسندٍ صحيحٍ عن عمَّار قال: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال له: «التَّيمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين».
وأمَّا الآثار؛ فمنها: ما رواه الإمام محمَّد بن الحسن عن الإمام الأعظم أبي حنيفة قال: حدثنا حمَّاد عن إبراهيم في (التَّيمم) قال: (تضع راحتيك في الصَّعيد، فتمسح وجهك، ثم تضع الثَّانية، فتمسح يديك وذراعيك إلى المرفقين)، قال محمَّد: وبه نأخذ.
ومنها: ما رواه الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي من حديث قَتَادة عن الحُسين أنَّه قال: (التَّيمم ضربةٌ للوجه والكفين، وضربةٌ للذِّراعين إلى المرفقين).
ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة في «مُصنفه»: حدثنا ابن عليَّة، عن داود بن الشَّعبي قال: (التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين)، وروي عن إبراهيم، وطاووس، وسالم، والشَّعبي، وسَعِيْد بن المُسيِّب مثله.
وأمَّا القياس؛ فلأنَّ التيمم خلفٌ عن الوضوء؛ فيجب أن يكون مثله، لكن لمَّا كان التَّيمم شُرع لأجل الرُّخصة؛ تُرِك فيه الرأس والرجلان، فبقي الوجه واليدان، والدَّليل على أنَّه كالوضوء: أنَّه أعطي أحكامه من عدم اشتراط الترتيب فيه، ومن طُروء النَّواقض عليه، وطهارة الصَّعيد كالماء، وغير ذلك مِّما لا يخفى.
وروى الإمام الحسن بن زياد عن الإمام الأعظم: (أنَّ التَّيمم ضربةٌ للوجه، وأخرى لليدين إلى الرُّسغين)، ورُوِي ذلك عن ابن عباس، وهو قول الأوزاعي، والأعمش، وعبد الحكم، والشَّافعي في القديم.
ومالك في رواية لما رواه الدَّارقطني قال: (ما تمرغ عمَّار وسأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فضرب بكفيه الأرض، ثُمَّ نفضهما)، وقال: (تمسح بهما وجهك، وكفيك إلى الرُّسغين)، وعند الأشرم من روايته عنه: (ثُمَّ تمسح بوجهك وكفيك إلى الرسغين).
وفي «الأوسط» للطَّبراني: عن عمَّار: (تمسح وجهك وكفيك بالتراب ضربة للوجه، وضربة للكفين).
قلتُ: ولا دلالة لهم في هذا، فإنَّ حديث الدَّارقطني ضعيف؛ لأنَّه لم يروه عن حُصين مرفوعًا غير إبراهيم بن طهمان، وأوقفه شُعبة، وزائدة، وغيرهما، وما رواه الأشرم؛ فإنَّ في سنده مجهول، وما رواه الطَّبراني؛ فإنَّه لم يروه عن سَلَمَة بن كهيل عن سعد بن أَبْزَى إلا إبراهيم بن محمَّد الأسلمي، وعلى كلٍّ؛ فهذه الأحاديث لا يُحتج بها مع وجود الأحاديث، والآثار السَّابقة التي علمتها، فإنَّ الصَّحيح لا يُقاوم الضَّعيف.
وذهب أحمد ابن حنبل، وعطاء، وإسحاق: إلى أن التَّيمم ضربة للوجه والكفين إلى الرسغين، وهو قول الطَّبري، والشَّعبي في رواية، والأوزاعي في رواية، فلا يجب عندهم المسح إلى المرفقين، ولا الضَّربة الثَّانية، واستدلوا بحديث الباب.
قلتُ: ولا دِلالة فيه لهم؛ لأنَّ الحديث فيه طيٌّ؛ لأنَّه رُوِي مختصرًا [2] هنا، ورواه الأئمَّة الستة مطولًا، فقوله: (ثُمَّ مسح بهما وجهه وكفيه) يعني: وضرب ضربة أخرى للذِّراعين إلى المرفقين، يدلُّ لهذا: ما قدمنا في حديث أبي داود، عن عمَّار: (فأمر المسلمين فضربوا بأكفهم التُّراب، ولم يقبضوا من التراب شيئًا، فمسحوا وجوههم مسحةً واحدةً، ثُمَّ عادوا فضربوا بأكفهم الصَّعيد مرةً أخرى فمسحوا بأيديهم).
وفي «المعجم الكبير» للطَّبراني: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين، فهذا يدلُّ على أنَّ الحديثَ مختصرٌ، فلا دليلَ لهم فيه على أنَّ ما يُمسح به وجهه يصير مستعملًا، وقد أمر الله تعالى بالصَّعيد الطَّيب، فكيف يَمسح به كفيه؟
وأجيب: بأنَّه يُمكن أنْ يَمسح الوجه ببعض الكفين، والكفين بباقيهما.
قلتُ: وهذا فيه حرج وعُسر، وقد أُمرنا بالتَّيسير، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ففي هذه الكيفية حرج، وهو مدفوع بالنَّص.
وذهب محمَّد بن سيرين: إلى أنَّ التَّيمم ثلاث ضربات: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للكفين، وضربةٌ للذِّراعين، ورُوِي عنه: (ثلاثُ ضرباتٍ الثَّالثة لهما جميعًا).
وقال ابن شهاب الزُهْرِي: (التَّيمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين يَبلغ بها إلى الإباط).
ويدلُّ لهذا: ما رواه أبو داود بسندٍ صحيحٍ مُتصلٍ عن عُبيد الله، عن ابن عباس، عن عمَّار قال: (فقام المسلمون مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فضربوا بأيديهم إلى الأرض، فمسحوا بها وجوههم، وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الإباط).
وفي «المُعجم الكبير» للطَّبراني: (وضربةٌ لليدين إلى المنكبين ظهرًا وبطنًا)، وفي لفظ: (ومن بطون أيديهم إلى الإبط)، وفي لفظ: (إلى المناكب).
قلتُ: وهذا لا يدلُّ لمدعاه؛ لأنَّ الرِّوايات عن عمَّار قد اختلفت، وأصحُّ الرِّوايات عنه ما قدمناه، والمُراد هنا: هو صورة التَّعليم والتَّقريب، وليس المُراد: جميع ما يحصل به التَّيمم، وهذا مخالفٌ لما سبق، ففيهِ دلالة إلى أنَّه انتهى إلى ما عِمَلَهُ النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال ابن أبي حازم: لا يخلو أن يكون حديث عمَّار بأمرٍ أولًا، فإنْ يكن من غير أمرٍ؛ فقد صحَّ عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم خِلافه، وإنْ كان عن أمرٍ؛ فهو منسوخ، وناسِخه حديث عمَّار أيضًا، انتهى، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قلتُ: والظَّاهر: أنَّ هذه الأحاديث المُختلفة المُضطربة المَرويَّة عن عمَّار كانت قبل نُزول آية التَّيمم؛ لأنَّ هذه الصِّفات فعلها عمَّار باجتهادٍ منه، وسأل عنها النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فتوقف النَّبيُّ عن الجواب حتى نزلت آية التَّيمم، وهي تدلُّ على: ضربتين؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين قياسًا على الوضوء، وإتباعًا لما رُوِي في ذلك من الأحاديث التي قدَّمناها؛ فإنَّها تدلَّ على الضَّربتين، والظَّاهر أنَّها كانت آخرًا، فهي ناسخةٌ لما تقدمها من الصِّفات؛ فإنَّ الله تعالى قد أوجب غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء، ثم قال في (التَّيمم): {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، واليد المطلقة هنا هي المقيدة في الوضوء من أوَّل الآية، فلا يُتْرك هذا الصَّريح إلا بدِلالة صريحٍ، ولمَّا كان التَّيمم خلفًا عن الوضوء؛ أعطي حكمه؛ لئلَّا يزيد الخلف على الأصل، فتعيَّن في التَّيمم الاقتِصار على الوجه واليدين إلى المرفقين؛ إعمالًا للخلفية بقدر الإمكان، وعملًا بالأحاديث الواردة.
ورَجَحت رواية: (إلى المرفقين) بما رواه ابن عُمر، وجابر، والأسلع، وغيرهم رضي الله عنه، فإنَّهم حكوا تيمم النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بأنَّه ضرب ضربةً للوجه، وضرب أُخرى لليدين إلى المرفقين، والغاية داخلةٌ في المغيَّا عند الإمام الأعظم والجمهور، وقال الإمام زفر: هي غير داخلة، كما قدَّمناه في (الوضوء).
وفي الحديث دليلٌ على صحة القياس؛ لقول عمَّار: (أمَّا أنا؛ فتمعكت)، فإنَّه اجتهد في صفة التَّيمم ظنًّا منه أن حالة الجنابة تخالف حالة الحدث الأصغر، فقاسه على الغسل، وهذا يدلُّ على أنَّه كان عنده عِلم من أصل التَّيمم، ثُمَّ إنَّه لمَّا أخبر به النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ علَّمه صفة التَّيمم، وأنَّه للجنابة والحدث سواء.
وفيه دليل على جواز التَّيمم من الصخرة
%ص 401%
التي لا غُبار عليها؛ لأنَّه لو كان مُعتبرًا؛ لَما نَفخ عليه السَّلام في يديه.
وفي الحديث دليلٌ على أنَّ النَّفخ مطلوبٌ وهو سُنة أو مُستحب، وقدمنا أنَّه ينفخ مرةً أو مرتين، وظاهر الحديث يدلُّ على الأول.
وفيه دليل على جواز الاجتهاد في عصره عليه السَّلام، وهو قول الجمهور مُطلقًا سواء كانوا غائبين أم حاضرين عنده عليه السَّلام.
وفيه دليل على أنَّ المسافر له أن يطأ جاريته وإن علم أنَّه لا يجد الماء.
وفيه دليل على استحباب تأخير التَّيمم إلى آخر الوقت المستحب؛ لأنَّه ربَّما يجد الماء فيؤدِّي العبادة بأكمل الطَّهارتين، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
اللهم؛ اقض عني الدين، وارزقني رزقًا حلالًا بلا تعب، وفرِّج عني ما أهمَّني، ووفِّق أمَّة نبيك الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما تحب وترضى إنك على ما تشاء قدير.
==========
[1] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (مختصر)، وهو تحريف.
==================
[1] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
(1/580)
(5) [باب التيمم للوجه والكفين]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: ما ذكرنا، وقوله: (التَّيمم) مُبتدأ؛ أي: في بيان أنَّ التَّيمم ضربةٌ واحدة (للوجه)، وقوله: (والكفين) عطف على (الوجه) أي: وخبرُ المُبتدأ محذوف؛ أي: التَّيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، ويقدر بعد ذلك لفظة (جوازًا)؛ يعني: من حيث الجواز؛ وتقديره (وجوبًا)؛ يعني: من حيث الوجوب، والمقصود منه: إثبات أنَّ التَّيمم ضربةٌ واحدةٌ، سواء كان وجوبًا أو جوازًا، ومعنى أحاديث هذا الباب: هو معنى الحديث الذي في الباب السابق، غير أنَّه رُوِي هناك عن آدم، عن شُعبة مرفوعًا، وههنا أخرجه عن سِتة مشايخ؛ كلهم عن شُعبة؛ ثلاثةٌ منها موقوفةٌ، وثلاثةٌ مرفوعةٌ، كما ستقف عليها، كذا قاله إمام الشَّارحين، واعترضَ عليه القسطلاني بأنَّ تقيده بـ (ضربة واحدة) قد عقد له المؤلف بابًا مستقلًّا.
قلتُ: وهذا الاعتراض غير ظاهر، ولا يصدر إلا من مُكابرٍ، فإنَّ أحاديث هذا الباب السِّتة كلُّها صريحةٌ في أنَّ الضربة واحدة؛ لأنَّه لم يذكر غيرها، فهي صريحة بالوحدة على أنَّه هي محلُّ الخِلاف بينها وبين الضربتين، ولو كانت ليست واحدة؛ لبيَّنَ في الأحاديث أنَّها أكثر، واقتصاره فيها على الضرب يقتضي الوحدة، والتَّرجمة لم تُصرح بالضرب أيضًا، ولا أنَّه واحد، فأحال ذلك على الأحاديث التي سيذكرها، كما لا يخفى، وزعم ابن حجر باب (التَّيمم للوجه والكفين) أي: هو الواجب المجزئ، وأتى بذلك بصيغة الجزم مع شُهرة الخِلاف فيه؛ لقوة دليله، فإنَّ الأحاديث الواردة في صفة التَّيمم لم يَصح منها سوى حديث أبي جُهَيْم وعمَّار، وما عداهما؛ فضعيف أو مُختَلفٌ في «الصَّحيحين»، ويذكر المرفِقين في رفعه، ووقفه، والرَّاجح عدم رفعه، أما حديث أبي جُهَيْم؛ فورد بذكر اليدين مجملًا، وأما حديث عمَّار؛ فورد بذكر الكعبين في السُّنن، انتهى.
ورَدَّه إمام الشَّارحين فقال: قلتُ: تقييده بالوجوب لا يُفهم منه أصلًا؛ لأنَّه أعم من ذلك؛ يعني: يشمل الجائز، فإنَّ التَّيمم يكون فرض عينٍ للمحدث، وأراد صلاة الفرض، ويكون فرضًا على الكفاية للمحدث لصلاة الجنازة، ويكون واجبًا للطواف، ويكون مندوبًا للنوم على طهارة، ولمسِّ الكُتب الشَّرعية؛ كالحديث، والفقه، وغير ذلك، فالمُراد: الأعم، وهو مُراد المؤلف؛ حيث أطلق كلامه، فتقييد هذا القائل بالواجب غير صحيح، كما لا يخفى.
وقوله: (لم يَصح منها سوى حديث أبي جُهَيْم وعمَّار) غير مُسلَّم؛ لأنَّا قد ذكرنا أنَّه رَوى فيه عن جابر مرفوعًا: «أنَّ التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين»، وأن الحاكم قال: (إسناده صحيح)، وأن الذهبي قال: (إسناده صحيح)، ولا يُلتفت إلى قول من يمنع صِحته، لا يُقال: (رواه جماعة موقوفًا)؛ لأنَّا نقول: قوله أقوى وأثبت؛ لأنَّه استندَ من وجهين.
قلت: وكذا روى البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ مرفوعًا: «التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين»، وكذا رواه أبو داود بسندٍ صحيحٍ، فكيف يقول هذا القائل: (لم يَصح منها ... ) إلخ؛ ما هذا إلا مُكابرة؟
وقوله: (أمَّا حديث أبي جُهَيْم)؛ فورد بذكر اليدين مُجملًا غير صحيح، ولا يُطلق فيه حدُّ الإجمال، بل هو مطلق يتناول إلى الكفين، وإلى المرفقين، وإلى ما وراء ذلك، ولكن رواية الدَّارقطني في هذا الحديث خصصته وفسرته بقوله: (فمسح بوجهه وذراعيه).
فإن قلت: هذا القائل لم يُرِد الإجمال الاصطلاحي، بل أراد: الإجمال اللُّغوي.
قلتُ: إن كان كذلك، فحديث الدَّارقطني أوضحه وكشفه، انتهى.
قلتُ: وقوله: (وأمَّا حديث عمَّار ... ) إلخ غير صحيح؛ لأنَّ رواية ذكر الكعبين في السنن ضعيفةٌ جدًّا؛ لأنَّ في سنده مجهولين [1]، بل الرواية الصحيحة عن عمَّار، كما رواها أبو داود مرفوعًا إليه عليه السلام: «أنَّه ضرب بيديه الأرض، ثُمَّ نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه»، وكذا أخرجه بقية الستة، وقوله: (والرَّاجح عدم رفعه): غير صحيح، بل الرَّاجح أنَّه: مرفوع، وهو ما عليه الجمهور؛ فليحفظ.
==========
[1] في الأصل: (مجهولان)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 402%
==================
(1/581)
[حديث عمار وفيه: ثم مسح وجهه وكفينه]
339# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا حجاج) هو ابن مِنهال؛ بكسر الميم (قال: أخبرنا شُعبة) هو ابن الحجاج (قال: أخبرني)؛ بالإفراد (الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ العين المهملة، وفي رواية: (عن الحَكَم) (عن ذَرٍّ)؛ بتشديد الراء: هو ابن عبد الله الهمْداني، (عن سَعِيْد) بكسر العين المهملة (بن عبد الرحمن)، وفي رواية: (عن ابن عبد الرحمن) (بن أَبْزَى) بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، وفتح الزَّاي، (عن أبيه) هو عبد الرَّحمن بن أبْزَى، الصَّحابي الخزاعي الكوفي، (قال عمَّار) بتشديد الميم: هو ابن ياسر رضي الله عنه (بهذا) أشار به إلى سياق المتن الذي قبله من رِواية آدم عن شعبة، وهو كذلك إلا أنَّه ليس في رواية حجاج هذه قصة عمر رضي الله عنه؛ فافهم.
وقوله: (وضَرب شعبة) مقول الحجاج (بيديه الأرض)؛ بالتثنية، (ثم أدناهما) أي: قربهما (من فيه) وهو كناية عن النَّفخ، وفيه إشارة إلى أنَّه كان خفيفًا، وفي رواية سليمان بن حرب: (تفل فيهما)، والتفل: دون البزاق، والتفث دونه، قاله أهل اللغة.
==================
قلت: وفيه دليل على أنَّه لم يبق عليهما من الغبار شيئًا؛ لأنَّ النَّفخ أو التَّفل يُزِيل أثرَ التُّراب والغُبار بالكلية، كما لا يخفى.
(ثُمَّ مسحَ بهما وجهه) مستوعبًا فيخلِّل اللحية، ويمسح العذار، والوترة، وما تحت الحاجبين، والموقين، وفيه دليل على أنَّه يُشْترط المسح بجميع اليد أو أكثرها، (وكفيه) إلى الرُّسغين، كما ذهب إليه أحمد، والحسن بن زياد، والجُمهور: على أنَّه بضربتين؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين، وقال الإمام زفر: لا يُشترط مسح المرفقين؛ لِمَا في رواية أبي داود في هذا الحديث عن عمَّار مرفوعًا: (ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نِصف الذِّراع)، وسنده صحيح، وفي لفظٍ: (إلى نصف السَّاعد، ولم يبلغ المرفقين ضربة واحدة)، وفي رواية شك سَلَمَة بن كهيل قال: (لا أدري فيه إلى المرفقين؛ يعني أو إلى الكعبين)، ورواه شعبة عنه: (إلى المرفقين أو الذِّراعين).
قلت: وقدمنا في الباب قبله دلائل المذهب المعظم وبقية الأئمَّة؛ فلا تغفل، قال إمام الشارحين: قد ذكرنا أنَّ البخاري أخرج هذا الحديث في هذا الباب عن ستة من المشايخ؛ الأولُّ: موقوف برواية عن حجاج إلى آخره، وأخرجه الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي قال: حدثنا محمَّد بن خزيمةقال: حدثنا حجاج قال: أخبرنا شعبة قال: أخبرني الحكم، عن ذر، عن عبد الرحمن
%ص 402%
ابن أبْزَى، عن أبيه، عن عمَّار رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال له: «إنَّما يكفيك هكذا»، وضرب شعبة بكفيه إلى الأرض، وأدناهما من فيه، فنفخ فيهما، ثم مسح وجهه وكفيه، ثُمَّ قال الحافظ الطَّحاوي: هكذا قال محمَّد بن خزيمة في إسناد هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبْزَى، وإنَّما هو عن ذَرٍّ عن ابن عبد الرحمن، عن أبيه، زعم ابن حجر أنَّ الطَّحاوي أشار إلى أنَّه وهم فيه؛ لأنَّه أسقط لفظة: (ابن)، ولا بد منها؛ لأنَّ (أبْزَى) والد عبد الرَّحمن لا رواية له في هذا الحديث.
قال إمام الشَّارحين: قلت: رواية محمَّد بن خُزيمة المذكور تُنبئ على صِحة قول من يقول: (إن أبْزَى والد عبد الرَّحمن صحابي)، وهو قول ابن منده؛ لأنَّه جعله من الصَّحابة، وروى بإسناده عن هشام، عن عُبيد الله الرَّازي، عن بكير بن معروف، عن مُقاتل بن حيان، عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن بن أبْزَى، عن أبيه، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أنه خطب للناس قائمًا قال: «ما بال أقوام لا يعلِّمون جيرانهم، ولا يُفقِّهونهم، ولا يَعِظونهم، ولا يأمرونَهم، ولا ينهونَهم ... »؛ الحديث.
ورواه ابن إسحاق ابن راهويه في «المُسند»: عن محمَّد بن أبي سهل، عن بكير بن معروف، عن مقاتل، عن علقمة بن عبد الرحمن بن أبْزَى، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بهذا، وقد ردَّ أبو نعيم عليه وقال: (ذكر ابن مندة أنَّ البُخاري ذكره في كتاب «الوجدان»، وأخرج له حديث أبي سَلَمَة، عن ابن أبْزَى، عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يَقل فيه: عن أبيه)، وقال ابن الأثير: (أبْزَى والد عبد الرَّحمن بن أبزى الخزاعي، ذكره البُخاري في «الوجدان»، ولا تصح له صُحبة، ولا رؤية، ولابنه عبد الرحمن صحبة، ورؤية).
قلتُ: ولذلك لم يذكر أبو عمرو أبزى في الصَّحابة، وإنَّما ذكر عبد الرحمن؛ لأنَّه لم يصح عنده صحبة أبْزَى، ومع هذا وقع الاختلاف في صحبة عبد الرحمن أيضًا، قال ابن حبان: (ذكره في التَّابعين).
وقال أبو بكر بن أبي داود: (لم يحدِّث ابن أبي ليلى من التَّابعين إلا عن ابن أبْزَى).
وقال البُخاري: (له صحبة، وذكره في التابعين).
وقال أبو هاشم: (أدرك النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وصلَّى خلفه، روى عنه ابناه عبد الله، وسَعِيْد) انتهى كلامه.
(وقال النَّضْر) بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة: هو ابن شميل؛ بالمعجمة، وهذا تعليق قد وصله مسلم عن إسحاق بن منصور، عن النَّضر، وأخرجه أبو نعيم في «مُستخرجه» من طريق إسحاق ابن راهويه عنه، وهل هذا التعليق من كلام المؤلف، وقال الكرماني: (قال النَّضْر) من كلام البُخاري، والظَّاهر: أنه عن النَّضْر؛ لأنَّه مات سنة ثلاث ومئتين بالعراق، وكان البُخاري حينئذٍ ابن سبع سنين ببُخارى) انتهى.
(أخبرنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ العين المهملة (قال: سمعت ذرًّا)؛ بالذال المعجمة، والراء: هو ابن عبد الله الهمْداني؛ بسكون الميم (يقول) جملة فعلية محلها النصب على الحال، أو مفعول ثاني لـ (سمعت) على القول به، كما سبق؛ فليحفظ، (عن ابن عبد الرحمن بن أَبْزَى) بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، وفتح الزَّاي، أبهم الحَكَم اسم ابن عبد الرحمن، وقدَّمنا أنَّ لعبد الرحمن ولدين [1]؛ عبد الله، وسَعِيْد، والظاهر: أنَّ المبهم هنا هو سَعِيْد بكسر العين المهملة؛ لأنَّه هو الذي يروي عنه الحكم، وقد سبقت له الرواية في الباب الذي قبله بواسطة، بخلاف أخيه عبد الله؛ فإنه لم تأت الرواية عنه؛ فليتأمل.
(قال الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عتيبة (وقد سمعته من ابن عبد الرحمن عن أبيه) هو أبزى المذكور، وهذا إشارة إلى أنَّ الحكم كما سمع هذا الخبر من ذرٍّ سمعه أيضًا من شيخ ذرٍّ، وهو سَعِيْد بن عبد الرحمن، فكأنَّه سمعه أولًا من ذرٍّ، ثم لقي سَعِيْدًا، فأخذه عنه، ولكن سماعه من ذرٍّ أثبت؛ لوروده، كذا في أكثر الروايات، كذا قاله إمام الشارحين.
قلت: وهذا يعين أن المبهم سَعِيْد، وهو موافق لما قلته، ولله الحمد.
وقال الكرماني: وقوله: (وقال الحكم) يحتمل أن يكون تعليقًا من البخاري، ويحتمل أن يكون من كلام شعبة، فيكون داخلًا في إسناده) انتهى.
قال إمام الشارحين: (قلت: يحتمل أن يكون من كلام النضر، وهو الظاهر) انتهى.
قلت: بل هو الصواب، واحتمال كونه تعليقًا من البخاري بعيد جدًّا؛ لتقدم قوله: وقال النضر عليه، واحتمال كونه من كلام شعبة غير ظاهر، بل الظاهر: أنه من كلام النضر، وهو الصواب؛ فليحفظ.
==================
[1] في الأصل: (ولدان)، ولعل المثبت هو الصواب.
(قال عمَّار) بتشديد الميم: هو ابن ياسر رضي الله عنه (الصعيد الطيب)؛ أي: الأرض الطاهرة، وقدَّمنا أنَّ الصعيد: وجه الأرض كيفما كان (فعيل) بمعنى (مفعول)؛ أي: مصعود عليه، وقال قتادة: (الصعيد: الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر)، وقال أبو إسحاق: (الطيِّب: النظيف)، وقيل: إنه الحلال، وقيل: ما تستطيبه النفس، والجمهور من أهل التفسير، وأهل اللغة، وغيرهم على أنه: الطاهر؛ لأنَّه أليق المعاني به؛ لأنَّ الصعيد إنَّما شرع لأجل التطهير يدل عليه قوله عز وجل: {وَلَكِن [يُرِيدُ] لِيُطَهِّرَكُمْ}
[2] [المائدة: 6]، وهو المراد؛ فإن الطهارة شرط إجماعًا، فلم يبق غيره مرادًا؛ لأنَّ المشترك لا عموم له، ولهذا قال الزجاج: لا أعلم فيه اختلافًا بين أهل اللغة وغيرهم فيه، فثبت أنَّ الصعيد: هو وجه الأرض؛ كحجر، ومدر، ورمل، وتراب، وغيرها، وأنَّ الطيِّب: هو الطاهر، هذا مذهب الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، ومالك بن أنس، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم، وخالفهم الشافعية فزعموا: أنَّ المراد بالصعيد: التراب فقط، فقالوا: (لا يجوز التيمم إلا على التراب)، وتعلقوا بما روي عن ابن عباس: (الصعيد الطيِّب: التراب الخالص)، وبقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه} [النساء: 43]، وهذا لا يدل لمدعاهم؛ فإنَّ الذي روي عن ابن عباس رواه البيهقي من جهة قابوس بن أبي طيبان، عن أبيه، عن ابن عباس قال: (أطيب الصعيد حرث الأرض)، وهو يدلُّ على اشتراط الإنبات، وقد قال شيخهم النووي: الإنبات: غير شرط في الأصح؛ فالاستدلال بهذا الأثر غير موجه؛ لأنَّهم لا يقولون باشتراط الإنبات، وعلى فرض ذلك؛ فهذا الأثر لا يصلح دليلًا مطلقًا؛ لأنَّ الآية مطلقة وهي لا تتقيد بالحديث الذي هو خبر آحاد، فكيف بالأثر؟ وما هذا إلا أوهن من بيت العنكبوت، وأما الآية فهي آية المائدة [3]، والذي في آية النساء ليس فيها لفظة (منه)، فهي جارية على إطلاقها، ولفظة (منه) في الآية الأخرى عائدة على المحدث المذكور في الآية، وتحمل (من) على ابتداء الغاية؛ كقولك: (مسحت)؛ أي: ابتداء المسح، يدلُّ عليه
%ص 403%
==================
[3] في الأصل: (المائة)، ولعله تحريف.
آية النساء بدون (منه)، فيجوز تقدير الالتصاق بإطلاق هذه الآية، وقد قال أهلُ التَّفسير في قوله تعالى: {صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]: أنَّه حجر أملس، فإنَّ التُّراب لا يكون زلقًا، ولهذا لو دُقَّ حجر فتيُممَ بمدقوقه؛ يجوز ولا تفصيل في الآية، فيجرى على إطلاقه، وهذا الشَّرط زيادة على النَّص، فيكون نسخًا، وهو لا يجوز، ويدلُّ لهذا: قوله عليه السلام: «يحشر الناس في صعيد واحد ... »؛ الحديث، وقوله عليه السلام: «جُعِلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا»؛ فالمعنى في الأول: الأرض الواحدة، ففسر الصَّعيد: بالأرض، وهو المراد، والثَّاني: بيان إلى أنَّ وجه الأرض مسجدٌ وطَهور يُتَطهر به، يدلُّ عليه آخر الحديث، وهو: «فأينما أدركتني الصَّلاة؛ تيممت وصليت»، فإنَّه قد تدركه الصَّلاة في مكان لا تراب فيه أصلًا، فهذا دليل على أنَّ المُراد: هو وجه الأرض كيفما كان.
(وَضوء المسلم)؛ بفتح الواو: ما يتوضأ به، ومصدر، فهو مشترك بينهما قيد بالمُسلم؛ لأنَّ الكافر إذا تيمم للصلاة، ثم أسلم؛ لا يصح تيممه، ولا تجوز الصَّلاة بذلك التَّيمم، نَصَّ عليه شيخ الإسلام في «المبسوط»؛ لأنَّ الكافر ليس بأهل النِّية؛ لأنَّها عبادة، والتَّيمم لا يصح بدون النِّية، وعن هذا فرق الإمام أبو يوسف بين نية الإسلام، ونية الصَّلاة، فقال: (يكون مُتيممًا في الأولِ دون الثَّاني؛ لأنَّه أهل للإسلام، فيصح منه نية التَّيمم للإسلام، بخلاف نية الصَّلاة؛ لأنَّه ليس من أهل الصَّلاة، فإذا تيمم وهو مُسلم، ثُمَّ ارتدَّ، ثمَّ أسلم؛ فهو على تيممه، فلا ينتقض بالرِّدة، فيصلي بذلك التيمم، بل الرِّدة تُبطل ثواب العمل؛ لا يحكم بإسلامه).
قال في «البحر»: (الأصل: أنَّ الكافر متى فعل عبادة، فإن كانت موجودة في سائر الأديان؛ لا يكون به مسلمًا؛ كالصَّلاة منفردًا، والصوم، والحجِّ الذي ليس بكامل، والصَّدقة، ومتى فعل ما اختص بشرعنا، فإن كان من الوسائل؛ فكذلك، وإن كان من المقاصد أو من الشَّعائر؛ كالصَّلاة بجماعة، ونحوها؛ يكون به مسلمًا) انتهى.
وفي «منهل الطلاب»: (وإنَّما يُحكم على الكافر بإسلامه إذا صلى بأربعة شروط:
أحدها: أن يصلي في الوقت؛ لأنَّها صلاة المؤمنين، فلو صلى في غير الوقت؛ لا يحكم بإسلامه.
الثاني: أن يكون مع الجماعة، فلو صلى منفردًا؛ لا يحكم بإسلامه؛ لأنَّه غير مختص بشرعنا.
الثالث: أن يصلي مؤتمًّا؛ لأنَّ الائتمام يدلُّ على اتباع المؤمنين، بخلاف ما لو كان إمامًا؛ فإنَّه يحتمل نية الانفراد فلا جماعة.
والرابع: أن يكون متممًا، فلو صلى خلف الإمام، وكبَّر، ثمَّ أفسد صلاته؛ لم يكن مُسلمًا، وكذا يصير مُسلمًا بالحجِّ الكامل، والأذان في المسجد)، وتمامه فيه؛ فليحفظ.
(يكفيه من الماء) يعني: يكفي المُسلم أن يجزئه التَّيمم عند عدم الماء؛ بشرط أن تكون الأرض طاهرة؛ لقوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]؛ يعني: طاهرًا، فالصَّعيد: آلة للتطهير، فلا بد من طهارته في نفسه؛ كالماء، كذا في «الهداية»، فلو تيمم بغبار ثوبٍ نجسٍ؛ لا يجوز إلا إذا وقع ذلك الغبار عليه بعد ما جف، كذا في «فتح القدير» وغيره، ولا بدَّ أن تكون طهارته مقطوعًا بها، فلو تيمم على أرض قد أصابتها نجاسة فجفتوذهب أثرها؛ لم يجز في ظاهر الرِّواية عن الإمام الأعظم، بخلاف الصَّلاة عليها، كذا في «البدائع»، وظاهر كلامهم: أنَّ الأرض التي جفَّت نجسة في حقِّ التَّيمم منها، طاهرة في حقِّ الصَّلاة عليها، والحقُّ أنَّها طاهرة في حقِّ الكلِّ، وإنَّما منع التَّيمم منها؛ لفقد الطُّهورية؛ كالماء المُستعمل طاهر غير طهور، كذا قاله صاحب «البحر».
وهل يأخذ التُّراب حكم الاستعمال؟
ففي «الخُلاصة» وغيرها: (لو تيمم جنبٌ أو حائضٌ من مكانٍ، فوضع آخر يده على ذلك المكان، فتيمم؛ أجزأه، والمستعمل هو التُّراب الذي لاقى الوجه والذِّراعين).
وفي «المحيط»: لو تيمم اثنان من مكان واحد؛ جاز؛ لأنَّه لم يصر مُستعملًا؛ لأنَّ التَّيمم إنَّما يتأدَّى بما التزق بيده لا بما فضل؛ كالماء الفاضل في الإناء بعد وضوء الأول، كذا في «منهل الطُّلاب».
340# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا سُليمان بن حرب) بالحاء المهملة، والراء، والموحدة: هو الأزدي الواشحي؛ بمعجمة، ثم مُهملة، البصري قاضي مكة (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ العين المهملة، (عن ذرٍّ) بالذال والرَّاء: هو ابن عبد الله الهمْداني؛ بسكون الميم، (عن ابن عبد الرحمن بن أَبْزَى)؛ بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، وبالزاي، وهو سَعِيْد بن عبد الرَّحمن، (عن أبيه) هو عبد الرحمن بن أبزى المذكور: (أنَّه) أي: عبد الرَّحمن (شَهِد) أي: حَضَر (عُمر) هو ابن الخطاب أمير المؤمنين رضيَ الله عنه، (وقال له) أي: لعُمر (عمَّار)؛ بتشديد الميم: هو ابن ياسر، والجملة محلها نصب؛ لأنَّها وقعت حالًا (كنَّا في سرِيَّة)؛ بتخفيف الراء، وتشديد المثناة التحتية: وهي القطعة من الجيش، يبلغ أقصاها أربع مئة يُبعث إلى العدو، وجمعها السَّرايا، سُموا بذلك؛ لأنَّهم يكونون خُلاصة العَسكر وخيارهم، من الشَّيء السِّري؛ وهو النَّفيس، وقيل: سُموا بذلك؛ لأنَّهم يبعثون سِرًّا وخُفْيةً، وليس هذا بالوجه؛ لأنَّ (لام) السِّر (راء)، وهذه ياء، قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
(فأجنبنا)؛ أي: صارَ جُنبًا، والجُنب يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، مذكرًا ومؤنثًا، كما قدمناه، (وقال) أي: عمَّار، أو عبد الرَّحمن الرَّاوي، وهذا هو الظَّاهر؛ فليحفظ: (تفل فيهما)؛ أي: في اليدين، وهو بالمثناة الفوقية، قال الجوهري: التَّفل: شبيه بالبزق، وهو أقلُّ منه، وأوله البزق، ثم التفل، ثم التفث، ثم النفخ، والمقصود منه: أنَّه قال مكان (نفخ فيهما): (تفل فيهما)؛ يعني: حين ضرب عمَّار بيديه الأرض؛ لأجل التيمم من الجنابة؛ تفل فيهما؛ لئلا يعلق فيهما شيء من الحجر الصغير، والتراب، وغيرهما؛ لئلا يتلوث وجهه، فيصير مثلة، ولا يخفى أنَّ التَّفل لا يبقي من التراب شيئًا على اليدين، بل ولا من الغبار؛ لأنَّه نفخٌ شديدٌ، فيزول ذلك عنهما بالكليَّة؛ فافهم.
==================
وهذه روايته الثَّالثة، وأفادت: أنَّ عُمر رضي الله عنه كان قد أجنب، والدَّليل عليه: أنَّ اجتهاده خالف اجتهاد عمَّار؛ لأنَّ عمارًا [4] قد تيمم عن الجَنابة، وعمر لم يتيمم منها؛ لأنَّ عنده أنَّ الجنابة لا يجوز فيها غير الماء، كما قدمناه مفصلًا.
341# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا ابن كثير)؛ بالمثلثة: هو مُحمَّد (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ أوله، (عن ذرٍّ)؛ بالذَّال، والرَّاء: هو ابن عبد الله الهمْداني، (عن ابن عبد الرَّحمن بن أبْزَى) هو سَعِيْد؛ بكسر العين المُهملة، بن عبد الرَّحمن، (عن أبيه) هو عبد الرَّحمن ابن أبْزَى المذكور (قال: قال عمَّار)؛ بتشديد الميم: هو ابن ياسر (لعمر) هو ابن الخطاب رضي الله عنهما: (تمعَّكت) وفي رواية: (تمرَّغت)؛ ومعناه: تقلَّبت، وفي الرِّواية السَّابقة: (تمرَّغت كما تتمرَّغ الدَّابة)؛ يعني: حين صار جُنبًا، قال عمَّار: (فأتيت النَّبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: في المدينة المنورة، فأخبره بما وقع له في سفره مع سيدنا عُمر، وأنَّه فعل بخِلاف ما اجتهده عُمر، (فقال) أي: النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم له: (يكفيك الوجه) أي: يكفيك مسح الوجه (والكفين) أي: مسحهما في التيمم، و (الكفين)؛ بالنَّصب رواية أبي ذرٍّ، وكريمة، وفي رواية الأصيلي وغيره: (والكفان)؛ بالرَّفع، وهو الظَّاهر؛ لأنَّه معطوف على (الوجه)، وهو مرفوع على الفاعلية، والأحسن في وجه النصب: أن تكون (الواو) بمعنى: مع؛ أي: يكفيك الوجه مع الكفين، كذا قاله إمام الشارحين، وزعم الكرماني: أن (الواو) بمعنى: مع، أو الأصل مسح الوجه والكفين، فحُذِف المُضاف، وبقي المجرور به على ما كان عليه.
قال إمام الشَّارحين: قلتُ: على قوله هذا ينبغي أن يكون (الوجه) أيضًا مجرورًا؛ كـ (الكفين)، وهذا أوجه إن صحت الرِّواية به) انتهى.
قلت: لم تصح الرَّواية بهذا عن أحد من الرُّواة مع ما فيه من التَّكليف الذي هو غير مُحتاج إليه؛ فليحفظ.
لكنْ ذكر القسطلاني: أنَّه قيل: رُوِي (الوجهِ والكفينِ)؛ بالجر فيهما، ووجهه ابن مالك بوجهين؛ أحدهما: أن الأصل: يكفيك مسح الوجه، فحذف المضاف، وبقي المجرور به على ما كان عليه، والثَّاني: أن تكون (الكاف) من (يكفيك) حرفًا زائدًا؛ كما في: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ورده الدماميني، فقال: يدفعه كتابة (الكاف) متصلة بالفعل؛ أي: بقوله: (يكفي) انتهى.
قال القسطلاني: (والظَّاهر: ثبوت الجر رواية، فإنَّه ثابتٌ مع بقية الأوجه في «الفرع» المقابلة على نسخة اليونيني، وإنَّ ابن مالك حضره عند سماع البُخاري عليه) انتهى.
قلتُ: ولم يُصرِّح ابن مالك بأنَّ الجر ثابت، وتوجيهه هذا من جهة العربية لا يدل على ثُبوته، وثُبوته في الفرع المقابل لا يدلُّ على ثبوته؛ لاحتمال التَّحريف في الفرع، وعدم المقابلة سهوًا؛ فتأمل.
وزَعم ابن حجر في رواية أبي ذرٍّ: (يكفيك الوجه
%ص 404%
والكفين)؛ بالنَّصب فيهما على المفعولية بإضمار (أعني)، أو التقدير: يكفيك أنْ تمسح الوجه والكفين.
وردَّه إمام الشَّارحين؛ حيث قال: (قلتُ: هذا كلام من ليس له مس من العربية؛ لأنَّ التَّقدير الأول: يبقي الفعل ثلاثًا بلا فاعل، وهو لا يجوز، وفي الثاني: أخذ فاعله؛ فلا يحتاج إلى هذا التقدير؛ لعدم الدَّاعي إلى ذلك، والوجه ما ذكرناه) انتهى كلامه.
ثُمَّ قال: ويُستنبط منه: أنَّ التَّيمم: هو مسح الوجه والكفين لا غير، وإليه ذهب جماعة؛ منهم: أحمد ابن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وهو قول الشَّافعي في القديم، رواه عنه أبو ثور، كما قاله النَّووي، وأنكره الماوردي وغيره، قال: (وهو إنكار مردود؛ لأنَّ أبا ثور ثِقة) انتهى.
والجُمهور على خلاف هذا كما بيناه فيما سبق.
قال إمام الشَّارحين: والمراد من هذا الحديث: بيان صورة الضَّرب؛ للتَّعليم، لا لبيان جميع ما يحصل به التَّيمم) انتهى.
قلتُ: يدلُّ عليه الأحاديث التي قدمناها من أنَّه عليه السَّلام قال: «التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المِرفقين»، وقياسًا على الوضوء، فإنَّه تعالى قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}
==================
[النساء: 43]، واليد: من رؤوس الأصابع إلى الكتف، والغاية في الوضوء دلت على الغاية في التيمم، و (الكفُّ) لا يقال له: يد عند أهل اللُّغة وغيرهم، فثبت أن المُراد بهذا: بيان التَّعليم، لا بيان الكيفية؛ فليحفظ.
وزَعمَ ابن حجر أنَّ سياق الكلام يدلُّ على أنَّ المُراد: جميع ما يحصل به التَّيمم؛ لأنَّ ذلك هو الظَّاهر من قوله: «إنَّما يكفيك»، انتهى.
قلتُ: وهذا مردودٌ، فإن سياق الحديث يدلُّ على التَّعليم؛ لأنَّ في مَعْرِض ذلك؛ لأنَّ عمَّارًا قد فعل التَّمعك، وحين جاءه عليه السَّلام قال له: «إنَّما يكفيك ... »؛ إلخ، فهو بيان للتَّعليم، لا بيان وجه الكيفية، ولو كان مراده بيان الكيفية؛ لكان ضرب النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يديه الأرض، وأراه صفة التَّيمم، فعبَّر عليه السلام بالكفين مجازًا عن اليدين؛ لأنَّهما أول اليدين، فعبَّر بالبعض عن الكُلِّ، ولهذا نظائر في لسان العرب وكلامهم.
وقوله: (لأنَّ ذلك هو الظَّاهر) غير ظاهر، بل هو فاسد؛ لأنَّه إذا كان في ذلك أحاديث كثيرة؛ بعضها مرفوع، وبعضها موقوف؛ كيف يعدل عنها إلى هذا مع مخالفته القرآن العظيم، وأفعال الصَّحابة رضي الله عنهم؟!
ومع هذا قال الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي وغيره: (إن حديث عمَّار لا يَصلُح حجَّة في كون التَّيمم إلى الكفين، أو إلى الكوعين، أو إلى المرفقين، أو إلى المنكبين، أو إلى الإبطين، كما ذهبت إلى كلِّ واحدة طائفةٌ من أهل العلم، وذلك لاضطرابه كما رأيت؛ ولذلك قال التِّرمذي: (وقد ضعَّف بعض أهل العلم حديث عمَّار في التيمم للوجه والكفين كما روي عنه حديث المناكب والإباط) انتهى.
قلت: ولم يُنقل عن أحد من أهل العلم أنَّه ضعَّف رواية عمَّار في التَّيمم للوجه واليدين إلى المرفقين؛ لأنَّها رُوِيت مرفوعة إلى النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بأسانيد صحيحة؛ لأنَّها موافقة للقرآن الكريم، وقد رُويت أيضًا موقوفة، ورُويت آثار كثيرة عن الصَّحابة والتَّابعين فيها، وإذا انضمت الطُّرق بعضها إلى بعض؛ تقوَّت غاية التقوِّي، فلا سبيل إلى العُدول عنها، وقد بسطنا الكلام عليه في الباب السَّابق؛ فليحفظ.
342# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا مُسلم) هو ابن إبراهيم الفراهيدي البَصريُّ (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ العين المهملة، (عن ذرٍّ) هو ابن عبد الله الهمْداني، (عن ابن عبد الرَّحمن بن أبْزَى) هو سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة، (عن عبد الرَّحمن) هو ابن أبْزَى، ووالد سَعِيْد المذكور (قال: شهدت) أي: حَضَرت (عُمر رضي الله عنهما) هو ابن الخطَّاب أمير المؤمنين رضي الله عنه (قال) وفي رواية: (فقال) (له) أي: لعُمر (عمَّار) هو ابن ياسر، والجملة محلها نصب؛ لأنَّها حالية، (وساق الحديث)؛ الألف واللام لـ (العهد)؛ أي: المذكور آنفًا، وهذه روايته الخامسة.
343# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا محمَّد بن بشَّار) بالموحدة، وتشديد المعجمة (قال: حدثنا غُنْدَر)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، وهو لقب محمَّد بن جعفر البَصري (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ أوله، (عن ذرٍّ) هو ابن عبد الله الهمداني، (عن ابن عبد الرَّحمن بن أبْزَى) هو سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة، (عن أبيه) هو عبد الرَّحمن بن أبْزَى المذكور: (قال عمَّار) بتشديد الميم: هو ابن ياسر (فضرب النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) حين أخبره بما فعله في السفر (بيده) بالإفراد (الأرض) أي: وجهها (فمسح وجهه وكفيه)؛ يعني: بيد واحدة، ولا ريب أنه يصير مستعملًا وليس له وجه غير أنَّه مُضطرب الرِّواية، فلا يَصْلُح حجَّة أصلًا، ولم يسق المؤلف هذا الحديث تامًّا من رواية أحد من أشياخه الستة المذكورين، ولم يذكر جواب عُمر، وليس ذلك من المؤلف، وأخرجه البيهقي من طريق آدم كذلك، وذكر جوابه مسلم من طريق يحيى بن سَعِيْد، والنَّسائي من طريق حجاج بن محمَّد؛ كلاهما عن شُعبة، ولفظهما فقال: (لا تُصلِّ)، زاد السَّراج: (حتى تجد الماء)، وهذا مذهب عُمر، ووافقه عليه ابن مسعود، ولكن قدمنا أنهما رجعا عن ذلك كله، وقالا بجواز التَّيمم عن الجَنابة، كما قدمناه مفصَّلًا؛ فافهم.
والظاهر: أن المؤلف أراد بتعدد الرِّواية: بيان تعدد أشياخه في هذا الحديث كما هو عادته في جملة من الأبواب، وليس مُراده: التَّقوية؛ لما علمت من نصِّ الحافظ الطحاوي وما قاله الترمذي، وقد مضى الكلام في ذلك مستوفًى، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
(1/582)
(6) [باب الصَّعيد الطَّيِّب وضوء المسلم يكفيه من الماء]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (الصَّعيد)؛ مبتدأ فعيل بمعنى: مفعول؛ أي: يُصعد عليه، أو فعيل بمعنى: فاعل؛ أي: صَاعدًا، وهذه الأشياء صاعدة فيعم جميع وجه الأرض لا خلاف [1] فيه بين أهلِ اللُّغة، كما قاله الأصمعي، والزجاج، (الطَّيِّب) صفة للمبتدأ: وهو الطَّاهر؛ لقوله تعالى: {حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]؛ يعني: طاهرًا، ولقوله عليه السَّلام: «إن الله طيِّب يحب الطَّيِّب»، وهذا أليق المعاني به؛ لأنَّه قال تعالى في آخر الآية: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}
[2] [المائدة: 6] (وَضوء المسلم)؛ بفتح الواو: ما يُتَوضأ به؛ يعني: ما يُطهره، بخلاف الكافر، فإنه إذا تيمم؛ لا يكون به مُسلِمًا؛ يعني: لم يُطهره، فلو أسلمَ، وهو مُتيمِّم، وأراد الصَّلاة بذلك التَّيمم؛ لا تصح به الصَّلاة إلا أن يجدِّده كما قدمناه، (يكفيه) أي: يُجزئه، ويُغنيه، (عن الماء) عند عدمه حقيقة أو حكمًا؛ كمن وجده في بئر وليس عِنده آلة أو عِنده حيَّة، أو عدوٌّ، أو غيرها.
قال إمام الشَّارحين: (ومثل هذه التَّرجمة روى البزار من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وصححه ابن القطان).
وقال الدَّارقطني: الصواب: إرساله، وروى أبو داود من حديث أبي قِلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذرٍّ قال: (اجتمعت
%ص 405%
غنيمة عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ... )؛ الحديث، وفيه: فقال: «الصَّعيد الطَّيِّب وَضوء المسلم، ولو إلى عشر سنين»، ورواه التِّرمذي أيضًا، وقال: (حديثٌ حسنٌ صحيحٌ)، ورواه النَّسائي، وابن حِبَّان في «صحيحه»، والحاكم في «مُستدركه»، وقال: (حديثٌ صحيحٌ)، ولم يخرجاه ولا يُلتفت إلى تضعيف ابن القطان لهذا الحديث بعمرو بن بجدان؛ لكون حاله لا يعرف، ويكفي تصحيح التِّرمذي إياه في معرفة حال عمرو بن بجدان، وكذا تصحيح الحاكم، و (بُجْدان)؛ بضمِّ الموحدة، وسكون الجيم، بعدها دال مهملة، وفي آخره نون، وقوله في الحديث: (ولو إلى عشر سنين) المُراد بها: الكثرةُ، لا العشرة بعينها، وتخصيص العشرة؛ لأجل الكثرة؛ لأنَّها مُنتهى عدد الكثرة؛ والمعنى: أنَّ له أن يفعل التَّيمم مرةً بعد أخرى وإن بلغت مدةُ عدم الماء إلى عشر سنين، وليس معناه: أنَّ التَّيمم دفعة واحدة يكفيه عشر سنين، كما قد يتوهم، قاله إمام الشَّارحين في «عُمدة القَاري» رحمه الكريم الباري.
(وقال الحسن) هو البصري (يُجزئه)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، وبالهمزة، وفي آخره هاء، من الإجزاء، وهو لغةً: الكِفاية، وفي الاصطلاح: الأداء الكافي لسقوط التعبد به، وفي رِواية: (يجزيه)؛ بفتح المثناة التحتية الأولى، وسكون الثانية، وقال الجوهري: (جزأت بالشيء: اكتفيت به، وجزى عني هذا؛ أي: قضى، فهو على التَّقديرين لازم، فلعلَّ التَّقدير يقضي عن الماء) (التَّيمم) فحذف الجار، وأوصل الفعل، وعلى التقدير الأول: يكفيه التَّيمم الواحد، (ما لم يحدث)؛ أي: مدة عدم وجود الحدث، والقصد من هذا: أنَّ التَّيمم حُكمه حُكم الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به، والنَّوافل ما لم يحدث بأحد الحدثين، وهو قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وبه قال الإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد بن الحسن، وسُفيان الثَّوري، وعَطاء، وإبراهيم، وسَعِيْد بن المُسيِّب، والزُّهْرِي، والحسن بن حيٍّ، وداود بن عليٍّ، وهو المنقول عن ابن عباسٍ رضيَ الله عنهما، وهذا التَّعليق وصَله ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: (لا ينقض التيمم إلا الحدث)، وحكاه أيضًا عن إبراهيم، وعطاء.
ووصَله أيضًا عبد الرزاق، ولفظه: (يجزئ تيمم واحد ما لم يُحْدِث).
ووصَله أبو منصور أيضًا، ولفظه: (التَّيمم بمنزلة الوضوء إذا توضأت؛ فأنت على وضوء حتى تُحْدث).
وقال ابن حزم: روينا عن حمَّاد بن سَلَمَة _يعني: من «مُصنفه» _عن يونس بن عُبيد، عن الحسن قال: (يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد؛ مثل الوضوء ما لم يُحْدِث).
قلتُ: وهذا أوضح وأصرح مما قاله المؤلف عنه؛ لأنَّه صريح في أنَّ التَّيمم مثل الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به والنَّوافل ما لم يحدث بحدث ما، وهذا مذهب الجُمهور، وخالفهم الشَّافعية فزعموا أنَّه يتيمم لكل صلاة فرض، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، وقَتادة، وربيعة، ويحيى بن سَعِيْد الأنصاري، وشريك، والليث بن سعد، وأبي ثور؛ لما رواه البيهقي عن ابن عُمر قال: (تيمَّم لكل صلاة ما لم تحدث)، وقول علي الصدِّيق الأصغر: (تيمَّم لكل صلاة)، رواه البيهقي أيضًا.
وروى الدَّارقطني عن ابن عباس أنَّه قال: (من السُّنة ألَّايُصلي بالتيمُّم أكثر من صلاةٍ واحدة)، وروي مثله عن عمرو بن العاص؛ ولأنَّ التَّيمم طهارة ضرورية، فإنَّ التُّراب ملوث في نفسه، ولهذا يعود حكم الحدث السابق عند رؤية الماء، فلم يرتفع الحَدث؛ لأنَّه لو ارتفع الحَدث؛ لم يعد إلا بحَدث جديد، ولكنْ أُبِيحت الصَّلاة للضرورة، فإذا صلى الفرض؛ فقد انتفت الضَّرورة، ولا تعود إلا بمجيء وقت آخر، وهي في حق النوافل دائمة؛ لدوام مشروعيتها، فتبقى بالنسبة إليها.
وأجيب: بأنَّ هذه الآثار كلها ضعيفة لا يُحتج بها، فإنَّ في:
سند الأوَّل: عمَّار [3]، فقد ضعفه ابن عُيينة، وأحمد ابن حنبل، وقال ابن خزيمة: (الرِّواية فيه عن ابن عُمر لا تَصُح).
وفي سند الثَّاني: الحارث الأعور، وهو ضعيف.
وفي سند الثَّالث: الحسن بن عمارة، فقال جماعة: هو مَتروك، وقد تكلَّموا فيه، وذكره مسلم في مقدمة كتابه في جملة من تكلم فيه، رواه عنه أبو يحيى الهمداني [4]، وهو متروك.
وفي سند الرَّابع: الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، ومع هذا فإن ظاهرها متروك؛ لأنَّهم يجوزون أكثر من صلاة واحدة من النوافل مع الفرض تبعًا له بشرط أنْ يُتيمَّم له، فلو تيمَّم لصلاة النفل؛ لا يجوز أن يؤدي الفرض به، وعلى عكسه؛ يجوز، وما هذا إلا تناقض على أنَّ قول ابن عباسٍ، وعَمرو بن العاص: (من السُّنة ألَّا يُصلي ... ) إلخ يدلُّ على النَّدب، والاستحباب لا الافتراض؛ لأنَّه جعل هذا من السُّنة، فإذا كان ذلك سُنة؛ جاز أن يؤدي به أكثر من فرض، ويكون تاركًا للسُّنة، وأيضًا صَريح هذه الآثار يدلُّ على تعميم النَّوافل أيضًا، فإنَّهم قالوا: لكلٍّ صلاة، وصلاة النَّفل صلاة شرعًا وعُرفًا، فكيف يفرقون؟!، وما هذا إلا قول بالرَّأي الغير السَّديد، ولأن اعتبار الحدث مانعية عن الصَّلاة شرعية لا يشكل معه أنَّ التَّيمم رافع؛ لارتفاع ذلك المنع به، وهو الحقُّ إذ لم يقم على أكثر من ذلك دليل، وتغير الماء برفع الحدث إنَّما يستلزم اعتباره نازلًا عن وصفه الأوَّل بواسطة إسقاط الفرض لا بواسطة إزالة وصف حقيقي مُدنَس.
والدَّليل لما قاله الجُمهور: إنَّ الصَّعيد طَهور بشرط عدم الماء بالنَّص وهو قوله تعالى: {فَلَمْ [5] تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وقوله عليه السَّلام: «الصَّعيد الطَّيِّب وُضوء المُسلم ولو إلى عشر سنين»، كما قدمناه قريبًا، وقوله عليه السَّلام: «التُّراب طُهور المُسلم ولو إلى عشر حِجج ما لم يجدِ الماء»، رواه الشَّيخان، وقوله عليه السَّلام: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، رواه الشَّيخان أيضًا.
فلو قلنا: بأنَّه غيرَ طهور حالَ عدم الماء؛ لما تحقَّقت الخصوصيَّة؛ لأنَّ طهارةَ الأرض بالنَّسبة إلى سائر الأنبياء ثابتة، وإذا كان مطهرًا، فتبقى طهارته إلى وجود غايتها؛ وهو وجود الماء، والمعنى فيما قبله: أن للمحدث أن يصلي بالتَّيمم مرة بعد أخرى ولو إلى عشر سنين ما لم يُحدث أو يَجدِ الماء، ولأن هذه الآية والأحاديث مطلقة، فلا يجوز تقيدهابخبر الواحد، فكيف بالأثر؟ ومع هذا، فالآثار المذكورة أوهى من بيتِ العنكبوتِ، فكل ما هو طهورٌ بشرطِ؛ يعملُ عمله ما دامَ على شرطه؛ كالماءِ فإنه طهور بشرط كونه طاهرًا، ويعمل عمله ما دام شرطه موجودًا.
فإن قلتَ: هذه العبارة تقتضي أن يكون وجود الشرط مستلزمًا؛ لوجود المشروط، وليس كذلك؟
قلتُ: الشَّرط إذا كان مساويًا للمشروط؛ استلزمه وهنا كذلك، فإن كلَّ واحد من عدم الماء وجواز التَّيمم مساوٍللآخر لا محالة، فجاز أن يسلتزمه، وتمامه في «البحر الرائق» شرح «كنز الدقائق» للعلامة المحقق زين الدين
%ص 406%
بن نجيم رضيَ الله عنه، وقد طوَّل الكرماني في الاحتجاج للشَّافعيِّ، ومن تبعه في هذا من طريق العقل، والنقل يبطله؛ فافهم.
(وأَمَّ ابن عباس)؛ بفتح الهمزة، من الإمامة؛ أي: صلى إمامًا بأصحابه (وهو متيمم) كما وصله ابن أبي شيبة، والبيهقيُّ أيضًا بإسنادٍ صحيحٍ، ووجه مناسبة هذا للترجمة من حيث إن التَّيمم وضوء المسلم، فإذا كان كذلك؛ يجوز إمامة المتيمم للمتوضئ؛ كإمامة المتوضئ، فدلَّ ذلك: على أن التَّيمم طهارة مطلقة غير ضروريَّة؛ إذ لو كان ضروريًّا؛ لكان ضعيفًا، ولو كان ضعيفًا؛ لما أَمَّ ابن عباس وهو متيمم بمن كان متوضئًا، وهذا مذهب الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، وبه قال الثَّوري، وإسحاق، والشَّافعي، وأحمد، وأبو ثور، وكَرِه مالك، وعبد الله بن الحسن ذلك، فإن فعل؛ أجزأه، وقال الإمام محمَّد بن الحسن: لا يجوز اقتداءُ متوضئٍ بمتيمم، وبه قال يحيى بن الحسن، والحسن بن يحيى، والأوزاعي، وربيعة، ويحيى بن سَعِيْد الأنصاري، واستدلَّ الإمام الأعظم، والجمهور بحديث عمرو بن العاص رواه ابن شاهين بإسناد صحيح: أنَّه عليه السَّلام جعله أميرًا على سَرِية، فلمَّا انصرفوا؛ سألهم عن سيرته، فقالوا: كان حسن السيرة، ولكنه صلى بنا يومًا وهو جنب، فسأله النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: احتلمت في ليلة باردة خشيتُ الهلاكَ إن اغتسلت، فتلوت قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فتيممت، وصلَّيت بهم، فتبسَّم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال: «يا لك من فقه عمرو بن العاص!»، ولم يأمرهم بالإعادة، وقال أبو طالبٍ: سألت أبا عبد الله عن الجنب يؤمُّ المتوضئين، قال: نعم، قد أَمَّ ابن عباس أصحابه وفيهم عمَّار بن ياسر وهو جنب فتيمم، ولأنَّه طاهر اقتدى بطاهر، فإن التَّيمم عندَ عدمِ الماءِ مُطهر، والعدم ثابت في حق الكل؛ فتكون طهارته ثابتة في حقهم، ولأنَّ الصعيد خلف عن الماء في حصول الطهارة، فبعد حصولِ الطهارةِ كان شرط الصَّلاة موجودًا في حق كل واحد منهم بكماله، فصار بمنزلة الماسح يؤمُّ الغاسلين، واستدلَّ الإمام محمَّد بن الحسن، ومن تبعه بما رُوِي عن جابر مرفوعًا: «لا يؤمُّ المتيمم المتوضئين»، وبما روي عن علي الصدِّيق الأصغر موقوفًا: «لا يؤمُّ المتوضئين المتيممون»، ولا المقيد المطلقين، وبما ذكره ابن شاهين من حديث الزُهْرِي عن ابن المسيِّب عن عمر بن الخطاب مرفوعًا: «لا يؤمُّ المتيمم المتوضئين»، ولأن التَّيمم طهارةٌ ضروريةٌ، وهو خلف عن الوضوء، فيكون المتيمم صاحب الخلف، والمتوضئ صاحب الأصل، فلا يؤمُّه؛ لأنَّه أضعف منه.
وأجاب الجمهور: بأنَّ ما رُوي عن جابر وعليٍّ ضعيف، فقد ضعفهما الدَّارقطنيُّ، وابن حزم، وغيرهما، وما ذكره ابن شاهين عن الزُهْرِي ضعيفٌ أيضًا، (ولئن صح هذا عنهم؛ فيحملُ أن يكونَ حديثُ عمرو بن العاص ناسخًا للثلاثة؛ لأنَّه صحيح الإسناد، ويحتمل أن يكون النهي في ذلك لضرورة وقعت مع وجود الماء)، قاله ابن شاهين.
قلت: ويحتمل أن يكون النهي لنفي الفضيلة والكمال، بدليلِ عطف المقيد عليه، وهناك المراد: نفي الفضيلة إجماعًا، واعترض: بأن حديث عمرو بن العاص رخصة له؛ لأنَّه لم ينهه ولم يأمره بالإعادة.
وأجيب: بأنه ليس من الرخصة في شيءٍ؛ لأنَّه لو كان رخصةً له دون غيره؛ لم يقل له النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: أحسنتَ، وتبسَّم في وجهه، وقال له: «يا لك من فقه عمرو بن العاص!»، فقد جعل هذا من الفقه وهو عامٌّ له ولغيره، ولأنَّ التَّيمم طهارةٌ مطلقة فيما شرع طهارةفي حقه؛ وهو أداء الصَّلاة، وما يتوقف صحته على الطهارة، وإلى هذا الإطلاق أشير في قوله عليه السَّلام: «جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ... »؛ الحديث، فتيمم الإمام بعد تحقق شرطه طهارة مطلقة في حقه وحق المقتدي؛ لأنَّه كالوضوء في حقِّ أداء الصَّلاةِ، فلا يمنعُ صحة اقتدائهِ به، كما لو كان متوضئًا حقيقةً، واستعمال المقتدي الماء لا يصير الماء موجودًا في زعمه، فكان الإمام طاهرًا في زعمه بخلاف ما لو كان معه ما لا يشعر به إمامه، فإن الشَّرط لم يوجد في زعمه، انتهى.
وقد أوضح المقام في «معراج الدراية»؛ فليحفظ.
وزَعم ابن حجر أنَّ هذه المسألة وافق فيها الكوفيون، والجمهور على خلاف ذلك، واحتجَّ المصنف لعدم الوجوب بعموم قوله في حديث الباب، فإنه يكفيك ما لم تحدث أو تجد الماء، وحمله الجمهور: على أعمَّ من ذلك؛ أي: لفريضةٍ واحدة، وما شئتَ من النَّوافلِ، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: «إن هذه المسألة ... » إلى آخره: هذا عكس القضية، بل الجمهور على الموافقة، يقف عليه من يمعن النظر في الكتب).
وقوله: (واحتج المصنف ... إلى آخره) ليس كذلك، بل معنى قوله: «فإنَّه يكفيك»؛ أي: في كل الصلوات فرضها ونفلها، وهذا هو معنى الأعمِّية، وليس في قوله: (لفريضةٍ واحدةٍ وما شئتَ من النَّوافل) معنى الأعمِّية، فإن معنى الأعمِّية: أن يكون شاملًا لجميعِ أفرادِ ذلك الشيء، وليس لقوله: (لفريضة واحدة) إفراد، وأما (النوافل)؛ فإنه تبع للفرض، والتَّابع ليس له حكمٌ مستقلٌ، بل حكمه حكم المتبوع؛ فافهم) انتهى كلامه رحمه الباري.
وهذا ابن حجرٍ لا بدَّ أن يجعلَ له في الطنبور نغمةً حتى يُظهرَ علمه، وفهمه، وبلاغته، ألا والعلم عند الله، وما علي إذا لم تفهم البقر؟! وفوق كل ذي علمٍ عليم.
(وقال يحيى بن سَعِيْد)؛ بكسر العين المهملة: هو الأنصاري: (لا بأس بالصَّلاة)؛ أي: المفروضة، والواجبة، والنافلة (على السَبَخَة)؛ بفتح حروفها كلها، واحدة السِبِاخ، فإذا قلت: أرض سَبِخة؛ كسرت الموحدة، وقال ابن سيده: (هي أرض ذات ملحٍ وَتَرٍ، وجَمعُها سِبَاخ، وقد سبَخَت سبخًا، فهي سبخة، وأسبخت)، وقال غيره: (هي أرض تعلوها ملوحة لا تَكادُ تنبت إلا بعضَ الشَّجر)، وفي «الباهر» لابن عديس: (سبخت؛ بكسر الموحدة، وفتحها)، في «شرح الموطأ» لعبد الملك بن حبيب: (السبِخة: الأرض المالحة التي لا تنبت شيئًا، وليست الردعة، ولا الرداع، كما يقول من لا يعرف)، كذا في «عمدة القاري»، (والتيمم بها) أي: بتلك الأرض، والتعبير بلا بأس يفيد أنَّ:
%ص 407%
الصَّلاة والتيمم على غيرها أولى؛ لاحتمال أنَّها أرض غضب [6] الله عليها، أو على أهلها، أو كانت مسكن أهل الشرك والطغيان، أو كانت مسكن قوم عاد، أو غيره ممن أهلكهم الله تعالى، فإن كانت كذلك؛ فالصَّلاة والتيمم عليها مكروهة، كما نص عليه علماؤنا الأعلام، وإن كانت غير ذلك؛ فلا كراهة فيها، وحكمها حكم بقية الأرض؛ فافهم.
قال إمام الشارحين: (ومطابقة هذا للترجمة من حيث إن معنى الطيِّب الطاهر والسبخة طاهرة، فتدخل تحت الطيِّب، ويدل عليه ما رواه ابن خزيمة من حديث عائشة رضي الله عنها في شأن الهجرة أنَّه عليه السلام قال: أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخيل)؛ يعني: المدينة، قال: وقد سمَّى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة طيِّبة، فدل على أن السبخة داخلة في الطيِّب، ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء إلا إسحاق بن راهويه، انتهى.
==================
[3] في الأصل: (عامر)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (الهماني)، ولعله تحريف.
[5] في الأصل: (فإن لم)، وليس بصحيح.
(1/583)
[حديث: كنا في سفر مع النبي وإنا أسرينا]
344# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) زاد في رواية: (ابن مسرهد) (قال: حدثنا) وفي رواية: (حدثني)؛ بالإفراد: (يحيى بن سَعِيْد)؛ بكسر العين المهملة: هو القطان، قال بندار: (ما أظن أنَّه عصى الله قط) (قال: حدثنا عوف) هو الأعرابي، يقال له: عوف الصَّدوق، (قال: حدثنا أبو رَجاء)؛ بفتح الرَّاء، وتخفيف الجيم، وبالمد: هو العطاردي، واسمه عمران بن مِلحان؛ بكسر الميم، وبالحاء المهملة، قال البخاري: (الأصح أنَّه ابن تيم أدرك زمانَ النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يره، وأسلَم بعد الفتحِ، وأتى عليه مئة وعشرون سنة، مات في سنة بضع ومئة) (عن عِمْران) بكسر العين المهملة، وسكون الميم، آخره نون: هو ابن حُصين؛ بضمِّ الحاء المهملة، أسلم عام خيبر، بعثه عمر بن الخطابِ رضي الله عنه إلى البصرة؛ ليفقههم في الدين، وكانت الملائكة تُسلِّمُ عليه، وكان قاضيًا بالبصرة، ومات بها سنة اثنتين [1] وخمسين (قال) أي: عمران: (كنَّا) أي: أنا والصحابة، وكانوا سبعةَ رهطٍ، كما في رواية مسلم (في سَفَر)؛ بفتح السِّين المهملة، والفاء: اسم للسير من مكان إلى آخر، بخلاف السِّفْر؛ بسكون الفاء؛ فإنه اسم للكتاب، قال تعالى: {كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}؛ يعني: كتبًا، وإنما سمي السَّفر سفرًا؛ لأنَّه يسفر عن أخلاق صاحبه؛ يعني: يكشفها (مع النَّبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) واختلفوا في تعيين هذا السَّفر:
ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة: (أنه وقع عند رجوعهم من غزوة خيبر).
وفي حديث ابن مسعود رواه أبو داود: (أقبل النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من غزوة الحديبية ليلًا، فنزل فقال: «من يكلؤنا؟»، فقال بلال: أنا).
وفي حديث زيد بن أسلم مرسلًا أخرجه مالك في «الموطأ»: (عَرَّسَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلًا بطريق مكة، ووكل بلالًا).
وفي حديث عطاء بن يسار مرسلًا رواه عبد الرزاق: (أن ذلك كان بطريق تبوك)، وكذا في حديث عُقْبَة بن عامر رواه البيهقي في «الدَّلائل».
وفي رواية لأبي داود: (كان ذلك في غزوة جيش الأمراء)، قاله إمام الشَّارحين.
قلتُ: ورواية أبي داود هذه من حديث خالد بن سمين، عن عبد الله بن رباح: حدثنا أبو قتادة؛ فذكره، قال أبو عمر بن عبد البر: وقول خالد: (جيش الأمراء) وهمٌ عند الجميع؛ لأنَّ جيش الأمراء كان في موته عليه السَّلام، وهي سرية لم يشهدها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم)، وقال ابن حزم: (وقد خالف خالد من هو أحفظ منه)؛ فتأمل.
(وإنَّا أُسرينا) بفتح الهمزة أوله، بعدها سينٌ مهملة (حتى كنَّا في آخرِ الليلِ) وزعم الكرَمَانيُّ أنَّ في بعض النسخ: (سرينا)؛ يعني: بدون الهمزة.
قال إمام الشَّارحين: (يقال: سرى وأسرى؛ لغتان).
وقال الجوهري: (سريت وأسريت؛ بمعنى: إذا سِرتَ ليلًا).
وفي «المحكم»: (السرى: سيرُ عامةِ اللَّيل).
وقيل: سير اللَّيل كله، والحديث يخالف هذا القول، والسَّرى يذكر ويؤنث، ولم يعرف اللحياني إلا التأنيث، وقد سرى وسرى، أو سرية وسرية؛ فهو سار.
وذكر ابن سيده: (وقد سرى به، وأسرى به، وأسراه).
وفي «الجامع»: (سرى يسري سريًا؛ إذا سارَ ليلًا، وكلُّ سائرٍ ليلًا؛ فهو سريًا) انتهى ما قاله رحمه رب العالمين.
(وقعنا وقعة) أي: نمنا نومة؛ كأنهم سقطوا عن الحركة، وعند مسلم من حديث أبي هريرةَ: (أنه عليه السَّلام حين قفل من غزوة خيبر؛ سارَ ليلةً حتى إذا أدركه الكرى؛ عرَّسَ، وقال لبلال: «اكلأ لنا [2] الليل» فلما تقارب الفجر؛ استند إلى راحلته، فغلبته عيناه ... )؛ الحديث، (ولا وقعة) كلمة (لا) لنفي الجنس، و (وقعة) اسمها (عند المسافر)، خصَّه بالذِّكر؛ لأنَّ الكلام فيه، ولأن المسافر هو الذي يجد المشقة والنَّصب من قلة النوم، وقوله: (أحلى) صفة للـ (وقعة)، وخبر (لا) محذوف، ويجوز أن يكون (أحلى) خبرًا (منها)؛ أي: من الوقعة آخر الليل، وهو كما قال الشاعر:
.......... ... وأحلى الكرى عند الصَّباحِ يطيبُ
(فما أيقظنا إلا حرُّ الشَّمس)، وفي رواية مسلم: (فلم يستيقظ بلالٌ ولا أحدٌ من الصَّحابة حتَّى ضربتهم الشَّمس)، وفي «الدلائل» للبيهقي عن عُقْبَة بن عامر: (فاستيقظ حين كانت الشمس قدر رمح ... )؛ الحديث، (وكان) وفي رواية:
%ص 408%
(فكان) (أول من استيقظ فلان، ثم فلان، ثم فلان) وقال الزركشي: (من) نكرة موصوفة، فيكون (أول) أيضًا نكرة؛ لإضافته إلى النكرة؛ أي: أول رجل استيقظ)، وردَّه الدماميني بأنَّه لا يتعين؛ لجواز كونها موصولة؛ أي: وكان أول الذين استيقظوا، وأعاد الضمير بالإفراد؛ رعاية للفظ (من) انتهى.
قال في «المصابيح»: (والأولى أن يجعل هذا من عطف الجمل؛ أي: ثم استيقظ فلان؛ لأنَّ ترتيبهم في الاستيقاظ يدفع اجتماعهم جميعهم في الأولويَّة، ولا يمتنع أن يكون من عطف المفردات، ويكونَ الاجتماعُ في الأولويَّةِ باعتبار البعض، لا الكلِّ؛ أي: إنَّ جماعة استيقظوا على الترتيبِ، وسبقوا غيرهم في الاستيقاظ، لكنَّ هذا لا يتأتَّى على قول الزركشي؛ لأنَّه قال: (أي: أول رجل)، فإذا جعل هذا من قبيل عطف المفردات؛ لزم الإخبار عن جماعة بأنهم أولُ رجلٍ استيقظَ، وهو باطل).
وكلمة (كان) هنا يجوز أن تكونَ تامة وناقصة، فإن كانت ناقصة؛ فقوله: (أول)؛ بالنصب خبرها مقدمًا، واسمها هو قوله: (فلان)، وإذا كانت تامة بمعنى: وجد؛ فـ (فلان) بدل من (أول)، فلا تحتاج إلى خبر (يسميهم) أي: المتيقظين (أبو رجاء) العطاردي، وليس بإضمار قبل الذِّكر؛ لأنَّ قوله: (استيقظ) يدل عليه، وموضع هذه الجملة من الإعراب النَّصب على الحال، وهو الأقرب، وهذه الجملة والتي بعدها؛ وهي قوله: (فنسي عوف) ليس من كلام عمران بن حُصين، وإنَّما هي من كلام الرَّاوي، و (عوف): هو الأعرابي المذكور في الإسناد، قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: وقد سمَّى البخاري في (علامات النُّبوة) أول من استيقظ، ولفظه:
(فكان أول من استيقظ أبو بكر رضي الله عنه)، وبقي اثنان من الذين عدهم أبو رجاء، ونسيهم عوف الأعرابي، وزعم ابن حجر يشبه أن يكون الثاني: عمران راوي القصة، والثالث: من شارك عمران في رواية هذه القصة، وهو ذو مخبر، فإنَّه قال في حديث عمرو بن أمية رواه الطبراني: (فما أيقظني إلا حرُّ الشَّمس)، ورده إمام الشَّارحين، فقال: (هذا تعيين بالاحتمال وهو تصرف بالخدش والتخمين) انتهى.
قلتُ: ويعارض ما ذكره المؤلف ما عند مسلم من حديث ابن شهاب، عن سَعِيْد، عن أبي هريرة، وفيه: (فكان رسول الله صلى الله عليهم وسلم أولهم استيقاظًا، فقال: «أي بلال»، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك)، وعنده أيضًا من حديث أبي قتادة: (كنَّا مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم سبعةُ رهطٍ، فمال عن الطَّريق، فوضع رأسه، ثمَّ قال: «احفظوا علينا صلاتنا»، فكان أول من استيقظ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والشمس في ظهره، وقمنا فزعين ... )؛ الحديث، فهذا يدل على أنَّ أول من استيقظَ النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، والثالث أبو بكر، والثَّاني بلال، هذا هو الظاهر؛ فافهم.
ويحمل ما رواه المؤلف هناك على أنَّ أوَّل من استيقظَ بعد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وبعد بلال أبو بكر رضي الله عنهما؛ فكلام ابن حجر غير صحيح؛ لما علمتَ، وبهذا تنتفي المعارضة؛ فافهم.
(ثم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه الرابع) بالرفع صفة لـ (عمر)؛ لأنَّ (عمر) مرفوع؛ لأنَّه معطوف على مرفوع، وهو قوله: (ثم فلان)، وزعم ابن حجر أنَّه يجوز نصبه على خبر (كان).
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (لم يبين هذا القائل أي «كان» هذه، والأقرب أن تكون مقدرة؛ تقديره: ثم كان عمر بن الخطاب الرابع؛ يعني: من المستيقظين) انتهى.
قلتُ: وهذا ليس بالوجه لاحتياجه إلى تقدير، وعدم التَّقدير أولى على أنَّه لم تصح الرِّواية فيه بالنصب، بل الرِّواية بالرفع على الصِّفة، وقال الكرماني: (وفي بعض النُّسخ هو الرابع، فهذا يعين الرفع)؛ فافهم.
(وكان النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) من عادته أنَّه (إذا نام؛ لم نوقظه) بنون المتكلم، والضمير المنصوب يرجع إلى النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية: (لم يُوقَظ) على صيغة المجهول المفرد؛ وذلك لاحتمال أن يكون هذا منه لأمر يريده الله عز وجل من إثباتِ حُكمٍ، أو إظهارِ شَرعٍ؛ لأنَّ نومه عليه السَّلام؛ كنوم البشر في بعض الأوقات، ولكن لا يجوز عليه الأضغاث؛ لأنَّ رؤيا الأنبياء عليهم السَّلام وحي، وأما نومه عليه السَّلام في الوادي، وقد قال: «إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي»؛ فهو حكم قلبه عند نومه وعينه في غالب الأوقات، وقد يندرُ منه غير ذلك، كما يندر من غيره بخلاف عادته، والدَّليل على صحة ذلك: ما ورد في الحديث نفسه: «إن الله قبض أرواحنا»، وفي الحديث الآخر: «لو شاء؛ لأيقظنا، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم» وقول بلال: (أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك)، أو المراد: أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه؛ لما روي أنه كان محروسًا، وأنَّه كان ينام حتى ينفخ وحتى يسمع غطيطه، ثم يصلي ولا يتوضأ.
وأما ما وَرد في حديث ابنِ عباسٍ من وضوئه عند قيامه من النوم؛ فالنوم فيه نومه مع أهله، فلا يمكن الاحتجاج به على وضوئه بمجرد النوم؛ لأنَّ أصلَ ذلكَ ملامسة الأهل، أو لحدث آخر، ألا ترى في آخر الحديث: (نام حتى سمعت خطيطه، ثم أقيمت الصَّلاة فصلَّى ولم يتوضأ)، وقيل: لا ينام قلبه من أجل الوحي، وأنَّه يوحى إليه في النوم، وليس في قصة الوادي إلا نوم عينيه عن رؤية الشَّمس، وليس هذا من فعل القلب، وقد قال عليه السَّلام: «إن الله قبض أرواحنا ولو شاء؛ لردَّها إلينا» في خبر غير هذا، والتعبير بـ (كان) الدالة: على الدَّوام والاستمرار يدل على أنَّ عادته عليه السَّلام أنَّه إذا نام؛ لم يوقظه أحد، فإذا علم من حاله أنه يستغرق في النَّوم؛ وَكَّل أحدًا باستيقاظه، يدل على صحة هذا ما في مسلم: قال لبلال: «اكلأ لنا [3] الليل»، وفي رواية له: «احفظوا علينا صلاتنا».
وفي «السنن» لأبي مسلم الكجي: (قال عليه السَّلام: «من يحرسنا؟» قال عبد الله: أنا ... )؛ الحديث.
والدليل على أنه يستغرق ما عند أحمد: (فلما كان آخر الليل؛ عَرَسَ ... )؛ الحديث.
وعند مسلم: (حتى إذا أدركه الكرى؛ عَرَسَ ... )؛ الحديث.
وعند أبي داود بسندٍ صحيحٍ عن ابن مسعود قال: (أقبلَ النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من الحُديبية ليلًا، فنزلنا دهاشًا من الأرض، فقال: «من يكلؤنا؟» قال بلال: أنا ... )؛ الحديث، وحديث الباب: (ولا وقعةَ عند المسَافر أحلى منها)، فكأنهم سقطوا عن الحركة بالكلية؛ لأنَّهم لم يناموا إلى آخر الليل مع شدة النصب والجري ليلًا فرآهم النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الحالة، كما رأى نفسه الشريفة، كذلك علم بالقرينة أنه وأصحابه يستغرقونَ في النَّوم، فوكَّل من يوقظهم؛ لأنَّ طلوعَ الفجرِ، وكذا الشَّمس مما يُدركُ بالجوارحِ الظاهرةِ بخلافِ الباطنة؛ فلا يَصحُ هذا ممن نامتْ عينه؛ فليحفظ.
(حتى يكون) أي: إلى أن يكون (هو مستيقظ)؛ أي: بنفسه من غير أَنْ يُوقِظَه أحد، وهذا يدلُ أنَّ نومه عليه السَّلام غير مستغرق إلا في هذه القصة؛ لعلمه بحاله، كما سبق؛ (لأنَّا) أي: معشرَ الصَّحابة (لا ندري) أي: لا نعلم (ما يحدُث له في نومه)؛ بضمِّ الدال المهملة، من الحدوث؛ أي: ما يحدث له من الوحي، وكانوا يخافون انقطاعه عنه بالإيقاظ، قاله إمام الشَّارحين، (فلما استيقظ)؛ أي: تيقظ بمعنى: انتبه (عُمَر) هو ابنُ الخطاب؛ أي: من نومه، وجواب (لمَّا) محذوف؛ تقديره: فلمَّا استيقظ؛ كَبَّر، ويدل عليه قوله الآتي: (فكبَّر) (ورأى) أي: أبصر، أو اعتقد (ما) أي: الَّذي (أصابَ الناسَ) أي: أصابهم من فوات صلاة الصُّبح، وكونهم على غيرِ ماءٍ، (وكان) أي: عُمَر بن الخطابِ (رجلًا جَليدًا)؛ بفتح الجيم، من جلُد الرجل؛ بالضم، فهو جَلَدٌ وجَليدٌ؛ أي: بيِّن الجلادة بمعنى: القُوة والصَّلابة، وزاد مسلم هنا: (أجوف)؛ أي: رفيعُ الصَّوت يخرج صوته من جوفه، (فكبر) أي: عُمَر؛ أي: قال: الله أكبر، (ورفع صوته بالتَّكبير) وإنَّما خصَّ لفظ (التكبير)؛ لأنَّه الأصل في الدعاء إلى الصَّلاة، ولأنَّ استعمالَ التَّكبيرِ سلوكُ طريقِ الأدبِ، وفيه الجمعُ بين المصلحتين، (فما زال يكبر ويرفع صوته)؛ أي: بالتكبير؛ يعني: أنه يكرره مرارًا عديدة مع رفع صوته (حتى استيقظ) أي: تيقظ؛ يعني: انتبه (لصوته) أي: لأجل صوته، وفي رواية: (بصوته)؛ أي: بسببِ صوت عُمَر بن الخطاب (النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع فاعل (استيقظ)، وهو لازم؛ يعني: وإنَّ الناسَ قد استيقظوا قبله، فعند أحمد: (فجعلَ الرَّجُلَ يقومُ دَهِشًا إلى طَهورهِ)، وعند مسلم: (فقمنا فزعين)، وعند أبي داود والطَّبراني بسندٍ لا بأس به، عن عمرو بن أميةَ الضَّمريِّ، وفيه: قال ذو مخبر: فما أيقظني إلا حرُّ الشَّمسِ في وجهي، فجئت أدنى القوم
%ص 409%
فأيقظتهُ، وأيقظَ النَّاس بعضهم بعضًا حتى استيقظَ النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
قلت: وهذا يدلَّ على أَنَّ القِصة متعددة، فكان نومهم عن صلاة الصُّبح مرة وأكثر منها، وجزم الأصيلي: أَنَّ القِصة واحدة، وردَّه القاضي عياض: بأنَّ قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران؛ لأنَّ في قصة أبي قتادة لم يكن أبو بكر وعمر مع النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما نام، وفي قصة عمران: أنَّ أول من استيقظ أبو بكر، ولم يستيقظ النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حتى أيقظه عُمر رضي الله عنه، والَّذي يدلُّ على تعدد القصة: اختلاف مواطنها، كما ذكرناه، وقد تكلف أبو عَمْرو [4] في الجمع بينها، بقوله: (زمان رجوعهم من خيبر كان قريبًا من زمان رجوعهم من الحديبية، وأَنَّ طريقَ مكة يصدق عليهما).
قال القاضي عياض: وفيه تعسُّف؛ لأنَّ رواية عبد الرزاق تعين أنَّها في غزوة تبوك، فهو يرد عليه، وزعم أبو عمر [5] أيضًا أنَّ نومه عليه السَّلام كان مرَّة واحدة.
وقال ابن العربيِّ: (كان ثلاثَ مراتٍ؛ أحدها: رواية أبيِّ قَتادة، ولم يحضرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والثانية: حديث عمران، وقد حضراها، والثالثة: حضرها أبو بكر وبلال رضي الله عنهما).
وقال القاضي عياض: (حديثُ أبي قتادة غير حديثِ عمران، والدَّليل عليه: أنَّ ذلك وقع مرتين؛ لأنَّه قد رُوي: أن ذلك كان زمنَ الحديبية، وفي رواية: «بطريق مكة»، والحديبية كانت في السَّنةِ السَّادسة، وإسلامُ عِمران وأبي هريرة _الرَّاوي حديث غزوة خيبر_ كان بها في السَّنة السَّابعة بعد الحديبية، وهما كانا حاضرين الوقعة).
قال إمام الشَّارحين: (وفيه نظر؛ لأنَّ إسلام عِمران كان بمكة)، ذكره أبو منصور الماوردي في كتاب «الصَّحابة»، وقال ابن سعد، وأبو أحمد العسكري، والطبراني، وآخرون [6]: (كان إسلامه قديمًا) انتهى والله أعلم.
(فلما استيقظَ)؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وجواب (لَمَّا) قوله: (شَكَوا)؛ بفتح المعجمة أوله، وتخفيف الكاف (إليه الَّذي أصابهم) من نومهم عن صلاة الفجر حتى خرج وقتها وهم على غير ماء، وعند عبد الرزاق: (فقال: «ألم أقل لك يا بلال؟»)، وعند مسلم: (فقال: «أي بلال»، فقال بلال: أخذَ بنفسي الَّذي أخذَ بنفسك)؛ يعني: أني لا اختيار لي بالانتباه، فإن أرواحنا بيد الله عزَّ وجل، (قال) ولابن عساكر: (فقال)؛ أي: لهم: (لا ضَير أو لا يضير)؛ أي: لا ضرر، من ضاره يضوره، ومضرة ضيرًا وضررًا؛ أي: ضيره، والشَّكُّ من عوف الأعرابي، وقد صرَّح بذلك البيهقي في روايته، ولأبي نعيم في «مُستَخْرَجه»: (لا يسير ولا يضير)، وإنما قال عليه السَّلام ذلك لهم لتأنيس قلوبهم؛ لما عرَضَ لهم من الأسفِ على فوات الصَّلاة عن وقتها؛ لأنَّهم لم يَتَعَمَّدوا ذلك، قاله إمام الشَّارحين، (ارتحِلوا)؛ بصيغة الأمر للجماعة المخاطبين من الصَّحابة، (فارتحَلوا)؛ بصيغة الجمع من الماضي؛ أي: ارتحلوا عقيب أمر النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، وفي رواية: (فارتحل)؛ بصيغة الماضي؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن معه من الصَّحابة، والسبب في أمره عليه السلام بالارتحال من ذلك المكان ما في رواية مسلم عن سَلَمَة بن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: فإنَّ هذا منزلٌ حضر فيه الشَّيطان، وقيل: كان ذلك لأجل الغفلة، وقيل: لكون ذلك وقتَ الكراهةِ، وفيه نَظرٌ؛ لأنَّ في حديث الباب: (لم يستيقظوا حتى وجدوا حرَّ الشَّمس)، وذلك لا يكون إلا بعد أن يذهب وقت الكراهة، وقيل: الأمر بذلك منسوخ بقوله تعالى: {وَأَقِمِ [7] الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وبقوله عليه السَّلام: «من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها»، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الآية مكيَّة، والقصَّة بعد الهجرة، كذا قرره إمام الشَّارحين، ثم قال: (وقد ورد عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنَّه نهى عن التشاؤم»، وهنا ارتحل عن الوادي الذي تشاءم منه.
وأجيب: بأنَّه عليه السَّلام كان يعلم حال ذلك الوادي، ولم يكن غيره يعلم به، فيكون خاصًّا به عليه السَّلام، وأخذ بعض العلماء بظاهرهِ، فقال: إن من انتبه من نومِ عن صلاةٍ فائتةٍ في سفر؛ فإنَّه يتحولُ عن موضعه وإن كان بوادي؛ فليخرجْ منه، وقيل: إنَّما يَلزمُ بذلك الوادي بعينه، وقيل: هو خاص بالنَّبيِّ عليه السلام، كما ذكرنا) انتهى.
(فسار) أي: النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه الذين معه (غيرَ بعيدٍ) وهذا يدلُّ على أن الارتحال المذكور وقع على خلاف سَيرِهم المعتاد، قاله في «عُمدة القاري».
قلت: لأنَّ الارتحالَ المذكور إنَّما كان للتجاوزِ عن ذلك المكان الذي ناموا فيه إلى مكانٍ آخرَ، وليس مرادهم السَّير المُعتاد، كما لا يخفى.
(ثم نزل)؛ أي: النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بمن معه، وفي رواية أحمد: (فسرنا حتى ارتفعتِ الشَّمس)، وهو يدلُّ على أنَّ سيرهم كان قبلَ ارتفاعها، وهو يُخالف حديثَ الباب، وما رواه عبد الرزاق عن عُقْبَة بن عامر قال: (فاستيقظَ حين كانت الشمس قدر رمح) إلا أن يُحمل على تعدد القصَّة؛ فليحفظ.
(فدعا بالوَضوء)؛ بفتح الواو؛ أي: بالماء المُطلَق لأجل الوضوء، (فتوضأ)؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأصحابه الذين معه، (ونُودي بالصَّلاة) والمراد بالنداء هو: التأذين؛ لأنَّه قد صرح المؤلف في آخر (المواقيت)، وكذا مُسلم من حديث قتادة بالتأذين.
فإن قلت: من أذَّن لهم؟
قلت: هو بلال، ففي رواية أحمد: (ثم أمر بلالًا، فأذَّن)؛ فافهم.
(فصلى بالناس)؛ أي: صلاةَ الفجرِ، وهذا مجمل، وقد بينه أحمد في روايته قال: (ثم صلَّى الركعتين قبل الفجر، ثم أقام فصلينا، فقالوا: يا رسول الله؛ ألا نُعيد في وقتها من الغد؟ قال: «أَيَنْهَاكُم رَبُّكُم عن الرِّبا ويَقْبَلُه مِنْكم!»)، (فلما انفتل) أي: فرغ (من صلاته) أي: فريضة الفجر؛ (إذا هو برجل) لم يُعْلَم اسمه، قاله إمام الشَّارحين، وزعم صاحبُ «التوضيح» أَنَّه خلاد بن رافعٍ بن مالك الأنصاريُّ أخو رفَاعَة، قال إمام الشَّارحين: (وفيه نظر؛ لأنَّ ابن الكلبيِّ قال: هو شَهِدَ بدرًا، وقُتِلَ يومئذٍ، ووقعة بدر مقدمة على هذه القصة، فاستحال أن يكون هو إياه، وقيل: له رواية، فإذا صح هذا؛ يكون قد عاش بعد النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لاحتمال انقطاعها، أو نقلها عنه صحابي آخر) انتهى كلامه، (معتزل) أي: مُنفرد عن الناس (لم يصل مع القوم)؛ لأنَّه لمَّا فَرَغَ من صلاته، والناس قعود وراءه؛ استقبلهم فرأى هذا الرجل وهو معتزل فعلم بالقرينة الحالية أنه لم يصل مع القوم، فناداه (قال: ما منعك يا فلان) كناية عن اسم مبهم (أَنْ تُصلي مع القوم؟)؛ أي: صلاة الصُّبح، (قال)؛ أي: الرَّجل: يا رسول الله؛ (أصابتني جنابة) يحتمل بسبب الاحتلام، ويُحتمل بسبب وطء زوجته (ولا ماءٌ)؛ بالرفع، والتنوين في (ماء)، وكلمة (لا) بمعنى: ليس، فيرتفع الـ (ماء) حينئذٍ، ويكون المعنى: ليس ماء عندي، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن حجر: أن (ماء)؛ بفتح الهمزة؛ أي: معي.
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا تفسير من لم يمسَّ شيئًا من عِلمِ العربِّية؛ لأنَّ كلمة (لا) على قوله؛ لنفي جنس الماء، فأيُّ شيء يقدر خبرها بقوله: معي؟ وعدم الماء عنده لا يستلزم عدمه عند غيره، فحينئذٍ لا يستقيم نفي جنس الماء، ويجوز أن تكون (لا) بمعنى: ليس) انتهى؛ يعني: كما ذكرنا.
وقال ابن دقيق العيد: (حذف الخبر في قوله: «ولا ماء»؛ أي: موجودٌ عندي، وفي حذف الخبر بسط لعذره؛ لما فيه من عموم النفي، كأَنَّه نفى وجود الماء بالكلية بحيث لو وجد بسبب أو سعي أو غيره ذلك؛ لحصله، فإذا نفى وجوده
%ص 410%
مطلقًا؛ كان أبلغ في النفي، وأعذر له) انتهى.
قلت: وقد نحا نحو كلام ابن حجر في نفي جنس الماء بالكلية، وهو غير صحيح، فإنَّ الماءَ في السَّرية موجودٌ عند جميع أهلها حيث إنهم توضؤوا جميعًا، ولم يَنْف [8] الماءَ أحدٌ غير هذا الرَّجلِ، فليس في حذف الخبرِ بسط لعذره؛ لأنَّ الواجب عليه أَنَّه إذا لم يكن عنده ماء؛ يطلبه من رفيقه إمَّا مجانًا أو بثمنٍ مثله إن لم يعطهِ مجانًا، فلا يلزم عمومَ النَّفي؛ لأنَّ القافلة لا تخلو عن الماءِ، ونفي وجود الماء بالكلية لا يليقُ فينا فضلًا عن الصحابيِّ؛ لأنَّ فيه تعريضًا [9] بالكذب، وهو محالٌ عليه، ولكنَّه مقصرٌ في عدم السَّعي والطلب من رفقائه، ولكنَّه اجتهد في نفسه وأداه اجتهاده إلى ألَّا يسأل أحدًا، وينفي الماء من عنده فقط، فليس في نفي وجوده مطلقًا أبلغيَّةٌ في النَّفي والعذر؛ لاحتمال أنَّ عنده ماء للشرب لنفسه، أو لدوابه، أو غير ذلك، فخشي إِن اغتسلَ يَفْنى الماء، فربَّما يهلك هو ودوابه من العطش؛ فلا يجب عليه حينئذٍ استعماله؛ لأنَّ الحاجة إلى الشُّرب الذي فيه إحياء النفوس مُقدَّم على ذلك، فكلامُ هذا القائل غيرُ صحيح أيضًا، كما لا يَخفى؛ فافهم.
والحقُّ هو ما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
(قال) أي: النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم للرَّجلِ المذكور: (عليك بالصَّعيد) وكلمة (عليك) من أسماء الأفعال؛ ومعناه: الزم، والألف واللام في (الصَّعيد) لـ (العهد) المذكور في الآية الكريمة: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وفي رواية مسلم بن رزين عند مسلم: (فأمره أَنْ يتيمم بالصَّعيد)، كذا في «عُمدة القاري»، والمراد بالصَّعيد: وجه الأرض؛ كحجر، ومدرٍ، وتُراب، وغيرها، كما قدمنا تحقيقه، (فإنَّه يكفيك)؛ أي: لإباحة أداءِ الصَّلوات فرضها، وواجبها، ونفلها ما لم تحدث؛ لأنَّ التَّيمم حكمه حكم الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به، والواجبات، والنوافل، وهذا مذهب الإمام الأعظم، والجمهور، وخالفهم الشافعية فزعموا أَنَّه يتيمم لكل صلاة فرضٍ والنوافل، وزعم القسطلاني تبعًا لما زعمه ابن حجر في معنى (فإنه يكفيك)؛ أي: لإباحةِ صلاةِ الفرض الواحد مع النوافل.
قلت: وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ معناه: فإنه يكفيك؛ أي: في كلِّ الصلوات؛ فرضها ونفلها، وهذا معنى الأعميَّة، كما ذكرناه آنفًا؛ فليحفظ هذا ولا تغتر بما زعمه، فإنَّه لترويج مذهبه.
وعند ابن حزم من حديث إسماعيل بن مسلم: حدثنا أبو رجاء: (ثُمَّ إنَّ الجُنب وجدَ الماءَ بعد؛ فأمره عليه السَّلام أن يغتسل ولا يعيد الصَّلاة).
قلت: وهذا يدل لما قلناه آنفًا من وجود الماء في القافلة؛ لأنَّها لا تخلو عنه؛ فافهم.
(ثُمَّ سار النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: من ذلك المكان إلى أن اشتدَّ الحرُّ، فشربوا الذي معهم من الماء كله حتى لم يبق معهم شيء، ثمَّ عَطشوا من كثرة السَّير وشدة الحرِّ، والحرُّ حرُّ الحجاز، (فاشتكى إليه) أي: إلى النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (النَّاس من العطش) الحاصل لهم، وفي رواية: (فاشتكوا إليه النَّاس)، وهي من قبيل لغة أكلوني البراغيث، (فنزل)؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأصحابه الذين معه، ولم يعلم اسم ذلك المكان (فدعا فلانًا): هو عِمران بن حصين راوي الحديث، ويدلُّ على ذلك: قوله في رواية ابن رزين عند مسلم: (ثُمَّ عجلني النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في ركب بين يديه فطلب الماء)، وهذه الرِّواية تدلُّ على أنَّه كان هو وعليٌّ الصدِّيق الأصغر فقط؛ لأنَّهما خوطبا بلفظ التثنية، وهو قوله: «اذهبا فابتغيا الماء».
فإن قلت: في رواية ابن رزين: (في ركب)، وهو يدلُّ على الجماعة؟
قلت: يُحتمل أن يكون معهما غيرهما، ولكنهما خُصَّا بالخِطاب؛ لأنَّهما تعينا مقصودين بالإرسال، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(كان يُسميه) أي: ذلك الرَّجل المدعو بـ (فُلان) (أبو رجاء): هو العطاردي (نسيه) ولابن عساكر: (ونسيه)؛ بالواو (عوف): هو الأعرابيُّ الرَّاوي، (ودعا)؛ أي: النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا (عليًّا): هو الصديق الأصغر بن أبي طالب (فقال)؛ أي: النَّبيَّالأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لهما حين حضرا بين يديه: (اذهبا فابتغيا)؛ بالفاء، ثم الموحدة، بعدها مثناة فوقية، من الابتغاء: وهو الطلب، يقال: بغيت الشيء، وابتغيته، وتبغيته؛ إذا طلبته، وابتغيتك الشيء؛ إذا جعلتك طالبًا له، وفي رواية الأصيلي: (فابغيا)؛ بإسقاط المثناة الفوقية، من الثلاثي، وهمزته همزة وصل، وفي رواية أحمد: (فابغيانا)؛ بزيادة النون، والألف في آخره (الماء)؛ أي: لأجل الشُّرب للناس والدَّواب، وكذلك الوُضوءِ، والغسل، ففيه: أنَّ المسافر إذا لم يَجدِ الماء؛ يجبُ عليه الطلب لأمره عليه السلام بذلك.
قال في «منهل الطُّلاب»: (وليس على المتيمم وجوبًا أن يطلب الماء إذا لم يغلب على ظنِّه أن بقربه ماء؛ لأنَّ الغالب عدم الماء في الفلوات)، ولا دليل على الوجود، فلم يكن واجدًا، لكن يستحب له الطلب مطلقًا سواء ظنَّ أنَّ بقربه ماء أو شَكَّ فيه إن رجا، كذا في «السِّراج»، فإن لم يَرجُ؛ لا يطلبه لِعدم الفائدة، كما في «البحر»، وأما في العمرانات؛ فيجب طلب الماء مطلقًا باتفاق أئمتنا الأعلام، وكذا إذا كان يقرب منها، وحدُّ القُرب: ما دون الميل، أمَّا الميلُ وما فوقه؛ فبعيد لا يوجب الطلب، قاله صاحب «البحر»، فإن غلب على ظن المسافر أن هناك؛ يعني: بقربه دون ميل ماء؛ لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه؛ لأنَّه واجدٌ للماء نظرًا إلى الدَّليل؛ وهو غلبة الظنِّ، فإنها قائمة مقام العلم في العبادات، كذا في «العناية»، فكان الطلب عليه واجبًا، وكذا إن وجد أحدًا يسأله عن الماء؛ وجب عليه السُّؤال حتى لو صلى ولم يسأله وأخبره بالماء بعد ذلك؛ أعادَ الصَّلاة، وإلا؛ فلا، كذا في «التبيِّين»، و «البدائع».
واختلف أئمتنا الأعلام في مقدار الطلب للماء، فاختار الإمام حافظ الدين في «الكنز»: أنَّه قدر غلوة؛ وهي مِقدار رمية سهم، كما في «التبيين»، واختار غيره: أنَّه قدر ثلاث مئة ذراع، كما في «الذَّخيرة»، واختار بعضهم: أنَّه قدرُ أربع مئة ذراع، كما في «المغرب»، واختار في «المستصفى»: أنَّه يطلب مقدار ما يسمع صوت أصحابه وسمعوا صوته، وهو الموافق لما قاله الإمام أبو يوسف رضي الله عنه قال: سألت الإمام الأعظم رضي الله عنه عن المسافر لا يجد الماء: أيطلب عن يمين الطريق أو عن يساره؟ فقال: إن طمع فيه؛ فليفعل، ولا يبعد فيضرَّ بأصحابه إن انتظروه، وبنفسه إنِ انقطع عنهم، انتهى.
وقد صححه صاحب «البدائع»، وقال صاحب
%ص 411%
«البحر»: (فكان هو المُعتمد في المذهب)، وعلى اعتبار الغلوة؛ فالطلبُ أَنْ يَنظُر يمينه، وشماله، وأمامه، ووراءه غلوة، كذا في «الحقائق»، قال في «النهر»: (ومعنى ما ذكره في «الحقائق»: أنَّه يقسم المشي بمقدار الغلوة على هذه الجهات، فيمشي من كلِّ جانب مئة ذراع، فإنَّ الطلب لا يتم بمجرد النظر، ويدلُّ على ذلك ما سبق عن الإمام الأعظم) انتهى.
وقال في «البحر» عن «المنية»: (ولو بعث من يطلبه له؛ كفاه عن الطلب بنفسه، وكذا لو أخبره من غير أن يُرسله) انتهى.
قال الإمام برهان الدين الحلبي: (ويشترط في المخبر أن يكون مكلَّفًا عدلًا، وإلَّا؛ فلا بدَّ معه من غلبة الظن حتى لا يلزم الطلب؛ لأنَّه من الديانات، وغلبة الظن هنا إما بأن وجد أمارة ظاهرة؛ كرؤية خضرة، أو طير، أو أخبره مخبر، كذا أطلقه في «التوشيح»، وقيَّده صاحب «البدائع» بالعدل) انتهى، وهو الموافق لِمَا قاله برهان الدين.
وقال في «المحيط»: ولو قرب من الماء وهو لا يعلم به، ولم يكن بحضرته من يسأله عنه؛ أجزأه التَّيمم؛ لأنَّ الجهل بقرب الماء كبعده عنه، ولو كان بحضرته من يسأله، فلم يسأله حتى تيمم وصلى، ثم سأله، فأخبره بماء قريب؛ لم تَجُزْ صلاته؛ لأنَّه قادر على استعمال الماء بواسطة السُّؤال، فإنْ لم يسأله؛ فقد جاء التقصير من قبله؛ فلم يعذر؛ كمن نزل بالعمران ولم يطلب الماء؛ لم يَجُزْ تيممه، وإن سأله في الابتداء، فلم يخبره حتى تيمم وصلى، ثم أخبره بماء قريب؛ جازت صلاته؛ لأنَّه ما عليه، كذا في «شرح الملتقى» للعلامة الباقاني، وذكر مثله صاحب «البحر»، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم بالصواب.
(فانطلقا)؛ أي: علي وعِمران؛ لأمره عليه السَّلام لهما بذلك (فتلقيا)؛ بالفاء، والمثناة الفوقية، بعدها لام، وفي رواية: (فلقيا)؛ بإسقاط المثناة الفوقية، من اللقى: وهو الاجتماع، يقال: لقي زيدٌ عمرًا؛ يعني: اجتمع به، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا} [الكهف: 74] (امرأة) لم يُعلم اسمها، وفي رواية مسلم: (فإذا نحن بامرأة سادلية)؛ أي: متدلية رجلها (بين مَزَادتين)؛ تثنية مزادة؛ بفتح الميم، وتخفيف الزاي: الراوية أو القربة، وتجمع على (مزايد)، ومزاد سميت مزادة؛ لأنَّه يزاد فيها جلد آخر من غيرها، ولهذا قيل: إنها أكبر من القِربة، (أو) بين (سَطِيحتين)؛ تثنية سطيحة؛ بفتح السين المهملة، وكسر الطاء المهملة، وهي بمعنى: المزادة، قال ابن سيده: (السطيحة: المزادة التي بين الأديمين قوبل أحدهما بالآخر)، وفي «الجامع»: (هي أداوة تتخذ من جلد وهي أكبر من القِربة) انتهى.
وكلمة (أو) للشك، قال إمام الشَّارحين: (الشك من الراوي؛ يعني: أي راوي كان)، وزعم ابن حجر أنَّ الشَّك من عوف.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (قلتُ: تعيينه به من أين؟ يعني: ليس لتعيينه به دليل لا من رِواية ولا غيرها، وما هو إلا خدش وتخمين، وخِلاف الظاهر).
قلت: والَّذي يظهر أنَّ الشكَّ من أبي رجاء، ويُحتمل أنَّه من عِمران، وفي رواية مسلم: (فإذا نحن بإمراة سادليَّة رجلها بين مزادتين) من غير شكٍّ؛ فافهم.
وقوله: (من ماء) بيان لقوله: (مزادتين)، وساقطٌ في رواية ابن عساكر (على بَعير لها)؛ بفتح الموحدة، وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، وإنَّما يُقال له: بعيرٌ إذا أجذع، والجمع: (أبعرة)، وأباعر، وبعران، وإفادة (اللام): الملكية؛ أن البعير ملك لها؛ فتأمل.
(فقالا)؛ أي: علي وعِمران (لها) أي: لتلك المرأة: (أين الماء) مبتدأ وخبر؟ (قالت: عهدي بالماء أمسِ)؛ بالبناء على الكسر عند أهل الحجاز، ويعرب غير منصرف؛ للعلمية والعدل عند بني تميم وعليه؛ فهو بضمِّ السين، وموقعه من الإعراب الرفع على أَنَّه خبر للمبتدأ، وهو (عهدي)، كذا قاله إمام الشَّارحين، وعلله المحقق أبو البقاء؛ بأن المصدر يخبر عنه بظرف الزمان، وجوز في «المصابيح» أن يكون بالماء خبر (عهدي)، و (أمس) ظرف لعامل هذا الخبر؛ يعني: عهدي متلبس بالماء في أمسِ، ولم يجعل الظرف متعلقًا بـ (عهدي)؛ لأني جعلت (بالماء) خبرًا، فلو علق الظرف بالعهد مع كونه مصدرًا؛ لزم الإخبار عن المصدر قبل استكمال معمولاته، وهذا باطل) انتهى.
قلت: وبهذا تعلم فساد قول القسطلاني، ويحتمل أن يكون (عهدي) مبتدًا، و (بالماء) متعلق به، و (أمس) ظرف له؛ لما علمت، قال: وإذا كان ظرفًا؛ فتفتح سينه؛ فتأمل.
(هذه الساعةَ) منصوب على الظرفية، قال ابن مالك: أصله: في مثل هذه الساعة، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويحتمل أن يكون (هذه الساعة) بدل من (أمس) بدل بعض من كل؛ أي: مثل هذه الساعة، والخبر محذوف؛ أي: حاصل ونحوه؛ فتأمل.
(ونفرنا)؛ أي: رجالنا، وفي «المحكم»: النفر، والنفر، والنفور، والنفير: ما دون العشرة من الرجال، والجمع: (أنفار)، وفي «الواعي»: النفر: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والعرب تقول: هؤلاء نفرك؛ أي: رهطك ورجالك الذين أنت منهم، وهؤلاء عشرة نفر؛ أي: عشرة رجال، ولا يقولون: عشرون نفرًا، وثلاثون نفرًا، وتقول العرب: جاءنا في نفره ونفيره ونفرته، كلها بمعنًى، وسُمُّوا بذلك؛ لأنَّهم إذا حزنهم أمر؛ اجتمعوا ثم نفروا إلى عدوهم، ولا واحد له، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(خُلُوف)؛ بضمِّ الخاء المعجمة، واللام المخففة، جمع: لخالف؛ أي: المسافر؛ نحو: شاهد وشهود حتى حي خلوف؛ أي: غيب، وقال ابن عرفة: (الحي خلوف؛ أي: خرج الرجال، وبقيت النِّساء)، وقال الخطابي: هم الذين خرجوا للاستقاء، وخلفوا النساء، والأثقال، وارتفاع (خلوف) على أنَّه خبر المبتدأ، وفي رواية المستملي، والحموي: (خُلوفًا)؛ بضمِّ الخاء المعجمة، واللام المخففة، والنصب، قال الكرماني: منصوب بـ (كان) المقدرة؛ أي: كان نفرنا خلوفًا، كذا قرره إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر تبعًا للدماميني أنه منصوب على الحال السادِّ مسد الخبر.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: ما الخبر هنا حتى يسد الحال مسده؟ والأوجه: ما قاله الكرماني) انتهى.
قلت: ويجوز أَنْ يكون منصوبًا بفعل مقدر؛ أي: ونفرنا أحسب أو اعتقد خلوفًا، ونحوه؛ فتأمل.
(قالا)؛ أي: علي وعِمران (لها) أي: لتلك المرأة:
%ص 412%
(انطلقي) أي: معنا (إذًا)؛ بالتنوين، وهو ظرف، ومعناه الوقت؛ يعني: انطلقي معنا في هذا الوقت من غير تأخير، (قالت: إلى أين)؛ أي: أنطلق، (قالا)؛ أي: عليٌّ وعِمران لها: (إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قالت) أي: لهما: (الذي يقال له: الصَّابئ؟) يروى بالهمزة وبغيرها، فالأول: من صبأ؛ إذا خرج من دين إلى آخر، والثاني: من صبا يصبو؛ إذا مال، كذا [قال] إمام الشَّارحين، ففي رواية غير الهمزة: هو الياء التحتية؛ والمعنى: أي المائل، (قالا) أي: علي وعِمران لها: (هو الذي تعنين)؛ أي: تريدين وتقصدين، من عنا يعنو؛ إذا قصد وأراد، وقولهما: (هو الذي تعنين) فيه حسن الأدب، وحسن التخلص؛ لأنَّه لو قالا لها: لا؛ لفات المقصود، ولو قالا لها: نعم؛ لم يحسن ذلك؛ لأنَّ فيه تقرير ذلك، قاله إمام الشَّارحين؛ أي: لكونه عليه السلام صابئًا، فتخلصا بهذا اللفظ، وأشارا [10] إلى ذاته الشريفة لا إلى تسميتها؛ فليحفظ.
(فانطلقي)؛ أي: معنا إليه، (فجاءا)؛ بهمزة ممدودة؛ أي: علي وعِمران (بها) أي: بالمرأة المذكورة (إلى النَّبيِّ) الأعظم، ولأبي ذرٍّ، وأبي الوقت: (إلى رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي الكلام حذف؛ يعني: فانطلقت معهما إلى أَنْ وصلا بها إلى المكان الذي نزل به النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (وحدثاه الحديث)؛ أي: الذي وقع بينهما وبينها، (قال) أي: عمران بن الحصين (فاستنزلوها) وفي الكلام حذف أيضًا؛ يعني: فلما فرغا من الحديث؛ أمر النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أصحابه الموجودين في خدمته باستنزالها، فاستنزلوها (عن بعيرها)؛ أي: طلبوا منها النزول عنه، فالسين والتاء لـ (الطلب)، وإنما ذكره بلفظ الجمع؛ لأنَّه كان مع علي وعمران من تبعهما ممن يعينهما ويخدمهما، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: ويُحتمل أَنَّ عليًّا وعمران لم يباشرا طلب نزولها، وإنَّما الَّذين استنزلوها هم الأصحاب الذين كانوا بخدمة النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
(ودعا النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) فيه حذف؛ تقديره: فأتوا بها إلى النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأحضروها بين يديه، فدعا عليه السَّلام حينئذٍ (بإناء)؛ أي: وعاء الماء، ولم يذكر أنَّه سألها عن اسمها، وقبيلتها، وحالها، ولعلَّه اقتصر على ما حدَّثاه به عليٌّ وعِمران (ففرغ) عليه السَّلام، من التفريغ، وفي رواية الكشميهني: (فأفرغ) من الإفراغ، (فيه)؛ أي: في ذلك الإناء (من أفواه المَزَادتين)؛ تثنية مزادة؛ بفتح الميم، والزاي، الراوية: وهي أكبر من القربة، و (أفواه) جمع: (فم)؛ لأنَّ أصله: فوه، فحذفوا الواو [لأنها] لا تحتمل التنوين عند الإفراد، وعوَّضوا من الهاء ميمًا.
فإن قلت: لكل مزادة فم واحد، فكيف جمع؟
قلت: هذا من قبيل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، قاله إمام الشارحين.
قلت: ومنه قوله تعالى: {إِلَى المَرَافِقِ} [المائدة: 6] حيث جاء بلفظ الجمع، ولكلِّ يدٍ مرفقٌ واحد؛ لأنَّ ما كان واحدًا من واحد؛ فتثنيته بلفظ الجمع؛ ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، فلم يقل: قلباكما.
(أو) من أفواه (السَطِيحتين)؛ تثنية سَطِيحة؛ بفتح السين، وكسر الطاء المهملتين، بمعنى: المزادة؛ يعني: أفرغ من أفواههما، والشك من الراوي، ويحتمل أنَّه من أبي رجاء، أو من عمران، كما سبق، (وأَوكأَََ)؛ بهمزتين مفتوحتين، أولاهما في الأول، وثانيهما في الآخر؛ أي: شدَّ، وهو فعلٌ ماض، من الإيكاء: وهو شدُّ الوكاء، وهو ما يشدُّ به رأس القربة من حبل ونحوه؛ ومنه قوله عليه السَّلام: «العينان وكاء السَّهِ ... »؛ الحديث؛ يعني: شدَّ (أفواههما)؛ أي: المزداتين بحبل أو نحوه، وقد بين ذلك في رواية الطبراني، وكذا البيهقي قال: (فأفرغ من أفواه المزادتين، فمضمض في الماء، وأعاده في أفواه المزادتين، وأوكأ)، وبهذه الزيادة تظهر الحكمة في ربط الأفواه بعد فتحها، وبهذا حصلت البركة لاختلاط ريقه المبارك للماء، قاله إمام الشَّارحين، (وأطلق)؛ أي: فتح (العَزَالَي)؛ بفتح العين المهملة، والزاي، وفتح اللام، قال السفاقسي: (رويناه بالفتح)، ويجوز فتح الياء، وكذلك يجوز كسر اللام، جمع: لـ (عَزْلاء)؛ بفتح المهملة، وإسكان الزاي، وبالمد؛ وهو فم المزادة الأسفل، وهي عروقها التي يخرج منها الماء بسعة، ولكلِّ مزادة عزلاء وإن من أسفلها، قال الجوهري: (العزالِي)؛ بكسر اللام، وإن شئت فتحتها؛ مثل: الصحاري، والصحارى، ويقال: العزلاء: مَصْبُّ الماء من الرَّاوية والقِربة)، وفي «الجامع»: (عزلاء القربة: مصبٌّ يجعل في أحد يديها يستفرغ منه ما فيها، وإنَّما سُميت عزالي السحاب؛ تشبيهًا بها).
وقال السفاقسي: (رويناه بالفتح: وهو أفواه المزادة السفلى).
وقال الداودي: (ليس في أكثر الرِّوايات أَنَّهم فتحوا أفواه المزادتين أو السطيحتين، ولا أنهم أطلقوا العزالي، وإنما شقوا المزادتين، وهو معنى: صبوا منهما، ثُمَّ أعاده فيهما إن كان هو المحفوظ)، كذا في «عُمدة القاري».
قلت: وفيما قاله الداودي نظر، فإنَّ أكثر الروايات، بل جميعها: أنَّهم فرغوا الماء من المزادتين إلى الإناء، وأنَّهم أطلقوا العزالي على أن الشق يضر بالمزادة، ويفني الماء، فيفوت المقصود؛ فتأمل.
(ونُودي)؛ بضمِّ النون على البناء للمجهول (في الناس)؛ أي: الصحابة الموجودين وقتئذٍ، ولم يعلم اسم المنادي، والظاهر: أنه بلال؛ لأنَّه عالي الصوت: (اسقوا)؛ بهمزة وصل، من سقى فتكسر، أو همزة قطع من أسقى فتفتح؛ يعني: اسقوا غيركم كالدواب ونحوها (واستقوا)؛ أي: لأنفسهم؛ كلٌّ منهما، فعل أمر (فسقي من سقى) وفي رواية ابن عساكر: (فسقى من شاء)، (واستقى من شاء) قال إمام الشَّارحين: (والفرق بين «اسقوا» من السقي، و «استقوا» من الاستقاء: أَنَّ السَّقي لغيره، والاستقاء لنفسه، ويقال أيضًا: سقيته لنفسه، وأسقيته لماشيته) انتهى.
(وكان آخر ذلك) أي: آخر السَّقي والاستقاء (أن أعطى)؛ أي: النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (الذي أصابته الجنابة) وهو الرجل المعتزل المذكور (إناءً) مملوءًا (من ماء)؛ بالمد، ويجوز في لفظة (آخر) الرفع والنصب، أما الرفع؛ فظاهر؛ لأنَّه اسم (كان)، وقوله: (أن أعطى) خبره؛ لأنَّ (أن) مصدريَّة، وأمَّا النَّصب؛ فلأنَّه خبر (كان) مقدمًا على اسمه، وهو (أن أعطى)؛ لأنَّ (أن) مصدرية؛ تقديره: وكان إعطاؤه للرجل الذَّي أصابته الجنابة آخر ذلك، والأمران جائزان.
وقال العلامة أبو البقاء: (النصب أولى وأقوى؛ لأنَّ «أن» و «الفعل» أعرف من الفعل المفرد، وقد قُرِئ قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا} [النمل: 56]: بالوجهين) انتهى.
وقال إمام الشارحين: (وعندي كلاهما سواء؛ لأنَّ كلًّا معرفة) انتهى.
وفي رواية بإسقاط لفظة: (ذلك)، (قال) أي: النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم للَّذي أصابته الجنابة: (اذهب فأفرغه)؛ بقطع الهمزة، من الإفراغ: وهو الصَّبُّ، والضمير فيه يرجع إلى (الماء) الذي في
%ص 413%
الإناء؛ يعني: صُبه (عليك)؛ أي: على جسدك كله بعد أن تتمضمض وتستنشق؛ لأنَّهما من تمام غسل البدن (وهي قائمة)؛ أي: المرأة المذكورة قائمة تشاهد ذلك، وهذه الجملة اسمية محلها نصب على الحال على الأصل (تنظر إلى ما) أي: الذي (يُفعل)؛ بضمِّ أوله مبني للمجهول؛ أي: يفعلونه (بمائها) من تفريغه لسقي الدواب، ولسقي الجيش، وللوضوء، والغسل، فاستغربته؛ لعدم عهدها به عندهم لكونها من الكفار وقتئذٍ.
فإن قلت: الاستيلاء على الكفار بمجرده يبيح رق نسائهم وصبيانهم، وإذا كان كذلك؛ فقد دخلت هذه المرأة في الرق باستيلائهم عليها، فكيف وقع إطلاقها وتزويدها؟
قلت: إنَّما أطلقت لمصلحة الاستيلاف الذي جر دخول قومها في الإسلام، ويحتمل أنَّها كان لها أمان قبل ذلك، وكانت من قوم لهم عهد.
فإن قلت: كيفَ جَوزوا التَّصرف حِينئذٍ من مالها؟
قلت: بالنظر إلى كفرها أو لضرورة الاحتياج إليه، والضرورات تُبيح المحظورات، أفاده إمام الشَّارحين.
(وايم الله)؛ بوصل الهمزة، قال الجوهري: (وايمُنُ الله: اسم وضع للقسم هكذا بضمِّ الميم والنون، وألفه ألف الوصل عند الوصل عند الأكثر، ولم يجئ في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها، وهو مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف؛ والتقدير: أيمن الله قسمي، وربما حذفوا منه النون، فقالوا: وايم الله).
وقال أبو عُبيد: (كانوا يحلفون، ويقولون: يمين الله؛ لا أفعل، فجمع اليمين على أيمن، ثُمَّ كثر في كلامهم، فحذفوا النون، فألفه ألف قطع، وهو جمع، وإنَّما طرحت الهمزة في الوصل؛ لكثرة استعمالهم إياه).
قلت: فيها لغات؛ جمع منها النووي في «تهذيبه» سبع عشرة، وبلغ بها غيره عشرين، كذا قرَّره في «عُمدة القاري».
(لقد أُقلع)؛ بضمِّ الهمزة، من الإقلاع: وهو الكفُّ، يقال: أقلع عن الأمر؛ إذا كفَّ عنه (عنها)؛ أي: كف عن المزادة، فلم يأخذوا منها شيئًا؛ لأنَّهم قد اكتفوا لشربهم، ولدوابهم، وللوضوء، وكذا الغسل، وإنَّما أفردها؛ لأنَّهم إذا كفوا عن أحدهما؛ يكون الكف عن الأخرى ضرورةً، فكأنه قال: وايم الله؛ لقد أقلع عنهما جميعًا، والقائل ذلك: هو عمران بن الحصين، (وإنَّه)؛ أي: الشَّأن (ليُخيَل)؛ بضمِّ التحتية الأولى، وفتح الثانية، من التخييل، وهو مرادف للظن الذي هو استواء الطرفين (إلينا) أي: الصَّحابة (أنها) أي: المزادة (أشدُّ) أي: أكثر (مِلْأَة)؛ بكسر الميم وفتحها، وسكون اللام، بعدها همزة مفتوحة، وفي رواية البيهقي: (إملاء)؛ بهمزة أوله (منها) أي: المزادة (حين اُبْتُدئ)؛ بضمِّ الهمزة، وسكون الموحدة، وضم المثناة الفوقية، من الابتداء (فيها)؛ بالسقي والاستقاء؛ والمعنى: أنَّهم يظنون أن ما بقي فيها من الماء أكثر مما كان أولًا، فهذا من دلائل النبوة؛ حيث توضؤوا، وشربوا، وسقوا، واغتسل الجنب مما سقط من العزالي وبقيت المزادتان مملوءتانِ ببركة النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وعظيم برهانه، وكانوا أربعين، نص عليهم في رواية مسلم [11] بن رزين، وأنَّهم ملؤوا كل قربة كانت معهم.
وقال القاضي عياض: وظاهر هذه الرِّواية أنَّ جملة من حضر هذه القصة كانوا أربعين، ولا نعلم مخرجًا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه يخرج في هذا العدد، فلعله الرَّكب الَّذي عجلهم بين يديه؛ لطلب الماء، وأَنَّهم وجدوا [12] المرأة، وأنَّهم أسقوا للنَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قبلَ النَّاس، وشربوا، ثُمَّ شرب الناس بعدهم، كذا في «عُمدة القاري».
قلتُ: وقد يُقال: إنَّ الجيش حين سار النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم استأذن بالمشي بسرعة [13]، والسَّبق إلى المدينة، وبقي مع النَّبيِّ الأعظم عليه السَّلام هذا الركب وهم أربعون، وفيهم علي وعمران؛ فاختارهم عليه السَّلام لطَلَب الماء، فإنَّ الذي طلب الماء لم يكن إلا عليًّا وعِمْران، فلَّما فَرَغوا من السَّقي والاستقاء وساروا؛ ربما وجدوا بقية الجيش في الطريق، ولهذا ملؤوا قربهم جميعًا، وما ذاك إلا لأجل الجيش الذي تقدم، والله أعلم؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وفيه أنَّ جميع ما أخذوه من الماء مما زاده الله تعالى وأوجده، وأنَّه لم يختلط فيه شيءٌ من ماءِ تلك المرأة في الحقيقة وإنْ كان في الظَّاهر مختلطًا، وهذا أبدع وأغرب في المعجزة، وفيه دلالة: أنَّ عُمر رضي الله عنه أجلدُ المسلمين وأصلبهم في أمر الله عز وجل) انتهى.
(فقال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: لأصحابه الذين معه حين رأى المرأة تريد الرُّجوع إلى أهلها: (اجمعوا لها)؛ أي: من الزَّاد مكافأةً لها بما أخذ من مائها وتطييبًا لخاطرها، حيث حُبِسَتْ في ذلك الوقت عن المسير إلى قومها، وحيث طاوعتهما في المجيء إلى النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من غير مُقاتلة، فإنَّه إذا امتنع صاحب الماء عن دفعه وهو غير محتاج إليه للعطش، وهنالك مضطر إليه للعطش؛ كان له أخذه منه قهرًا، وله أنْ يُقاتله، كما في «السِّراج الوهَّاج»، وينبغي تقييده بما إذا امتنع من دفعه مجانًا أو بالثمن، وللمُضطر ثمنه، وذكروا في باب (الشُّرب): أنَّ له أنْ يُقاتله بالسِّلاح.
قال في «الدرُّ المُختار»: (هذا في غير المحرز بالأواني، أما المحرز؛ فيقاتله بغير السِّلاح إذا كان فيه فضل عن حاجته لملكه له بالإحراز، فصار نظير الطعام) انتهى، ومثله في «المنح» و «التبيين».
وأما في البئر ونحوه؛ الأَولى أنْ يقُاتله بغير سلاح؛ لأنَّه قد ارتكب معصية، فكان كالتعزير، كما في «الكافي»، فإنْ قاتله وكان المقتول ربَّ الماء؛ فدمه هدرٌ لا قِصَاص فيه، ولا دية، ولا كفَّارة، كذا في «السِّراج»، ويبقى [14] أن يَضمن المُضطر قيمة الماء، كما في «حواشي الشَّرنبلالي»، وإنْ كان المقتول المضطر؛ فهو مضمون إما بالقصاص إن كان القتل عمدًا؛ كأنْ قتله بمحدد، وإما بالدية إن كان القتل شِبه عمد، أو خطأ، أو جرى مجرى الخطأ، والدية على العاقلة، وعلى القاتل الكفارة، أفاده صاحب «البحر».
قال في «السِّراج»: (وإن كان صاحب الماء محتاجًا إليه للعطش؛ فهو أولى به من غيره، فإن احتاج إليه الأجنبي للوضوء؛ لم يلزمه بذله، ولا يجوز للأجنبي أخذه منه قهرًا) انتهى، وتمامه في شرحنا «منهل الطُّلاب».
(فجمعوا لها من بين) وفي رواية: (ما بين) (عجوة): وهي تمر من أجود التَّمر بالمدينة، وقال ابن التين: (العجوة: نوع من تمر المدينة أكبر من الصيحاني، وتسمَّى اللينة)، كذا في «عمدة القاري»،
%ص 414%
(ودَقيقة وسَويقة)؛ بفتح أولهما، وفي رواية كريمة؛ بضمِّ الدال؛ مصغرًا، وزعم الكرماني: (دقيقه وسويقه) رويا مكبرين ومصغرين، كذا في «عُمدة القاري» (حتى جمعوا لها طعامًا) زاد أحمد في رِوايته: (كثيرًا)، والطَّعام: كل ما يُؤْكل، وربَّما خصَّ الطَّعام بالبرِّ، قاله الجوهري، وفي حديث أبي سَعِيْد: كنَّا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير، كذا في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أنَّ فيه إطلاق لفظ الطَّعام على غير الحِنطة والذُّرة خلافًا لمن أبى ذلك.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (قلتُ: هذا القول منه يخالف قول أهل اللُّغة جميعًا، والمراد ههنا من الطعام: غير ما ذكر من العجوة، وهو أعم من أن يكون حِنطةً، أو شعيرًا، أو كعكًا، أو نحو ذلك) انتهى.
(فجعلوه)؛ أي: الذي جمعوه من عجوة، ودقيقة، وسويقة، ونحوها، وفي رواية أبي ذرِّ: (فجعلوها)؛ أي: العجوة، والدقيقة، والسويقة
وزعم الكرماني أنَّ الضمير في (جعلوه) يرجع إلى الطعام، وفي (جعلوها) يرجع إلى الأنواع المذكورة.
وردَّه إمام الشَّارحين؛ حيث قال: (قلت: لم يجعلوا الطعام وحده في الثَّوب حتى يرجع الضمير إليه، والصواب من القول: أنَّ الضمير فيه يرجع إلى كلِّ واحد باعتبار المذكور) انتهى.
قلت: وهو وجيه، كما لا يخفى.
(في ثوبٍ)؛ يعني: كان معها ملك لها، (وحمَلوها)؛ بتخفيف الميم؛ أي: المرأة المذكورة (على بعيرها)؛ أي: الذي جاءت عليه، (ووضعوا الثَّوب)؛ أي: الذي جعلوا فيه هذه الأطعمة (بين يديها)؛ أي: قُدامها على البعير، ولم يذكر تحميلهم المزادة، والظاهر: أنَّه مفهوم من قوله: (وحمَّلوها)؛ بتشديد الميم؛ لأنَّه يُحتاج إلى مشقةٍ وتعبٍ حيث يحملون المزادتين أولًا، ويشدونهما [15] على البعير، ويحملونها [16] بعده عليه، فاقتُصر عليه؛ لأنَّ الحاجة إلى المزادتين أبلغ؛ لأنَّ الماء حياة الأبدان والطعام غذاؤها، فالأول أبلغ؛ فافهم.
(قال لها)؛ أي: النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية الأصيلي: (قالوا لها)؛ أي: الصَّحابة الذين معه بأمره صلَّى الله عليه وسلَّم: (تَعْلَمِين)؛ بفتح المثناة الفوقية، وسكون العين المهملة، وتخفيف اللام، مفرد مؤنث من باب (علم يعلم)، وزعم ابن حجر أنه بفتح التاء، والعين، وتشديد اللام؛ أي: اعلمي.
وردَّه إمام الشَّارحين حيث قال: قلت: لا حاجة إلى هذا التَّعسف، وإنَّما هو مفرد مخاطب مؤنث من باب (علم يعلم) انتهى.
(ما رَزِئْنا)؛ بفتح الراء، وكسر الزاي، بعدها همزة ساكنة؛ أي: ما نقصنا، وزعم الكرماني أنَّه بفتح الزاي، قال إمام الشَّارحين: (الكسر هو الأشهر، يقال: ما رزأته وما رزئته _بالكسر_ ماله؛ أي: نقصته، وارتزأ الشيء: انتقص) انتهى، (من مائك شيئًا)؛ أي: فجميع ما أخذنا من الماء مما زاده الله تعالى، وأوجده، ويؤيده قوله: (ولكنَّ الله هو الذي أسقانا)؛ بالهمزة أوله، وفي رواية ابن عساكر: (سقانا)؛ بإسقاطها، (فأتت أهلها)؛ يعني: قومها، وفيه حذفٌ؛ تقديره: فلما قالوا لها ذلك، وسمعته؛ ذهبت من منزل النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فسارت في الطَّريق وحدها إلى أن وصلت إلى قومها، (وقد احتبست عنهم) مدة يَسيرة زائدة عن عادتها؛ لأنَّها جاءتهم في اليوم الثاني لخروجها من عندهم يدلُّ عليه قولها فيما سبق: (عهدي بالماء أمس)؛ فتأمل.
(فقالوا) وفي رواية: (قالوا)؛ يعني: أهلها، والمراد: قومها؛ لأنَّه أعم، وقوله: (لها) ثابتٌ في رواية الأصيلي، ساقط في غيرها (ما حَبَسكِ) يعني: أي شيء حبسك (يا فلانة؟) كناية عن اسم مؤنث مبهم، (قالت: العجبُ!): مرفوع بفعل مقدر؛ تقديره: حبسني العجب، وهو الأمر الذي يُتَعَجَّب منه لغرابته، وكذلك العجيب، والعُجائب؛ بالضم والتخفيف، والعُجَّائب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة، ولا يجمع عجب ولا عجيب، ويقال: جمع عجيب: عجائب؛ مثل: تبيع وتبائع، و (أعاجيب) جمع: (أعجوبة)؛ كـ (الأحاديث) جمع: (أحدوثة)، وعجبت من كذا، وتعجبت منه، واستعجبت كلها بمعنًى، وأعجبني هذا الشيء لحُسنه، وعجبت غيري تعجييًا، والعُجْب؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الجيم: اسم من أُعجب فلان بنفسه؛ فهو مُعجبٌ برأيه وبنفسه، كذا في «عُمدة القَاري»، (لقيني) أي: في الطَّريق بعد ما ملأت المزادتين (رجلان) وكأنها لم تعلم باسمهما، (فذهبا بي إلى هذا) وقوله: (الرَّجل) ثابت في رواية أبي ذرٍّ، ساقطٌ في غيرها (الذي يُقال) بضمِّ المثناة التحتية أوَّله (له) عند المشركين، وأهل الكتاب: (الصَّابئ)؛ بالهمزة، وبغيرها روايتان، فالأول: من صبأ؛ إذا خرج من دين إلى دين، والثاني: من صبا يصبو؛ إذا مال، وسيأتي، (ففعل كذا وكذا)؛ يعني: بالمزادتين حيث أفرغ منهما في إناء، فمضمض، ثم ألقى فيهما وربط الوكاء، وأطلق العزالي، ونادى منادٍ في الجيش: اسقوا واستقوا؛ فسقى من شاء، واستقى من شاء، وأعطى رجلًا إناء، فأمره أن يغتسل به وإنَّ الماء قد زاد، ووجد أكثر مما كان أولًا، وقال لي: «ما رزِئنا من مائك شيئًا»، وجمعوا لي هذا الطعام الذي في هذا الثَّوب، فأفرغته بين أيديهم، ثُمَّ قالت: (فوالله إنه لأسخى النَّاس) من السَّخاء؛ يعني: كثيره، وفي رواية: (لأسحر) من السحر؛ لأنَّها رأت شيئًا عجيبًا في زعمها؛ حيث شاهدت من دلائل نُبوته، وباهر مُعجزاته أنَّهم توضؤوا وشربوا، وسقوا دوابهم، واغتسل الجُنب مما سقط من العزالي، وبقيت المزادتان مملوءتان ببركته، وعظيم بُرهانه، فزعمتْ أنَّه سِحْر؛ لأنَّه خارقٌ للعادة، وما هو بسحر، إنْ هو إلا مُعجزة نبيٍّ مرسل صلى الله تعالى عليه وسلم (من بين هذه وهذه)؛ يعني: السماء والأرض، وكان المُناسب أن تقول: (في بين) بلفظة (في)، وأجيب: بأن (مِن) بيانية مع جواز استعمال حروف الجر بعضها مكان بعض، كذا في «عُمدة القَاري»، (وقالتْ)؛ أي: أشارت (بإصبعها) فهو من إطلاق القول على الفعل، وقد مرَّ نظيره (الوسطى والسَّبابة)؛ بالسِّين المهملة فيهما، وإنما سميت وسطى؛ لتوسطها بين الأصابع الخمسة، وسميت سبَّابة؛ لأنَّه يشار بها عند السَّبِّ والمخاصمة، وهي المُسبِّحة، وسمِّيت بذلك؛ لأنَّه يشار بها إلى التَّوحيد
%ص 415%
والتنزيه (فرفعتهما)؛ أي: الوسطى والسبابة (إلى السماء؛ تعني)؛ أي: تقصد وتريد المرأة بذلك: (السماء والأرض)؛ لأنَّه نبي مرسل إلى كافَّة النَّاس بشيرًا ونذيرًا؛ وقوله: (أو إنه) عطف على قولها: (فوالله؛ إنه) (لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حقًّا) مصدر حق؛ يعني: أحقه رسول الله حقًّا يقينًا، وظاهر قولها هذا وإن كان فيه الشَّك: أنَّها آمنت به عليه السَّلام قبل وصولها إلى قومها، وقولها: (إنَّه لأسحر النَّاس) إنَّما قالته خوفًا من أهلها وقومها أنْ يقتلوها، ففاجئتهم أولًا بذلك، ثم قالت لهم ما هو الحق؛ لأجل أن يرغبوا في الإسلام، يدلُّ عليه: أنَّها هي التي كانت سببًا في إسلام قومها، كما يأتي قريبًا، وزعم القسطلاني أنَّ هذا منها ليس بإيمان؛ للشكِّ، لكنها أخذت في النظر؛ فأعقبها الحق، فآمنت بعد ذلك.
قلتُ: بل هذا منها إيمان به عليه السَّلام، والشكُّ لا ينافي ذلك؛ لأنَّها ذكرت ذلك لقومها، فلو قالتْ لهم ابتداءً: إنَّه لرسول الله؛ لربما وقع في نفوسهم شيءٌ فقتلوها، وهي تعلم ذلك منهم؛ فعبَّرت لهم كلامًا يوافق نفوسهم حيث ابتدأت بما يرضون به، ثُمَّ ثنَّت بما يرضيها، فهذا الشَّك طارئٌ عليهم بمعنى التَّشكيك، فإنَّها تعلم أنَّه رسول الله، لكنها شكَّكت الأمر عليهم أولًا، ثم حققته لهم.
وقوله: (لكنَّها أخذت ... ) إلى آخره؛ هذا تناقض، فإنَّها حققت النَّظر حين كانت في منزل النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وآمنت وكتمت إيمانها خوفًا من أهلها وقومها، ويحتمل أنَّ قولها: (أوَ إنَّه لرسول الله) ناسخٌ لقولها: (إنَّه لأسحر الناس)؛ لتقدمه، وإثباتُ قولها: (إنَّه لرسول الله) بقولها: (حقًّا)؛ يعني: صِدقًا صادقًا، فلو كانت شاكَّةً؛ لم تأت بقولها: (حقًّا)؛ فليتأمل.
(فكان المسلمون بعد) وقوله: (ذلك) ساقط في رواية الأصيلي، ثابتٌ في غيرها، والإشارة إلى القصة، ووصول المرأة إلى أهلها، وقولها لقومها: (يُغيرون)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، من الإغارة بالخيل في الحرب، قيل: ويجوز فتح الياء؛ من غار.
قلتُ: لكنه قليل، وكونه من أغار هو الكثير المشهور؛ فافهم.
(على من حولها من المشركين)؛ يعني: يغزونهم [17]، ويقاتلونهم، ويغنمون [18] منهم الغنائم، (ولا يصيبون) أي: ولا يغيرون (الصِرْم)؛ بكسر الصاد المهملة، وسكون الراء: وهو أبيات من النَّاس مجتمعة، والجمع: أصرام وأصاريم وصرمال، والأخيرة عن سيبويه، كذا في «عُمدة القَاري»، وزعم القسطلاني أن الصِرْم: نفر ينزلون بأهليهم على الماء.
قلتُ: وهو غير ظاهر؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما أرسلوا المرأة المذكورة إلى الماء؛ لأجل أنْ تأتيهم به، وقد حَملتْ على بعيرها مزادتين، كما سبق في أوَّل القصة، فهذا يدلُّ على أنَّه أبيات من النَّاس مجتمعة، كما فسَّره إمام الشَّارحين؛ لأنَّهم لو كانوا نازلين على الماء؛ لم يحتاجوا إلى استجلابه؛ فليحفظ.
(الذي هي منه)؛ أي: المرأة المذكورة، وإنما لم يغيروا عليهم وهم كفرة؛ يُحتمل أنَّه للطمع في إسلامهم بسبب وجودها عندهم، ويُحتمل أنه لرِعاية زمامها.
قلتُ: والظاهر الأول، ويدلُّ عليه قوله: (فقالت) أي: المرأة المذكورة (يومًا لقومها) والمراد بهم: أهلها وغيرهم؛ فهو أعم، وذلك بعد أن رأى قومها إغارة المسلمين على المشركين حولهم، ولم يصيبوهم [19] بسوءٍ أصلًا؛ فافهم.
(ما أُرى)؛ بضمِّ الهمزة بمعنى: أظن، وبفتحها بمعنى: أعلم، و (ما) موصولة، كذا في «عُمدة القَاري» (أَنَّ) بفتح الهمزة، وتشديد النون (هؤلاء القوم) أي: المسلمين (يدَعونَكم)؛ بفتح الدال المهملة؛ أي: يتركونَكم من الإغارة عليكم (عمدًا)؛ أي: لا غفلة عنكم، ولا سهوًا منهم، ولا خوفًا منكم، بل لاستيلافكم ومراعاة لما سبق بيني وبينهم، وهذه رواية أبي ذرٍّ، وهي الأولى، وفي رواية الأكثرين: (ما أَرى هؤلاء)؛ بفتح الهمزة في (أرى)، وإسقاط كلمة (أن)، وفي رواية ابن عساكر: (ما أُرى)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: أظن (إنَّ هؤلاء)؛ بكسر الهمزة، وفي رواية الأصيلي: (ما أدري أَنَّ)؛ بالدال المهملة بعد الألف، وفتح همزة (أَنَّ)، وتشديد نونها، وهي في موضع نصبٍ على المفعولية؛ والمعنى: ما أدري ترك هؤلاء إيَّاكم عمدًا لماذا هو؟
وقال المحقق أبو البقاء: الجيِّد أن يكون (أن هؤلاء)؛ بالكسر على الإهمال والاستئناف، ولا يفتح على إعمال (أدري) فيه؛ لأنَّها قد عملت بطريق الظاهر، ويكون مفعول (أدري) محذوفًا؛ والمعنى: ما أدري لماذا تمتنعون من الدُّخول في الإسلام إنَّ المسلمين تركوا الإغارة عليكم عمدًا مع القُدرة منهم عليكم؟ وقيل: إنَّ (ما) نافية، و (إنَّ) بالكسر؛ ومعناه: لا أعلم حالكم في تخلفكم عن الإسلام مع أنَّهم يدعونكم عمدًا، (فهل لكم) أي: رغبة بالدُّخول (في الإسلام؟) فقال: بلى، (فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام)؛ فحصل لها بذلك زيادة الثَّواب، والترقي في الدَّرجات في الجنان، وهذا يدلُّ على أنَّها آمنت قبلهم كما ذكرنا؛ لأنَّه لو كان غير ذلك؛ لما قالت لهم ذلك، ولما أمرتهم بالدخول في الإسلام، بل كانت مثلهم، فقولها: (ما أرى ... ) إلى آخره؛ دليل على إيمانها من قبل، وأنَّها تريد دخولهم في الإسلام، فلمَّا رأت إغارة المسلمين على المشركين دونهم؛ صار لها دخل وسبب في دخولهم، فحقق الله مقصدها، وفي الحديث الصَّحيح: أنَّه عليه السلام قال لعلي: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمرِ النِّعم»، وفي الحديث أحكام؛
أحدها: فيه استحباب سلوك الأدب مع الأكابر، كما فعل عُمَر رضي الله عنه في إيقاظ النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
الثاني: فيه إظهار التأسُّف لفوات أمر من أمور الدين.
الثالث: فيه لا حرج على من تفوته صلاة، لكن لا بتقصير منه؛ لقوله عليه السلام: «لا ضَير».
الرابع: فيه أَنَّ من أجنب ولم يجد ماءً؛ فإنَّه يتيمم؛ لقوله عليه السلام: «عليك بالصَّعيد».
الخامس: فيه أنَّ العالم إذا رأى أمرًا مجملًا يسأل فاعله عنه ليوضحه؛ فيوضح له وجه الصَّواب.
السادس: فيه استحباب الرِّفق والملاطفة في الإنكار على أحد؛ كترك الشَّخص الصَّلاة بالجماعة.
السابع: فيه الإنكار على ترك الشَّخص الصَّلاة بحضرة المصلين بغير عذر.
الثامن: فيه أن قضاء الفوائت واجبٌ، ولا يسقط بالتأخير ويأثم بتأخيره بغير عذر.
التاسع: فيه أنَّ من حلت به فتنة في بلدٍ؛ فليخرج منه وليهرب
%ص 416%
من الفتنة بدينه، كما فعل الشارع بارتحاله عن بطن الوادي الذي تشاءم به لأجل الشؤم.
العاشر: فيه أنَّ من ذكر صلاة فائتة له أن يأخذ ما يصلحه من وضوء، وطهارة، وابتغاء بقعة تطمئن نفسه للصَّلاة عليها، كما فعل الشَّارع بعد أَنْ ذكر الفائتة، فارتحل بعد الذِّكر ثُمَّ توضأ وتوضأ الناس.
الحادي عشر: فيه استحباب الأذان والإقامة للفائتة؛ لما في «المستدرك» من حديث الحسن [20] عن عِمران: (نمنا عن صلاة الفجر حتى طلعت الشَّمس، فأمر المُؤذن فأَذن، ثُمَّ صلى الرَّكعتين قبل الفجر، ثُمَّ أقام المؤذن فصلى الفجر)، وقال: (صحيحٌ على ما قدمنا)، وعند أحمد: (ثُمَّ أمر بلالًا فأذن، ثُمَّ صلى الرَّكعتين قبل الفجر، ثُمَّ أقام فصلينا).
الثاني عشر: فيه جواز أداء الصَّلاة الفائتة بالجماعة إنْ كان الفرض واحدًا، كما فعل الشَّارع.
الثالث عشر: فيه وجوب طلب الماء للشرب، والوضوء، والغسل.
الرابع عشر: فيه أَنَّ أخذ الماء المملوك لغيره لضرورة العطش بعوض إن كان يعطيه، وإلا؛ فيأخذه قهرًا، كما قدمنا.
الخامس عشر: أَنَّ العطشان يقدم على الجنب عند صرف الماء إلى النَّاس؛ لأنَّه لا خُلف للنفوس إذا زهقت من العطش بخلاف الجُنب؛ لأنَّ الطهارة لها خُلف وهو التَّيمم.
السادس عشر: فيه جواز المعاطاة في الهبات والإباحات من غير لفظ من الجانبين.
السابع عشر: فيه تقديم مصلحة شرب الآدمي والحيوان على غيره كمصلحة الطَّهارة بالماء، ووقع في رواية سلم بن رزين: (غير إنا لم نسق بعيرًا).
وأجيب: بأنَّ هذا مبني على أَنَّ الإبل لم تَكُنْ إذ ذاك مُحتاجة إلى السَّقي.
الثامن عشر: فيه جواز الخلوة بالمرأة الأجنبية والكلام معها عند أمنِ الفتنة في حالة الضَّرورة الشَّرعية.
التاسع عشر: فيه جواز استعمال أواني المشركين، وكذا ثيابهم ما لم يتيقن فيها النجاسة، وقال أئمتنا الأعلام: إذا اشترى ثوبًا من يهودي أو نصراني؛ جاز له أَنْ يصلي به، ولو لم يغسله؛ لأنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة.
العشرون: فيه جواز اجتهاد الصحابة بحضرة النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو المُختار، وعليه الجُمهور، وقيل: لا يجوز، وقد تقدم، وزعم ابن حجر أَنَّ في الحديث جواز أخذ مال النَّاس عِند الضَّرورة بثمنٍ إنْ كان له ثمن.
قال إمام الشَّارحين: (وفيه نظر)، ولم يذكر وجهه.
قلت: وجهه أَنَّ أخذ مال النَّاس ولو بثمنٍ عند الضرورة لا يجوز؛ لأنَّه تصرف بغير إذن من مالكه، وهو غير جائز إلا الماء للشرب؛ لأجل العطش، والطعام؛ للأكل في المجاعة، فإنَّه في هذين الموضعين يجوز أخذ الماء والطعام قهرًا، وما عداهما فإنَّه لا يجوز، يدلُّ عليه قوله عليه السَّلام: «فإنَّ أموالكم عليكم حرام ... »؛ الحديث فكيف قال هذا القائل ما قال؛ فافهم.
الحادي والعشرون: فيه جواز تأخير الفائتة عن وقت ذكرها إذا لم يكن عن تغافلٍ أو سهو [21]، وذلك من قوله: (ارتحلوا)؛ بصِيغة الأمر.
الثاني والعشرون: فيه مُراعاة ذِمام الكافر، والمحافظة به كما حفظ [22] النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم هذه المرأة في قومها وبلادها، فراعى [في] قومها ذِمامها وإن كانت من ضميمهم.
الثالث والعشرون: فيه جواز الحلف من غير استحلاف.
الرابع والعشرون: فيه جواز الشَّكوى من الرعيَّة إلى الإمام عند حُلول أمرٍ شديدٍ.
الخامس والعشرون: فيه جواز التعريس للمسافر إذا غلب عليه النوم.
السادس والعشرون: فيه مشروعية قضاء الفوائت، وأنَّه لا يسقط بالتأخير.
السابع والعشرون: فيه جواز الأخذ للمُحتاج برضى المطلوب منه، وبغير رضاه إنْ تعين.
الثامنُ والعشرون: فيه جواز النَّوم على النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كنوم أحد منا في بعض الأوقات.
التاسع والعشرون: فيه جواز السَّفر من غير أن يعين يومًا أو شهرًا، قاله في «عُمدة القاري».
زاد المستملي في روايته قوله: (قال أبو عبد الله): هو المؤلف نفسه (صبأ: خرج من دين إلى غيره) وأراد المؤلف بهذا: الإشارة إلى الفرق بين الصابئ المراد في هذا الحديث، والصابئ: المنسوب إلى طائفة من أهل الكتاب، أمَّا الصابئ الذي هو المراد في هذا الحديث في قول المرأة المذكورة: (الذي يقال له: الصَّابئ)؛ فهو من صبا إلى الشيء يصبو؛ إذا مال، وهو غير مهموز، وكانت العرب تسمي النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: الصَّابئ؛ لأنَّه خرج من دين قريش إلى الإسلام، ويسمون من دخل في الإسلام مصبوًا؛ لأنَّهم لا يهمزون، ويسمون: الصُّباة؛ بغير همز جمع: (صابي) غير مهموز؛ كقاض وقُضاة، وغاز وغُزاة، وقد يقال: صبأ الرجل إذا عشق، وقد يقال: صابئ؛ بالهمز من صبا يصبو؛ بغير همز صبا وصبو؛ إذا خرج من دين إلى آخر.
وأما الصَّابئ المنسوب إلى طائفةٍ من أهل الكتاب؛ فأشار إليه بقوله: (وقال أبو العالية): هو رُفيع؛ بضمِّ الراء، ابن مهران الرياحي، مما وصله ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس عنه قال: (الصابئين) جمع صابئ، وأصله من صبأ يصبأ صبأ.
والصَّابئ نسبة إلى صابي ابن أبي متوشلخ بن أخنون بن برد بن مهليل بن فتين بن بايش بن شيث بن آدم عليه السلام، وقيل: نِسبة إلى صابي بن ماري، وكان في عصر إبراهيم الخليل عليه السلام، كذا قاله الرشاطي.
وأراد أبو العالية تفسير (الصَّابئين) المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الذينَ آمَنُوا وَالذينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وهو إن كان عربيًّا؛ فمن صبأ؛ إذا خرج، يقال: صبأ ناب البعير يصبأ صبًا وصبوًا؛ أي: طلع حده، وصبا الرجل صبوًا؛ أي: خرج من دين إلى آخر، ويقال: صبا يصبو صبوةً وصبوًا؛ أي: مال، كذا في «الصحاح».
وقرأ الجمهور: (والصابئين)؛ بالهمزة بعد الباء؛ كالخاطئين، وقرأ نافع: بياء تحتية ساكنة بعد الموحدة بغير همزة بينهما،
%ص 417%
وقُرئ: بيائين خالصتين بدل الهمزة، جعله من صبا ناب البعير، ومن لم يهمزه؛ يحتمل أن يجعله من المهموز، ويبدل همزة (صابئ) حرف علة؛ للتخفيف إما إلى ياء، أو إلى واو، ثم يعل كإعلال قاض أو غاز، إلا أن سيبويه لا يرى قلب هذه الهمزة إلا في الشِّعر، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقًا، ويحتمل أن يجعله من صبا يصبو؛ إذا مال، فأعلَّ (الصابئ) كإعلال (الغازي).
واختلف العلماء في تفسيره، فقال أبو العالية: هم (فرقة)؛ أي: طائفة (من أهل الكتاب يقرؤون الزَّبور) ويصلُّون إلى الكعبة، فهم مصدقون بقلوبهم بجميع ما يجب أن يصدق به دينهم قبل أن ينسخ، فأخبر سبحانه عنهم بأن لهم أجرًا جزيلًا [23] ولا خوف عليهم ولا حزن؛ لأنَّ أصل دينهم دين نوح عليه السَّلام، وكان دينًا حقًّا قبل أَنْ يُنْسخ، وهذا قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وهو قول أبي العالية، وقتادة، والسدي، وأبي جعفر الرازي، فهم كأهل الكتاب في حل ذبائحهم، ونكاح نسائهم؛ لأنَّهم يقرؤون الزبور، ويُعْظِّمون الكواكب تعظيم القبلة حيث يتوجهون إليها في صلاتهم، كما يتوجه المسلمون إلى الكعبة، ويقولون: إن الله تعالى أمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قِبلةً للصَّلاة والدُّعاء.
وقال أبو زيد: (الصَّابئون أهل دينٍ من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله)، وقال الحسن: (أخبر زياد: أَنَّ الصابئين يصلون للقِبلة، ويصلُّون الخمس)، قال: فأراد أن يضع عليهم الجزية فأخبر بعد أَنَّهم يعبدون الملائكة.
وقال مُجَاهِد: (هم فرقة بين المجوس واليهود).
وقال ابن الأنباري: (هم فرقة من النصارى، قولهم أكبر من قول النصارى)، وعلى هذا؛ فلا دين لهم، ولا أجر، بل هم ممن باؤوا بغضب من الله، فلا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، وهذا قول الإمامين أبي يوسف ومحمَّد بن الحسن، وهو قول الحسن البصري، وابن أبي نجيح.
قلت: وظاهر الآية الشريفة يردُّ هذا؛ لأنَّ قوله تعالى: {إِنَّ الذينَ آمَنُوا}؛ المؤمنون حقًّا: المتديِّنون بدين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، والذين هادوا: اليهود الذين تابوا ولم يغيروا، والنصارى: نصارى عيسى عليه السلام، والصابئين: الخارجون من الباطل إلى الحق من آمن بالله؛ دام منهم على الإيمان به {وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، فلو كان كما قالوا؛ لما وعدهم سبحانه بالأجر وعدم الخوف والحزن؛ لأنَّ المستحق لذلك هو المتدين بدين الحق، والمقيم عليه وعلى العمل الصَّالح، على أَنَّ هذا الاختلاف مبنيٌ على أنهم عبدة الأوثان؛ لأنَّهم يعبدون الكواكب، فالجُمهور على أنهم يعظِّمون الكواكب كتعظيم المسلم الكعبة، وعلى هذا؛ فيجوز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم بالإجماع، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اكلأنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (اكلأنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (آخرين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (أقم)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (ينفي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (تعريض)، لعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (فأشار)، والمثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (سلم)، وهو تحريف.
[12] في الأصل: (وجودا)، وهو تحريف.
[13] في الأصل: (سرعة)، ولعله تحريف.
[14] في الأصل: (ويبغى)، وهو تصحيف.
[15] في الأصل: (ويشدوهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[16] في الأصل: (ويحملوها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[17] في الأصل: (يغزوهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[18] في الأصل: (ويغنموا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[19] في الأصل: (يصيبونهم)، والمثبت هو الصواب.
[20] في الأصل: (الحسين)، وهو تحريف.
[21] في الأصل: (سهوى)، ولعله تحريف.
[22] في الأصل: (حفظه)، و المثبت هو الصواب.
[23] في الأصل: (أجر جزيل)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اكلأنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (اكلأنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (آخرين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (أقم)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (ينفي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (تعريض)، لعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (فأشار)، والمثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (سلم)، وهو تحريف.
[12] في الأصل: (وجودا)، وهو تحريف.
[13] في الأصل: (سرعة)، ولعله تحريف.
[14] في الأصل: (ويبغى)، وهو تصحيف.
[15] في الأصل: (ويشدوهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[16] في الأصل: (ويحملوها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[17] في الأصل: (يغزوهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[18] في الأصل: (ويغنموا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[19] في الأصل: (يصيبونهم)، والمثبت هو الصواب.
[20] في الأصل: (الحسين)، وهو تحريف.
[21] في الأصل: (سهوى)، ولعله تحريف.
[22] في الأصل: (حفظه)، و المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اكلأنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (اكلأنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (آخرين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (أقم)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (ينفي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (تعريض)، لعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (فأشار)، والمثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (سلم)، وهو تحريف.
[12] في الأصل: (وجودا)، وهو تحريف.
[13] في الأصل: (سرعة)، ولعله تحريف.
[14] في الأصل: (ويبغى)، وهو تصحيف.
[15] في الأصل: (ويشدوهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[16] في الأصل: (ويحملوها)، ولعل المثبت هو الصواب.
[17] في الأصل: (يغزوهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[18] في الأصل: (ويغنموا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[19] في الأصل: (يصيبونهم)، والمثبت هو الصواب.
[20] في الأصل: (الحسين)، وهو تحريف.
[21] في الأصل: (سهوى)، ولعله تحريف.
[22] في الأصل: (حفظه)، و المثبت هو الصواب.
(1/584)
(7) [باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان (إذا خاف الجنب) أي: الذي يجد الماء وهو صحيح مقيم في المصر، والمراد بالخوف: غلبة الظنِّ عن أمارة أو تجربة صحيحة، أو إخبار طبيب مسلم حاذق غير ظاهر الفسق، وقيل: عدالته شرطٌ (على نفسه المرض) إن اغتسل بالماء، وكذا إذا خاف تلف عضو من أعضائه، أو كان مريضًا، فخاف أن يزيد مرضه أو بطؤه؛ فإِنَّهُ يتيمم عند الإمام الأعظم، وقال الإمامان أبو [1] يوسف، ومحمَّد بن الحسن: لا يتيمم، قال الإمام الجليل قاضيخان: (الجُنُب الصحيح في المِصْر إذا خاف الهلاك من الاغتسال؛ يُباح له التيمم عند الإمام الأعظم خِلافًا للصاحبين) انتهى.
وكذا لو كان صحيحًا فخاف حدوث مرض؛ فإنه يتيمم، كذا في شرح «النقاية» للعلامة القهستاني فَعُلِم أَنَّ اليسير من المرض لا يبيح التَّيمم، وهو قول الجمهور، كذا في «البحر»، وهذا قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وقال مالك، والثَّوري: إذا خاف الجنب على نفسه المرض؛ يُبَاح له التَّيمم مع وجود الماء، ويلحق به خوف الزيادة، وهو الأصح عند الشَّافعي، وفي رواية عن مالك: بالمنع، وبه قال أحمد، وقال عطاء، والحسن البصري: لا يُبَاح التيمم بالمرض أصلًا، وكرهه طاووس، وإنَّما يجوز له التَّيمم عند عدم الماء، فأما مع وجوده؛ فلا يجوز، وهو قول الإمامين كما سبق، وإن كان المرض لا يلحقه باستعمال الماء ضررٌ كالصداع والحمى؛ لا يجوز له التَّيمم، كذا في «الحلية»، وهو رواية عن مالك، وقال داود: يجوز، وهو رواية عن مالك أيضًا، ولا فرق عند الإمام الأعظم في زيادة المرض بين أن يزداد بالتحرك؛ كالمبطون، أو باستعمال؛ كالجدري، كما صَرَّح به في «منهل الطُّلاب»، فلو خاف من استعمال الماء شيئًا في المحل؛ يجوز له التَّيمم عندنا للضَّرورة الدَّاعية، وهي كونه يصير مشوه الخِلقة، وربما يسود وجهه، أو تتعطل عينه، أو أنفه، أو غير ذلك، وهو قولٌ للشَّافعي، وفي آخر عنه: إنَّه لا يجوز، وتمامه في «عُمدة القاري»، (أو) خاف الجُنُب على نفسه (الموت) إنِ استعمل الماء حيث يقتله البرد؛ فيُبَاح له التيمم، وهذا بلا خلاف، وذكر قاضيخان اختلاف الرِّواية عن الإمام الأعظم، فجوَّزه شيخ الإسلام، ومنه شمس الأئمَّة السَّرخسي.
قلتُ: والجواز قول الإمام الأعظم، والمنع قول الإمامين أبي يوسف ومُحمَّد بن الحسن، وأما الجُنُب المسافر إذا خاف الهلاك من الاغتسال؛ فيجوز له التَّيمم عندنا اتفاقًا، كما صرَّح به في «الخانية»، وقيَّد المؤلف بالجنب احترازًا عن المُحدِث؛ لما في «الخانية»: المحدث في المصر إذا خاف الهلاك من التَّوضؤ، اختلفوا فيه على قول الإمام الأعظم، والصَّحيح أنه لا يُبَاح له التيمم، وذكر
%ص 418%
مثله صاحب «الخُلاصة» وغيره، ووجهه أنَّ الخوف هنا غير معتبر؛ لأنَّه مجرد وَهم؛ حيث لا يتحقق ذلك في الوضوء عادةً، قاله في «فتح القدير»، وقال في «النهر»: (يجوز التيمم للمحدث في المصر، واختاره صاحب «الأسرار»، وهو قول بعض علمائنا، لكن الأصح عدم جوازه للمحدث إجماعًا، إنَّما الخلاف في الجنب) انتهى.
(أو خاف العطش) وهذا غير مقتصر على الجُنُب الذي يخاف العطش، بل المحدث والجنب فيه سواء، قاله إمام الشَّارحين، قال في «منهل الطُلاب»: (وأما الماء المُحتاج إليه للعطش؛ فإنَّه يجوز مع وجوده التَّيمم)، قال في «البحر»: (لأنَّه مشغول بحاجته، والمشغول بالحاجة كالمعدوم سواء كان العطش لنفسه أو لكلبه، كما في «الدر المختار»، وقيَّده في «النهر» بكلب الماشية والصيد) انتهى.
ومفاده أنه لو لم يكن كذلك؛ لا يُعْطَى هذا الحكم، والظَّاهر أَنَّ كلب الحراسة للمنزل مثلهما، وفي «البحر»: (وعطش رفيقهُ ودابتهُ حالًا أو مآلًا؛ كعطشه وسواء كان المحتاج للعطش رفيقه المخالط له، أو آخر من أهل القافلة) انتهى.
وعطشُ دابة رفيقه كعطش دابته، كما صرَّح به العلامة نوح أفندي، وظاهره: أنَّ عطش كلب رفيقه كعطش كلبه، وقَيَّد ابن الكمال: عطش دوابه بتعذر حفظ الغسالة بعدم الإناء؛ يعني: فإذا كان عنده إناء يحفظ الماء به؛ يلزمه الوُضوء، وحِفظ الماء وسَقيه لِدابته وكلبه، ولا يجوز له التَّيمم، وتمامه في «منهل الطُلاب»، والله تعالى أعلم بالصَّواب.
وقوله: (يتيمم) جواب (إذا)، وفي رواية: (تيمم)؛ أي: مع وجود الماء لهذه الأعذار، كما ذكرناها، ومنها المرأة بين رجال، والرجل بين النساء؛ يتيممان ولا إعادة عليهما؛ لأنَّ المانع شرعي؛ وهو كشف العورة عند مَنْ لا يحل [له] رؤيتها، والمانع منه الحياء وخوف الله تعالى، وهما منه تعالى، وفي «المغني» لابن قدامة الحنبلي: (أو كان الماء عند جمع فُساق فخافت المرأة على نفسها الزِّنى؛ جاز لها التَّيمم)، وقال في «البحر»: (والماء المحتاج إليه لعجين كالمعدوم حكمًا، وكذا المحتاج إليه للطَّبخ إما لاتخاذ المرقة؛ فلا يتيمم، وسئل العلامة أبو السُّعود عما إذا احتاجه للقهوة؟ فأجاب: إن كان يلحقه بتركها مشقة؛ يتيمم، وإلا؛ فلا) انتهى.
وينبغي أن يقال في الطَّبيخ بالمرق سواء كان من أهل المدن أو القرى، وتمامه في «منهل الطُّلاب» ووجه المناسبة بين هذا الباب والذي قبله والذي بعده ظاهر؛ لأنَّ هذه الأبواب كلها في حكم التيمم.
(ويُذكر)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، وهو تعليق بصيغة التمريض، وقد وصله الحاكم، والدارقطنيُّ: (أَنَّ عَمْرو بن العاص): هو أبو عبد الله عَمْرو بن العاص بن وائل بن هاشم القُرشي السَّهمي أميرُ مصر، قَدِمَ على النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في سنة ثمان قبل الفتح مُسلمًا، وهو من زُهَّاد قريش، ولَّاه عليه السَّلام على عُمَان ولم يزل عليها حتى قُبِضَ النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، مات بمصر سنة ثلاث وأربعين على المشهور يوم عيد الفطر، وصلَّى عليه ابنه عبد الله، ثم صلَّى العيد بالناس (أجنبَ)؛ أي: صار جنبًا، فالهمزة للضرورة (في ليلةٍ باردةٍ) وفي رواية أبي داود: قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السَّلاسل)، وهي وراء وادي القرى بينها وبين المدينة عشرة أيام، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ بها ماء بأرض حذام، يقال له: السَّلاسل، وكانت الغزوة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، قال عمرو: (فأشفقت)؛ أي: خِفتُ إنِ اغتسلت أَنْ أهلك؛ (فتيمم) وفي رواية أبي داود: (فتيممت، ثُمَّ صليت بأصحابي الصُّبح)، (وتلا) وعند الأصيلي: (فتلا) أي: قوله تعالى: ({وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ})؛ أي: بإلقاء النفس في التهلكة أو بالنجع؛ كما يفعله المتصوفة، أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها، أو باقتراف ما يُذللها ويرديها، فإنَّه القتل الحقيقي للنفس، والمراد بالنجع: القتل، ففي «الصحاح»: (نجع نفسه نجعًا؛ أي: قتلها غمًّا؛ يعني: قتل نفسه تأسُّفًا وحزنًا على الشَّيء الفائت)؛ كأنه قيل: لا تقتلوا أنفسكم بالتحزُّن على ما فات عنكم من فضائل الأبرار، وإن كان ذلك لقصد الرياضة وتقوية جانب الروحانية؛ فإن الرياضة إنَّما تنفع وتفيد تقوية جانب الروحانية إذا كانت على قانون الشرع، فما يروى عن المتصوفة من حبس النفس أيامًا كثيرة على قصد الرياضة ومخالفة الهوى بحيث يؤدي ذلك إلى هلاكهم؛ فما هو إلا جَهالة محضة يُهْلِكون أنفسهم بلا فائدة، والمراد بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها: هو كالزنى بعد الإحصان، وقتل النفس المعصومة بغير حق، والردة، فإن من ارتكب واحدًا منها؛ فكأنه قتل نفسه، والمراد: باقتراف ما يذللها ويرديها؛ أي: من المعاصي والرُّكون إلى اللذات العاجلة، فإن اقترافها وإن لم يؤد إلى القتل الحسي؛ فإنه يؤدي إلى القتل الحقيقي للنفس، ({إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}) [النساء: 29]؛ يعني: أنَّه كان بكم يا أُمة محمَّد النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رحيمًا لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه، فقد حمل عَمْرو بن العاص هذه الآية على معنى: لا تُباشروا ما يُخافُ منه أن يؤدي إلى هلاك أنفسكم، (فذُكر)؛ بضمِّ الذال المعجمة مبنيًّا للمجهول؛ أي: ما فعله عَمرو (للنَّبيِّ) الأعظم، وللأصيلي: (فَذُكر ذلك)؛ أي: ما فعله عَمرو للنَّبيِّ الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي رواية أبي داود: (فذَكروا)؛ أي: أصحاب عَمرو ذلك للنَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «يا عَمرو؛ صليتَ بأصحابك وأنت جنب؟»، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، (فلم يُعنفه)؛ أي: النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك؛ يعني: لم يُنكر عليه، هذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (فلم يُعنف)؛ بدون الضمير حذف للعلم به؛ أي: لم يُعنف النَّبيُّ عَمْرًا على ذلك، ولم يُنكر عليه ما فعله [بعدم] تَعنيفه، وفي رواية أبي داود: (فضحك النَّبيُ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يقل شيئًا، فعدم تَعنيفه إياه وكذا ضَحِكه، وعدم إنكاره عليه دليلٌ على الجواز؛ والتقرير به دليلٌ على عدم إعادة الصَّلاة الَّتي صلاها بالتَّيمم في هذه الحالة، وهو حُجةٌ على من أوجب الإعادة، كما لا يخفى، وإنَّما ذكر المؤلف هذا
%ص 419%
التعليق بصيغة التمريض؛ لكونه اختصره لا لكونه ضعيفًا؛ لأنَّ عادته ذكر التعاليق بهذه الصِّيغة، والحال أنَّها صحيحة، وزعم القسطلاني أَنَّ هذا التَّعليق رُوي من غير ذكر التَّيمم.
قلت: وهو باطلٌ، فإنَّ البُخاريَّ ذكره، وكفى به حُجة، على أنَّه قد روى هذا التَّعليق الدَّارقطني، والحاكم، وأبو داود من طُرقٍ متعددة، فقال أبو داود: حدثنا ابن المثنى: حدثنا وهب بن جرير: حدثنا أبي قال: سمعت ابن أيُّوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرَّحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلةٍ باردةٍ في غزوة ذاتِ السلاسل، فأشفقتُ إِنِ اغتسلت أَنْ أهلك فتيممت، ثُمَّ صليت ... ) إلى آخره، ورواه أبو داود أيضًا وذَكرَ فيه التَّيمم، وقال: إنَّ الأوزاعي روى عن حسان بن عطية هذه القصة، فقال فيها: (فتيمم)، وكذلك رواه عبد الرزاق من طريقين؛ أحدهما فقال: (فتيمم)، فالمُثبت مُقدمٌ على النَّافي، كما لا يخفى، وظاهر سياق المؤلف أن عَمْرًا [2] تلا الآية وهو جُنب، وليس كذلك، وإنَّما تلاها بعد رجوعه للنَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويدل عليه حديث أبي داود، ولفظه: فقال _أي: النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم_: «يا عَمْرو؛ صليت بأصحابك وأنت جُنُب؟»، فأخبرته بالذي منعني مِنَ الاغتسال، وقلت: إنِّي سمعت الله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ... }؛ الآية، فإنَّ ظاهره أنَّه تلاها بعد رجوعه له عليه السَّلام، ويُحتمل أنَّه خَطرت الآية على فِكره حين كان جُنبًا؛ لأنَّه قد استدل بها على جواز التَّيمم لخوف البرد أَنْ يُهلكه، وفيه دليلٌ على جواز التَّيمم لمن يتوقع من استعمال الماء الهلاك سواء كان للبرد أو غيره وسواء كان في السفر أو الحضر، وسواء كان جُنبًا أو مُحدثًا، وفيه دِلالة على جواز الاجتهاد في عصره عليه السَّلام، والله تعالى أعلم.
==================
[1] في الأصل: (أبي).
(1/585)
[حديث عبد الله: لو رخصت لهم في هذا]
345# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا بِشر)؛ بكسر الموحدة، وسكون الشين المعجمة (بن خالد) العسكري أبو مُحمَّد الفرائضي المتوفَّى سنة ثلاث وخمسين ومئتين، (قال: حدثنا مُحمَّد): هو ابن جعفر البصري.
وقوله: (هو غُندر)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة من كلام المؤلف، وليس هو من لفظ شيخه، وهو ساقطٌ في رواية الأصيلي ثابت في غيرها، قاله إمام الشَّارحين، (عن شُعبة): هو ابن الحجاج، وفي رواية الأصيلي: (حدثنا شُعبة)، وفي رواية ابن عساكر: (أخبرنا شُعبة) (عن سُليمان): هو ابن مهران الأعمش، (عن أبي وائل): هو شقيق بن سَلَمَة (قال: قال أبو موسى): هو عبد الله بن قَيْس الأشعري (لعبد الله ابن مسعود): أحد الفقهاء السبعة، والعَبادلة الأربعة رضي الله عنهما: (إذا لم يجد) أي: الجُنُب (الماء)؛ أي: المطلق الكافي لطهارته؛ (لا يُصلي)؛ بصيغة الغائب في (يجد)، و (يصلي): رواية كريمة، وفي رواية غيرها بصيغة الخطاب في الموضعين، وهذا على سبيل الاستفهام، والسؤال من أبي موسى عن [1] عبد [الله] بن مسعود، فأبو موسى يُخاطب عبد الله (قال) وفي رواية الإسماعيلي: (فقال) (عبد الله) أي: ابن مسعود، زاد الإسماعيلي في روايته: (نعم؛ إذا لم أجدِ الماء شهرًا؛ لا أُصلي)، وفي رواية ابن عساكر: (نعم)؛ أي: لا يصلي، قال: (لو رَخصتَ)؛ بفتح التاء خطاب لأبي موسى (لهم)؛ أي: يسرت وسهلت لكل من أجنب (في هذا)؛ أي: في جواز التَّيمم للجُنب؛ (كان) ولابن عساكر: (وكان)؛ أي: أصحاب النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (إذا وجد أحدهم البرد) وغيره مما يوجب الهلاك أو التَّلف لبعض الأعضاء، وغير ذلك مما ذكرناه (قال هكذا) قال أبو موسى مفسرًا قول ابن مسعود (يعني) أي: يقصد ويريد: (تيمم وصلى) ففيه إطلاق القول على الفعل، (وقال) أي: أبو موسى: (قلت: فأين قول عمَّار)؛ بتشديد الميم: هو ابن ياسر (لعُمر؟): ابن الخطاب رضي الله عنه؛ أي: في قوله السَّابق: كنا في سفرٍ، فأجنبت، فتمعكت في التُّراب، فذكرت ذلك لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «يكفيك الوجه واليدين»، (قال) أي: ابن مسعود: (إِنِّي) وفي رِواية: (فإنِّي) (لم أر) أي: لم أَظنَّ، أو لم أعتقد (عُمر) أي: ابن الخطاب (قَنِعَ)؛ بكسر النون؛ أي: رضي وأخذ (بقول عمَّار) أي: ابن ياسر، وإِنَّما لم يقْنع عمر بقول عمَّار؛ لأنَّه كان حاضرًا معه في تلك السَّفرة، ولم يتذكر القصة فارتاب في ذلك، فلم يَقْنع بقوله، وقد وقع هكذا هنا مختصرًا في رواية شُعبة، ويأتي الآن رواية عُمَر بن حفص، ثُمَّ رِواية أبي معاوية بأتم وأكمل، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (من)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 420%
==================
(1/586)
[حديث أبي موسى: إنَّا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم]
346# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا عُمر بن حفص) بضمِّ عين (عُمَر)، وفتح ميمه ((قال: حدثنا أبي): هو حفص المذكور ابن غياث؛ بالمعجمة أوله وآخره، (عن الأعمش): هو سُليمان بن مهران، ولغير أبوي ذرٍّ والوقت: (حدثنا الأعمش) (قال: سمعت شقيق بن سَلَمَة): هو أبو وائل، ففيه فائدة التصريح بسماع الأعمش من شقيق، وهو يَرُدُّ على من أنكر ذلك، (قال: كنت عند عبد الله) أي: ابن مسعود (وأبي موسى) أي: عبد الله بن قَيْس الأشعري رضي الله عنهما، يحتمل أنهما كانا قاعدين في المسجد النبوي يتحدثان، (فقال له) أي: لابن مسعود (أبو موسى) الأشعري: (أرأيت)؛ معناه: أخبرني (يابا عبد الرَّحمن) وهي كُنية ابن مسعود، وأصله: يا أبا عبد الرَّحمن؛ فحذفت الهمزة فيه تخفيفًا، كذا في «عُمدة القاري»؛ (إذا أجنب) أي: إذا صار الرَّجل جنبًا (فلم يجد الماء) أي: الكافي لطهارته، وفي رواية: (ماء)؛ بالتنكير، لا يقال: (ماء) نكرة في سياق النفي تتناول ما سمَّى به قليلًا كان أو كثيرًا، وهو يقتضي ألَّا يجوز التَّيمم إلا بعد استعمال ما معه من الماء وإن كان لا يكفي كما في إزالة النَّجاسة الحقيقية؛ لأنا نقول: المراد ما يُحِلُ به الصَّلاة، ألا ترى أن وجود الماء النجس لا يمنعه وإن تناوله النكرة المذكورة، والحل موقوف على ما يكفي بالاتفاق؛ فافهم.
(كيف يَصْنع)؛ بصيغة الغائب فيه، وفي (يجد)؛ أي: كيف يصنع الرجل في جنابته، وفي رواية: (إذا أجنبت فلم تجد الماء؛ كيف تصنع)؛ بتاء الخِطَاب في الثلاثة، لكن الرواية بصيغة الغائب أشهر وأوجه بدليل قوله: (فقال عبد الله) أي: ابن مسعود: (لا يصلي) أي: الرَّجل الذي لا يجد الماء (حتى) أي: إلى أن (يجد الماء) الكافي؛ بصيغة الغائب، وفي رواية الأصيلي: (حتى تجد)؛ بتاء الخطاب، وسقط عنده وابن عساكر لفظة: (الماء)، فاقتصرا على قوله: (حتى تجد)؛ يعني: الماء المطلق الكافي لطهارته، (فقال أبو موسى) أي: الأشعري:
%ص 420%
(فكيف تصنع) بتاء الخطاب (بقول عمَّار): هو ابن ياسر (حين قال له النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) لما سأله أنه أجنب، وتمعك بالتراب، فقال له: (كان يكفيك) أي: في التطهير مسح الوجه والكفين، (قال) أي: ابن مسعود: (ألم تر) أي: تظن (عمر): هو ابن الخطاب (لم يقنع)؛ أي: لم يأخذ.
وقوله: (منه)؛ أي: من عمار، ثابت في أكثر الروايات، ساقط في رواية (بذلك)؛ أي: بالحكم المذكور، (فقال أبو موسى)؛ أي: الأشعري لعبد الله بن مسعود: (فدعنا)؛ أي: اتركنا، وكلمة (دع) أمر من يدع، وأمات العرب ماضيه؛ والمعنى: اقطع نظرك (من قول عمار) أي: ابن ياسر المذكور، (كيف تصنع) بالخطاب (بهذه الآية؟)؛ أي: فيما ورد في القرآن، وهو قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ... }؛ الآية [النساء: 43]، (فما درى) أي: فلم يعلم (عبد الله) أي: ابن مسعود (ما يقول) في توجيه الآية على وفق فتواه، ولعل المجلس لم يكن يقتضي تطويل المناظرة، وإلا؛ فكان لعبد الله أن يقول المراد من الملامسة في الآية: تلاقي البشرتين فيما دون الجماع، وجعل التيمم بدلًا من الوضوء فقط، فلا يدل على جواز التيمم للجنب، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وحاصله: أن عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما لا يجوزان التيمم للجنب؛ لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقوله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، فأبطلا هذه الرخصة مع ما فيها من إسقاط الصَّلاة عن المخاطب بها، والمأمور بأدائها؛ لأنَّهما تأولا الملامسة في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} على مماسة البشرتين من غير جماع، كما مر؛ لأنَّهما لو أرادا الجماع؛ لكان فيه مخالفة للآية صريحًا، فإنه تعالى قال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}؛ يعني: فاغتسلوا، ثم قال: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، فقد جعل التيمم بدلًا عن الوضوء فقط، فلا يدل على جواز التيمم للجنب، والله تعالى أعلم، (فقال) أي: ابن مسعود لأبي موسى: (إنا) أصله: إننا؛ فحذفت النون ضمير متصل تخفيفًا (لو رخصنا) أي: يسرنا وسهلنا (لهم) أي: للمسلمين (في هذا) أي: في جواز التيمم للجنب؛ (لأوشك)؛ بفتح الهمزة فعل ماض؛ معناه: قرب وأسرع، ففيه رد على من زعم أنه لا يجيء من باب (يوشك) ماضيًا، ولا يستعمل إلا مضارعًا (إذا برد)؛ بفتح الموحدة، والراء، قال الجوهري: (بضمِّ الراء)، والمشهور الفتح (على أحدهم الماء) فخاف إن استعمله؛ يهلكه البرد (أن يدعه)؛ بفتح التحتية أوله، والدال المهملة؛ أي: يترك استعمال الماء المطلق، (ويتيمم)؛ أي: خلفًا عنه.
فإن قلت: ما وجه الملازمة بين الرخصة في تيمم الجنب، وتيمم المتبرد حتى صح أن يقال: لو رخصنا لهم في ذلك؛ لكان إذا وجد أحدهم البرد تيمم؟
قلت: الجهة الجامعة بينهما هو اشتراكهما في عدم القدرة على استعمال الماء؛ لأنَّ عدم القدرة إما لفقد الماء، وإما لتعذر الاستعمال، كذا في «عمدة القاري».
(فقلت) يعني: قال الأعمش: قلت (لشقيق): هو أبو وائل: (فإنما)؛ بالفاء في رواية جميع الرواة، وقيل: بل أكثرهم، وفي رواية: (وإنما)؛ بالواو (كره عبد الله) أي: ابن مسعود؛ يعني: لم يجوز التيمم للجنب (لهذا)؛ أي: لأجل هذا المعنى، وهو احتمال أن يتيمم للبرد، (فقال) أي: شقيق، وفي رواية: (قال) (نعم) يعني: كرهه لذلك، وهذا يدل على أن الكراهة ليست بمعنى عدم الجواز، بل بمعنى الجواز مع الإساءة لكن الذي قدمه يدل على عدم الجواز، ولهذا اختار علماؤنا المتقدمون؛ كصاحب «الهداية» والإمام القدوري: التعبير بالكراهة فيما لا يجوز، فاختلط على بعض من يدَّعي [1] العلم، فقال ما قال من جهله، وعدم معرفته، فردع عن ذلك أشد الردع، وأبكم، وأفحم.
وزعم الكرماني: فإن قلت: الواو لا تدخل بين القول ومقوله، فلم قال: (وإنما كره)؟ قلت: هو عطف على سائر مقولاته المقدرة؛ أي: قلت كذا وكذا أيضًا، انتهى.
ورده إمام الشارحين فقال: (قلت: كأنه اعتمد على نسخة فيها: «وإنما»؛ بواو العطف، والنسخ المشهورة: «فإنما»؛ بالفاء) انتهى.
وعلى هذا؛ فكلام الكرماني ساقط الاعتبار؛ فافهم، قال إمام الشارحين: وفي الحديث فوائد؛ الأولى: فيه جواز المناظرة، وقال الخطابي: والظاهر منها يأتي على إهمال حكم الآية، وأي عذر لمن ترك العمل بما في هذه الآية من أجل أن بعض الناس عساه أن يستعملها على وجهها، وفي غير جنسها؟ وأما الوجه؛ فيما ذهب إليه عبد الله من إبطال هذه الرخصة مع ما فيه من إسقاط الصَّلاة عمن هو مخاطب بها ومأمور بإقامتها.
وأجيب عن هذا: بأن عبد الله لم يذهب هذا المذهب الذي ظنه هذا القائل، وإنما كان تأول الملامسة المذكورة في الآية على معنى غير معنى الجماع، إذ لو أراد الجماع؛ لكان فيه مخالفة الآية صريحًا، وذلك مما لا يجوز من مثله في علمه وفهمه وفقهه.
الثانية: فيه أن رأي عمر وعبد الله رضي الله عنهما انتقاض الطهارة بملامسة البشرتين، وهي المسماة بالمباشرة الفاحشة؛ وهي التقاء الفرج بالفرج؛ لأنَّها لا تخلو عن ظهور مذي غالبًا، وهو كالمتحقق، وأن الجنب لا يتيمم.
والثالثة: فيه جواز التيمم للخائف من البرد، قاله ابن بطال.
قلت: ومذهب الإمام الأعظم: أنه يجوز التيمم للجنب المقيم إذا خاف البرد.
الرابعة: فيه جواز الانتقال في المحاجة من دليل إلى دليل آخر؛ مما فيه الخلاف إلى ما عليه الاتفاق، وذلك جائز للمتناظرين عند تعجيل القطع والإفحام للخصم، كما في محاجة إبراهيم عليه السلام ونمرود عليه اللعنة، ألا ترى أن إبراهيم لما قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، قال نمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، فلم يحتج إلى توقفه على كيفية إحيائه وإماتته، بل انتقل إلى قوله: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ} [البقرة: 258]، فأفحم نمرود عند ذلك) انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يدَّع)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/587)
(8) [باب: التيمم ضربة]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب، كما قدرنا: (التيمم)؛ بالرفع مبتدأ (ضربة)؛ بالرفع خبره، وهذا رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني كما في «عمدة القاري»: (باب)؛ بلا تنوين للإضافة إلى (التيمم)، و (ضربة)؛ بالنصب على الحال؛ والتقدير: هذا باب في بيان صفة التيمم حال كونه ضربة واحدة، وقد ذكرنا أن في صفة التيمم قولين [1]، وأن الرواية: (ضربة واحدة) أولى من رواية: (ضربتين)
%ص 421%
عند البخاري؛ فلذلك بوَّب عليه، قاله إمام الشارحين.
قلت: وقد تقدم عن الحافظ الطحاوي والترمذي، وغيرهما: أن حديث عمار لا يصلح حجة في كون التيمم ضربة واحدة؛ لاضطرابه واختلافه كما تقدم.
فإن قلت: شرط الحال أن يكون من الصور الثلاثة التي يقع فيها الحال من المضاف إليه، وهي أن يكون المضاف جزءًا من المضاف إليه، أو كجزئه، أو عاملًا في الحال، وليس هذا منه.
قلت: أجيب: بأن المعنى: باب شرح التيمم، فالتيمم بحسب الأصل مضاف إلى ما يصلح عمله في الحال، فهو من الصور الثلاث، قاله بعضهم، وفيه نظر.
==========
[1] في الأصل: (قولان)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/588)
[حديث شقيق: كنت جالسًا مع عبد الله وأبي موسى]
347# وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن سلام)؛ بتخفيف اللام: هو البيكندي، وفي رواية الأصيلي: (محمَّد هو ابن سلام)، وفي رواية: (محمَّد) فقط (قال: حدثنا) وفي رواية كريمة: (أخبرنا) (أبو معاوية)؛ بضمِّ الميم: هو محمَّد الضرير بن خازن؛ بالمعجمتين، (عن الأعمش): هو سليمان بن مهران؛ بفتح الميم، (عن شقيق): هو أبو وائل بن سَلَمَة (قال) أي: شقيق: (كنت جالسًا) يومًا (مع عبد الله): هو ابن مسعود (وأبي موسى): هو عبد الله بن قَيْس (الأشعري) رضي الله عنهما، يحتمل جلوسهم أن يكون في المسجد النبوي، ويحتمل أن يكون في بستان من بساتين المدينة يتحدثون، (فقال له) أي: لابن مسعود (أبو موسى) أي: الأشعري: ما تقول (لو أن رجلًا أجنب)؛ أي: صار جنبًا (فلم يجد الماء) أي: لم يقدر على استعماله إما لفقده، أو لتعذر الاستعمال (شهرًا) ليس بقيد، بل هو اتفاقي؛ لأجل المبالغة؛ (أما كان يتيمم ويصلي؟) بالهمزة في (أما)، وهي رواية الأصيلي، وكريمة، وفي رواية غيرهما بإسقاط الهمزة، وفي رواية مسلم: (قال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرًا)، ثم الهمزة فيه إما مقحمة، وإما للتقرير، وإما للاستفهام، و (ما) نافية على أصلها، وعلى التقديرين الأولين: وقع جوابًا لـ (لو)، أما تقدير الإقحام؛ فلأن وجوده كعدمه، وأما على تقدير التقرير؛ فلأنَّه لم يبق على معنى الاستفهام الذي هو المانع من وقوعه جزاء للشرط، وعلى التقدير الثالث فهو جواب (لو)، لكن يقدر القول في الأوليين قبل (لو)، وفي الثالث قبل (إما)، فعلى الأولين؛ يعني: يقولون: لو أجنب رجل؛ ما يتيمم، وعلى الثالث: لو أجنب رجل؛ يقال في حقه: أما تتيمم، ويجوز على هذا أن يكون جواب (لو) هو قوله: (فقال) أي: أبو موسى: (فكيف تصنعون) وفي رواية مسلم: (كيف نصنع بالصَّلاة؟)؛ يعني: مع قولكم: لا يتيمم (بهذه الآية)، وفي رواية الأصيلي: (فما تصنعون بهذه)؛ يعني: الآية التي (في سورة المائدة؟) إنَّما عين سورة المائدة؛ لكونها أظهر في مشروعية تيمم الجنب من آية النساء؛ لتقدم حكم الوضوء في المائدة، ولأنَّها آخر السور نزولًا ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا})؛ أي: اقصدوا ({صَعِيدًا})؛ أي: وجه الأرض ({طَيِّبًا}) [النساء: 43]؛ أي: طاهرًا، وهذا بيان للمراد من الآية، ووقع في رواية الأصيلي: (فإن لم تجدوا)، وهو مغاير للتلاوة، وقيل: إنه كذلك في رواية أبي ذر، ثم أصلحها على وفق التلاوة، كذا في «عمدة القاري».
وزعم الخطابي أنَّ هذا يدل على أن عبد الله كان يرى أن المراد بالملامسة: الجماع، فلهذا لم يدفع دليل أبي موسى، وإلا؛ لكان يقول له: المراد من الملامسة: التقاء البشرتين فيما دون الجماع، وجعل التيمم بدلًا عن الوضوء لا يستلزم أن يكون بدلًا عن الغسل.
ورده إمام الشارحين حيث قال: (قلت: ولا يخفى أنَّ عبد الله لم يذهب هذا المذهب الذي ظنه هذا القائل، وإنما كان تأول الملامسة المذكورة في الآية على معنى غير معنى الجماع؛ لأنَّه لو أراد الجماع؛ لكان فيه مخالفة للآية صريحًا، وذلك مما لا يجوز من مثله في علمه وفهمه وفقهه) انتهى.
(فقال عبد الله): هو ابن مسعود: (لو رُخص)؛ بضمِّ الراء مبنيًّا للمجهول (لهم) أي: للمسلمين (في هذا) أي: في تيمم الجنب؛ (لأَوشكوا)؛ بفتح الهمزة؛ أي: لأقربوا وأسرعوا (إذا بَرَد) بفتح الموحدة، والراء على المشهور، وقد تضم الراء (عليهم الماء)، فخافوا أن يهلكهم (أن يتيمموا) أي: يقصدوا (الصعيد) وللأصيلي: (بالصعيد)؛ أي: وجه الأرض.
(قلت)؛ أي: قال الأعمش: قلت لشقيق: (وإنما) بالواو، وفي رواية الأصيلي، وأبي ذر: (فإنما) (كرهتم) أي: لم تجوزوا (هذا)؛ أي: تيمم الجنب (لِذا)؛ بكسر اللام؛ أي: لأجل تيمم صاحب البرد، وفي رواية عمرو بن حفص: (فقلت لشقيق: فإنما كره عبد الله؛ لهذا قلت)، وقول القسطلاني وفي رواية حفص بن عمر السابقة خطأ، والصواب عمرو بن حفص؛ فافهم.
(قال) أي: شقيق (نعم) كرهنا هذا لذا، وقول الكرماني وتبعه البرماوي: قوله: (قلت هو مقول شقيق): خطأ ظاهر، ولهذا قال إمام الشارحين: (قلت: ليس كذلك، بل القائل ذلك: هو الأعمش، والمقول له: هو شقيق، كما صرح بذلك في رواية عمرو بن حفص التي مضت قبل هذه) انتهى.
فانظر ما أدق نظر إمام الشارحين! وما أفتر نظر الكرماني، وكذا البرماوي! وفوق كل ذي علم عليم.
(فقال)؛ بالفاء، ولابن عساكر: (قال) (أبو موسى) أي: الأشعري لعبد الله: (ألم تسمع قول عمَّار)؛ بتشديد الميم: هو ابن ياسر (لعمر): هو ابن الخطاب رضي الله عنهما: (بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حاجة)؛ أي: في سرية، كما في رواية مسلم، أو في سفر، كما في رواية آدم بن أبي إياس في باب (هل ينفخ فيهما أو في الإبل)، كما في رواية أبي داود، (فأجنبت) أي: صرت جنبًا، (فلم)؛ بالفاء، ولأبي الوقت: (ولم) (أجد الماء) المطلق الكافي إلى أن حضرت الصَّلاة، (فتمرغت) أي: تقلبت (في الصعيد) أي: على وجه الأرض؛ (كما تمرغ الدابة) أي: كما تتقلب الدابة، والكاف في (كما) إما مصدرية، أو للتشبيه، قال السيد: لفظة: (ما) في (كما) إن كانت كافة على مصححة لدخولها على الجملة؛ كانت للتشبيه بين مضمون جملتين، وإن كانت مصدرية؛ فاختار أبو البقاء وغيره: أن الكاف مع مجرورها نعت لمصدر محذوف؛ تقديره: تمرغًا؛ كتمرغ الدابة، ومذهب سيبويه: أن محله النصب على الحال من المصدر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع، فيكون التقدير: فتمرغت على هذه الحالة، ومنع أن يكون نعتًا لمصدر محذوف؛ لأنَّه يؤدي إلى حذف الموصوف في غير المواضع المستثناة.
قلت:
%ص 422%
وقد أعرب جماعة؛ منهم: البيضاوي قوله تعالى: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13]؛ بالنصب على المصدر، و (ما) كافة، أو مصدرية، ويدل عليه ما ذكرناه عن السيد؛ فتأمل.
و (تُمرُّغُ)؛ بتشديد الراء [1]، وضم المثناة الفوقية قبلها، ورفع الغين المعجمة، وأصله تتمرغ؛ بالتاءين، فحذفت إحداهما للتخفيف، كما في قوله تعالى: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، والدابة اسم لكل ما يدب على الأرض، والمراد بها: الخيل والحمير؛ لأنَّ التمرغ يكون منهما، (فذكرت ذلك للنبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) والإشارة إلى ما فعله من التمرغ؛ لأجل رفع الحدث الأكبر عنه حتى يصلي فيه، (فقال) عليه [الصَّلاة] والسَّلام له: (إنما كان يكفيك) عوضًا عما فعلته (أن تصنع)؛ بالخطاب؛ أي: بالصعيد (هكذا)؛ يعني: أشار بيديه، (وضرب)؛ بالواو، وفي رواية: (فضرب) (بكفه)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (بكفيه)؛ بالتثنية (ضربة)؛ أي: واحدة (على أرض) وقدمنا في الأحاديث عن عدة صحابة يرفعونه إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: أن التيمم ضربتان؛ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وأن أحاديث عمار لا تصلح حجة؛ لاضطرابها واختلافها، فالضربتان هو الأصح من الأحاديث، كما لا يخفى.
(ثم نفضها)؛ أي: يده، وفي الروايات السابقة: (فنفخ فيهما)، وفي بعضها: (فتفل)، وهذا يدل على أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يبق [2] عليها من الغبار شيئًا؛ لأنَّ النفض، والنفخ، والتفل تزيل أثر الغبار بالكلية، وإنما كان يفعل هذا؛ لأجل عدم تلويث الوجه بالغبار؛ لأنَّه يصير به الآدمي مثلة، وهو منهي عنه، وقد قال عز وجل: {لَقَدْ [3] خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، ومن حسن تقويمه ألَّا يلوث وجهه ويديه؛ فافهم.
(ثم مسح بها)؛ أي: بيده الذي ضرب بها الأرض (ظهر كفه)؛ أي: اليمنى (بشماله) وفي رواية: (ثم مسح بهما)؛ أي: بيديه، (أو) مسح (ظهر شماله بكفه)؛ أي: اليمنى، كذا هو بالشك في جميع الروايات إلا في رواية أبي داود، فإنه رواه أيضًا من طريق أبي معاوية كما رواه البخاري، ولفظه قال: («إنما يكفيك أن تصنع هكذا»؛ فضرب بيديه على الأرض فنفضهما، ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه) انتهى.
قال إمام الشارحين: وهذا يحرر رواية غيره؛ لأنَّ الحديث واحد، واختلاف الألفاظ باختلاف الرواة، وفيه دليل صريح على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين جميعًا، ولكن العامة أجابوا عن هذا الضرب المذكور بأنه كان للتعليم، وليس المراد به: بيان جميع ما يحصل به التيمم؛ لأنَّ الله تعالى أوجب غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء في أول الآية، ثم قال في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، والظاهر: أن اليد المطلقة هنا هي المقيدة في الوضوء؛ فافهم.
قلت: وعلى هذا؛ فالفرض في التيمم ضربتان؛ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وهو الموافق للأحاديث الصحيحة التي تقدم ذكرها، فإنَّها صريحة في ذلك، كما لا يخفى.
(قال) وفي رواية: (فقال) (عبد الله): هو ابن مسعود لأبي موسى: (ألم تر)؛ أي: تبصر، أو تعلم (عمر): هو ابن الخطاب، وفي رواية الأصيلي وكريمة كما في «عمدة القاري»: (أفلم تر عمر) (لم يقنع)؛ أي: لم يأخذ (بقول عمار): هو ابن ياسر، ووجه عدم قناعته بقول عمار كما قاله إمام الشارحين: هو أنه كان معه في تلك القصة ولم يتذكر عمر ذلك، ولهذا قال لعمار فيما رواه مسلم عن عبد الرحمن بن أبزى: (اتق الله يا عمار)؛ أي: فيما ترويه، وتثبَّت فيه، فلعلك نسيت أو اشتبه عليك، فإني كنت معك، ولا أتذكر شيئًا من هذا، ومعنى قول عمار: أني رأيت المصلحة في الإمساك عن التحديث به راجحة على التحديث، ووافقتك، وأمسكت، فإني قد بلغته، ولم يبق عليَّ حرج، فقال له عمر: (نوليك ما توليت)؛ أي: لا يلزم من كوني لا أتذكره ألَّا يكون حقًّا في نفس الأمر، فليس لي في منعك من التحديث به) انتهى.
(زاد) من الزيادة (يَعْلَى) بفتح المثناة التحتية أوله، وسكون العين المهملة، وفتح اللام: هو ابن عبيد بن يوسف الطنافسي الحنفي الكوفي، المتوفَّى سنة تسع ومئتين، وزعم الكرماني أن هذا إما داخل تحت إسناد محمَّد بن سلام، وإما تعليق من البخاري مع احتمال سماع البخاري منه؛ لأنَّه أدرك عصره.
ورده إمام الشارحين حيث قال: (قلت: هذا تعليق من البخاري، وقد وصله أحمد ابن حنبل في «مسنده»، ووصله أيضًا الإسماعيلي عن ابن زيدان: حدثنا أحمد بن حَازم: حدثنا يعلى: حدثنا الأعمش؛ فذكره) انتهى.
قلت: فاحتمال ما زعمه الكرماني باطل، كما لا يخفى؛ فافهم.
(عن الأعمش): هو سليمان بن مهران، (عن شقيق): هو أبو وائل بن سَلَمَة (قال: كنت مع عبد الله): هو ابن مسعود (وأبي موسى): هو عبد الله بن قَيْس الأشعري رضي الله عنهما، يحتمل أنه كان معهما في بستان من بساتين المدينة، ويحتمل أنه كان معهما في المسجد النبوي، ويحتمل أنه كان معهما في الطريق يتحدثان وهو يسمع كلامهما، (فقال أبو موسى) أي: الأشعري لعبد الله بن مسعود: (أرأيت لو أن رجلًا أجنب فلم يجد الماء، أيتيمم ويصلي؟) قال عبد الله: (لا يتيمم ولا يصلي حتى يجد الماء)، فقال أبو موسى لعبد الله بن مسعود: (ألم تسمع قول عمار): هو ابن ياسر (لعمر؟): هو ابن الخطاب رضي الله عنهما (إنَّ رسول الله)، وللأصيلي: (إن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بعثني)؛ يعني: أرسلني في حاجة، أو في سرية فذهبت (أنا وأنت) قيل: كان القياس أن يقول: بعثني إياي وإياك؛ لأنَّ (إيا) ضمير مرفوع، فكيف وقع تأكيدًا للضمير المنصوب، والمعطوف في حكم المعطوف عليه؟
وأجيب: بأن الضمائر يقام بعضها مقام بعض، وتجري بينهما المناوبة، وهنا كذلك، كذا في «عمدة القاري».
(فأجنبت)؛ أي: صرت جنبًا، وحضرت الصَّلاة، ولم أجد ماء للطهارة، (فتمعكت) أي: تقلبت (بالصعيد)؛ أي: على وجه الأرض كما تتمعك الدابة، (فأتينا رسول الله) وللأصيلي: (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) بعدما قضينا ما بعثنا إليه، (فأخبرناه)؛ يعني: عن البعث، وعن عدم وجود الماء وهو جنب، وأنه تمعك، (فقال) عليه السلام له: (إنما كان
%ص 423%
يكفيك) أي: للطهارة من الجنابة (هكذا) وفي رواية الكشميهني: (هذا)، (ومسح وجهه وكفيه واحدة)؛ يعني: ضربة واحدة، وهذا التقدير هو المناسب لغرض المؤلف؛ لأنَّه ترجم الباب بقوله: (باب التيمم ضربة)، ويحتمل أن يقدر مسحة واحدة، وهو الظاهر من اللفظ، قاله إمام الشارحين.
فإن قلت: لم يذكر في هذه الرواية: أنه عليه السلام ضرب مرة أو مرتين، وزعم الكرماني أن التيمم وقع بالضربتين.
ورده إمام الشارحين: بأنه لا يدل شيء من الحديث على ذلك، انتهى.
قلت: وهو كذلك، كما لا يخفى، ثم استكشل الكرماني، فزعم أنه إذا حمل على الضربة الواحدة، واستعمل في الوجه، فكيف مسح به الكفين؟
وأجاب: بأن السؤال ساقط على مذهب من يقول: التراب لا يصير مستعملًا، وأما على مذهبنا؛ فوجهه أن يمسح الوجه بكف واحدة، ثم ينفض بعض الغبار في الكف الغير المستعملة إلى الأخرى، أو يدلك إحداهما بالأخرى، ثم يمسح اليدين بهما، انتهى.
ورده إمام الشارحين فقال: (قلت: هذا الذي ذكره وجعله مذهبًا لا يفهم من هذا الحديث) انتهى.
قلت: وهو كذلك فمن أين أخذه هذا القائل على أن قوله هذا متناقض، كما لا يخفى.
قال في «البدائع»: (قال الإمام أبو يوسف: سألت الإمام الأعظم رضي الله عنهما عن كيفية التيمم؟ فقال: التيمم ضربتان؛ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، فقلت: كيف هو؟ فضرب بيديه على الصعيد، فأقبل بهما وأدبر، ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه، ثم أعاد كفيه على الصعيد ثانيًا، فأقبل بهما وأدبر، ثم نفضهما، ثم مسح بهما ظاهر الذراعين وباطنهما إلى المرفقين)، ثم قال صاحب «البدائع»: (وقال بعض علمائنا: وينبغي أن يمسح بباطن أربع أصابع يده اليسرى ظاهر يده اليمنى من رؤوس الأصابع إلى المرفق، ثم يمسح بكفه اليسرى دون الأصابع باطن يده اليمنى من المرفق إلى الرسغ، ثم يمر بباطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى، ثم يفعل باليد اليسرى كذلك)، قال: (وهذا أقرب إلى الاحتياط؛ لما فيه من الاحتراز عن استعمال الصعيد المستعمل بالقدر الممكن) انتهى.
قلت: وتعبيره (ينبغي) يقتضي استحباب هذه الكيفية، وقد اختارها صاحب «المحرر» من الشافعية، وجزم في «الروضة» باستحبابها، وذكر في «الكفاية» عكسها، ونقله عن «الأم»، قال القسطلاني: (ولم تثبت هذه الكيفية في السنة) انتهى.
قلت: فعلينا اتِّباع ما ورد في السنة، فالكيفية التي نقلها صاحب «البدائع» عن الإمام الأعظم أولى؛ لأنَّها قد وردت في السنة، لا سيما وقد نقلت عن الإمام الأعظم صاحب المذهب المعظم الذي إلى غير مذهبه لا يذهب، ومن تحت نظره لا يهرب.
قال الكرماني: اعلم: أن هذه الكيفية المذكورة في حديث هذا الباب مشكلة من جهات:
أولًا: من الاكتفاء بضربة واحدة، وقد ثبت في الطرق الأُخرى أنه ضربتان، وقال النووي: (الأصح المنصوص ضربتان).
وثانيًا: من جهة الاكتفاء بمسح ظهر كف واحدة، وبالاتفاق: مسح كلا ظهري الكفِّ واجب، ولم يجوز أحد الاجتزاء بأحدهما.
وثالثًا: من حيث إن الكف إذا استعمل ترابه في ظهر الشمال كيف مسح به الوجه، وهو صار مستعملًا؟
ورابعًا [4]: من جهة أنه لم يمسح الذراعين.
وخامسًا: من عدم مراعاة الترتيب، وتقديم الكف على الوجه.
وأجاب عن الأول: بالمنع؛ بأنا لا نسلم أن هذا التيمم كان بضربة واحدة، وأجاب عن الثاني: بأنه لا بد من تقدير: ثم ضرب ضربة أخرى، ومسح بها، وأجاب عن الثالث: بما لا طائل، وأجاب عن الرابع: بمنع إيجاب مسح الذراعين، ولهذا قالوا مسح الكفين أصح في الرواية، ومسح الذراعين أشبه بالأصول، وأجاب عن الخامس: بمنع إيجاب الترتيب، كما هو مذهب الأئمَّة الحنفية.
وقد ردَّ هذه الأجوبة إمام الشارحين حيث قال: قوله في جواب الأول: (بالمنع): قلت: منعه ممنوع؛ لأنَّه كان بضربة واحدة؛ لأنَّه صرح فيه بأن الضربة الواحدة كافية، فيحمل هذا على الجواز، وما ورد من الزيادة عليها على الكمال.
وقوله: (وقال النووي ... ) إلى آخره، هذا ممنوع؛ لأنَّه اعتراض على الحديث بالمذهب، وهو غير صحيح.
وقوله في جواب الثاني: (لا بد من تقدير ... ) إلى آخره: قلت: لا يحتاج إلى هذا التقدير؛ لأنَّ أصل الفرض يقوم بضربة واحدة، كما في الوضوء على أن مذهب جمهور العلماء الاكتفاء بضربة واحدة، كذا ذكره ابن المُنْذِر، واختاره هو أيضًا، والبخاري أيضًا، فلذلك بوب عليه.
وجوابه عن الثالث: قلت: والجواب السديد أن التراب لا يأخذ حكم الاستعمال، وهذا الحكم في الماء دون التراب.
وقوله في جواب الرابع وتأكيده بقوله: (ولهذا ... ) إلى آخره، قلت: فعلى هذا الإشكال؛ الرابع غير وارد من الأول.
وقوله في جواب الخامس: قلت: هذه استعانة برأي من هو يخالف رأيه) انتهى.
قلت: فكلام الكرماني في غاية التعسف؛ لأنَّ هذه الأسئلة والأجوبة غير واردة؛ فافهم.
==========
[1] في الأصل: (الميم)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (لم يبقي)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ولقد)، وليس بصحيح.
[4] في الأصل: (وأربعًا).
==================
[1] في الأصل: (الميم)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (لم يبقي)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ولقد)، وليس بصحيح.
[1] في الأصل: (الميم)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (لم يبقي)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ولقد)، وليس بصحيح.
(1/589)
(9) [باب ... ]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين من غير ترجمة كذا في رواية الأكثرين، فهو بمنزلة الفعل بينه وبين ما قبله؛ وهو غير معرب؛ لأنَّ الإعراب يكون بعد العقد والتركيب، وفي رواية الأصيلي لفظة (باب) ساقطة، وعليها يكون الحديث الذي فيه داخلًا في الترجمة السابقة، لكن مطابقة الحديث لها بعيدة، والأظهر ما عليه الأكثر، كما سيأتي.
==================
(1/590)
[حديث: عليك بالصعيد فإنه يكفيك]
348# وبالسَّند إليه قال: (حدثنا عَبْدَان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحدة: هو عبد الله بن عثمان المروزي (قال: أخبرنا عبد الله): هو ابن المبارك (قال: أخبرنا عوف): هو الأعرابي، (عن أبي رجاء): هو عمران بن ملحان العطاردي (قال: حدثنا
%ص 424%
عِمْران) بكسر العين المهملة، وسكون الميم (بن حُصَين) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الصاد المهملة (الخِزاعي) بكسر الخاء المعجمة، قاضي البصرة رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) كان في سفر وكنا معه، وإنا أسرينا حتى كنا في أواخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة عند المسافر أحلى منها فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلان، ثم فلان، ثم فلان يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو مستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس _وكان رجلًا جليدًا_؛ فكبَّر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ لصوته النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما استيقظ؛ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: «لا ضير ولا يضير ارتحلوا»، فارتحلوا، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصَّلاة، فصلى الناس، فلما انفتل من صلاته؛ (رأى)؛ أي: أبصر (رجلًا) لم يعلم اسمه، وقيل: هو خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري (معتزلًا)؛ أي: منفردًا عن الناس (لم يصل مع القوم) صلاة الصبح الفائتة، (فقال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم له: (يا فلان): هو كناية عن علم المذكر المبهم الاسم، وزعم القسطلاني أنَّه يحتمل أن يكون عليه السلام خاطبه باسمه، وكنَّى عنه الراوي لنسيان اسمه، أو لغير ذلك.
قلت: لو كان كما قال؛ لم يقل الراوي: فقال عليه السلام: «يا فلان»؛ لأنَّ فيه مخالفة لما قاله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، بل الظاهر: أنه عليه السلام ناداه بـ (يا فلان)، كما هو ظاهر اللفظ؛ (ما منعك)، وفي رواية ابن عساكر: (ما يمنعك) (أن تصلي في القوم؟) أي: معهم، وهو مفعول ثان لـ (منع)، أو على إسقاط الخافض؛ أي: من أن تصلي، ففي محله المذهبان المشهوران: هل هو نصب أو جر؛ فافهم.
(فقال) أي: الرجل: (يا رسول الله؛ أصابتني جنابة) أي: صرت جنبًا، (ولا ماء)؛ بالرفع أي: ليس ماء عندي كما مر؛ لأنَّه يحتمل وجود الماء عند غيره من أصحاب القافلة، فنفي الماء على العموم باطل؛ لأنَّه غير ممكن؛ لأنَّ القافلة تحتاج إلى الماء لشرابهم، ودوابهم، وغير ذلك، غير أنَّه لم يسأل أحدًا عن الماء فقصر في ذلك، لكنَّه اجتهد في أنَّه إن طلبه من أحد؛ لا يعيطه؛ لاحتياجه له للشرب، أو غير ذلك مما قدمناه؛ فافهم.
(قال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم للذي أجنب ولم يجد الماء: (عليك بالصعيد) أي: المذكور في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، والمراد به: وجه الأرض؛ كحجر، ومدر، وحصى، ورمل، وغيرها، وهذا قول أهل التفسير، وهو قول اللغويين، وقال الزجاج: (لا أعلم خلافًا فيه، ولهذا لو تيمم على حجر أملس؛ جاز، ويدل عليه: أنَّه عليه السلام تيمم على جدار)، كما ذكره المؤلف فيما سبق، وجدران المدينة كلها حجر أسود، ولا يخفى أنَّها لا تحمل شيئًا من الغبار أصلًا، فلا خصوصية للتراب، خلافًا لمن زعمه متعلقًا بما روي عن ابن عباس: أنَّ الصعيد: هو التراب، ولا حجة له فيه، فإنَّ ما روي عن ابن عباس ليس كذلك، بل المروي عنه أنَّه قال: الصعيد: حرث الأرض، فهو يشترط الإنبات، فمن خصَّ التراب لا يشترط الإنبات، فهو تناقض لا يثبت به الحكم، على أنَّ ما روي عنه هو أثر، والآية مطلقة، فلا يجوز تخصيص المطلق بالحديث، فكيف بالأثر من باب أولى؟ وقد أشبعنا الكلام فيه فيما سبق، (فإنه يكفيك) أي: لطهارتك من الحدثين، ويكيفك أيضًا في كل الصلوات؛ فرضها وواجبها ونفلها ما لم تحدث، فالتيمم الواحد يكفي لصلوات متعددة الفروض، وكذا النوافل ما لم يحدث، ثم سار النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فاشتكى الناس إليه العطش، فنزل فدعا فلانًا _كان يسميه أبو رجاء، فنسي عوف_ ودعا عليًّا قال: «اذهبا فابتغيا الماء»، فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوف، قالا لها: انطلقي إذًا، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قالت: الذي يقال له: الصابئ، قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وحدثاه الحديث، قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين، وأؤكأ أفواههما، وأطلق العزالي، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من شاء، واستقى من شاء، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: «اذهب فأفرغه عليك»، وهي قائمة تنظر ما يفعل بمائها، وايم الله؛ لقد أقلع عنها وإنَّه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة حين ابتدأ فيها، فقال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «اجمعوا لها»، فجمعوا لها ما بين عجوة، ودقيقة، وسويقة حتى جمعوا لها طعامًا، فجعلوها في ثوب، وحملوه على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئًا، ولكنَّ الله هو الذي أسقانا، فأتت أهلها، وقد احتبست عنهم، فقالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب! لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنَّه لأسخى الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعها السبابة والوسطى، فرفعتهما _تعني: السماء والأرض_ أو إنَّه لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حقًّا، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون القوم الذي هي منهم، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أنَّ هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام، فهذا الحديث المذكور في هذا الباب هو مختصر من الحديث الطويل الذي في باب (الصعيد)، كما ذكرناه.
فإن قلت: هذا الحديث لا يطابق الترجمة؛ لأنَّه ليس فيه التصريح بكون الضرب في التيمم
%ص 425%
مرة واحدة على رواية الأصيلي.
قلت: إن كان لفظ (باب) موجودًا على رأس الحديث؛ فلا يحتاج إلى جواب؛ لأنَّه حينئذٍ لا اختصاص له بذلك، بل للإشارة إلى أنَّ الصعيد كان للجنب وغيره، وإن كان غير موجود؛ فجوابه: أنَّه أطلق ولم يقيد بضربة ولا ضربتين، وأقله يكون ضربة واحدة، فيدخل في الترجمة؛ فافهم، فإنَّه دقيققاله إمام الشارحين.
قلت: ووجود (باب) الذي في أكثر الروايات أظهر في المعنى من عدمه؛ لأنَّ مراد المؤلف بيان أنَّ الصعيد يطهر الجنب وغيره، فهو كالردِّ؛ لما ذكره في (باب إذا خاف الجنب ... ) إلى آخره، فإنَّه هنا قد فقد الماء وتيمم، فهو زائد على ما ذكره هناك حيث إنه خارج عنه، وهو حكم من أحكام التيمم؛ فافهم، والله أعلم.
==================
(1/591)
((8)) [كتاب الصلاة]
(بسم الله الرحمن الرحيم): وهي ساقطة عند ابن عساكر، ثابتة عند غيره، لما فرغ المؤلف من بيان الطهارات التي منها شروط للصلاة؛ شرع في بيان الصلاة التي هي المشروطة، فلذلك أخَّرها عن الطهارات؛ لأنَّ شرط الشيء يسبقه، وحكمه يعقبه، فقال: (كتاب الصلاة)؛ أي: هذا كتاب في بيان أحكام الصلاة.
وارتفاع (كتاب) على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، كما قدَّرناه، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ تقديره: كتاب الصلاة هذا، ويجوز أن ينتصب على أنَّه مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: اقرأ أو خذ كتاب الصلاة، ويجوز أن يكون مجرورًا بحرف جرٍّ مقدَّرٍ؛ تقديره: انظر في كتاب الصلاة، لكنَّه ضعيفٌ بناء على قول مَن يقول: إنَّ حروف الجرِّ لا تعمل مقدَّرةً، وتمامه في «شرحنا على شرح الأزهرية» المسمَّى بـ «تاج الأسطوانيَّة».
ثم معنى (الصلاة) في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]؛ أي: ادع لهم، وفي الحديث في إجابة الدعوة: «وإن كان صائمًا؛ فليصل»؛ أي: فليدع لهم بالخير والبركة.
وفي الشريعة: فهي عبارة عن الأركان المعهودة، والأفعال المخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، فالصلاة حقيقة لغوية في الدعاء، ثم نقل في عرف الشرع إلى الأركان المعلومة، والعبادة المخصوصة؛ لاشتمالها على الدعاء كما أنَّ الزكاة في الأصل من التزكية بمعنى: التطهير أو بمعنى: التنمية، ثم نقلت إلى صرف مال مخصوص إلى المصرف المخصوص، فعلى هذا؛ تكون الصلاة حقيقة لغوية في الدعاء، ومجازًا لغويًّا في فعل الهيئة المخصوصة، وحقيقة اصطلاحية فيه عند أهل الشرع منقولة من الدعاء؛ لاشتمالها عليه، هذا هو المشهور بين الجمهور، فـ (الصلاة) فعلة؛ بفتح العين المهملة، من صلى؛ إذا دعا، وأصلها: صلوة، قلبت الواو ألفًا؛ كالزكاة من زكا، وكتبتا بالواو؛ لأجل التفخيم، والمراد به الألف المنقلبة عن الواو إلى مخرج الواو، كما هو المشهور عند أهل العراق.
وقال في «المفتاح»: (التفخيم: أن تكسو الفتحة ضمة، فتخرج بين بين إذا كان بعدها ألف منقلبة عن الواو؛ لتميل الألف إلى أصلها؛ كما في الصلاة والزكاة، فإن ألفهما منقلبة عن الواو؛ بدليل جمعهما على صلوات وزكوات) انتهى.
وقال إمام الشَّارحين: (وقيل: هي مشتقة من صليت العود على النار إذا قومته)، وزعم النووي أنه باطل؛ لأنَّ لام الكلمة في (الصلاة) واو؛ بدليل الصلوات، وفي صليت ياء، فكيف يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف الأصلية؟ ورده إمام الشَّارحين، فقال: دعواه بالبطلان غير صحيحة؛ لأنَّ اشتراط اتفاق الحروف الأصلية في الاشتقاق الصغير دون الكبير والأكبر.
فإن قلت: لو كانت واوية؛ كان ينبغي أن يقال: صلوت، ولم يقل ذلك؟
قلت: هذا لا ينفي أن تكون واوية؛ لأنَّهم يقلبون الواو ياء إذا وقعت رابعة، وقيل: أصلها في التعظيم، وسميت العبادة المخصوصة صلاة؛ لما فيها من تعظيم الرب سبحانه، وقيل: من الرحمة، وقيل: من التقرب من قولهم: شاة مصلية، وهي قربت من النار، وقيل: من اللزوم.
وقال الزجاج: يقال: صلى واصطلى، إذا لزم، وقيل: الإقبال على الشيء، وأنكر غير واحد بعض هذه الاشتقاقات؛ لاختلاف لام الكلمة في بعض هذه الأقوال، فلا يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف.
قلت: (قد أجبنا الآن عن ذلك) انتهى كلامه
ثم قال إمام الشَّارحين: وقيل: إن (الصلاة) مشتقة من الصلوين، تثنية الصلا: وهو ما عن يمين الذنب وشماله، قاله الجوهري.
قلت: هما العظمان الناتئان عند العجيزة، وهو الفرس الثاني من خيل السباق؛ لأنَّ رأسه يلي صلوى السابق) انتهى.
قلت: فهما أصلا الفخذين إلى الكعبين، والمراد بهما: الوركان، فأصل (صلى) حرك الصلوين؛ لأنَّ المصلي يفعله في ركوعه وسجوده، وإنما سمي الداعي مصليًا؛ تشبيهًا له في تخشعه بالراكع والساجد، وهذا القول اختاره رأس المحققين جار الله الزمخشري في «الكشاف»، وعليه فـ (الصلاة) حقيقة لغوية في تحريك الصلويين، ثم نقلت من التحريك المذكور إلى فعل الهيئات المخصوصة؛ لتحقق تحريك الصلوين، ومجاز مرسل في فعل الأركان المخصوصة، واستعارة في الدعاء، كما يدل عليه كلامه حيث قال: وحقيقة (صلى) حرك الصلوين؛ لأنَّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ونظيره: كفر اليهودي؛ إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه؛ لأنَّه ينحني على الكاذتين؛ وهما الكافرتان، ثم قال: وقيل للداعي مصلٍّ؛ تشبيهًا له في تخشعه بالراكع والساجد، انتهى.
قلت: فإذا كان لفظ (الصلاة) بمعنى: فعل الهيئات المخصوصة منقولًا من (الصلاة) بمعنى: تحريك الصلوين، فما وجه إطلاقها على الداعي مع أنه لا يحرك شيئًا من الصلويين؟
فأجاب عنه: ببيان وجه استعمالها فيه، وهو أنه سلك فيه طريق الاستعارة؛ حيث شبه الداعي في تخشعه بالمصلي، فاستعير لفظ المصلي للرداعي بهذا الجامع، والحاصل: أنَّ الصلاة نقلت أولًا من تحريك الصلوين إلى الأركان المعلومة واشتهرت فيها، ثم استعيرت
%ص 426%
منها للدعاء بجامع التخشع إلا أنَّ هذا الجواب يستلزم أن يكون استعمال الصلاة في الدعاء بعد استعمالها في فعل الهيئات المعلومة، وليس كذلك؛ لأنَّ الصلاة بمعنى: الدعاء شائعة في إشعار الجاهلية، ولم يرو عنهم إطلاقها على فعل تلك الهيئات بل ما كانوا يعرفون ذلك قط، فكيف يتجوزونها عنه؟ والذي يظهر أن ما اختاره الجمهور أوجه وأولى، أما أولًا؛ فلأن الاشتقاق مما ليس بحدث؛ كالصلاة قليل نادر، وأما ثانيًا؛ فلأن أخذ الحركة من (صلى) المشتق من (الصلا) لا دليل عليه، وأما ثالثًا؛ فلأن ذكر الجزء وإرادة الكل إنَّما يصح إذا كان الجزء مقصودًا من الكل، وهنا ليس كذلك، بخلاف ما اختاره الجمهور؛ فليحفظ.
واعلم أن ابن حجر ذكر وجه المناسبة بين أبواب (كتاب الصلاة)، وهي تزيد على عشرين نوعًا، فذكرها مجملة في هذا الموضع، ثم قال: (هذا آخر ما ظهر من مناسبة ترتيب كتاب الصلاة من هذا «الجامع الصحيح»، ولم يتعرض أحد من الشراح لذلك) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (نحن نذكر وجه المناسبة بين كل بابين من هذه الأبواب بما يفوق ذلك على ما ذكره، يظهر لك ذلك عند المقابلة، وذكرها في مواضعها أنسب، وأوقع في الذهن، وأقرب إلى القول، وبالله التوفيق) انتهى.
قلت: وكلامه في غاية من التحقيق، فإن ذكر المناسبة بين كل بابين من الأبواب لا ريب أنه أنسب وأوقع في النفس، بخلاف ما زعمه ابن حجر؛ فإن فيه تشتيت الأذهان، وطلب النفس إلى سماع وجه المناسبة في كل باب، وفيه خبط وتخليط، وما ذاك إلا من عدم الذكاء والفهم، وهذا دأب الشَّارح المجهول الذي جمع منه كتابه الذي سماه «فتح الباري»، فإنه قد نحا نحوه في ذلك، فالشرح في الحقيقة مجموع من هذا الشَّارح المجهول، فهو نقله ونسبه لنفسه، وجرى على ما ذكره، ولا ريب أن ذلك مخل في الصناعة، وممل لأهل العلم لا سيما قليل البضاعة، وقد ذكر بعض الأفاضل بيان وجه التطويل الممل، والاختصار المخل الواقع لابن حجر في «الفتح» في كتاب سماه «كشف الحجاب عن العوام فيما وقع في الفتح من الأوهام»، وجمع بعض الفضلاء كتابًا آخر سماه «منهل العليل المطل على ما وقع في الفتح من التطويل المخل»، فمن أراد الاضطلاع على ذلك؛ فعليه بهما، فإنه لم يسبق إليهما أحد مما جمع فيهما من التحقيقات الفائقة، والتدقيقات الرائقة، وفوق كل ذي علم عليم.
==================
(1/592)
(1) [باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (كيف فرضت الصلاة)؛ بالإفراد، وفي رواية الكشميهني والمستملي: (كيف فرضت الصلوات)؛ بالجمع (في الإسراء؟)؛ أي: في بيان كيفية فرضها في ليلة الإسراء؛ بكسر الهمزة، يقال: سرى وأسرى؛ لغتان، وقال الجوهري: (سريت وأسريت بمعنى: إذا سرت ليلًا)، وفي «المحكم»: (والسري: يذكر ويؤنث، ولم يعرف اللحياني إلا التأنيث)، وفي «الجامع»: (سرى يسري سريًا؛ إذا سار ليلًا، وكل سائر ليلًا؛ فهو سائر) انتهى.
والفعل على اللغتين لازم، وعُدِّي في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]؛ بالباء الموحدة في {بِعَبْدِهِ}؛ فافهم.
واختلفوا في المعراج والإسراء: هل كانا في ليلة واحدة أو في ليلتين؟ وهل كانا جميعًا في اليقظة أو في المنام، أو أحدهما في اليقظة والآخر في المنام؟
فذهب جماعة: إلى أنه عليه السَّلام ما أسري إلا بروحه، وهو قول معاوية، وحذيفة رضي الله عنهما، وحكي هذا القول عن عائشة رضي الله عنها؛ لأنَّها قالت: ما فقدت جسد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما أسري بروحه، وعليه؛ فكان ذلك رؤيا.
وذهب جماعة: إلى أنَّ الإسراء وقع في اليقظة، والمعراج في النوم.
وذهب جماعة: إلى أنَّ الإسراء وقع مرتين؛ مرة بروحه منامًا، ومرة بروحه وجسده يقظةً.
وذهب جماعة: إلى تعدد الإسراء في اليقظة، حتى قالوا: إنه أربع إسراءات، ووفق أبو أسامة في روايات حديث الإسراء بالجمع بالتعدد، فجعل ثلاث إسراءات؛ مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السموات على البراق أيضًا، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات.
قلت: والظاهر أنَّ القصة واحدة؛ لأنَّ تعدد الروايات في الإسراء واختلاف ما يذكر فيها لا يدل على التعدد؛ لأنَّ بعض الرواة يذكر شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر، فإن بعض الرواة قد يحدث بعض الخبر؛ لعلمه به ونسيانه البعض الآخر، أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارة فيسوق الحديث كله، وتارة يحدث المخاطب بما هو الأنفع له؛ فليحفظ.
والذي ذهب إليه الجمهور من المحققين من أهل السلف والخلف: هو أنه تعالى أسرى بروح النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وجسده إما من مكة إلى بيت المقدس؛ فبنص القرآن حيث قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًامِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1]، وأما العروج به عليه السَّلام في تلك الليلة إلى حيث شاء الله تعالى؛ فكذلك قال تعالى: {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى*لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} [النجم: 17 - 18]، وقال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى*عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى} [النجم: 13 - 14].
قال إمام الشَّارحين: (وكان في السنة الثانية عشرة من النبوة، وفي رواية البيهقي من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري: أنه أسري به قبل خروجه إلى المدينة بسنة، وبه قال قتادة، وقيل: كان قبل مهاجره بستة عشر شهرًا، وهو قول السدي، وعلى قوله يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري يكون في ربيع الأول، وقيل: كان الإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب، وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في «سيرته».
ومنهم من يزعم أنه كان في أول ليلة جمعة من رجب، وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لها، ثم قيل: كان قبل موت أبي طالب، وذكر ابن الجوزي: أنه كان بعد موته في سنة اثنتي عشرة للنبوة، وقيل: كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان في السنة الثالثة عشرة للنبوة، وقيل: كان في ربيع الأول، وقيل: كان في رجب) انتهى.
قلت: وقد استحال قريش الإسراء وتعجبوا منه؛ بناء على أن ارتفاع
%ص 427%
الجسم من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث الليل مما لا يقبله العقل، وكذا استحاله أهل الفلك والحكماء؛ بناء على أنَّ السماء جرم من الأجرام مركب على قوائم بالأرض، فبالصعود إليها ينخرق منها موضع لعروجه، والجرم متى انخرق؛ سقط، وهذا مردود.
قال الإمام: ومما يدل على جواز الإسراء عقلًا أنه ثبت في الهندسة: أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مئة ونيفًا وستين مرة، ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه غاية ما في الباب أنه يبقى التعجب إلا أن مثله لا يختص بهذا المقام، بل هو حاصل في جميع المعجزات، فمجرد التعجب لا يستلزم الإنكار والبطلان، وأيضًا كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم، فإن كان القول بمعراج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في ليلة واحدة ممتنعًا؛ كان القول بنزول جبريل عليه السَّلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعًا، ولو حكمنا بهذا الامتناع؛ كان ذلك طعنًا في نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام، والقول بثبوت المعراج متفرع على تسليم جواز أصل النبوة، فثبت أنَّ القائلين: بامتناع حصول حركة جسمانية سريعة إلى هذا الحد؛ يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه السَّلام في لحظة واحدة من العرش إلى مكة، ولما كان ذلك باطلًا؛ كان ما ذكر أيضًا باطلًا.
فإن قالوا: نحن لا نقول: أنَّ الحجب الجسمانية عن روح النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرًا منجليًا في ذات جبريل عليه السَّلام.
قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، وأما جمهور المفسرين؛ فهم يقرون بأن جبريل عليه السَّلام جسم، وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأملاك إلى مكة، وإذا كان كذلك؛ كان الإلزام المذكور قويًّا، وهذا تقرير ما ذهب إليه الأكثرون، والله تعالى أعلم.
وقال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: ما وجه ذكره هذا الباب بعد قوله: «كتاب الصلاة»، وما وجه تتويج الأبواب الآتية بهذا الباب؟
قلت: لأنَّ هذا الكتاب مشتمل على أمور الصلاة وأحوالها، ومن جملتها معرفة كيفية فرضيتها؛ لأنَّها هي الأصل، والباقي عارض، فما بالذات مقدم على ما بالصفات) انتهى.
(وقال ابن عباس) هو عبد الله، حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن، وهذا تعليق من البخاري، وقطعة من حديث طويل مسند ذكره في أول الكتاب: (حدثني)؛ بالإفراد (أبو سفيان): هو صخر بن حرب؛ بصاد مهملة، وخاء معجمة، آخره راء، وفي الثاني: بحاء مهملة، وراء، وموحدة، ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي المكي، وهو والد سيدنا معاوية الكبير وإخوته [1]، أسلم ليلة الفتح، ومات بالمدينة سنة إحدى وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهم (في حديث هِرَقل)؛ بكسر الهاء، وفتح الراء على المشهور، وحكى جماعة: إسكان الراء، وكسر القاف؛ كخندف؛ منهم الجوهري؛ وهو اسم أعجمي تكلمت به العرب علم غير منصرف؛ للعلمية والعجمة، ملك إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه توفي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولقبه قيصر، وهو ملك الروم، كما أن من ملك الفرس؛ يقال له: كسرى، ومن ملك الترك؛ يقال له: خاقان.
قال المؤلف في أول الكتاب: حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن عبد الله بن عباس أخبره: (أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش ... ) إلى أن قال: (وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان ... )؛ الحديث، وفيه قوله: (فقال)؛ أي: أبو سفيان لهرقل (يأمرنا): وفي رواية المؤلف: (ويأمرنا)؛ بالواو (يعني) أي: يقصد ويريد (النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم): فلفظة (النبي) منصوبة؛ لأنَّه مفعول لقوله: (يعني)، ومرفوعة فاعل لقوله: (يأمرنا) (بالصلاة)؛ أي: بإقامة العبادة المخصوصة، والأفعال المعلومة، المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، فيفعلونها سالمة عن الاعوجاج، والميل عن الحالة التي شرعت عليها، ويواظبون عليها ويؤدونها على أحسن الحالات، (والصدق)؛ أي: القول المطابق للواقع، وفي رواية للمؤلف: (ويأمرنا بالصلاة والصدقة)؛ يعني: الزكاة والنافلة، وفي رواية مسلم: (ويأمرنا بالصلاة والزكاة) (والعفاف)؛ أي: الانكفاف عن المحرمات وخوارم المروءات، وقد أخرج المؤلف هذا الحديث في أربعة عشر موضعًا، وأخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، ووجه مناسبته هنا في مطابقته للترجمة هو ما قاله إمام الشَّارحين: إن معرفة كيفية الشيء بالشيء تستدعي معرفة ذاته قبلها [2]، فأشار بهذا أولًا إلى ذات الصلاة من حيث الفرضية، ثم أشار إلى كيفية فرضيتهما بذكر حديث الإسراء، فصار ذكر قول ابن عباس المذكور توطئةً وتمهيدًا لبيان كيفيتها، فدخل فيها، فبهذا الوجه دخل تحت الترجمة، وهذا مما سنح به خاطري من الأنوار الإلهية، ولم يسبقني بهذا أحد من الشراح) انتهى.
وزعم ابن حجر أن وجه المناسبة في هذا للترجمة أن فيه الإشارة إلى أنَّ الصلاة فرضت بمكة قبل الهجرة؛ لأنَّ أبا سفيان لم يلق النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد الهجرة إلى الوقت الذي اجتمع فيه بهرقل لقاء يتهيأ له معه أن يكون أمرًا له بطريق الحقيقة، والإسراء كان قبل الهجرة بلا خلاف، فظهرت المناسبة، ورده إمام الشَّارحين، فقال: قلت: الترجمة في كيفية الفرضية؛ يعني: كيف فرضت؟ لا في بيان وقت الفرض، فكيف تظهر المناسبة حتى يقول هذا القائل: فظهرت المناسبة، وليس في هذا الحديث الذي رواه ابن عباس مطولًا ما يشعر بكيفية فرضية الصلاة بل يذكر ذلك في حديث الإسراء الآتي؟ ولكن يمكن أن يوجه لذكر هذا ههنا وجه؛ وهو أن معرفة ... إلى آخر ما ذكرناه عن إمام الشَّارحين، انتهى.
قلت: وقول ابن حجر: (لأن أبا سفيان لم يلق النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم): ممنوع؛ لأنَّه لا دليل عليه.
وقوله: (لقاء يتهيأ ... ) إلخ: كلام متناقض
%ص 428%
لا دليل عليه؛ فافهم.
قلت: ويستنبط من هذا الحديث أمور؛ الأول: افتراض الصلاة، الثاني: وجوب الصدق فيما يقوله المطابق للواقع، الثالث: فيه وجوب العفاف، الرابع: فيه وجوب الزكاة، الخامس: فيه ... [3]
==========
[1] في الأصل: (وأخواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (قبلهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] بياض في الأصل
==================
[1] في الأصل: (وأخواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (قبلهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (وأخواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (قبلهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/593)
[حديث: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري]
349# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى ابن بكير)؛ بضم الموحدة: هو أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي المصري، ونسبه لجده؛ لشهرته به (قال: حدثنا الليث)؛ بالمثلثة: هو ابن سعد الفهمي الحنفي، (عن يونس): هو ابن يزيد، وفي رواية: (حدثني يونس) (عن ابن شهاب): هو محمد بن مسلم الزهري، (عن أنس بن مالك): الصحابي الجليل رضي الله عنه، (قال: كان أبو ذر)؛ بالذال المعجمة المفتوحة، وتشديد الراء: هو جندب _بضم الجيم، والدال المهملة_ ابن جنادة _بضم الجيم_ الغفاري، وكان يقول: يحرم على الإنسان ما زاد على حاجته من المال رضي الله تعالى عنه (يحدث)؛ بضم التحتية أوله (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: فُرِج)؛ بضم الفاء، وكسر الراء، وبالجيم؛ أي: فتح (عن سقف بيتي)؛ يعني: فتح فيه فتح، وروي: (فشق).
فإن قلت: كان البيت لأم هانئ، فكيف قال: (بيتي) بإضافته لنفسه؟
قلت: إضافته إليه لأدنى ملابسة، وهذا كثير في كلام العرب كما يقول أحد حاملي الخشبة للآخر: خذ طرفك، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وأم هانئ: هي بنت أبي طالب، وأخت علي، تزوجها هبيرة بن أبي المغيرة المخزومي، فإنه عليه السَّلام كان تلك الليلة نائمًا في دارها رضي الله عنها.
وفي «عمدة القاري»: (فإن قلت: روي أيضًا أنه كان في الحطيم، فكيف الجمع بينهما؟
قلت: أما على كون العروج مرتين؛ فظاهر، وأما على كونه مرة واحدة؛ فلعله عليه الصَّلاة والسَّلام بعد غسل صدره دخل بيت أم هانئ، ومنه عرج به إلى السماء، والحكمة في دخول الملائكة من وسط السقف ولم يدخلوا من الباب كونُ ذلك أوقع صدقًا في القلب فيما جاؤوا به) انتهى.
(وأنا بمكة): جملة اسمية محلها نصب؛ لأنَّها وقعت حالًا، (فنزل جبريل عليه السَّلام)؛ أي: من الموضع المفروج في السقف مبالغة في المفاجأة، (ففرج عن): وفي رواية بإسقاط لفظة: (عن) (صدري)؛ بفتح الفاء، والراء، والجيم، وهو فعل ماض؛ أي: شقه، وفي رواية: (شرح صدري)، ومنه: {شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ} [الزمر: 22]، فالشرح: التوسعة، ومكان فسيح؛ أي: واسع، وقد شرح الله صدره عليه [الصَّلاة] والسَّلام بحيث وسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق بعد ما ضاق عنهما جميعًا، فإن مقام حضور الحق سبحانه ومناجاته مقام شهود الحق أو لغيبته عن الخلق، ومن كان غائبًا عن الخلق؛ كيف يتأتى له دعوة الخلق ومعاناتهم؟! فإن دعوتهم تستلزم الحضور معهم، والحضور مع المخلوق ينافي الحضور مع الخالق ظاهرًا فيضيق الصدر عن الجمع بينهما، فكان حاضرًا مع الحق، مستغرقًا في مقام مناجاته دائمًا، وهو غائب عنه، مشتغل بدعوة الخلق ظاهرًا، فكان غائبًا حاضرًا.
==================
فإن قلت: ذكر ابن إسحاق أنه عليه السَّلام شق صدره وهو مسترضع في بني سعد عند حليمة، ورجحه القاضي عياض؟
قلت: أجيب: بأن ذلك وقع مرتين والحكمة في الشق؛ الأول: نزع العلقة التي قيل له عليه السَّلام عند نزعها: هذا حظ الشيطان منك، وفي الثاني: ليكون مستعدًّا للتلقي؛ لما حصل له في تلك الليلة، قاله السهيلي، وقد روى الطيالسي والحارث في «مسنديهما» من حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ الشق وقع مرة أخرى عند مجيء جبريل عليه السَّلام إليه بالوحي في غار حراء، وفي «الدلائل» لأبي نعيم: (أن صدره عليه السَّلام شق وعمره عشر سنين)، ومثله في «الأحاديث الجياد» لمحمد بن عبد الواحد، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
(ثم غسله بماء زمزم): والغسل طهور، والطهور شطر الإيمان، و (زمزم) غير منصرف؛ اسم للبئر الذي في المسجد الحرام، إنَّما خصه؛ لفضله على غيره؛ أو لأنَّه يقوي القلب، (ثم جاء بطَسْت)؛ بفتح الطاء، وسكون السين المهملة، آخره مثناة فوقية، قال ابن سيده: (الطس، والطست، والطسة معروف)، وجمع الطس: أطساس، وطسوس، وطسيس، وجمع الطسة والطسة: طساس، ولا يمنع أن يجمع طسة على طسيس، بل ذلك قياسه، والطساس: بائع الطسوس، والطساسة: حرفته، وعن أبي عبيد: (الطست فارسي).
قلت: هو في الفارسية بالشين المعجمة، وقال الفراء: (طيِّئ تقول: طست، وغيرهم يقول: طس)، وهذا يرد ما حكاه ابن دحية، قال الفراء: (يقال: الطسة أكثر في كلام العرب من الطس، ولم يسمع من العرب: الطست)، وقال ابن الأنباري: (يقال: الطست؛ بفتح الطاء وكسرها، قاله أبو زيد)، وقال ابن قرقول: (طَس؛ بالفتح والكسر، والفتح أفصح، وهي مؤنثة، وخص الطست بذلك دون بقية الأواني؛ لأنَّه آلة الغسل عرفًا)، كذا في «عمدة القاري».
(من ذهب): وكلمة (من) بيانية؛ وهو اسم للحجر الرزين المعلوم، وليس فيه ما يوهم استعمال آنية الذهب، فإن ذلك فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا، أو لأنَّ ذلك كان أول الأمر قبل استعمال الأواني من النقدين؛ لأنَّه كان على أصل الإباحة، والتحريم إنَّما كان بالمدينة، وإنما كان الطست من ذهب؛ لأنَّه أعلى أواني الجنة وهو رأس الأثمان وله خواص؛ منها: أنه لا تأكله النار في حال التعليق، ولا تأكله الأرض، ولا تغيره، وهو أنقى شيء وأصفاه، وقال في المثل: (أنقى من الذهب)، وهو بيت الفرح والسرور، قال الشاعر:
صفرًا لا تتنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته ضراء
وهو أثقل الأشياء، فيجعل في الزيبق الذي هو أثقل الأشياء، فيرسب وهو موافق لثقل الوحي وهو عزيز، وبه يتم الملك، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وإنما كان الذهب أعز الأشياء؛ لأنَّه حين كان في الجنة آدم ووقع منه ما وقع من أكل الشجرة فجميع الأشياء فرحت حتى تنزل إلى الدنيا إلا الذهب، فإنه حزن على مفارقة الجنة، وكذلك الفضة، فإنها أيضًا حزنت على ذلك، فأبدلهما سبحانه بأن جعلهما أعز الأشياء، والله أعلم.
(ممتلئ)؛ بالجر صفة لـ (طست)، وتذكيره باعتبار الإناء؛ لأنَّ الـ (طست) مؤنثة (حكمةً وإيمانًا): منصوبان على التمييز، وجعل الحكمة والإيمان في الإناء، وإفراغهما فيه مع أنَّهما معنيان، وهذه صفة الأجسام من أحسن المجازات، أو أنه من باب التمثيل، أو تمثيلله النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم المعاني كما تمثل له أرواح الأنبياء الدارجة بالصور التي كانوا عليها، ومعنى المجاز فيه: كأنه جعل في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمَّى ذلك الشيء حكمة وإيمانًا؛ لكونه سببًا لهما، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (والحكمة: اسم من حكُم؛ بضم
%ص 429%
عين الفعل؛ أي: صار حكيمًا، وصاحب الحكمة: المتقن للأمور، وأما حكَم؛ بفتح عين الفعل؛ فمعناه: قضى، ومصدره حُكم؛ بالضم، والحكم أيضًا: الحكمة من العلم، والحكيم: العالم).
وقال ابن دريد: (كل كلمة وعظتك، أو زجرتك، أو دعتك إلى تكرمة، أو نهتك عن قبيح؛ فهي حكمة)، وقيل: الحكمة: المانعة من الجهل، وقيل: هي النبوة، وقيل: الفهم عن الله تعالى، وقال ابن سيده: (القرآن كفى به حكمة؛ لأنَّ الأمة صارت علماء بعد جهل)، وزعم النووي أنَّ الحكمة فيها أقوال مضطربة، وصفي لنا منها: أنَّ الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتملة على المعرفة بالله تعالى المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق، والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، فالحكيم من حاز ذلك كله) انتهى.
قلت: وهذا قول في معنى الحكمة ملفق من أقوال متباينة، فقوله: (وصفي لنا فيها ... ) إلخ: غير صحيح، بل هذا مجموع الأقوال في معناها، والأخصر أن يقال: الحكمة: هي امتثال أوامر الله تعالى ونبيه عليه السَّلام، واجتناب نواهي الله تعالى ونبيه عليه السَّلام، قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، ولا ريب أن من امتثل الأوامر واجتنب النواهي؛ فقد جمع له بين خيري الدنيا والآخرة، فلهذا وصفه سبحانه من أوتيها بالخير الكثير؛ فليحفظ.
وقال في «التوضيح»: (وفي هذا الحديث دلالة صريحة على أن شرح صدره عليه السَّلام كان ليلة المعراج، وفعل به ذلك؛ لزيادة طمأنينة لما يرى من عظم الملكوت، أو لأنَّه عليه السَّلام يصلي بالملائكة عليهم السلام) انتهى.
(فأفرغه): من الإفراغ؛ أي: أفرغ كل واحد من الحكمة والإيمان اللذين كانا في الطست (في صدري)؛ فيمتلئ حكمةً وإيمانًا، ولهذا غسله بماء زمزم، والمراد بالصدر: القلب.
فإن قلت: تقدم أنه ذكر في هذا الحديث أنه غسل صدره بماء زمزم وقلبه.
قلت: إنَّما غسله بالثلج أولًا؛ ليثلج اليقين في قلبه، وإنما كان ذلك؛ لأجل دخوله الحضرة القدسية، وقيل: فعل به ذلك في حال صغره؛ ليصير قلبه مثل قلوب الأنبياء عليهم السلام في الانشراح، والثانية؛ لتصير حالته مثل حال الملائكة، انتهى ذكره إمام الشَّارحين.
قلت: ويدل عليه: ما ذكره القرطبي في «تفسيره»: روى الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله؛ انشرح صدرك؟ قال: «نعم؛ وتفتح»، قالوا: يا رسول الله؛ وهل لذلك علامة؟ قال: «نعم؛ التجافي عن دار الغرور، والإبانة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت قبل نزول الموت»، وفي «الصحيح» عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة: أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «بينما أنا عند البيت بين النائم واليقظان؛ إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة ... ، فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا»، قال قتادة: يعني: قال إلى أسفل بطني، قال: «فاستخرج قلبي، فغسله بماء زمزم، ثم أعيد مكانه؛ ثم حشي إيمانًا وحكمةً»، وروي عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «جاءني ملكان في صورة طائر معهما ماء وثلج، فشرح أحدهما صدري، وفتح الآخر منقاره، فغسله»، وفي حديث آخر: «جاءني ملك فشق عن قلبي، فاستخرج منه عذرة ... »؛ الحديث، انتهى.
قلت: وهذا يدل على تعدد القصة، وأنه في هذه القصة لم يكن جبريل الجائي، بل غيره، وفيها أيضًا أنه شق قلبه، وهو يدل على أنَّ المراد بالصدر: القلب؛ لأنَّ غسل القلب وتنقيته مما ينافي النبوة يسلتزم شرح الصدر، وفيه أنَّ الذي جاءه ثلاثة من الملائكة، وصرح في هذه الرواية أن شرح صدره كان من أعلى الصدر إلى أسفل البطن حتى يدخل القلب في الغسل، ولا ريب أنَّ هذا دالٌّ على تعدد القصة، والله تعالى أعلم.
(ثم أطبقه)؛ أي: ثم أطبق صدره، يقال: أطبقت الشيء؛ إذا غطيته وجعلته مطبقًا، وفي «التوضيح»: (لما فعل به ذلك؛ ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء، فجمع الله له أجزاء النبوة وختمها؛ فهو خاتم النبيين، وختم عليه فلم يجد عدوه إليه سبيلًا من أجل ذلك؛ لأنَّ الشيء المختوم محروس، وقد جاء أنه استخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك).
==================
وذكر القاضي عياض: (أن موضع الخاتم إنَّما هو شق الملكين بين كتفيه)، ذكره القرطبي وقال: (هذه غفلة؛ لأنَّ الشق إنَّما كان في صغره حين لم يبلغ في السن حتى نفذ إلى ظهره)، وروى أبو داود الطيالسي، والبزار، وغيرهما من حديث عروة عن أبي ذر رضي الله عنه ولم يسمع منه في حديث الملكين: «قال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم خاط بطني، وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن»، وهذا دال مع حديث البخاري كما نبه عليه القرطبي، وأنه في الصدر دون الظهر، وإنما كان الخاتم في ظهره؛ ليدل على ختم النبوة به، وأنه لا نبي بعده، وكان تحت بعض كتفه؛ لأنَّ ذلك الموضع منه يوسوس الشيطان، ذكره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري»، وذكر الإمام حافظ النسفي نقلًا عن الكلبي: (أن جبريل عليه السَّلام أتاه عليه السَّلام، فشق صدره، وأبدى عن قلبه، ثم جاء بدلو من ماء زمزم فغسله وأنقاه مما فيه، ثم جاء بطست من ذهب قد ملئ علمًا وإيمانًا، فوضعه فيه، ثم قال: كان هذا حين جاءه بالبراق ليلة المعراج، أو حين كان عند حليمة في السنة التي أعادته فيها إلى عبد المطلب) انتهى.
قلت: وهذا تأييد لقول من قال بتعدد القصة كما سبق، لكن القاضي عبد الجبار قد طعن في هذه الرواية من وجوه؛ أحدها: أنه قد روى أن هذه الواقعة وقعت في حال صغره عليه السَّلام، وهي من المعجزات، فلا يجوز أن تتقدم نبوته، وثانيهما: أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام ولا شك أنَّ الأخلاق والمعاصي ليسا من قبيل الأجسام، فلا يؤثر فيهما الغسل، وثالثهما: أنَّ القلب لا يصح أن يملأ علمًا وإيمانًا، بل الله تعالى يخلقهما في القلب.
وأجيب عن الأول: بأن تقديم المعجزة عن البعثة يجوز عندنا، وذلك هو المسمى بالإرهاص، ومثله كثير في حقه عليه السَّلام.
وعن الثاني في قوله: (أن الغسل له تأثير في إزالة
%ص 430%
الأجسام): بأن ما في القلب من الدم الأسود لا يبعد أن يكون حصوله فيه علامة مؤذية للقلب إلى ميله إلى المعاصي، وإبعاده عن الطاعات، وتكون إزالته عنه سببًا لمواظبة صاحبه على الطاعات، واحترازه عن الشهوات المنبعثة عن توجه القوة الطبيعية إليها، فتكون إزالته عنه مسلتزمة؛ لامتلائه بالعلم والإيمان، فصح أن يعبر عن تطهير قلبه عليه السَّلام من ذلك الدم بامتلائه بالعلم والإيمان، فالمراد بما روي ظاهره هذا، بل هو رمز إلى توسيع الصدر وتفسيحه.
قلت: ويجاب عن الثالث: بأن إملاءه العلم والإيمان يصح أن يكون بواسطة جبريل عليه السَّلام، ويدل عليه: أن جبريل كان ينزل على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالوحي من الله عز وجل، فلو لم يصح هذا يلزم التعطيل في النبوة، وهو محال، ويؤيده قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]؛ يعني: وجدك ضالًّا عن الحكم والإحكام، فعلمك بالوحي والإلهام، والمراد: وجدك غافلًا عن علوم النبوة والأحكام الشرعية، فهداك إليها؛ كقوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} [الشورى: 52]، ولا ريب أن معرفة هذا يحتاج إلى واسطة جبريل عليه السَّلام، والله تعالى أعلم بالصواب.
(ثم أخذ بيدي)؛ أي: جبريل، ويحتمل أنه أخذه من اليدين جميعًا، ويحتمل أنه أخذه من اليد الواحدة، فإن لفظ (بيدي) يحتمل المعنيين، لكن الظاهر الثاني؛ لأنَّه المتعارف في اللغة؛ فافهم، (فعرج بي) وفي رواية: (فعرج به)؛ بضمير الغائب، وهو من باب التجريد، فكأنه عليه السَّلام جرد من نفسه شخصًا، وأشار إليه، وفيه وجه آخر: وهو أنَّ الراوي نقل كلامه بالمعنى لا بلفظه بعينه، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: ونقل الراوي بالمعنى صحيح جائز لمن كان متقنًا لاسيما الراوي المذكور، وزعم ابن حجر أن فيه التفاتًا، ورده إمام الشَّارحين: بأنه غير صحيح، وإنما هذا من التجريد، كما ذكرناه، والعروج: الصعود، يقال: عرَج يعرُج عروجًا، من باب (نصر ينصر)، وقال ابن سيده: (عرج في الشيء، وعليه يعرُج، ويعرِج عروجًا: رقى، وعرج الشيء وهو عريج: ارتفع وعلا، والمعراج؛ بالكسر: شبه مفعال، من العروج؛ كأنه آلة له، فالمعراج: شبه سلَّم تعرج عليه الأرواح، وقيل: هو حيث تصعد عليه أعمال بني آدم) انتهى.
(إلى السماء): وهي كل ما علاك فأظلك، وهذا يدل على رسالة نبينا النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكذا نزول جبريل عليه السَّلام وعلى خصوصية بأمور لم يعطها أحد غيره عليه السَّلام، فجبريل هو الذي ينزل عليه عليه السَّلام من عند الله، وبأمره عز وجل، فإنه كان واسطة الوحي، ويفهم من قوله: (ثم أخذ بيدي): أنَّ المعراج وقع غير مرة؛ لكون الإسراء إلى بيت المقدس لم يذكر ههنا، كذا قاله بعضهم، وزعم ابن حجر أنه يمكن أن يقال: هو من باب اختصار الراوي، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا غير مقنع؛ لأنَّ الراوي لا يختصر ما سمعه عمدًا) انتهى.
ثم قال إمام الشَّارحين: (والذي يفهم من ترتيب البخاري ههنا أنَّ الإسراء والمعراج واحد؛ لأنَّه قال أولًا: كيف فرضت الصلاة في الإسراء؟ ثم أورد الحديث، وفيه: «ثم عرج بي إلى السماء»، وظاهر إيراده في «أحاديث الأنبياء» عليهم السلام يقتضي أنَّ الإسراء غير المعراج، فإنه ترجم للإسراء ترجمة، وأخرج فيها حديثًا، ثم ترجم للمعراج ترجمة، وأخرج فيها حديثًا) انتهى.
(فلما جئت) أي: وصلت (إلى السماء الدنيا) وهي السماء الأولى، و (الدُّنيا)؛ بضم الدال المهملة، من الدنوِّ، أوهو القرب، وسميت بذلك؛ لدنوها؛ أي: قربها من الآخرة، وروى ابن حبان في «صحيحه» مرفوعًا: «بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام»، وذكر في كتاب «العظمة» لأبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي، عن عبد الله قال: «ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمس مئة عام، وبين السماء إلى السماء التي تليها مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي كذلك، والماء على الكرسي، والعرش على الماء».
وقال ابن أبي شيبة أبو جعفر محمد بن عثمان في كتابه «العرش» بإسناده إلى العباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «بينهما خمس مئة عام، وكثف كل سماء خمس مئة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض»، وروي أيضًا عن أبي ذر مرفوعًا مثله، كذا في «عمدة القاري».
(قال جبريل لخازن السماء)؛ أي: حافظها الموكل بها.
==================
فإن قلت: كيف يتصور الصعود إلى السموات وما فوقها بالجسم الإنساني؟
قلت: أجيب: بأن الأرواح أربعة أقسام:
الأول: الأرواح الكدرة بالصفات البشرية، وهي أرواح العوام غلبت عليها القوى الحيوانية، فلا تقبل العروج أصلًا.
والثاني: الأرواح التي لها كمال القوة النظرية للبدن باكتساب العلم، وهذه أرواح العلماء.
والثالث: الأرواح التي لها كمال القوة المدبرة للبدن باكتساب الأخلاق الحميدة، وهذه أرواح المرتاضين إذا كسروا؛ قوَّى أبدانهم بالارتياض والمجاهدة.
والرابع: الأرواح التي حصل لها كمال القوتين، وهذه غاية الأرواح البشرية، وهي الأنبياء عليهم السلام الصديقون، فكلما ازدادت [1] قوة أرواحهم؛ ازداد ارتفاع أبدانهم من الأرض، ولهذا لما كان الأنبياء عليهم السلام قويت فيهم هذه الأرواح؛ عرج بهم إلى السماء، وأكملهم قوة نبينا النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(افتح)؛ أي: افتح الباب، وفي رواية شريك عند المؤلف: (فضرب بابًا من أبوابها)، وهذا يدل على أنَّ الباب كان مغلقًا، والحكمة أنَّ السماء لم تفتح إلا لأجله بخلاف ما لو وجده مفتوحًا، وهذا يدل أيضًا على أن عروجه عليه السَّلام كان بجسده؛ إذ لو لم يكن بجسده؛ لما استفتح، قاله إمام الشَّارحين، ففي الحديث أن للسماء أبوابًا حقيقية، وحفظة موكلين بها، (قال)؛ أي: الخازن (من هذا)؛ بفتح الميم؛ أي: من هذا الذي يقرع الباب؟ (قال: جبريل) ولغير أبي ذر: (قال: هذا جبريل)، ففيه إثبات الاستئذان، وأن يقول: فلان، ولا يقول: أنا، كما نهي عنه في حديث جابر، ولأنه لا فائدة فيه؛ لبقاء الإبهام، فإذا استأذن أحد بدق الباب ونحوه، فإذا قيل له: من أنت؟؛ يقول:
%ص 431%
زيد الكاتب الفلاني، ولا يقتصر على زيد مثلًا؛ لأنَّ المسمى بزيد كثير، فيشتبه عليه، بل يذكر الشيء الذي هو مشهور به بين الناس، أفاده إمام الشَّارحين.
(قال) أي: الخازن: (هل معك أحد)؛ أي: من الأنبياء عليهم السلام، وهذا يدل على أنَّ الخازن عنده علم وعادة في مجيء نبي من الأنبياء عليهم السلام مع جبريل، وأن عادة جبريل هذه، وهذا يدل على أن عروجه عليه السَّلام كان بروحه؛ إذ لو لم يكن بروحه؛ لما قال: هل معك أحد؟ فإنَّ هذا يدل على أن عادة جبريل المجيء للخازن ومعه أحد من الأنبياء عليهم السلام، لكن قد يقال: إن مجيئهم ليس لأجل المعراج، بل تأتي روحهم لأجل دخول الجنة، فالمعراج خاص بنبينا عليه السَّلام؛ فتأمل.
(قال) جبريل للخازن: (نعم) معي (محمد)؛ أي: النبي الأعظم سيد الأنبياء ورئيسهم صلى الله تعالى عليه وسلم، (قال) أي: الخازن: (أأرسل إليه؟)؛ بهمزتين؛ أولاهما: للاستفهام، وهي مفتوحة، والثانية: همزة التعدية، وهي مضمومة، وفي رواية الكشميهني: (أوَأرسل؟)؛ بواو مفتوحة بين الهمزتين، وهذا السؤال من الملك الذي هو خازن السماء، يحتمل وجهين؛ أحدهما: الاستعجاب بما أنعم الله تعالى عليه من هذا التعظيم والإجلال حتى أصعده إلى السماوات، والثاني: الاستبشار بعروجه؛ إذ كان من اليقين [2] عندهم أن أحدًا من البشر لا يرتقي إلى أسباب السماء من غير أن يأذن الله له ويأمر ملائكته بإصعاده، أفاده في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر: أنه يحتمل أن يكون قد خفي عليه أصل إرساله؛ لاشتغاله بعبادته، ورده إمام الشَّارحين فقال: كيف يخفى عليه ذلك؛ لاشتغاله بعبادته، وقد قال أولًا: من هذا؟ حين قال جبريل: افتح، وقال أيضًا: هل معك أحد؟ قال جبريل: نعم؛ معي محمد، وأين الخفاء بعد ذلك، وأين الاشتغال بالعبادة في هذا الوقت وهو وقت المحاورة والسؤال، وأمر نبوته كان مشهورًا في الملكوت؛ لأنَّها لا تخفى على خزان السماوات وحراسها؟! فحينئذٍ لا يكون السؤال عن أصل الرسالة، وإنما كان سؤالًا عن أنه أرسل إليه للعروج والإسراء، فحينئذٍ احتمل سؤالهم الوجهين المذكورين.
==================
[1] في الأصل: (ازداد)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (التين)، وهو تحريف.
فإن قلت: جاء في رواية شريك: (أو قد بعث إليه؟)، وهذا يؤيد ما قاله هذا القائل.
قلت: معنى (أرسل) و (بعث) سواء على أنَّ المعنى هنا أيضًا: أو قد بعث إلى هذا المكان؟! وذلك استعجاب منه واستعظام لأمره) انتهى كلامه.
قلت: وقوله: (لاشتغاله بعبادته): لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم أن عبادته حراسته لباب السماء، وقعوده عند بابها، وذلك بأمر من الله عز وجل، فأمره سبحانه وتعالى لا ريب أنه عبادة، وهذه العبادة عظيمة، ويفهم من قول الخازن: أأرسل إليه؟ أنه إذا لم يكن قد أرسل إليه لا يفتح الباب له، وهو كذلك؛ لأنَّ الأنبياء معصومون من المعاصي، والسماء لم يعص فيها أحد قط، فإذا كان نبيًّا؛ فتح له، وإلا؛ فلا، وهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن غير الأنبياء عليهم السلام يفتح لهم كالمتصوفة، والمتزندقة، وزعموا العصمة لهم، فهذا الحديث يدل صريحًا على أن غير المرسلين عليهم السلام لا يفتح له الخازن الباب، وأنَّهم غير معصومين، والأنبياء عليهم السلام معصومون، ولا تجوز العصمة إلا لهم عليهم السلام، وهذا قول أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة؛ فليحفظ.
(قال) أي: جبريل: (نعم) أرسل إليه، ففتح لهما، (فلما فتح) أي: الخازن الباب؛ (علونا السماء الدنيا): ضمير الجمع فيه يدل على أنه كان معهما ملائكة آخرون، فكأنَّهما كلما عديا سماء؛ تشيعها الملائكة إلى أن يصلا إلى سماء أخرى، و (الدنيا) صفة (السماء) في محل النصب بمعنى: أنه لا يظهر النصب، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري»، وتبعه الشراح منهم القسطلاني.
قلت: والمراد بضمير الجمع هو (نا) في (علونا)، فإنها للمتكلم، ومعه غيره، كما هو معلوم، فالنبي الأعظم، والثاني: جبريل، والثالث: الخازن، وغيره، ولا ريب أن ذلك جمع، فصدق عليه أنه ضمير جمع، وإنما لم يظهر النصب في (الدنيا)؛ لوجود الألف التي هي أخت الفتحة، فاشتركا في مخرج واحد، فلم يظهر النصب؛ فليحفظ.
وفي «عمدة القاري»: (وفي الحديث: أن رسول الرجل يقوم مقام إذنه؛ لأنَّ الخازن لم يتوقف عن الفتح له على الوحي إليه بذلك، بل عمل بلازم الإرسال إليه) انتهى.
قلت: فإن كان قد أرسل إليه؛ يفتح له، وإلا؛ فلا؛ فليحفظ.
(فإذا رجل قاعد) وفي رواية: (إذا)؛ بدون الفاء، وكلمة (إذا) للمفاجأة، وتختص بالجملة الاسمية؛ للمفاجأة، ولا تحتاج إلى جواب، وهي حرف عند الأخفش، وظرف مكان عند المبرد، وظرف زمان عند الزجاج، (على يمينه أَسودة)؛ بفتح الهمزة، جمع سواد؛ كالأزمنة جمع زمان، والسواد: الشخص، وقيل: الجماعات، وسواد الناس: عوامهم، وكل عدد كثير، ويقال: هي الأشخاص من كل شيء، وقال أبو عبيد: هو شخص كل شيء من متاع أو غيره، والجمع أسودة، وأساود جمع الجمع، كذا في «عمدة القاري».
(وعلى يساره أسودة) كذلك، (إذا نظر قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (يمينه) كلام إضافي، منصوب بقوله: (نظر) (ضحك) جواب (إذا) فرحًا مسرورًا، (وإذا) للمفاجأة أيضًا كما سبق (نظر قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (شماله) وللأربعة: (يساره) كلام إضافي، منصوب بقوله: (نظر) (بكى) حزنًا وتأسفًا، (قال)؛ أي: هذا الرجل (مَرحبًا)؛ بفتح الميم، منصوب بأنه مفعول مطلق؛ أي: أصبت سعة لا ضيقًا، والنصب فيه كما في قولهم: أهلًا وسهلًا؛ ومعناه: أصبت رحبًا وسهلًا، فاستأنس ولا تتوحش، وهي وأمثالها كلمة تقال عند تأنيس القادم (بالنبي الصالح، والابن الصالح) ومعنى (الصالح): هو القائم بحقوق الله تعالى، وحقوق العباد، وكلهم قالوا له: (بالنبي الصالح)؛ لشموله على سائر الخلال المحمودة الممدوحة من الصدق، والأمانة،
%ص 432%
والعفاف، والفضل، ولم يقل له أحد: مرحبًا بالنبي الصادق، ولا: بالنبي الأمين؛ لما ذكرنا أنَّ الصلاح شامل لسائر أنواع الخير، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(قلت) أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قلت (لجبريل: مَن) بفتح الميم (هذا)؛ أي: الرجل القاعد على يمينه أسودة وعلى يساره كذلك؟ (قال) أي: جبريل: (هذا آدم)؛ أي: أبو البشر، قيل: إن اسم آدم سرياني، وقيل: مشتق، فقيل: أفعل من الأدمة، وقيل: من لفظ الأديم؛ لأنَّه خلق من أديم الأرض، قال النضر بن شميل: (سمي آدم؛ لبياضه)، وذكر محمد بن علي: (إن الآدم من الظباء الطويل القوائم)، وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعًا، فكل من يدخل الجنة على صورته وطوله، وولد له أربعون ولدًا في عشرين بطنًا، في كل بطن ذكر وأنثى، إلا شيثًا، فإنه ولد وحده»، وعاش عليه السَّلام ألف سنة، وكنيته: أبو البشر، كما ذكرنا، وأبو الأنبياء المرسلين، وقيل: أبو محمد، وروى ابن عساكر من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «أهل الجنة ليس لهم كنى إلا آدم، فإنه يكنى أبا محمد»، وفي حديث كعب الأحبار: (ليس لأحد من أهل الجنة لحية إلا آدم، فإن له لحية سوداء إلى سرته)، وذلك؛ لأنَّه لم يكن له لحية في الدنيا، وإنما كانت اللحى بعد آدم، ولما أهبط من الجنة؛ هبط بسرنديب من الهند على جبل يقال له: نَوَد، ولما حضرته الوفاة؛ اشتهى قطف عنب، فانطلق بنوه ليطلبوه، فلقيتهم الملائكة، فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: إن أبانا اشتهى قطفًا، فقالوا: ارجعوا قد كفيتموه فرجعوا؛ فوجدوه قد قبض، فغسلوه، وحنطوه، وكفنوه، وصلى عليه جبريل عليه السَّلام، والملائكة خلفه، وبنوه خلفهم، ودفنوه، وقالوا: هذه سنتكم في موتاكم، ودفن في غار يقال له الكنز في أبي قبيس، فاستخرجه نوح عليه السَّلام في الطوفان وأخذه، وجعله في تابوت معه في السفينة، فلما نضب الماء؛ رده نوح عليه السَّلام إلى مكانه، كذا في «عمدة القاري».
(وهذه الأسودة)؛ أي: التي (عن يمينه وشماله نَسَم)؛ بفتح النون والسين المهملة، والنسمة: نفس الروح، وما بها نسمة؛ أي: نفس، والجمع نسم، قاله ابن سيده، وزعم الخطابي هي النفس (بنيه) والمراد: أرواح بني آدم، وزعم ابن التين ورويناه: (شيم) بني آدم، والأولى أشبه، قاله إمام الشَّارحين.
(فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار) فإن الجنة فوق السماء السابعة في جهة يمين آدم، والنار في الأرض السابعة في جهة يساره، فيكشف الله له عنهما، كما سيأتي، (فإذا نظر عن يمينه؛ ضحك، وإذا نظر قبل شماله؛ بكى) ففيه دلالة على أن نسم أهل النار في السماء، وقد جاء أن أرواح الكفار في سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة، فكيف تكون مجتمعة في السماء؟!
وأجيب: بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتًا، فصادف وقت عروضها مرور النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
فإن قلت: لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار كما هو نص القرآن.
قلت: يحتمل أنَّ الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار في جهة شماله، وكانت يكشف له عنهما، ويحتمل أن يقال: إنَّ النسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعد، وهي مخلوقة قبل الأجساد، ومستقرها عن يمين آدم وشماله، وقد أعلمه الله تعالى بما سيصيرون إليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من على يمينه، ويحزن إذا نظر إلى من على يساره، قاله إمام الشَّارحين.
(حتى عَرَجَ)؛ بفتحات؛ أي: صعد (بي)؛ أي: جبريل، ولابن عساكر: (به)، وهو من باب التجريد، كما سبق (إلى السماء الثانية، فقال) أي: جبريل (لخازنها)؛ أي: الملك الموكل بحفظها: (مثل ما قال الأول)؛ يعني: قال لخازنها: افتح الباب، قال الخازن: من هذا الذي يقرع الباب؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم؛ معي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: أأرسل إليه؟ قال جبريل: نعم؛ أرسل إليه، (ففتح)؛ أي: الخازن لهما باب السماء الثانية، (قال) وفي رواية: (فقال) (أنس): هو ابن مالك رضي الله عنه، (فذكر)؛ أي: أبو ذر جندب ابن جنادة الغفاري (أنه)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وجد في السماوات)؛ أي: السبع (آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى، وإبراهيم صلوات الله عليهم).
فإن قلت: كيف رأى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الأنبياء في السماوات، ومقرهم في الأرض؟
أجيب: بأن الله تعالى شكل أرواحهم على هيئة صور أجسادهم، ذكره ابن عقيل، وكذا ذكره ابن التين، وقال: (وإنما تعود أرواحهم إلى الأجساد يوم البعث إلا عيسى بن مريم عليه السَّلام، فإنه لم يمت وهو ينزل إلى الأرض) انتهى.
واعترضهما إمام الشَّارحين فقال: (الأنبياء أحياء، فقد رآهم عليه السَّلام حقيقة، وقد مر على موسى عليه السَّلام وهو قائم في قبره يصلي، ورآه في السماء السادسة) انتهى.
قلت: يعني: أنَّ الأنبياء عليهم [السلام] أحياء حقيقة، يدل عليه قوله عليه السَّلام في هذا الحديث: (وجد ... إلى آخره)، وهو يدل على أنه رآهم أحياء حقيقة، وكيف وقد قال تعالى في حق الشهداء: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [3]
فالمراد بقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ}؛ يعني: في الجنة، والجنة فوق السماوات، وإنَّهم أحياء حقيقة، كما نطق به الكتاب العزيز، فلا يكون الشهداء أرقى من الأنبياء، بل الأنبياء عليهم السلام أرقى حالًا منهم، كما لا يخفى؛ لأنَّه ليس فوق درجة النبوة شيء، خلافًا للمتصوفة الزاعمين ذلك، وهو كفر وزندقة؛ فليحفظ.
(ولم يثبت): من الإثبات (كيف منازلهم)؛ أي: لم يعين أبو ذر لكل نبي منهم سماء معينًا (غير أنه)؛ أي: أبا ذر (ذكر أنه)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة) نعم في «الصحيحين» من حديث أنس، عن مالك بن صعصعة: (أنه وجد آدم في السماء الدنيا)، كما سلف في حديث أبي ذر، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم، وهو مخالف لرواية أنس عن أبي ذر: (أنه وجد إبراهيم في السماء السادسة)، وكذا جاء في «صحيح مسلم».
وأجيب: بأن الإسراء إن كان وقع مرتين؛ فيكون رأى إبراهيم في أحدهما؛ أي: أحد السماءين، ويكون استقراره ووطنه بها، والثانية في سماء غير وطنه، وإن كان الإسراء وقع مرة واحدة؛ فيكون رآه أولًا في السماء السادسة، ثم ارتقى معه إلى السماء السابعة، كذا قرره إمام الشَّارحين.
%ص 433%
وزعم ابن حجر أنَّ المعراج إن كان وقع مرة واحدة، فالأرجح رواية الجماعة؛ لقوله فيها: إنه رآه مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وهو في السماء السابعة بلا خلاف، ورده إمام الشَّارحين فقال: وقول هذا القائل: (بلا خلاف) غير صحيح؛ لأنَّ فيه خلافًا، فقد روي عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع: (أنه في السماء الدنيا)، وروي عن علي: (أنه عند شجرة طوبى في السماء السادسة)، وروي عن الضحاك ومجاهد: (أنه في السماء السابعة).
فإن قلت: كيف يجمع بين هذه الأقوال وفيها منافاة؟
قلت: لا منافاة بينها؛ لأنَّه يحتمل أنَّ الله تعالى رفعه ليلة المعراج إلى السماء السادسة عند سدرة المنتهى، ثم إلى السماء السابعة تعظيمًا للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حتى يراه في أماكن، ثم أعاده إلى السماء الدنيا.
وفي «تفسير» الحافظ النسفي: البيت المعمور: حذاء العرش بحيال الكعبة، يقال له: الضراح، حرمته في السماء كحُرمة [4] الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة، يطوفون به، ويصلون فيه، ثم لا يعودون إليه أبدًا، وخادمه ملك يقال له: رزين، وقيل: كان في الجنة، فحمل إلى الأرض؛ لأجل آدم، ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان.
قلت: الضُّراح؛ بضم الضاد المعجمة، وبالحاء المهملة، وقال الصاغاني: ويقال له: الضريح أيضًا، انتهى كلام إمامنا في «عمدة القاري».
(قال أنس): هو ابن مالك، وظاهره أن أنسًا لم يسمع من أبي ذر هذه القطعة الآتية، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وهي قوله: (فلما مَرَّ)؛ بفتح الميم، وتشديد الراء المفتوحة، من المرور (جبريل بالنبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: في السماوات مصاحبًا لنبينا عليه السَّلام (بإدريس) والجار والمجرور في الموضعين يتعلقان كلاهما بقوله: (مر)، فالأولى للمصاحبة كما ذكرنا، والثانية للإلصاق، أو بمعنى: على، وجاز تعلق حرفين من جنس واحد بمتعلق واحد وإن كانا ليسا من جنس واحد؛ لصحة المعنى في ذلك، خلافًا لمن منعه، بل هذا يدفعه، أفاده إمام الشَّارحين.
(قال)؛ أي: إدريس حين رأى النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (مرحبًا)؛ بالنصب على المفعولية المطلقة؛ يعني: أتيت مكانًا رحبًا واسعًا سهلًا (بالنبي الصالح)؛ أي: القائم بحقوق الله، وحقوق عباده (والأخ الصالح) وإنما لم يقل: والابن كما قال آدم؛ لأنَّ إدريس لم يكن من آبائه عليه السَّلام، كذا قاله القسطلاني.
قلت: وكان ينبغي لإدريس أن يقول: والابن؛ لأنَّه أكبر سنًّا منه، لكنه لما علم أنه أفضل منه حيث جاء إلى مكان لم يجئه أحد قبله عليه السَّلام؛ علم بالقرينة أنه أفضل منه قدرًا عند الله عز وجل، فوصفه بالأخوة، وهي تقتضي المشاركة في النبوة فقط؛ فليحفظ.
(فقلت)؛ أي: قال النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت: (مَن)؛ بفتح الميم (هذا؟)؛ أي: يا جبريل الذي قال هذا القول، (قال): وللأصيلي: (فقال)؛ أي: جبريل (هذا إدريس) عليه السَّلام، وسمي به؛ لدرسه الصحف الثلاثين التي أنزلت [5] عليه، فقيل: إنه خنوخ، ويقال: أحنوخ، ويقال: أخنخ، ويقال: أهنخ بن برد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم عليه السَّلام، واسم أمه: بره، وخنوخ اسم سرياني؛ ومعناه بالعربية: إدريس، قال وهب: هو جد نوح عليه السَّلام، وقد قيل: إنه إلياس، وإنه ليس بجد نوح، ولا هو في عمود هذا النسب، ونقله السهيلي عن ابن العربي، ويشهد له حديث الإسراء حيث قال فيه: (مرحبًا بالأخ الصالح)، ولو كان في عمود هذا النسب؛ لقال له كما قال إبراهيم: (والابن الصالح)، وزعم ابن حجر أن إدريس كان نبيًّا في بني إسرائيل، فإن كان كذلك؛ فلا اعتراض عليه، وزعم النووي يحتمل أنه قاله تلطفًا وتأدبًا، وهو أخ وإن كان ابنًا، والأبناء إخوة، والمؤمنون إخوة، وزعم ابن المنير أكثر الطرق على أنه خاطبه بالأخ، قال: وقال لي ابن أبي الفضل صحت لي طريق أنه خاطبه فيها: (بالابن الصالح)، وقال المارزي: ذكر المؤرخون: أن إدريس أرسل إليه، ولم يصح قول النسابين: إنه نوح؛ لأخبار نبينا عليه السَّلام في الحديث الصحيح: «ائتوا نوحًا، فإنه أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض»، وإن لم يقم دليل جازم، وقال: وصح أن إدريس كان نبيًّا، ولم يرسل إليه، قال السهيلي: (وحديث أبي ذر الطويل يدل على أن آدم وإدريس رسولان).
قلت: حديث أبي ذر أخرجه ابن حبان في «صحيحه» رفع إلى السماء الرابعة، ورآه عليه السَّلام فيها، ورفع وهو ابن ثلاث مئة وخمس وستين سنة)، كذا في «عمدة القاري».
(ثم مررت بموسى): هو ابن عمران عليه السَّلام صاحب الخضر، نبي بني إسرائيل، المتوفى في التيه في سابع إدار لمضي ألف سنة وست مئة وعشرين سنة من الطوفان عن مئة وستين سنة؛ يعني: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ثم مررت بموسى»، ففي الكلام حذف؛ تقديره هكذا؛ لأنَّه قال أولًا: (فلما مر جبريل)، فما وجه قوله بعد: (ثم مررت بموسى)؟
فالذي قدرناه هو وجهه، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون الأول نقلًا بالمعنى، والثاني يكون نقلًا باللفظ بعينه، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(فقال)؛ أي: موسى له (مرحبًا بالنبيِّ الصالح، والأخ الصالح) وسقط قوله: (والأخ الصالح) في رواية الأربعة، (قلت)؛ أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «قلت»، وفي رواية: (فقلت) (من هذا) يا جبريل؟ (قال: هذا موسى) بني إسرائيل: هو ابن عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوى بن يعقوب عليه السَّلام، (ثم مررت بعيسى)؛ أي: صاحب الإنجيل، (فقال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح) قال عليه السَّلام (فقلت): وفي رواية: (قلت) (من هذا) يا جبريل؟ (قال: هذا عيسى): هو ابن مريم، وسقط لفظة (هذا) عند أبي ذر، ومريم بنت عمران بن أسهم من ولد سليمان بن داود عليه السَّلام، وليس عمران هذا عمران والد موسى وهارون؛ لأنَّ عمران والد مريم كان بعد والد موسى بألف وثمان مئة سنة، والمراد بالـ (كلمة) في قوله تعالى: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ} [آل عمران: 39]: هو عيسى عليه السَّلام، وهو قول الجمهور، وكان يحيى عليه السَّلام أول من صدق بعيسى وآمن به.
وقال السدي: (لقيت أم يحيى أم عيسى، وهذه حاملة بعيسى وتلك بيحيى، فقالت: يا مريم؛ شعرت أني حبلى، فقالت مريم: وأنا أيضًا حبلى، قالت امرأة زكريا: وإني [6] وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذاك قوله تعالى: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ}).
قال ابن عباس: (إن يحيى كان أكبر سنًّا من عيسى بستة أشهر)، وكان يحيى أول من صدق وآمن بأنه كلمة الله وروحه، ثم قتل يحيى عليه السَّلام قبل أن يرفع [7] عيسى عليه السَّلام، وإنما سمي روحًا؛ لأنَّه أحيا الله به من الضلالة كما يحيي الإنسان
%ص 434%
بالروح، وإنما سمي كلمة؛ لأنَّه بها تكون، والمسيح لقبه، وهو من الألقاب المشرفة؛ كالصديق، وأصله بالعبرانية مشيحا؛ ومعناه: المبارك، وعيسى اسمه معرب أيشوع، وابن مريم كنيته، وإنما قيل: ابن مريمتنبيهًا إلى أنه يولد من غير أب؛ لأنَّ الأولاد تنسب إلى الآباء، ولا تنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب، والمسيح مشتق من المسح؛ لأنَّه مسح الأرض، ولم يقم في موضع، وقيل: لأنَّه مسح بالبركة، أو بما طهره من الذنوب، وعيسى مشتق من العيس؛ وهو بياض يعلوه حمرة، وقد أخبر نبينا عليه السَّلام: بأنَّ وجهه كأنَّه خرج من ديماس؛ أي: حمام.
(ثم مررت)؛ أي: في السماء (بإبراهيم)؛ ومعناه: أب راحم، وكنيته أبو الضيفان، قيل: إنه ولد بغوطة دمشق ببرزة في جبل قاسيون، والصحيح: أنه ولد بكوثا من إقليم بابل من العراق، وكان بينه وبين نوح عدة قرون، وقيل: ولد على رأس ألفي سنة من خلق آدم عليه السَّلام، وذكر الطبري: (أن إبراهيم إنَّما نطق بالعبرانية حين عبر النهر فارًّا من نمرود اللعين، فقال نمرود للذين أرسلهم في طلبه: إذا وجدتم فتَى يتكلم بالسريانية؛ فردوه، فلما أدركوه؛ استنطقوه، فحول الله لسانه عبرانيًّا، وذلك حين عبر النهر، فسميت العبرانية بذلك).
قلت: والمراد من هذا النهر هو الفرات، وبلغ إبراهيم مئتي سنة، وقيل: ينقص خمسة وعشرين، ودفن بالبلد المعروفة بالخليل صلَّى الله عليه وسلَّم، قاله إمام الشَّارحين.
==================
[4] في الأصل: (كحرمته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أنزلت على عليه).
[6] في الأصل: (وفإني)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (رفع)، ولعله تحريف.
(فقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح) إنَّما وصفه بالبنوة؛ لأنَّه عليه السَّلام من أولاده، ولأنه أبو الأنبياء، فإن يعقوب عليه السَّلام من ذريته، وهو جده، وهو أول بني إسرائيل، وآخرهم عيسى عليه السَّلام، فالأنبياء بينهما كثير، فهو الأب الثاني كما قيل، (قلت: من هذا) يا جبريل؟ (قال: هذا إبراهيم)؛ أي: خليل الرحمن عليه السَّلام، وإنما عين النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من الأنبياء آدم، وإدريس، وإبراهيم، وموسى، وعيسى في حديث هذا الباب، وفي غيره ذكر أيضًا يحيى، ويوسف، وهارون، وهم ثمانية.
وأجيب: أما آدم عليه السَّلام؛ فإنه خرج من الجنة بعداوة إبليس عليه اللعنة له وتحيله، وكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم خرج من مكة بأذى قومه له ولمن أسلم معه، وأيضًا فإن الله تعالى أراد أن يعرض على نبيه عليه السَّلام نسم بنيه من أهل اليمين وأهل الشمال؛ ليعلم بذلك أهل الجنة وأهل النار، وأما إدريس عليه السَّلام؛ فإنه كان أول من كتب بالقلم وانتشر منه بعده في أهل الدنيا، فكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كتب إلى الآفاق، وأما موسى عليه السَّلام؛ فإن أمره آل إلى قهر الجبابرة وإخراجهم من أرضهم، فكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن اليهود أرادوا قتله حين سمُّوا له الشاة، فنجاه الله تعالى من ذلك، وأما إبراهيم عليه السَّلام؛ فإن نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رآه مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وكذلك حال نبينا عليه السَّلام كان في حجة البيت العتيق، واختتام عمره بذلك نظير لقائه إبراهيم في آخر السماوات، وأما عيسى عليه السَّلام؛ فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، وتنطق له الغزالة، والجمل، والكتف المسموم، وأما يحيى عليه السَّلام؛ فإن نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رآه مع عيسى في السماء، وإنه رأى من اليهود ما لا يوصف حتى ذبحوه، فكذلك صلَّى الله عليه وسلَّم رأى من قريش ما لا يوصف، ولكن الله تعالى نجاه منهم، وأما يوسف عليه السَّلام؛ فإنه لما عفا عن إخوته حيث قال: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ... }؛ الآية [يوسف: 92]؛ فكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عفى عن قريش يوم فتح مكة، وأما هارون عليه السَّلام؛ فإنه كان محببًا إلى بني إسرائيل حتى إن قومه كانوا يؤثرونه على موسى عليه السَّلام، فكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صار محببًا عند سائر الخلق الإنس، والجن، والوحوش، والطيور.
فإن قلت: قوله في الحديث: (ولم يثبت كيف منازلهم) يخالفه كلمة (ثم) التي هي للترتيب.
قلت: أجيب: بأن أنسًاإما لم يرو هذا عن أبي ذر، وإما أن يقال: لا يلزم منه تعيين منازلهم لبقاء الإبهام فيه؛ لأنَّ إبراهيم بينه وبين آدم ثلاثة من الأنبياء، وأربعة من السماوات، أو خمسة؛ لأنَّه جاء في بعض الروايات: (أن إبراهيم في السماء السابعة)، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني: إن (ثم) هنا للترتيب الذكري، وليست على بابها من الترتيب في المنازل، وقد يقال: إنَّ هذا جارٍ على القول بتعدد المعراج؛ لأنَّ الروايات قد اتفقت على أنَّ المرور بإبراهيم كان قبل المرور بموسى عليهما السلام؛ فليحفظ.
(قال ابن شهاب): هو محمد بن مسلم الزهري: (فأخبرني)؛ بالإفراد (ابن حَزْم)؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي: هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضي المدينة وأميرها زمن الوليد، وأبوه محمد، وله في عهد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمر عليه السَّلام أباه أن يكنيه بأبي عبد الملك، وكان فقيهًا فاضلًا، قتل يوم الحرة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وهو تابعي، وذكره ابن الأثير في الصحابة، ولم يسمع الزهري منه؛ لتقدم موته، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقول القسطلاني: (إنه مات سنة عشرين ومئة عن أربع وثمانين سنة): فيه نظر؛ لأنَّ صوابه أنه عن ثلاث وخمسين سنة؛ فافهم.
(أن) بفتح الهمزة (ابن عباس): هو عبد الله رضي الله عنهما (وأبا حَبَّة)؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحدة، وهو المشهور، وقال القابسي: (بالمثناة التحتية)، وغلطوه في ذلك، وقال الواقدي: (بالنون) (الأنصاري) البدري، واختلف في اسمه، فقال أبو زرعة: (إنه عامر)، وقيل: عمرو، وقيل: ثابت، وقال الواقدي: (إنه مالك).
فإن قلت: في هذا الإسناد وهم؛ لأنَّ رواية أبي بكر عن أبي حبة منقطعة؛ لأنَّه استشهد يوم أحد قبل مولد أبي بكر بدهر، بل قبل مولد أبيه محمد أيضًا، ففي هذه الرواية وهم؛ لأنَّه إن كان المراد بـ (ابن حزم) أبا بكر؛ فهو لم يدرك أبا حبة، وإن كان محمد؛ فهو لم يدركه الزهري.
قلت: أجيب: بأن ابن حزم رواه عنه مرسلًا؛ حيث قال: (إن ابن عباس وأبا حبة)، ولم يقل: سمعت، وأخبرني،
%ص 435%
==================
ونحوهما، فلا وهم فيه، وهكذا أيضًا في «صحيح مسلم»، كذا قاله إمام الشَّارحين؟
قلت: وقول أبي زرعة إن اسمه عامر هو ابن عبد عمرو بن عمير بن ثابت، وأنكر الواحدي أن يكون في البدرين من يكنى أبا حبة؛ بالموحدة، وقال في «الإصابة»: وروى عنه أيضًا عمار بن أبي عمار، وحديثه عنه في «مسند» ابن أبي شيبة، وأحمد ابن حنبل، وصححه الحاكم، وصرح بسماعه منه، وعلى هذا؛ فهو غير الذي ذكر ابن إسحاق: أنه استشهد بأحد، وله في الطبراني حديث آخر من رواية عبد الله بن عمرو بن عثمان عنه، وسنده قوي إلا أن عبد الله بن عمرو بن عثمان لم يدركه، انتهى.
قال ابن حزم: (كانا)؛ أي: ابن عباس، وأبو حبة (يقولان: قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: ثم عَرَجَ)؛ بفتحات، أو بضم الأول، وكسر الثاني؛ أي: صعِد (بي)؛ أي: جبريل (حتى ظهرت)؛ أي: علوت وارتفعت، ومنه قوله: والشمس في حجرتها لم تظهر (لمستوَى)؛ بفتح الواو، المراد به: المصعد، وقيل: هو المكان المستوي، وقال أبو ربيعة: (أستوي: أصعد)، واللام فيه للتعليل؛ أي: علوت لأجل استعلاء مستوى، أو لأجل رؤيته، أو تكون بمعنى: إلى، كما في قوله تعالى: {أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]؛ أي: إليها، ويجوز أن يكون متعلقًا بالمصدر؛ أي: ظهرت ظهور المستوي.
==================
قلت: فإذا كانت (اللام) بمعنى: إلى؛ يكون المعنى: إني أقمت مقامًا بلغت فيه من رفعة المحل إلى حيث اضطلعت على الكوائن، وظهر لي ما يراد من أمر الله عز وجل وتدبيره في خلقه، وهذا هو المنتهى الذي لا يقدر أحد عليه، ويقال: لام القرض، وإلى الغاية يلتقيان في المعنى.
قلت: قال المحقق الزمخشري في قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [لقمان: 29]: فإن قلت: يجري لأجل مسمًّى ويجري إلى أجل مسمَّى: أهو من تعاقب الحرفية؟
قلت: كلا، ولن يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن، ولكن المعنيين_أعني: الانتهاء والاختصاص_ كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض؛ لأنَّ قولك: يجري إلى أجل مسمًّى؛ معناه: يبلغه وينتهي إليه، وقولك: يجري لأجل مسمًّى؛ يريد يجري لإدراك أجل مسمًّى، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(أسمع فيه صَريف الأقلام)؛ بفتح الصاد المهملة، وهو تصويتها حال الكتابة، والمراد به: صوت ما يكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله من ذلك أن يكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره في خلقه سبحانه، لا يعلم الغيب إلا هو الغني عن الاستذكار بتدوين الكتب والاستثبات بالصحف، وأحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، قاله إمام الشَّارحين.
فإن قلت: ما الحكمة في الإسراء؟
==================
قلت: أجيب: بأنه إنَّما كان للمفاجأة، ولهذا كان عن غير مواعدة، وهذا أوقع وأعظم، وكان التكلم مع موسى عن مواعدة وموافاة، فأين ذاك من هذا، وشتان ما بين المقامين، وبين من كلم على الطور، وبين من دعي إلى أعالي البيت المعمور، وبين من سخرت له الريح مسيرة شهر، وبين من ارتقى من الفرش إلى العرش في ساعة زمانية؟!
فإن قلت: فما الحكمة في كون الإسراء كان ليلًا بالنص؟
قلت: أجيب بأوجه:
الأول: أنه وقت الخلوة والاختصاص، ومجالسة الملوك، وهو أشرف من مجالستهم نهارًا، وهو وقت مناجاة الأحبة.
الثاني: أنَّ الله تعالى أكرم جماعة من أنبيائه بأنواع الكرامات، فقال تعالى في حق إبراهيم: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]، وفي قصة لوط عليه السَّلام: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} [هود: 81]، وفي قصة يعقوب عليه السَّلام: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]، وكان آخر دعائه وقت السحر من ليلة الجمعة، وقرب موسى عليه السَّلام نجيًّا ليلًا، وذلك قوله: {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [8]
==================
وقال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، وقال له لما أمره بخروجه من مصر ببني إسرائيل: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} [الدخان: 23]، وأكرم نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا ليلًا بأمور؛ منها: انشقاق القمر، وإيمان الجن به، ورأى الصحابة آثار نيرانهم كما ثبت في «صحيح مسلم»، وخرج إلى الغار ليلًا.
الثالث: أنَّ الله تعالى قدم ذكر الليل على النهار في غير ما آية، فقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12]، وقوله: {وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40]، وليلة النحر تغني عن الوقوف نهارًا.
الرابع: أنَّ الليل أصل، ولهذا كان أول الشهور وسواده يجمع ضوء البصر، ويحد كليل النظر، ويسلتذ فيه بالسمر، ويجتلى فيه وجه القمر.
الخامس: أنه لا ليل إلا ومعه نهار، وقد يكون نهار بلا ليل، وهو يوم القيامة الذي مقداره خمسين ألف سنة.
السادس: أنَّ الليل محل إجابة الدعاء والغفران والعطاء.
فإن قلت: ورد في الحديث: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة، ويوم الجمعة».
قلت: قالوا ذاك بالنسبة إلى الأيام.
==================
قلت: ليلة القدر خير من ألف شهر، وقد دخل في هذه الليلة أربعة آلاف جمعة بالحساب الجلي؛ فتأمل هذا الفضل الخفي.
السابع: أن أكثر أسفاره عليه السَّلام كان ليلًا، وقال: «عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل».
الثامن: لينفي عنه ما ادعته النصارى في عيسى عليه السَّلام لما رفع نهارًا من البنوة تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
التاسع: لأنَّ الليل وقت الاجتهاد للعبادة، وكان عليه السَّلام يقوم حتى تورمت قدماه، وكان قيام الليل في حقه واجبًا، وقال في حقه: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ*قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2]، فلما كانت عبادته ليلًا أكثر؛ أكد بالإسراء فيه، وأمره بقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79].
العاشر: ليكون أجر المصدق به أكثر؛ ليدخل فيمن آمن بالغيب دون من عاينه نهارًا، كذا قرره إمام الشَّارحين أيضًا رضي الله عنه.
قلت: وفي هذا دليل على أنَّ الليل أفضل من النهار؛ فليحفظ.
(قال ابن حزم): المذكور عن شيخيه (و) قال (أنس بن مالك)؛ أي: عن أبي ذر الغفاري، كذا جزم به صاحب «الأطراف»، والظاهر: أنه من جملة مقول ابن شهاب، ويحتمل أن يكون تعليقًا من البخاري، وليس بين أنس وبين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر أبي ذر، ولا بين ابن حزم ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر ابن عباس وأبي حبة، فهو إما من قبيل المرسل، وإما أنه ترك الواسطة اعتمادًا على ما تقدم آنفًا، مع أنَّ الظاهر من حال الصحابي أنه إذا قال: (قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يكون بدون الواسطة، فلعل أنسًا رضي الله عنه سمع هذا البعض من الحديث من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والباقي سمعه من أبي ذر، كذا قرره في «عمدة القاري».
(قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم:
%ص 436%
ففرض الله) زاد الأصيلي: (عزَّ وجلَّ) (على أمتي خمسين صلاة) وعند مسلم من رواية أنس: (ففرض الله علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة)، ونحوه من رواية مالك بن صعصعة عند المؤلف، فيحتمل أن يقال: في كل من رواية الباب، والرواية الأخرى اختصارًا، ويقال: ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على أمته وبالعكس إلا ما يستثنى من خصائصه، كذا في «عمدة القاري»، (فرجعت بذلك)؛ أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: فرجعت من المكان الذي عرجت منه مصاحبًا للصلوات المفروضات عليَّ وعلى أمتي (حتى مررت على موسى): هو ابن عمران عليه السَّلام صاحب الخضر عليه السَّلام، (فقال: ما فرض الله لك على أمتك)؛ يعني: ما فرض الله على أمتك بمصاحبتك من الصلوات؟ أو ما فرض الله لأجلك على أمتك من الصلوات؟ (قلت)؛ أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: قلت لموسى: (فرض)؛ أي: الله علي وعلى أمتي (خمسين صلاة) في كل يوم وليلة، (قال موسى: فارجع إلى ربك)؛ أي: إلى الموضع الذي ناجيت فيه ربك أولًا، (فإن أمتك لا تطيق) وقوله: (ذلك)؛ أي: إقامة خمسين صلاة في كل يوم وليلة ثابت في رواية، ساقط في أخرى.
فإن قلت: ما وجه اعتناء موسى عليه السَّلام بهذه الأمة من بين سائر الأنبياء عليهم السلام الذين رآهم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الإسراء؟
قلت: أجيب: بأنه قد ورد عن موسى أنه قال: يارب؛ اجعلني من أمة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لما رأى من كرامتهم على ربهم، فكان اعتناؤه بأمرهم وإشفاقه عليهم كما يعتني بالقوم من هو منهم، وقال الداودي: (إنما كان ذلك من موسى عليه السَّلام؛ لأنَّه أول من سبق إليه حين فرضت الصلاة فجعل الله في قلب موسى من ذلك؛ ليتم ما سبق من علمه عز وجل)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ويحتمل أنه عليه السَّلام لما عالج بني إسرائيل، وحصل له منهم ما وقع، وعلم أنَّ الفرائض خمسون كثيرة لا يستطاع أداؤها في كل يوم وليلة، وعلم أن أمة نبينا عليه السَّلام أضعف الأمم من حيث إنه عليه السَّلام قال: «بعثت بالدين الحنيفية السمحة»، وأنَّهم خير أمة من حيث كثرة الثواب، فخاف ألَّا تقبل الأمة الخبر المرقوم، ولا يستطيعون لفعله، وأنه عليه السَّلام قام مقامًا يغبطه فيه الأولون والآخرون، فخاف أن يكون مقامه عبثًا، فأخبره بعدم الإطاقة حتى يكون مقامه معمولًا بمقتضاه مستوجبًا للفوز في الآخرة، فلهذا قال نبينا عليه السَّلام: (فراجعت)؛ أي: ربي في تخفيفها، وفي رواية: (فراجعني)، والمعنى واحد، والرواية الأولى للأربعة، وعزاها إمام الشَّارحين للكشميهني، والثانية لغيره، (فوضع)؛ أي: حط ربي عني، وعن أمتي (شطرها) وفي رواية مالك بن صعصعة: (فوضع عني عشرًا)، ومثله لشريك، وفي رواية ثابت: (فحط عني خمسًا)، والشَّطْر؛ بفتح الشين المعجمة، وسكون الطاء المهملة، قال الكرماني: (هو النصف).
قلت: وهو بعيد لم يرد في كلام العرب، وإنما الذي ورد في كلام العرب: أنَّ الشطر: هو البعض، وقد جاء بمعنى: الجهة أيضًا، ورواية مالك وثابت المذكورتان تدلان على أنَّ المراد بالشطر: هو البعض؛ فليحفظ.
وزاد ثابت في روايته: أن التخفيف كان خمسًا خمسًا، ولا يخفى أن هذه زيادة من ثقة وهي مقبولة معتمدة، فينبغي حمل ما في الروايات عليها، كما سيأتي.
(فرجعت إلى موسى) عليه السَّلام؛ أي: المكان الذي فيه موسى (فقلت): وفي رواية: (قلت)؛ يعني: لموسى (وضع) أي: حط عني، وعن أمتي ربي (شطرها) أيضًا، (فقال): وفي رواية: (قال)؛ أي: موسى (راجع ربك)، وفي رواية: (ارجع إلى ربك)؛ يعني: فاسأله التخفيف، (فإن أمتك لا تطيق)؛ أي: لا تستطيع العمل بذلك، (فراجعت) ولابن عساكر: (فرجعت)؛ أي: إلى ربي، (فوضع) أي: حط عني، وعن أمتي (شطرها) أيضًا، قال الكرماني: (الشطر: هو النصف، ففي المراجعة الأولى وضع خمسًا [9] وعشرين، وفي الثانية ثلاثة عشر؛ يعني: بتكميل المنكسر؛ إذ لا معنى لوضع بعض صلاة، وفي الثالثة سبعًا [10]).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا كلام لا يتجه، وهو يخالف ظاهر عبارة حديث الباب؛ لأنَّ المراجعة المذكورة فيه ثلاث مرات، ولم يجعل الوضع إلا في المرتين الأوليين، وفي المرة الثالثة قال: «هن خمس وهن خمسون»، فلم يحصل الوضع ههنا، ويلزم من كلامه أن تكون المراجعة أربع مرات؛ في الأولى الشطر، وفي الثانية ثلاثة عشر، وفي الثالثة سبعة، وفي الرابعة قال: «هن خمس»، وليس الأمر كذلك).
وزعم ابن المنير أن ذكر الشطر أعم من كونه وضع دفعة واحدة، وزعم ابن حجر قلت: وكذا العشر، فكأنه وضع العشر في دفعتين، والشطر في خمس دفعات، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا يكون سبع دفعات، ففي المراجعة الأولى دفعتان، وهما عشرون كل دفعة عشرة، وفي الثانية يكون خمس دفعات كل دفعة خمس، فيصير خمسة وعشرين، ولكن هل كل دفعة في مراجعة، فيصير سبع مراجعات؟ أو دفعتان في المراجعة الأولى، وخمس دفعات في الثانية؟ ولكل منهما وجه بالاحتمال، ولكن ظواهر الروايات لا تساعد شيئًا من ذلك إلا بالتأويل، وهو أن يكون المراد من الشطر: البعض، وقد جاء ذلك في كلام العرب، وجاء أيضًا بمعنى: الجهة؛ كما في قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]؛ أي: جهته، وإذا كان كذلك؛ يكون المراد من الشطر في المراجعة الأولى: العشر مرتين، وفي الثانية: الخمس خمس مرات، فتكون الجملة خمسة وأربعين.
فإن قلت: إذا كان الفرض أولًا هو الخمسون؛ كيف جاز
%ص 437%
==================
[9] في الأصل: (خمس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (سبعة)، ولعل المثبت هو الصواب.
وقوع هذا التردد والمراجعة من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وبين موسى كليم الله عليه السَّلام؟
قلت: كانا يعرفان أنَّ الأولى غير واجب قطعًا، فلو كان واجبًا قطعًا؛ ما كان يقبل التخفيف، ولا كان النبيان العظيمان يفعلان ذلك) انتهى كلامه.
(فرجعت إليه)؛ أي: إلى موسى عليه السَّلام، وفي الكلام حذف؛ تقديره: فقلت لموسى: وضع ربي شطرها عني وعن أمتي، (فقال)؛ أي: موسى: (ارجع إلى ربك)؛ أي: إلى الموضع الذي ناجيته فيه، (فإن أمتك لا تطيق ذلك)، فاسأله التخفيف، (فراجعته)؛ أي: ربي سبحانه وتعالى، (فقال) الله عز وجل: (هن) وفي رواية: (هي) (خمس)؛ يعني: خمس صلوات مفروضات في العمل من جهة العدد في الفعل، والضمير فيه وفي تاليه مبهم يفسره الخبر؛ كقوله:
هي النفس ما حملتها تتحمل ... .........
(وهن) وفي رواية أبي ذر كالأولى: (هي) (خمسون)؛ يعني: باعتبار الثواب؛ لأنَّ كل حسنة بعشرة أمثالها، كما في النص القرآني، وكان الفرض في الأول خمسين، ثم إنَّ الله تعالى رحم عباده وجعله خمسًا [11]؛ تخفيفًا لنا، ورحمة علينا، ثم هذا هل هو نسخ أم لا؟ فاستدل قوم بالنقص على أنه يجوز نسخ العبادة قبل العمل بها، وأنكر النحاس هذا القول من وجهين:
أحدهما: البناء على أصله، ومذهبه: أن العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل بها؛ لأنَّ ذلك عنده من البداء، والبداء على الله محال.
الثاني: أن العبادة وإن جاز نسخها قبل العمل بها عند من يراه؛ فليس يجوز عند أحد نسخها قبل هبوطها إلى الأرض ووصولها إلى المخاطبين، قال: وإنما ادعى النسخ فيها الكاشاني؛ ليصح بذلك مذهبه في أن البيان لا يتأخر، قال النحاس: (وهذا إنَّما يسمى شفاعة شفعها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لأمته، ومراجعته التي راجعها ربَّه؛ ليخفف عن أمته، ولا يسمى نسخًا) انتهى.
واعترضه السهيلي فقال: وقول النحاس: (وذلك بداء): ليس بصحيح؛ لأنَّ حقيقة البداء أن يبدو للآمر رأي يتبين الصواب فيه بعد إن لم يكن تبينه، وهذا محال في حق الله عز وجل، والذي يظهر أنه نسخ ما وجب على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من أدائها، ورفع عنه استمرار العزم واعتقاد الوجوب، وهذا نسخ على الحقيقة نسخ عنه ما وجب عليه من التبليغ، فقد كان في كل مرة عازمًا على تبليغ ما أمر به، ومراجعته وشفاعته لا تنفي النسخ؛ لأنَّ النسخ قد يكون عن سبب معلوم، فشفاعته عليه السَّلام كانت سببًا للنسخ لا مبطلة لحقيقته، ولكن المنسوخ ما ذكرناه من حكم التبليغ الواجب عليه قبل النسخ وحكم الصلوات في خاصته، وأما أمته؛ فلم ينسخ عنهم حكم؛ إذ لا يتصور نسخ الحكم قبل وصوله إلى المأمور، والوجه الثاني: أن يكون هذا خبرًا لا تعبدًا، فإذا كان خبرًا؛ لا يدخله النسخ، ومعنى الخبر: أنه عليه السَّلام أخبره ربه أن على أمته خمسين صلاة؛ ومعناه: أنها في اللوح المحفوظ خمسون، فتأولها عليه السَّلام على أنها خمسون بالفعل، فبينها له ربه عز وجل عند مراجعته أنها في الثواب لا في العمل) انتهى ذكره إمام الشَّارحين.
ثم قال: (فإن قلت: ما معنى نقص الصلاة عشرًا بعد عشر؟
قلت: أجيب: بأنه ليس كل الخلق يحضر قلبه في الصلاة من أولها إلى آخرها، وقد جاء أنه يكتب له ما حضر قلبه منها، وأنه يصلي فيكتب له نصفها ربعها حتى انتهى إلى عشرها، ووقف، فهي خمس في حق من يكتب له عشرها، وعشر في حق من يكتب له أكثر من ذلك، وخمسون في حق من كملت صلاته بما يلزم من تمام خشوعها، وكمال سجودها وركوعها) انتهى.
ثم قال رحمه الله تعالى: (واستدل الشافعي به على عدم وجوب صلاة الوتر حيث عين الخمس.
قلنا: نحن إنَّما نقول: لم يجب الوتر في ذلك، وإنما كان وجوبه بعد ذلك بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن الله زادكم صلاة؛ ألا وهي الوتر ... »؛ الحديث، فلذلك انحطت درجته عن الفرض؛ لأنَّ ثبوت الفرض الخمس بدليل قطعي) انتهى.
وأما ثبوت الواجب؛ فبدليل ظني لكن قد كثرت الأحاديث الصحاح في صلاة الوتر؛ منها: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الوتر حق، فمن لم يوتر؛ فليس مني» قالها ثلاثًا، ومواظبة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كل ذلك يدل على الوجوب، ويثبت به الواجب، بل هذه الأحاديث تفيد الفرضية، وهو رواية عن إمامنا الأعظم، والصحيح عنه أنه واجب، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمد: إنه سنة، ووفق المتأخرون: بأنه فرضٌ عملًا، واجبٌ اعتقادًا، سنةٌ ثبوتًا، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب.
قال الله تعالى: (لا يبدل القول لدي)؛ يعني: لا يبدل الإخبارات _مثل: أن ثواب الخمس خمسون_ لا التكليفات، أو لا يبدل القضاء المبرم لا القضاء المعلق الذي يمحو الله ما يشاء منه ويثبت منه، أو معناه: لا يبدل القول بعد ذلك، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(فرجعت إلى موسى) عليه السَّلام، فأخبرته بما وقع، والظاهر: أنه لم يخبره بقوله تعالى: (لا يبدل القول لدي)، يدل عليه قوله: (فقال)؛ أي: موسى له (راجع ربك) وللأصيلي: (ارجع إلى ربك)؛ لأنَّه لو أخبره بما قال؛ لما قال له: راجع ربك، واسأله التخفيف، ويحتمل أنه أخبره، لكن لما علم أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مكرم على ربه معظم؛ ظن أن يوضع عنه منها أيضًا؛ فتأمل.
(فقلت): ولأبي ذر: (قلت)؛ أي: لموسى: إني (استحييت) وللأصيلي: (قد استحييت) (من ربي) ووجه استحيائه من ربه أنه لو سأل الرفع بعد الخمس؛ لكان كأنه قد سأل رفع الخمس بعينها، فلذلك استحى عن أن يراجع ربه بعد ذلك، ولا سيما سمع من ربه: (لا يبدل القول لدي) بعد قوله: (هن خمس، وهن خمسون).
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون معنى قوله تعالى: (لا يبدل القول لدي): لا ينقص عن الخمس، ولا يبدل إلى أقل من ذلك؟
قلت: أجيب: بأنه لا يناسب لفظ قوله عليه السَّلام: «استحييت من ربي»، كذا في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أن سبب الاستحياء أن العشرة آخر جمع القلة، وأول جمع الكثرة، فخشي أن يدخل في الإلحاح في السؤال، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا ليس بجواب في رواية هذا الباب، وأما في رواية مالك بن صعصعة وشريك: «فوضع عني عشرًا»؛ ففيه إلحاح؛ لأنَّ السؤال قد تكرر، وكيف
%ص 438%
لا، والإلحاح في الطلب من الله تعالى مطلوب؟) انتهى.
قلت: يدل عليه قوله عليه السَّلام: «إن الله يحب الملحِّين في الدعاء ... »؛ الحديث، وقد اختلط على ابن حجر رواية الباب، ورواية مالك، فخبط، وقال ما قال؛ فافهم.
(ثم انطلق بي)؛ بفتح الطاء المهملة واللام، وسقط لفظة (بي) في رواية، والمراد بالفاعل الغائب المستتر في (انطلق): هو جبريل عليه السَّلام (حتى انتهى بي)؛ أي: جبريل (إلى السدرة المنتهى) كذا للأربعة، وفي رواية: (إلى سدرة المنتهى)، والسِدْر؛ بكسر السين المهملة، وسكون الدال المهملة: هو شجر النبق، واحدته سدرة، وجمعها سدر وسدور، الأخيرة نادرة، وقال ابن زياد: (السدر: من العضاه، وهو لونان، فمنه عنبري، ضال خف، فأما العنبري؛ فما لا شوك فيه إلا ما لا يضير، وأما الضال خف؛ فهو ذو شوك، وللسدر ورقة عريضة مدورة، وربما كانت السدرة محلالًا، قال: وورق الضال خف صغار، وهو أجود نبق يعلم بأرض العرب نبق بهجر في بقعة واحدة، يحمى للسلطان وهو أشد نبق يعلم حلاوة وأطيبه رائحة، يفوح فم آكله كما يفوح العطر، وفي «نوادر الهجري»: (السدر: يطبخ، ويصبغ به)، وتجمع السدرة على سدْرات؛ بإسكان الدال المهملة، ويقال: بفتحها، ويقال: بكسرها مع كسر السين فيها، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والمراد بها شجرة الصنوبر.
قال إمام الشَّارحين: (وهي فوق السماء السابعة)، وقال الخليل: (هي في السماء السابعة، قد أظلت السموات والجنة)، وفي رواية مسلم: (أنها في السماء السادسة)، والأول أكثر، ويحمل على أن أصلها في السادسة، ومعظمها في السابعة، وزعم عياض أن أصلها في الأرض؛ لخروج النيل والفرات من أصلها، انتهى.
قلت: وليس هذا بلازم، بل معناه: أن الأنهار تخرج من أصلها، ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض، وتسير فيها، وورد: (أن من أصلها يخرج أربعة أنهار؛ نهران باطنان، ونهران ظاهران، فالباطنان: السلسبيل والكوثر، والظاهران: النيل والفرات)، وعن ابن عباس: (أنها عن يمين العرش)، وإنما سميت بـ (المنتهى)؛ لأنَّها أسفل العرش، لا يجاوزها ملك ولا نبي؛ يعني: بل ينتهي إليها، وفي الأثر: إليها ينتهي ما يعرج من الأرض، وما ينزل من السماء، فيفيض منها، وقيل: ينتهي إليها علم كل ملك مقرب ونبي مرسل، وقال كعب: (وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله)، وقيل: ينتهي إليها أرواح الشهداء، وقيل: إن أرواح المؤمنين تنتهي بها إليها، فيصلي عليها هناك الملائكة المقربون، انتهى ما قاله إمام الشَّارحين.
(وغشيها)؛ أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «وغشيها»؛ يعني: سدرة المنتهى (ألوان، لا أدري ما هي) واختلف فيما يغشاها؛ فقيل: يغشاها الملائكة حتى تغطى السدرة، وقيل: يغشاها فراش من ذهب، أو جراد من ذهب، أو هو الملائكة الذين يعبدون الله عندها، وقيل: بل يغشاها أنوار الله تعالى؛ لأنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما وصل إليها؛ تجلى ربه لها كما تجلى للجبل، فظهرت الأنوار الإلهية عليها، لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت، فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة، وخر موسى صعقًا، ولم يتزلزل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وروي عنه عليه السَّلام أنه قال: رأيت على كل ورقة من أوراقها ملكًا قائمًا يسبح الله تعالى، وفي إبهام ما يغشاها تعظيم وتكثير لما يغشاها من الخلائق، والغشيان يكون بمعنى: التغطية والستر، ويكون بمعنى: الإتيان أيضًا، قيل: وهو المناسب ههنا؛ فتأمل.
فإن قلت: العالم العلوي ليس فيه شيء مما هو في هذا العالم، فلا يكون فيه شجرة النبق، وهي شجرة الصنوبر، فما وجه قوله: (إلى سدرة المنتهى)؟
قلت: أجيب: بأن شجرة النبق لما كان لها ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة زكية؛ شبهت بها شجرة المنتهى، فأطلق عليها اسم السدرة على سبيل الاستعارة؛ فليحفظ.
وقال مقاتل: (السدرة: هي شجرة طوبى، ولو أن رجلًا ركب هجينه وطاف على ساقها حتى أدركه الهرم؛ لما وصل إلى المكان الذي ركب منه، تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل، وجميع ألوان الثمر)، وقيل: هي شجرة غير طوبى ثابتة في يمين العرش فوق السماء السابعة، تخرج أنهار الجنة من أصلها، كما قدمناه، وإضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل أن تكون من قبيل إضافة الشيء إلى مكانه؛ كقولك: شجرة بلدة كذا، ومكان كذا، فالمنتهى حينئذٍ موضع لا يتعداه ملك أو نبي، كما ذكرناه؛ فتأمل، وجمهور المفسرين على أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما رجع من عند ربه عز وجل ليلة الإسراء؛ رأى جبريل على صورته عند سدرة المنتهى، وقال عليه السَّلام: «رأيته عند سدرة المنتهى، وعليه ست مئة جناح يتناثر منها الدر والياقوت»، وهي مقام جبريل عليه السَّلام، أمَّ فيها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ملائكة السماءكلها؛ فكان إمام الأنبياء في بيت المقدس، وإمام الملائكة عند سدرة المنتهى، فظهر بذلك فضله على أهل السماء والأرض، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من حدث أن محمدًا رأى ربه؛ فقد كذب، ثم قرأت: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51])، وقالت: (إن المرئي في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]: هو صورة جبريل)؛ حيث قالت: (ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين)، ووافقها ابن مسعود رضي الله عنه، وقال كعب الأحبار: (إن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رأى ربه مرة أخرى، فإن الله كلم موسى مرتين، وأدنى محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم مرتين)، وتبعه جماعة كثيرة من المفسرين، وقالوا: إن المرئي هو الله تعالى، وإنه عليه السَّلام رأى ربه.
واختلفوا في أنه عليه السَّلام هل رأى ربه بقلبه أو بعين رأسه؟
فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده، وهو قول عبد الله بن عباس، فقال: (رآه بفؤاده مرتين)، ويدل عليه أنه عليه السَّلام قال: «رأيته بفؤادي، ولم أره
%ص 439%
بعيني»، وقال أنس، والحسن، وعكرمة: رأى محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ربه بعين رأسه، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: (إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بالرؤية).
واعلم أن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة؛ لأنَّ دليل الجواز غير مخصوص برؤيته في الآخرة، ولأن مذهب أهل السنة: أن الرؤية بالإراءة لا بقدرة العبد، فإذا حصل العلم بالشيء من طريق البصر؛ كان رؤية بالإراءة، وإن حصل من طريق القلب؛ كان معرفة، فالله تعالى قادر على أن يحصل مدرك العلوم في البصر، كما قدر على أن يحصل مدرك العلوم في القلب، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة، والاختلاف في الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز، والله أعلم.
(ثم أُدخلت الجنة)؛ بضم الهمزة؛ أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: ثم أدخلني جبريل الجنة، وهي جنة المأوى، وسميت بذلك؛ لأنَّه يأوي إليها المتقون، أو أرواح الشهداء، وقال إمام الشَّارحين: (وقوله عليه السَّلام: «ثم أدخلت الجنة» يدل على أن سدرة [12] المنتهى ليست في الجنة)، وقال ابن دحية: كلمة (ثم) في هذا الحديث في مواضع ليست للترتيب، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]، وإنما هي مثل (الواو) للجمع والاشتراك، فهي بذلك خارجة عن أصلها، انتهى.
(فإذا فيها)؛ أي: في الجنة، وكلمة (إذا) هنا والتي في قوله: (فإذا ترابها) للمفاجأة (حبائل اللؤلؤ)؛ بالحاء المهملة، ثم الموحدة، وبعد الألف مثناة تحتية ساكنة، ثم لام، كذا وقع لجميع رواة البخاري، وذكر جماعة منهم: أنه تصحيف، وإنما هو (جنابذ)؛ بالجيم والنون، وبعد الألف موحدة، ثم ذال معجمة، كما وقع عند المصنف في (أحاديث الأنبياء) من رواية ابن المبارك وغيره عن يونس، وكذا عند غيره من الأئمة، وقال ابن الأثير: (إن صحت رواية «حبائل»؛ فيكون أراد به مواضع مرتفعة؛ كحبال الرمل، كأنه جمع حبالة، وحبالة جمع حبل على غير قياس)، وفي رواية الأصيلي عن الزهري: (دخلت الجنة، فرأيت فيها جنابذ من اللؤلؤ)، وقال ابن قرقول: كذا لجميعهم: (حبائل)، ومن ذهب إلى صحة الرواية؛ قال: إن الحبائل: القلائد والعقود، أو يكون من حبال الرمل؛ يعني: فيها اللؤلؤ؛ كحبال الرمل، وهو جمع حبل؛ وهو الرمل المستطيل، أو من الحبلة: وهو ضرب من الحلي معروف، وقال صاحب «التلويح»: (وهذا كله تخيل ضعيف، بل هو بلا شك تصحيف من الكاتب)، والحبائل إنَّما تكون جمع: حبالة أو حبيلة، والجنابذ جمع: الجُنبُذ؛ بضم الجيم، وسكون النون، وبالموحدة المضمومة، وبالذال المعجمة: وهو ما ارتفع من الشيء واستدار؛ كالقبة، والعامة تقول: بفتح الموحدة، والأظهر أنه فارسي معرب.
قلت: هو في لسان العجم؛ كُنْبَذ؛ بضم الكاف: الصماء، وسكون النون، وفتح الموحدة: وهي القبة، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(وإذا ترابها المسك)؛ أي: تراب الجنة رائحته كرائحة المسك، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «رأيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد؛ أقرئ أمتك السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وغراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، وفي الحديث: أنه عليه السَّلام قال: «إن ريح الجنة يوجد من مسيرة خمس مئة عام، ولا يجد ريحها عاق»، قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ}: فإنَّهم أخف في الخدمة {مُّخَلَّدُونَ}: دائمون على ما هم عليه من الشباب والفضاضة في الحسن، فإنَّهم لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحد على مر الأزمنة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} [الإنسان: 19]: من صفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم، وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض، فإن المتفرق أحسن من المنظوم؛ ليظهر لمعانه وبريقه، عليهم ثياب الحرير الخضر ما رق منها وما غلظ، وفي الحديث: «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه»، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة؛ مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من أحدهما، فترى عليهم نضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تشعث شعورهم أبدًا، ثم يشربون من الآخر، فيخرج ما في بطونهم من الأذى؛ كالغل، والحسد، والقذر، والغش، ثم تستقبلهم خزنة الجنة، فيقولون لهم: سلام عليكم طبتم، فادخلوها خالدين، اللهم؛ اجعلنا منهم.
ويستنبط من الحديث أمور:
أحدها: أن جبريل عليه السَّلام هو الذي كان ينزل على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من عند الله وبأمره.
الثاني: أن فيه الاستئذان وبيان الأدب فيما إذا استأذن أحد بدق الباب ونحوه، فإذا قيل له: من أنت؟ يقول: زيد مثلًا، ولا تقول: أنا، إذ لا فائدة فيه؛ لبقاء الإبهام، كذا قالوا، قال إمام الشَّارحين: قلت: لكن لا يقتصر على قوله: زيد مثلًا؛ لأنَّ المسمى بزيد كثير، فيشتبه عليه، بل يذكر الشيء الذي هو مشهور به بين الناس.
الثالث: أن رسول الرجل يقوم مقام إذنه؛ لأنَّ الخازن لم يتوقف عن الفتح له على الوحي إليه بذلك، بل عمل بلازم الإرسال إليه.
الرابع: علم منه أن للسماء أبوابًا حقيقة، وحفظة موكلين بها.
الخامس: أنه علم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من نسل إبراهيم؛ حيث قال: (والابن الصالح) بخلاف غيره من الأنبياء المذكورين فيه، فإنَّهم قالوا: (الأخ الصالح).
السادس: فيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب وغيره من أسباب الفتن.
السابع: أن فيه شفقة الوالد على ولده، وسروره بحسن حاله، وسوءه بسوء حاله.
الثامن: فيه أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وقد مضى الكلام فيه.
التاسع: فيه أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن الجنة في السماء.
العاشر: فيه استدل بعضهم على جواز تحلية المصحف وغيره بالذهب، ورده إمام الشَّارحين: بأنَّ هذا الاستدلال بعيد؛ لأنَّ ذلك إنَّما كان فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم كحكمنا، ويحتاج أيضًا إلى ثبوت كونهم مكلفين بما كلفنا به، ومع هذا كان هذا على أصل الإباحة، وتحريم النقدين كان بالمدينة.
الحادي عشر: فيه وجوب الصلوات الخمس، والباب معقود لهذا، وقال ابن بطال:
%ص 440%
(أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء)، وقال ابن إسحاق: (ثم إن جبريل عليه السَّلام أتى الوادي، فهمز بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت فيه عين ماء مزن، فتوضأ جبريل عليه السَّلام، ومحمد عليه السَّلام ينظر إليه، فرجع النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فأخذ بيد خديجة رضي الله عنها، ثم أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل عليه السَّلام، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل عليه السَّلام).
وقال نافع بن جبير: (أصبح النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الإسراء، فنزل جبريل عليه السَّلام حين زاغت الشمس، فصلى به).
وقال جماعة: لم يكن صلاة مفروضة قبلها إلا ما كان أمر به من قيام الليل من غير تحديد ركعات، ووقت حضور، وكان يقوم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه.
الثاني عشر: فيه أن أرواح المؤمنين يصعد بها إلى السماء.
الثالث عشر: فيه أن أعمال بني آدم الصالحة تسر آدم، وأعمالهم السيئة تسوءه.
الرابع عشر: فيه أنه يجب أن يرحب بكل أحد من الناس في حسن لقائه بإكرام النازل أن يلاقيه بأحسن صفاته وأعمها بجميل الثناء عليه.
الخامس عشر: فيه أن أوامر الله تعالى تكتب بأقلام شتى، وأن العلم ينبغي أن يكتب بأقلام كثيرة، تلك سنة الله في سماواته، فكيف بأرضه؟
السادس عشر: فيه أن ما قضاه وأحكمه [13] من آثار معلومة، وآجال مكتوبة، وشبه ذلك مما لا يبدل لديه، وأما ما نسخه رفقًا بعباده؛ فهو الذي قال فيه: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ} [الرعد: 39]، وقال إمام الشَّارحين:
فإن قلت: إنه عليه السَّلام عرج به على دابة يقال لها: البراق، وثبت ذلك بالتواتر، فما الحكمة في ذلك، وكان الله تعالى قادرًا [14] على رفعه في طرفة عين بلا براق؟
قلت: إنَّما كان ذلك للتأنيس بالمعتاد، والقلب إلى ذلك أميل، وعرج به؛ لكرامة الراكب على غيره، ولذلك لم ينزل عنه على ما جاء في حديث حذيفة: (ما زال ظهر البراق حتى رجع)، وإنما لم يذكر في الرجوع؛ للعلم به؛ لقرينة الصعود، وسمي براقًا؛ لسرعته تشبيهًا ببرق السحاب، وكانت بغلته عليه السَّلام بيضاء؛ أي: شهباء، فكذلك كان البراق، وفيه أسئلة:
الأول: كون البراق على شكل البغل دون الخيل مع أن الخيل أفضل وأحسن؟
والجواب: كان الركوب في السلم والأمن لا في الخوف والحرب؛ ولإسراعهِ عادة، ولتحقيق ثباته وصبره؛ فلهذا كان عليه السَّلام يركب بغلته في الحرب في قصة حنين؛ لتحقيق ثباته في مواطن الحرب، وأما ركوب الملائكة الخيل؛ فلأنه المعهود بالخيل في الحروب، وما لطف من البغال واستدار أحسن من الخيل في الوجوه التي ذكرناها.
الثاني: استصحاب البراق لماذا كان؟
والجواب: إنه كان تيهًا وزهوًّا لركوبه عليه السَّلام، وقول جبريل عليه السَّلام: أبمحمد [15] تستصعب تحقيق الحال، وقد ارفضَّ عرقًا من تيه الجمال؟ وقد قيل: إنه ركبه الأنبياء قبله أيضًا، وقيل: إن جبريل ركب معه؛ لبعد عهده بالأنبياء عليهم السلام، وطول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وقيل: إن جبريل قال لمحمد عليهما السلام حين شمس به البراق: لعلك يا محمد مسست الصفراء اليوم _يعني: الذهب_ فأخبره النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه ما مسها إلَّا أنه مر بها، فقال: «تبًّا لمن يعبدك من دون الله»، وما شمس إلَّا لذلك، ذكره السهيلي، وسمعت من بعض أستاذتي الكبار: أنه إنَّما شمس؛ ليعد له النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالركوب عليه أولًا يوم القيامة، فلما وعد له؛ قر) انتهى كلام إمام الشَّارحين رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، آمين.
==========
[1] في الأصل: (ازداد)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (التين)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (ألم تر إلى الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون).
[4] في الأصل: (كحرمته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أنزلت على عليه).
[6] في الأصل: (وفإني)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (رفع)، ولعله تحريف.
[8] في الأصل: (إذ قال لأهله امكثوا إني آنست نارًا).
[9] في الأصل: (خمس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (سبعة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (خمس)، والمثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (السدرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[13] في الأصل: (ما قضا وأحكم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] في الأصل: (قادر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[15] في الأصل: (ألمحمد)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[11] في الأصل: (خمس)، والمثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (السدرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[13] في الأصل: (ما قضا وأحكم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] في الأصل: (قادر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (ازداد)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (التين)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (ألم تر إلى الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون).
[4] في الأصل: (كحرمته)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (أنزلت على عليه).
[6] في الأصل: (وفإني)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (رفع)، ولعله تحريف.
[8] في الأصل: (إذ قال لأهله امكثوا إني آنست نارًا).
[9] في الأصل: (خمس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[10] في الأصل: (سبعة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[11] في الأصل: (خمس)، والمثبت هو الصواب.
[12] في الأصل: (السدرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
[13] في الأصل: (ما قضا وأحكم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[14] في الأصل: (قادر)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/594)
[حديث: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين]
350# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي المنزل الدمشقي الأصل، المتوفى سنة ثمان عشرة ومئتين، وفي يوسف تثليث السين المهملة مع الهمز، وتركه؛ ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن صالح بن كَيسان)؛ بفتح الكاف: هو المدني التابعي، المتوفى وهو ابن مئة سنة ونيف وستين سنة، (عن عُرْوة)؛ بضم العين، وسكون الراء المهملتين (بن الزبير)؛ بضم الزاي، وفتح الموحدة: هو ابن العوام، (عن عائشة أم المؤمنين): هي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وهو من باب التشبيه البليغ، حذفت منه أداة التشبيه للمبالغة، ووجه الشبه: وجوب تعظيمهن وحرمة نكاحهن، قال تعالى: {وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، وهن فيما وراء ذلك كالأجانب، وليس المراد التشبيه في جميع أحكام الأمهات، ألا ترى أن النظر إليهن والخلوة بهن حرام، كما في الأجانب، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، ولا يقال لبناتهنَّ: هن أخوات المؤمنين، ألا ترى أنه عليه السَّلام زوج بناته لعلي وذي النورين رضي الله عنهما، ولا يقال أيضًا لإخوتهنَّ وأخواتهن: أخوال المؤمنين وخالاتهم؛ لأنَّه قد تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر أخت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهنَّ، وهذا معنى ما روى مسروق: أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أمه، فقالت: (لست لكِ بأمٍّ، إنَّما أنا أم رجالكنَّ)، فالمراد في معنى الآية: التشبيه في بعض الأحكام، وهو كونهن محرمات على الرجال؛ كحرمة أمهاتهم؛ يعني: حرمة مؤبدة.
(قالت) أي: عائشة: (فرض الله)؛ أي: قدر الله، والفرض في اللغة: التقدير، هكذا فسره أبو عمر (الصلاة)؛ أي: الرباعية، وذلك لأنَّ الثلاثية وتر صلاة النهار، وأشار إلى ذلك في رواية أحمد من حديث ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان عن عروة ... إلى آخره وفيه: (إلا المغرب، فإنها كانت ثلاثًا)، وذكر الداودي: (أن الصلوات زيدت ركعتان ركعتان، وزيدت في المغرب ركعة).
قلت: وفيه نظر؛ لما في رواية أحمد المذكورة آنفًا، فإنها صريحة في أن المغرب كانت ثلاثًا، ويدل عليه أيضًا ما في «سنن البيهقي» من حديث داود بن أبي هند، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت: (إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة واطمأن؛ زاد ركعتين غير المغرب، فإنها وتر صلاة الغداة)، قالت: (وكان إذا سافر صلى الصلاة الأولى)، كذا في «عمدة القاري».
(حين فرضها) قال ابن إسحاق: ثم إن جبريل أتى الوادي، فهمز بعقبه في ناحيته، فانفجرت
%ص 441%
فيه عين ماء مزن، فتوضأ جبريل والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ينظر، فرجع عليه السَّلام فأخذ بيد خديجة، ثم أتى بها العين فتوضأ، كما توضأ جبريل، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل عليهما السلام (ركعتين ركعتين) بالتكرار؛ ليفيد عموم التثنية لكل صلاة؛ لأنَّ القاعدة في كلام العرب أن تكرر الاسم المراد تقسيم الشيء عليه، ولولاه؛ لكان فيه إيهام أن الفريضة في الحضر والسفر ما كانت إلا فرد ركعتين فقط، وانتصاب قوله: (ركعتين) على الحالية، والتكرار في الحقيقة عبارة عن كلمة واحدة؛ نحو: مثنى، ونظيره قولك: هذا مزٌّ؛ أي: قائم مقام الحلو والحامض (في الحضر والسفر) إلا المغرب، فإنها ثلاث، كما ذكرناه من رواية أحمد والبيهقي، (فأُقِرت صلاة السفر)؛ بضم الهمزة في (أقرت)، وكسر القاف؛ أي: بقيت على حالها ركعتين ركعتين، والضمير المرفوع في (أقر) يعود على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه هو المشرع المقر لها على ذلك، وهو أمر منه عليه السَّلام، والأمر للوجوب، فاقتضى أن يكون القصر في السفر عزيمة؛ يعني: واجبًا، وهو مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، والجمهور، وخالفهم الشافعي، فزعم أنه رخصة، وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا صلى المسافر أربعًا ولم يقعد على رأس الركعتين؛ فسدت صلاته عندنا؛ لاتصال النافلة قبل كمال أركانها، وإن قعد في آخر الركعة الثانية قدر التشهد؛ أجزأته وصحت وصارت الأخرييان له نافلة، لكنه يصير مسيئًا بتأخير السلام، وعنده: هو مخير، إن شاء؛ أتم، وإن شاء؛ اكتفى على القصر.
(وزيد في صلاة الحضر): يعني: زيد فيها حتى تكملت خمسًا، فتكون الزيادة في عدد الصلوات، ويكون قولها: (فرضت الصلاة ركعتين)؛ يعني: قبل الإسراء؛ لأنَّ الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55]، قاله أبو إسحاق الحربي، ويحيى بن سلام، وغيرهما.
قلت: ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه: عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «فإن استطعتم ألَّا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها؛ فافعلوا»، ثم قرأ هذه الآية، كذا في «تفسير» الإمام الفقيه أبي الليث رحمه الله، وهذا الحديث من مراسيل السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأنَّها لم تدرك القصة، ويحتمل أن تكون أخذت ذلك من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، أو من صحابي آخر، وعلى كل حال؛ فهو حجة؛ لأنَّ هذا مما لا مجال للرأي فيه، وهو حجة قوية ومحجة مستقيمة لما ذهب إليه الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: من أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، ويدل عليه ما رواه مسلم في «صحيحه» عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلَّى الله عليه وسلَّم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة).
ورواه الطبراني في «معجمه» بلفظ: (افترض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعًا)، ويدل عليه أيضًا ما رواه النسائي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم)، ورواه أيضًا ابن حبان في «صحيحه»، ولم يقدحه في شيء.
وقول النسائي: (فيه انقطاع؛ لأنَّ ابن أبي ليلى لم يسمعه من عمر بن الخطاب): مردود؛ لأنَّ إمام هذه الصنعة مسلم بن الحجاج القشيري حكم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى من عمر رضي الله عنه، وصرح في بعض طرقه، فقال: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعت عمر بن الخطاب؛ فذكره، ويؤيد ذلك: ما أخرجه أبو يعلى الموصلي في «مسنده» عن الحسين بن واقد، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت: أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ... ؛ فذكره، فهذا يدل على أن القصر في السفر عزيمة؛ أي: واجب، وإليه ذهب علماء أكثر السلف، وفقهاء الأمصار، وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة.
وقال حماد بن أبي سليمان: من صلى في السفر أربعًا؛ يعيد صلاته، وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت، وقال أحمد: السنة ركعتان، وقال الخطابي: الأولى أن يقصر المسافر الصلاة؛ لأنَّهم أجمعوا على جوازها إذا قصر، واختلفوا فيها إذا أتم، والإجماع مقدم على الاختلاف، ويدل لما قاله الجمهور: ما في «البخاري» و «مسلم» عن حفص بن عاصم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صحبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت أبا بكر رضي الله عنه في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عثمان بن عفان رضي الله عنه في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
ولا يخفى أن المواظبة على ذلك تدل على الوجوب، فلهذا قال الجمهور: إن القصر في السفر واجب، وقال الشافعي: القصر في السفر رخصة، وهو رواية عن مالك وأحمد، وتعلق بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}؛ لأنَّ نفي الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر ينبئ عن تمام سابق، وبما أخرجه أبو داود بإسناده عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إقصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، فقد ذهب ذلك اليوم، فقال: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته»، وأخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان؛ يعني: فالمفروض الأربع إلا أنه رخص بأداء ركعتين.
وبما أخرجه الدارقطني عن عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقصر في
%ص 442%
الصلاة، ويتم، ويفطر، ويصوم)، قال الدارقطني: (إسناده صحيح).
قلنا: وهذا كله لا حجة له فيه، وحجته من ذلك مردودة، أمَّا قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ .. }؛ الآية؛ فلا يدل له؛ لأنَّ المراد من القصر المذكور في الآية هو قصر الأوصاف من ترك القيام إلى القعود، أو ترك الركوع والسجود إلى الإيماء؛ لخوف العدو؛ بدليل أنه تعالى علق ذلك بالخوف؛ إذ قصر الأصل غير متعلق بالخوف بالإجماع، بل متعلق بالسفر، وعندنا: قصر الأوصاف مباح لا واجب مع أن رفع الجناح في النص لرفع توهم النقصان في صلاتهم بسبب دوامهم على الإتمام في الحضر، وذلك مظنة توهم النقصان، فرفع ذلك عنهم، وبهذا فسر الآية ابن عباس حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن؛ حيث قال: المراد من القصر التخفيف في كيفيات أداء الركعات وهو أن يكتفى في الصلاة بالإيماء بدل الركوع والسجود، وبه قال طاووس وغيره.
وأمَّا قوله عليه السَّلام: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته»؛ فلا دليل له فيه، بل هو حجة لما قاله إمامنا الإمام الأعظم والجمهور؛ لأنَّه عليه السَّلام أمر بالقبول؛ ومعناه: اعتقدوه واعملوا به، فلا يبقى له خيار الرد شرعًا؛ لأنَّ الأمر منه عليه السَّلام للوجوب، ومعنى قوله عليه السَّلام: «تصدق الله بها عليكم»: حكم عليكم؛ لأنَّ التصدق من الله فيما لا يحتمل التمليك يكون عبارة عن الإسقاط؛ كالعفو من الله تعالى؛ لأنَّ هذه الصدقة واجبة في الذمة، وليس لها حكم المال، فتكون إسقاطًا محضًا، فلا يرتد بالرد؛ كالصدقة بالقصاص، والطلاق، والعتاق يكون إسقاطًا لا يرتد بالرد، فكذا هذا.
وأمَّا حديث الدارقطني عن عائشة؛ فقد رواه البيهقي عن طلحة بن عمرو، ودلهم بن صالح، والمغيرة بن زياد، وثلاثتهم ضعفاء، عن عطاء، عن عائشة كما قاله البيهقي، وقال: والصحيح عن عائشة موقوف، ولا يخفى أنه معارض بما قدمناه عن حديث البخاري، ومسلم، وغيرهما، وهو لا يقاوم ما ذكر في «الصحيحين»، فلا دليل فيه له على أن الروايات عن عائشة متعارضة، والصحيح منها في ذكر في هذا «الجامع الصحيح»، ويجوز أنها كانت تنتقل من بيت بعض الأزواج إلى بيت بعض، فلم تكن مسافرة شرعًا، ولئن صح؛ فمحمول على إتمام الأركان، يدل عليه: أنه عليه السَّلام صلى الظهر بأهل مكة عام حجة الوداع ركعتين، ثم أمر مناديًا ينادي: (يا أهل مكة؛ أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر)، فلو كان فرض المسافر أربعًا؛ لم يحرمهم فضيلة الجماعة معه عليه السَّلام، وقياسه على الصوم فاسد؛ لأنَّ ترك الشيء لا إلى بدل دليل الفعلية، وفيه بدل؛ وهو القضاء بالنص، فلا يلزمنا، ولأن جهة اليسر فيه مترددة غير متعينة في القصر؛ لما عرف في الأصول، فيخير وجهة اليسر متعينة في القصر، فلم يتوجه التخيير؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن معنى (فرضت الصلاة)؛ أي: ليلة الإسراء حين فرضت الصلوات الخمس فرضت ركعتين، ثم زيدت في صلاة الحضر بعد ذلك، فتكون الزيادة في عدد الركعات، وهذا هو المروي عن بعض رواة هذا الحديث عن عائشة، وممن رواه هكذا الحسن والشعبي، وأن الزيادة في الحضر كانت بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقد ذكره البخاري من رواية معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: (فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ففرضت أربعًا)، فإن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين؛ فله ذلك، وإن اختار أن يكون أربعًا؛ فله ذلك.
ويحتمل أن معنى قولها: (فرضت الصلاة): قدرت، ثم تركت صلاة السفر على هيئتها لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار.
قلت: وهذا كله ممنوع، ولا شيء من الحديث يدل عليه، بل معنى قولها: (فرضت الصلاة ركعتين): قبل الإسراء؛ لأنَّ الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس، وصلاة قبل طلوعها، وقد جاء ذلك بالنص؛ حيث قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، فالزيادة إنَّما كانت في عدد الصلوات.
وقوله: (وهو المروي ... ) إلى آخره: قد علمت أن الروايات عن عائشة قد تعارضت، وقولها: (فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر عليه السَّلام، ففرضت أربعًا)؛ معناه: أنه يجوز ترك الركعتين الأخيريين، فلا بد يلزمه، ولا إثم يلحقه، وكان تطوعًا؛ كسائر التطوعات، وهذا معنى قولهم: إن الشفع الثاني لا يقضى، ولا يأثم بتركه.
وقوله: (فإن اختار ... ) إلى آخره: ممنوع، بل يتحتم على المسافر القصر؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال: (صلاة المسافر ركعتان، وصلان الفجر ركعتان، فمن خالف السنة؛ فقد كفر)؛ يريد: كفران النعمة، ولما قدمناه من الأحاديث الدالة على وجوب القصر في السفر؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن الحنفية ألزموا على قاعدتهم فيما إذا تعارض رأي الصحابي روايته؛ فالعبرة بما رأى بأنه ثبت عن عائشة: أنها كانت تتم في السفر، ورده إمام الشَّارحين فقال: قاعدة الحنفية على أصلها، ولا يلزم من إتمام عائشة في السفر النقض على القاعدة؛ لأنَّ عائشة ترى القصر جائزًا، والإتمام جائزًا، فأخذت بأحد الجائزين، وإنما يرد على قاعدتنا ما ذكره أن لو كانت عائشة تمنع الإتمام؛ فافهم.
وكذلك الجواب في إتمام عثمان بن عفان، وقيل: لأنَّ عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم، فكأنَّهما كانا في منازلهما، ورد: بأنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان أولى بذلك منهما، وقيل: لأنَّ عثمان تأهل بمكة، ورد: بأنه عليه السَّلام سافر بأزواجه، وقصر الصلاة، وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه ليلًا يظنون
%ص 443%
أن فرض الصلاة ركعتان ابتداء حضرًا وسفرًا، ورد: بأنَّ هذا المعنى كان موجودًا في زمن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان، وقيل: لأنَّ عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج، ورد: بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجرين فوق ثلاث، وقيل: لأنَّه كان لعثمان أرض بمنًى، ورد: بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة، والجواب الأول هو ما ذكره المحققون في تأويلهما، كذا في «عمدة القاري».
==================
(1/595)
(2) [باب وجوب الصلاة في الثياب وقول الله تعالى {خذوا زينتكم عند .. }]
هذا (باب) في بيان (وجوب الصلاة في الثياب): الجار والمجرور حال، وإنما ذكر (الثياب) بلفظ الجمع؛ لأنَّه على حد قولهم: فلان يركب الخيول، ويلبس البرود، والمراد به: ستر العورة، واتفق العلماء: على أن ستر العورة فرض بالإطلاق، واختلفوا هل هو شرط من شروط الصلاة أم لا؟ فمذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، وعامة الفقهاء، وأهل الحديث: أن ذلك شرط لصحة الصلاة فرضها ونفلها، وبه قال محمد بن إدريس.
واختلف أصحاب مالك: هل ذلك فرض أو سنة؟ فذهب جماعة: إلى أنه من سنن الصلاة، وقال التونسي: هو فرض في نفسه لا من فروضها، وقال ابن عطاء الله: إنه شرط فيها ومن واجباتها مع العلم والقدرة دون النسيان، والمشهور أنه ليس من شروطها، بل من سننها، وهو ظاهر مذهب مالك مستدلًّا بحديث عمرو بن سلمة لما انقلصت بردته، فقالت امرأة: غطوا عنا است قارئكم، وسيأتي بيانه.
فإن قلت: للصلاة شروط غير هذا، فما وجه تخصيصه بالتقدم على غيره؟
قلت: لأنَّه ألزم من غيره، وفي تركه بشاعة عظيمة بخلاف غيره من الشروط، ولأن في تركه سوء أدب مع الله تعالى، فإنه وإن كان يرى ما تحت الثياب إلا أنه يطلب في حقه الستر؛ تأدبًا مع الخالق عز وجل.
(وقول الله عز وجل): بالجر عطفًا على قوله: (وجوب الصلاة)؛ والتقدير: وفي بيان معنى قول الله عز وجل، هذه رواية الأصيلي، وابن عساكر، وفي رواية غيرهما: (وقول الله تعالى)؛ يعني: في سورة الأعراف، قال: يا بني آدم ({خُذُوا زِينَتَكُمْ})؛ يعني: ثيابكم لأجل موارات عوراتكم ({عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}) [الأعراف: 31]؛ أي: لطواف أو صلاة، وأراد بالـ (زينة): ما يواري العورة، وبالـ (مسجد): الصلاة، ففي الأول: إطلاق اسم الحال على المحل، وفي الثاني: إطلاق اسم المحل على الحال؛ لوجود الاتصال الذاتي بين الحال والمحل، وهذا لأنَّ أخذ الزينة نفسها _وهي عرض_ محالٌ، فأريد محلها، وهو الثوب مجازًا، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، فنزلت هذه الآية، لا يقال: نزولها في الطواف، فكيف يثبت الحكم في الصلاة؟ لأنَّا نقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وهذا اللفظ عام؛ لأنَّه قد قال: {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، ولم يقل: عند المسجد الحرام، فيعمل بعمومه، ويقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} من قبيل إطلاق المسبب على السبب؛ لأنَّ الثوب سبب الزينة، ومحل الزينة الشخص، وقيل: المراد بالزينة: ما يتزين به من ثوب وغيره، كما في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، والستر لا يجب لعين المسجد بدليل جواز الطواف عريانًا، فعلم من هذا أن ستره للصلاة لا لأجل الناس، حتى لو صلى وحده ولم يستر عورته؛ لم تجز صلاته وإن لم يكن عنده أحد، كذا في «عمدة القاري»، ويدل لهذا: قوله تعالى في قصة آدم قال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا}: وهو ما يلبس اتقاء عن انكشاف العورة بين يدي الله تعالى، فبين أولًا إنزال ما يواري العورة من اللباس، وثانيًا بإنزال لباس التجمل، ثم فضل اللباس الأول على الثاني بأنه وسيلة إلى إقامة الفرض، والثاني إلى إقامة الأمر المندوب، وهو التزين عند حضور مواضع العبادات تعظيمًا لها، ولا ريب أن ما يكون وسيلة إلى إقامة الفرض خير مما يكون وسيلة إلى إقامة المندوب، فقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وقال الإمام أبو منصور رحمه الله: (يحتمل أن معنى هذه الآية: صلوا في كل مسجد ولا تخصوا بالصلاة حيكم، والزينة نفس الصلاة، فإن العبادة زينة كل عابد)، فالزينة وإن كانت اسمًا لما يتزين به من الثياب الفاخرة إلا أن المراد بالزينة ههنا: الثياب التي تستر العورة، وقد أجمع المفسرون على ذلك استدلالًا بسبب نزول الآية، فإنه قد روي عن ابن عباس: أن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، فكان الرجال يطوفون بالنهار، والنساء بالليل، قال ابن عباس: فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا، وقال قتادة: كانت المرأة تطوف، وتضع يدها على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية، وقال الكلبي: (الزينة: ما وارى العورة عند كل مسجد لطواف أو صلاة)، وقال مجاهد: وارِ [1] عورتك ولو بعباءة، فقد اتفق العلماء على أن المراد منه: ستر العورة، وفي «مسلم» من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة»، وعن المسور بن مخرمة: قال له النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ارجع إلى ثوبك، فخذه ولا تمشوا عراة»، وفي «صحيح ابن خزيمة» عن عائشة ترفعه إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار»، وقال ابن بطال: (أجمع أهل التأويل: على نزولها في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة)، وقال ابن رشد: من حمله على الندب؛ قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء، وغيره من الملابس التي هي زينة، مستدلًّا بما في الحديث: أنه كان رجال يصلون مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عاقدي أزرهم على أعناقهم؛ كهيئة الصبيان، ومن حمله على الوجوب؛ استدل بحديث مسلم عن ابن عباس: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة، فتقول: من يعيرني بطواف، أو تقول:
~اليوم يبدو بعضه أو كله ... .... .. ..
فنزلت: {خُذُوا زِينَتَكُمْ .. }؛ الآية.
وزعم ابن حجر أن البخاري يشير بهذه الآية إلى ما قاله طاووس: إن المراد بالزينة: الثياب، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تخمين وحسبان، وليس عليه برهان).
قلت: وما زعمه ابن حجر باطل؛ لأنَّ مراد البخاري ليس
%ص 444%
كذلك، وإنما مراده الإشارة إلى أن ستر العورة في الصلاة فرض، ولهذا ترجم إليه بـ (باب وجوب الصلاة في الثياب)؛ يعني: مستور العورة، والثياب ليست قيدًا في ذلك، بل يجوز ستر العورة بحشيش أو طين عند فقد الثياب، وكذا يجوز سترها بجلد طاهر ونحوه، وإنما ذكر الثياب باعتبار الأغلب، وليس ما ذكره ابن حجر عن طاووس بصحيح؛ لأنَّ الذي قاله المفسرون عن طاووس: إنه قال: لم يأمرهم بالحرير أو الديباج، ولكن كان أهل الجاهلية يطوف أحدهم بالبيت عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد، فإن طاف وهي عليه؛ يضرب وانتزعت منه، فنزلت هذه الآية، فعلم بهذا أن المراد مما قاله طاووس: هو ستر العورة، وليس المراد: الزينة بمعنى: التجمل؛ حيث نفى ذلك بقوله: لم يأمرهم بالحرير أو الديباج، وما هو إلا للتجمل للنساء؛ فليحفظ.
وقوله: (ومن صلى ملتحفًا في ثوب واحد): ثابت في رواية المستملي وحده، ساقط عند غيره من الرواة، ولهذا لم يتعرض له إمام الشَّارحين في «المنن»، وعلى إثباته يقال: وفي معنى الذي يصلي حال كونه ملتحفًا في ثوب واحد، فإنه جائز؛ حيث كان ساترًا للعورة، فالمقصود سترها سواء كان بثوب واحد أو أكثر؛ فافهم.
(ويُذكَر)؛ بضم المثناة التحتية أوله، وفتح الكاف، تعليق بصيغة التمريض، وهو يدل على ضعفه، ووجهه سيأتي بيانه (عن سَلَمَة)؛ بفتحات (ابن الأكْوع)؛ بسكون الكاف رضي الله عنه (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قال): فيمن صلى بثوب واحد (يَزرُّه)؛ بفتح المثناة التحتية، وضم الراء المشددة، وللأصيلي: (تزره)؛ بمثناة فوقية، ولأبي ذر (يزر)؛ بحذف الضمير؛ يعني: يشده عليه بأن يجمع بين طرفيه؛ لئلا يفرج فترى عورته، وهذا التعليق وصله أبو داود فقال: حدثنا القعنبي: أخبرنا عبد العزيز _يعني: بن محمد_ عن موسى بن إبراهيم، عن سلمة ابن الأكوع قال: قلت: يا رسول الله؛ إني رجل أصيد، أفأصلي بالقميص الواحد؟ قال: «نعم، وأزرره».
(ولو بشوكة): وأخرجه النسائي، والمؤلف في «تاريخه»، وابن حبان، وابن خزيمة، وغيرهم، فقوله: (أفأصلي): الهمزة فيه للاستفهام، فلذلك قال في جوابه: (نعم)؛ أي: تصلي، وقوله: (ولو بشوكة)؛ يعني: ولو لم يكن ذلك إلا بأن يزره بشوكة لأجل أن يستمسك بها عليك؛ فليفعل، والباء الموحدة فيه تتعلق بمحذوف؛ تقديره: ما ذكرنا، وهذه اللفظة فيما ذكره البخاري بالإدغام على صيغة المضارع، وفي رواية أبي داود: بالفك على صيغة الأمر من (زرَّ يزرُّ)، من باب (نصَر ينصُر)، ويجوز في الأمر الحركات الثلاث في الراء، ويجوز الفك أيضًا، فهي أربعة أحوال كما في (مد) الأمر، ويجوز في مضارعه الضم، والفتح، والفك، وقال ابن سيده: (الزر: هو الذي يوضع في القميص، والجمع أزرار وزرور، وأزر القميص: جعل له زرًّا، وأزره: شد عليه أزراره)، وقال ابن الأعرابي: (زر القميص: إذا كان محلولًا؛ فشده، وزر الرجل: شد زره)، وأورد المؤلف هذا؛ لدلالته على وجوب ستر العورة، وإشارة إلى أن المراد بأخذ الزينة في الآية السابقة لبس الثياب لا تزينها وتحسينها، وإنما أمر بالزر؛ ليأمن المصلي من وقوع الثوب عن بدنه، ومن وقوع نظره على عورته من زيقه حالة الركوع، ومن هذا أخذ الإمام محمد بن شجاع من أصحابنا: أن من نظر على عورته من زيقه؛ تفسد صلاته، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وعامة أئمتنا الأعلام: على عدم فساد صلاته بذلك، قال الشرنبلالي في «الإمداد»: (ولا يضر نظرها؛ أي: العورة من جيبه وأسفل زيله؛ لأنَّ ستر العورة على وجه لا يمكن الغير النظر إليها إذا تكلف مما يؤدي إلى الحرج وهو مدفوع بالنص) انتهى.
وقال في «النهر»: (لأنه يحل له مسها والنظر إليها، ولكنه خلاف الأدب، واختار برهان الدين الحلبي: أن تلك الصلاة مكروهة، وإن لم تفسد) انتهى.
وفي «الإمداد»: (ويشترط ستر العورة ولو في ظلمة، والشرط سترها من جوانبه على الصحيح) انتهى.
أمَّا الستر في الخلوة؛ فصحح برهان الدين الحلبي: وجوب الستر فيها، وصحح صاحب «الإمداد»: عدمه، فقد اختلف التصحيح، ووفق بعضهم بينهما: بأنه إذا كان مكان طوله ذراع ونصف، وعرضه كذلك؛ لا يجب الستر، وإن كان أكثر من ذلك؛ فواجب، وفي «شرح النقاية» للقهستاني: (وليس لستر الظلمة اعتبار، ومثله الستر بالزجاج)، كما في «القنية»، ولا يضر تشكل العورة بالتصاق الساتر الضيق بها، كما في شرح «المنية».
والعورة في اللغة: كل ما يستقبح ظهوره، مأخوذة من العور؛ وهو النقص، والعيب، والقبح، ومنه: عور العين، وكلمة عوراء؛ أي: قبيحة، وسميت السوءة عورة؛ لقبح ظهورها، وغض الأبصار عنها، وكل شيء يستره الإنسان أنفة أو حياء؛ فهو عورة، والنساء عورة، كذا ذكره أئمة اللغة، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال أبو عبد الله المؤلف: (وفي): وللأصيلي بحذف الواو (إسناده) أي: إسناد هذا الحديث المذكور (نظر): وجه النظر كما قاله إمام الشَّارحين من جهة موسى بن إبراهيم، وزعم ابن القطان أنه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وهو منكر الحديث، فلعل البخاري أراده، فلذلك قال: (في إسناده نظر)، وذكره معلقًا بصيغة التمريض، لكن أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» عن نصر بن علي، عن عبد العزيز، عن موسى بن إبراهيم قال: سمعت سلمة ابن الأكوع؛ فذكره، وفي رواية: (وليس علي إلا قميص واحد، أو جبة واحدة، فأزره؟ قال: «نعم؛ ولو بشوكة»)، ورواه ابن حبان أيضًا في «صحيحه»: عن إسحاق بن إبراهيم: حدثنا ابن أبي عمر: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن ربيعة، عن سلمة ابن الأكوع قلت: (يا رسول الله؛ إني أكون في الصيد، وليس علي إلا قميص واحد؟ قال: «فازرره؛ ولو بشوكة»)، ورواه الحاكم في «مستدركه»، وقال: (هذا حديث مدني صحيح)، فظهر بهذه الرواية
%ص 445%
أن موسى هذا غير موسى ذاك الذي ظنه ابن القطان، وفيه ضعف أيضًا، ولكنه دون ذاك، وروى الحافظ أبو جعفر الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا ابن قتيبة قال: حدثنا الدراوردي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة ابن الأكوع، وهذا اختلاف آخر، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن حجر أن من صحح هذا الحديث؛ فقد اعتمد على رواية الدراوردي، ورده إمام الشَّارحين فقال: (ويجوز أن يكون وجه ذلك اعتمادًا على رواية موسى بن إبراهيم المخزومي لا على رواية موسى بن إبراهيم التيمي، والمخزومي: هو موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وهذا هو الوجه في تصحيح من صححه، ويشهد لما قلنا رواية ابن حبان المذكورة آنفًا، ولا يبعد أن يكون كل واحد من المخزومي والتيمي روى هذا الحديث عن سلمة ابن الأكوع، وحمل عنهما الدراوردي، ورواه) انتهى.
وزعم ابن حجر أن ذكر محمد فيه شاذ، ورده إمام الشَّارحين فقال: (حكمه بشذوذه إن كان من جهة انفراد الحافظ الطحاوي؛ فليس بشيء؛ لأنَّ الشاذ من ثقة مقبول) انتهى.
قلت: على فرض كونه شاذًّا، والحال أنه ليس بشاذ؛ لأنَّ الحافظ الطحاوي إمام هذه الصنعة مشهور بكونه ثقة ثبتًا حجة، وحين كان كذلك كان ابن حجر منيًا في ظهر أبيه بعسقلان؛ فليحفظ.
(ومن صلى)؛ أي: وباب من صلى (في الثوب الذي يجامع)؛ بضم المثناة التحتية أوله؛ أي: يطأ (فيه) امرأته أو أمته؛ فحكمه: أنه (ما لم ير فيه أذى)؛ أي: من مني ونحوه من النجاسات؛ فصلاته فيه صحيحة، وكلمة (ما) مصدرية ظرفية؛ ومعناها [2]: المدة؛ يعني: مدة عدم وجود الأذى فيه فيصلي فيه، وأمَّا إذا وجد فيه منيًا أو نحوه؛ فلا يصلي فيه؛ لكونه حاملًا للنجاسة، فأشار البخاري بهذه الترجمة إلى اشتراط طهارة الثوب من النجاسة؛ لأنَّه ذكر أولًا اشتراط ستر العورة، وهنا ذكر اشتراط طهارة الساتر، وهذا يدل على أن المؤلف يرى نجاسة المني كما هو مذهب الجمهور؛ لأنَّه صرح بهذه الترجمة صلاة الرجل في الثوب الذي يجامع فيه، والغالب أنَّ هذا الثوب يصيبه شيء من المني حين الجماع، فأفاد أن ما يصيبه من المني نجس لا يصلى بالثوب الذي فيه المني، وأفاد أيضًا أن رطوبة الفرج نجسة، وقد يقال: لا يفيد كلامه ذلك؛ لأنَّه صرح بالجماع، ووجوده لا يخلو عن المني، فالرطوبة داخلة في المني، وهي طاهرة، لكن لما خالطه النجس؛ تنجست؛ فليحفظ.
ويدل لما ذكرناه ما رواه أبو داود والنسائي من طريق معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل أخته أم حبيبة: (أهل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم ير فيه أذًى)، وصححه ابنا حبان وخزيمة، وسقط في رواية الحموي لفظة: (فيه)، وفي رواية المستملي: (إذا لم ير فيه دمًا)، وهذه الرواية تعين ما قلنا؛ لأنَّ الدم أخو [3] المني في النجاسة.
قال الكرماني: وقوله: (ومن صلى ... ) إلى آخره: من تتمة الترجمة.
وقال صاحب «التوضيح»: (وهذا منه دال على الاكتفاء بالظن فيما يصلي فيه لا القطع) انتهى.
قلت: فإن غلبة الظن بمنزلة اليقين، فلو غلب على ظنه نجاسة الثوب؛ لا يصلي فيه ما لم يتيقن طهارته إما بغسله كله أو بعضه بأن تحرى مكانًا خاصًّا فيه أنه الذي أصابه النجس، فغسله فيصلي فيه، ولا كلام عند القطع بالنجاسة، كما لا يخفى.
وزعم ابن حجر أن البخاري يشير بقوله: (ومن صلى ... ) إلى آخره: إلى ما رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان من طريق معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل أخته أم حبيبة: (أهل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم ير فيه أذًى)، قال إمام الشَّارحين: (قلت: وما قاله الكرماني أوجه؛ لأنَّه اقتبس هذا من الحديث المذكور، وأراد به إدخاله في ترجمة الباب، وهذا كما رأيت قد أخذ ثلاثة أحاديث، وأدخلها في ترجمة الباب؛ الأول: حديث سلمة ابن الأكوع، وقد مر، والثاني: حديث أم حبيبة، أخرجه أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «هل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ فقالت: نعم؛ إذا لم ير فيه أذًى»، وأخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان، وصححاه، الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما سنذكره) انتهى كلامه.
قلت: وفي حديث أم حبيبة دليل واضح على نجاسة المني؛ لأنَّه عليه السَّلام صرح: بأن ما يصيب الثوب حال الجماع نجس لا يصلى فيه، وليس يصيب الثوب حال الجماع إلا المني، فهو دال على نجاسته، وهذا حجة على من زعم طهارته؛ فافهم.
(وأمر النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) فيما وصله المؤلف في الباب الثامن بعد هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر تؤذن بمنًى ألَّا يحج بعد العام مشرك، و (ألَّا يطوف بالبيت)؛ بالنصب؛ لأنَّه في الحديث المأخوذ منه عطف على المنصوب؛ وهو قوله: (ألَّا يحجَّ بعد العام مشرك)، انتهى (عريان)؛ أي: مكشوف العورة، فاستدل بهذا المؤلف؛ حيث إنه اقتباس من حديث أبي هريرة على اشتراط ستر العورة في الصلاة؛ لأنَّه إذا كان سترها في الطواف الذي هو يشبه الصلاة واجبًا؛ فاشتراط سترها في الصلاة أولى وأجدر، كذا قرره إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أن المؤلف أشار بذلك إلى حديث أبي هريرة، ولكنه ليس فيه التصريح بالأمر، ورده إمام الشَّارحين فقال: (قد ذكرت لك أنَّ هذا اقتباس، والاقتباس ههنا اللغوي لا الاصطلاحي؛ لأنَّ الاصطلاحي: هو أن يضمن الكلام شيئًا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه، وههنا ليس كذلك، بل المراد ههنا أخذ شيء من الحديث، والاستدلال به على حكم؛ كما كان يستدل به من الحديث المأخوذ منه، فحديث أبي هريرة المذكور يدل على اشتراط ستر العورة في الصلاة بالوجه الذي ذكرناه، وهو يتضمن أمر أبي بكر، وأمر أبي بكر يتضمن أمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأخذ البخاري من ذلك المتضمن صورة أمر، فقال: وأمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ألَّا يطوف بالبيت عريان، واقتصر من الحديث على هذا؛ لأنَّه هو الذي يطابق ترجمة الباب؛ فافهم، فإنه دقيق لم ينبه عليه أحد من الشراح، انتهى.
قلت: وهو وجيه لم يسبق بنظيره رحمه الله تعالى.
%ص 446%
==========
[1] في الأصل: (واري)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أخ)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (واري)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (واري)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/596)
[حديث: لتلبسها صاحبتها من جلبابها]
351# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل): هو التبوذكي المنقري البصري ((قال: حدثنا يزيد بن إبراهيم): هو أبو سعيد التستري البصري، المتوفى سنة إحدى وستين ومئة، (عن محمد): هو ابن سيرين البصري، (عن أم عطية): واختلف في اسمها؛ فقيل: نَُسِيبة؛ بضم النون وفتحها، وكسر السين المهملة، وقيل: نُشَيبة؛ بضم النون، وفتح الشين المعجمة، وقيل: لُسَينة؛ بضم اللام، وفتح السين المهملة، وتحتية ساكنة، ونون مفتوحة، واختلف أيضًا في اسم أبيها؛ فقيل: الحارث، وقيل: كعب (قالت: أُمِرنا)؛ بضم الهمزة، وكسر الميم، مبني لما لم يسم فاعله، ولا ريب أن الآمر هو النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، يدل عليه ما في «مسلم» من طريق هشام، عن حفصة، عن أم عطية قالت: (أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، وما تقدم عند المؤلف في (باب شهود الحائض العيدين)، وفيه: (أن حفصة سألت أم عطية: أسمعت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قالت أم عطية: سمعته يقول ... )؛ الحديث، وهو خبر متضمن للأمر كما سبق (أن نُخرِج)؛ بضم النون، وكسر الراء (الحُيَّض)؛ بضم الحاء المهملة، وتشديد المثناة التحتية، جمع حائض (يوم العيدين) بالتثنية، وفي رواية المستملي والكشميهني: (يوم العيد)؛ بالإفراد، (و) أن نخرج (ذوات) أي: أصحاب (الخُدور)؛ بضم الخاء المعجمة، والدال المهملة، جمع خِدْر؛ بكسر الخاء المعجمة، وسكون الدال المهملة: وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه، وفي «المخصص»: (الخدر: ثوب يمد في عرض الخباء، فتكون فيه الجارية البكر)، والجمع خدور وأخدار، وأخادير جمع الجمع، وقد تخدرت الجارية واختدرت: تسترت؛ والمعنى: أمرنا أن نخرج الأبكار الشابات صواحبات الستور، (فيشهدن) أي: يحضرن كلهن (جماعة المسلمين) بالنصب؛ أي: صلاة العيدين، ومجالس الخير؛ كمجلس الوعظ ونحوه، (ودعوتهم)؛ أي: دعوة المسلمين؛ نحو: صلاة الخسوف، والكسوف، والاستسقاء، والجنازة، وغيرها، فإن اللفظ عام يشمل ذلك وغيره، خلافًا لمن زعم أنه قاصر على الاستسقاء، وهو وهم كما لا يخفى، (ويعتزل)؛ أي: ويبعد (الحُيَّض)؛ بضم الحاء المهملة، وتشديد التحتية، جمع حائض؛ أي: منهن (عن مصلاهن)؛ أي: عن مصلى النساء اللاتي لسن بحُيَّض، وفي رواية المستملي: (عن مصلاهم)؛ بالتذكير على التغليب، وفي رواية الكشميهني: (عن المُصلَّى)؛ بالإفراد، وهو بضم الميم، وفتح اللام: موضع الصلاة تحرزًا، وتنزيهًا، وصيانةً عن وقوع شيء منهن في المصلى فيتنجس، وعن مخالطة الرجال من غير حاجة ولا صلاة، بل وعن المخالطة مطلقًا ولو لحاجة؛ لفساد الزمان، وإنما لم يحرم دخولهن، وكذا الجنب؛ لأنَّه ليس بمسجد من كل وجه، كما لا يخفى.
(قالت امرأة): هذه المرأة هي أم عطية، وكنَّت به عن نفسها، قاله إمام الشَّارحين، وفي رواية: (قلت) (يا رسول الله؛ إحدانا): مبتدأ؛ أي: بعضنا، وخبره قوله: (ليس لها جِلْباب)؛ بكسر الجيم، وسكون اللام، وبموحدتين بينهما ألف: وهو خمار واسع؛ كالملحفة تغطي به المرأة رأسها وصدرها، وقيل: هو الإزار، وقيل: هو الملاءة التي تشتمل بها، وقيل: هو القميص؛ والمعنى: كيف تشهد ولا جلباب لها؟ وكان ذلك بعد نزول آية الحجاب، (قال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها (لتلبسْها) بجزم السين المهملة، وقوله: (صاحبتها)؛ بالرفع فاعله؛ أي: من أطلق عليها صاحبة (من جلبابها)؛ أي: بأن تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه، وقيل: تشركها معها في لبس الثوب الذي عليها، وهذا مبني على أن يكون الثوب واسعًا حتى يسع فيه اثنان، وفيه نظر.
قال إمام الشَّارحين: (ووجه مطابقة الحديث للترجمة في قوله عليه السَّلام: «لتلبسها من جلبابها»؛ لأنَّه عليه السَّلام أكد الأمر باللبس حتى بالعارية للخروج إلى صلاة العيد، فإذا كان للخروج إلى العيد هكذا؛ فلأجل صلاة الفرض يكون بالطريق الأولى) انتهى.
قلت: وإذا وجب ستر العورة للنساء؛ فللرجال كذلك؛ لأنَّهم أولى لظهور التهم، وهل ستر العورة فرض مطلقًا في الصلاة وخارجها؟ نعم؛ هو فرض مطلقًا إلا لضرورة؛ نحو إزالة شعر العانة، ومريض يحقنه أجنبي، أو يجسها طبيب، أو غير ذلك كما هو مقرر في الفروع، وهذا مذهب الأئمة الحنفية وتبعهم الشافعي، فقال: ستر العورة مطلقًا واجب، والله تعالى أعلم.
(وقال عبد الله بن رجاء)؛ بالجيم، والمد: هو الغُدَاني؛ بضم الغين المعجمة، وتخفيف الدال المهملة، وبعد الألف نون، نسبة إلى غدانة؛ وهو أشرس بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن [1] تميم، هكذا وقع في أكثر الروايات بدون النسبة، ولكن المراد به: الغداني، وقد وهم من زعم أنه عبد الله بن رجاء المكي، قاله إمام الشَّارحين، قيل: وفي رواية الأصيلي: (حدثنا عبد الله بن رجاء)، وفي رواية ابن عساكر: (قال محمد)؛ أي: المؤلف، وقال عبد الله بن رجاء: (حدثنا عِمران)؛ بكسر العين المهملة: هو القطان (قال: حدثنا محمد بن سيرين): هو البصري المشهور (قال: حدثتنا أم عطية): هي نسيبة، أو نشيبة، أو لسينة بنت الحارث، أو كعب قالت: (سمعت النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بهذا)؛ أي: بالحديث السابق، قال إمام الشَّارحين: وهذا التعليق وصله الطبراني في «الكبير»: حدثنا علي بن عبد العزيز، عن عبد الله بن رجاء؛ فذكره، وفائدته تصريح محمد بن سيرين بتحديث أم عطية له، وبطل بهذا زعم بعضهم: من أن محمدبن [2] سيرين إنَّما سمعه من أخته حفصة، عن أم عطية؛ لأنَّه تقدم قبل روايته له عن حفصة أخته عنها، ولهذا قال الداودي: (الصحيح رواية ابن سيرين عن أم عطية) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (بني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (محمدًا ابن)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 447%
==================
[1] في الأصل: (بني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (بني)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/597)
(3) [باب عقد الإزار على القفا في الصلاة]
هذا (باب) في بيان حكم (عقد) المصلي (الإزار على القفا)؛ أي: إزاره على قفاه، والحال أنه داخل (في الصلاة): و (القفا) مقصور: مؤخر العنق، وهو
%ص 447%
يذكر ويؤنث، والجمع قفي؛ مثل: عصي جمع عصا، وقد جاء أقفية على غير قياس، قال إمام الشَّارحين: ووجه المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله وبين الأبواب الخمسة عشر بعده ظاهر؛ لأنَّ الكل في أحكام الثياب غير أنه تخلل فيها خمسة أبواب ذكرها، وهي غير متعلقة بأحكام الثياب، وهي باب (ما يذكر في الفخذ)، وباب (الصلاة في المنبر والسطوح والخشب)، وباب (الصلاة على الحصير)، وباب (الصلاة على الخمرة)، وباب (الصلاة على الفراش)، أمَّا مناسبة باب (الفخذ) بالباب الذي قبله؛ هو أن المذكور فيه هو الصلاة في ثوب ملتحفًا به؛ لستر العورة، والمذكور في الذي بعده حكم الفخذ، وهو أنه عورة، فإذا كان عورة؛ يجب ستره، والستر إنَّما يكون بالثياب، فتحققت المناسبة بينهما من هذا الوجه، وأمَّا مناسبة باب (الصلاة في المنبر) بالباب الذي قبله؛ هو أن الثوب فيه مستعل [1] على المصلي، وفي الذي بعده المصلي مستعل على الذي يصلي عليه، فالمناسبة من حيث الاستعلاء محققة وإن كان الاستعلاء في نفسه مختلفًا، وأمَّا المناسبة بين الأبواب الثلاثة، وهي باب (الصلاة على الحصير)، وباب (الصلاة على الخمرة)، وباب (الصلاة على الفراش)؛ فظاهرة جدًّا، وبقي وجه تخلل باب (إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)، ووجه ذلك: أن السجدة فيه كانت على الخمرة، وفي الباب الذي قبله كان على المنبر والسطوح، وكل منهما مسجَد _بفتح الجيم_ موضع السجود، فالمناسبة من هذه الجهة موجودة على أنَّا نقول: إن هذه الوجوه التي ذكرناها إقناعية، وليست ببرهانية، والاستئناس في مثل هذا بأدنى شيء كاف. انتهى.
(وقال أبو حازم)؛ بالحاء المهملة والزاي، واسمه سلمة بن دينار الأعرج، الزاهد، المدني، (عن سهل) هو ابن سعد الساعدي، الأنصاري، أبو العباس الخزرجي، وكان اسمه حزنًا، فسماه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم سهلًا، توفي سنة إحدى وتسعين، وهو آخر من مات من الصحابة في المدينة، وفي رواية الأصيلي: (عن سهل بن سعد)؛ يعني: قال: (صلوا)؛ يعني: الصحابة، وهو فعل ماض (مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) صلاة الفرض حال كونهم (عاقدي أُزْرهم)؛ بضم الهمزة، وسكون الزاي، جمع إزار، وفي «المحكم»: (الإزار: الملحفة، والجمع آزرة، وأزُر حجازية، وأزْر تميمية، وهو يذكر ويؤنث)، قال الداودي: (سمي إزارًا؛ لأنَّه يشد به الظهر، قال تعالى: {فَآزَرَهُ} [الفتح: 48]، وهو المئزر، واللحاف، والمقرم والقرام) انتهى.
وأصل (عاقدي أزرهم): عاقدين أزرهم، فلما أضيف؛ سقطت منه النون، وهي جملة حالية، وفي رواية الكشميهني: (عاقدو أزرهم)، فعلى هذا؛ هو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: صلوا وهم عاقدو أزرهم؛ كذا في «عمدة القاري»، (على عواتقهم): جمع العاتق؛ وهو موضع الرداء من المنكب، فيذكر ويؤنث، قال إمام الشَّارحين: وهذا التعليق أخرجه المؤلف مسندًا في الباب الثالث، وهو (باب إذا كان الثوب ضيقًا)، عن مسدد: حدثنا يحيى عن سفيان قال: حدثنا أبو حازم عن سهل، ومطابقته للترجمة ظاهرة، وإنما ذكر بعض هذا الحديث ههنا معلقًا مع أنه ذكره بتمامه في الباب الثالث؛ لأجل الترجمة المذكورة، وذكر هذه الترجمة؛ لتأكيد ستر العورة؛ لأنَّه إذا عقد إزاره في قفاه، وركع؛ لم تبد عورته)، وقال ابن بطال: (عقد الإزار على القفا إذا لم يكن مع الإزار سراويل) انتهى.
قلت: وهو ظاهر اللفظ؛ لأنَّ الحر حر الحجاز، فالظاهر: أنه لم يكن عليهم سراويل، وهو لا يضر؛ لأنَّ الإزار يستر العورة قطعًا، فلا حاجة إلى السراويل حينئذ؛ فتأمل.
==========
[1] في الأصل: (مستعلى)، وكذا لاحقًا، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/598)
[حديث: عقد الإزار على القفا في الصلاة]
352# وبالسند إليه قال: (حدثنا أحمد ابن يونس): نسبة لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو أحمد بن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس، التميمي اليربوعي، أبو عبد الله، الكوفي، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئتين في ربيع الأول بالكوفة عن أربع وستين سنة (قال: حدثنا عاصم بن محمد)؛ هو ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (قال: حدثني) بالإفراد (واقِد بن محمد)؛ بالقاف المكسورة، والدال المهملة، هو أخو [1] عاصم بن محمد القرشي، العدوي، العمري، المدني، (عن محمد بن المنكدر)؛ هو التابعي المشهور، وفي الإسناد رواية الأخ عن الأخ، وهما عاصم وواقد، فإنَّهما أخوان ابنا محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وفيه رواية: (التابعي عن التابعي من طبقة واحدة، وهما واقد ومحمد بن المنكدر)، وهذا الطريق انفرد به البخاري، قاله إمام الشَّارحين، (قال: صلى جابر)؛ هو ابن عبد الله الأنصاري (في إِزار)؛ بكسر الهمزة: الملحفة (قد عقده) أي: الإزار (من قِبَل)؛ بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ بمعنى: الجهة؛ أي: من جهة (قفاه): وكلمة (من) تتعلق بقوله: (عقده)، وهذه الجملة في محل جر؛ لأنَّها صفة لـ (إزار) (وثيابه موضوعة): جملة اسمية وقعت حالًا (على المِشْجَب)؛ بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، وفتح الجيم، آخره موحدة؛ وهو ثلاثة أعواد تعقد رؤوسها، ويفرج بين قوائمها، يعلق عليها الثياب، وفي «المحكم»: (وهو الخشبات الثلاث التي يعلق عليها الراعي دلوه وسقاه، والجمع: شجب)، وفي «المنتهى» في اللغة: (يقال: فلان مثل المشجب من حيث أممته وجدته)، وفي «عمدة القاري»: (المشجب يقال له: السِّيْبَه في لغة أهل الحضر، وهي بكسر السين المهملة، وسكون التحتية، وفتح الموحدة، في آخره هاء).
قلت: وهو أيضًا في لغة أهل الشام يستعمله ركاب الحاجِّ الشامي، وكذا الجزارون [2].
(فقال): وفي رواية: (قال) (له قائل): هو عبادة بن الوليد بن الصامت؛ كما في «مسلم»، (تصلي في إزار واحد)؛ يعني: أتصلي؛ بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار، والهمزة محذوفة لكنها مقدرة؛ يعني: أتصلي في إزار واحد، وعندك ثياب غيرها، وليس عليك منها شيء؟ (فقال) أي: جابر له: (إنما صنعت هذا) بالهاء، والذال، والألف، كذا في رواية المستملي، وفي رواية: (ذلك)؛ باللام قبل الكاف، وفي رواية الحموي والكشميهني: (ذاك)؛ بالذال، والألف، والكاف، وأشار جابر بهذا إلى ما فعله من صلاته، وإزاره الواحد معقود على قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب؛ (ليراني) أي: لأنَّ يراني (أحمقُ)؛ بالرفع فاعله غير منصرف؛ ومعناه: الجاهل، وهو صفة مشبهة من الحُمْق؛ بضم الحاء المهملة، وسكون الميم؛ وهو قلة العقل، وقد حمق الرجل _بالضم_ حماقة، فهو أحمق، وحمق أيضًا _بالكسر_ يحمق حمقًا؛ مثل: غنم غنمًا، فهو حمِق، وامرأة حمقاء، وقوم ونسوة حمق، وحمقى، وحماقى، وأحمقت الرجل: إذا وجدته أحمق، وحمقته تحميقًا: نسبته إلى الحمق، وحامقته: إذا ساعدته على حمقه، واستحمقته: إذا عددته أحمق، وتحامق فلان: إذا تكلف الحماقة)، وقال ابن الأثير: وحقيقة الحمق: وضع الشيء في غير موضعه مع
%ص 448%
العلم بقبحه، (مثلُك)؛ بالرفع صفة (أحمق)، ولفظة (مثل) وإن أضيفت [3] إلى المعرفة لا يتعرف؛ لتوغله في التنكير إلا إذا أضيف بما اشتهر بالمماثلة، وههنا ليس كذلك، فلذلك وقع [4] صفة لنكرة، وهو قوله: (أحمق).
فإن قلت: اللام في قوله: (ليراني)؛ للتقليل والغرض، فكيف وجه إراءة الأحمق غرضًا؟
قلت: الغرض بيان جواز ذلك الفعل، فكأنه قال: صنعته ليراني الجاهل، فينكر علي بجهله، فأظهر له جوازه، وإنما أغلظ عليه بنسبته إلى الحماقة؛ لإنكاره على فعله بقوله: (تصلي في إزار واحد)؛ لأنَّ همزة الإنكار فيه مقدرة على ما ذكرنا، كذا قرره إمام الشَّارحين رضي الله عنه.
(وأيُّنا كان له ثوبان): استفهام يفيد النفي، ومقصوده: بيان إسناد فعله إلى ما تقرر (على عهد النبي) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: فلا ينكر عليه ذلك، وقال إمام الشَّارحين: (ويستنبط منه جواز الصلاة في الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول جماعة الفقهاء، وروي عن ابن عمر خلاف ذلك، وكذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، فروى ابن أبي شيبة عنه: (لا يصلين في ثوب وإن كان أوسع مما بين السماء والأرض)، وقال ابن بطال: (إن ابن عمر لم يتابع على قوله)، وقال إمام الشَّارحين: (وفيه نظر؛ لأنَّه روي عن ابن مسعود مثل قول ابن عمر، كما ذكرنا، وروي عن مجاهد أيضًا: «لا يصلي في ثوب واحد إلا ألَّا يجد غيره»، نعم، عامة الفقهاء على خلافه، وفيه الأحاديث الصحيحة عن جماعة من الصحابة: جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وعمرو بن أبي سلمة، وسلمة ابن الأكوع رضي الله عنه، ومن ذلك: أن العالم يأخذ بأيسر الشيء مع قدرته على أكثر منه توسعة على العامة ليقتدى به، وفيه أيضًا: أنه لا بأس للعالم أن يصف أحدًا بالحمق إذا عابَ عليه ما غاب عنه علمه من السنة، وفيه: جواز التغليظ في الإنكار على الجاهل) انتهى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (أخ)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الجزارين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أضيف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (وقع)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (أخ)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الجزارين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أضيف)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (أخ)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الجزارين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أضيف)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/599)
[حديث: رأيت النبي يصلي في ثوب]
353# وبالسند إليه قال: (حدثنا مُطَرِّف)؛ بضم الميم، وفتح الطاء، وكسر الراء المهملتين، آخره فاء (أبو مُصْعَب) بضم الميم، وسكون الصاد وفتح العين المهملتين، هو ابن عبد الله بن سليمان الأصم المدني، مولى أم المؤمنين، ومن أتباع مالك بن أنس، مات سنة عشرين ومئتين (قال: حدثنا عبد الرحمن): هو ابن زيد (بن أبي المَوالي)؛ بفتح الميم على وزن (الجواري)، وفي رواية: (الموال)؛ بدون الياء، (عن محمد بن المنكدر): هو التابعي المشهور (قال: رأيت جابرًا) زاد في رواية: (ابن عبد الله)؛ يعني: الأنصاري رضي الله عنه (يصلي) أي: الصلوات الخمس (في ثوب واحد): قد عقده من قبل قفاه وعنده ثياب غيره، (وقال)؛ أي: جابر: (رأيت النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) حال كونه (يصلي في ثوب)؛ يعني: واحد.
قال إمام الشَّارحين: (وهذه طريقة أخرى لحديث جابر رضي الله عنه، وفيها الرفع إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأن الصلاة في ثوب واحد وقعت من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكرها؛ لأنَّها أوقع في النفس، وأخرج في الرفع من الطريقة الأولى).
وقال الكرماني: (فإن قلت: كيف دلالة هذا الحديث على الترجمة؟ قلت: إمَّا أنه مخروم من الحديث السابق، وإمَّا أنه يدل عليه بحسب الغالب؛ إذ لولا عقده على القفا؛ لما ستر العورة غالبًا) انتهى.
واعترضه ابن حجر، وأنكر عليه السؤال وجوابه وقال: (لو تأمل لفظه وسياقه بعد ثمانية أبواب؛ لعرف اندفاع احتماليه، فإنه طرف من الحديث المذكور لا من السابق، ولا ضرورة لما ادعاه من الغلبة، فإن لفظة: «وهو يصلي في ثوب ملتحفًا به»، وهي قصة أخرى كان الثوب فيها واسعًا، فالتحف به، وكان في الأولى ضيقًا، فعقده) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (لا هو مخروم من الحديث السابق، ولا هو طرف من الحديث المذكور في الباب الثامن، بل كل واحد حديث مستقل بذاته؛ فافهم) انتهى.
قلت: وهذا هو الصواب من القول، فإنه لو كان طرفًا من الحديث؛ لكان ذكره بصيغة التعليق، كما هو عادة المؤلف في جميع الأبواب، وعدم ذلك دليل على أنه ليس بطرف من الحديث، ولو كان مخرومًا من الحديث السابق؛ لكان فيه تكرار، وعادة المؤلف لا يذكر شيئًا بدون فائدة، فعدم ذلك دليل على أنه ليس مخرومًا.
وقول ابن حجر: (ولو تأمل لفظه ... ) إلخ: ممنوع؛ لأنَّه يلزم عليه ذكر وجه المطابقة، ولم يذكره، ويلزم عليه أن يذكر بصيغة التعليق، ويلزم عليه الإحالة إلى ما بعد ثمانية أبواب، وهو معَيب في الصناعة، فإذا كان جميع ذلك غير موجود؛ بطل كلام هذا القائل؛ فافهم.
وقوله: (ولا ضرورة لما ادَّعاه ... ) إلخ: ممنوع؛ لأنَّه لم يذكر في الحديث أن الثوب كان في الحديث الأول ضيقًا، وفي الثاني واسعًا، ولا في ذلك شيء يدل على ما زعمه هذا القائل، وتمامه في «منهل العليل المطل فيما وقع في الفتح من التطويل المخل»؛ فارجع إليه؛ فإنه مفيد غاية الفائدة.
==========
%ص 449%
==================
(1/600)
(4) [باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به]
هذا (باب): بيان حكم (الصلاة) أي: صلاة من يصلي (في الثوب الواحد) حال كونه (ملتحفًا به)؛ أي: متغطيًا به؛ لأنَّ الالتحاف لغة: التغطي، وكل شيء تغطيت به؛ فقد التحفت به، وقال الليث: (اللحف: تغطيتك الشيء باللحاف)، وقال غيره: (لحفت الرجل ألحفه لحفًا: إذا طرحت عليه اللحاف، أو غطيته بشيء، وتلحفت: اتخذت لنفسي لحافًا)، كذا في «عمدة القاري»، (وقال الزهري): هو محمد بن مسلم ابن شهاب، وسقطت الواو في رواية (في حديثه)؛ أي: الذي رواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي، عن ابن أبي داود، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم بن عمر، عن عبد الله بن عمر قال: (رأى عمر بن الخطاب رجلًا يصلي ملتحفًا، فقال له عمر رضي الله عنه حين سلم: لا يصلين أحدكم ملتحفًا، ولا تشبَّهوا باليهود)، ورواه ابن أبي شيبة في «مصنفه»: حدثنا عبد الأعلى عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: (أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلًا يصلي ملتحفًا، فقال: لا تشبهوا باليهود، ومن لم يجد منكم إلا ثوبًا واحدًا؛ فليتزر به)، ورواه أحمد ابن حنبل عن أبي هريرة، والظاهر: أن مراد المؤلف في حديث الزهري هو الذي رواه الحافظ الطحاوي؛ لأنَّه ليس فيه بيان الاتزار، فإن قوله: (ومن لم يجد ... ) إلخ: زيادة على ذاك، وهي غير لازمة على تفسير الزهري؛ لأنَّه فسر ذلك بالنسبة لحديثه الذي رواه الحافظ الطحاوي لا غيره؛ لأنَّه لا يوافق كلام المؤلف عنه، فما زعمه القسطلاني هنا غير صحيح، كما لا يخفى؛ لأنَّه قال: المراد بحديثه إما ما رواه ابن أبي شيبة، أو ما رواه أحمد.
قلت: ولا دليل له
%ص 449%
على ذلك، بل هو خدش وتخمين، والظاهر ما قلناه، ويدل عليه كلام المؤلف، كما لا يخفى.
(الملتحف المتوشح): اسم فاعل، من باب (التفعل)، من توشح يتوشح، والتوشح بالثوب: التغشي به، والأصل فيه من الوشاح؛ وهو شيء ينسج عريضًا من أديم، وربما رصع بالجواهر والخرز، وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها [1]، ويقال فيه: وشاح وإشاح، وقال ابن سيده: (التوشح: أن يتوشح بالثوب، ثم يخرج الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره، وقد وشحه الثوب)، كذا في «عمدة القاري»، (وهو)؛ أي: المتوشح (المخالف بين طرفيه) أي: طرفي الثوب (على عاتقيه)؛ بالتثنية؛ وهو موضع الرداء من المنكب، فيذكر ويؤنث، كما سبق، وأوضح ذلك بقوله: (وهو)؛ أي: التوشح الذي يدل عليه قوله: (المتوشح)؛ كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] (الاشتمال على منكبيه)؛ بالتثنية؛ أي: منكبي المتوشح، قال ابن السكيت: (التوشح: هو أن تأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره).
قلت: وهذا أصرح مما ذكره ابن سيده.
وقال إمام الشَّارحين: والظاهر: أن الزهري لما فسر الملتحف بالمتوشح عند روايته حديثه فيه؛ أوضحه البخاري بقوله: (وهو المخالف ... ) إلى آخره، انتهى.
قلت: وعلى قول إمام الشَّارحين يكون قوله: (الملتحف المتوشح): مقول الزهري، وإن قوله: (وهو المخالف ... ) إلى آخره: مقول البخاري، ويحتمل أن يكون الجميع مقول الزهري، والظاهر الأول؛ فافهم.
وقوله: (قال)؛ أي: المؤلف ساقط في أكثر الروايات، ثابت في رواية، (وقالت): وسقطت الواو في رواية (أم هانئ)؛ بالنون وبالهمز، واسمها فاختة، وقيل: هند، وهي بنت أبي طالب القرشية الهاشمية، أخت علي الصديق الأصغر: (التحف النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: توشح (بثوب) من أثوابه يدل عليه قوله: (له)؛ أي: ملكه، وفي رواية الأصيلي: (في ثوب)، وفي رواية غيره: (بثوب)، وسقطت لفظة: (له) عندهما، والأولى رواية أبي ذر والكشميهني، (وخالف بين طرفيه) أي: طرفي الثوب (على عاتقيه)؛ تثنية عاتق؛ وهو موضع الرداء من المنكب، وذلك بأن جعل طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، وأخذ الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم عقد طرفيهما على صدره الشريف.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق رواه البخاري موصولًا في هذا الباب، ولكن ليس فيه قوله: «وخالف بين طرفيه»، وفائدة هذه المخالفة ألا يسقط الثوب إذا ركع وإذا سجد) انتهى.
قلت: ووصله أيضًا مسلم في «صحيحه» لكن من طريق آخر عن أبي مرة عنها، وقال فيه: (وخالف بين طرفيه) انتهى؛ فافهم.
وقال ابن بطال: (فائدة هذه المخالفة ألا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع) انتهى.
قلت: وما قاله إمام الشَّارحين أظهر وأولى وأوجه؛ لأنَّ المقصود من الالتحاف: ستر العورة لا نظرها، فإنما التحف عليه السَّلام؛ من أجل ألا يسقط الثوب عنه، فتبدو عورته، فتفسد صلاته؛ لأنَّ نظر العورة لا يفسد الصلاة عند العامة، فما زعمه ابن البطال، وتبعه القسطلاني تعصبًا ليس بشيء لما علمت، كما لا يخفى على أولي الألباب.
==========
[1] في الأصل: (كشيحيها).
==================
(1/601)
[حديث: أن النبي صلى في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه]
354# وبالسند إليه قال: (حدثنا عُبيد الله) بضم العين المهملة؛ مصغر (عبد) (بن موسى): هو ابن باذام، أبو محمد العبسي، مولاهم الكوفي، المتوفى سنة ثلاث عشرة ومئتين، (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (هِشام بن عُروة)؛ بكسر الهاء في الأول، وبضم العين المهملة في الثاني؛ هو ابن الزُّبير؛ بضم الزاي، (عن أبيه): هو عروة بن الزبير بن العوَّام؛ بتشديد الواو، (عن عُمر) بضم العين المهملة (بن أبي سَلَمَة)؛ بفتح اللام بعد فتح السين، وكذا بفتح الميم، واسمه عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، أبو حفص، ربيب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولد بأرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة، وقبض زمان عبد الملك بن مروان بالمدينة سنة ثلاث وثمانين، وأمه أم المؤمنين أم سلمة، شهد وقعة الجمل، ولم يقتل بها خلافًا لمن زعمه؛ فليحفظ.
(أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في ثوب واحد) من أثوابه، وهذا يدل لما قاله الجمهور من جواز الصلاة في ثوب واحد مع قدرته على أكثر منه، وهو يرد على ما قاله ابن عمر وابن مسعود: لا يصلين في ثوب وإن كان أوسع ما بين السماء والأرض، وكذا هو قول مجاهد، وكأنه لم يبلغهم هذا الحديث؛ فتأمل.
(قد خالف بين طرفيه): بأن جعل طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، وأخذ الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم عقد طرفيهما على صدره، وهذا هو الالتحاف: الذي هو التوشح والاشتمال على المنكبين، وهو مطابقة الحديث للترجمة.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: رواية تابعي عن تابعي عن صحابي؛ لأنَّ هشامًا تابعي روى عن أبيه، وهو تابعي وروى هو عن صحابي، وهذا سند عال [1] جدًّا يشبه سند الثلاثيات، ولو كان هشام يرويه عن صحابي؛ لكان ثلاثيًّا حقيقةً؛ لأنَّه يكون حينئذ بين البخاري وبين الصحابي اثنان [2]، فيكون ثلاثيًّا، وهنا بينه وبين الصحابي ثلاثة، فيشبه الثلاثي من جهة العلو، وليس بثلاثي حقيقة) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (عالي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (اثنين)، ولعل المثبت هو الصواب.
%ص 450%
==================
[1] في الأصل: (عالي)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (عالي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/602)
[حديث ابن أبي سلمة: أنه رأى النبي يصلي في ثوب واحد]
355# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد بن المثنَّى)؛ بفتح النون، المعروف بالزمن البصري (قال: حدثنا يحيى): هو ابن سعيد القطان (قال: حدثنا هِشام)؛ بكسر الهاء، هو ابن عروة، وقول القسطلاني: (عن أبيه) شرحًا خطأ (قال: حدثني) بالإفراد (أبي): هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عُمر) بضم العين (بن أبي سَلَمَة)؛ بفتحات، هو عبد الله المخزومي (أنَّه رأى) أي: أبصر (النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي)؛ أي: صلاة النافلة؛ لأنَّها هي التي تؤدى بالبيت (في ثوب واحد) من أثوابه عليه السَّلام (في بيت أم سَلَمَة)؛ بفتحات، زوج النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، واسمها هند بنت أبي أمية، وهي أم عمر المذكور، وهذا ظرف لقوله: (يصلي) (قد ألقى)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (طرفيه) أي: طرفي ثوبه، (على عاتقيه)؛ تثنية عاتق: وهو موضع الرداء من المنكب.
قال إمام الشَّارحين: (وهذه طريقة أخرى في الحديث المذكور، ولكنها أنزل درجة من الطريقة الأولى، وفائدة ذكر هذه الطريقة: أن فيها التصريح من عمر بن أبي سلمة: أنه رأى النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي في ثوب واحد، وفيها زيادة وهي قوله: «في بيت أم سلمة»، وفائدة هذه الزيادة تعين المكان الذي يؤيد التصريح المذكور) انتهى.
==========
%ص 450%
==================
(1/603)
[حديث ابن أبي سلمة: رأيت رسول الله يصلي في ثوب واحد مشتملًا]
356# وبالسند إليه قال: (حدثنا عُبيد)؛ بضم العين المهملة؛ مصغرًا من غير إضافة، ويقال: اسمه عبد الله، ويعرف بعبيد، أبو محمد (بن إسماعيل): الكوفي الهَبَّاري _بفتح الهاء، وتشديد الموحدة_ المتوفي سنة خمس ومئتين.
(قال: حدثنا) ولابن عساكر: (أخبرنا) (أبو
%ص 450%
أُسامة)؛ بضم الهمزة: هو حماد بن أسامة بن يزيد، الهاشمي القرشي، الكوفي، المتوفى سنة إحدى ومئتين عن ثمانية سنة، (عن هشام): هو ابن عروة، (عن أبيه): هو عروة بن الزبير بن العوام: (أن عُمر) بضم العين المهملة (بن أبي سَلَمَة)؛ بفتحات: هو عبد الله المخزومي (أخبره) أي: أخبر عروة (قال: رأيت) أي: أبصرت (النبيَّ) الأعظم، وفي أكثر الروايات: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالنصب مفعول أول، وجملة قوله: (يصلي)؛ أي: الصلاة النافلة؛ لأنَّها لا تؤدى إلا في البيت (في ثوب واحد) من أثوابه، جملة فعلية محلها النصب على أنها مفعول ثان [1] (مشتملًا به)؛ بالنصب على الحال من (النبي)؛ أي: خالف بين طرفيه على منكبيه، وهذه رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (مشتمل)؛ بالجر أو الرفع، ووجه الجر للمجاورة، ووجه الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: وهو مشتمل به، قاله إمام الشَّارحين الإمام بدر الدين العيني، وتبعه ابن حجر، والزركشي، واعترضهم الدماميني فقال: (الأولى أن يجعل صفة لـ «ثوب»)، ثم أورد سؤالًا، فقال: (فإن قلت: لو كان؛ لبرز الضمير لجريان الصفة على غير من هي له؟ قلت: ومذهب الكوفيين قاطبة: أنه لا يجب إبراز الضمير عند أمن اللبس، ووافقهم ابن مالك، ومذهبهم في المسألة أقوى، واللبس في الحديث منتف) انتهى.
قيل: وفي رواية أبي ذر: (مشتمل)؛ بالرفع خبر مبتدأ محذوف، كما ذكرناه عن إمام الشَّارحين.
(في بيت أم سَلَمَة)؛ بفتحات، هند بنت أبي أمية، وهو ظرف لقوله: (يصلي)، وإمَّا للاشتمال، وإمَّا لهما جميعًا، كذا في «عمدة القاري (واضعًا) بالنصب على الحال (طرفيه)؛ بالتثنية؛ أي: طرفي الثوب (على عاتقيه)؛ تثنية عاتق: وهو موضع الرداء من المنكب، وقد خالف بينهما، وهذا هو الالتحاف: الذي هو التوشح والاشتمال على المنكبين، قال ابن بطال: (التوشح: نوع من الاشتمال تجوز الصلاة به، والفقهاء مجمعون على جواز الصلاة في ثوب واحد، وروي عن ابن مسعود خلاف ذلك) انتهى.
قلت: وكلامه مغلق لا يشفي العليل، وقد بينه إمام الشَّارحين رضي الله عنه حيث قال: (قلت: ذهب طاووس، وإبراهيم النخعي، وأحمد في رواية، وعبد الله بن وهب من أصحاب مالك، ومحمد بن جرير الطبري: إلى أن الصلاة في ثوب واحد مكروهة إذا كان قادرًا على ثوبين، وإن لم يكن قادرًا إلا على ثوب واحد؛ يكره أيضًا أن يصلي به ملتحفًا مشتملًا به، بل السنة أن يأتزر به، واحتجوا في ذلك بما رواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي قال: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا زهير بن عباد قال: حدثنا حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا صلى أحدكم؛ فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من أن يزين له، فإن لم يكن له ثوبان؛ فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود»، ورواه أيضًا البيهقي، وذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين: إلى أن الصلاة في الثوب الواحد تجوز من غير كراهة، والذين ذهبوا إلى ذلك من الصحابة وهم: ابن عباس، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأنس بن مالك، وخالد بن الوليد، وجابر بن عبد الله، وعمار بن ياسر، وأُبي بن كعب، وعائشة، وأسماء، وأم هانئ رضي الله عنهم أجمعين، ومن التابعين: الإمام الأعظم أبو حنيفة، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والشعبي، وسعيد بن المسيِّب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ومحمد بن الحنفية، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة رضي الله عنه، ومن الفقهاء: الإمام أبو يوسف، والإمام محمد بن الحسن، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد في رواية، وإسحاق ابن راهويه، وآخرون، واحتجوا على ذلك بالأحاديث المذكورة في هذا الباب).
وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (تواترت الأحاديث وتتابعت بجواز الصلاة في الثوب الواحد متوشحًا به في حال وجود غيره من الثياب، وأخرج في ذلك عن أحد عشر صحابيًّا؛ وهم: أبو هريرة، وطلق بن علي، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وعمرو بن أبي سلمة، وسلمة ابن الأكوع، وابن عباس، وأُبي بن كعب، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وأم هانئ رضي الله عنهم).
ولما أخرج الترمذي حديث عمر بن أبي سلمة في (الصلاة في ثوب واحد)؛ قال: (وفي الباب أحاديث عن عائشة، وعمرو بن أبي أسد، وكيسان، وعمار بن ياسر، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم).
قال الشَّارح: (قلت: وفي الباب أيضًا عن حذيفة، وعبد الله بن أبي أمية، وعبد الله بن أنيس، وعبد الله بن سرجس، وعبد الله بن عبيد الله بن المغيرة المخزومي، ومعاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي أمامة، وأبي عبد الرحمن حاضن عائشة، وأم حبيبة، وأم الطفيل)، ثم قال: (فحديث أبي هريرة عند البخاري وأبي داود، وحديث طلق بن علي عند الحافظ الطحاوي وأبي داود، وحديث جابر عند الطحاوي والبزار، وحديث ابن عمر عند الطحاوي، وحديث عُمر بن أبي سلمة عند البخاري وغيره، وحديث سلمة ابن الأكوع عند الطحاوي وأبي داود، وحديث أم هانئ عند البخاري، وحديث ابن عباس عند الطحاوي، وحديث أُبي بن كعب عند الطحاوي وابن أبي شيبة، وحديث أبي سعيد الخدري عند الطحاوي وابن ماجه، وحديث أنس بن مالك عند الطحاوي وأحمد ابن حنبل، وحديث عمرو بن أبي أسد عند البغوي و «معجم الصحابة»، والحسن بن سفيان في «مسنده»، وحديث كيسان عند ابن ماجه، وحديث عائشة عند أبي داود، وحديث عمار بن ياسر عند الطبراني، وحديث عبادة بن الصامت عند الطبراني في «الكبير»، وحديث حذيفة عند أحمد، وحديث عبد الله بن أبي أمية عند الطبراني في «الكبير»، وحديث عبد الله بن أنيس عند الطبراني أيضًا، وحديث عبد الله بن سرجس عنده أيضًا، وحديث عبد الله بن عبيد الله المغيرة عند أحمد، وحديث علي بن أبي طالب عند الطبراني، وحديث معاذ عنده أيضًا، وحديث معاوية عنده أيضًا، وحديث أبي أمامة عنده أيضًا، وحديث عبد الرحمن حاضن عائشة عنده أيضًا في «الأوسط»، وحديث أم حبيبة عند أحمد، وحديث أم الفضل عنده أيضًا).
قال الشَّارح: (فمن أراد أن يقف على متون أحاديثهم بأسانيدها؛ فعليه بشرحنا «شرح معاني الآثار»، وأمَّا الجواب عما احتجت به الطائفة الأولى من حديث عبد الله بن عمر؛ فهو أن ابن عمر نفسه قد روى عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إباحة الصلاة في الثوب الواحد، أخرجه الحافظ
%ص 451%
أبو جعفر الطحاوي، عن أبي بكرة، عن روح، عن زمعة بن صالح قال: سمعت ابن شهاب يحدث عن سالم، عن أبيه، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مثل ما روى البخاري عن جابر رضي الله عنهما، فظهر من هذا أن حديثه ذاك في استعمال الأفضل؛ فبهذا يرتفع الخلاف بين روايتيه، وكذلك كل ما روي في هذا الباب من منع الصلاة في ثوب واحد؛ فهو محمول على الأفضل لا على عدم الجواز، وقيل: هو محمول على التنزيه لا على التحريم) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/604)
[حديث: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ]
357# وبالسند إليه قال: (حدثنا إسماعيل بن أبي أُوَيس)؛ بضم الهمزة، وفتح الواو؛ مصغَّرًا، هو المدني الأصبحي، ابن أخت مالك بن أنس (قال: حدثني) بالإفراد (مالك بن أنس)؛ هو الأصبحي المدني، وسقط: (ابن أنس) لابن عساكر، (عن أبي النَّضْر)؛ بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، واسمه سالم بن أبي أمية (مولى عُمر)؛ بضم العين المهملة، (بن عُبيد الله)؛ بضم العين المهملة، مصغر (عبد)، هو ابن معمر، القرشي التيمي، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئة: (أن أبا مُرَّة)؛ بضم الميم، وتشديد الراء، واسمه يزيد (مولى أم هانئ)؛ بالنون وبالهمز، هي فاختة، وقيل: هند (بنت أبي طالب) أخت علي الصديق الأصغر، وذكر المؤلف في باب (العلم): أنه مولى عقيل، قال إمام الشَّارحين: (وهو في نفس الأمر مولى أم هانئ، ونسب إلى ولاء عقيل مجازًا؛ لإكثاره الملازمة لعقيل)؛ فافهم.
(أخبره) أي: أخبر يزيد سالمًا: (أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب) رضي الله عنها، وجملة قوله: (تقول) من الفعل والفاعل محلها نصب، إمَّا مفعول ثان [1] لـ (سمع)، وإمَّا حال على الخلاف المشهور: (ذهبت إلى رسول الله): وللأصيلي: (إلى النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: إلى حجرته الشريفة (عام الفتح) أي: فتح مكة، وكان في رمضان سنة ثمان، (فوجدته) حال كونه (يغتسل) أي: من الجنابة، والجملة حالية (وفاطمة ابنته) رضي الله عنها هي الزهراء، (تستره): جملة اسمية حالية أيضًا، (قالت) أي: أم هانئ: (فسلمت عليه، فقال) عليه السَّلام لابنته فاطمة: (مَن هذه؟) بفتح الميم، قالت: أم هانئ (فقلت: أنا): وللأصيلي: (قلت) (أم هانئ بنت أبي طالب) رضي الله عنها، وظاهره: أنه عليه السَّلام لم يرد عليها السلام؛ لكونه لم يفرغ من الغسل، فبقي على جنابته؛ لأنَّه عليه السَّلام من عادته أن يذكر الله تعالى على طهارة، و (السلام) من أسماء الله تعالى، فكره أن يذكر الله على غير طهارة، ويدل عليه ما قدمه المؤلف في (التيمم) من حديث أبي الجهيم الأنصاري: (أنه عليه السَّلام أقبل من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه، فلم يرد عليه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السَّلام)، زاد في رواية الطبراني في «الأوسط»، وقال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير طهر») انتهى.
ولا يخفى أن تيممه عليه السَّلام كان عند عدم الماء؛ فافهم.
(فقال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لأم هانئ: (مرحبًا): منصوب بفعل مقدر؛ تقديره: لقيت رحبًا وسعة (بأم هانئ)؛ بالباء الجارة، وفي رواية ابن عساكر: (مرحبًا يا أم هانئ)؛ بياء النداء، وهذا يقوم مقام السلام في اللغة لا في الشرع، ولعله عليه السَّلام اقتصر على ذلك، لكنه خلاف الشرع، بل رد عليها السلام بعد فراغه من الغسل، والراوي إمَّا نسي هذه الجملة، وإمَّا لم يسمعها من أم هانئ؛ لعدم سماعها منه عليه السَّلام، بل قد سمعته ابنته فاطمة وأم هانئ، لكن نسيت، فلم تذكرها؛ فافهم.
(فلما فرغ) عليه السَّلام (من غُسله) بضم الغين المعجمة، من الجنابة؛ (قام): جواب (لما) (فصلى ثمانِيَ [2] ركعات)؛ بكسر النون، وفتح الياء، مفعول (فصلى)، وفي رواية ابن عساكر: (ثمانَ)؛ بفتح النون من غير ياء، وزعم الكرماني: (أنه على الرواية الأولى بفتح النون).
قال إمام الشَّارحين: (قلت: حينئذ يكون منصوبًا بقوله: «فصلى»)، وقال الجوهري: (هو في الأصل منسوب إلى الثُمن؛ لأنَّه الجزء الذي صير السبعة ثمانية، فهو ثمنها، ثم إنَّهم فتحوا أوله؛ لأنَّهم يغيرون في النسب، وحذفوا منه إحدى يائي النسبة، وعوضوا منها الألف كما فعلوا في المنسوب إلى اليمن، فتثبت ياؤه عند الإضافة كما تثبت «ياء» القاضي، تقول: ثمان نسوة، وتسقط مع النون عند الرفع والجر، وتثبت عند النصب؛ لأنَّه ليس بجمع) انتهى.
(ملتحفًا) بالنصب على الحال من الضمير الذي في (صلى) (في ثوب واحد)؛ أي: متوشح به مخالف بين طرفيه على عاتقيه، (فلما انصرف) عليه السَّلام؛ أي: فرغ من صلاته؛ (قلت) أي: قالت أم هانئ قلت: (يا رسول الله؛ زعم): معناه ههنا: قال أو ادعى، كما في «عمدة القاري».
قلت: وإنما قال: (معناه) هكذا؛ لأنَّ الزعم أكثر ما يستعمل بمعنى فيما لا يتحقق، وقال ابن المظفر: (أهل العربية يقولون: زعم فلان: إذا شك فيه، ولم يدرِ لعله كذب أو باطل)، وقال الأصمعي: (الزعم: الكذب)، وقال شريح: (زعموا: كنية الكذب)، وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: (الزعم: القول يكون حقًّا، ويكون باطلًا) انتهى؛ فليحفظ.
والزَُّعم _بفتح الزاي وضمها_ مصدر زعم، وهو فعل يقترن به اعتقاد ظني، و (زعم): يكون بمعنى: (ظن) فيتعدى إلى اثنين؛ كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ ... }؛ الآية [النساء: 60]، وقد يكون بمعنى: (كفل) فيتعدى إلى واحد؛ ومنه قوله تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، والله تعالى أعلم.
(ابن أمي): هو علي بن أبي طالب، وهي شقيقته، وأمهما فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفي رواية الحموي كما في «عمدة القاري»: (زعم ابن أبي) قال: (ولا تفاوت بينهما في المقصود؛ لأنَّها أخت علي من الأم والأب، ولكن الوجه في رواية: «ابن أمي» تأكيد الحرمة والقرابة والمشاركة في بطن، وذلك كما في قوله تعالى حكاية عن هارون لموسى عليهما السلام: {قَالَ يَا بْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} [طه: 94]) انتهى.
(أنه)؛ أي: ابن أمي، وهو أخوها علي بن أبي طالب (قاتل رجلًا): فـ (قاتل): اسم فاعل، من باب (المفاعلة)؛ والمعنى: أنه عازم على المقاتلة؛ لأنَّه لم يكن قاتلًا حقيقة في ذلك الوقت، ولكنه لما عزم على التلبس بالفعل؛ أطلقت عليه القاتل، و (رجلًا): منصوب بقوله: (قاتل)، كذا في «عمدة القاري» (قد أجرته) بفتح الهمزة بدون المد؛ أي: أمنته، والجملة محلها نصب صفة (رجلًا)، ولا يجوز فيه المد؛ لأنَّه إمَّا من الجور؛ فتكون الهمزة فيه للسلب والإزالة؛ يعني: لسلب الفاعل عن المفعول أصل الفعل؛ نحو: أشكيته؛ أي: أزلت شكايته، وإمَّا من الجوار بمعنى: المجاورة، كذا في «عمدة القاري»، (فلانَُ بن هبيرة)؛ بالرفع والنصب، أمَّا الرفع؛ فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هو فلان، وأمَّا النصب؛ فعلى أنه بدل من (رجلًا)، أو من الضمير المنصوب في (أجرته)، و (هُبَيْرة)؛ بضم الهاء، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، وبالراء: هو ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران المخزومي، زوج أم هانئ بنت أبي طالب، شقيقة علي بن أبي طالب، وهي أسلمت عام الفتح، وكان لهبيرة أولاد منها؛ وهم: عمرويه، وهانئ، ويوسف، وجعدة، وقد ذكرنا أن اسمها فاختة أو هند، وكنيت بهانئ أحد أولادها المذكورين، فهرب زوجها من مكة عام الفتح لما رآها أسلمت، ولم يزل مشركًا حتى مات،
%ص 452%
وترك عندها ولدها منه، وهو جعدة، وهو ممن له رؤية، ولم تصح له صحبة، وابنه المذكور هنا يحتمل أن يكون جعدة هذا، ويحتمل أن يكون من غير أم هانئ، ونسي الراوي اسمه، ورد الأول بوجوه، ورجح الثاني، وجزم ابن هشام في «السيرة»: (بأن اللذين أجارتهما أم هانئ هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان)، وعند الأزرقي: (عبد الله بن أبي ربيعة، بدل زهير)، وقد أوضح ذلك إمام الشَّارحين فقال: (وقولها: «فلان بن هبيرة» فيه اختلاف من جهة الرواية ومن جهة التفسير، ففي «التمهيد» من حديث محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي مرة، عن أم هانئ قالت: (أتاني يوم الفتح حموان لي، فأجرتهما، فجاء علي يريد قتلهما، فأتيت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في قبة بالأبطح بأعلى مكة ... )؛ الحديث، وفيه قال عليه السَّلام: «أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت»، وفي «معجم الطبراني»: (إني أجرت حموي)، وفي رواية: (حموي ابن هبيرة)، وفي رواية: (حموي ابني هبيرة)، وقال أبو عمرو في حديث أبي النضر ما يدل على أن الذي أجارته كان واحدًا، وفي هذا اثنين، وأمَّا من جهة التفسير؛ فقال أبو العباس بن سريج: (الرجلان هما: جعدة بن هبيرة، ورجل آخر، وكانا من الشرذمة الذين قاتلوا خالدًا رضي الله عنه، ولم يقبلوا الأمان، ولا ألقوا السلاح، فأجارتهما أم هانئ، وكانا من أحمائها)، وروى الأزرقي بسند فيه الواقدي في حديث أم هانئ هذا: (أنَّهما الحارث بن هشام وهبيرة بن أبي وهب)، وجزم ابن هشام في «تهذيب السيرة»: (بأن اللذين أجارتهما أم هانئ هما: الحارث بن هشام وزهير بن أمية المخزوميان)، وقال الكرماني: (أرادت أم هانئ ابنها من هبيرة أو ربيبها، كما أن الإبهام فيه محتمل لأن يكون من أم هانئ، وأن يكون الراوي نسي اسمه، فذكره بلفظ: «فلان»)، وقال الزبير بن بكار: (فلان بن هبيرة هو الحارث بن هشام المخزومي) انتهى.
وزعم ابن حجر الذي يظهر لي أن في رواية الباب حذفًا؛ كأنه كان فيه: فلان بأنَّهُ عم هبيرة، فسقط لفظ (عم)، أو كان فلان قريب هبيرة، فتغير لفظ (قريب) بلفظ (ابن)، وكل من الحارث بن هشام وزهير بن أمية وعبد الله بن ربيعة يصح وصفه بأن عم هبيرة وقريبه؛ لكون الجميع من بني مخزوم) انتهى.
قلت: وهذا كلام من لم يذق شيئًا من العلم، فأي شيء دله على أن رواية الباب فيها حذف؟ وما هي إلا دعوى لا دليل عليها، بل الظاهر أن الرواية المذكورة في هذا الباب هي هي في الحقيقة يدل عليه أنه ذكر الطبراني هذا الحديث في «معجمه»، وكذا أبو عمرو وغيره، وفيه ما ذكر غير أنه أبدل (فلان) بـ (حموي)، كما رأيت، فلفظ (عم) و (قريب) التي قدرها هذا القائل غير صحيح؛ لأنَّ ذلك زيادة على اللفظ من غير دليل، وإذا وجد التقدير وعدمه؛ فعدمه أولى عند المحققين.
وقوله: (فتغير ... ) إلخ: غير صحيح؛ لأنَّ هذا «الجامع الصحيح» أصح الكتب بعد القرآن، فكيف يقال إنه وقع فيه التغيير؟ وما هذا إلا كلام يمجه الطبع السليم على أنه قد رواه جمع عن جمع بالإتقان والحفظ، وهذا يؤمن تغيره، فكيف قال هذا القائل ما قال؟ وما ذكره في وجه الجمع من أنه كل واحد منهم يقال له: (عم هبيرة ... ) إلى آخره: ممنوع، فالمدعي الأول غير ثابت، وهو أوهى من بيت العنكبوت، فكيف يبني عليه بأضعف منه؟ والوصف بالعم ينافي ذلك؛ لأنَّ العم إمَّا من النسب أو من قرابة الزوج، وهؤلاء ليسوا من ذلك، فلا يصح الوصف بالعم، وكذلك الوصف بالقريب، فمن أين جاء به هذا القائل؟
وقال إمام الشَّارحين: الأصوب والأقرب أن تقول في توجيه رواية أبي النضر: «فلان بن هبيرة» أن يكون المراد من «فلان» هو ابن هبيرة من غير أم هانئ، فنسي الراوي اسمه، وذكره بلفظ «فلان»، ويدل على صحة هذا رواية ابن عجلان في «التمهيد»، ورواية الطبراني، فإنها تدل على أن الذي أجارته أم هانئ هو حموها.
فإن قلت: المذكور في رواية أبي النضر واحد، وفي هذه الروايات اثنان؛ قلت: لا يضر ذلك؛ لأنَّه يحتمل أن يكون الراوي اقتصر على ذكر واحد منهما نسيانًا، كما أبهم اسمه نسيانًا، وقال ابن الجوزي: (إن كان ابن هبيرة منها؛ فهو جعدة)، وجوز أبو عمرو أن يكون من غيرها، وهو الأصوب؛ لما ذكرنا.
فإن قلت: نقل أبو عمرو من أهل النسب أنَّهم لم يذكروا لهبيرة ولدًا من غيرها؛ قلت: لا يلزم من عدم ذكرهم ذلك ألا يكون له ابن من غيرها) انتهى.
زاد في الطنبور نغمة ابن حجر، فزعم أن جعدة معدود فيمن له رواية، ولم يصح له صحبة، وقد ذكره من حيث الرواية في التابعين: أبو عمرو، وابن حبان، وغيرهما، فكيف يتهيأ لمن هذه سبيله في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلًا حتى يحتاج إلى الأمان، ثم لو كان ولد أم هانئ؛ لم يهم علي رضي الله عنه بقتله؛ لأنَّها كانت قد أسلمت، وهرب زوجها، وترك ولدها عندها، ورده إمام الشَّارحين فقال: (كونه تابعيًّا أو صحابيًّا على ما فيه من الاختلاف لا ينافي ما ذكرناه فيما قبل ذلك).
وقوله: «فكيف يتهيأ ... » إلى آخره: مجرد دعوى، فيحتاج إلى برهان، فظهر من هذا أن قول الكرماني: (أرادت أم هانئ ابنها من هبيرة وربيبها) أقرب إلى الصواب وأوجه، وقول بعضهم: (والذي يظهر لي ... ) إلى آخره: بعيد في ذلك، وتصرف من عنده بغير وجه؛ لأنَّ فيه ارتكاب الحذف والمجاز؛ والتقدير: بشيء: بعيد غير مناسب، ومخالف لما ذكره هؤلاء المذكورون آنفًا، وهذا كلام كله خلاف الأصل، ومما يمجه من له يد في التصرف في الكلام) انتهى.
ومراد بقوله: (بعضهم): ابن حجر العسقلاني، فإنه القائل، والذي يظهر لي أن في رواية ... إلى آخر كلامه، كما سقناه فيما سبق، وتكلمنا عليه ببعض ما يجب عليه؛ فافهم، والله أعلم.
(فقال رسول الله): وفي رواية الأصيلي: (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) لأم هانئ: (قد أجرنا من أجرت) يعني: أمنا من أمنت، كما زاده في رواية ابن عجلان في «التمهيد»، كما سبق.
(يا أم هانئ)؛ أي: فليس لشقيقك قتله، (قالت أم هانئ): في بيان الوقت الذي جاءت به لعند النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (وذاك)؛ بالألف بين الذال والكاف، وفي رواية الأصيلي: (وذلك)؛ باللام، والإشارة إلى ما ذكرته من قولها: فصلى ثمان ركعات (ضحًى)؛ أي: كان ذلك الوقت ضحًى، أو صلاة ضحًى، ويدل للأول: ما في رواية أحمد في هذا الحديث: (وذلك يوم فتح مكة ضحى)، ويدل للثاني: ما في رواية أبي حفص بن شاهين: أن أم هانئ قالت: يا رسول الله؛ ما هذه الصلاة؟ قال: «الضحى»، وما رواه ابن أبي
%ص 453%
شيبة: ثم صلى الضحى ثمان ركعات، وهذا الوجه هو الأصح، وهذا أيضًا يمنع التخرص في ذلك بأن قال بعضهم: (هذه صلاة الفتح)، وبعضهم قال: (صلاة الإشراق)، والدليل على ذلك ما في رواية «مسلم»: (ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى)؛ كذا قاله إمام الشَّارحين الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه.
قلت: فهذه الروايات تدل على فساد ما زعمه البعض الأول والبعض الثاني، ولأن الإشراق لا صلاة له؛ يدل عليه أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن الصلاة حين تطلع الشمس، وحين استوائها، وحين غروبها، وفي حديث آخر: «إن الشمس تطلع بين قرني الشيطان»؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: وفي الحديث أحكام: الأول: فيه جواز تستر الرجال بالنساء.
الثاني: فيه جواز السلام من وراء الحجاب.
الثالث: فيه عدم الاكتفاء بلفظة (أنا) في الجواب، بل يوضح غاية التوضيح، كما في ذكر الكنية والنسب هنا.
الرابع: فيه استحباب الترحيب بالزائر وذكر كنيته.
الخامس: فيه دليل على استحباب صلاة الضحى وأنها ثمان ركعات.
السادس: فيه جواز أمان رجل حر أو امرأة حرة لكافر واحد أو لجماعة، ولم يجز بعد ذلك قتالهم إلا أن يكون في ذلك مفسدة، ولا يجوز أمان ذمي؛ لأنَّه متهم بهم، ولا أسير، ولا تاجر يدخل عليهم، ولا يجوز أمان عبد إلا أن يأذن له مولاه في القتال، وهو قول الإمام الأعظم، وهو رواية عن الإمام أبي يوسف، وقال الإمام محمد بن الحسن: يجوز أمانه مطلقًا، وهو رواية عن الإمام أبي يوسف، وبه قال محمد بن إدريس، ولو أمن الصبي وهو لا يعقل؛ لا يصح كالمجنون، وإن كان يعقل وهو محجور عن القتال؛ فعلى الخلاف، وإن كان مأذونًا له في القتال؛ فالأصح أنه يصح أمانه بالاتفاق، والله أعلم) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
==========
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ثمان)، والمثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/605)
[حديث: فقال رسول الله أولكلكم ثوبان]
358# وبالسند إليه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل، وفي (يوسف) تثليث السين مع الهمز وتركه؛ ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قال: أخبرنا مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن ابن شهاب): هو محمد بن مسلم الزهري، (عن سعِيد بن المسيِّب)؛ بفتح التحتية وكسرها، وكسر العين في الأول، (عن أبي هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه: (أن سائلًا): هو ثوبان الصحابي، كما ذكره إمامنا شمس الأئمة السرخسي في «المبسوط»، وقول ابن حجر: (لم أقف على اسمه) لا ينافي ذلك؛ لأنَّه لا يلزم من عدم معرفته اسمه ألا يكون معروفًا عند غيره، وفوق كل ذي علم عليم؛ فافهم.
(سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن) جواز (الصلاة)؛ أي: المفروضة والواجبة والنافلة؛ لأنَّ (أل) فيه للجنس (في ثوب واحد)؛ بالتنكير، وفي رواية أبي الوقت: (في الثوب الواحد)؛ بالتعريف، (فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: للسائل المذكور: (أولكلكم ثوبان؟)؛ الهمزة فيه للاستفهام؛ يعني: فإذا كنتم بصفة العدم وضيق الثياب وليس لكل واحد منكم ثوبان، والصلاة واجبة عليكم؛ فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة، فاللفظ وإن كان لفظ الاستفهام، ولكن المعنى الإخبار عما كان يعلمه صلَّى الله عليه وسلَّم من حالهم في العدم وضيق الثياب، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وقال الكرماني: (فإن قلت: ما المعطوف عليه بالواو؟ قلت: هو مقدر؛ أي: أنت سائل عن مثل هذا الظاهر؛ ومعناه: لا سؤال عن أمثاله ولا ثوبين لكلكم؛ إذ الاستفهام مفيد لمعنى النفي بقرينة العام، وهذا التقدير على سبيل التمثيل) انتهى.
قلت: قد علمت مما قاله إمام الشَّارحين: (إن اللفظ وإن كان لفظ الاستفهام، ولكن المعنى الإخبار عما كان يعلمه عليه السَّلام من حالهم في العدم والضيق) على أنه لا حاجة إلى هذا التقدير؛ لأنَّ عدمه أولى، ولأن مراده عليه السَّلام الاستخبار عن حالهم بأن هل يجد أحدهم ثوبين؟ يعني: فالصلاة في الثوب الواحد جائزة مع الكراهة؛ لأنَّه يستر العورة، وليس فيه تجمل، والصلاة في الثوبين جائزة بدون كراهة؛ لأنَّه قد ستر العورة، وتجمل لعبادة ربه عز وجل، وقال القاضي عياض: (وقوله عليه السَّلام: «أولكلكم ثوبان أويجد ثوبين؟» صيغته صيغة الاستفهام، ومعنى التقرير والإخبار عن معهود حالهم، وضمنه دليل على الرخصة، وتنبيه على أن الثوب أفضل وأتم، وهو المعهود منه عند أكثر العلماء)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (ذهب الحافظ أبو جعفر الطحاوي وكذا الباجي: إلى أن المفهوم من الحديث التسوية بين الصلاة في الثوب الواحد مع وجود غيره وعدمه في الإجزاء).
قلت: فالثوب الواحد إذا صلى فيه أو ثوبان إذا صلى فيهما على حد سواء من حيث جواز الصلاة، ولكن الأفضل الصلاة في الثوبين؛ لأنَّه أتم في ستر العورة والتجمل، فقول القاضي عياض: (وتنبيه على أن الثوب أفضل): ممنوع؛ لأنَّه ليس فيه فضل، بل هو واجب لستر العورة، والأفضل إنَّما يقال للزائد على الفرض؛ فافهم.
وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (لو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد؛ لكرهت لمن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا؛ لأنَّ حكم الصلاة في الثوب الواحد لمن يجد ثوبين كهو في الصلاة لمن لا يجد غيره)، واعترضه ابن حجر، فزعم أن هذه الملازمة في مقام المنع للفرق بين القادر وغيره، والسؤال إنَّما كان عن الجواز وعدمه لا عن الكراهة)، ورده إمام الشَّارحينفقال: (أخذ هذا القائل صدر الكلام من كلام الطحاوي، ثم غمز فيه، ولو أخذ جميع كلامه؛ لما كان يجد إلى ما قاله سبيلًا) انتهى.
قلت: على أنه قول النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم متضمن لسؤالين:
أحدهما: السؤال عن الجواز وعدمه في الثوب الواحد، فالصلاة فيه جائزة حيث إنه ساتر للعورة؟
والثاني: السؤال عن الذي يجد أكثر من ثوب واحد، فهو عن الكراهة وعدمها؟
فالصلاة في الثوب الواحد لمن يجد
%ص 454%
أكثر منه مكروهة حيث ترك التجمل لعبادة ربه عز وجل، وصلاته فيه لمن لا يجد غيره لا كراهة؛ لأنَّه فعل ما في وسعه، يدل عليه فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه للذي رآه يصلي بثوب واحد مرقع، فنخزه بيده، وقال له: (أرأيت إذا كنت قدام حاكم هل كنت تقف بهذه؟)، فقال: لا، فقال: (الله أحق أن تتزين له)، على أن الحديث مصرح بالفرق بين القادر وغيره، لأنَّ السؤال إنَّما كان عن غير القادر، والجواب له وللقادر أيضًا، وكيف خفي هذا عن ابن حجر، وفوق كل ذي علم عليم؟
ويدل لما قلناه ما أخرجه أبو داود عن مسدد، حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي: حدثنا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: قدمنا على نبيِّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فجاء رجل فقال: يا نبي الله؛ ما ترى في الصلاة في الثوب الواحد؟ قال: فأطلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إزاره، وطارق له رداءه، فاشتمل بهما، ثم قام، فصلى بنا نبيُّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما أن قضى الصلاة؛ قال: «أوكلكم يجد ثوبين؟»، وأخرجه الطبراني أيضًا، وفي روايته: (طابق) بدل قوله: (طارق) من قولهم: طارق الرجل بين الثوبين: إذا ظاهر بينهما؛ أي: لبس أحدهما على الآخر، وكذلك معنى: (طابق)، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا، فهذا الحديث يدل على أن السؤال إنَّما كان عن الجواز وعدمه في الثوب الواحد، وعن الكراهة وعدمها في الزائد على الثوب الواحد لمن يجد أكثر من الواحد، وإنما يكون الجواب عن الجواز وعدمه فيما رواه ابن حبان في هذا الحديث من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب، فقال في الجواب: «ليتوشح به، ثم ليصل [1] فيه»، فهذا يدل على أن السؤال وقع على الجواز وعدمه، وكأن ابن حجر لم يطلع على هذه الروايات، فقال ما قال؛ فافهم.
قلت: وفي الحديث: وجوب ستر العورة، وهو مذهب الجمهور من الصحابة؛ كابن عباس، وعلي، ومعاوية، وأنس، وأبي [2] هريرة، وعائشة، وأم هانئ، ومن التابعين: إمامنا الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وعطاء، ومن الفقهاء: الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية، وإسحاق ابن راهويه، وفيه: استحباب الزيادة على الثوب الواحد؛ لأجل التجمل لعبادة الرب عز وجل؛ لأنَّه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ولأن فيه التحديث بالنعمة، وفيه: كراهية الصلاة بالثوب الواحد لمن يجد أكثر منه؛ لأنَّ فيه التهاون في أمر العبادة، وفيه: وجوب السؤال لأمر من أمور الدين قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وهم العلماء؛ لأنَّهم ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والله أعلم.
==================
[1] في الأصل: (ليصلي)، و المثبت هو الصواب.
(1/606)
(5) [باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (إذا صلى)؛ أي: الرجل (في الثوب الواحد): وجواب (إذا) قوله: (فليجعل)؛ أي: بعضه (على عاتقيه)؛ بالتثنية، ولابن عساكر: (على عاتقه)؛ بالإفراد، زاد في رواية كريمة: (شيئًا)؛ أي: من الثوب، وفي «المخصص»: (هو من المنكبين إلى أصل العنق: عاتقان)، وفي «الموعب»: (هو صفح العنق من موضع الرداء من الجانبين جميعًا، يقال له: العاتق، والجمع عتق، وعواتق، وعتق)، وقال أبو عبيدة: (هو مذكر، وقد يؤنث)، وقال اللحياني: (هو مذكر لا غير)، وقال أبو حاتم: روى من لا أثق به: التأنيث، وسألت بعض الفصحاء فأنكر التأنيث، وقد أنشدني من لا أثق به بيتًا ليس بمعروف، ولا عن ثقة، وهو قوله:
لَا صُلْحَ بَيْنِي فَاعْلَمُوهُ ... وَلَا بَيْنَكُمْ مَا حَمَلَتْ عَاتِقِي
وفي «الجامع»: (هو مذكر، وبعض العرب تؤنثه)، وأنكره بعضهم وقال: هذا لا يعرف، وأمَّا يعقوب بن السكيت؛ فذكره مذكرًا ومؤنثًا من غير تردد، وتبعه على ذلك جماعة منهم: أبو نصر الجوهري، وقد أنشد ابن عصفور في ذكر الأعضاء التي تذكر وتؤنث، فقال:
وهاك من الأعضاء ما قد عددته ... يؤنث أحيانًا وحينًا يذكر
لسان الفتى والإبط والعتق والقفا ... وعاتقه والمتن والضرس يذكر
وعندي الذراع والكراع مع المِعَى ... وعجز الفتى ثم القريض المحبر
كذا كل نحوي حكى في كتابه سوى ... سيبويه وهو فيهم مكبر
يرى أن تأنيث الذراع هو الذي ... أتى وهو للتذكير في ذاك منكر
وقال صاحب «دستور اللغة» بديع الزمان: (باب الأسماء الخالية من علامة التأنيث): والأسماء التي اشترك فيها التذكير والتأنيث وهي حدود مئتي اسم ونيف، وعلامة المشترك يجمعها قوله نظمًا:
عين يمين عضد كف شمال أذن ... سن معًى رجل يد
قتب ذراع أصبع ناب عجوز ... ساق كراع كبد
وحش جراد رجلها أروى سعير ... زندها ذكاء طاعوت يد
ذود طباع خضر روح شبا ... خيل أتان وصف أنثى المفرد
وذكر بعدها أحد عشر بيتًا على قافية الباء الموحدة، وسبعة أبيات أخرى على قافية اللام، كذا في «عمدة القاري».
==========
%ص 455%
==================
(1/607)
[حديث: لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء]
359# وبالسند إليه قال: (حدثنا أبو عاصم): هو الضحاك بن مَخلد _بفتح الميم_ البصري، المشهور بالنبيل، (عن مالك): هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن أبي الزِّناد)؛ بكسر الزاي، وتخفيف النون، هو عبد الله بن ذكوان، (عن عبد الرحمن): هو ابن هرمز (الأعرج، عن أبي هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (قال: قال رسول الله): وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم لا يصلي)؛ بإثبات الياء؛ لأنَّه نفي، لأنَّ كلمة (لا) نافية، و (لا) النافية لا تسقط شيئًا، ولكن معناه النهي، ونص ابن الأثير على إثبات الياء في «الصحيحين» قال: (وذلك لا يجوز؛ لأنَّ حذفها علامة الجزم بـ «لا» الناهية، فإن صحت الرواية؛ فتحمل على أن «لا» نافية) انتهى.
قلت: وقد صحت الرواية بذلك، فلا وجه للتردد، وقد رواه الدارقطني في «غرائب مالك»
%ص 455%
بلفظ: (لا يصل)؛ بغير ياء على أن كلمة (لا) ناهية، ورواه النسائي من طريق سفيان بلفظ: (لا يصلينَّ)؛ بزيادة نون التأكيد، وتمامه في «عمدة القاري».
(أحدكم في الثوب الواحد) وقوله: (ليس على عاتقه)؛ بالإفراد رواية الأكثرين، وفي رواية: (على عاتقيه)؛ بالتثنية، جملة حالية بدون الواو، ويجوز في مثل هذا الواو وتركه (شيء): وفي رواية «مسلم»: (منه شيء)، وذلك لئلا يسقط الثوب إذا ركع أو إذا سجد؛ فتظهر عورته، فتفسد صلاته، ورواه الإسماعيلي من طريق الثوري عن أبي الزناد بلفظ: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (بعد أن أخرج هذا الحديث من أربع طرق تواترت الآثار عن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالصلاة في الثوب الواحد متوشحًا به في حال وجود غيره)، ثم قال: فقد يجوز أن يكون ذلك على ما اتسع من الثياب خاصة لا على ما ضاق منها، ويجوز أن يكون على كل الثياب ما ضاق منها وما اتسع، فنظرنا في ذلك؛ فإذا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قد حدثنا قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا قصر بن خليفة عن شرحبيل بن سعد قال: حدثنا جابر: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول: «إذا اتسع الثوب؛ فتعطف به على عاتقك، وإذا ضاق؛ فاتزر به، ثم صل [1]»، فثبت بهذا الحديث: أن الاشتمال هو المقصود، وأنه هو الذي ينبغي أن يفعل في الثياب التي يصلي فيها، فإذا لم يقدر عليه لضيق الثوب؛ اتزر به.
واحتجنا أن ننظر في حكم الثوب الواسع الذي نستطيع أن نئتزر به ويشتمل، هل يشتمل به أو يئتزر، فكيف يعقل؛ فإذا يونس قد حدثنا قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء»، فنهى عليه السَّلام في حديث أبي الزناد عن الصلاة في الثوب الواحد مئتزرًا به، وقد جاء عنه عليه السَّلام أيضًا: (أنه نهى أن يصلي الرجل في السراويل وحده ليس عليه غيره)، وهذا عندنا على الوجود معه لغيره، وإن كان لا يجد غيره؛ فلا بأس بالصلاة فيه، كما لا بأس بالصلاة في الثوب الصغير متَّزرًا به، فهذا تصحيح معاني هذه الآثار المروية عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم) انتهى.
وزعم الكرماني: (أن النهي في الحديث ظاهره يقتضي التحريم، لكن الإجماع منعقد على جواز تركه؛ إذ المقصود ستر العورة، فبأي وجه حصل؛ جاز).
قال إمام الشَّارحين: (وفيه نظر؛ لأنَّ الإجماع ما انعقد على جواز تركه، فهذا أحمد ابن حنبل: لا يجوز صلاة من قدر على ذلك وتركه، ونقل ابن المنذر عن محمد بن علي: عدم الجواز، ونقل بعضهم: وجوب ذلك عن نص الشافعي، واختاره مع أن المعروف في كتب الشافعية خلافه)، وقال الخطابي: (النهي في الحديث نهي استحباب، وليس على سبيل الإيجاب، فقد ثبت أنه عليه السَّلام صلى في ثوب كان بعض طرفيه على [بعض] نسائه وهي نائمة، ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأنَّ يئتزر به، ويفضل منه ما يكون لعاتقه؛ إذ كان لا بد أن يبقى من الطرف الآخر منه القدر الذي يسترها، ففي حديث جابر الذي يتلو هذا الحديث أيضًا جواز الصلاة من غير شيء على العاتق) انتهى.
قلت: وفي رواية عن أحمد: أنه تصح صلاة من قدر على الثوب ويأثم، فجعله واجبًا مستقلًّا، وعلى ما تقدم؛ جعله شرطًا، وهو المشهور عنه، وزعم ابن حجر أن في كلام الخطابي نظر، ولم يذكر وجهه، ونظره مردود عليه؛ لأنَّه لو كان له وجه؛ لذكره.
والحاصل: أنه لم يوجد إجماع على جواز تركه، وأن النهي في الحديث للندب والاستحباب، وليس على سبيل الوجوب، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (صلي)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
(1/608)
[حديث: من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه]
360# وبالسند إليه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النون: هو الفضل بن دُكين _بضم الدال المهملة_ واسمه عمرو بن حماد، القرشي التيمي الطلحي (قال: حدثنا شَيْبَان)؛ بفتح المعجمة أوله، وسكون التحتية، وفتح الموحدة: هو ابن عبد الرحمن النحوي، المؤدب، البصري، (عن يحيى بن أبي كثير)؛ بالمثلثة، ضد القليل: هو صالح بن المتوكل الطائي، مولاهم العطار، (عن عِكرمة)؛ بكسر العين المهملة، هو المفسر المشهور، مولى ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن (قال)؛ أي: يحيى: (سمعته)؛ أي: سمعت عكرمة_ (أو كنت سألته)؛ بالشك؛ أي: كنت سمعت منه؛ إمَّا بسؤالي أو بغير سؤالي لا أحفظ كيفية الحال_ (قال): ولابن عساكر: (فقال)؛ أي: عكرمة: (سمعت أبا هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (يقول): جملة فعلية محلها نصب إمَّا مفعول ثاني لـ (سمعت)، وإمَّا حال على قولين مشهورين: (أشهد أني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم): ففيه الشهادة والسماع من أبي هريرة، وذلك إشارة إلى حفظه، واستحضاره، وإتقانه، كذا في «عمدة القاري» (يقول): جملة محلها نصب كالأولى: (من صلى في ثوب واحد): وسقط في رواية لفظة: (واحد) (فليخالف بين طرفيه)؛ أي: بين طرفي الثوب، والمخالفة بطرفيه على عاتقيه هو التوشح: وهو الاشتمال على منكبيه، وإنما أمر بذلك؛ ليستر أعلى البدن وموضع الزينة، وفائدة هذه المخالفة ألا يسقط الثوب عنه إذا ركع، وإذا سجد، وهذا الأمر للندب عند الجمهور حتى لو صلى وليس على عاتقه شيء؛ صحت صلاته، ويقال: إنه إذا لم يخالف بين طرفيه؛ ربما يحتاج إلى إمساكه بيده، فيشتغل بذلك، وتفوته سنة وضع اليد اليمنى على اليسرى، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
قلت: وربما أنه إذا لم يخالف بين طرفيه؛ تفسد صلاته؛ لاحتياجه إلى عمل كثير في إمساكه، ورفعه، ووضعه، وغير ذلك، والمقصود ستر العورة في الصلاة، وهذه المخالفة؛ لأجل عدم ذلك كله، وزعم ابن بطال أن هذه المخالفة فائدتها في الثوب ألا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع، انتهى.
قلت: وهذا كلام غير موجه؛ لأنَّ نظر العورة لا يضر المصلي؛ لأنَّ النظر إلى عورة نفسه مباح، وكذا مسها، وليس لذلك تأثير في صحة الصلاة، والأوجه ما قاله
%ص 456%
إمام الشَّارحين، كما لا يخفى، واحتج أحمد ابن حنبل بظاهر هذا الحديث، وشرط الوضع على عاتقه عند القدرة، وفي رواية عنه: (أنه تصح صلاته، ولكنه يأثم بتركه).
قلت: ولا دليل فيه له؛ لأنَّ الأمر فيه للندب عند الجمهور، كما مر.
قال إمام الشَّارحين: (وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن المخالفة بين طرفي الثوب لا يستر إلا بجعل شيء من الثوب على العاتق)، وزعم ابن حجر أنه في بعض طرق هذا الحديث: «فليخالف بين طرفيه على عاتقيه»، وهو عند أحمد من طريق معمر عن يحيى، وعند الإسماعيلي وأبي نعيم من طريق حسين عن شيبان، ثم ادعى أنَّ هذا أولى في مطابقة الترجمة؛ لأنَّ فيه التصريح بالمراد، فالمصنف أشار إليه كعادته)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (دعوى الأولوية غير صحيحة؛ لأنَّ الدلالة على المراد من الطريق الذي للمصنف من نفس الكلام المسوق أولى من الكلام الأجنبي عنه) انتهى.
قلت: بل هو المتعين؛ لأنَّ أخذ الدلالة عند المحققين من فحوى الكلام المسوق لا من كلام خارج عنه؛ لأنَّ ذلك معيب في الصناعة، وعادة المؤلف ليست كما ذكره هذا القائل؛ لأنَّ المراد بعادته: ترتيب أبوابه من ترجمتها وأحاديثها المطابقة لها، فإنه يذكر الباب ويترجم عليه، ثم يسوق الأحاديث المطابقة لما ترجم له، فهذه عادته، وكتابه «الجامع الصحيح» يدل عليه، فقول هذا القائل: (إن المصنف أشار بالترجمة إلى ما رواه أحمد والإسماعيلي وأبو نَعيم): غير صحيح؛ لأنَّ ذلك بعيد، وغير مراد للمؤلف؛ لأنَّه لو كان مرادًا له؛ لذكره في كتابه هذا، وبعيد أن يحيل على خلاف كتابه؛ لأنَّه معيب في الصناعة؛ فليحفظ.
وقال إمام الشَّارحين: وفي هذا الحديث الشك من يحيى بين السماع والسؤال حيث قال أولًا: (سمعته)؛ أي: سمعت عكرمة، ثم قال: (أو كنت سألته)؛ يعني: سمعت منه إمَّا بسؤالي أو بغير سؤالي لا أحفظ كيفية الحال، وأخرجه الإسماعيلي عن مكي بن عبدان، عن حمدان السلمي، عن أبي نعيم بلفظ: (سمعته أو كتب به إلي)، والشك هنا من السماع والكتابة، وقال الإسماعيلي: (لا أعلم أحدًا ذكر فيه سماع يحيى عن عكرمة)، ورواه هشام، وحسين، ومعمر، وزيد بن سنان؛ كلٌّ قال عن عكرمة لم يذكر خبرًا ولا سماعًا، وأخرجه أبو داود من حديث يحيى، عن عكرمة، عن أبي هريرة بالعنعنة من غير شك، ولفظه: «إذا صلى أحدكم في ثوب؛ فليخالف بطرفيه على عاتقيه» انتهى، والله تعالى أعلم.
==================
(1/609)
(6) [باب إذا كان الثوب ضيقًا]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (إذا كان الثوب ضيقًا)؛ أي: كيف يفعل المصلي، والضَّيِّق؛ بفتح الضاد المعجمة، وتشديد المثناة التحتية، ويجوز تخفيفها، وهو صفة مشبهة، واسم الفاعل في هذه المادة: (ضائق) على وزن (فاعل)، والفرق بينهما: أن الصفة المشبهة تدل على الثبوت، واسم الفاعل يدل على الحدوث، كذا في «عمدة القاري».
==========
%ص 457%
==================
(1/610)
[حديث: ما السرى يا جابر؟]
361# وبالسند إليه قال: (حدثنا يحيى بن صالح): هو أبو زكريا الوُحاظي _بضم الواو، وتخفيف الحاء المهملة، وبالظاء المعجمة_ الحمصي، الحافظ الثقة، المتوفى سنة اثنتين [1] وعشرين ومئتين (قال: حدثنا فُلَيْح)؛ بضم الفاء، وفتح اللام، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة، وفليح لقبه، واسمه عبد الملك، وكنيته: أبو يحيى (بن سُلَيْمان) بضم السين المهملة، وفتح اللام، وسكون التحتية، (عن سعِيد) بكسر العين المهملة (بن الحارث)؛ بالثاء المثلثة: هو الأنصاري قاضي المدينة (قال: سألنا جابر بن عبد الله): هو الأنصاري رضي الله عنه، (عن) حكم (الصلاة في الثوب الواحد) كيف يفعل المصلي؟ (فقال) أي: جابر: (خرجت مع النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) من المدينة (في بعض أسفاره)؛ أي: في غزوة بواط، كما عينه مسلم في روايته، وبُواط بضم الموحدة، وتخفيف الواو، بعدها ألف، ثم طاء مهملة، قال الصغاني: (بواط: جبال جهينة في ناحية ذي خشب، بين بواط والمدينة ثلاثة [2] برد أو أكثر)، وقال ابن إسحاق: (جميع ما غزا النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بنفسه الكريمة سبع وعشرون [3] غزوة، غزوة ودان وهي غزوة الأبواء، وغزوة بواط من ناحية رضوى ... )، ثم عد الجميع، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
(فجئت ليلة) أي: إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (لبعض أمري)؛ أي: لأجل بعض حوائجي، والأمر: هو واحد الأمور، لا واحد الأوامر؛ فافهم.
(فوجدته) صلَّى الله عليه وسلَّم (يصلي): جملة محلها نصب على أنه مفعول ثان لـ (وجدت)، ولم تعلم هذه الصلاة، والظاهر: أنها نافلة الليل يدل عليه قوله: (ما السرى)؛ فافهم.
قال جابر: (وعلي ثوب واحد): جملة اسمية في محل النصب على الحال، (فاشتملت به)؛ يعني: خالفت بين طرفي الثوب على عاتقي، وهو التوشح: وهو الاشتمال على المنكبين (وصليت إلى جانبه): وكلمة (إلى) في الأصل: للانتهاء؛ والمعنى: صليت منتهيًا إلى جانب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويجوز أن تكون بمعنى (في)؛ لأنَّ حروف الجر يقوم بعضها مقام البعض، ويجوز أن يقال: فيه تضمين معنى الانضمام؛ أي: صليت منضمًا إلى جانبه عليه السَّلام، كذا في «عمدة القاري».
قلت: يعني: أن جابر صلى مقتديًا بالنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في النافلة ليلًا، وهو جائز من غير كراهة؛ لأنَّه على سبيل التداعي، ولهذا لم ينهه عليه السَّلام عن ذلك، وأقره عليه؛ فافهم.
(فلما انصرف) أي: فرغ النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من الصلاة؛ (قال) عليه السَّلام: (ما السُّرى)؛ بضم السين والقصر؛ أي: ما سبب سيرك ومجيئك إلي في الليل؟ (يا جابر)؛ وإنما سأله عن ذلك؛ لعلمه بأن الداعي له على المجيء بالليل أمر وحاجة ضرورية أكيدة، (فأخبرته بحاجتي) ولم يعلم ذلك الأمر، (فلما فرغت) أي: من بيان حاجتي؛ (قال) عليه السَّلام له: (ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟)؛ هو استفهام إنكاري، وسبب الإنكار: أن الثوب كان ضيقًا، وأنه خالف بين طرفيه، وأنه تواقص؛ أي: انحنى عليه حتى لا يسقط؛ فكأنه عند المخالفة بين طرفي الثوب لم يصر ساترًا للعورة، فانحنى؛ ليستتر، فأعلمه عليه السَّلام بأن محل ذلك ما إذا كان الثوب واسعًا، وأمَّا إذا كان ضيقًا؛ فإنه يجزئه أن يئتزر به؛ لأنَّ المقصود هو ستر العورة، وهو يحصل بالائتزار، ولا يحتاج إلى الانحناء المغاير للاعتدال المأمور به، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وقد بيَّن مسلم في روايته سبب الإنكار؛ حيث أخرج هذا الحديث من حديث عبادة عن جابر مطولًا، وفيه: «إذا كان واسعًا؛ فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقًا؛ فاشدده على حقوك»، وأخرجه أبو داود كذلك، وحَِقوك؛ بفتح الحاء المهملة وكسرها: الإزار، والأصل فيه: معقد
%ص 457%
الإزار، ثم سمي به الإزار؛ للمجاورة، وجمعه أحق وأحقاء، انتهى.
وقال الخطابي: (الاشتمال الذي أنكره عليه السَّلام إنَّما هو اشتمال الصماء، وهو أن يخلل نفسه بثوبه ولا يرفع شيئًا من جوانبه، ولا يمكنه إخراج يديه إلا من أسفله، فيخاف أن تبدو عورته عند ذلك) انتهى.
قلت: وهو عادة أهل المغرب الذي قال في حقهم: الفصحاء الشح في الغرب، ويتبعه سوء الخلق، ولهذا قيل: حرك؛ ترَ [4]، قال: من غير تحريك.
(قلت) أي: قال جابر: قلت: (كان) أي: الذي اشتملت به (ثوبًا) واحدًا، فيكون انتصاب (ثوبًا) على أنه خبر (كان)، وفي رواية الإسماعيلي: (كان ثوبًا ضيقًا)؛ وفي رواية أبي ذر وكريمة: (كان ثوب)؛ بالرفع، ووجهه: أن تكون (كان) تامة بمعنى: وجد، فلا تحتاج إلى الخبر، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر، والزركشي، والبرماوي، واعترضه الدماميني، فزعم أن الاقتصار على ذلك لا يظهر، وأي معنًى لإخباره بوجود ثوب في الجملة؟ فينبغي أن يقدر ما يناسب المقام) انتهى.
قلت: وهذا ممنوع؛ لأنَّ الاقتصار على ذلك ظاهر غاية الظهور، ومعنى (إخباره بوجود ثوب): أنه ليس عنده غير هذا الثوب الموجود الذي رأيتني أصلي فيه.
فقوله: (وأي معنًى ... ) إلخ: ممنوع؛ لأنَّ معناه ما ذكرناه، ويدل على ما قلناه قوله عليه السَّلام له: «فإن كان واسعًا ... » إلى آخره: وهو بيان حكم الصلاة في الثوب، وكأنه عليه السَّلام من رحمته لم ينكر عليه لباس الثوب الضيق؛ لإخباره له بأنه لم يوجد عنده غيره، ويدل على أن الثوب كان ضيقًا ما صرح به في رواية الإسماعيلي: (كان ثوبًا ضيقًا).
وقوله: (فينبغي أن يقدر ... ) إلخ: لا حاجة إلى ذلك، والمعنى المذكور هنا صحيح، وهو مناسب للمقام، فلا حاجة إلى تقدير آخر؛ فتأمل.
(قال) عليه السَّلام: (فإن كان)؛ أي: الثوب، والفاء تفصيحية؛ تقديره: إذا أردت معرفة بيان الثوب الضيق والثوب الواسع، فإن كان الثوب الذي يريد المصلي الصلاة به (واسعًا) بحيث يشتمل على المنكبين؛ (فالتحف)؛ أي: تغطَّ [5] وارتد (به)؛ أي: بأن يخالف بين طرفي الثوب حيث يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره، وزعم القسطلاني أن الملتحف المُؤتز بطرف المرتدي بالطرف الآخر منه.
قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّ الملتحف: المتوشح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو الاشتمال على منكبيه، كذا فسره محمد بن مسلم الزهري، كما تقدم؛ فافهم.
(وإن كان) أي: الثوب المذكور (ضيقًا)؛ أي: لا يمكن به الاشتمال؛ (فائتزر به): وهو أمر بالائتزار، وهو أن يجعل الثوب وزرة؛ كالفوطة، قال إمام الشَّارحين: (وأصل هذه المادة: أن الفعل «أزر» على ثلاثة أحرف، فلما نقل إلى باب الافتعال؛ صار «ائتزر» على وزن «افتعل» بهمزتين أولاهما مكسورة، وهي همزة الافتعال، والأخرى ساكنة، وهي همزة الفعل، ثم يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن تقلب الهمزة ياء آخر الحروف، فيقال: ايتزر، والآخر: أن تقلب تاء مثناة من فوق، وتدغم التاء في التاء، وهذا معنى قول الكرماني: «بإدغام الهمزة المقلوبة تاء في التاء»، ولفظ الحديث على الوجه الأول) انتهى، والله أعلم.
وقال ابن بطال: (حديث جابر هذا تفسير لحديث أبي هريرة الذي في الباب المتقدم، وهو «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» في أنه أراد: الثوب الواسع الذي يمكن أن يشتمله، وأمَّا إذا كان ضيقًا، ولم يمكنه أن يشتمل به؛ فليئتزر به)، وقال الكرماني: (فإن قيل: الحديث السابق فيه نهي عن الصلاة في الثوب الواحد مؤتزرًا به، وظاهره: أنه يعارض قوله: «وإن كان ضيقًا؛ فائتزر به»)، وأجاب الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (بأن النهي عنه للواجد معه لغيره، وأما من لم يجد غيره؛ فلا بأس بالصلاة فيه، كما لا بأس بالصلاة في الثوب الضيق مؤتزرًا به) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (ويستنبط من الحديث: جواز طلب الحوائج بالليل من السلطان؛ لخلاء موضعه وسره، وجواز مجيء الرجل إلى غيره بالليل؛ لحاجته، ومن ذلك: أن الثوب إذا كان واسعًا؛ يخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقًا؛ يئتزر به) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (اثنين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ثلاث)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (سبعًا وعشرين)، والمثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ترى)، ولعل المثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (تغطى)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (اثنين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ثلاث)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (سبعًا وعشرين)، والمثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ترى)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (اثنين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (ثلاث)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (سبعًا وعشرين)، والمثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ترى)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/611)
[حديث: كان رجال يصلون مع النبي عاقدي أزرهم على أعناقهم]
362# وبالسند إليه قال: (حدثنا مُسدد)؛ بضم الميم: هو ابن مسرهد (قال: حدثنا يحيى): هو ابن سعيد القطان، (عن سفيان): هو الثوري، وزعم الكرماني أنه يحتمل أن يكون سفيان بن عيينة؛ لأنَّهما يرويان عن أبي حازم، ورده إمام الشَّارحين فقال: (نص المزي في «الأطراف»: أنه سفيان الثوري) انتهى.
قلت: ولا يلزم من كونهما يرويان عن أبي حازم أن يكون ابن عيينة، فاحتمال الكرماني غير صحيح؛ فافهم.
(قال: حدثني)؛ بالإفراد، ولأبوي ذر والوقت: (حدثنا) (أبو حازم)؛ بالحاء المهملة والزاي: هو سَلَمَة _بفتحات_ ابن دينار الأعرج، الزاهد، المدني، (عن سهل): زاد الأصيلي: (ابن سعد): هو أبو العباس، الساعدي الأنصاري الخزرجي (قال) أي: سهل: (كان رجال)؛ أي: الصحابة، زعم الكرماني أن التنكير فيه؛ للتنويع، وهو يقتضي أن بعضهم كان يخالف ذلك، وهو كذلك، ورده إمام الشَّارحين فقال: (ما في رواية أبي داود المذكورة يرد ما ذكره؛ لأنَّ في روايته: «رأيت الرجال»؛ بالتعريف) انتهى.
قلت: والمقام يقتضي أن جميع الرجال؛ أي: الصحابة لا يخالف بعضهم بعضًا؛ لأنَّهم أشد الاتباع له عليه السَّلام لا سيما في الصلاة معه بالجماعة، فإنه لم ينقل تخلف بعضهم عنها، حتى قال بعض علمائنا: (إن الجماعة واجبة)، وقال أحمد: (إنها فرض)؛ فافهم.
(يصلون مع النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: الصلوات الخمس، وجملة: (يصلون) خبر (كان) (عاقدي أُزْرهم)؛ بضم الهمزة، وسكون الزاي، جمع إزار: وهو الملحفة، والجمع آزرة وأزر، وهو يذكر ويؤنث، وسمي به؛ لأنَّه يشد به الظهر، وأصل (عاقدي): عاقدين، فلما أضيف؛ سقطت النون منه، والجملة محلها نصب على الحال، ويجوز أن يكون انتصابها على أنها خبر (كان)، ويكون قوله: (يصلون) في محل النصب على الحال؛ فافهم.
(على أعناقهم): جمع عنق؛ وهو موضع الرداء من المنكب، يذكر ويؤنث، (كهيئة الصبيان): وفي رواية «أبي داود»: (كأمثال الصبيان)، والمعنى قريب.
قال إمام الشَّارحين رحمه الله تعالى: ذكر البخاري هذا الحديث في أول (باب عقد الإزار على القفا) معلقًا؛ حيث قال: (وقال أبو حازم عن سهل: صلوا مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عاقدي أزرهم على عواتقهم)، وأخرجه هنا مسندًا، كما رأيت، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، ولفظ أبي داود: عن سهل بن سعد قال: (رأيت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الصلاة كأمثال الصبيان، فقال قائل: يا معشر النساء؛ لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال) انتهى، ثم قال:
%ص 458%
(وفي الحديث: أن الثوب إذا كان يمكن الالتحاف به؛ كان أولى من الائتزار به؛ لأنَّه أبلغ في الستر) انتهى.
(وقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية أبي داود: (فقال قائل)، وهذا القائل أعم من أن يكون النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أو غيره بأمره، ويؤيده رواية الكشميهني: (ويقال)، وفي رواية النسائي: (فقيل)، وروى أبو داود ثم البيهقي من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول للنساء: «من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم؛ كراهية أن يرين عورات الرجال»، وهذا فيه التصريح بأن القائل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كذا قاله إمام الشَّارحين الشيخ بدر الدين العيني رضي الله عنه، وزعم ابن حجر أن الذي يغلب على الظن أن القائل: بلال، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، فأين غلبة ظنه مع تصريح السيدة أسماء الصديقة بسماعها قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للنساء؟! وما هذا إلا خبط وتخبيط، وكأنه لم يطلع على ما ذكره إمام الشَّارحين حتى قال ما قال: ومن الذي يجسر بحضرة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأمر بأمر أو ينهى بنهي؟! وقول من قال: إنه أمر بأمر النبيِّ عليه السَّلام له؛ دعوى بلا دليل، فإنه إذا لم يثبت القائل؛ فكيف يدِّعي الأمر له، وما هذا إلا خلط عظيم، والحق ما قاله إمام الشَّارحين، والحق أحق أن يتبع.
(للنساء)؛ أي: نساء الصحابة اللاتي يصلين وراء الرجال مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (لا ترفعن رؤوسكن) أي: من السجود (حتى يستوي الرجال جلوسًا): جمع جالس؛ كالركوع جمع راكع، أو مصدر بمعنى: جالسين، وعلى كل حال فانتصابه على الحال، وإنما نهى النساء عن ذلك؛ لئلا يلمحن عند رفعهنَّ من السجود شيئًا من عورات الرجال، كما وقع التصريح فيه في حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق المروي عند أبي داود، كما تقدم، وكذا عند أحمد بلفظ: «فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم؛ كراهة أن يرين عورات الرجال».
وفي الحديث: دليل على أن المصلي إذا خشي ارتكاب محذور بفعل الواجب؛ يتركه؛ لأنَّ متابعة الإمام في الأركان واجبة، فنهى عنها عليه السَّلام لما يترتب عليها من المفسدة؛ لأنَّ درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهذه قاعدة من قواعد الأئمة الحنفية رضي الله عنهم، وفي الحديث أيضًا: أنه لا يجب الستر من أسفل عند السجود بخلاف الأعلى، وفيه أيضًا: أنه إذا الرجل نظر عورة المصلي؛ لا يفسد صلاته، وفيه: أن النساء يصلين خلف الرجال، ويدل عليه قوله عليه السَّلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله ... »؛ الحديث، وفيه: أن النساء لا يصلين وحدهن بالجماعة؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يأمرهن بذلك، فإن فعلن؛ كره تحريمًا، وتقف الإمام وسطهن، وفيه: أن النساء تخرج لصلاة الجماعة في المسجد، وفيه خلاف؛ فبعضهم قال: يخرجن في صلاة الفجر وصلاة العشاءين؛ لأنَّ الفسقة في الأولى: نائمون، وفي الثانية: آكلون، وبعضهم قال: لا يخرجن مطلقًا؛ لفساد الزمان، وهذا هو المتعين؛ لما يشاهد من الفساد، وعليه الجمهور، والله تعالى أعلم.
==================
(1/612)
(7) [باب الصلاة في الجبة الشأمية]
هذا (باب): بيان حكم (الصلاة): فرضها وواجبها ونفلها (في الجُبَّة)؛ بضم الجيم، وتشديد الموحدة: هي التي تلبس فوق الثياب، وجمعها جبات (الشامية): نسبة إلى الشام، ويجوز فيه الألف والهمزة الساكنة، وهو الإقليم المعروف، دار الأنبياء ومقرهم ومرقدهم عليهم السلام، وفيه الصحابة والتابعون والأولياء والأبدال رضي الله عنهم، وقد ألف في فضله التآليف العديدة، ووردت فيه الأحاديث الشهيرة، فطوبى لمن سكن فيه؛ لأنَّ الله تعالى قد تكفل فيه، والمراد بـ (الجبة الشامية): هي التي ينسجها الكفار، وإنما ذكره بلفظ (الشامية)؛ مراعاة للفظ الحديث، وكان هذا في غزوة تبوك، والشام إذ ذاك كانت دار كفر، ولم تفتح بعد، وإنما أولنا بهذا؛ لأنَّ الباب معقود لجواز الصلاة في الثياب التي تنسجها الكفار ما لم تتحقق نجاستها، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(وقال الحسن): هو البصري، التابعي، المشهور، مما وصله أبو نعيم بن حماد، عن معتمر، عن هشام، عن الحسن قال: (في الثياب)؛ بالتعريف، وفي رواية: (في ثياب)؛ بالتنكير؛ أي: التي (ينسُِجها): من باب (ضرب يضرِب)، ومن باب (نصر ينصُر)، وقال ابن التين: (قرأناه بكسر السين المهملة)، كذا في «عمدة القاري»، فالسين في الأول: مكسورة، وفي الثاني: مضمومة، والضم هو الذي في «الفرع»؛ فتأمل.
(المجوس): جمع المجوسي، وهو معرفة، سواء كان محلًّى بالألف واللام أم لا، والأكثر على أنه يجري مجرى القبيلة لا مجرى الحي في باب (الصرف)، وفي رواية الكشميهني والحموي: (المجوسي)؛ بالياء بلفظ المفرد، والمراد: الجنس، ولغيرهما: (المجوس)؛ بصيغة الجمع، والجملة صفة لـ (الثياب) في المسافة بين النكرة والمعرفة بلام الجنس قصيرة، فلذلك وصفت المعرفة بالنكرة؛ كما وصف اللئيم بقوله: (يسبُّني) في قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبُّني ... ...
كذا في «عمدة القاري»؛ يعني: لأنَّ الجملة وإن كانت نكرة؛ لكن المعرفة بلام الجنس كالنكرة، ومنه قول الشاعر المذكور.
(لم ير): على صيغة المعلوم؛ أي: لم ير (الحسن): فيكون من باب التجريد، كأنه جرد من نفسه شخصًا، فأسند إليه، كذا في «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أن (لم يُرَ) بصيغة المجهول؛ أي: القوم، انتهى.
قلت: وهو بعيد؛ لأنَّ الحسن مجتهد تابعي، كالإمام الأعظم، فلا يذكر كلام غيره، بل يذكر الحكم الذي ثبت عنده، كما لا يخفى، فصيغة المعلوم أظهر وأوضح؛ فافهم.
(بأسًا)؛ أي: حرجًا في لبسها قبل أن تغسل؛ لأنَّ الأصل الطهارة، والأصل: بقاء ما كان على ما كان ما لم يعلم نجاستها يقينًا، ولفظ الحسن على ما رواه أبو نعيم بن حماد: (لا بأس بالصلاة في الثوب الذي ينسجه المجوسي قبل أن يغسل)، وروى أبو نعيم الفضل بن دكين في كتاب (الصلاة) تأليفه عن الربيع، عن الحسن قال: (لا بأس بالصلاة في رداء اليهودي والنصراني) انتهى.
قلت: وهذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور؛ لأنَّ الثياب على أصل الطهارة ما لم تتحقق نجاستها، فتجوز الصلاة بها وإن لم تغسل، ولا فرق بين أن ينسجها أو يلبسها المجوس واليهود والنصارى؛ فليحفظ، وبهذا قال الشافعي، وكره ذلك ابن سيرين، كما رواه ابن أبي شيبة.
قلت: وكأن [الحكم] الكراهة؛ لأنَّ هؤلاء لا يحترزون عن النجاسات، لكن نجاستها موهومة، والأحكام لا تبنى على الوهم، فتبقى الكراهة؛ فتأمل.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرة، وذكر الأثرين الأخيرين استطرادًا)، انتهى.
يعني: ليس فيهما
%ص 459%
مطابقة للترجمة، فقال: (وقال مَعْمَر)؛ بفتح الميمين، بينهما عين مهملة ساكنة: هو ابن راشد، كما وصله عبد الرزاق في «مصنفه» عنه: (رأيت الزهري): هو محمد بن مسلم ابن شهاب، (يلبس): في الصلاة (من ثياب اليَمَن)؛ بفتح التحتية والميم، وهو الإقليم المعروف (ما صُبغ بالبول)؛ بضم الصاد المهملة، إن كان المراد منه جنس البول؛ فهو محمول على أنه يغسله قبل لبسه، وإن كان المراد منه البول المعهود وهو بول ما يؤكل لحمه؛ فهو طاهر عند الزهري، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه الشراح.
قلت: والظاهر: أن مراده الأول، وهو الجنس، وصباغ اليمن الأصفر والترابي، فإنه إذا صبغ بالبول وتلون، ثم غسل بعد ذلك، ولم يذهب لونه؛ فهو طاهر تصح الصلاة معه، وهذا معنى كلام معمر عن الزهري.
(وصلى علي): زاد الأصيلي: (ابن أبي طالب رضي الله عنه) مما رواه ابن سعد (في ثوب غير مقصور)؛ أي: غير مغسول، وهو ما كان على أصل نسجه، أراد به: الخام، والمراد: أنه كان جديدًا لم يغسل، فصلى به قبل أن يغسله، وقال ابن التين: (غير المقصور؛ أي: غير المدقوق)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (القصر: ليس مجرد الدق، والدق لا يكون إلا بعد الغسل الذي يبالغ فيه) انتهى.
قلت: فغير المقصور هو الخام الذي على أصل نسجه، والمقصور هو المغسول، والدق بعده، وقال الداودي: (أي: لم يلبس بعد).
قلت: يعني: بأن كان جديدًا.
وقال إمام الشَّارحين: (روى ابن سعد من طريق عطاء بن محمد قال: رأيت عليًّا رضي الله عنه صلى وعليه قميص كرابيس غير مغسول، فعلم من هذه الآثار الثلاثة: جواز لبس الثياب التي ينسجها الكفار، وجواز لبس الثياب التي تصبغ بالبول بعد الغسل، وجواز لبس الثياب الخام قبل الغسل) انتهى.
وقال ابن بطال: (واختلفوا في الصلاة في ثياب الكفار، وأجاز الكوفيون والشافعي لباسها وإن لم تغسل حتى يتبين فيها النجاسة، وقال مالك: يستحب ألا يصلي علىها إلا من حر أو برد أو نجاسة بالموضع، وقال أيضًا: تكره الصلاة في الثياب التي ينسجها المشركون وفيما لبسوه، فإن فعل؛ يعيد في الوقت، وقال إسحاق: جميع ثيابهم طاهرة) انتهى.
قلت: وذكر صاحب «المنية»: (أنه لو أدخل يده في الدهن النجس، أو اختضبت المرأة بالحناء النجس، أو صبغ الثوب بالصبغ النجس، ثم غسل كلًّاثلاثًا؛ طهر)، وقال صاحب «المحيط» في الثوب المصبوغ: (إنما يطهر إن غسله حتى يصفو الماء، ويسيل أبيض) انتهى.
لكن صرح الإمام الجليل قاضيخان في «الخانية»: (بأن الثوب المصبوغ بالصبغ النجس إذا غسل ثلاثًا؛ يطهر؛ كالمرأة إذا اختضبت بحناء نجس) انتهى.
لكن ذكر في موضع آخر مسألة الحناء وقال: (وينبغي ألا يطهر ما دام يخرج الماء ملونًا بلون الحناء، فعلم من هذا اشتراط صفو الماء المتقاطر).
وذكر سيدي الإمام العارف عبد الغني النابلسي: (أن مسألة الحناء أو الصبغ أو غمس اليد في الدهن النجس مبنية على أحد قولين: إمَّا على أنَّ الأثر الذي يشق زواله لا يضر بقاؤه، وإمَّا على ما روي عن الإمام أبي يوسف من أن الدهن يطهر بالغسل ثلاثًا، وعليه الفتوى)، كما في «شرح المنية»، فمن بنى على الأول؛ اشترط في هذه المسائل صفو الماء؛ لكون اللون الباقي أثر شق زواله، فعفي عنه، ومن بنى على الثاني؛ اكتفى بالغسل ثلاثًا؛ لأنَّ الحناء والصبغ والدهن المتنجسان تصير طاهرة بالغسل ثلاثًا، فلا يشترط بعد ذلك خروج الماء صافيًا) انتهى.
قلت: لكن الأحوط القول الأول، ولهذا قال ابن أمير حاج: (والأشبه القول الأول، فليكن التعويل عليه في الفتوى) انتهى.
وقال سيدي العارف: (وهذا بخلاف المصبوغ بالدم؛ كالثياب الحمر التي تجلب في زماننا من ديار بكر، فلا تطهر أبدًا ما لم يخرج الماء صافيًا، ويعفى عن اللون، ومن ذلك المصبوغ بالدودة، فإنها ميتة يتجمد فيها الدم النجس ما لم تكن من دود يتولد في الماء، فتكون طاهرة، لكن بيعها باطل، ولا يضمن متلفها، ولا يملك ثمنها بالقبض؛ لأنَّ الميتة ليست بمال) انتهى.
قلت: يعني: أن المصبوغ بالدم، وكذلك المصبوغ بالبول _كما سبق_ يشترط في طهارته صفو الماء قولًا واحدًا اتفاقًا، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب.
==================
(1/613)
[حديث: يا مغيرة خذ الإداوة]
363# وبالسند إليه قال: (حدثنا يحيى): هو ابن موسى، أبو زكريا البلخي المعروف بخَتٍّ_بفتح الخاء المعجمة، وتشديد المثناة الفوقية_ كذا جزم به إمام الشَّارحين، وزعم الكرماني أنه يحتمل أن يكون ابن جعفر أبو زكريا البيكندي، ويحتمل أن يكون يحيى بن معين؛ لأنَّه يروي عن أبي معاوية، انتهى.
قلت: وهو ممنوع، فلا نسلم واحدًا منهما، وقد جزم القسطلاني تبعًا لإمام الشَّارحين: (أنه البلخي)؛ فليحفظ.
(قال: حدثنا أبو معاوية): هو محمد بن خازم _بالخاء والزاي المعجمتين_ الكوفي، الضرير، وزعم الكرماني أنه يحتمل أن يراد به أبو معاوية شيبان النحوي.
قلت: وهو ممنوع، ولا نسلم ذلك، وقد جزم إمام الشَّارحين وتبعه ابن حجر والقسطلاني: بأنه الأول؛ فليحفظ.
(عن الأعمش): هو سليمان بن مهران، الكوفي الأسدي، (عن مسلم): هو ابن صُبَيْح _بضم الصاد المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية_ أبو الضحى، العطاردي، وزعم الكرماني أنه يحتمل أن يراد به مسلم بن عمران البطين.
قلت: وهو ممنوع، ولا نسلم ذلك، وقد جزم إمام الشَّارحين وتبعه ابن حجر والقسطلاني: أنه الأول؛ فليحفظ.
وفي «عمدة القاري»: (وأمثال هذه الترددات لا تقدح في صحة الحديث ولا في إسناده؛ لأنَّ أيًّا كان منهم؛ فهو عدل ضابط بشرط البخاري بدليل أنه قد روى عن كل منهم)، وزعم ابن حجر أن يحيى لم يرو عن شيبان، ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: هذا نفي لا يعارض الإثبات) انتهى؛ فافهم.
(عن مسروق): هو ابن الأجدع الهمداني، وسمي به؛ لأنَّه سرقه سارق في صغره، (عن مغيرة بن شعبة): هو ابن مسعود الثقفي الكوفي الصحابي، أمير الكوفة رضي الله عنه (قال: كنت مع النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم في سفر)؛ أي: غزوة تبوك، وكانت في رجب سنة تسع، (فقال) ولأبي ذر: (قال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (يا مغيرة؛ خذ الإِداوة)؛ بكسر الهمزة؛ أي: المطهرة، والجمع أداوَى، (فأخذتها): وفيها الماء، كما عند المؤلف في (المسح على الخفين) (فانطلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى توارى)؛ أي: غاب وخفي (عني): فلم أره (فقضى)؛ بالفاء، وللأصيلي: (وقضى) (حاجته) الضرورية (وعليه جُبَّة)؛ بضم الجيم، وتشديد الموحدة: ما تلبس فوق الثياب (شامية): منسوبة إلى الشام؛ يعني: من نسج الكفار القاطنين وقتئذٍ بالشام؛ لأنَّها كانت وقتئذٍ دار كفر، فأنقذها الله
%ص 460%
تعالى، وصارت دار إسلام، وتبقى إن شاء الله إلى أن ينزل عيسى من منارتها عليه السَّلام، (فذهب) عليه السَّلام (ليخرج يده من كمها)؛ أي: كم الجبة، (فضاقت)؛ أي: الجبة؛ لأنَّ الثياب الشامية كانت حينئذٍ ضيقة الأكمام، (فأخرج) عليه السَّلام (يده من أسفلها) وألقى الجبة على منكبيه، كما في رواية مسلم، وأمر المغيرة بصب الماء، قال المغيرة: (فصببت عليه)؛ أي: الماء حين فرغ من حاجته، كما عند المؤلف، (فتوضأ وضوءه للصلاة)؛ يعني: فغسل وجهه ويديه، كذا عند المؤلف في باب (الرجل يوضئ صاحبه)، وله في (الجهاد): (أنه تمضمض واستنشق وغسل وجهه)، زاد أحمد ابن حنبل: (ثلاث مرات)، وعنده: (فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات)، وللمصنف: (ومسح برأسه) (ومسح على خفيه) والسنة: أن يمسح من مقدم الخفين إلى أصل الساق مرة، ويفرج بين أصابعه، ولا يسن تكراره، ولا يستحب مسح أسفله، (ثم صلى)؛ أي: صلاة الفجر؛ كما في «موطأ مالك»، و «مسند أحمد»، و «سنن أبي داود» من طريق عباد بن زياد عن عروة بن المغيرة.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وفيه: جواز أمر الرئيس غيره بالخدمة، وفيه: وجوب التستر عن أعين الناس عند قضاء الحاجة، وفيه: جواز الاستعانة على الوضوء، وفيه: استحباب استحضار الماء للوضوء، وفيه: المسح على الخفين، وقد سبق الكلام فيه مستوفًى في باب (المسح على الخفين)، والله تعالى أعلم، اللهم؛ أحسن عاقبتنا بالأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا أرحم الراحمين.
==================
(1/614)
(8) [باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها]
هذا (باب): بيان (كراهية التعرِّي): من الثياب (في) نفس (الصلاة): فرضها وواجبها ونفلها، وقوله: (وغيرها): ثابت في رواية الكشميهني والحموي، ساقط في غيرهما؛ يعني: في غير الصلاة.
==========
%ص 461%
==================
(1/615)
[حديث جابر: أن رسول الله كان ينقل معهم الحجارة للكعبة]
364# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مَطَر) بفتح الميم، والطاء المهملة، آخره راء (بن الفضل): هو المروزي (قال: حدثنا رَوْح)؛ بفتح الراء، وسكون الواو، آخره حاء مهملة: هو ابن عبادة التنيسي (قال: حدثنا زكريا بن إسحاق): هو المكي (قال: حدثنا عَمرو بن دينار)؛ بفتح العين المهملة: هو الجُمَحي؛ بضم الجيم، وفتح الميم، وبالحاء المهملة (قال: سمعت جابر بن عبد الله): هو الأنصاري (يحدث): جملة محلها النصب إمَّا مفعول ثان [1] لـ (سمعت)، وإمَّا حال على القولين المشهورين: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان ينقل معهم الحجارة) أي: مع قريش (للكعبة)؛ أي: لبناء الكعبة، وقال الزهري: (لما بنَت قريش الكعبة؛ لم يبلغ النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الحلم)، وقال ابنا بطال والتين: (كان عمره خمس عشرة سنة)، وقال هشام: (كان بين بناء الكعبة والمبعث خمس سنين، وقيل: إن بناء الكعبة كان في سنة ستٍّ وثلاثين من مولده عليه السَّلام)، وذكر البيهقي: (أن بناء الكعبة قبل تزويجه عليه السَّلام خديجة رضي الله عنها، والمشهور: أن بناء قريش الكعبة كان بعد تزويجه خديجة بعشر سنين، فيكون عمره عليه السَّلام إذ ذاك خمسًا [2] وثلاثين سنة، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق)، وقال موسى بن عقبة: (كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة هكذا قاله مجاهد وغيره)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(وعليه إزاره)؛ بالضمير، وفي رواية ابن عساكر: (وعليه إزار)؛ بغير الضمير، والجملة حالية بالواو، وفي بعض الأصول: بغير واو، (فقال له العباس عمه)؛ بالرفع؛ لأنَّه عطف بيان: (يا ابن أخي؛ لو حللت إزارك): جواب (لو) محذوف إن كانت شرطية؛ وتقديره: لو حللت إزارك؛ لكان أسهل عليك، ويجوز أن تكون (لو) للتمني، فلا تحتاج إلى جواب حينئذٍ، كذا في «عمدة القاري».
(فجعلت) وفي رواية الكشميهني: (فجعلته)؛ بالضمير؛ أي: الإزار (على منكِبيك)؛ تثنية منكِب؛ بكسر الكاف: موضع الرداء (دون الحجارة)؛ أي: تحتها، (قال)؛ أي: جابر أو من حدثه: (فحله)؛ أي: حل عليه السَّلام الإزار عنه (فجعله على منكبيه) كما قال له عمه العباس، (فسقط)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حال كونه (مَغْشيًّا)؛ بفتح الميم، وسكون الغين المعجمة؛ أي: مغمًى (عليه)؛ أي: لانكشاف عورته؛ لأنَّه عليه السَّلام كان مجبولًا على أحسن الأخلاق والحياء الكامل، حتى كان أشد حياء من العذراء في خدرها، فلذلك غشي عليه، وفي رواية الطبراني: فقام وأخذ إزاره، وقال: «نهيت أن أمشي عريانًا»، وفي رواية غير «الصحيحين»: (أن الملَك نزل عليه، فشد عليه إزاره)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ويجمع بينهما: بأنه قام وأخذ إزاره عليه السَّلام، والملَك شدَّه عليه، وقال له: لا تمشِ عريانًا؛ فتأمل.
(فما رُئِيَ)؛ بضم الراء، بعدها همزة مكسورة، فمثناة تحتية مفتوحة، ويجوز كسر الراء، وسكون التحتية، وفتح الهمزة (بعد ذلك) أي: بعد هذه القصة (عريانًا)؛ بالنصب على أنه مفعول ثان [3] لـ (رئي)، ويجوز نصبه على الحال، وفي رواية الإسماعيلي: (فلم يتعرَّ بعد ذلك) (صلَّى الله عليه وسلَّم) ففيه: أنه عليه السَّلام كان في صغره محميًّا عن القبائح وأخلاق الجاهلية، منزهًا عن الرذائل والمعايب قبل النبوة وبعدها، وفي «سيرة ابن إسحاق»: (أنه عليه السَّلام كان يحدث عما كان الله يحفظه في صغره أنه قال: «لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره، وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر؛ إذ لكمني لاكم ما أراه إلا لكمة وجيعة، ثم قال: شدَّ عليك إزارك، فأخذته، فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي»)، فظاهره: أنه يخالف ما في الباب، وأجاب السهيلي فقال: (وحديث ابن إسحاق هذا إن صح؛ فهو محمول على أنَّ هذا الأمر كان مرتين في حال صغره، وعند بنيان الكعبة)، كذا في «عمدة القاري».
وزعم القسطلاني أنه إن ثبت؛ حمل النفي فيه على التعرِّي لغير ضرورة عادية، وما في الباب على الضرورة العادية، والنفي فيها على الإطلاق، أو يتقيد بالضرورة الشرعية؛ كحالة النوم مع الزوجة أحيانًا) انتهى.
قلت: وما أجاب به السهيلي أظهر؛ لأنَّ قوله: (حمل النفي ... ) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّ الضرورة العادية فيه موجودة، ألا ترى إلى قوله عليه السَّلام: «لقد رأيتني في غلمان قريش ... » إلى آخره، وما هذا إلا ضرورة عادية، وهي موافقة الغلمان.
وقوله: (وما في الباب على الضرورة العادية): ممنوع أيضًا، فإنه كان لا يفعل ذلك، ويعتذر لعمه العباس، فلا ضرورة فيه أيضًا.
وقوله: (والنفي فيها ... ) إلى آخره: هذا مسلَّم؛ لأنَّ ما ذكره ابن إسحاق كان أسبق من هذه القصة، فالنفي الذي في الباب على الإطلاق، ويحتمل تقييده بالضرورة الشرعية كحالة النوم مع الزوجة أحيانًا، كما ذكره، وكحالة الاغتسال، وحلق العانة، وغيرها؛ فليحفظ.
وقال إمام الشَّارحين: ومطابقة الحديث للترجمة من حيث عموم قوله: (فما رئي بعد ذلك)؛ لأنَّ ذلك يتناول ما بعد النبوة كما يتناول ما قبلها، ثم هو بعمومه يتناول حالة الصلاة وغيرها)، ثم قال: (وهذا الحديث من مراسيل الصحابة رضي الله عنهم، فإن جابرًا لم يحضر هذه القصة؛ لأنَّها كانت قبل البعثة، فإمَّا أن يكون قد سمع ذلك من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعد ذلك، أو من بعض من حضر ذلك من الصحابة
%ص 461%
رضي الله عنهم، والأقرب: أنه سمعه من العباس رضي الله عنه؛ لأنَّه حدث به عنه أيضًا، وسياقه أتم، وقد اتفقوا على الاحتجاج بمرسل الصحابي إلا ما شذ؛ كأبي إسحاق الإسفرايني، لكن في السياق ما يدل على أخذ ذلك من العباس، فلا يكون مرسلًا لا سيما وهو الأقرب)، كما قاله إمامنا الشَّارح رحمه الله تعالى.
وفي «عمدة القاري»: وفي الحديث: أنه لا يجوز التعرِّي للمرء بحيث تبدو عورته لعين الناظر إليها، والمشي عريانًا بحيث لا يأمن أعين الآدميين إلا ما رخص فيه من رؤية الحلائل لأزواجهن عراة، قالوا: وقد دل حديث العباس المذكور: أنه لا يجوز التعرِّي في الخلوة ولا لأعين الناس، وقيل: إنَّما مخرج القول منه للحال التي كان عليها؛ فحيث كانت قريش رجالها ونساؤها تنقل معه الحجارة، فقال: «نهيت أن أمشي عريانًا»، وفي مثل هذه الحالة لو كان ذلك نهيًا عن التعرِّي في كل مكان؛ لكان قد نهاه عنه في غسل الجنابة في الموضع الذي قد أمن أن يراه فيه أحد، ولكنه نهاه عن التعري بحيث يراه فيه أحد، والقعود بحيث يراه من لا يحل له أن يرى عورته في معنى المشي عريانًا، ولذلك نهى الشَّارع عن دخول الحمام بغير إزار.
فإن قلت: روى القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا: «لو أستطيع أن أواري عورتي من شعاري؛ لواريتها»، وقال علي رضي الله تعالى عنه: (إذا كشف الرجل عورته؛ أعرض عنه الملَك)، وقال أبو موسى الأشعري: (إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي؛ حياءً من ربي).
قلت: كل ذلك محمول على الاستحباب والندب لاستعمال الستر لا على الحرمة؛ لعدم ما يدل عليها، وفي «التوضيح»: (إذا أوجبنا الستر في الخلوة؛ فهل يجوز أن ينزل في ماء النهر والعين بغير مئزر؟ وجهان؛ أحدهما: لا؛ للنهي عنه، والثاني: نعم؛ لأنَّ الماء يقوم مقام المئزر في ستر العورة) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: والمعتمد: القول الثاني؛ لأنَّ المقصود ستر العورة، وهو بأي شيء حصل؛ كفى، فالماء الذي في مغاطس الحمامين يقوم مقام المئزر، فإذا دخله بغير مئزر كما هو العادة في ديارنا الشامية، وكذا المصرية؛ لا يحرم؛ لأنَّه لم تر عورته، ويعد ساترًا لها حكمًا، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (خمس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (خمس)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (ثاني)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (خمس)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/616)
(9) [باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء]
هذا (باب): حكم (الصلاة): فرضها وواجبها ونفلها (في القميص): وهو معروف، وجمعه قمصان، وأقمصة، وقمَّصه تقميصًا وتقمصة؛ أي: لبسه (والسراويل): وهو أعجمي معرب نقله سيبويه عن يونس، وزعم ابن سيده أنه فارسي معرب، وهو يذكر ويؤنث، ولم يعرف الأصمعي فيها إلا التأنيث، والجمع سراويلات، وقال سيبويه: (لا يكسر؛ لأنَّه لو كسر؛ لم يرجع إلا إلى لفظ الواحد، فترك، أو يقال: هو جمع سروالة)، وقال أبو حاتم: (السراويل: مؤنث، لا يذكرها أحد [1] علمناه، وبعض العرب تظن السراويل جماعة، وسمعت من الأعراب من يقول: الشراويل؛ بالشين المعجمة).
قلت: ولما استعملته العرب؛ بدَّلوا الشين سينًا، ثم جمعوه على سراويل، وقد يقال فيه: سراوين؛ بالنون موضع اللام، وفي «الجامع» للقزاز: (سراويل، وسروال، وسرويل، لغات ثلاث)، كذا في «عمدة القاري».
(والتُّبَّان)؛ بضم المثناة الفوقية، وتشديد الموحدة، قال في «المحكم»: (التبان: شبه السراويل يذكر)، وفي «الصحاح»: (سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة، فقد يكون للملاحين).
قلت: وهو عند العجم من جلد بلا رجلين يلبسه المصارعون، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(والقَباء)؛ بفتح القاف، وتخفيف الموحدة، زعم ابن حجر تبعًا للكرماني أنه ممدود، ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: لم يذكره غيره، بل الظاهر: أنه مقصور)، وفي «الجواليق»: (قال بعضهم: هو فارسي معرب، وقيل: عربي، واشتقاقه من القبو؛ وهو الضم والجمع)، وقال أبو علي: (سمي قباء؛ لتقبضه، وقبوت الشيء: جمعته)، وقال أبو عبيد: (هو اليلمق فارسي معرب والقردماني)، وقال السيرافي: (قباء محشوٌّ)، وفي «الجامع»: (سمي قباء؛ لأنَّه يضم لابسه)، وفي «الصحاح»: (تقبيت: إذا لبست قباء)، وفي «المحكم»: (قبا الشيء قبوًا [2]: جمعه بأصابعه، والقبوة: انضمام ما بين الشفتين، والقباء من الثياب: مشتق من ذلك؛ لانضمام أطرافه، والجمع أقبية)، وفي «مجمع الغرائب» للفارسي عن كعب: (أول من لبس القباء سليمان بن داود عليهما السلام، فكان إذا أدخل رأسه في الثياب؛ لنصت الشياطين؛ يعني: قلعت أنوفها)، وزعم أبو موسى في «المغيث» أنه بالسين: لنست، كذا في «عمدة القاري» والله الهادي.
==========
[1] في الأصل: (أحدها)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (قباء)، والمثبت موافق لما في «المحكم».
%ص 462%
==================
[1] في الأصل: (أحدها)، والمثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (أحدها)، والمثبت هو الصواب.
(1/617)
[حديث: أوكلكم يجد ثوبين]
365# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سليمان بن حرب)؛ بالمهملة والموحدة: هو الأزدي الأنصاري، أبو أيوب (قال: حدثنا حماد بن زيد): هو ابن درهم، أبو إسماعيل الأزرقي، الأزدي، البصري، (عن أيوب): هو السختياني، (عن محمد): هو ابن سيرين المشهور، (عن أبي هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (قال: قام رجل)؛ أي: من القوم [1]، وهو ثوبان، كما بينه الإمام شمس الأئمة السرخسي الحنفي في كتابه «المبسوط»، وقول ابن حجر وغيره: (لم أقف على اسمه) ممنوع؛ لأنَّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، والمثبت مقدم على النافي.
(إلى النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو في المسجد النبوي، كما يدل عليه السياق، (فسأله عن) حكم (الصلاة في الثوب الواحد): هل هي صحيحة أم باطلة؟ (فقال) عليه السَّلام للسائل: (أوكلكم؟!)؛ بهمزة الاستفهام الإنكاري الإبطالي، وواو العطف، وأصل الكلام: وأكلَّكم، لكن قدم الاستفهام؛ لأنَّ له صدر الكلام، أو الواو عاطفة على محذوف بين الهمزة، والواو دل عليه المعطوف، ولا تقديم ولا تأخير؛ فالتقدير هنا: أكلكم يجد ثوبين، وكلكم يجد ثوبين، والأول أولى، والتقديم والتأخير أسهل من الحذف؛ والمعنى: ليس كلكم (يجد ثوبين)؛ فلهذا تصح الصلاة في الثوب الواحد، فاللفظ وإن كان لفظ الاستفهام، ولكن المعنى الإخبار عما كان يعلمه عليه السَّلام من حالهم في العدم وضيق الثياب، نقول: فإذا كنتم بهذه الصفة، وليس لكل واحد منكم ثوبان والصلاة واجبة عليكم؛ فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة، كذا في «عمدة القاري».
ومفهوم [2] الحديث: التسوية بين الصلاة في الثوب الواحد مع وجود غيره وعدمه في الإجزاء، ولو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد؛ لكرهت لمن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا؛ لأنَّ حكم الصلاة في الثوب الواحد لمن يجد ثوبين كهو في الصلاة لمن لا يجد غيره، كذا قاله الحافظ أبو جعفر الطحاوي، وقد أشبعنا الكلام فيه في آخر باب (الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به).
(ثم سأل رجل عمر): هو ابن الخطاب رضي الله عنه؛ أي: عن الصلاة في الثوب الواحد، أنهى عنها أم أجازها؟ والسائل يحتمل أن يكون أُبي بن كعب رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون هو ابن مسعود، وزعم ابن حجر أنه الثاني قال: (لأنه اختلف هو وأُبي في ذلك، فقال أُبي: لا يكره، وقال ابن مسعود: إنَّما كان ذلك وفي الثياب قلة، فقال عمر: القول
%ص 462%
ما قال أُبي، ولم يأل ابن مسعود)، ورده إمام الشَّارحين فقال: اختلاف أُبي وابن مسعود في ذلك لا يدل على أن السائل من عمر هو ابن مسعود بعينه، ويحتمل أن يكون هو أُبي بن كعب رضي الله عنه، والاحتمال موجود فيهما مع أنه خدش وتخمين، وأمَّا اختلافهما في ذلك؛ فقد أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن قال: (اختلف أُبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في ثوب واحد، فقال أُبي: لا بأس به، وقال ابن مسعود: إنَّما كان ذلك إذ كان الناس لا يجدون ثيابًا، فأما إذا وجدوها؛ فالصلاة في ثوبين، فقام عمر رضي الله عنه على المنبر فقال: الصواب ما قال أُبي لا ما قال ابن مسعود) انتهى.
قلت: ومعنى قوله: (ولم يألُ): أي: لم يقصر، ولا يخفى أن ما قاله ابن حجر دليلًا لمدعاه ليس بشيء؛ لأنَّه ليس فيه أن السائل ابن مسعود، بل غاية ما فيه أنَّهما اختلفا في ذلك، وهو لا يدل على أنه ابن مسعود، بل الظاهر أن يكون السائل هو أُبي بن كعب؛ لأنَّه لما اختلفا هو وابن مسعود؛ أراد أُبي الانتصار لنفسه، فسأل عمر عن ذلك، فقام عمر على المنبر، ففي الرواية: (صلَّى)، وهذا تقديره، وهو يدل على أن السائل أُبي بن كعب، فإن عمر قد سمع كلامهما، ولما فرغا؛ سأل أُبي عمر ما الصواب من القول؟ فقام عمر على المنبر، وقال: (الصواب ما قال أُبي)، فهذه قرينة واضحة دالة على أن السائل هو أُبي بن كعب رضي الله عنه؛ فليحفظ.
(فقال)؛ أي: عمر رضي الله عنه مجيبًا للسائل الذي سأله عن الصلاة في الثوب الواحد: (إذا وسع الله؛ فأوسعوا): فهو دليل على أن الواجب في الصلاة ستر العورة، والثوب الواحد يسترها، فهو كاف، وأن الزيادة عليه مستحب للتجمل وإظهار النعمة، (جمع)؛ أي: ليجمع (رجل عليه): الضمير فيه يرجع إلى الرجل؛ أي: جمع رجل على نفسه (ثيابه): وهذا إلى آخره من تتمة كلام عمر رضي الله عنه، ولفظة (جمع) وإن كانت صيغة الماضي، ولكن المراد منها الأمر، وكذلك قوله: (صلى)، ولهذا قال ابن بطال: (يريد: ليجمع عليه ثيابه وليصلِّ فيها) ذكره بلفظ الماضي، ومراده المستقبل؛ كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116]؛ والمعنى: يقول الله، يدل عليه: قول عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117]، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: (صلى)؛ أي: ليصل (رجل): فيه تسع صور:
الأولى: صلاة الرجل (في إزار): هو ما يؤتزر به في النصف الأسفل (ورداء): هو ما يرتدي به في النصف الأعلى.
الثانية: صلاة الرجل (في إزار وقميص)؛ أي: ليصل فيهما.
الثالثة: ليصل الرجل (في إزار وقباء)؛ أي: ليصل فيهما، وإنما قدم هذه الصور الثلاثة؛ لأنَّها أستر وأكثر استعمالًا.
الرابعة: ليصل الرجل (في سراويلَ): غير منصرف على وزن (مفاعيل) (ورداء)؛ أي: ليصل فيهما.
الخامسة: ليصل الرجل (في سراويل وقميص).
السادسة: ليصل الرجل (في سراويل وقباء).
السابعة: ليصل الرجل (في تبان وقباء).
الثامنة: ليصل الرجل (في تبان وقميص).
والتاسعة: ستأتي، ولم يقصد بذلك العدد الحصر، بل يلحق بذلك ما يقوم مقامه.
فإن قلت: كان المناسب أن يقول: أو كذا أو كذا؛ بحرف العطف، فلم ترك حرف العطف؟
قلت: أخرج هذا على سبيل التعداد، فلا حاجة إلى ذكر حرف العطف؛ كما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تصدق امرؤ من ديناره من درهمه من صاع تمره»، ويجوز أن يقال: حذف حرف العطف على قول من يجوز ذلك من النحاة؛ والتقدير حينئذ: صلى رجل في إزار ورداء، أو في إزار وقميص، أو في إزار وقباء ... إلى آخره كذلك، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ويحتمل أن يكون المحذوف فعلًا؛ والتقدير: صلى في إزار وقميص، صلى في إزار وقباء، وكذا الباقي، كذا قيل، ثم قال: (والحمل على هذا أولى؛ لثبوته إجماعًا، وحذف حرف العطف بابه الشعر فقط، وعند بعض وقوعه في الشعر مختلف فيه) انتهى.
قلت: وفيه نظر، فإن كلًّا من هذين الاحتمالين فيه حذف غاية ما فيه أن الحذف في الأول: حرف العطف، وفي الثاني: الفعل، وحذف حرف العطف أولى من حذف الفعل؛ للدلالة على الأول دون الثاني، وحذف حرف العطف جائز نثرًا ونظمًا، فمن الأول: قوله عليه السَّلام: «تصدق امرؤ من ديناره من درهمه»، كما سبق، ومن الثاني كثير في كلامهم، فما قاله هذا القائل غير صحيح، وقوله: (لثبوته إجماعًا): فيه نظر، فإن بعضهم منع ذلك؛ فافهم.
وزعم الكرماني أنه من باب (الإبدال)، قال إمام الشَّارحين: (كأنه أشار بذلك إلى ما قاله ابن المنير: أنه كلام في معنى الشرط، كأنه قال: إن جمع عليه ثيابه؛ فحسن، ثم فصل الجمع بصور على البدلية) انتهى.
(قال) أي: أبو هريرة: (وأحسبه)؛ أي: أحسب عمر رضي الله عنه (قال): ليصل رجل (في تبان ورداء) وهذه الصورة التاسعة.
فإن قلت: كيف يدخل حرف العطف بين قال ومقوله؟
قلت: هو عطف على مقدر؛ تقديره: بقي شيء من الصور المذكورة، وأحسبه قال: في تبان ورداء، وإنما لم يجزم به أبو هريرة، بل ذكره بلفظ الحسبان لإمكان أن عمر رضي الله عنه أهمل ذلك؛ لأنَّ التبان لا يستر العورة كلها بناء على أن الفخذ من العورة، فالستر به حاصل مع القباء ومع القميص، وأما الرداء؛ فقد لا يحصل به، ورأى أبو هريرة أن انحصار القسمة يقتضي ذكر هذه الصورة، وأن الستر قد يحصل بها إذا كان الرداء سابقًا، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
وقال ابن بطال: اللازم من الثياب في الصلاة ثوب واحد ساتر للعورة، وقول عمر رضي الله عنه: (إذا أوسع الله) يدل عليه، وجمع الثياب فيها اختيار واستحسان، ويقال: ذكر صورًا تسعة: ثلاثة منها سابقة: الرداء، ثم القميص، ثم القباء، وثلاثة منها ناقصة: الإزار، ثم السراويل، ثم التبان، وأفضلها: الإزار، ثم السراويل، ومنهم من عكس)، واختلف أصحاب مالك فيمن صلى في سراويل وهو قادر على الثياب، ففي «المدونة»: (لا يعيد في الوقت ولا في غيره)، ومثله عن القاسم، وعن أشهب: (عليه الإعادة في الوقت) وعنه: (أن صلاته تامة إن كان ضعيفًا) انتهى.
وفي «عمدة القاري»: (وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصلي الرجل في لحاف ولا يتوشح به، وأن يصلي في سراويل ليس عليك رداء)، وبظاهره أخذ بعض أصحابنا، وقال: تكره الصلاة في السراويل وحدها، والصحيح: أنه إذا ستر عورته؛ لا تكره الصلاة به) انتهى.
وفي «مراقي الفلاح»: (وتكره صلاته في السراويل، وكذا في إزار مع قدرته على لبس القميص؛ لما فيه من التهاون والتكاسل وقلة الأدب) انتهى.
قال المحشي: (وهذا يفيد كراهة التحريم)، وقال في «فتح القدير»: (والصلاة متوشحًا لا تكره، وفي ثوب واحد ليس على عاتقه بعضه تكره إلا لضرورة العدم) انتهى.
وقال الشرنبلالي: (والمستحب للرجل أن يصلي في ثلاثة أثواب؛ إزار وقميص وعمامة، وللمرأة في قميص وخمار ومِقْنَعة) انتهى، بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح النون: ثوب يوضع على الرأس ويربط تحت الحنك، والقناع أوسع منه؛ لأنَّه يعطف من تحت الحنك ويربط على القفا، والخمار أكبر
%ص 463%
منهما؛ لأنَّه يغطى به الرأس، وترسل أطرافه على الظهر أو الصدر) انتهى.
==========
[1] زيد في هامشالأصل: (أي من القوم).
[2] في الأصل: (مفهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] زيد في هامشالأصل: (أي من القوم).
[1] زيد في هامشالأصل: (أي من القوم).
(1/618)
[حديث: لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبًا .. ]
366# وبالسند إليه قال: (حدثنا عاصم بن علي): هو ابن عاصم، أبو الحسين الواسطي، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومئتين بواسط (قال: حدثنا ابن أبي ذِئْب)؛ بكسر الذال، وبالهمزة الساكنة، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فاسمه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، (عن الزهري): هو محمد بن مسلم ابن شهاب، (عن سالم): هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، (عن) أبيه عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (قال: سأل رجل): لم يعلم اسمه، كما في «عمدة القاري» (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو في مسجده (فقال)؛ بالفاء التفسيرية؛ إذ هو نفس (سأل)، وللأصيلي: (قال): (ما يلبس المحرم؟): وكلمة (ما) يجوز أن تكون استفهامية، أو نكرة موصوفة أو موصولة، ومحلها نصب مفعول ثان لـ (سأل)، و (يَلبَس)؛ بفتح التحتية والموحدة، مضارع لبِس؛ بكسر الموحدة، و (المحرم): هو إمَّا محرم بالحج أو بالعمرة، وأصله: الداخل في الحرمة؛ لأنَّه يحرم عليه به ما كان حلالًا له قبله من صيد ونحوه، (فقال) عليه السَّلام للسائل: (لا يلبس): من اللُبس؛ بضم اللام من باب (علم يعلم)، وإمَّا من اللَبس؛ بفتح اللام من باب (ضرب يضرب)، يقال: لبست عليه الأمر: إذا خلطت عليه، ومنه التباس الأمر، وهو اشتباهه، وروي: (يلبسُْ)؛ بالرفع وبالجزم، فالرفع على أن (لا) نافية، والجزم على أنها ناهية، فتضم السين على الأول، وتكسر على الثاني؛ أي: المحرم (القَميصَ)؛ بالنصب على المفعولية، بفتح القاف، وهو معروف، يتخذ من القطن أو الصوف، جمعه قمص، وأقمصة، وقمصان، وهو مذكر، وقد يؤنث، زاد في رواية باب (من أجاب السائل): (ولا العِمامة)؛ بكسر العين: وهي تيجان العرب، (ولا السراويل): أعجمية عربت، وجاءت [1] على لفظ الجمع، وهي واحدة تذكر وتؤنث، ولم يعرف الأصمعي إلا التأنيث، ويجمع على السراويلات، وقد يقال: هو جمع، ومفرده سراولة، وهو غير منصرف على الأكثر، وقال سيبويه: سراويل: واحدة أعجمية، فأعربت، فأشبهت في كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فهي مصروفة في النكرة، وإن سميت به رجلًا؛ لم تصرفها، ومن النحاة من لا يصرفه أيضًا في النكرة، ويزعم أنه جمع سراول والسراوين؛ بالنون لغة، والشراويل؛ بالشين المعجمة لغة أيضًا، أفاده إمام الشَّارحين.
(ولا البُرْنُس)؛ بضم الموحدة والنون، بينهما راء ساكنة: هو ثوب معروف رأسه منه ملتزق فيه، وقيل: هو قلنسوة طويلة، وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، وهو من البِرس؛ بكسر الموحدة: وهو القطن، والنون زائدة، وقيل: هو غير عربي، وكل ما جب فيه موضع لإخراج الرأس منه؛ فهو جبة، وكل ما خيط أو نسج في طرفه ليستمسك على اللابس؛ فهو برنس؛ كالقفاز ونحوه، كذا في «عمدة القاري».
(ولا ثوبًا)؛ بالنصب عطفًا على قوله: (القميص)، وروي بالرفع على تقدير فعل ما لم يسم فاعله؛ أي: ولا يُلبَس ثوب (مسه زَعْفَران)؛ بالتنكير رواية الأكثرين، وفي رواية: (الزعفران)؛ بالتعريف، وهو بفتح الزاي والفاء، بينهما عين مهملة ساكنة؛ وهو نبت معروف يصبغ به، يقال: إن الكركم عروقه، وإذا كان في مكان لا يدخله سام أبرص، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول محلها نصب أو رفع صفة لـ (ثوب) (ولا وَرْس)؛ بفتح الواو، وسكون الراء، آخره سين مهملة: نبت أصفر يكون باليمن تصبغ به الثياب، ويتخذ منه الغمرة للوجه؛ مثل حب السمسم، فإذا جف عند إدراكه؛ يفتق، فيفيض منه الورس، وإنما عدل عن طريقة أخواته؛ فقال: (ولا ثوبًا مسه زعفران؛ لأنَّ الطيب حرام على الرجل والمرأة)، فأراد التعميم في الحكم للمحرم والمحرمة بخلاف الثياب المذكورة، فإنها حرام على الرجال دون النساء، كذا في «عمدة القاري».
(فمن لم يجد النَّعْلين)؛ تثنية نَعْل؛ بفتح النون، وسكون العين المهملة: وهو الحِذاء؛ بكسر الحاء المهملة، والمد، وجمعه نعال، وكل ما وقيت به القدم من الأرض؛ فهو نعل؛ (فليلبس) بكسر اللام الأولى وسكونها (الخفين)؛ تثنية خف، معروف، وهذا جواب الشرط، فلذا دخلته الفاء، (وليقطعهما)؛ بكسر اللام وسكونها؛ عطفًا على (فليلبس)؛ أي: يقطع الخفين، والواو فيه معناها: الشركة والجمع مطلقًا من غير دلالة على تقديم أو تأخير أو مصاحبة، كما نص عليه سيبويه إمام الصنعة، وله شواهد كثيرة في كلام الله تعالى ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم (حتى): للغاية؛ أي: إلى أن (يكونا): بصورة التثنية، وفي رواية الحموي والمستملي: (حتى يكون)؛ بالإفراد على تقدير كل واحد منهما (تحت الكعبين) والجملة خبر (يكونا) المنصوب بحذف النون، وهو تثنية كعب، والمراد به: المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك، لا العظم الناتئ عند مفصل الساق، فإنه في الوضوء.
وقوله: (فليلبس) (وليقطعهما) صيغة أمر منه عليه [الصَّلاة و] السَّلام، وهو دليل الوجوب، فقطع الخف عند عدم وجود النعل واجب للأمر المذكور، فإن لم يقطعه؛ فعليه الفدية؛ للأمر المذكور، فهو حجة على من زعم أنه إذا لم يجد النعل؛ لا يجب قطع الخف، فإنه القول بالرأي بعينه، ومنازعة السنة به، وحجة على من زعم أنه يجوز لبس الخف بدون قطع؛ لأنَّه إضاعة، وما هذا إلا ورع مظلم؛ لأنَّ هذا القطع ليس بإضاعة؛ لأنَّه أمر من الشَّارع، وهو لم يأمر بالإضاعة، كما لا يخفى، ونبه بالقميص والسراويل على كل ما يعم العورة من المخيط، وبالبرانس على كل ما يغطى به الرأس مخيطًا أو غيره، وبالخفاف على ما يستر الرجل، وأن لباس ذلك جائز للرجال في غير الإحرام، وإنما كان لهم؛ لأنَّ النساء مأمورات بستر رؤوسهن، وبالورس والزعفران على ما سواهما من أنواع الطيب، وهو حرام على الرجل والمرأة، والخصوص للرجال من حيث إن الألفاظ كلها للمذكورين، والعموم من الأدلة الخارجة عن هذا الحديث، ويدل عليه رواية: (ولا ثوب)؛ بالرفع، وحكمة تحريم اللباس على المحرم: التذلل والخضوع، وفي الطيب ترك زينة الدنيا، وزاد في رواية ابن عمر في هذا الحديث: (ولا ثوبًا مسه الورس والزعفران إلا أن يكون غسيلًا)، فيجوز لبس الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس إذا كان غسيلًا لا ينفض، وقد أخرج هذه الزيادة الحافظ أبو جعفر الطحاوي رضي الله عنه. ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن الصلاة تصح بدون القميص والسراويل وغيرهما من المخيط؛ لأنَّ المحرم مأمور بترك ذلك، وهو مأمور بالصلاة، وهذا الحديث أخرجه المؤلف في آخر كتاب (العلم) في باب (من أجاب السائل بأكثر مما سأله)، وفي (اللباس)، وفي (الحج) أيضًا، وسيجيء البحث فيه إن شاء الله تعالى في كتاب (الحج) مستوفًى إن شاء الله تعالى.
(وعن نافع): مولى ابن عمر رضي الله عنهما، (عن ابن عمر): هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم مثله)؛ أي: مثل حديث سالم بن عبد الله بن عمر المذكور، وهذا إسناد آخر؛ لأنَّه معطوف على قوله: (عن سالم)، فهو متصل
%ص 464%
بالإسناد، فهما إسنادان؛ أحدهما: عن عاصم، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، والآخر: عن عاصم، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، هذا هو التحقيق، وتردد الكرماني فقال: (هذا تعليق من البخاري، ويحتمل أن يكون عطفًا على سالم، فيكون متصلًا)، وتبعه البرماوي، واعترضه ابن حجر، فزعم أن التجويزات العقلية لا يليق استعمالها في الأمور النقلية)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تشنيع غير موجه؛ لأنَّ الكرماني إنَّما قال: «هذا تعليق» بالنظر إلى ظاهر الصورة، ولم يجزم بذلك، ولهذا قال: «ويحتمل ... » إلى آخره) انتهى.
قلت: ولا يخفى أن مثل هذا ليس من الأمور النقلية، كما زعمه هذا القائل، بل هو من الأمور التي يكون للرأي فيها مجال، ولا ريب أن احتمال الكرماني: (أنه عطف على سالم، فيكون متصلًا): صحيح، ولو جزم به؛ لكان أحق وأحرى بالقبول، وزعم ابن حجر أن قوله: (وعن نافع) عطف على قوله: (عن الزهري)، ورده إمام الشَّارحين، فقال: (قصده بذلك إظهار المخالفة بأي وجه يكون، وإلا؛ فلا فساد في المعنى، بل كلاهما بمعنًى واحد، ورواية نافع هذا أخرجه البخاري في آخر كتاب «العلم»: عن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وعن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أن رجلًا سأله: ما يلبس المحرم ... »؛ الحديث، فقدم طريق نافع، وعطف عليه طريق الزهري، وههنا عكس ذاك؛ حيث قدم طريق الزهري، وعطف عليه طريق نافع) انتهى.
يعني: لا فرق بين أن يقال: (عطفًا على سالم) أو (عطفًا على الزهري)، وأجاب ابن حجر في الانتقاض: (بأن قوله: «عطفًا على سالم» يصير كأن ابن أبي ذئب رواه عن الزهري عن نافع، فهو عند ابن أبي ذئب عن شيخين بالنزول عن الزهري عن سالم، وبالعكس عن نافع وسالم روياه جميعًا عن ابن عمر)، قال: (فمن كان هذا مبلغ فهمه؛ فكيف يليق به التصدِّي للرد على غيره؟) انتهى.
قلت: فقد زاد في الطنبور نغمات هذا القائل، وما ذكره غير صحيح، وما فهمه ليس بصواب؛ لأنَّ قوله: (عطفًا على سالم) صحيح، ويصير ابن أبي ذئب رواه عن الزهري عن سالم في الطريق الأول، ويصير ابن أبي ذئب رواه عن نافع عن ابن عمر، فقول هذا القائل: (وبالعكس عن نافع وسالم ... ) إلى آخره: غير صحيح، فأي عكس هنا، وما هو إلا عكسه؟ فإن نافعًا قد رواه عن ابن عمر، وروى عنه ابن أبي ذئب، وأن سالمًا قد رواه عن ابن عمر، وروى عنه ابن أبي ذئب عن الزهري، فهما إسنادان؛ أحدهما أعلى من الآخر، كما قدمناه، وما ذكره هذا القائل ليس بشيء، وتمامه في «منهل العليل المطل على ما وقع في الفتح من التطويل المخل»، فارجع إليه؛ فإنه ذكر فيه ما شاع وذاع وملأ الأسماع؛ فافهم، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (جاء)، ولعله تحريف
==================
(1/619)
(10) [باب ما يستر من العورة]
هذا (باب): في بيان (ما يُستَر)؛ بضم المثناة التحتية أوله، وفتح المثناة الفوقية، ويجوز فتح التحتية، وضم الفوقية (من العورة): وكلمة (ما) مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة، وكلمة (من) بيانية في الوجهين؛ والتقدير: باب في بيان الشيء الذي يستر؛ أي: الذي يجب ستره من العورة، ثم هذا أعم من أن يكون في الصلاة أو خارجها، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
قلت: لأنَّ ستر العورة واجب في الصلاة وخارجها، ويدل على هذا ما قدمه المؤلف من الحديثين اللذين في الباب قبله، فإنَّ الأول: وهو حديث أبي هريرة يدل على أن ستر العورة واجب في الصلاة، والثاني: وهو حديث ابن عمر يدل على أن ستر العورة واجب خارج الصلاة أيضًا، ولما كان هذا مذهب المؤلف؛ أعقبه بهذا الباب؛ للدلالة على أن ستر العورة واجب في الصلاة وخارجها، وزعم ابن حجر أن المراد من ستر العورة خارج الصلاة فقط، والظاهر من تصرف المصنف أنه يرى أن الواجب ستر السوءتين، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (وكأنه أخذ ذلك من لفظ الاحتباء الذي في حديث الباب، فإنه قيد النهي فيه بقوله: «ليس على فرجه منه شيء»، وهذا ليس فيه تخصيص بخارج الصلاة، بل النهي فيه أعم من أن يكون في الصلاة أو خارجها، وقوله: «والظاهر ... » إلى آخره: ليس بشيء؛ لأنَّ الذي يدل على ذلك أيُّ تصرف منه ههنا وإن كان مذهبه ذلك) انتهى.
قلت: وكلام ابن حجر ليس بشيء؛ لأنَّه حجر ليس فيه دسم، فإنه ليس في شيء من هذا الباب ولا ما قبله ما يدل على أن المراد من الستر خارج الصلاة فقط، بل الذي دل عليه هذا الباب، والباب [الذي] قبله على أنه يجب الستر في الصلاة وخارج الصلاة، فإن أحاديث الباب السابق قد علمت وجهها، وهذا الباب ذكر فيه حديث أبي سعيد، وحديث أبي هريرة، وحديث أبي هريرة أيضًا، فهي ثلاثة أحاديث، فالأول: دال على وجوب الستر في الصلاة، والثاني: دال على وجوب الستر في الصلاة وخارج الصلاة، والثالث: دال على وجوب الستر خارج الصلاة، فجمع المؤلف هذه الأحاديث في باب واحد، وترجم لها؛ إشعارًا ودلالة على أن الستر واجب في الصلاة وخارج الصلاة، فمن أين جاء التقييد بخارج الصلاة؟
وقول ابن حجر: (والظاهر ... ) إلى آخره: ممنوع، فإن تصرف المؤلف هو ذكر الأحاديث التي ترجم لها، وهي ثلاثة، كما ذكرنا، وكلها دالة على أن الواجب ستر العورة من السرة إلى الركبة، فإن الحديث الأول دال على ذلك، وتقييده بـ (الفرج)؛ نظرًا لأنَّه أغلظ العورة، ومراده العورة بتمامها، وأن الحديث الثاني أدل في الدلالة على وجوب ستر العورة بتمامها، وأن الحديث الثالث أدلُّ أيضًا في الدلالة على وجوب سترها بتمامها؛ لأنَّه نهي عن الطواف عريانًا، وهو يعم العورة، وهي السوءتان وما قبلهما وما بعدهما، فهي من الركبة إلى السرة، ثم ترجم على ذلك المؤلف، وهو يدل على أن مذهبه أن العورة من السرة إلى الركبة، وأنه يجب سترها في الصلاة وخارج الصلاة، وهذا هو الحق، فقول ابن حجر: (إن الواجب ستر السوءتين): تقييد من عنده، وكلام من لم يذق شيئًا في العلم، وتمامه في «إيضاح المرام فيما وقع في الفتح من الأوهام»، والله أعلم، وقال إمام الشَّارحين: (والعورة: سوءة الإنسان وكل ما يستحى منه) انتهى.
قلت: والعورة في اللغة: كل ما يستقبح ظهوره، مأخوذة من العور؛ وهو النقص والعيب والقبح، ومنه عور العين، وكلمة عوراء؛ أي: قبيحة، وسميت السوءة عورة؛ لقبح ظهورها، وغض الأبصار عنها، وكل شيء يستره الإنسان أنفة أو حياء؛ فهو عورة، والنساء عورة؛ كذا في كتب اللغة، والله أعلم.
==========
%ص 465%
==================
(1/620)
[حديث: نهى رسول الله عن اشتمال الصماء]
367# وبالسند إليه قال: (حدثنا قُتَيْبَة)؛ بضم القاف، وفتح الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة، تصغير قِتبة؛ بكسر القاف لقبه، واسمه علي، وكنيته: أبو رجاء (بن سعِيد) بكسر العين المهملة: هو ابن جميل البلخي (قال: حدثنا الليث)؛ بالتعريف، وفي رواية: (ليث)؛ بالتنكير: هو ابن سعد بن عبد الرحمن، الفهمي الحنفي، من أتباع الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، وما
%ص 465%
قيل: من أنه مجتهد؛ فغير صحيح وتعصب؛ لأنَّه لم يعلم له مذهب ولا أصحاب ولا كتب، غاية الأمر أنه تفقه في مذهب الإمام الأعظم حتى صار نحريرًا، ثم أخذ الحديث، وصار في علم الحديث إمامًا، وقال يحيى ابن بكير: (الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك)، وقال محمد بن إدريس: (الليث أفقه من مالك، وكأنه أخذ عنه الفقه)، وعلى هذا؛ فمحمد بن إدريس من أتباع أتباع الإمام الأعظم؛ لأنَّ الليث أخذ وتفقه على الإمام محمد بن الحسن، وهو عن الإمام الأعظم، لكن الصحيح أن محمد بن إدريس أخذ الفقه وتفقه على الإمام محمد بن الحسن، كما ذكره ابن حجر في أول «التحفة» للرملي الشافعي؛ فافهم ذلك، ولا تغتر بكلام أهل التعصب والعناد.
(عن ابن شهاب): هو محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله بن عبد الله)؛ بالتصغير في الأول، والتكبير في الثاني (بن عُتْبة)؛ بضم العين المهملة، وسكون الفوقية: هو ابن مسعود رضي الله عنه، (عن أبي سعيد): هو سعْد بن مالك؛ بسكون العين المهملة (الخُدْري) بضم الخاء المعجمة، وسكون المهملة، الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه (أنه قال: نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن اشتمال الصماء)؛ بالصاد المهملة، والمد، واختلف في تفسيره؛ ففي «الصحاح»: (هو أن يُجَلِّل جسده كله بالإزار وبالكساء، فيرده من قبل يمينه على يده اليسرى، وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانيًا من خلفه على يده اليمنى، وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعًا)، وفي «نهاية ابن الأثير»: (هو التجلل بالثوب وإرساله من غير أن يرفع جانبه)، وفي كتاب (اللباس): (هو أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب)، وعن الأصمعي: (هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده لا يرفع منه جانبًا، فلا يبقى ما يخرج منه يده)، وعن أبي عبيد: (أن الفقهاء يقولون: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على أحد منكبيه، فيبدو منه فرجه).
وقال إمام الشَّارحين: (وتحقيق هذه الكلمة: أن الاشتمال مضاف إلى الصماء، والصماء في الأصل: صفة، يقال: صخرة صماء: إذا لم يكن فيها خرق ولا منفذ، ومعنى النهي عن اشتمال الصماء؛ أي: نهى عن اشتمال الثوب؛ كاشتمال الصخرة الصماء، واشتمالها كون عدم الخرق والمنافذ فيها، وتشبيه الاشتمال المنهي بها كونها تسدُّ المنافذ كلها، والذي ذكره الكرماني من أن اشتمل الشملة التي تعرف بهذا الاسم؛ لأنَّ الصماء ضرب من الاشتمال، ليس تفسير ما في لفظ الحديث على ما لا يخفى) انتهى.
قلت: فسميت الصماء؛ لسد المنافذ كلها، فيكون النهي مكروهًا؛ لعدم قدرته على الاستعانة بيديه فيما يعرض له في الصلاة؛ كدفع الهوام ونحوها، ولهذا قال إمام الشَّارحين: (ففيه: أنه عليه الصَّلاة والسَّلام قد نهى عن اشتمال الصماء، وقالوا على تفسير أهل اللغة: إنَّما يكرهاشتمال الصماء؛ لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها أو غير ذلك، فيعسر أو يتعذر عليه إخراج يده، فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء: يحرم الاشتمال المذكور إن انكشف به بعض العورة، وإلا؛ فيكره) انتهى.
(وأن يحتبي)؛ أي: ونهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا عن أن يحتبي (الرجل) وكلمة (أن) مصدرية؛ والتقدير: عن احتباء الرجل، وهو أن يقعد الإنسان على إليتيه، وينصب ساقيه، ويحتوي عليهما (في ثوب واحد): أو بيده أو نحوها (ليس على فرجه منه)؛ أي: من الثوب ونحوه (شيء): واسم هذه القعدة تسمى: الحُِبوة؛ بضم الحاء وكسرها، وقد كان هذا الاحتباء عادة للعرب في أنديتهم ومجالسهم، فإن كان ينكشف معه شيء من عورته؛ فهو حرام مطلقًا، سواء كان في الصلاة أو خارجها، وأما إذا كان مستور العورة؛ فلا يحرم، بل يكره، وقال الخطابي: (الاحتباء: هو أن يحتبي الرجل في الثوب ورجلاه متجافيتان عن بطنه، فيبقى هناك إذا لم يكن الثوب واسعًا قد أسبل شيئًا منه على فرجه، وفرجه تبدو منها عورته، وهو منهي عنه إذا كان كاشفًا عن فرجه)، وقال في موضع آخر: (الاحتباء: أن يجمع ظهره ورجليه بثوب) انتهى.
قلت: فقد اضطرب كلامه، وهو تناقض، والذي ذكره أهل اللغة والفقهاء: هو أن يندرج في ثوب بحيث لا يدع فيه منفذًا يخرج يديه منه، ولم يتعرضوا لذكر الرجلين؛ لعدم اعتبارهما في ذلك، ومفهوم كلامه أن المراد من العورة السوءتان؛ لأنَّه قال: (وهو منهي عنه إذا كان كاشفًا عن فرجه)، وليس هذا بمراد، بل المراد من العورة: من السرة إلى الركبة، يدل عليه تصرف المؤلف في هذه الأحاديث التي ترجم لها، وكلها دالة على أن الواجب ستر العورة، وأن العورة: هي من السرة إلى الركبة، والتقييد بـ (الفرج) باعتبار الأغلظ والأفحش لا للتخصيص، بل المراد العورة بتمامها، فإن الحديث الثاني والثالث يدلان على ذلك، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا، وقد أشبعنا الكلام على ذلك أول الباب؛ ردًّا على ابن حجر، وكأنه قد تبع الخطابي في ذلك، وكلاهما غير مصيب، كما لا يخفى.
وقال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: «ليس على فرجه منه شيء»، فإن فيه أن يكون الفرج مكشوفًا، فهو يدل على أن ستر العورة واجب، والباب معقود في ستر العورة) انتهى.
==================
(1/621)
[حديث: نهى النبي عن بيعتين عن اللماس والنباذ]
368# وبالسند إليه قال: (حدثنا قَبِيْصَة) بفتح القاف، وكسر الموحدة، وسكون التحتية، وفتح الصاد المهملة (بن عُقْبة) بضم العين المهملة، وسكون القاف، وليس في رواية الأصيلي: (ابن عقبة) (قال: حدثنا سفيان): هو الثوري، (عن أبي الزِّناد)؛ بكسر الزاي وبالنون: هو عبد الله بن ذكوان، (عن الأعرج): هو عبد الرحمن بن هرمز التابعي، (عن أبي هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (قال: نهى النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم عن بيعتين)؛ تثنية بيعة؛ بفتح الموحدة وكسرها، والفرق بينهما: أن الفَعلة؛ بالفتح: للمرة، وبالكسر: للحالة والهيئة، كما في «عمدة القاري»، والفتح هو الذي في «الفرع»، كما قاله القسطلاني، ثم قال: (وهو المشهور على الألسنة، لكن الأحسن الكسر) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإنه إذا كان الفتح ثابتًا في «الفرع»؛ فلا اعتبار؛ لاشتهاره على الألسنة؛ لأنَّه لا يعتد به، فكم من اشتهر على الألسنةِ! وهو خطأ والصواب خلافه، فلو أسقطها؛ لكان أولى، وهو من هفواته.
وقوله: (لكن الأحسن الكسر): مسلَّم؛ لأنَّ المراد بالبيعة هنا: الهيئة والحالة؛ كالركبة والجلسة؛ فافهم، ولهذا سوى إمام الشَّارحين بين الفتح والكسر، وأحال الأحسن منهما على المراد به ههنا، كما يقتضيه السياق؛ فليحفظ أحدهما.
(عن اللِّماس)؛ بكسر اللام، وهو مصدر من لامس، من باب (فاعل)، وقد علم أن مصدره يأتي على (مفاعلة)؛ مثل: ملامسة، وعلى (فعال)؛ مثل: لماس؛ وهو لمس الثوب بلا نظر إليه، وفيه وجوه؛ أحدها: أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة، فيلمسه المشتري، ويقول له صاحبه: بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، وخيارك إذا رأيته، الثاني: أن يجعلا نفس اللمس بيعًا، فيقول: إذا لمسته؛ فهو مبيع لك، والثاني ما أشار إليه بقوله: (و) عن (النِّباذ)؛ بكسر النون، وبالذال المعجمة، يأتي من بابه (فعال)؛ مثل: نباذ، وعلى
%ص 466%
(مفاعلة)؛ مثل: منابذة؛ وهي أن يجعل نفس النبذ بيعًا، وأن يقول: إذا نبذته إليك؛ فلا خيار لك إذا رأيته، ويحتمل أن يراد به نبذ الحصى، وذلك كأن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، وأن يقول: لك الخيار إلى أن أرمي بهذه الحصاة، أو أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعًا كأن يقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة؛ فهو مبيع بكذا، والملامسة والمنابذة وإلقاء الحجر كانت بيوعًا في الجاهلية، وكأن الرجلان يتساومان المبيع، فإذا ألقى المشتري عليه حصاة، أو نبذه البائع إلى المشتري، أو لمسه المشتري؛ لزم البيع، وقد نهى الشَّارع صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك، كذا في «عمدة القاري» نقلًا عن علمائنا الأعلام قدس الله أرواحهم.
قلت: وهذه الثلاثة البيع فيها فاسد؛ للنهي المذكور في الحديث، وذلك لوجود الشرط الفاسد، أو لعدم الرؤية، أو لوجود القمار، فكانت فاسدة إن سبق ذكر الثمن، وسوف يأتي في (البيوع) بقية الكلام عليه؛ فليحفظ.
(وأن يشتمل) عطف على قوله: (عن بيعتين)؛ أي: ونهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا أن يشتمل، وكلمة (أن) مصدرية؛ والتقدير: أي: وعن اشتمال الثوب كالصخرة (الصماء)؛ لأنَّها مسدودة المنافذ، فيتعذر أو يتعسر على المشتمل إخراج يديه منه؛ لما يعرض له في صلاته من دفع بعض الهوام ونحوها، أو لانكشاف عورته على تفسير الفقهاء، وهو الموافق لما عند المؤلف في (اللباس)، كما قدمناه، وفي رواية ابن عساكر: (وأن يُشتمل)؛ بضم أوله مبنيًّا للمفعول، و (الصماءُ)؛ بالرفع نائبًا عن الفاعل، (و) نهى (أن يَحتبِي)؛ بفتح أوله، وكسر الموحدة، وفي رواية ابن عساكر: بضم أوله، وفتح الموحدة (الرجل)؛ أي: عن احتباء الرجل القاعد على إليتيه منصبًا ساقيه، ولفظة (الرجل) ساقطة في رواية الأصيلي وابن عساكر؛ ملتفًّا (في ثوب واحد)؛ أي: ليس على فرجه منه شيء، فإن الاحتباء المطلق هنا محمول على المقيد في الحديث الذي قبله، كما قاله إمام الشَّارحين، ففيه: النهي عن اشتمال الصماء، وهو مكروه على تفسير أهل اللغة، ويحرم على تفسير الفقهاء إن انكشف به بعض العورة، وإلا؛ فيكره، وفيه: النهي عن الاحتباء الذي فيه كشف العورة، وهو حرام مطلقًا، سواء كان في الصلاة أو خارجها، كما قدمناه؛ فافهم.
==================
(1/622)
[حديث: ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان]
369# وبالسند إليه قال: (حدثنا إسحاق): غير منسوب في رواية الأكثرين، وفي نسخة عن رواية أبي ذر: (إسحاق بن إبراهيم)، قال إمام الشَّارحين: (ولكونه ذكر غير منسوب تردد فيه الحفاظ؛ فمنهم من قال: إسحاق بن منصور، ومنهم من قال: إسحاق بن إبراهيم المشهور بابن راهويه؛ لأنَّ كلًّا منهما يروي عن يعقوب بن إبراهيم، والنسخة التي فيها: إسحاق بن إبراهيم: هي الأصح) انتهى.
ويدل عليه ما قاله الجياني عن ابن السكن: (إذا ذكر إسحاق غير منسوب؛ يكون ابن راهويه).
قلت: وهذا هو الظاهر كما لا يخفى، فهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي، المشهور بابن راهويه، المتوفى بنيسابور، سنة ثمان وثلاثين ومئتين، وما زعمه ابن حجر رده إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(قال: حدثنا) وللأصيلي: (أخبرنا) (يعقوب بن إبراهيم): هو ابن سعْد؛ بسكون العين المهملة، سبط عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه (قال: حدثنا ابن أخي ابن شهاب): هو محمد بن عبد الله ابن أخي ابن شهاب الزهري، (عن عمه): هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري (قال: أخبرني) بالإفراد (حُمَيْد) بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وسكون التحتية (بن عبد الرحمن بن عَوْف)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الواو، التابعي: (أن أبا هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (قال: بعثني أبو بكر): هو عبد الله بن أبي قحافة، واسمه عثمان الصديق الأكبر رضي الله عنه (في تلك الحجة)؛ أي: التي أمَّر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الصديق على الحاجِّ، وهي قبل حجة الوداع بسنة، وهي السنة التاسعة، كما في «عمدة القاري».
(في مؤذنين)؛ أي: في رهط يؤذنون في الناس (يوم النحر): وهو يوم العاشر من ذي الحجة، وكأنه مقتبس مما قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3]، وفي رواية أبي داود: (يوم الحج الأكبر يوم النحر)، والحج الأكبر: الحج، قلت: والحج الأصغر: العمرة، قاله إمام الشَّارحين.
(نؤذن)؛ بالنون، ثم الهمزة (بِمِنًى)؛ بكسر الموحدة، والميم، وبالقصر، وهي على ثلاثة أميال من المزدلفة، ومقول (المؤذنين) هو قوله: (ألا يحج بعد العام مشرك)؛ بإدغام نون (أن) في (لا يحج)؛ لأنَّ أصله: أن لا يحج، فصار (ألَّا)؛ بفتح الهمزة، وتشديد اللام، وهذه رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (أَلَا لا يحج)؛ بأداة الاستفتاح قبل حرف النفي، ويحتمل أن تكون (أن) تفسيرية، فـ (لا) نافية، و (يحجُ) و (يطوفُ)؛ بالرفع، وزعم ابن حجر أن (لا) حرف نهي، ورده إمام الشَّارحين فقال: (وليس كذلك، بل هو حرف النفي) انتهى.
قلت: وهو الظاهر، والمعنى عليه؛ فافهم.
وقال ابن الدماميني: لأن ما بعده: (ولا يطوف) انتهى.
يعني: فـ (لا): حرف نفي لا نهي، ويحتمل أن تكون (أن) ناصبة، فـ (يحجَّ) و (يطوفَ) نصبٌ، وقال الكرماني: (هل يكون ذلك العام داخلًا في هذا الحكم أم لا؟
قلت: الظاهر أن المراد: بعد خروج هذا العام لا بعد دخوله)، قال إمام الشَّارحين: (وينبغي أن يدخل هذا العام أيضًا بالنظر إلى التعليل) انتهى.
(ولا يطوف بالبيت عريان)؛ بالنصب عطفًا على المنصوب قبله، أو بالرفع، كما سبق، فإن منع الطواف عاريًا يدل على وجوب ستر العورة، وهذا وجه المطابقة لما ترجم له؛ لأنَّ ستر العورة إذا كان شرطًا في الطواف الذي هو يشبه الصلاة؛ فاشتراطها في الصلاة أولى وأجدر، فهذا الحديث يدل على اشتراط ستر العورة في الصلاة، وهو يتضمن أمر أبي بكر وأمره بذلك من أمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث إنه أمَّره بالحج، وقد سبق الكلام عليه في باب (وجوب الصلاة في الثياب)، والله أعلم بالصواب.
(قال: حُمَيْد) بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وسكون التحتية (بن عبد الرحمن): هو ابن عوف التابعي، (ثم أردف) أي: أرسل (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليًّا): هو الصديق الأصغر ابن أبي طالب وراء أبي بكر الصديق الأكبر رضي الله عنه، (فأمَّره أن يؤذنُ ببراءةٌ)؛ بالرفع على الحكاية، كما في «فرع الينونينية»، ويجوز الفتح على أنها علم للسورة، ويجوز الكسر مع التنوين؛ أي: بسورة براءةٍ، قال إمام الشَّارحين: (وقول حميد هذا مرسل من قبيل مراسيل التابعين؛ لأنَّ حميدًا ليس بصحابي حتى يقال: إنه
%ص 467%
شاهده بنفسه)، وقال الكرماني: (ولفظ: «قال حميد» و «قال أبو هريرة» يحتمل أن يكون كل منهما تعليقًا من البخاري، ويحتمل أن يكونا داخلين تحت الإسناد، لكن الظاهر من مسألة الإرداف أنه لم يسندها حميد)، وقال في «التوضيح»: (وقول حميد يحتمل أن يكون تلقاه من أبي هريرة، ويكون الزهري رواه عنه موصولًا عند البخاري)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (الوجه الذي ذكرناه هو الوجه، كما نص عليه المزي وغيره) انتهى.
قلت: يعني: إنه مرسل من قبيل مراسيل التابعين ... إلى آخر، ما ذكرناه عنه قريبًا؛ فافهم.
(قال: أبو هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي: (فأذَّن)؛ بتشديد الذال المعجمة، (معنا) بفتح العين المهملة وسكونها (علي): هو ابن أبي طالب؛ أي: مع الرهط الذين يؤذنون في الناس (في أهل مِنًى)؛ بكسر الميم، والقصر (يوم النحر): هو يوم العاشر من ذي الحجة، فقالوا: (لا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوفُ بالبيت عريان)؛ بالرفع في (يحج) و (يطوف) فقط، والحكمة في إعطاء علي براءة؛ لأنَّ براءة تضمنت نقض العهد، وكانت سيرة العرب؛ إذ لا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته، فأراد عليه [الصَّلاة و] السَّلام أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، وأرسل ابن عمه الهاشمي حتى لا يبقى [1] لهم متكلم، وقيل: لأنَّ في سورة براءة ذكر الصديق؛ يعني: قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ} [التوبة: 40]، فأراد عليه [الصَّلاة و] السَّلام أن غيره يقرؤها.
فإن قلت: كان علي مأمورًا بالتأذين ببراءة، فكيف قال: (فأذن معنا بأنه لا يحج)؟
قلت: إمَّا لأنَّ ذلك داخل في سورة براءة، وإمَّا أن معناه: أنه أذن فيه أيضًا معنا بعد تأذينه ببراءة، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والثاني أوجه؛ فتأمل.
وقال ابن عبد البر: (أمر النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أبا بكر رضي الله عنه بالخروج إلى الحج، وإقامته للناس، فخرج أبو بكر، ونزل صدر براءة بعده، فقيل: يا رسول الله؛ لو بعثت بها إلى أبي بكر؛ يقرؤها على الناس في الموسم، فقال: «إنه لا يؤديها عني إلا رجل من أهل بيتي»، ثم دعا عليًّا رضي الله عنه، فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن بها في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا في منًى»، فخرج على ناقة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأذن علي رضي الله عنه، فقال أبو بكر: استعملك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أن أقرأ براءة على الناس، فقال أبو بكر: أميرًا أو مأمور؟ فقال: بل مأمور)، وذكر أحمد في (فضائل علي): (لما بلغ أبو بكر ذا الحليفة، وفي لفظ: «بالجحفة»؛ بعث النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أبي بكر، فرده، وقال: «لا يذهب بها إلا رجل من أهل بيتي»، وفي لفظ: (فرجع أبو بكر، فقال: يا رسول الله؛ نزل فيَّ شيء؟ قال: «لا، ولكن جبريل عليه السَّلام جاءني، فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك»)، انتهى.
قلت: وفي هذا بيان حكمة إعطاء علي براءة أيضًا؛ فليحفظ.
وفي «عمدة القاري»: (ويستنبط منه أنه عليه السَّلام أبطل ما كانت الجاهلية عليه من الطواف عراة، واستدل بهذا الحديث على أن ستر العورة واجب في الصلاة وخارجها، وهو الموافق لترجمة الباب) انتهى.
وزعم الكرماني أنه استدل به على أن الطواف يشترط له ستر العورة، قال إمام الشَّارحين: (قلت: إذا طاف الحاج عريانًا؛ لا يعتد به عندهم، وعندنا يعتد به، ولكنه يكره) انتهى.
قلت: يعني: أنه في مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه لا تشترط ستر العورة في الطواف، فلو طاف عريانًا؛ يصح، ولكنه يكره، وعند الشافعي يشترط سترها فيه، ولو طاف عريانًا؛ لا يصح، واستدل بالحديث المذكور، فاستدل الإمام الأعظم بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]، وهو مطلق، فيشمل العاري وغيره، ولا دلالة للشافعي في هذا الحديث؛ لأنَّه خبر واحد، وزيادة على النص، وهو نسخ، فلا يثبت به الحكم، ولأنه لا يشترط في الطواف الاستقبال، ولا عدم المشي إجماعًا، فعدم اشتراط ستر العورة أولى وأجدر على أن المراد بهذا الحديث النهي، وهو يقتضي الكراهة لا عدم الصحة، فما قاله الإمام الأعظم هو الصواب، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (يبق)، والمثبت هو الصواب.
==================
(1/623)
(11) [باب الصلاة بغير رداء]
هذا (باب): حكم (الصلاة بغير رداء)؛ بكسر الراء، وفتح الدال المهملتين، وبالمد: هو ثوب يستر النصف الأعلى من الإنسان بخلاف الإزار؛ فإنه يستر النصف الأسفل.
==========
%ص 468%
==================
(1/624)
[حديث: دخلت على جابر وهو يصلي في ثوب ملتحفًا به]
370# وبالسند إليه قال: (حدثنا عبد العزيز بن عبد الله) هو الأويسي (قال: حدثنا ابن أبي الموالي): هو عبد الرحمن بن زيد بن أبي المَوالي؛ بفتح الميم على وزن (الحواري) (عن محمد بن المنكدر): هو التابعي المشهور (قال: دخلت على جابر بن عبد الله): هو الأنصاري؛ أي: في بيته، كما يقتضيه السياق (وهو يصلي) جملة حالية؛ أي: صلاة نافلة؛ لأنَّ الفرائض يصليها مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالجماعة في المسجد (في ثوب) أي: واحد (ملتحفًا)؛ بالنصب على الحال (به)؛ أي: بالثوب، وهذا رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (ملتحفٌ)؛ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو ملتحف، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ويجوز فيه الجر صفة لـ (ثوب) المجرور، وقيل: على الجوار، وما زعمه ابن حجر رده إمام الشَّارحين.
(ورداؤه موضوع): جملة اسمية وقعت حالًا؛ أي: موضوع على الشيء، وهناك موضوع على المشجب، كذا في «عمدة القاري».
قلت: فمعنى أنه موضوع؛ يعني: عن جسده يحتمل على الأرض أو غيرها، وقوله: (وهناك)؛ يعني في باب (عقد الإزار على القفا)، والمِشْجَب؛ بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، وفتح الجيم، آخره موحدة: وهو ثلاث عيدان تعقد رؤوسها، ويفرج بين قوائمها، يعلق عليها الثياب، ويقال لها: السِّيْبَه؛ بكسر السين المهملة، وسكون التحتية، وفتح الموحدة، آخره هاء.
(فلما انصرف)؛ أي: فرغ جابر من صلاته؛ (قلنا) أي: قال له أصحابه، ومنهم ابن المنكدر: (يا با عبد الله) أصله: يا أبا عبد الله؛ بالهمزة، فحذفت الهمزة تخفيفًا، وهو كنية جابر رضي الله عنه، (تصلي)؛ أي: في ثوب واحد؛ والتقدير: أتصلي؛ بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار (ورداؤك موضوع) عنك على الأرض أو المشجب؟ (قال)؛ أي: جابر لهم: (نعم) أي: أصلي في ثوب واحد وردائي موضوع؛ (أحببت أن يراني الجهال) وفي الرواية السابقة: (ليراني أحمق) (مثلكم)؛ بالرفع صفة لـ (الجُهَّال)، وهو بضم الجيم، وتشديد الهاء، جمع جاهل، وقدمنا هناك أن (مثل) متوغل في التنكير، فلا يتعرف وإن أضيف إلى المعرفة، فلذلك وقع صفة لنكرة، وهو قوله: (أحمق)، وأمَّا هنا؛ فإنه وقع صفة للمعرفة، فوجهه أنه إذا أضيف إلى ما هو مشهور بالمماثلة؛ تعرَّف، وههنا كذلك، على أن التعريف في (الجهال) للجنس، وهو في حكم النكرة، والمثل؛ يعني: المثيل على وزن (فعيل)، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع، فلذلك لم يطابق (الجهال) مع أن التطابق بين الصفة والموصوف في الإفراد والجمع شرط، أو تقول: هو قد اكتسب الجمعية في المضاف إليه، أو هو جنس يطلق على المفرد والمثنى والجمع، كذا قرره إمام الشَّارحين،
%ص 468%
وقيل: ويجوز النصب على الحال.
(رأيت النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وجملة (يصلي): محلها نصب مفعول ثان [1] لـ (رأيت) (كذا) وفي رواية الكشميهني: (هكذا)، والإشارة إلى الصلاة في ثوب واحد، وسبب تغليظه القول فيه كونه فهم من كلام السائلين الإنكار عليه، والغرض في محبته لرؤية الجهال؛ ليقع السؤال والجواب، فيستفاد منه بيان الجواز، كذا في «عمدة القاري».
فإن قلت: اللام في (ليراني)؛ للتعليل والغرض، فكيف وجه إراءته الجهال غرضًا؟
قلت: الغرض بيان الجواز في ذلك الفعل، فكأنه قال: صنعته محبة لأن يراني الجهال، فينكرون علي بجهلهم، فأظهر لهم جوازه، وإغلاظه عليهم؛ لإنكارهم على فعله؛ لقولهم: (تصلي)؛ لأنَّ الهمزة فيه للإنكار، وهي مقدرة، كما ذكرنا، وقد أسند فعله إلى ما تقرر في صلاته صلَّى الله عليه وسلَّم حيث كان يصلي هكذا، والله أعلم.
==================
(1/625)
(12) [باب مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ.]
هذا (باب: ما يُذكَر)؛ بضم التحتية أوله، وفتح الكاف (في) حكم (الفخِذ) وفي رواية الكشميهني: (من الفخذ)، ويجوز في الخاء المعجمة الكسر والسكون، ووجه مناسبته بما قبله: هو أن المذكور في الباب قبله هو الصلاة في ثوب ملتحفًا به لستر العورة، والمذكور في هذا الباب حكم الفخذ، وهو أنه عورة، فإذا كان عورة؛ يجب ستره، والستر إنَّما يكون بالثياب، فتحققت المناسبة بينهما.
(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف نفسه، كذا هو ثابت في رواية أبوي ذر والوقت، ساقط في غيرهما: (ويُروى)؛ بضم التحتية أوله مبنيًّا للمفعول، وهو تعليق بصيغة التمريض، وذكره المؤلف عن ثلاثة أنفس:
الأول: (عن ابن عباس): هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد وصله الترمذي وأحمد، فقال الترمذي: (حدثنا واصل بن عبد الأعلى، عن يحيى بن آدم، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الفخذ عورة»، وقال: هذا حديث حسن غريب)، وأبو يحيى القتات ضعيف، وهو مشهور بكنيته، واختلف في اسمه على سبعة أقوال؛ قيل: عبد الرحمن بن دينار، وقيل: مسلم، وقيل: زاذان، وقيل: ديان، وقيل: عمران، وقيل: دينار، والقَتَّات: بفتح القاف، وتشديد المثناة الفوقية.
(و) الثاني: عن (جَرْهَد)؛ بفتح الجيم، وسكون الراء، وفتح الهاء، آخره دال مهملة: هو ابن رزاح بن عدي الأسلمي، له صحبة عديدة في أهل المدينة، وقال أبو عمرو: (جعل ابن أبي حاتم جرهد بن خويلد غير جرهد بن رزاح)، وهذا وهم، وهو رجل واحد من أسلم لا يكاد يسلم له صحبة، ويقال: إنه مات سنة إحدى وستين، وفي إسناد حديثه اختلاف كثير، وأخرجه مالك في «الموطأ» عن أبي النضر، عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد، عن أبيه، عن جده قال: وكان جدي من أهل الصُّفة، قال: جلس رسول الله عندي وفخذي مكشوفة، فقال: «خمر عليك، أمَا علمت أن الفخذ عورة»، وقال الدارقطني: (روى هذا الحديث أصحاب «الموطأ»: ابن بكير، وابن وهب، ومعن، وعبد الله بن يوسف، هو عند القعنبي خارج «الموطأ» في الزيادات من مالك، ولم يذكره ابن القاسم في «الموطأ» ولا ابن عفير ولا أبو مصعب ... إلى آخره) كلامه، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي عاصم عن سفيان، عن أبي الزناد، عن زرعة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن زرعة بن مسلم بن جرهد الأسلمي، عن جده جرهد قال: مر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بجرهد في المسجد وقد انكشف فخذه، فقال: «إن الفخذ عورة»، هذا حديث حسن ما أرى إسناده بمتصل، وذكره ابن القطان، ثم قال: (وهو معلول بالاضطراب وبجهالة حال الراوي عن جرهد)، وذكره البخاري في «تاريخه»، ثم قال: (ولا يصح)، قال ابن الحذاء: (وإنما لم يخرجه البخاري في «مصنفه» لهذا الاختلاف) انتهى.
قلت: لكن قد استند فيه لما روي عن ابن عباس وابن جحش، وظاهره الاعتماد عليه؛ لقوله: (وحديث جرهد أحوط)؛ يعني: فينبغي العمل به، فهذا يدل على صحته، وعدم إعلاله؛ فليحفظ.
(و) الثالث: عن (محمد ابن جحش)؛ بالجيم، ثم الحاء المهملة، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو محمد بن عبد الله بن جحش، له ولأبيه صحبة، وزينب بنت جحش أم المؤمنين هي عمته، وكان محمد صغيرًا في عهد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد حفظ عنه، وكان مولده قبل الهجرة بخمس سنين، هاجر إلى المدينة مع [1] أبيه، وله صحبة، وحديثه رواه الطبراني عن يحيى بن أيوب، عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي كثير مولى محمد بن جحش قال: كنت أصلي مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فمرَّ على معمر بن عبد الله بن نضلة [2] العدوي وهو جالس عند داره بالسوق وفخذاه مكشوفتان، فقال: «يا معمر؛ غطِّ فخذيك؛ فإن الفخذين عورة»، قال ابن حزم: (رواية أبي كثير مجهولة [3])، وذكره البخاري في «تاريخه»، وأشار إلى الاختلاف فيه، ورواه أحمد في «مسنده»، والحاكم في «مستدركه»، كذا قرره إمام الشَّارحين رحمه الله تعالى ثلاثتهم.
(عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه قال: (الفخذ عورة): وهو قول الجمهور من التابعين ومن بعدهم؛ منهم: إمامنا الإمام الأعظم، والإمام أبو يوسف، والإمام محمد بن الحسن، والإمام زفر بن الهذيل، وبه قال محمد بن إدريس، وهو الأصح عند مالك، وأصح الروايتين عن أحمد ابن حنبل حتى قال أئمتنا الأعلام: (إن صلاته مكشوف الفخذ فاسدة)، وقال الأوزاعي: (الفخذ عورة إلا في الحمام)، وقال الإمام الوبري: (السرة من العورة عند الإمام الأعظم).
قلت: وهي رواية ضعيفة، والمعتمد: أن السرة ليست من العورة، كما نص عليه المنلاخسرو في «الدرر»، وتبعه البرهان الحلبي، وصاحب «البحر» و «النهر»، وقال في «المفيد»: (الركبة مركبة من عظم الفخذ والساق، فاجتمع الحظر والإباحة، فغلب الحظر احتياطًا) انتهى.
واختلفوا في أن الركبة مع الفخذ عضو واحد، أو كل منهما عضو على حدة؛ ففي «التجنيس»: (الركبة إلى آخر الفخذ عضو واحد حتى لو صلى والركبتان مكشوفتان والفخذ مغطًّى؛ جازت صلاته؛ لأنَّ نفس الركبة من الفخذ، وقيل: إنها بانفرادها عضو)، ولكن الأصح الأول؛ لأنَّه ليس بعضو على حدة في الحقيقة، بل هي ملتقى عظمي الفخذ والساق، وإنما حرم النظر إليها؛ لتعذر التمييز، فعلى الأول: (من) تبعيضية، وعلى الثاني: بيانية، كذا في «العناية».
وقال في «الخلاصة»: (والركبة لا تعتبر عضوًا على حدة، بل تبع للفخذ هو المختار) انتهى.
وقال في «النهر»: (إنه الأصح)؛ فليحفظ، وعورة الرجل من تحت السرة إلى الركبة، والركبة من العورة، كذا قاله الإمام القدوري؛ لحديث علي بن أبي طالب: قال عليه السَّلام: «الركبة من العورة»، وحديث أبي أيوب: «ما فوق الركبتين، وما أسفل من السرة من العورة»، فتعارض المحرم
%ص 469%
والمبيح في الركبة، فيقدم المحرم، وروى الدارقطني مرفوعًا: «عورة الرجل ما تحت السرة إلى ركبتيه»، فإن فيه جعل الركبة غاية، وقد احتمل دخولها وعدمه، والاحتياط في الدخول، فتدخل، كذا في «شرح المنية».
وبدن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها، كذا في «القدوري»، فإن وجهها وكفيها وقدميها ليس بعورة بالإجماع لا في حق الصلاة ولا في حق نظر الأجنبي، حتى إن الأجنبي يباح له النظر إلى وجهها وكفيها وقدميها إذا كان بغير شهوة، وأما ذراع الحرة؛ فظاهر الرواية عن أئمتنا الأعلام: أنه عورة، وفي رواية عن الإمام الأعظم: أن ذراعيها ليسا بعورة، فلو انكشف ذراعاها [4] في الصلاة؛ لا تفسد، كما في «الاختيار»، وصحح بعضهم: أنه عورة في الصلاة لا خارجها، كما في «فتح القدير»، وقال في «المجتبى»: (الذراع لا يمنع الصلاة، لكن يكره كشفه؛ ككشف القدم)، كما في «القهستاني»، فأفاد أن القدم ليس بعورة، وهو الأصح، كما في «المحيط» و «الهداية»، وقيل: إنه عورة، وصححه الأقطع، وفي «الاختيار»: (الصحيح أن القدم ليس بعورة في الصلاة، وعورة خارجها)، وفي «الحلية»: (الصحيح أنه عورة مطلقًا)، فالأقوال ثلاثة مصححة، وقال القدوري: (وما كان عورة من الرجل؛ فهو عورة من الأمَة، وبطنها وظهرها عورة، وما سوى ذلك من بدنها؛ فليس بعورة) انتهى.
ومثل الأمَة القنَّة، وأم الولد، والمدبرة، والمكاتبة، والمستسعاة عند الإمام الأعظم، وقال الصاحبان: المستسعاة حرة، والمراد بالمستسعاة: معتقة البعض، وأما المستسعاة المرهونة إذا أعتقها الراهن وهو معسر؛ فهي حرة اتفاقًا، كذا في «البحر الرائق»، وعورة الرقيق كعورة الحر، والخنثى المشكل الحر كالحرة، والرقيق كالأمَة، قال في «السراج»: الخنثى إذا كان رقيقًا؛ فعورته عورة الأمَة، وإن كان حرًّا؛ فعورته عورة المرأة الحرة، فإن ستر ما بين سرته وصلى؛ قال بعضهم: تلزمه الإعادة؛ لجواز أن يكون امرأة، وقال بعضهم: لا تلزمه الإعادة؛ لجواز أن يكون رجلًا، والإعادة أحوط، كذا في «النهر الفائق»، وفيه عن «السراج»: (الصغير جدًّا لا عورة له، ولا بأس بالنظر إليها ومسها؛ لأنَّه عليه السَّلام كان يفعل ذلك في الحسن والحسين)، كذا في «الفتاوى»، ومثل الصغير الصغيرة، فيباح النظر والمس، كذا في «معراج الدراية»، والمراد بهما: ما لم يبلغا حد الشهوة، وتمامه في «منهل الطلاب».
وزعم ابن بطال أن من صلى مكشوف العورة؛ لا إعادة عليه إجماعًا، وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: دعوى الإجماع غير صحيحة، فيكون مراده إجماع أهل مذهبه، انتهى.
قلت: وقد نقل الشراح: أن الفخذ عورة في أصح أقوال مالك، وعليه فلا إجماع [5] في أهل مذهبه، ولا يخفى أن ما زعمه ابن بطال غير صحيح؛ لمنافاته الأحاديث الدالة على وجوب الستر في الصلاة؛ فليحفظ.
وقال في «التوضيح»: حاصل ما في عورة الرجل خمسة أوجه؛ أصحها وهو المنصوص: أنها ما بين السرة والركبة، وهما ليسا بعورة، وبه قال زفر ومالك، والأصح عند أحمد، ثانيها: أنَّهما عورة كما روي عن الإمام الأعظم، ثالثها: السرة ومن الركبة، رابعها: عكسه، خامسها: القبل والدبر، وهو قول الإصطخري، وهو شاذ، انتهى.
(وقال أنس) زاد الأصيلي: «ابن مالك»: هو الأنصاري، مما وصله المؤلف قريبًا في هذا الباب: (حَسَرَ)؛ بفتح حروفها المهملات؛ أي: كشف (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) في غزوة خيبر الإزار (عن فخذه) فهو دليل على أنه ليس من العورة، وبه قال ابن أبي ذئب، وابن علية، والطبري، وداود، وأحمد في رواية، والإصطخري من الشافعية، قال ابن حزم: العورة المفروض سترها عن الناظر في الصلاة من الرجال الذكر وحلقة الدبر فقط، وليس الفخذ من العورة، وهي من المرأة جميع جسدها حاشا الوجه والكفين فقط، والحر والعبد والحرة والأمَة فيه سواء بلا فرق؛ لحديث أنس الذي أخرجه البخاري: أنه عليه السَّلام غزا خيبر، وفيه: ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذه عليه السَّلام، فصح أن الفخذ من الرجل ليس بعورة، ولو كان عورة؛ لما كشفها الله تعالى من رسوله المطهر المعصوم من الناس في حال النبوة والرسالة، ولا أَرَاها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى عصمه من كشف العورة في حال الصبا من قبل النبوة، انتهى.
والجواب عن هذا الحديث: أنه محمول على غير اختيار الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم فيه، وذلك بسبب ازدحام الناس حيث إنهم في غزوة، يدل عليه مس ركبة أنس فخذه عليه السَّلام، وما ذاك إلا بسبب الازدحام [6]، فليس للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فيه اختيار، وما زعمه ابن حزم من أنه: لو كان عورة؛ لما كشفها الله من رسوله ... إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّ ذلك غير منافٍ؛ لأنَّه إنَّما كان لأجل التشريع حتى يظهر أن الفخذ عورة، لا سيما وقد قال عليه السَّلام: «الفخذ عورة»، فيتعين أن يكون قوله عليه السَّلام: «الفخذ عورة» بعد حسر الإزار عن فخذه إن كان بغير حاجة، والقول مقدم على الفعل عند المحققين، فحديث جرهد يكون ناسخًا لحديث أنس، وقال القرطبي: ويرجح حديث جرهد أن تلك الأحاديث المعارضة له قضايا معينة في أوقات وأحوال مخصوصة يتطرق إليها الاحتمال ما لا يتطرق في حديث جرهد، فإنه أعطى حكمًا كليًّا، فكان أولى، وبيان ذلك: أن تلك الوقائع تحتمل الخصوصية للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، أو البقاء [7] على البراءة الأصلية، أو كان لم يحكم عليه في ذلك الوقت بشيء، ثم بعد ذلك حكم عليه بأنه عورة، انتهى.
يعني: فيكون منسوخًا كما قلناه، والدليل متى طرقه الاحتمال؛ سقط الاستدلال به، لا يقال: الخصوصية لا بد لها من دليل والأصل عدمها؛ لأنَّا نقول: الظاهر أن ذلك خصوصية، والدليل عليه أن أنسًا رأى فخذه عليه السَّلام دون غيره من الصحابة، فلو كان عامًّا؛ لكان جميع الصحابة رأوا فخذه عليه السَّلام، ولم يثبت ذلك عنهم، فالظاهر أنه خصوصية أو منسوخ؛ فافهم.
فإن قلت: روى الحافظ الطحاوي من حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنهما قالت: كان رسول الله
%ص 470%
صلَّى الله عليه وسلَّم ذات يوم قد وضع ثوبه بين فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن، فأذن له والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على هيئته، ثم جاء عمر بمثل هذه الصفة، ثم جاء أناس من أصحابه والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على هيئته، ثم جاء عثمان فاستأذن عليه فأذن له، ثم أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثوبه فجلله، فتحدثوا ثم خرجوا، فقلت: يا رسول الله؛ جاء أبو بكر، وعمر، وعلي، وأناس من أصحابك وأنت على هيئتك، فلما جاء عثمان؛ تجللت ثوبك، فقال: «أولا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟!»، قالت: وسمعت أبي وغيره يحدثون نحوًا من هذا، وأخرجه أحمد والطبراني أيضًا.
قلت: أجاب الحافظ الطحاوي عنه: بأنَّ هذا الحديث على هذا الوجه غريب؛ لأنَّ جماعة من أهل البيت روَوْه على غير هذا الوجه المذكور، وليس فيه ذكر كشف الفخذين، فحينئذٍ لا تثبت به الحجة.
وقال أبو عمر: وحديث حفصة فيه اضطراب، وقال البيهقي: والذي روي في قصة عثمان من كشف الفخذين مشكوك فيه، وقال الطبري: الأخبار التي رويت عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه دخل عليه أبو بكر وعمر وهو كاشف فخذه؛ واهية الأسانيد لا يثبت بمثلها حجة في الدين، ولا الأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ، والأخبار الواردة في النهي عن كشفها أخبار صحاح، انتهى.
يعني: تثبت بها الحجة، والنهي يفيد الحرمة، فثبت أن الفخذ عورة يجب ستره في الصلاة وخارجها.
وقال إمام الشَّارحين: وقول الحافظ الطحاوي: «لأن جماعة من أهل البيت رووه على غير هذا الوجه»: هو حديث عائشة وعثمان، فأخرجه مسلم: أن عائشة رضي الله عنها وعثمان رضي الله عنه قالا: إن أبا بكر استأذن على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه، فجلس، وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك، فقضيت إليه حاجته، ثم انصرف، فقالت عائشة: يا رسول الله؛ ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ قال عليه السَّلام: «إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال؛ ألَّا يبلغ إلي في حاجته»، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا، وقال: فهذا أصل هذا الحديث، ليس فيه ذكر كشف الفخذين أصلًا.
فإن قلت: قد روى مسلم أيضًا في «صحيحه»، وأبو يعلى في «مسنده»، والبيهقي في «سننه» هذا الحديث، وفيه ذكر كشف الفخذين، ولفظ مسلم: أن عائشة قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مضطجعًا في بيته، كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحالة، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسوَّى ثيابه، فلما خرج؛ قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، فلما دخل عثمان؛ جلست وسويت ثيابك؟ فقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!».
قلت: لما أخرجه البيهقي؛ قال: لا حجة فيه؛ لأنَّه مشكوك فيه، فإن الراوي قال: «فخذيه أو ساقيه»، فدل ذلك على أن ما قاله الحافظ الطحاوي: إن أصل الحديث ليس فيه ذكر كشف الفخذين، وقال أبو عمرو: هذا حديث مضطرب، انتهى.
(قال أبو عبد الله): هو المؤلف نفسه، كذا في رواية ابن عساكر فقط: (وحديث أنس)؛ أي: ابن مالك المذكور (أسند)؛ يعني: أقوى وأحسن سندًا من الحديث السابق (و) هو (حديث جرهد) وما معه، لكن العمل به (أحوط)؛ أي: أكثر احتياطًا في أمر الدين من حديث أنس، (حتى يُخرَج)؛ بضم المثناة التحتية أوله، وفتح الراء، وفي رواية: (حتى يَخرُج)؛ بفتح المثناة التحتية، وضم الراء، كذا في «الفرع»، قال إمام الشَّارحين: وهو على صيغة جماعة المتكلم من المضارع؛ بفتح النون، وضم الراء، وتبعه ابن حجر (من اختلافهم)؛ أي: العلماء؛ يعني: لما وقع الخلاف في الفخذ هل هو عورة أم لا؟ فذهب قوم: إلى أنه عورة، واحتجوا بحديث جرهد، وبما روي مثله في هذا الباب، وذهب آخرون: إلى أنه ليس بعورة، واحتجوا بحديث أنس كأنَّ قائلًا يقول: إن الأصل أنه إذا روي حديثان في حكم واحد؛ أحدهما أصح من الآخر؛ فالعمل يكون بالأصح، فههنا حديث أنس أصح من حديث جرهد، فكيف وقع الاختلاف؟ فأجاب المؤلف عن هذا بقوله: «وحديث أنس أسند ... » إلى آخره، وتقريره: أن يقال: نعم؛ حديث أنس أسند من حديث جرهد، إلا أن العمل بحديث جرهد؛ لأنَّه أحوط في أمر الدين، وأقرب إلى التقوى؛ للخروج من اختلاف العلماء، ولأجل هذه النكتة؛ لم يقل المؤلف: باب الفخذ عورة، ولا قال أيضًا: باب الفخذ ليس بعورة، بل قال: (باب ما يذكر في الفخذ)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قلت: يعني: إنَّما قال: (باب ما يذكر في الفخذ)؛ لأجل أن يكون جاريًا على القولين في أن الفخذ عورة أم لا؟ وقد صرح علماؤنا الأعلام: بأنه لا بأس بالعمل بالقول الضعيف.
وقال الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: من السرة إلى موضع نبات شعر العانة ليس من العورة؛ لتعامل العمال في ابتداء ذلك الموضع عند الائتزار، وفي ستره نوع حرج، وهذا القول ضعيف؛ لأنَّ التعامل بخلاف النص لا يعتبر، كما صرح به في «البحر» عن السراج، ومراده بتعامل العمال: عموم البلوى، فإن الناس الآن في زماننا في جميع البلدان لا يسعهم إلا هذا القول، فإنَّهم يدخلون الحمامات، ويئتزرون في المآزر، ويقعدون على الأجران لصب الماء، وحين يصبون الماء على أجسادهم؛ يسقط المئزر عن عورتهم من غير صنع على أفخاذهم، فتنكشف السرة وما تحتها وتبقى العانة مستورة، وكلما ستروا ما فوق العانة؛ يسقط المئزر بصب الماء، وهذا مما شوهد كثيرًا وعمت به البلوى، فينبغي العمل بهذا القول وإن كان ضعيفًا؛ لأنَّ العمل بالقول الضعيف أولى وأحسن من عدم العمل بالقول الصحيح، ولا سيما في خاصة نفسه، فإنه جائز كما صرحوا به، كذا في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم بالصواب.
(وقال أبو موسى): هو عبد الله بن قيس الأشعري، مما هو طرف من حديث ذكره المؤلف في (مناقب عثمان) رضي الله عنه، من رواية عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عنه، وفيه: (غطى)؛ بالغين المعجمة، والطاء المهملة؛ أي: ستر (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم ركبتيه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (ركبته)؛ بالإفراد (حين دخل عثمان) هو ابن عفان رضي الله عنه، وذلك أدبًا معه واستحياء، وقد بين النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم معناه، كما في «مسلم» و «البيهقي» بقوله: «ألا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء؟!»، وقد كان عليه السَّلام يصف
%ص 471%
كل واحد من أصحابه، ويفعل معه ما هو الغالب عليه من أخلاقه مما هو مشهور فيه، ولما كان الحياء الغالب على عثمان؛ استحى منه، وذكر أن الملائكة تستحي منه، فكانت المجازاة من جنس فعله، كذا في «عمدة القاري».
وقال الكرماني: فإن قلت: الركبة لا تخلو إما أن تكون عورة أو لا، فإن كانت عورة؛ فلِمَ كشفها قبل دخول عثمان، وإن لم تكن عورة؛ فلِمَ غطاها عنه؟
قلت: الشق الثاني هو المختار، وأما التغطية؛ فكانت للأدب والاستحياء منه، انتهى.
يعني: فكَشْف ركبتيه عليه السَّلام قبل دخول عثمان رضي الله عنه دليل على أنها ليست بعورة، مع أن ستر العورة خارج الصلاة بحضرة الناس واجب إجماعًا إلا في مواضع؛ كالتغوط، والاستنجاء، وحلق العانة، والجماع، واختلف فيه في الخلوة، والصحيح وجوبه إذا لم يكن لغرض صحيح، كما في «البحر».
وقال صاحب «القنية»: وفي تجرده للاغتسال منفردًا أقوال؛ أحدها: أنه مكروه، الثاني: إذا أمن دخول الناس عليه؛ يعذر، الثالث: أنه يجوز في المدة اليسيرة، وهو قول الإمام الكرابيسي، الرابع: أنه لا بأس به، الخامس: أنه لا يكره أن يغتسل متجردًا في الماء الجاري أو في غيره في الخلوة، وهو قول الإمام أبي نصر بن سلام، السادس: أنه يجوز في بيت الحمام الصغير، وتمامه في «شرح الوهبانية».
قلت: ولا يشترط سترها عن نفسه، وقيل: يشترط، قال في «مجمع الأنهر»: والشرط سترها عن غيره اتفاقًا لا عن نفسه، هو المختار، كما في «المنية»، وبه يفتى كما في «الدر المختار»، ويكره نظره إلى عورة نفسه؛ لأنَّه يورث النسيان، ومن شمائل سيدنا الصديق الأكبر رضي الله عنه: أنه ما نظر إلى عورته قط، وما مسها بيمينه، فإذا كان هذا في عورة نفسه، فما ظنك بعورة غيره؟ كذا نقله القرماني عن حافظ الدين النسفي رحمه الله تعالى.
ولو نظر المصلي إلى عورة غيره؛ لا تفسد صلاته، ولو نظر المصلي إلى فرج امرأة بشهوة؛ حرمت عليه أمها وابنتها، ولو نظر إلى فرج أم امرأته بشهوة؛ حرمت عليه امرأته، ولو نظر إلى فرج امرأته التي طلقها رجعيًّا؛ يصير مراجعًا، ولا تفسد صلاته في الوجوه كلها عند الإمام الأعظم، كما في «الخانية»، وقال الصاحبان: تفسد صلاته كما في «النوازل»، وقال إمام الشَّارحين: (وجه مطابقة هذا للترجمة من حيث إن الركبة إذا كانت عورة؛ فالفخذ بالطريق الأولى؛ لأنَّه أقرب إلى الفرج الذي هو عورة إجماعًا).
وزعم الداودي أن هذه الرواية المعلقة عن أبي موسى وَهم، وإنما هي ليست من هذا الحديث، وقد أدخل بعض الرواة حديثًا في حديث: إنَّما أتى أبو بكر إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في بيته منكشف فخذه، فلما استأذن عثمان؛ غطى فخذه، فقيل له في ذلك، فقال: «إن عثمان رجل حيي، فإن وجدني على تلك الحالة؛ لم تبلغ حاجته»، ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: الذي ذكرناه من رواية عاصم يرد عليه بيان ذلك أنا قد ذكرنا أن في حديث عائشة رضي الله عنها: «كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه»، وعند أحمد بلفظ: «كاشفًا عن فخذه» من غير شك، وعنده من حديث حفصة مثله، فقد ظهر من ذلك أن البخاري لم يدخل حديثًا في حديث، بل هما قضيتان متغايرتان في إحداهما [8] كشف الركبة، وفي الأخرى كشف الفخذ، ورواية أبي موسى التي علقها البخاري في كشف الركبة، ورواية عائشة في كشف الفخذ، ووافقتهما حفصة، ولم يذكر البخاري روايتهما، وإنما ذكر مسلم رواية عائشة، كما ذكرنا) انتهى.
(وقال زيد بن ثابت): هو الأنصاري النجاري كاتب وحي النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وجامع القرآن العظيم في عهد أبي بكر الصديق الأكبر رضي الله عنه، وأمره عليه السَّلام بتعلم كتب اليهود والسريانية، فتعلم كتب اليهود في نصف شهر، والسريانية في سبعة عشر يومًا، وكان من علماء الصحابة رضي الله عنهم، وقال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في حقه: «أفرضكم زيد»، رواه أحمد بإسناد صحيح، وتوفي سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين، ودفن غربي دمشق بباب السريجة بمسجد معلوم على ما قيل، وهو مشهور بذلك في ديارنا الشريفة الشامية.
وقال أبو هريرة حين توفي زيد: مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا رضي الله عنهم أجمعين، وفي «عمدة القاري»: وهذا تعليق، وطرف من حديث وصله البخاري في (تفسير سورة النساء) في نزول قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ... }؛ الآية، [النساء: 95] وأخرجه في (الجهاد)، وأخرجه الترمذي في (التفسير)، وقال: (حسن صحيح)، وأخرجه النسائي في (الجهاد)، انتهى.
(أنزل الله) عز وجل (على رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ... }؛ الآية (وفخذه على فخذي): جملة اسمية حالية بالواو، ولأبي ذر: بدونها، (فثَقُلت)؛ بفتح الثاء المثلثة، وضم القاف؛ أي فخذه عليه السَّلام (عليَّ)؛ بفتح التحتية؛ أي: من ثقل الوحي النازل على رسوله عليه السَّلام، (حتى خفِت)؛ بكسر الخاء المعجمة؛ أي: ظننت (أن تُرَض)؛ بضم المثناة الفوقية، وفتح الراء، وتشديد الضاد المعجمة على صيغة المجهول، ويجوز أن يكون على صيغة المعلوم أيضًا، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: والأول أظهر، كما لا يخفى؛ ومعناه: الكسر؛ لأنَّه من الرض؛ وهو الدق، وكل شيء كسرته؛ فقد رضضته، وقوله: (فخذي)؛ بالرفع بضمة مقدرة على صيغة المجهول، أو بالنصب بفتحة مقدرة على صيغة المعلوم، لكن الأول أظهر؛ لصحة المعنى والسياق؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وإيراد البخاري هذا الحديث هنا ليس له وجه؛ لأنَّه لا يدل على أن الفخذ عورة، ولا يدل على أنه ليس بعورة أيضًا، فأي شيء مال إليه لا يدل عليه على أنه مال إلى أن الفخذ عورة)، قال: (وحديث جرهد أحوط، نعم؛ لو كان فيه التصريح بعدم الحائل؛ لدل على أنه ليس بعورة، إذ لو كان عورة في هذه الحالة؛ لما مكن عليه السَّلام فخذه على فخذ زيد) انتهى.
وزعم ابن حجر أن الظاهر أن المؤلف تمسك بالأصل، ورده في «عمدة القاري» فقال: (لم يبين ما مراده من الأصل، وعلى كل حال لا يدل الحديث على مراده صريحًا) انتهى.
قلت: ومراده بالأصل إنَّما هو المس؛ يعني: يحمل الحديث على المس بدون حائل؛ لأنَّه الأصل، وهو يفيد أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنَّ مس العورة بدون حائل حرام؛ كالنظر إليها، ورد بأنه لو كان فيه تصريح بعدم الحائل؛ لدل على أنه ليس بعورة، ولم يكن في الحديث
%ص 472%
ذكر عدم الحائل لا صريحًا ولا دلالة على أن الغالب أنه عليه السَّلام كان ساترًا فخذه، وكذلك زيد بن ثابت كان ساترًا الفخذ، وهو بالأولى أدبًا مع النبيِّ الأعظم صلى الله عيه وسلم، واستحياءً منه، وهذا هو الظاهر، فإن المؤلف لم يعلم ما مراده بإيراد هذا الحديث، وقد يقال: إن الحديث يدل على أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنَّه لا يخلو من كشف عورته غالبًا؛ بسبب الانتقال من جانب إلى آخر، وتصريح زيد بالفخذ يدل على أن فخذه عليه السَّلام قد كشف، لكن يبقى النظر في أنه عليه السَّلام هل أقر على الكشف أم نهى وستر عليه؟ وقد يقال: إن الحديث يدل على أن الفخذ عورة؛ لأنَّ الفخذ على الفخذ لا يكون إلا مستورًا بينهما بساتر، ووجود الساتر على الفخذ يدل عليه القرائن من الأحوال، فإنه عليه السَّلام من عادته ألَّا يكشف عورته ولا فخذه، فإن القرينة الحالية والمقالية يدلان على أن قوله: (فخذه على فخذي)؛ أي: مع وجود الساتر بينهما لا مكشوف، كما ظهر لنا؛ فتأمل، والله أعلم.
==========
[1] في الأصل: (في)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (فضلة)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (راويه ... مجهول)، و لعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ذراعيها)، والمثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (إجماعًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (الازدحال)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (التقاء)، وهو تصحيف.
[8] في الأصل: (إحديهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (في)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (فضلة)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (راويه ... مجهول)، و لعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ذراعيها)، والمثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (إجماعًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (الازدحال)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (التقاء)، وهو تصحيف.
[1] في الأصل: (في)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (فضلة)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (راويه ... مجهول)، و لعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ذراعيها)، والمثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (إجماعًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (الازدحال)، وهو تحريف.
[7] في الأصل: (التقاء)، وهو تصحيف.
(1/626)
[حديث أنس: أن رسول الله غزا خيبر فصلينا عندها]
371# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يعقوب بن إبراهيم): هو ابن كثير الدورقي العبدي الكوفي، فإن أصل الدورقي من الكوفة، وليس هو من بلد دورق، وإنما سمي به؛ لأنَّه كان يلبس قلنسوة دورقية، فنسب إليها (قال: حدثنا إسماعيل ابن عُلَيَّة)؛ بضم العين المهملة، وفتح اللام، وتشديد المثناة التحتية، نسبه إلى أمه؛ لشهرته بها، فإن اسم أبيه إبراهيم بن سهم بن مقسم البصري، أبو بشر الأسدي؛ أسد خزيمة، الكوفي الأصل، المتوفى ببغداد سنة ثلاث وتسعين ومئة (قال: حدثنا عبد العزيز بن صُهَيْب)؛ بضم الصاد المهملة، وفتح الهاء، وسكون التحتية، آخره موحدة: هو البُناني؛ بضم الموحدة، وبالنون نسبة إلى بنانة؛ بطن من قريش، التابعي هو وأبوه البصري الأعمى، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك): هو الأنصاري: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزا خيبر)؛ يعني: غزا بلدة تسمى خيبر؛ فسميت به، والمراد أهلها من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه؛ وهي بلدة عنزة من جهة الشمال أو الشرق من المدينة، على ست مراحل من المدينة، و (خيبر): غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث، ولها نخيل كثير، وكانت في صدر الإسلام دارًا لبني قريظة وبني النضير، وكانت غزوة خيبر سنة سبع من الهجرة في جمادى الأولى، قاله ابن سعد، وقال ابن إسحاق: (أقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعد رجوعه من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، وخرج في بقيته غازيًا إلى خيبر، ولم يبق من السنة السادسة إلا شهر وأيام)، كذا في «عمدة القاري».
(فصلينا عندها) أي: بفنائها خارجًا عنها (صلاة الغداة): وهي الصبح (بغَلَس)؛ بفتح الغين المعجمة واللام: وهو ظلمة آخر الليل، إنَّما فعل هكذا مع أن الإسفار في صلاة الصبح أفضل وأعظم للأجر، إما للتوسعة على أمته، وإما لكونه داخلًا على الأعداء الكفرة لقتالهم، فخشي إن أسفر أن يرَوه فيتأهبوا للقتال فيفوت المقصود، فأسرع بالصلاة في الغلس حتى يتفرغ هو وأصحابه للقتال مع المحافظة للطهارة وأداء الصلاة؛ لأنَّه ربما يشتغل بالقتال فتفوت الصلاة عن وقتها كما وقع له عليه السَّلام في حفر الخندق، فلا دليل فيه على أن الأفضل التغليس، بل الأفضل الإسفار للأحاديث الصحاح الدالة على أن عادته عليه السَّلام الإسفار بالفجر، بل فيها بلفظ الأمر وهو «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر»، والأمر للوجوب، ولما وجد الصارف عن الوجوب؛ بقي الاستحباب وهو الصواب، وفيه جواز إطلاق صلاة الغداة على صلاة الصبح خلافًا لمن زعم من الشافعية أنه مكروه؛ فليحفظ.
(فركب نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: ركب مركوبه، وعن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف، وتحته إكاف من ليف)، رواه البيهقي والترمذي، وقال: وهو ضعيف.
وقال ابن كثير: والذي ثبت في «الصحيح» عند البخاري عن أنس: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجرى في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه)، فالظاهر أنه كان يومئذٍ على فرس لا على حمار، ولعل هذا الحديث إن كان صحيحًا؛ فهو محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها، كذا في «عمدة القاري».
قلت: ويدل على أنه عليه السَّلام ركب يوم خيبر فرسًا قوله: (وركب أبو طلحة): هو زيد بن سهل الأنصاري، شهد العقبة والمشاهد كلها، وهو أحد النقباء، وكان أنس ربيبه، مات سنة اثنتين [1] أو أربع وثلاثين بالمدينة أو بالشام أو في البحر، والظاهر أنه ركب على فرس يدل عليه.
قوله: (وأنا رديف أبي طلحة)؛ أي: قال أنس: وأنا رديف أبي طلحة، والجملة اسمية وقعت حالًا، فإن الذي يردف عليه في الغالب الفرس لا الحمار؛ لأنَّه لا قوة له على حمل اثنين، بخلاف الفرس؛ فإنه يحمل اثنين أو ثلاثًا، لا سيما والوقت وقت غزاة فلا يركب في الغزاة إلا الفرس، فهذا يدل على أنه عليه السَّلام وكذا أبو طلحة كانا راكبين في غزوة خيبر كل منهما على فرس، وما رواه البيهقي إن صح؛ فهو محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها، كما سبق قريبًا؛ فليحفظ.
(فأجرى): على وزن (أفعل) من الإجراء وفاعله (نبيُّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم) والمفعول محذوف؛ تقديره: أجرى مركوبه (في زُقاق خيبر)؛ بضم الزاي، وبالقافين: وهي السكة، يذكر ويؤنث، والجمع: أزقة وزُقَّان؛ بضم الزاي، وتشديد القاف، وبالنون.
وقال الأخفش: أهل الحجاز يؤنثون الطريق، والصراط، والسبيل، والسوق، والزقاق، وبنو تميم يذكرون هذا كله، والجمع: الزقان والأزقة؛ مثل: حُوَار، وحوران، وأحورة، كذا في «عمدة القاري».
(وإن ركبتي) بالإفراد؛ أي: قال أنس: وإن ركبتي (لتمس) بفتح اللام (فخذ نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم): حيث كان كل من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ومن أبي طلحة راكبًا [2] على فرس؛ لأنَّه لو كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم راكبًا على حمار؛ لما مس فخذه ركبة أنس؛ للفرق بين العلو والسفل، لا يقال: إنَّهما كانا على حمار؛ لأنَّا نقول: هذا ممنوع؛ لقوله: (وأنا رديف أبي طلحة)، والإرداف لا يكون إلا على الفرس، ولا تخالف في تعبيره بالركبة والفخذ؛ لأنَّ مراده المشاكلة والأدب؛ حيث إن الفخذ أعلى من الركبة، فقصد الأدب في التشريف بفخذه عليه السَّلام على أن مس
%ص 473%
الفخذ منه لفخذه عليه السَّلام لا يمكن كما يشاهد في حال الراكبين، ولو كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على حمار؛ لما أمكن مس ركبة أنس فخذه عليه السَّلام؛ لأنَّ الفرس أعلى من الحمار، فتعين أنه عليه السَّلام كان يوم خيبر راكبًا [3] على فرس، وأن أبا طلحة كذلك؛ فليحفظ.
(ثم حُسِر)؛ بضم الحاء، وكسر السين المهملتين على صيغة المجهول؛ أي: كشف (الإزار) بالرفع نائب فاعل (عن فخذه) متعلق بقوله: (حسر)، وذلك بسبب قوة جريه عليه السَّلام، أو بسبب كثرة الزحام، أو بسبب الريح، أو غير ذلك.
وزعم الكرماني أن في بعض الروايات: (على فخذه)؛ أي: الإزار الكائن على فخذه، فلا يتعلق بـ (حسر)، إلا أن يقال: حروف الجر يقام بعضها مقام الآخر، قال إمام الشَّارحين: إن صحت الرواية هذه؛ يكون متعلق (على) محذوفًا كما قاله؛ لأنَّه حينئذ لا يجوز أن يتعلق (على) بقوله: (حسر)؛ لفساد المعنى، ويجوز أن تكون (على) بمعنى (من)، كما في قوله تعالى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين: 2]؛ أي: من الناس؛ لأنَّ (على) تأتي لتسعة معان [4]؛ منها: أن تكون بمعنى (من)، انتهى.
(حتى إني أنظر): وفي رواية الكشميهني: (حتى إني لأنظر)؛ بزيادة لام التأكيد (إلى بياض فخذ نبيِّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم): وقد علمت أن لفظة (حُسِر) بالبناء للمجهول، وهو ثابت في أكثر الروايات، واعتمده إمام الشَّارحين قال: والدليل على صحة هذا ما وقع في رواية أحمد في «مسنده» من رواية إسماعيل ابن علية: (فانحسر)، وكذا وقع في رواية مسلم، وكذا رواه الطبري عن يعقوب بن إبراهيم شيخ البخاري في هذا الموضع، وروى الإسماعيلي هذا الحديث عن القاسم بن زكريا، عن يعقوب بن إبراهيم، ولفظه: (وأجرى نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم في زقاق خيبر؛ إذ خر الإزار)، قال: ولا شك أن الخرور هنا بمعنى: الوقوع، فيكون لازمًا، وكذلك الانحسار في رواية مسلم، وهذا هو الأصوب؛ لأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكشف إزاره عن فخذه قصدًا، وإنما انكشف عن فخذه؛ لأجل الزحام، أو كان ذلك من قوة إجرائه صلَّى الله عليه وسلَّم، انتهى.
وفي رواية «الفرع»: (حَسر)؛ بفتح الحاء والسين المهملتين مبنيًّا للفاعل؛ أي: كشف الإزار، وزعم ابن حجر أنَّ هذا المعنى هو الصواب [5]؛ لقول أنس في أول الباب: (حسر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن فخذه)، ولا يلزم من وقوعه، كذلك في رواية مسلم ألَّا يقع عند البخاري على خلافه، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: اللائق بحاله الكريمة صلَّى الله عليه وسلَّم ألَّا يثبت إليه كشف فخذه قصدًا مع ثبوت قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الفخذ عورة» على ما تقدم.
وقوله: (لا يلزم من وقوعه ... ) إلى آخره: منع هذه الملازمة ممنوعة، ولئن سلمنا؛ فيحتمل أن أنسًا رضي الله عنه لما رأى فخذه عليه السَّلام مكشوفًا؛ ظن أنه عليه السَّلام كشفه، فأسند الفعل إليه، وفي نفس الأمر لم يكن ذلك إلا من أجل الزحام أو من قوة الجري على ما ذكرنا، انتهى.
قلت: على أن (حَسر) بالبناء للفاعل غير ظاهر الثبوت في الرواية، وإنما هو ظن وتخمين من ابن حجر أنه الصواب وليس بصواب كما ظن، فإن استدلاله بقول أنس أول الباب فاسد؛ لأنَّ البخاري علقه بذكر هذه القطعة من هذا الحديث، وذكره بالمعنى لا باللفظ، وأراد به الإشارة إلى أن الفخذ عورة أم لا؟ على أنه يحتمل معناه: حسر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن فخذه؛ أي: الإزار بسبب أنه تعلق مع غيره من الركاب، فأراد تخليصه من فرس الراكب، فانحسر عن فخذه بغير قصد منه، ويحتمل غير ذلك، فلا دلالة في ذلك على ما ادعاه.
وقوله: (لا يلزم من وقوعه، كذلك في رواية مسلم ... ) إلى آخره: ممنوع، فإن الأحاديث تفسر بعضها بعضًا، لا سيما في حديث واحد وقصة واحدة، فإنه قد روي أيضًا هكذا عند أحمد في «مسنده»، وكذا رواه الطبري والإسماعيلي هكذا في هذا الحديث، فمنع الملازمة ممنوع، كما لا يخفى، وعليه؛ فيتعين أن يكون أنس رأى فخذه عليه السَّلام مكشوفًا، فظن أنه عليه السَّلام كشفه، فأسند الفعل إليه، والحال أنه لم يكن كذلك؛ بل من أجل الزحام، أو تعلقه بالغير من الركاب، أو غير ذلك، وهذا هو الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب.
(فلما دخل) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه (القرية)؛ أي: خيبر، وهذا مشعر بأن ذلك الزقاق كان خارج القرية، كذا في «عمدة القاري» (قال) عليه السَّلام: (الله أكبر خربت خيبر)؛ أي: صارت خرابًا، وهل كان ذلك على سبيل الخبرية؟ فيكون من باب الإخبار بالغيب، أو يكون ذلك على جهة الدعاء عليهم، أو على جهة التفاؤل بخرابها لما رآهم خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، وذلك من آلات الحراث، ويجوز أن يكون أخذ من اسمها، وقيل: إن الله تعالى أعلمه بذلك، قاله إمام الشَّارحين.
(إنَّا) أصله: (إننا)، فحذفت نون الضمير تخفيفًا (إذا نزلنا بساحة قوم): ساحة الدار: باحتها؛ بالحاء المهملة، والجمع: ساح وساحات، وسوح أيضًا؛ مثل: بدنة وبدن، وخشبة وخشب، كذا في «الصحاح»، قال إمام الشَّارحين: (وعلى هذا؛ فأصل «ساحة»: سوحة، قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأصل الساحة: الفضاء بين المنازل، وتطلق على الناحية، والجهة، والفناء) انتهى.
قلت: ويدل عليه قول القرطبي: ومعنى بساحتهم؛ أي: بدارهم، كذا عن السدي وغيره، والساحة والسحسة في اللغة: فناء الدار، وقال الفراء: (نزل بساحتهم، ونزل بهم سواء) انتهى.
({فَسَاءَ صَبَاحُ المُنذَرِينَ}) [الصافات: 177]؛ بفتح الذال المعجمة، (فساء): فعل ذم بمعنى: بئس، وإن المخصوص بالذم محذوف، وهو صباحهم؛ يعني: فبئس صباح المنذرين صباحهم، واللام في (المنذرين) للجنس لا للعهد؛ ليحصل به التفسير بعد الإبهام، فلو حملت على العهد؛ لا يحصل ذلك، فإن أفعال المدح والذم موضوعة للمدح العام والذم العام؛ أي: لمدح المخصوص وذمه بجميع محاسن جنس الفاعل وقبائحه، وذلك إنَّما يكون بكون الفاعل معرفًا بلام الجنس أو مضافًا إلى المعرف بها؛ نحو: نعم صباح القوم زيد، والصباح مستعار من صباح الجيش الذين ساروا ليلًا نحو العدو، فوصلوا ديارهم ومنازلهم وقت الصباح، فأوقعوا بهم ما شاؤوا من النهب والغارة، فصباح الجيش المذكور وقت غارتهم، فإن عادة المغيرين أن يغيروا صباحًا، فسمى الغارة صباحًا وإن وقعت في وقت آخر تسمية للشيء باسم زمانه ومحله، وهذا يدل على أن معنى قوله تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 177]؛ يريد: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقيل: إن معناه: نزول العذاب، فيكون استعارة تمثيلية؛ حيث شبه حال العذاب النازل بهم بعد ما أنذروا به فأنكروه
%ص 474%
بحال جيش أنذر بهجومه قومه بعض نصائحهم، فلم يلتفتوا إلى إنذاره حتى أناخ بفنائهم بغتة، فأغارهم وقطع دابرهم، فإن ذلك التعبير حقيقة في هذه الهيئة المشبه بها، فأطلق على الهيئة الأولى مجازًا على طريق التمثيل، انتهى.
(قالها)؛ أي: هذه الجملة عليه السَّلام (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، وإنما كررها إخبارًا منه لأصحابه أن النصرة لله ولرسوله عليه السَّلام عليهم حقيقة، (قال)؛ أي: أنس بن مالك: (وخرج القوم إلى أعمالهم) أي: لأعمالهم التي كانوا يعملونها، فكلمة (إلى) بمعنى اللام، فإنها تأتي بمعنى اللام كثيرًا، قاله إمام الشَّارحين، وزعم الكرماني أن معناه: خرج القوم إلى مواضع أعمالهم، وتبعه البرماوي تعصبًا، وهذا المعنى قد رده إمام الشَّارحين ولم يرض به، ولا ريب أنه غير ظاهر؛ للفرق بين خروجهم إلى مواضع أعمالهم وبين خروجهم لأعمالهم، فإنَّهم قد يخرجون لمواضع أعمالهم ولا يعملون، ويخرجون لأعمالهم؛ أي: لأجل العمل، فالظاهر هو ما قاله إمام الشَّارحين يدل عليه قوله عليه السَّلام: «خربت خيبر»، وذلك بسبب أنه رآهم خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم وغير ذلك من آلات الحراث، ولا ريب أنه إذا كان هذا حالهم؛ فالغلبة عليهم، وهو ظاهر في أنَّهم خرجوا لأجل أعمالهم التي يعملونها؛ فليحفظ.
(فقالوا)؛ أي: أهل خيبر: (محمدٌ)؛ أي: جاء محمد، وارتفاعه على أنه فاعل لفعل محذوف، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا محمد عليه السَّلام، كذا في «عمدة القاري».
(قال عبد العزيز): هو ابن صهيب أحد رواة الحديث عن أنس: (وقال بعض أصحابنا): أشار بهذا إلى أنه لم يسمع هذه اللفظة من أنس، وإنما سمعها من بعض أصحابه عنه، وهذه رواية عن المجهول، إذ لم يعين هذا البعض منه، وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون هذا البعض هو محمد بن سيرين؛ لأنَّ المؤلف أخرج من طريقه أيضًا، ويحتمل أن يكون هذا البعض هو ثابت البناني؛ لأنَّ مسلمًا أخرجه من طريقه أيضًا، ورده إمام الشَّارحين فقال: (ويحتمل أن يكون هذا البعض غيرهما، وعلى كل حال؛ لا يخرج عن الجهالة) انتهى.
قلت: والاحتمالان اللذان [6] ذكرهما ابن حجر ظن وتخمين، فإنه لا يلزم من كون المؤلف أخرج من طريق ابن سيرين أن يكون هو ذلك البعض؛ لأنَّ عادة المؤلف التعدد في الروايات والاختلاف في الطرق، ولا يلزم أيضًا من كون مسلم أخرج من طريق ثابت أن يكون هو ذلك البعض؛ لاحتمال أنَّ هذا الطريق غير طريق المؤلف، فالصواب أنَّ هذا البعض مجهول لم يعلم اسمه؛ فافهم.
(والخَميسُ)؛ بفتح الخاء المعجمة بالرفع عطفًا على قوله (محمد)، وبالنصب على أن تكون الواو بمعنى (مع)، فيكون المعنى: جاء محمد مع الجيش؛ (يعني)؛ أي: يريد ويقصد بقوله: (الخميس) (الجيش): وهذا المعنى يحتمل أن يكون تفسيرًا من عبد العزيز، ويحتمل أن يكون ممن دونه، وأشار عبد العزيز إلى أنه لم يسمع قوله: (والخميس) من أنس، وإنما سمعها من بعض أصحابه، كما سبق.
قال إمام الشَّارحين: (وسمي الجيش خميسًا؛ لأنَّه خمسة أقسام: مقدمة، وساقة، وقلب، وجناحان، ويقال: ميمنة، وميسرة، وقلب، وجناحان، وقال ابن سيده: (سمي به؛ لأنَّه يخمس ما وجده)، وقال الأزهري: الخمس إنَّما ثبت في الشرع، وكانت الجاهلية يسمونه بذلك ولم يكونوا يعرفون الخمس) انتهى.
ثم قال الشَّارح: (والحاصل: أن عبد العزيز قال: سمعت من أنس قالوا: محمد فقط، وقال بعض أصحابه: قالوا: محمد والخميس، ثم فسر عبد العزيز (الخميس) بقوله: (الجيش)، ويجوز أن يكون التفسير ممن دونه، وعلى كل حال؛ فهو مدرج) انتهى.
(قال)؛ أي: أنس: (فأصبناها) أي: خيبر؛ أي: أخذناها (عَنْوة)؛ بفتح العين المهملة، وسكون النون؛ أي: قهرًا، يقال: أخذته عنوة؛ أي: قهرًا، وقيل: أخذ عنوة؛ أي: عن غير طاعة، وقال ثعلب: (أخذت الشيء عنوة؛ أي: قهرًا في عنف واحد، وأخذته عنوة؛ أي: صلحًا في رفق)، وزعم ابن التين أنه يجوز أن يكون عن تسليم من أهلها وطاعة بلا قتال، ونقله عن القزاز في «جامعه»، قال إمام الشَّارحين: (وحينئذ يكون هذا اللفظ من الأضداد) انتهى.
قلت: وظاهر أنَّهم أصابوها قهرًا من غير إطاعة، بل بالقتال، يدل عليه قوله: (عنوة)؛ وهو القهر، وهو ضد الطاعة، ولهذا قال أبو عمرو: (الصحيح: في أرض خيبر كلها عنوة).
وقال المنذري: واختلف في فتح خيبر هل كانت عنوة، أو صلحًا، أو أجلى أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها صلحًا وبعضها عنوة، وبعضها أجلى عنها أهلها؛ قال: والصحيح الثاني، قال إمام الشَّارحين: (وبهذا يندفع التضاد بين الآثار) انتهى.
(فجُمع) بضم الجيم مبنيًّا للمفعول (السبي)؛ أي: بأمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وهو ما يؤخذ من الكفار، وسمي سبيًا؛ لأخذه قهرًا مجانًا، (فجاء دِحية)؛ بفتح الدال المهملة وكسرها، زاد ابن عساكر الكلبي: (هو دحية بن خليفة بن فروة الكلبي)، وكان أجمل الناس وجهًا، وكان جبريل عليه السَّلام يأتي النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في صورته، وهو مدفون بقرية المزة غربي دمشق رضي الله عنه، (فقال: يا نبيَّ الله؛ أعطني جارية من السبي)؛ أي: من الغنيمة التي غنمتها المسلمون، فإن ولاية الإعطاء لك، (فقال) عليه السَّلام له، وفي رواية: بدون الفاء: (اذهب)؛ أي: إلى المكان الذي جمع فيه السبي (فخذ جارية)؛ أي: منه، وإنما جاز للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأذن لدحية بأخذ جارية قبل القسمة.
وأجاب إمام الشَّارحين بثلاثة أجوبة:
الأول: يجوز أن يكون أذن له في أخذها على سبيل التفضيل له، إما من أصل الغنيمة أو من خمس الخمس، سواء كان قبل التمييز أو بعده.
الثاني: يجوز أن يكون أذن له من الخمس إذا ميز.
الثالث: يجوز أن يكون أذن له ليقوم عليه بعد ذلك، ويحسب من سهمه) انتهى.
وأجاب الكرماني: بأنه صفي المغنم لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فله أن يعطيه لمن شاء، ورده إمام الشَّارحين: (بأنَّ هذا الجواب غير مقنع؛ لأنَّه عليه السَّلام قال له ذلك قبل أن يعين الصفي) انتهى.
قلت: ووجه فساد هذا الجواب ظاهر، كما لا يخفى؛ لأنَّه حين أذن له لم يكن علم عليه السَّلام بما جمع كثيرًا أو قليلًا، وكم يخرج السهم وغير ذلك، وإنما الجواب ما
%ص 475%
قاله الشَّارح قدس سره، فذهب دحية (فأخذ صَفية)؛ بفتح الصاد المهملة، قيل: وكان اسمها زينب (بنت حُيَيٍّ)؛ بضم الحاء المهملة وكسرها، وفتح التحتية الأولى المخففة، وتشديد الثانية: ابن أخطب بن سَعْيَه _بفتح السين المهملة، وسكون العين المهملة، وفتح التحتية_ ابن ثعلبة، وهي من بنات هارون أخ موسى عليهما السلام، وأمها اسمها برة _بفتح الموحدة، وتشديد الراء_ بنت سموءل، وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق _بضم الحاء المهملة، وفتح القاف الأولى_ قتل يوم خيبر، توفت في خلافة سيدنا معاوية سنة خمسين، كما قاله الواقدي، وقال غيره: ماتت في خلافة علي الصديق الأصغر رضي الله عنه، سنة ست وثلاثين، ودفنت بالبقيع، كذا في «عمدة القاري».
(فجاء رجل): مجهول لم يعرف، قاله إمام الشَّارحين (إلى النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: إلى المكان الذي قاعد فيه، (فقال: يا نبيَّ الله؛ أعطيت دحية صفية بنت [7] حيي سيدة قُرَيْظة)؛ بضم القاف، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالظاء المهملة (والنَضِير)؛ بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة؛ وهما قبيلتان عظيمتان من يهود خيبر، وقد دخلوا في العرب على نسبهم إلى هارون عليه السَّلام، كذا في «عمدة القاري»، فإنها (لا تصلح إلا لك): من حيث إنها من بيت النبوة، فإنها من ولد هارون أخي موسى عليهما السلام، ومن بيت الرئاسة، فإنها من بيت سيد [8] قريظة والنضير مع ما كانت عليه من الجمال الباعث على كثرة النكاح المؤدية إلى كثرة النسل، وإلى جمال الولد لا للشهوة النفسانية، فإنه عليه السَّلام معصوم منها، قاله إمام الشَّارحين.
(قال) عليه السَّلام: (ادعوه) أي: دحية (بها) أي: بصفية، فدعوه، (فجاء بها) إلى المكان الذي فيه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فلما نظر إليها النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: أعجبته من جمالها، وشرفها، وحسنها، ونسبها؛ (قال)؛ أي: لدحية: اترك صفية لي و (خذ جارية من السبي غيرها)؛ أي: غير صفية، فارتجعها منه، وهذا يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون رد الجارية برضاه وأذن له في أخذ غيرها، والثاني: أنه إنَّما أذن له في جارية من حشو السبي لا في أخذ أفضلهن، ولما رأى أنه أخذ أنفسهن وأجودهن نسبًا، وشرفًا، وجمالًا؛ استرجعها؛ لئلا يتميز دحية بها على باقي الجيش مع أن فيهم من هو أفضل منه، فقطع هذه المفاسد وعوضه عنها، كذا في «عمدة القاري».
وفيه عن «سيرة الواقدي»: (أنه عليه السَّلام أعطاه أخت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكان كنانة زوج صفية، فكأنه عليه السَّلام طيب خاطره لما استرجع منه صفية بأن أعطاه أخت زوجها) انتهى.
وفي «سيرة ابن سيد الناس»: (أنه أعطاه ابنتي عم صفية) انتهى.
وزعم الكرماني فإن قلت: لما وهبها من دحية؛ فكيف رجع عنها؟
قلت: إما لأنَّه لم يتم عقد الهبة بعد، وإما لأنَّه أبو المؤمنين وللوالد أن يرجع عن هبة الولد، وإما لأنَّه اشتراها منه، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: أجاب بثلاثة أجوبة: الأول: فيه نظر؛ لأنَّه لم يجر عقد هبة حتى يقال: إنه رجع عنها، وإنما كان إعطاؤها إياه بوجه من الوجوه التي ذكرناها.
والثاني: فيه نظر أيضًا؛ لأنَّه لا يمشي ما ذكره في مذهب غيره؛ يعني: أنه ذكره ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، والحال أن الجمهور على خلافه، فلا يتمشى ما ذكره على مذهب الجمهور، والأوجه هي الثلاثة التي ذكرت عند قوله: (فخذ جارية).
والثالث: فيه نظر أيضًا؛ لأنَّه ذكر أنه اشتراها منه؛ أي: من دحية، والحال أنه لم يجر بينهما عقد بيع أولًا، فكيف اشتراها منه بعد ذلك؟
فإن قلت: وقع في رواية مسلم: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس).
قلت: إطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز؛ لأنَّه لما أخذها منه على الوجه الذي ذكرناه؛ عوضه عنها بسبعة أرؤس على سبيل التكرُّم والفضل، فأطلق الراوي الشراء عليه؛ لوجود معنى المبادلة فيه، انتهى.
وقال القاضي عياض: (الأولى عندي: أن صفية كانت فيئًا؛ لأنَّها كانت زوجة كنانة بن الربيع وهو وأهله من بني الحقيق كانوا صالحوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرط عليهم ألَّا يكتموا كنزًا، فإن كتموه؛ فلا ذمة لهم، فانتقض عهدهم فسباهم، وصفية من سبيهم، فهي فيء لا يخمَّس، بل يفعل فيه الإمام ما رأى) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تفريع على مذهبه: أن الفيء لا يخمس، ومذهب غيره: أن الفيء يخمس) انتهى.
قلت: يعني: إنَّما ذكر هذا الوجه؛ لأجل ترويج مذهبه من أن الفيء لا يخمس، وهو خلاف ما عليه الجمهور من أن الفيء يخمس، على أن ما ذكره ممنوع؛ لأنَّ أنسًا رضي الله عنه لم يذكر في هذه القصة أنه عليه السَّلام صالحهم، ولا أنه شرط عليهم، ولا أنَّهم نقضوا العهد، وغاية ما فيه أنه عليه السَّلام دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلهم، ويدل عليه قول أنس: إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزا خيبر ... ) إلى آخره، وهذا لا يدل على ما ذكره؛ فليحفظ، فالحق هو ما قاله إمام الشَّارحين، وهو الصواب.
(قال) أي: أنس: (فأعتقها) أي: صفية (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم وتزوجها) بعد ذلك، (فقال له) أي: لأنس (ثابت): هو البناني التابعي: (يابا حمزة)؛ بالحاء المهملة والزاي، أصله: ياأبا حمزة، فحذفت الألف تخفيفًا، وهي كنية أنس رضي الله عنه، (ما أصدقها) عليه السَّلام؟ (قال)؛ أي: أنس: أصدقها (نفسها أعتقها)؛ أي: بغير عوض، (وتزوجها)؛ أي: بدون مهر، ففيه استحباب عتق السيد أمته وتزوجها، وقد صح أن له أجرين، كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، واتفق ثابت البناني، وقتادة، وعبد العزيز بن صهيب عن أنس: (أنه صلَّى الله عليه وسلَّم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها)، وبه قال قتادة في رواية، وأخذ بظاهره أحمد ابن حنبل، والحسن، وابن المسيب، ولا يجب لها مهر غيره، وتبعهم ابن حزم فقال: (هو سنة فاصلة، ونكاح صحيح، وصداق صحيح، فإن طلقها قبل الدخول؛ فهي حرة، ولا يرجع عليها بشيء، ولو أبت أن تتزوجه؛ بطل عتقها، وفي هذا خلاف متأخر ومتقدم).
وروى الحافظ الطحاوي عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها)، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ثم قال: (فذهب
%ص 476%
قوم: إلى أن الرجل إذا أعتق أمته على أن عتقها صداقها؛ جاز ذلك، فإن تزوجت؛ فلا مهر لها غير العتاق)، قال إمام الشَّارحين في «عمدة القاري»: قلت: أراد بهؤلاء القوم: سعيد بن المسيِّب، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبي، والأوزاعي، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وطاووسًا، والحسن بن حي، وأحمد، وإسحاق، فإنَّهم قالوا: إذا أعتق الرجل أمته على أن يكون عتقها صداقها؛ جاز ذلك، فإذا عقد عليها؛ لا تستحق عليه مهرًا غير ذلك العتاق.
وممن قال بذلك: سفيان الثوري، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، وذكر الترمذي أنه قول الشافعي أيضًا، ونقل القاضي عياض عن الشافعي: أنها بالخيار إذا أعتقها، فإن امتنعت من تزويجه؛ فله عليها قيمتها؛ إذ لم يمكن الرجوع فيها، وإن تزوجت بالقيمة الواجبة له عليها؛ صح ذلك عنده.
وقال ابن بزيزة في «الأحكام»: هذه المسألة اختلف سلف الصحابة فيها، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يراه، وقد روينا جوازه عن علي، وأنس، وابن مسعود، وروينا عن ابن سيرين: أنه استحب أن يجعل مع عتقها شيئًا ما كان، وصح مع كراهة ذلك أيضًا عن الحسن البصري، وجابر بن زيد، والنخعي، وغيرهم.
وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يعتق الرجل جاريته لله، ثم يتزوجها، وجعلوه كالراكب بدنته، وذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، والإمام محمد بن الحسن، والإمام زفر بن الهذيل، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، وابن شبرمة، وجابر بن زيد: أنه ليس لأحد غير النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن يفعل فيتم النكاح بغير صداق، وإنما كان ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم خاصة؛ لأنَّ الله تعالى جعل له أن يتزوج بغير صداق، وكان له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداق، فإن فعل هذا؛ وقع العتاق، ولها عليه مهر المثل، فإن أبت أن تتزوجه؛ تسعى له في قيمتها عند الإمام الأعظم ومحمد بن الحسن، وقال زفر ومالك: لا شيء له عليها، وفي «الأحكام» قال الإمام الأعظم، ومحمد بن الحسن، والشافعي: إن كرهت نكاحه؛ غرمت له قيمتها، ومضى النكاح، فإن كانت معسرة؛ استسعت في ذلك، وقال زفر ومالك: إن كرهت؛ فهي حرة، ولا شيء له عليها، إلا أن يقول: لا أعتق إلا على هذا الشرط، فإن كرهت؛ لم تعتق، فإنه من باب الشرط والمشروط.
قال إمام الشَّارحين: واستدل الحافظ أبو جعفر الطحاوي على الخصوصية بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ ... }؛ الآية [الأحزاب: 50]، ووجه الاستدلال أن الله تعالى لما أباح للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتزوج بغير صداق؛ كان له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداق.
ومما يؤيد ذلك أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أخذ جويرية [9] بنت الحارث في غزوة بني المصطلق فأعتقها، وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، رواه الحافظ الطحاوي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ثم روي عن عائشة رضي الله عنها كيف كان عتاقه عليه السَّلام جويرية التي تزوجها عليه وجعله صداقها، قالت: لما أصاب النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم سبايا بني المصطلق؛ وقعت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبت على نفسها، قالت: (وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت نفسه، فأتت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لتستعينه في كتابتها، فوالله ما هي إلا أن رأيتها على باب الحجرة وعرفت أنه سيرى منها مثل ما رأيت)، فقالت: يا رسول الله؛ أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته فجئت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أستعينه على كتابتي، فقال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقضي عنك كتابتك وأتزوجك»، قلت: نعم، قال: «فقد فعلت»، وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تزوج جويرية بنت الحارث، فقالوا: صهر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأرسلوا ما في أيديهم، قالت: (فلقد أعتق بتزويجه إياها مئة أهل بيت من بني المصطلق، فلا نعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها)، ورواه أبو داود أيضًا.
وفيه حكم يختص بالنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم دون غيره، وهو أن يؤدي كتابة مكاتبة غيره لتعتق بذلك ويكون عتقه مهرها؛ لتكون زوجته، فهذا لا يجوز لأحد غير النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا إذا كان جائزًا للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فجعل عتق الذي تولى عتقه هو مهر المرأة؛ أعتقه أولى وأحرى أن يجوز.
وقال البيهقي: قال القاضي عياض البرني: قال لي يحيى بن أكتم: هذا كان للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم خاصة، وكذا روي عن الإمام الأعظم رضي الله عنه ومحمد بن إدريس أنه حمله على التخصيص، وموضع التخصيص أنه أعتقها مطلقًا، ثم تزوجها على غير مهر.
وقوله في الحديث (حُلوة)؛ بالضم من الحلاوة، وقوله: (مُلَّاحة)؛ بضم الميم، وتشديد اللام؛ معناه: شديدة الملاحة، وهو من أبنية المبالغة، وقال الزمخشري: (وكانت امرأة ملاحة بتخفيف اللام؛ أي: ذات ملاحة، وفعال مبالغة في فعيل نحو: كريم وكرام وكبير وكبار، وفعال بالتشديد أبلغ منه)، وقد ناقش ابن حزم في هذا الموضع، وملخصه أنه قال: (دعوى الخصوصية به عليه السَّلام في هذا الموضع غير صحيحة والأحاديث التي ذكرت ههنا غير صحيحة).
قال الشَّارح: وقد ردينا عليه في جميع ذلك في «شرحنا لمعاني الآثار»، فمن أراد الوقوف عليه؛ فعليه بالمراجعة، انتهى.
قلت: وكلام ابن حزم غير معتبر أصلًا؛ لما أنه مشهور بالتعصب والتعنت فلا يلتفت إليه، لا سيما وقد دلت الآية الكريمة على الخصوصية قطعًا، وما ذكر هنا مطلق محمول على المقيد هناك، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا؛ فافهم، انتهى.
قلت: وما استدل به الحافظ الطحاوي من قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً}؛ الآية للخصوصية ظاهر، وصدر الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أَجُورَهُنَّ}؛ أي: مهورهنَّ، {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}، ثم قال: {وَامْرَأَةً}؛ أي: أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها بغير صداق، فكان النكاح ينعقد في حقه بدون مهر، وكان ذلك من خصائصه عليه السَّلام في النكاح؛ لقوله لك بالخطاب، ولقوله: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، وهو كالزيادة على الأربع، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه أيضًا لا مشاركة لأحد معه فيه.
واختلف العلماء في أنه عليه السَّلام هل كانت عنده امرأة من التي وهبت نفسها له؟ فقال عبد الله بن مسعود ومجاهد وغيرهما: (لم يكن عنده عليه السَّلام امرأة وهبت نفسها له، ولم يكن عنده
%ص 477%
امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، وقوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا} على طريق الشرط والجزاء؛ يعني: المهر).
وقال جماعة: بل كانت عنده موهوبة، فقيل: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية، وقيل: هي ميمونة بنت الحارث، وقيل: هي أم شريك بنت جابر من بني أسد، وقيل هي خولة بنت حكيم من بني سليم، فقوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا} دليل على جواز النكاح بلفظ الهبة له ولأمته عليه السَّلام، وزعم الشافعية أنه مخصوص به عليه السَّلام، فقالوا: معناه: إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خصائصك.
ورد بأن اللفظ عام يشمله عليه السَّلام وأمته، وبأن الخصوصية لا بد لها من من دليل ولم يوجد، وقال الأئمة الحنفية: معناه تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة ومن أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبدًا بالتزويج، فالنكاح ينعقد بلفظ الهبة إذا طلب الزوج منها النكاح والتمكين من الوطء، فقالت: وهبت نفسي منك، وقبل الزوج؛ يكون نكاحًا، ويدل عليه هذه الآية، فإنها قد دلت على إحلال الواهبة وصحة نكاحها بلفظ (الهبة).
وقد تقرر أنه عليه السَّلام وأمته سواء في الأحكام إلا ما خصه الدليل، ولا دلالة في قوله (خالصة) لك على كون النكاح بلفظ (الهبة) من خصائصه عليه السَّلام؛ لما سبق من أن معناه كون الواهبة من أمهات المؤمنين لا تحل لأحد بعده أبدًا، فلو وهبت نفسها من أحد من غير مهر وقبل الزوج بمحضر الشهود؛ يصح النكاح ولها مهر مثلها، هذا هو الصواب، وبه قال إبراهيم النخعي وعلماء الكوفة وغيرهم.
واختلف هل كان يحل للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم نكاح اليهودية أو النصرانية بالمهر؟ فذهب جماعة إلى أنه لا يحل له ذلك لقوله: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً}، وذهب جماعة أنه يحل له ذلك، وقال معنى الآية وهي {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}؛ أي: الإسلام؛ أي: أسلمن معك، فيدل ذلك على أنه يحل له نكاح غير المسلمة، والله أعلم.
(حتى إذا كان)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (بالطريق) وذلك أنه جاء في «الصحيح» فخرج بها حتى بلغنا سد الروحاء، وهي قرية جامعة من عمل الفرع لمزينة على نحو أربعين ميلًا من المدينة أو نحوها، والروحاء بفتح الراء وبالحاء المهملة ممدود، كذا في عمدة القاري؛ (جهزتها له أم سليم)؛ بضم السين المهملة، وهي أم أنس بن مالك، (فأهدتها)؛ أي: زفتها (له) عليه السَّلام، ومعناه: أهدت أم سليم صفية للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (من الليل) وفي بعض الروايات: (فهدتها)، قيل: وهي الصواب قاله الكرماني وتبعه البرماوي، ويدل عليه قول الجوهري: (الهداء) مصدر قولك هديت أنا المرأة إلى زوجها هذا، كذا في «عمدة القاري».
(فأصبح النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم عروسًا) على وزن (فعول) يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في أعراسهما، يقال رجل وامرأة عروس، وجمع الرجل عرس، وجمع المرأة عرائس، وفي المثل كاد العروس أن يكون ملكًا، والعروس اسم لحصن باليمن، وقول العامة: العروس للمرأة والعريس للرجل ليس له أصل، قاله إمام الشَّارحين.
وفي رواية «الصحيح» أنه عليه السَّلام أقام عليها بطريق خيبر ثلاثة أيام حين أعرس بها، وكانت فيمن ضرب عليها الحجاب، وفي رواية: (أقام بين خيبر والمدينة ثلاثة أيام فبنى بصفية)، كذا في «عمدة القاري».
ويدل لهذا قوله (فقال) عليه السَّلام؛ أي: لأصحابه: (من كان عنده شيء)؛ أي: من الطعام؛ (فليجئ به) إلى مكاننا، وفي رواية: (فليجئني) بنون الوقاية، (وبَسَطَ)؛ بفتحات، (نِطعًا)؛ بكسر النون وفتح الطاء المهملة، وهو الذي اختاره ثعلب في الفصيح، وهو في رواية «الفرع» وغيره.
وذكر في «المخصص»: فيه أربع لغات؛ الأولى: بفتح النون وسكون الطاء، الثانية: بفتحتين، الثالثة: بكسر النون وفتح الطاء، الرابعة: بكسر النون وسكون الطاء، وجمعه أنطاع ونطوع، زاد في «المحكم»: أنطع، وقال أبو عمرو الشيباني في «نوادره»: (النطع: هو المبناة والستارة)، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والظاهر أن النطع ثوب يشبه ستارة الباب، أو المحمل، أو يشبه اللباد يبسط [10] على الأرض.
(فجعل الرجل)؛ أي: من أصحابه الكرام (يجيء بالتمر وجعل الرجل يجيء بالسمن) إلى تلك النطع فجمعوه فيها، (قال)؛ أي: عبد العزيز بن صهيب: (وأحسبه)؛ أي: أحسب أنس بن مالك (قد ذكر السَّويق)؛ بفتح السين المهملة وهو الدقيق الملتوت بالسمن، وجزم عبد الوارث في روايته بذكر السويق وزعم الكرماني، ويحتمل أن يكون فاعل قال هو البخاري ويكون مقولًا للفربري، ومقول أحسب يعقوب، ورده إمام الشَّارحين بأنه غير ظاهر والأول هو الظاهر، كما لا يخفى، انتهى.
قلت: وهو كذلك فإن ما ذكره الكرماني بعيد غاية البعد لا يعول عليه؛ فافهم.
(قال) أي: الراوي (فحاسوا) بالحاء والسين المهملتين؛ أي: خلطوا أواتخذوا (حيسًا)؛ بفتح الحاء والسين المهملتين، بينهما مثناة تحتية ساكنة، وهو تمر يخلط بسمن وأقط، يقال: حاس الحيس يحسه؛ أي: يخلطه، وقال ابن سيده: (الحيس: هو الأقط يخلط بالتمر والسمن، وحاسه حيسًا وحيسه خلطه).
وقال الجوهري: الحيس الخلط، ومنه سمِّي الحيس، وقال الشاعر:
وإن تكن كريهة أدعى لها ... وإذ يحاس الحيس يدعى جندب
وقال آخر: التمر والسمن جميعًا، والأقط: الحيس إلا أنه لم يخلط.
وفي «الغريبين» هو ثريد من أخلاط، قال الفارسي: الله أعلم بصحته، كذا في «عمدة القاري».
(فكانت) بالفاء وفي رواية: (فكانوا) واسم كانت الضمير الذي فيه يرجع إلى الأشياء الثلاثة التي اتخذ منها الحيس، وعلى الثانية اسمها الواو؛ لأنَّ موضعه رفع وهو يعود إلى الأشياء المصنوعة.
وقوله: (وليمة)؛ بالنصب خبر كان على الوجهين (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: طعام عرسه، والوليمة: عبارة عن الطعام المتخذ للعرس، مشتقة من الولم، وهو الجمع؛ لأنَّ الزوجين يجتمعان فتكون الوليمة خاصة بطعام العرس، لأنَّه طعام الزفاف، والوكير: طعام البناء، والخرس: طعام الولادة، وما تطعمه النفساء نفسها خرسة، والإعذار: طعام الختان، والنقيعة: طعام القادم من سفره، وكل طعام صنع لدعوة:
%ص 478%
مأدبة ومأدبة جميعًا، والدعوة الخاصة: النقرى، والعامة: الجفلى والأجفلى، كذا في «عمدة القاري».
وفيه: وهذا الحديث وصل الحديث الذي علقه البخاري فيما قبل [قليل] قريبًا، وهو قوله: وقال أنس: (حسر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن فخذه)، فإن قلت: ما كانت الفائدة بذكر هذا التعليق المقتطع من هذا الحديث المتصل قبل أن يذكر الحديث بكماله؟.
قلت: يحتمل أن المؤلف أراد به الإشارة إلى أن ما ذهب إليه أنس من أن الفخذ ليس بعورة؛ فلهذا ذكره بعد ذكر ما ذهب إليه ابن عباس، وجرهد، ومحمد بن جحش، انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فالمطابقة في هذا الحديث المتصل هو أن الفخذ ليس بعورة، ولا يخفى أن المطابقة في التعليق أظهر؛ لأنَّ الحديث يحتمل الوجهين في الفخذ، هل هو عورة أم لا؟ ويحتمل أن قول أنس ليس قطعة من هذا الحديث، بل موصول عند غير المؤلف، وأراد بذكره أن الفخذ ليس بعورة، وأراد بذكر الحديث أن الفخذ عورة؛ لأنَّ قوله (حُسِر) بصيغة المجهول يدل على أن الحسر كان بسبب الازدحام ونحوه؛ فليحفظ.
وقال إمام الشَّارحين: وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز إطلاق صلاة الغداة على صلاة الصبح، خلافًا لمن كرهه من بعض الشافعية.
الثاني: فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة، وفيه غير ما حديث.
الثالث: فيه استحباب التكبير والذكر عند الحرب وهو الموافق لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45].
الرابع: فيه استحباب التثليث في التكبير؛ لقوله: قالها ثلاثًا؛ أي: ثلاث مرات.
الخامس: فيه جواز إجراء الفرس وأنه لا يخل بمراتب الكبير، لا سيما عند الحاجة أو لرياضة الدابة، أو لتدريب [11] النفس على القتال.
السادس: فيه أن الزفاف في الليل، وقد جاء أنه عليه السَّلام دخل عليها في النهار؛ ففيه جواز الأمرين.
السابع: فيه دلالة على مطلوبية الوليمة للعرس وأنها بعد الدخول، والمشهور عندنا أنها سنة، وقيل: واجبة، وعندنا إجابة الدعوة سنة سواء كانت وليمة عرس أو غيرها، وبه قال مالك في رواية، وقيل: تجوز الوليمة قبل الدخول، وظاهر الحديث يرده.
الثامن: فيه جواز إدلال الكبير لأصحابه وطلب طعامهم في نحو الوليمة وغيرها، ويستحب لأصحاب الزوج وجيرانه مساعدته في الوليمة بطعام من عندهم.
التاسع: فيه دليل على أن الوليمة تحصل بأي طعام كان ولا تتوقف على شاة، والسنة تقوم بغير اللحم، انتهى.
قلت: وهذا الحديث يدل لذلك، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (راكب)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (راكب)، والمثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (معاني)، والمثبت هو الصواب.
[5] تكرر في الأصل: (الصواب).
[6] في الأصل: (الذين)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (بن)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (سيدة)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (جويرة)، وكذا في المواضع اللاحقة، ولعله تحريف.
[10] في الأصل: (ببسط).
[11] في الأصل: (لتدريث)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (راكب)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (راكب)، والمثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (معاني)، والمثبت هو الصواب.
[5] تكرر في الأصل: (الصواب).
[6] في الأصل: (الذين)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (بن)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (سيدة)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (جويرة)، وكذا في المواضع اللاحقة، ولعله تحريف.
[10] في الأصل: (ببسط).
[1] في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (راكب)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (راكب)، والمثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (معاني)، والمثبت هو الصواب.
[5] تكرر في الأصل: (الصواب).
[6] في الأصل: (الذين)، وليس بصحيح.
[7] في الأصل: (بن)، وليس بصحيح.
[8] في الأصل: (سيدة)، وليس بصحيح.
[9] في الأصل: (جويرة)، وكذا في المواضع اللاحقة، ولعله تحريف.
[10] في الأصل: (ببسط).
(1/627)
(13) [باب في كم تصلي المرأة في الثياب]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين خبر مبتدأ محذوف (في كم) ثوبًا (تصلي المرأة من الثياب) ولغير الأربعة: (في الثياب)، ولفظة (كم) لها الصدارة سواء كانت استفهامية أو خبرية، ولم تبطل صدارتها هنا؛ لأنَّ الجار والمجرور في حكم الكلمة الواحدة، ومميز (كم) محذوف تقديره: كم ثوبًا؟ قاله إمام الشَّارحين.
(وقال عِكْرمة)؛ بكسر العين وسكون الكاف هو مولى ابن عباس أحد فقهاء مكة وإمام تفسير القرآن: (لو وارت) أي: سترت وغطت المرأة (جسدها في ثوب) واحد وصلت فيه؛ (جاز) كذا للأربعة، وفي رواية الكشميهني: (لَأجَزْته)؛ بفتح لام التأكيد والجيم وسكون الزاي، من الإجزاء.
قال إمامنا الشَّارح: وهذا التعليق قد وصله عبد الرزاق، ولفظه: لو أخذت المرأة ثوبًا فتقنعت به حتى لا يرى من شعرها شيء؛ أجزأ عنها، وروى ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: تصلي المرأة في درع وخمار خصيف، وروي أيضًا عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا بأس بالصلاة في القميص الواحد إذا كان صفيقًا، وذكر عن ميمونة أنها صلت في درع وخمار، ومن طريق أخرى صحيحة أنها اغتسلت في درع واحد فضلًا، وقد وضعت بعض كمها على رأسها.
ومن طريق مكحول عن عائشة وعلي رضي الله عنهما قالا: (تصلي في درع سابغ وخمار)، وكذا روي عن أم سلمة من طريق أم محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفد، ومن حديث الليث عن مجاهد قال: (لا تصلي المرأة في أقل من أربعة أثواب)، وعن الحكم: (في درع وخمار)، وعن حماد: (درع وملحفة تغطي رأسها) انتهى.
قلت: وما ذكره في التعليق هو معنى ما ذكره عبد الرزاق، والمراد بالثوب: الواسع، يدل عليه رواية عبد الرزاق: (حتى لا يرى ... ) إلى آخره، وهذا لا يكون إلا واسعًا، فهو حينئذ كثوبين؛ لأنَّ المقصود: الستر وهو يحصل بالواحد الواسع وبالاثنين، لكن المستحب للمرأة ثلاثة أثواب درع، وخمار، ومقنعة؛ فإنه أستر لها، وما ذكره هنا اقتصار بدون الأفضل، والأفضل الثلاثة، والله تعالى أعلم.
==========
%ص 479%
==================
(1/628)
[حديث: لقد كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء]
372# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو اليمان): هو الحكم بن نافع الحمصي (قال: حدثنا شعيب): هو ابن أبي حمزة القرشي، (عن الزهري): هو محمد بن مسلم ابن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة)؛ بضم العين المهملة: هو ابن الزبير بن العوام: (أن عائشة) الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (قالت) والله: (لقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فـ (اللام) فيه جواب قسم محذوف، كما قدرناه (يصلي الفجر)؛ أي: يصلي صلاة الفجر في بعض أحيانه، لا يقال: إنَّ (كان) تدل على الاستمرار والدوام؛ لأنَّا نقول: إن التي تدل على هذا هي الناقصة، وهنا (كان) تامة؛ بمعنى: حض، أو وقع، أو وجد، فهي تدل على تلك المرة فقط؛ وهو ذلك الحين التي أخبرت به أنه يصلي في مسجده النبوي، (فيشهد) أي: فيحضر (معه)؛ وفي رواية: (فتشهد)؛ أي: فتحضر معه (نساءٌ)؛ بالتنكير، والتنوين فيه للتنويع، وهو جمع امرأة، لا واحد له من لفظه (من المؤمنات) هو لبيان الواقع (مُتَلفِّعاتٍ)؛ بالنصب على الحال من النساء، وهو بضم الميم وفتح المثناة الفوقية، وبالعين المهملة بعد الفاء المشددة، من التلفع؛ بالفاء والعين المهملة؛ أي: متلحفات، وفي رواية: (متلففات) بالفاء المكررة بدل العين؛ وهي رواية الأصيلي في غير «الفرع»، وله في «الفرع» (متلفعاتٌ) بالرفع صفة للنساء، والأكثر على خلافه.
قال الأصمعي: (التلفع بالثوب: هو أن يشتمل به حتى يجلل به جسده، وهذا اشتمال الصماء عند العرب؛ لأنَّه لم يرفع جانبًا منه فيكون فرجة فيه)، وهو عند الفقهاء: مثل الاضطباع إلا أنه في ثوب واحد.
وعن يعقوب: (اللفاع: الثوب تلتفع به المرأة؛ أي: تلتحف به فيغيبها)، وعن كراع: (هو الملفع أيضًا)، وعن ابن دريد: (اللفاع: هو الملحفة أو الكساء)، وقال أبو عمر [1]: (هو الكساء).
وعن صاحب «العين»: (تلفع بثوبه: إذا اضطبع به، وتلفع الرجل بالشيب كأنه غطى سواد رأسه ولحيته).
وفي «شرح الموطأ»: (التلفع: أن تلقي الثوب على رأسه، ثم يلتف به، ولا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس، وقد أخطأ من قال: الالتفاع مثل الاشتمال، وأما التلفف؛ فيكون مع تغطية الرأس وكشفه).
وفي «المحكم»: (الملفعة: ما يلفع به من رداء،
%ص 479%
أو لحاف، أو قناع).
وفي «المغيث»: (وقيل: اللفاع: النطع، وقيل: الكساء الغليظ).
وفي «الصحاح»: (لفع رأسه تلفيعًا: غطاه)، كذا في «عمدة القاري».
(في مروطهن) المروط: جمع مِرط؛ بكسر الميم، قال القزاز: (المرط: ملحفة يتزر بها، والجمع أمراط ومروط)، وقيل: يكون المرط كساء من خز، أو صوف، أو كتان.
وفي «الصحاح»: (المِرط بالكسر)، وفي «المحكم»: (وقيل: هو الثوب الأخضر)، وفي «مجمع الغرائب»: (أكيسة من شعر أسود)، وعن الخليل: (هي أكيسة معلمة)، وقال ابن الأعرابي: (هو الإزار).
وقال النضر بن شميل: (لا يكون المرط إلا درعًا، وهو من خز أخضر، ولا يسمى المرط إلا أخضر، ولا يلبسه إلا النساء).
وقال عبد الملك في «شرح الموطأ»: (هو كساء صوف رقيق خفيف مربع، كان [2] النساء في ذلك الزمان يتزرن به ويتلففن)، كذا قاله الشَّارح.
(ثم يرجعن) يعني: يصلين مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة الفجر، ثم يرجعن من المسجد (إلى بيوتهن)؛ أي: بيوت أزواجهن، فالإضافة فيه من حيث سكناهن في البيوت، ويحتمل أنه على الحقيقة، لكن الظاهر الأول؛ لأنَّ السكنى على الزوج شرعًا من جملة النفقة الواجبة عليه لها (ما يعرفهن أحد)؛ أي: من الغلس، كما عند المؤلف في (المواقيت) وفي «سنن ابن [3] ماجه»: (يعني من الغلس)، وعند مسلم: (ما يعرفن من الغلس)، وعدم معرفتهن يحتمل أن تكون لبقاء ظلمة من الليل، أو لتغطيتهن بالمروط غاية التغطي، وقيل: معناه ما يعرف أعيانهن، وهذا بعيد، والأوجه فيه أن يقال: ما يعرفهن أحد؛ أي: أنساء هن أم رجال؟ وإنما يظهر للرائي الأشباح خاصة، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: ووجه مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (متلفعات في مروطهن)؛ لأنَّ المستفاد منه صلاتهن في مروط، والمرط: ثوب واحد، ففي الحديث أن المرأة إذا صلت في ثوب واحد بالالتفاع؛ جازت صلاتها، وهو الذي ترجم له؛ لأنَّه استدل به على ذلك.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التفاعهن في مروطهن فوق ثياب أخرى، فلا يتم له الاستدلال به؟
قلت: الحديث ساكت عن هذا بحسب الظاهر، ولكن الأصل عدم الزيادة على ما أشار إليه؛ على أنه لم يصرح بشيء، واختياره يؤخذ في عادته من الآثار التي يترجم بها، انتهى كلامه، وتبعه ابن حجر وغيره.
قلت: ولا ريب أن الأصل عدم الزيادة، والتفاعهن في مروطهن فوق ثياب أخرى قول بعيد؛ لأنَّه لم يكن عند النساء وكذا الرجال إلا ثوب واحد، يدل عليه حديث أبي هريرة الذي تقدم في باب (الصلاة في القميص)، وفيه: قام رجل إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: «أَوَكلكم يجد ثوبين؟»؛ يعني: لا يجد كل واحد منكم ثوبين ونحوه عند الحافظ الطحاوي والطبراني، فهذا إخبار عما كان يعلمه عليه السَّلام من حالهم في العدم وضيق الثياب؛ والمعنى: أنه ليس لكل واحد منكم ثوبان، وإذا كان هذا حال الرجال؛ فالنساء أولى، فهذا الحديث وإن كان ليس فيه تقييد بذلك لكن المعنى عليه، والمطلق محمول على المقيد، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا؛ فتأمل.
وفي «عمدة القاري»: واختلف في عدد ما تصلي فيه المرأة من الثياب؛ فقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس: (تصلي في درع وخمار).
وقال عطاء: (تصلي في ثلاثة: درع، وإزار، وخمار).
وقال ابن سيرين: (في أربعة؛ الثلاثة المذكورة وملحفة).
وقال ابن المنذر: (عليها أن تستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، سواء سترته بثوب واحد أو أكثر).
ولا أحسب ما روي عن المتقدمين: من الأمر بثلاثة أو أربعة إلا من طريق الاستحباب.
وقال الإمام الأعظم وسفيان الثوري: (قدم المرأة ليست [4] بعورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة؛ صحت صلاتها)، وفي رواية عن الإمام الأعظم: (فسدت صلاتها)، وزعم أبو بكر بن عبد الرحمن أن كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها، وهو رواية عن أحمد.
وقال مالك وابن إدريس: قدم المرأة عورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة؛ أعادت في الوقت عند مالك، وكذلك إذا صلت وشعرها مكشوف، وعند ابن إدريس تعيد أبدًا) انتهى.
وفيه: أن في الحديث دلالة على جواز خروج النساء للصلاة في المسجد بشرط أمن الفتنة عليهن أو بهن، وكرهه بعضهم للشواب، وقال الإمام الأعظم: (تخرج العجائز لغير الظهر والعصر؛ يعني: لصلاة الفجر والعشاءين)، وقال الإمام أبو يوسف والإمام محمد بن الحسن: (يخرجن لجميع الصلوات، لكن اليوم يكره خروجهن للجميع للعجائز والشواب؛ لظهور الفساد وعموم الفتنة) انتهى.
قلت: ولو نظر الإمام الأعظم ما يترتب على خروجهن من الفساد والفتنة؛ لقال: بحرمة خروجهن مطلقًا، فإن الذي يشاهد منهن في ديارنا الشريفة الشامية؛ يوجب القول بالحرمة والمنع من خروجهن مطلقًا؛ فافهم.
واستدل بهذا الحديث مالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق على أن الأفضل في صلاة الصبح التغليس، ولا حجة لهم فيه؛ لأنَّه عليه السَّلام فعل ذلك مرة، ثم صار يصليها في وقت الإسفار، كما يأتي.
وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وأصحابه، والجمهور من التابعين، وغيرهم: (إن الأفضل في صلاة الفجر الإسفار)، واستدل على ذلك بأحاديث كثيرة في هذا الباب رويت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ منهم: رافع بن خديج، روى أبو داود عن محمود بن لبيد عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أصبحوا بالصبح؛ فإنه أعظم لأجركم، أو أعظم للأجر»، ورواه الترمذي أيضًا، وقال: (حديث حسن صحيح)، ورواه ابن ماجه والنسائي أيضًا، وفي رواية: (أصبحوا بالفجر)؛ ومعناه: نوروا بصلاة الفجر، ورواه ابن حبان في «صحيحه»، ولفظه: «أسفروا بصلاة الصبح؛ فإنه أعظم للأجر»، وفي لفظ له: «فكلما أصبحتم بالصبح؛ فإنه أعظم لأجركم»، وفي لفظ للطبراني: «فكلما أسفرتم بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر».
ومنهم: محمود بن لبيد روى حديثه الإمام أحمد ابن حنبل في «مسنده» عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أصبحوا بالفجر؛ فإنه أعظم لأجركم»، ولم يذكر فيه رافع بن خديج، ومحمود بن لبيد صحابي مشهور.
وقال المزي: (محمود بن لبيد بن عصمة بن رافع بن امرئ القيس الأوسي، ولد على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي صحبته خلاف) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (ذكره مسلم في التابعين في الطبقة الثانية، وذكر ابن أبي حاتم: أن البخاري قال: له صحبة، وقال أبي: لا يعرف له صحبة، وقال أبو عمرو: قول البخاري: «له صحبة»: أولى وأجدر، فعلى هذا؛ يحتمل
%ص 480%
أنه سمع هذا الحديث من رافع أولًا فرواه عنه، ثم سمعه من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فرواه عنه) انتهى.
قلت: وعلى فرض كونه أسقط رافعًا [5]؛ فهو مرسل، وهو حجة عندنا والجمهور، لكن الظاهر أنه رواه مرتين كما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
ومنهم: بلال رضي الله عنه، روى حديثه البزار في «مسنده» نحو حديث رافع، ومنهم: قتادة بن النعمان، روى حديثه الطبراني في «معجمه» من حديث عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان، عن أبيه، عن جده مرفوعًا نحوه، ورواه البزار أيضًا، ومنهم: ابن مسعود رضي الله عنه، روى حديثه الطبراني أيضًا عنه مرفوعًا نحوه، ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه، روى حديثه ابن حبان عنه مرفوعًا نحوه، ومنهم رجال من الأنصار أخرج حديثهم النسائي من حديث محمود بن لبيد عن رجال من قومه من الأنصار: أن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أسفروا بالصبح؛ فإنه أعظم للأجر»، ومنهم أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنه، أخرج حديثهما الطبراني من حديث حفص بن سليمان عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تزال أمتي على الفطرة ما أسفروا بالفجر»، ومنهم: أبو الدرداء رضي الله عنه، أخرج حديثه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد من حديث أبي الزاهرية، عن أبي الدرداء، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أسفروا بالفجر تفقهوا»، ومنهم: حواء الأنصارية، أخرج حديثها الطبراني من حديث أبي بجيد الحارثي عن جدته حواء الأنصارية، وكانت من المبايعات، قالت: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر»، وابن بُجَيْد؛ بضم الموحدة، وفتح الجيم، بعدها تحتية ساكنة، ذكره ابن حبان في «الثقات»، وجدته حواء بنت زيد بن السكن، أخت أسماء بنت زيد بن السكن.
فإن قلت: كان ينبغي أن يكون الإسفار واجبًا لمقتضى الأوامر فيه.
قلت: الأمر إنَّما يدل على الوجوب إذا كان مطلقًا مجردًا عن القرائن الصارفة له إلى غيره، وهذه الأوامر ليست كذلك، فلا يدل إلا على الاستحباب.
فإن قلت: قد يؤول (الإسفار) في هذه الأحاديث بظهور الفجر، وقد قال الترمذي: وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: معنى الإسفار: أن يصبح الفجر، ولم يشك فيه، ولم يروا أن الإسفار تأخير الصلاة.
قلت: هذا التأويل غير صحيح، فإن الغلس الذي يقولون به: هو اختلاط ظلام الليل بنور النهار، كما ذكره أهل اللغة، وقيل: ظهور الفجر، ولا تصح صلاة الصبح، فثبت أن المراد بالإسفار: إنَّما هو التنوير، وهو التأخير عن الغلس، وزوال الظلمة، وأيضًا فقوله عليه السَّلام: «أعظم للأجر»: يقتضي حصول الأجر في الصلاة بالغلس، فلو كان الإسفار هو وضوح الفجر وظهوره؛ لم يكن في وقت الغلس أجر لخروجه عن الوقت.
وأيضًا يبطل تأويلهم ذلك ما رواه ابن أبي شيبة، وإسحاق ابن راهويه، وأبو داود الطيالسي في «مسانيدهم»، والطبراني في «معجمه» من حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لبلال: «يا بلال؛ نور صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع ليلهم من الإسفار».
وأيضًا يبطل تأويلهم ذلك ما رواه الإمام أبو محمد القاسم بن ثابت السرقسطي في كتاب «غريب الحديث» من حديث أبي سعيد بيان قال: سمعت أنس بن مالك يقول: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي الصبح حين يفسح البصر) انتهى.
يقال: فسح البصر وانفسح؛ إذا رأى الشيء عن بعد؛ يعني به: إسفار الصبح.
فإن قلت: قيل: إن الأمر بالإسفار إنَّما جاء في الليالي المقمرة؛ لأنَّ الصبح لا يتبين فيها جدًّا، فأمرهم بزيادة التبيين؛ استظهارًا باليقين في الصلاة.
قلت: هذا تخصيص بلا مخصص، وهو باطل، ويرده أيضًا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: (ما اجتمع أصحاب محمد صلَّى الله عليه وسلَّم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر)، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا في «معاني الآثار» بسند صحيح، ثم قال: (ولا يصح أن يجتمعوا على خلاف ما كان رسول الله عليه السَّلام عليه).
فإن قلت: قد زعم ابن حزم أن خبر الأمر بالإسفار صحيح، إلا أنه لا حجة فيه للحنفية إذا أضيف إلى الثابت من فعله عليه السَّلام في التغليس حتى إنه لينصرف والنساء لا يعرفن.
قلت: الثابت من فعله عليه السَّلام في التغليس لا يدل على الأفضلية؛ لأنَّه يجوز أن يكون غيره أفضل منه، وإنما فعل ذلك للتوسعة على أمته، بخلاف الخبر الذي فيه الأمر؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «أعظم للأجر»: أفعل التفضيل، فيقتضي أجرين؛ أحدهما: أكمل من الآخر؛ لأنَّ صيغة (أفعل) تقتضي المشاركة في الأصل مع رجحان أحد الطرفين، فحينئذٍ يقتضي هذا الكلام حصول الأجر في الصلاة بالغلس، ولكن حصوله في الإسفار أعظم وأكمل منه، فلو كان الإسفار لأجل تقصي طلوع الفجر؛ لم يكن في وقت الغلس أجر لخروجه عن الوقت، انتهى.
قلت: وما زعمه ابن حزم تناقض؛ لأنَّه قال: (خبر الأمر بالإسفار صحيح إلا أنه لا حجة فيه ... ) إلى آخره، وما هذا إلا تناقض، فإن قوله: (خبر الأمر بالإسفار صحيح) وهو كذلك، ويلزم منه أن يكون حجة للحنفية؛ لأنَّهم يقولون: إن الأفضل في صلاة الفجر الإسفار، وقد صح الحديث به، فهو حجة لهم.
وقوله: (إلا أنه لا حجة فيه ... ) إلى آخره: ممنوع، فإنه متى صح الأمر؛ يكون حجة لمن قال بذلك، وقوله: (إذا أضيف ... ) إلى آخره: ممنوع، فإنه قد ثبت ذلك في بعض الأحيان وهو لا يقاوم ما كان عادة للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، يدل عليه ما أخرجه الحافظ أبو جعفر الطحاوي من حديث إبراهيم النخعي قال: (ما اجتمع أصحاب محمد صلَّى الله عليه وسلَّم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر)، وسنده صحيح، فهذا يدل على أن عادتهم في صلاة الفجر الإسفار.
ولا ريب أن ذلك هو ما فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّهم أشد اتباعًا له عليه السَّلام، فثبت أن التغليس إنَّما كان في بعض الأحيان، وهو محمول على بيان الجواز لأجل التشريع، وثبت أن الأفضل في صلاة الصبح الإسفار، وأنه الثابت من فعله عليه السَّلام على الدوام
%ص 481%
والاستمرار؛ فافهم.
فإن قلت: روى أبو داود من حديث ابن مسعود: (أنه عليه السَّلام صلى الصبح بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس حتى مات عليه السَّلام)، ورواه ابن حبان أيضًا؛ كلاهما من حديث أسامة بن زيد الليثي.
قلت: يرد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود قال: (ما رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع، فإنه يجمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها) انتهى.
قالت العلماء: المراد بقوله: (قبل وقتها)؛ يعني: وقتها المعتاد في كل يوم؛ وهو الإسفار لا أنه صلاها قبل الفجر وإنما غلس بها، ويوضحه رواية البخاري: (والفجر حين تبزغ [6])، وهذا دليل على أنه عليه السَّلام كان يسفر بالفجر دائمًا، وقلما صلاها بغلس؛ لأنَّ قوله: (قبل وقتها المعتاد) يدل على أن وقت صلاة الفجر المعتاد له عليه السَّلام هو وقت الإسفار دائمًا أبدًا، على أن أسامة بن زيد قد تكلم فيه، فقال أحمد ابن حنبل: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه، وقال النسائي والدارقطني: حديثه ليس بالقوي، انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فحديثه ضعيف لا يحتج به، وهو لا يُقاومما ذكره البخاري ومسلم؛ فليحفظ.
فإن قلت: قد قال البيهقي: رجح الشافعي حديث عائشة بأنه أشبه بكتاب الله تعالى؛ لأنَّه تعالى يقول: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]، فإذا دخل الوقت؛ فأولى المصلين بالمحافظة المقدم للصلاة، وأنه عليه السَّلام لا يأمر بأن يصلى في وقت يصليها هو في غيره، وهذا أشبه بسنته عليه السَّلام.
قلت: المراد من المحافظة هو المداومة على إقامة الصلوات في أوقاتها، وليس فيها دليل على أن أول الوقت أفضل، بل الآية دليل لنا؛ لأنَّ الذي يسفر بالفجر يترقب الإسفار من أول الوقت، فيكون هو المحافظ المداوم على الصلاة، ولأنه ربما تقع صلاته في التغليس قبل الفجر، فلا يكون محافظًا للصلاة في وقتها.
فإن قلت: جاء في الحديث: «أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله»، وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئًا، والعفو لا يكون إلا عن تقصير.
قلت: المراد من العفو: الفضل، كما في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ} [البقرة: 219]؛ أي: الفضل، فكان معنى الحديث: أن من أدَّى الصلاة أول الوقت؛ فقد نال رضوان الله، وأمن من سخطه وعذابه؛ لامتثاله أمره وأداءه ما وجب عليه، ومن أدى الصلاة في آخر الوقت؛ فقد نال فضل الله، ونيل فضل الله لا يكون بدون الرضوان.
قلت: فالفضل ملازم للرضوان على أن أداء الصلاة في آخر وقتها ليس تقصيرًا؛ لأنَّه قد أمر بالمحافظة وهي المداومة، وقد فعل ما أمر به وأدى ما وجب عليه، فأين التقصير الذي فعله؟
فإن قلت: جاء في الحديث: وسئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: «الصلاة في أول وقتها»، وهو لا يدع موضع الفضل ولا يأمر الناس إلا به.
قلت: ذكر الأول للحث والتخصيص والتأكيد على إقامة الصلوات في أوقاتها، وإلا؛ فالذي لا يؤدي في ثاني الوقت أو ثالثه أو رابعه كالذي يؤديها في أوله؛ لأنَّ الجزء الأول له مزية على الجزء الثاني أو الثالث أو الرابع.
وحاصل المعنى: الصلاة في وقتها أفضل الأعمال، ثم يتميز الجزء الثاني في صلاة الصبح عن الجزء الأول بالأمر الذي فيه الإسفار الذي يقتضي التأخير عن الجزء الأول.
فإن قلت: قال البيهقي: قال الشافعي: وحديث رافع له وجه يوافق حديث عائشة ولا يخالفه، وذلك أنه عليه السَّلام لما حض الناس على تقديم الصلاة وأخبر بالفضل فيه؛ احتمل أن يكون من الراغبين [7] من تقدمها قبل الفجر الآخر، فقال: «أسفروا بالفجر حتى يتبين الفجر الآخر» معترضًا، فأراد عليه السَّلام فيما يرى الخروج من الشك حتى يصلي المصلي بعد تبين الفجر، فأمرهم بالإسفار؛ أي: بالتبيين.
قلت: يرد هذا التأويل وبيطله ما رواه أبو داود الطيالسي عن رافع قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لبلال: «يا بلال؛ نور صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواضع نبلهم من الإسفار»، وقد مر عن قريب.
قلت: وكان الشافعي أراد بهذا الكلام التوفيق بين الحديثين [8]، ولا يخفى أن كلامه باطل غير صحيح؛ لأنَّ التضاد واقع بينهما، وقوله: (إنه عليه السَّلام لما حض ... ) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يأمر ولا يحض على تقديم الصلاة عن وقتها، يدل عليه ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: (ما رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى صلاة لغير وقتها ... )؛ الحديث وقد مر، ولا ريب أنه إذا كان كذلك لا يأمر الناس بعدمه، كما لا يخفى.
وقوله: (احتمل أن يكون ... ) إلى آخره: ممنوع أيضًا، فإنه ليس في أحاديث الإسفار والتغليس ذكر الفجر الآخر وهو الصادق، ومعلوم أن الصلاة إنَّما تجب عند دخول وقتها وهو ظهور الفجر الصادق في صلاة الفجر، وأما الفجر الكاذب؛ فإنه يكون قبل دخول الوقت، فهو لا عبرة به، ولهذا بينه عليه السَّلام في أحاديث غيرها، ولما كان لا عبرة به هنا؛ لم يتعرض له عليه السَّلام هنا؛ لأنَّ المراد من الإسفار بعد دخول الوقت والفجر الكاذب لا يقال له الفجر الصادق، وشتان بين الصادق والكاذب.
وقوله: (فأراد عليه السَّلام ... ) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّه عليه السَّلام قد بين الأوقات، والصلاة إنَّما تجب بدخول وقتها وهو ليس فيه شك، ومن شروط الصلاة: اعتقاد دخول الوقت، والإسفار؛ معناه: التنوير كما فسره عليه السَّلام بقوله: «نور صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواضع نبلهم»، وهذا لا يكون في أول دخول وقت الفجر، بل في آخره، كما لا يخفى، فكلامه غير ظاهر؛ فافهم.
وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: حديث الإسفار ناسخ لحديث التغليس، وإنَّهم _أي: الصحابة_ كانوا يدخلون مغلسين ويخرجون مسفرين، واعترضه ابن حازم في كتاب «الناسخ والمنسوخ»، فزعم أنه ليس الأمر كما ذهب إليه؛ لأنَّ حديث التغليس ثابت، وأنه عليه السَّلام داوم عليه حتى فارق الدنيا.
قال إمام الشَّارحين: يرد هذا ما رويناه من حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري ومسلم؛ يعني: من قوله: (ما رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع، فإنه يجمع بين المغرب والعشاء، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها؛ يعني: المعتاد في كل يوم، وهو في وقت الإسفار).
ويدل عليه رواية
%ص 482%
البخاري: (والفجرحين ترع)، وهذا دليل على أنه عليه السَّلام كان يسفر بالفجر دائمًا أبدًا، وحديث التغليس ضعيف لا يحتج به، كما قاله الحفاظ، والأمر هو ما ذكره الحافظ الطحاوي، ويدل عليه اتفاق الصحابة رضي الله عنهم بعد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على الإسفار بالصبح؛ لما رواه الحافظ الطحاوي بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال: (ما اجتمع أصحاب محمد صلَّى الله عليه وسلَّم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة، فهذا دليل واضح على نسخ حديث التغليس؛ لأنَّ إبراهيم أخبر أنَّهم كانوا _أي: الصحابة_ اجتمعوا على ذلك، فلا يجوز عندنا اجتماعهم على خلاف ما قد فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلا بعد نسخ ذلك وثبوت خلافه، والعجب من بعض شراح «البخاري» أنه يقول: ووهم الحافظ الطحاوي حيث ادعى أن حديث: «أسفروا» ناسخ لحديث التغليس، وليس الواهم إلا هو، ولو كان عنده إدراك مدارك المعاني؛ لما اجترأ على مثل هذا الكلام، انتهى كلام الشَّارح.
قلت: وأراد بهذا البعض: ابن حجر، ولا يتعجب منه؛ لأنَّه مشهور بالتعصب، والتعنت، والعناد، وعدم الإنصاف، وما قال هذا الكلام إلا من عدم وقوفه ومعرفته بحديث إبراهيم النخعي وحديث ابن مسعود، الذي روى الأول ابن أبي شيبة والحافظ الطحاوي، والثاني: البخاري ومسلم، وما قال ذلك إلا ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، ولعدم معرفته بمعاني الكلام قال ما قال، فالوهم محيط به، ولله در مؤلف «إيضاح المرام فيما وقع في الفتح من الأوهام»، فإنه قد أودع فيه أبحاثًا [9] رائقة، ونفحات فائقة، وأظهر الأوهام التي وقع فيها ابن حجر الذي تصدر لشرح «البخاري»، وليس الشرح في الحقيقة له، وإنما هو لمن نقل عنه، وهو الشيخ قطب الدين الحلبي، فإنه حين كان ابن حجر في حلب؛ أخذ شرحه واستنسخه ونسبه لنفسه، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (كن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أبي)، ولعله تحريف.
[4] في الأصل: (ليس).
[5] في الأصل: (رافع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (ترع)، ولعله تحريف.
[7] في الأصل: (الراعين)، ولعله تحريف.
[8] في الأصل: (الحدثين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[9] في الأصل: (أبحاث)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (كن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أبي)، ولعله تحريف.
[4] في الأصل: (ليس).
[5] في الأصل: (رافع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (ترع)، ولعله تحريف.
[7] في الأصل: (الراعين)، ولعله تحريف.
[8] في الأصل: (الحدثين)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (كن)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أبي)، ولعله تحريف.
[4] في الأصل: (ليس).
[5] في الأصل: (رافع)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (ترع)، ولعله تحريف.
[7] في الأصل: (الراعين)، ولعله تحريف.
[8] في الأصل: (الحدثين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/629)
(14) [باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين، يذكر فيه: (إذا صلى)؛ أي: الشخص سواء كان رجلًا أو امرأةً، وسواء كانت الصلاة فرضًا، أو واجبًا، أو نفلًا (في ثوب) أي: وهو لابس ثوبًا (له أعلام): جمع عَلَم؛ بفتح العين المهملة واللام، (ونظر) أي: المصلي وهو في صلاته (إلى عَلَمها)؛ بفتح العين واللام، وجواب (إذا) محذوف؛ تقديره: هل يكره له ذلك أم لا؟ قال الكرماني: (والتأنيث فيه باعتبار الخميصة) انتهى.
ونقله عنه ابن حجر بالعكس، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: فقد وهم ابن حجر، فاختلط عليه النقل، فكيف بذكر المعنى؛ فافهم.
==========
%ص 483%
==================
(1/630)
[حديث: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم]
373# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد ابن يونس): نسبه إلى جده؛ لشهرته به، وإنما هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي التميمي الكوفي (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد)؛ بسكون العين المهملة: هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني (قال: حدثنا ابن شهاب) وفي رواية ابن عساكر: (عن ابن شهاب): هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري، (عن عُرْوة)؛ بضم أوله، وسكون ثانيه المهملين: هو ابن الزُّبير _بضم الزاي_ ابن العوام؛ بتشديد الواو، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم صلى)؛ أي: صلاة الفرض بأصحابه جماعة في مسجده النبوي (في خَمِيصة)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم، وبالصاد المهملة: وهي كساء أسود مربع، له أعلام أو علمان، وتكون من خز أو صوف، ولا تسمى خميصة إلا إذا كانت سوداء معلمة، وسميت بذلك؛ للينها ورقتها وصغر حجمها إذا طويت، مأخوذة من الخمص؛ وهو ضمور البطن، وزعم ابن حبيب في «شرح الموطأ» أنها كساء صوف، أو مرعزي معلم الصنعة، كذا في «عمدة القاري».
(لها أعلام): جمع عَلَم؛ بفتحتين، والجملة اسمية محلها الجر؛ لأنَّها صفة لـ (خميصة)، (فنظر) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (إلى أعلامها) وهو في صلاته (نظرة)؛ أي: واحدة، (فلما انصرف)؛ أي فرغ من صلاته واستقبال القبلة؛ استقبل أصحابه وانتزع خميصته (قال) جواب (لما) لهم: (اذهبوا بخميصتي هذه) أي: التي صلى فيها (إلى أبي جَهْم)؛ بفتح الجيم، وسكون الهاء: هو عامر بن حذيفة العدوي القرشي المدني الصحابي، وقيل: اسمه عبيد، أسلم يوم الفتح، وكان معظمًا في قريش، وعالمًا بالنسب، شهد بنيان الكعبة مرتين، وتوفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه، وهو غير أبي الجهيم المصغر المذكور في (المرور)، كذا في «عمدة القاري».
وفيه: فإن قلت: ما وجه تعيين أبي جهم في الإرسال إليه؟
قلت: لأنَّ أبا جهم هو الذي أهداها له صلَّى الله عليه وسلَّم، فلذلك ردها عليه، وروى الحافظ أبو جعفر الطحاوي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أهدى أبو جهم إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم خميصة شامية، لها علم، فشهد فيها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الصلاة، فلما انصرف؛ قال: «ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم، فإنها كادت تفتني» انتهى.
(وأتوني بأنبجانية أبي جهم) قال إمام الشَّارحين: اختلفوا في ضبط هذه اللفظة ومعناها؛ فقيل: بفتح الهمزة، وسكون النون، وكسر الموحدة، وتخفيف الجيم، وبعد النون ياء النسبة، وقال ثعلب: يقال: كبش أنبَِجاني _بكسر الموحدة وفتحها_؛ إذا كان ملتصقًا كثير الصوف، وكساء أنبجاني كذلك، وقال الجوهري: إذا نسبت إلى منبَج؛ فتحت الباء الموحدة، وقلت: كساء منبَجاني، أخرجوه مخرج مخبراني ومنظراني، وقال أبو حاتم: لا يقال: كساء أنبجاني، وهذا مما يخطئ فيه العامة، وإنما يقال: مَنبَجاني؛ بفتح الميم والباء، قال: وقلت للأصمعي: لم فتحت الباء، وإنما نسب إلى منبِج بالكسر؟ قال: خرج مخرج منظراني ومخبراني، قال: والنسب مما يغير البناء، وقال القزاز: والنباج: موضع ينسب إليه الثياب المنبجانية، وفي «الجمهرة»: ومنبج: موضع أعجمي، وقد تكلمت به العرب، ونسبوا إليه الثياب المنبجانية، وفي «المحكم»: أن منبج موضع، قال سيبويه: الميم فيه زائدة بمنزلة الألف؛ لأنَّها إنَّما كثرت مزيدة أولًا؛ فموضع زيادتها كموضع الألف، وكثرتها ككثرتها إذا كانت أولًا في الاسم والصفة، وكذلك النباج وهما نباجان؛ نباج بنتل، ونباج ابن عامر، وكساء منبجاني منسوب إليه على غير القياس، وفي «المغيث»: المحفوظ كسر باء (الأنبِجانية)، وقال ابن الحصار: من زعم أنه منسوب إلى منبج؛ فقد وهم.
قال إمام الشَّارحين:
%ص 483%
قلت: مَنْبِج؛ بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الموحدة، آخره جيم: بلدة من كور قنسرين، بناها بعض الأكاسرة الذي غلب على الشام، وسماها: منبه، وبنى بها بيت نار ووكل بها رجلًا فعربت، فقيل: منبج، والنسبة إليها: منبجي على الأصل، ومنبجاني على غير القياس، والباء تفتح في النسبة، كما يقال في النسبة إلى صدف: صدفي؛ بفتحها، وعن هذا قال ابن قرقول: نسبة إلى مَنبِج؛ بفتح الميم، وكسر الباء، ويقال: نسبة إلى موضع يقال له: أنبجان، وفي هذا قال ثعلب: يقال: كساء أنبجاني، وهذا هو الأقرب في لفظ الحديث.
وأما معناها؛ فزعم عبد الملك بن حبيب في «شرح الموطأ» هي كساء غليظ يشبه الشملة، يكون سداه قطنًا غليظًا أو كتانًا غليظًا، ولحمته صوف ليس بالمبرم، في فتله لين غليظ يلتحف بها في الفراش، وقد يشتمل بها في شدة البرد، وقيل: هي من أدوان الثياب الغليظة، يتخذ من الصوف، وقيل: هو كساء غليظ لا علم له، فإذا كان للكساء علم؛ فهو خميصة، وإن لم يكن؛ فهو أنبجانية، انتهى كلامه
(فإنها) أي: الخميصة (ألهتني)؛ أي: شغلتني، وهو من الإلهاء، وثلاثيه لهي الرجل عن الشيء يلهى عنه؛ إذا غفل، وهو من باب (علِم يعلَم)، وأما لها يلهو؛ إذا لعب؛ فهو من باب (نصَر ينصُر)، وفي «الموعب»: وقد لها يلهو والتهى، وألهاني منه كذا؛ يعني: أنساني وشغلني، كذا في «عمدة القاري».
(آنفًا)؛ بفتح الهمزة الممدودة؛ أي: قريبًا، واشتقاقه من الائتناف [1] بالشيء؛ أي: الابتداء به، وكذلك الاستئناف، ومنه: أنف كل شيء وهو أوله، ويقال: قلت: آنفًا وسالفًا، وانتصابه على الظرفية، قال ابن الأثير: (قلت: الشيء آنفًا؛ أي: في أول وقت يقرب مني) انتهى.
(عن صلاتي)؛ أي: عن كمال الحضور فيها، وتدبير أركانها وأذكارها، والاستقصاء في التوجه إلى جناب الجبروت، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم القسطلاني أنه لا يقال هذا المعنى؛ لأنَّ قوله في التعليق الآتي: (فأخاف أن تفتني) يدل على نفي وقوع ذلك، انتهى.
قلت: إمام الشَّارحين قد فسر معنى هذا الحديث وهو يدل على أنه قد وقع الإلهاء منه؛ لأنَّ قوله: (ألهتني) صريح في الوقوع، وأما التعليق؛ فإنه لم يتعرض له هنا، وسيأتي الكلام عليه على أنه يحتمل تعدد القصة؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: فإن قلت: كيف بعث عليه السَّلام بشيء يكرهه إلى غيره؟
قلت: بعثها لأبي جهم لم يكن لما ذكر، وإنما كان لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن الخشوع، وعن ذكر الله عز وجل، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «اخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابكم فيه الغفلة، فإنه واد به شيطان»، ألا ترى إلى قوله عليه السَّلام لعائشة في الضب: «إنا لا نتصدق بما لا نأكل»، وكان هو صلَّى الله عليه وسلَّم أقوى خلق الله لدفع الوسوسة، ولكن كرهها؛ لدفع الوسوسة.
وزعم ابن بطال أن بعثه عليه السَّلام الخميصة لأبي جهم وطلب أنبجانيته هو من باب الإدلال عليه؛ لعلمه بأنه يفرح بذلك، انتهى.
فإن قلت: أليس فيه تغيير خاطر أبي جهم بالرد عليه؟
قلت: لعلمه بأنه يفرح بذلك، كما زعمه ابن بطال.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا ليس بشيء، والأولى منه هو ما دلت عليه رواية أبي موسى المديني: «ردوها عليه وخذوا أنبجانيته»؛ لئلا يؤثر رد الهدية في قلبه، وعند أبي داود: «شغلني أعلام هذه»، وأخذ كرديًّا كان لأبي جهم، فقيل: يا رسول الله؛ الخميصة كانت خيرًا من الكردي) انتهى.
قلت: فهذا يرد ما زعمه ابن بطال، ويدل على أنه عليه السَّلام علم أن أبا جهم يكره رد الهدية، وأنه عليه السَّلام طلب الأنبجانية تطييبًا لخاطره، ولئلا يتأذى قلبه بذلك؛ فافهم.
فإن قلت: أليس فيه إشارة إلى استعمال أبي جهم الخميصة في صلاته؟
قلت: لا يلزم منه ذلك، ومثله قوله في حلة عطارد؛ حيث بعث بها إلى عمر بن الخطاب: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها»، وإنما أباح له الانتفاع بها من جهة بيع أو كساء لغيره من النساء.
فإن قلت: ليست قضية أبي جهم مثل قضية عمر؛ لأنَّه عليه السَّلام قال له: «لم أبعث بها إليك لكذا»، وكذا وهي إذا ألهت سيد الخلق مع عصمته، فكيف لا تلهي أبا جهم، على أنه قيل: إنه كان أعمى، فالإلهاء مقصود عنده؟
قلت: لعله عليه السَّلام علم أنه لا يصلي فيها، ويحتمل أن يكون خاصًّا بالشَّارع، كما قال: «كُلْ، فإني أناجي من لا تناجي».
فإن قلت: المراقبة شغلت خلقًا من أتباعه حتى إنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم به.
قلت: أولئك كانوا يؤخذون عن طباعهم فيغيبون عن وجودهم، وكان الشَّارع عليه السَّلام يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص غير الكل؛ فقال: «لست كأحدكم»، وإذا سلك طريق غيرهم؛ قال: «إنما أنا بشر»، فرد إلى حالة الطبع، فنزع الخميصة ليس فيه ترك كل شاغل، انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث أحكام؛ ففيه جواز لبس الثوب المعلم، وجواز الصلاة فيه، وفيه أن اشتغال الفكر اليسير في الصلاة غير قادح فيها، وهو مجمع عليه، وزعم ابن بطال وفيه أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر مما ليس متعلقًا بالصلاة، والذي حكي عن بعض السلف: أنه مما يضر غير معتد به) انتهى.
وفيه طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، ونفي كل ما يشغل القلب ويلهي عنه، ولهذا قال أصحابنا: المستحب أن يكون المصلي نظره إلى موضع سجوده؛ لأنَّه أقرب إلى التعظيم من إرسال الطرف يمينًا وشمالًا.
وفيه المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعة، والإعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها.
وفيه منع النظر وجمعه عما لا حاجة بالشخص إليه في الصلاة وغيرها، وقد كان السلف لا يخطئ أحدهم موضع قدمه إذا مشى.
وفيه تكنية العالم لمن دونه وكذا الإمام.
وفيه كراهة تزويق المحراب في المسجد وحائطه ونقشه وغير ذلك من الشاغلات.
وفيه قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم، واستدل به الباجي على صحة المعاطاة في العقود؛ لعدم ذكر الصيغة.
وفيه كراهة الأعلام التي يتعاطاها الناس على أردائهم.
وفيه أن لصور الأشياء الظاهرة تأثيرًا في النفوس الطاهرة [2] والقلوب الزكية.
%ص 484%
وقال الطيبي: (إنما أرسلها إليه؛ لأنَّه كان أهداها إياه، فلما ألهاه علمها؛ أي: شغله عن الصلاة بوقوع نظره إلى نقوش العلم؛ ردها عليه، أو تفكره في أن مثل ذلك للرعونة التي لا يليق به ردها إليه، واستبدل منه أنبجانية كيلا يتأذى قلبه بردها إليه) انتهى.
(وقال هشام بن عروة): هو ابن الزبير، قال إمام الشَّارحين: (وهذا تعليق رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن هشام، ورواه أبو داود عن عبيد الله، عن معاذ، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عنه، ورواه أبو معمر فقال: عمرة عن عائشة، قال الإسماعيلي: ولعله غلط منه، والصحيح عروة، ولم يذكر أبو مسعود هذا التعليق، وذكره خلف) انتهى.
قلت: والظاهر أنه سهو من الناسخ الأول وتبعه النساخ، والصواب عروة، كما لا يخفى، وزعم الكرماني أن قوله: (وقال هشام) عطف على قوله: (قال ابن شهاب)، وهو من جملة شيوخ إبراهيم، ويحتمل أن يكون تعليقًا، انتهى.
قلت: ولو اضطلع على ما قاله إمام الشَّارحين؛ لم يحتج إلى هذا التردد على أنَّ هذا ظاهر في أنه تعليق، فكأنه لم يضطلع على ما ذكره الشَّارح فتردد، فلله در شارحنا من إمام؛ فافهم.
(عن أبيه): هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) الصديقة رضي الله عنها قالت: (قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) يومًا وهو في حجرتها: (كنت أنظر إلى علمها)؛ بفتح العين المهملة واللام؛ يعني: الخميصة (وأنا في الصلاة): جملة حالية، (فأخاف أن تَفتِنِّي)؛ بفتح المثناة الفوقية، وكسر الثانية، وبالنونين، من فتنه يفتنه من باب (ضرب يضرِب)، وفي رواية: (يَفتنني)؛ بفتح التحتية أوله بدل الفوقية، ويجوز أن تكون بالإدغام، وأن تكون بضم المثناة الفوقية من الثلاثي المزيد، يقال: فتنه وأفتنه، وأنكره الأصمعي.
فإن قلت: كيف يخاف الافتتان من لم يلتفت إلى الأكوان ما زاغ البصر وما طغى؟
قلت: إنه عليه السَّلام كان في تلك الليلة خارجًا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من ورائه، وأما إذا رد إلى طبعه البشري؛ فإنه يؤثر في البشر، واعلم أن هذه الرواية لم يقع له عليه السَّلام شيء من الخرق من الإلهاء؛ لأنَّه قال: «فأخاف»، وهو مستقبل، ويدل عليه أيضًا رواية مالك: «فكاد يفتنني»، فهذا يدل على أنه لم يقع، والرواية الأولى تدل على أنه قد وقع؛ لأنَّه صرح بقوله: «فإنها ألهتني»، والتوفيق بينهما يمكن بأن يقال: للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حالتان؛ حالة بشرية، وحالة يختص بها خارجة عن ذلك، فبالنظر إلى الحالة البشرية؛ قال: «ألهتني»، وبالنظر إلى الحالة الثانية؛ لم يحزم به، بل قال: «أخاف»، ولا يلزم من ذلك الوقوع، وأيضًا فيه تنبيه لأمته ليحترزوا عن مثل ذلك في صلاتهم؛ لأنَّ الصلاة المعتبرة أن يكون فيها خشوع، وما يلهي المصلي ينافي الخشوع والخضوع، كذا قرره إمام الشَّارحين، وزعم القسطلاني أن قوله: «ألهتني» في الرواية الأولى يحمل على قوله: «كاد» في رواية مالك، فيكون الإطلاق؛ للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء، انتهى.
قلت: وهذا الحمل غير صحيح؛ لأنَّ الرواية الأولى صريحة في وقوع الإلهاء، فكيف يحمل على قرب الوقوع؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «ألهتني»، وأمره لأصحابه بردها إلى أبي جهم، وأمرهم بأن يأتوه بأنبجانيته دليل واضح على تحقق وقوع الإلهاء، ويدل عليه رواية أبي داود: «شغلني أعلام هذه»، وهي تدل على تحقق الوقوع أيضًا، ولا مانع من ذلك؛ فافهم فافهم.
فالظاهر هو ما قاله إمام الشَّارحين هنا وهناك وهو الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، ويحتمل تعدد القصة، ففي القصة المذكورة في الرواية الأولى: (ألهته)؛ يعني: تحقق وقوعه، وفي القصة المذكورة في هذا التعليق لم يقع، بل خاف وقوعه، وفي القصة المذكورة في رواية مالك لم يقع، بل قرب وقوعه؛ لقوله: «فكاد»، وفي القصة المذكورة في رواية الحافظ الطحاوي التعبير بالافتتان وهو لم يقع بل قرب وقوعه لقوله: «فكاد»،ويدل على أن القصة متعددة أن أبا جهم كان تاجرًا وأنه يستجلب أنواع الخميصة والأنبجانية من الشام، وأنه يهدي إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في كل مرة خميصة، ويدل على ذلك أن في الرواية الأولى: قال عليه السَّلام: «ولها أعلام»؛ بالجمع، وفي الرواية الثانية قال: «إلى علمها»؛ بالإفراد، وفي رواية الحافظ الطحاوي: «لها علم»؛ أي: واحد، فهذا يدل على أن الخميصة المهداة له عليه السَّلام متعددة؛ لأنَّ أبا جهم تارة أهدى له خميصة لها أعلام، وتارة أهدى له خميصة لها علم واحد، ويدل على ذلك أيضًا أنه في الرواية الأولى قال لأصحابه: «اذهبوا وائتوني»، وكذا في رواية أبي موسى قال: «ردوها»، وهو يدل على أن الذين تولوا ردها أصحابه.
وفي رواية الحافظ الطحاوي: قال عليه السَّلام لعائشة: «ردي هذه الخميصة» وهو يدل على أنها هي التي تولت ردها بنفسها، وهو يدل على تعدد القصة؛ لأنَّ عائشة لم تكن مع أصحابه في المسجد، بل كانت في حجرتها، وقد صلى عليه السَّلام في حجرتها، فإنه لا يمكن اختلاط النساء بالرجال، ولو كان ذلك بحضرتها وحضرتهم؛ لما أمرها بردها، بل كان يأمر بعض أصحابه، فهذا كله يدل على أن القصة متعددة، وفيه أن صلاته في الرواية الأولى كانت فرضًا، وفي هذه الرواية كانت نفلًا، والله تعالى أعلم بالصواب.
==========
[1] في الأصل: (الإيناء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (الظاهرة)، وهو تصحيف.
==================
[1] في الأصل: (الإيناء)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (الإيناء)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/631)
(15) [باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟]
هذا (باب)؛ بالتنوين خبر مبتدأ محذوف (إن صلى)؛ أي: الشخص سواء كان رجلًا أو امرأة (في ثوب): الجار والمجرور حال؛ أي: حال كونه في ثوب (مُصلَّب)؛ بضم الميم، وفتح اللام المشددة؛ أي: منقوش بصور الصلبان، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أي:
%ص 485%
فيه صلبان، ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ليس المعنى كذلك، بل معناه: إن صلى في ثوب منقوش بصور الصلبان) انتهى.
قلت: وقوله: (منقوش بصور الصلبان) يشمل ما إذا كانت الصلبان منسوجة أو معلمة؛ لأنَّ كلًّا منهما يقال له: منقوش، وأما قول ابن حجر: (فيه صلبان): قاصر المعنى؛ لأنَّه غير شامل لما نقش فيه، ولما علم فيه من الصور، بل قاصر على تصور الثوب صلبان، وهو خلاف المعنى المراد، فقد وهم ابن حجر في ذلك، كما بينه صاحب «إيضاح المرام»؛ فافهم.
(أو): في ثوب ذي (تصاوير)؛ أي: مصور بتصاوير، وهو عطف على (مصلب) مع حذف حرف الصلة كما سيأتي، قال الجوهري: التصاوير: التماثيل، وقد جاء التصاوير، والتماثيل، والتصاليب، فكأنها في الأصل جمع تصوير، وتمثال وتصوير، وفرق العلماء بين الصورة والتمثال؛ فقالوا: الصورة تكون في الحيوان، والتمثال يكون فيه وفي غيره، ويقال: التمثال ما له جرم وشخص، والصورة ما كان رقمًا أو تزويقًا في ثوب أو حائط.
وقال المنذري: قيل: التمثال: الصورة، وقيل في قوله تعالى: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]: إنها صور العقبان والطواويس على كرسي سليمان عليه السَّلام وكان مباحًا، وقيل: صور الأنبياء والملائكة عليهم السلام من رخام وشبه؛ لينشطوا في العبادة بالنظر إليهم، وقيل: صور الآدميين من نحاس، كذا في «عمدة القاري».
وزعم الكرماني أن قوله: (أو تصاوير) عطف (على ثوب) لا على (مصلب)، والمصدر بمعنى المفعول، أو على (مصلب)، لكن بتقدير: أنه في معنى ثوب مصور بالصليب فكأنه قال: مصور بالصليب أو بتصاوير غيره.
وزعم ابن حجر أن قوله: (أو تصاوير)؛ أي: في ثوب ذي تصاوير، فكأنه حذف المضاف؛ لدلالة المعنى عليه، واعترضهما إمام الشَّارحين فقال: جعل الكرماني (تصاوير) مصدرًا بمعنى المفعول غير صحيح؛ لأنَّ التصاوير اسم للتماثيل، كذا قاله أهل اللغة، وساق كلام الجوهري السابق، ولئن سلمنا كون التصاوير مصدرًا في الأصل جمع تصوير؛ فلا يصح أن يقال عند كونه عطفًا على (ثوب)، أن يقدر: أو إن صلى في ثوب مصورة؛ لعدم التطابق حينئذٍ بين الصفة والموصوف مع أنه شرط، والظاهر: أنه عطفٌ على (مصلب) مع حذف حرف العلة؛ تقديره: إن صلى في ثوب مصور بصلبان أو ثوب مصور بتصاوير التي هي التماثيل، وقول ابن حجر: (لدلالة المعنى عليه): لم يبين أن المعنى الدال عليه ما هو؟ والقول بحذف حرف الصلة أولى من القول بحذف المضاف؛ لأنَّ ذاك شائع ذائع) انتهى.
قلت: فإن المضاف والمضاف إليه كالكلمة الواحدة، فحذف المضاف غير شائع في كلامهم على أنه لم يدل الدليل على حذفه، ولم يظهر المعنى الدال عليه، ولو ظهر لابن حجر؛ لبينه، فكأنه ذكره رجمًا بالغيب، فهو ممنوع، والظاهر بل الصواب: ما قاله الشَّارح رضي الله عنه؛ فليحفظ.
(هل تفسد صلاته): استفهام على سبيل الاستفسار، جرى المؤلف على عادته في ترك القطع في الشيء الذي فيه اختلاف؛ لأنَّ العلماء اختلفوا في النهي الوارد في الشيء، فإن كان لمعنًى في نفسه؛ فهو يقتضي الفساد، وإن كان لمعنًى في غيره؛ فهو يقتضي الكراهة أو الفساد، فيه خلاف، انتهى.
(وما ينهى من ذلك)؛ أي: والذي ينهى عن ذلك المذكور؛ وهو الصلاة في ثوب مصور بصلبان أو بتصاوير، كذا في رواية أبي ذر، وفي رواية أبي الوقت والأصيلي: (وما ينهى عنه)؛ بالضمير، وفي رواية غيرهم: (وما ينهى عن ذلك)، بكلمة (عن) موضع (من)، والأول أصح، قاله إمام الشَّارحين.
==================
(1/632)
[حديث: أميطي عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي]
374# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو معمر)؛ بفتح الميمين، بينهما عين مهملة ساكنة (عبد الله بن عمرو)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الميم: هو البصري (قال: حدثنا عبد الوارث): هو ابن سعيد؛ بكسر العين المهملة، البصري (قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب)؛ بضم الصاد المهملة، البصري (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك): هو الأنصاري (قال: كان قِرام)؛ بكسر القاف، وتخفيف الراء: وهو ستر رقيق من صوف ذو ألوان، وقال أبو سعيد [1]: (القرام): صوف غليظ جدًّا يفرش في الهودج، وفي «المحكم»: هو ثوب من صوف ملون، والجمع قرم، وعن ابن الأعرابي: جمعه قروم، وهو ثوب من صوف فيه ألوان من عهن، فإذا خيطفصار [2] كأنه بيت؛ فهو كلة، وقال القزاز وابن دريد: هو الستر الرقيق وراء الستر الغليظ على الهودج وغيره، وقال الخليل: يتخذ سترًا أو يغشى به هودج أو كلة، وزعم الجوهري أنه ستر فيه رقم ونقوش، قال: وكذلك المقرم والمقرمة، كذا في «عمدة القاري».
(لعائشة)؛ أي: الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (سترت به جانب بيتها): وفي لفظ للنسائي: (كان في بيتي ثوب فيه تصاوير، فجعلته إلى سهوة في البيت، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي إليه)، وفي لفظ: (فإن فيه تمثال طير مستقبل البيت إذا دخل الداخل)، وفي لفظ: (قدم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من سفر وقد استترت بقرام على سهوة لي فيه تماثيل)، (فقال النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) لعائشة: (أميطي)؛ أي: أزيلي [3]، وهو أمر من أماط يميط، قال ابن سيده: يقال: ماط عني ميطًا ومياطًا، وأماط: تنحى وبعد، وأماطه وماطه عني: نحاه ودفعه، قال بعضهم: مطت به وأمطته على حكم ما يتعدى إليه الأفعال غير المتعدية بالفعل في الغالب، وماط الأذى ميطًا وأماطه: نحاه ودفعه، كذا في «عمدة القاري».
(عنا قرامك هذا): وفي لفظ للنسائي: (ثم قال: «يا عائشة؛ أخريه عني»، فنزعته فجعلته وسائد)، وفي لفظ: (فيه تصاوير، فنزعه عليه السَّلام فقطعه وسادتين، فكان يرتفق عليهما)، وفي لفظ: «أخري هذا، فإني إذا رأيته؛ ذكرت الدنيا»، وفي لفظ: «دخل علي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد استترت بقرام فيه تماثيل، فلما رآه؛ تلون وجهه، ثم هتكه بيده، وقال: «إنَّ أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله»، وفي لفظ: (خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خرجة، ثم دخل وقد علقت قرامًا فيه الخيل أولات الأجنحة؛ فلما رآه؛ قال: «انزعيه»).
(فإنه لا تزال تصاوير) بدون الضمير، والهاء في (فإنه) ضمير الشأن، وفي رواية: (تصاويره)؛ بالإضافة إلى الضمير، فالضمير في (فإنه) يرجع إلى الثوب، كذا في «عمدة القاري».
(تَعرِض)؛ بفتح المثناة الفوقية، وكسر الراء؛ أي: تلوح لي، وفي رواية الإسماعيلي: (تَعَرَّض)؛ بفتح المثناة والعين، وتشديد الراء، وأصله: تتعرض، فحذفت إحدى التاءين كما في (نار تلظَّى) (في صلاتي)، ووجه مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن الستر الذي فيه التصاوير إذا نهى عنه الشَّارع فمنع لبسه بالطريق الأولى.
فإن قلت: الترجمة شيئان والحديث لا يدل إلا على شيء واحد وهو الثوب الذي فيه الصورة.
قلت: نعم ويلحق به الثوب الذي فيه صور الصلبان؛ لاشتراكهما في أن كلًّا منهما عبد من دون الله، كذا قاله إمام الشَّارحين.
%ص 486%
وزعم الخطابي [4] فيه دليل على أن الصور كلها منهي عنها، سواء كانت أشخاصًا ماثلة أو غير ماثلة، وسواء كانت في ستر، أو بساط، أو في وجه جدار، أو غير ذلك.
قلت: إنَّما قال ذلك؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وإلا؛ فالحديث لا يشمل ما يبسط ويفرش على الأرض، كما يأتي.
وقال ابن بطال: علم من الحديث النهي عن اللباس الذي فيه التصاوير بالطريق الأولى، وهذا كله على الكراهة، فإن من صلى فيه؛ فصلاته مجزئة؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يعد الصلاة، ولأنه عليه السَّلام ذكر أنها عرضت له ولم يقل: إنه قطعها، ومن صلى بذلك أو نظر إليه؛ فصلاته مجزئة عند العلماء.
وقال المهلب [5]: وإنما أمرنا عليه السَّلام باجتناب هذا؛ لإحضار الخشوع في الصلاة وقطع دواعي الشغل، وقيل: إنه منسوخ بحديث سهل بن حنيف رضي الله عنه، رواه مالك بن أنس، عن أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله: (أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده، فوجد عنده سهل بن حنيف، فأمر أبو طلحة إنسانًا ينزع غطاء تحته، فقال له سهل: لم تنزعه؟ قال: لأنَّ فيه تصاوير، وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما قد علمت، قال: ألم يقل إلا ما كان رقمًا في ثوب؟ قال: بلى، ولكنه لم يكن أطيب لنفسي)، وأخرجه النسائي عن علي بن شعيب، عن معن، عن مالك به، واحتج أصحابنا بهذا الحديث على أن الصور التي تكون فيما يبسط، ويفترش، ويمتهن خارجة عن هذا النهي الوارد في هذا الباب، وبه قال الثوري، والنخعي، ومالك، وأحمد في رواية، وقال أبو عمر: ذكر ابن القاسم قال: كان الإمام الأعظم وأصحابه يكرهون التصاوير في البيوت بتمثال، ولا يكرهون ذلك فيما يبسط، ولم يختلفوا في أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة، وكان مالك يكره التماثيل في الأسرة والقباب، وقال أبو عمر [6] (وكره الليث التماثيل في البيوت، والأسرة، والقباب، والطساس، والمنارات إلا ما كان رقمًا في ثوب، وأما الشافعي؛ فإنه كره الصور مطلقًا سواء كانت على الثياب أو على الفرش والبسط ونحوهما، واحتج بعموم حديث النهي، ولم يفرق في ذلك) انتهى.
قلت: والحديث حجة عليه؛ لأنَّه قد فرق بين المعلق وبين المنبسط المفترش، فالأول مكروه دون الثاني؛ فليحفظ.
وذكر القسطلاني أن أمره عليه السَّلام بالإماطة في حديث الباب يستلزم النهي عن الاستعمال، انتهى.
قلت: وفيه نظر، فإنه عليه السَّلام ذكر سبب الأمر بالإماطة أنه تعرض له في صلاته، فالأمر بالإماطة قاصر على ما كانت الصور في البيوت والستور المعلقة، فلا يشمل ما إذا كانت مبسوطة مفروشة يوطأ عليها بالأرجل، فالنهي خاص بما قلنا، وهو لا يستلزم النهي عن الاستعمال فيما ذكر، لا سيما وقد دل حديث سهل بن حنيف أن النهي منسوخ؛ فافهم.
وما في حديث عائشة عند المؤلف في (اللباس) قالت: (لم يكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يترك في بيته شيئًا فيه تصليب إلا نقضه)؛ فهو لا يدل على النفي على العموم؛ لأنَّ التصليب خلاف الصورة التي في الثوب، فإنما كان ينقض التصليب؛ لأنَّه معبود عند النصارى، بخلاف الصورة في الثوب، فإنه كان يتركها تبسط وتفرش، يدل عليه حديث سهل بن حنيف على أن قوله: (إلا نقضه)؛ معناه: حوَّله إلى مكان آخر، يقال: نقض زيد باب داره؛ بمعنى: حوَّله، فكان يحوِّله عن موضع صلاته، فالحديث ليس على العموم؛ فافهم.
وحكى مكي في «الهداية» له: أن جماعة جوزت التصوير، واحتجت بقوله تعالى: {وَتَمَاثِيلَ}، قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه، ورده القرطبي فقال: (ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم: عمل الصور جائز؛ لهذه الآية، وقال قوم: صح النهي عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عنها، والتوعد لمن عملها أو اتخذها، فنسخ الله بهذا ما كان مباحًا قبله، وكانت الحكمة في ذلك أنه عليه السَّلام بعث والصور تعبد من دون الله، فكان الأصلح إزالتها، وكان ذلك جائزًا في شريعة سليمان عليه السَّلام، ونسخ ذلك في شريعة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم) انتهى.
==========
[1] في الأصل: (سعد)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (صار)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أزيل)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (الخطاب)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (الهلب)، وهو تحريف.
[6] في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
==================
[1] في الأصل: (سعد)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (صار)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أزيل)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (الخطاب)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (الهلب)، وهو تحريف.
[1] في الأصل: (سعد)، وهو تحريف.
[2] في الأصل: (صار)، والمثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أزيل)، وهو تحريف.
[4] في الأصل: (الخطاب)، وهو تحريف.
[5] في الأصل: (الهلب)، وهو تحريف.
(1/633)
(16) [باب من صلى في فروج حرير ثم نزعه]
هذا (باب)؛ بالتنوين خبر مبتدأ محذوف؛ يذكر فيه حكم (من صلى في فَرُّوج)؛ بفتح الفاء، وضم الراء المشددة، آخره جيم: وهو القباء الذي شق من خلفه، وقال أبو العلاء المعري: يقال فيه: بضم الفاء من غير تشديد على وزن (خروج)، وقال القرطبي: (القباء والفروج كلاهما ثوب ضيق الكمين، ضيق الوسط، مشقوق من خلف، يشمر فيه للحرب والأسفار) انتهى.
والمعنى: من صلى وهو لابس فروجًا من (حرير)؛ بالجر صفة لـ (فروج) (ثم نزعه): بعد فراغه من الصلاة، وهذا حكاية ما وقع من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
==========
%ص 487%
==================
(1/634)
[حديث: لا ينبغي هذا للمتقين]
375# وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف): هو التنيسي المصري (قال: حدثنا الليث): هو ابن سعد المصري، وزعم الكرماني أنه عرض عليه المنصور ولاية مصر فاستعفى، ورده إمام الشَّارحين فقال: (قد قيل: إنه ولي مدة يسيرة، وكان على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه) انتهى.
قلت: ويدل لذلك ما قاله المؤرخون منهم: _ابن خلكان_: إن الليث حنفي على مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، وما قيل: إنه مجتهد؛ فباطل وتعصب؛ فافهم.
(عن يزيد) زاد الأصيلي: (هو ابن أبي حبيب)، وفي رواية ابن عساكر: (ابن أبي حبيب): هو المصري، (عن أبي الخير): هو مَرثد _بفتح الميم، وبالثاء المثلثة_ اليَزَنِي؛ بفتح التحتية والزاي، بعدها نون مكسورة، (عن عقبة بن عامر): هو الجهني رضي الله عنه، كان فصيحًا كاتبًا قارئًا شاعرًا، وهو أحد من جمع القرآن في المصحف، وكان مصحفه على غير تأليف مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد شهد وقعة صفين مع معاوية رضي الله عنه، وكان أميرًا على مصر من قبل معاوية، وتوفي في خلافة معاوية على الصحيح، ودفن بمصر سنة ثمان وخمسين رضي الله عنه (قال: أُهدِي)؛ بضم الهمزة، وكسر الدال المهملة على صيغة المجهول من الماضي (إلى النبيِّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم فَرُّوج)؛ بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة وتخفيفها، آخره جيم، وحكي: ضم أوله وتخفيف الراء على وزن (خروج)؛ وهو قباء مشقوق من خلفه، وهو من لبوس الأعاجم (حرير)؛ بالإضافة؛ كما في ثوب خزٍّ، وخاتم فضة، ويجوز أن يكون (حرير) صفة لـ (فروج)، والإعراب يحتمل ذلك والكلام في الرواية، والظاهر أنها الأول، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: وكان الذي أهداه إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وذكر أبو نعيم أنه أسلم وأهدى إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حلة سيراء، وقال ابن الأثير: أهدى للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وصالحه ولم يسلم، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السير، ومن قال: إنه أسلم؛ فقد أخطأ خطأً ظاهرًا، وكان نصرانيًّا، ولما صالحه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ عاد إلى حصنه وبقي فيه، ثم إن خالدًا أسره لما حاصر دومة الجندل أيام أبي بكر الصديق الأكبر رضي الله عنه، فقتله مشركًا نصرانيًّا، وأُكَيْدر؛ بضم الهمزة، وفتح الكاف، وسكون التحتية، وبالدال والراء المهملتين، ودومة الجندل: اسم لحصن، قال الجوهري: (أصحاب اللغة يقولون: بضم الدال المهملة، وأهل الحديث: يفتحونها، وهو اسم
%ص 487%
موضع فاصل بين الشام والعراق، على سبع مراحل من دمشق، وعلى ثلاث عشرة [1] مرحلة من المدينة) انتهى كلامه؛ فافهم.
(فلبسه): النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (فصلى فيه)؛ أي: صلاة الفرض في مسجده، (ثم انصرف)؛ أي: فرغ من صلاته واستقبال القبلة، (فنزعه نزعًا شديدًا)؛ يعني: بسرعة (كالكاره له) ولم يعد تلك الصلاة، فاستدل به بعضهم على جواز الصلاة في الثياب الحرير؛ لكونه عليه السَّلام لم يعد تلك الصلاة، وهذا الاستدلال غير صحيح في ذلك؛ لأنَّ ترك إعادة الصلاة لكونها وقعت قبل التحريم، أما بعده؛ ففيه خلاف العلماء، فقال الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم: تصح صلاته في الثوب الحرير، ولكنها تكره ويأثم؛ لارتكابه الحرام، وبه قال الشافعي وأبو ثور، وقال ابن القاسم عن مالك: من صلى في ثوب حرير؛ يعيد في الوقت إن وجد ثوبًا غيره، وعليه جل أصحابه، وقال أشهب: لا إعادة عليه في الوقت ولا غيره [2]، وهو قول أصبغ، وخفف ابن الماجشون لباسه في الحرب والصلاة للترهيب على العدو والمباهاة، وقال آخرون: إن صلى فيه وهو يعلم أن ذلك لا يجوز؛ يعيد، وفي الحديث جواز قبول هدية المشرك للإمام لمصلحة يراها، والله أعلم.
(وقال) صلَّى الله عليه وسلَّم حين نزعه: (لا ينبغي) أي: لا يطلب لبس (هذا): الثوب الحرير (للمتقين)؛ أي: عن الكفر، وهم المؤمنون، أو عن المعاصي كلها، وهم الصالحون.
فإن قلت: النساء المتقيات يدخلن فيهم مع أن الحرير حلال لهنَّ؟
قلت: هذه المسألة مختلف فيها، والأصح أن جمع المذكر السالم لا يدخل فيه النساء، فلا يقتضي الاشتراك، ولئن سلمنا دخولهن؛ فالحل لهن علم بدليل آخره، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: وفي الحديث أحكام؛ منها: حرمة لبس الحرير للرجال في كل الأحوال إلا في صورة يستثنى منها في الحرب، فيجوز لبسه للرجال عند الإمامين: أبي يوسف ومحمد بن الحسن، ومنها: للجرب، ومنها: لأجل البرد إذا لم يجد غيره، وقد جوز طائفة من الظاهرية: لبسه للرجال مطلقًا، وإليه ذهب عبد الله بن أبي مليكة، واحتجوا في ذلك بحديث مسور بن مخرمة أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي على ما نذكره في موضعه، واحتج الجمهور في ذلك بأحاديث كثيرة؛ منها حديث الباب، وأخرج الحافظ أبو جعفر الطحاوي في هذا الباب عن خمسة عشر نفرًا، وهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، ومعاوية بن أبي سفيان، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، والبراء بن عازب، وعبد الله بن الزبير، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، ومسلمة بن مخرمة، وعقبة بن عامر الجهني، وأبو أمامة، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم.
وفي الباب عن أم هانئ عند أبي يعلى الموصلي، وأبي ريحانة عند أبي داود، واسم أبي ريحانة شمعون، وأبي موسى الأشعري عند الترمذي، وأحاديث هؤلاء نسخت ما فيه الإباحة للبسه.
فإن قلت: إذا كان حرامًا على الرجال، فكيف لبس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟
قلت: كان ذلك قبل التحريم، وزعم النووي ولعل أول النهي والتحريم كان عند نزعه، ولهذا قال في حديث جابر الذي عند مسلم: (صلى في قباء ديباج، ثم نزعه، وقال: «نهاني عنه جبريل عليه السَّلام»)، فيكون أول التحريم بهذا، وزعم الكرماني أنَّ هذا تخصيص، ولم يجعله نسخًا؛ حيث قال: شرط النسخ: أن يكون المنسوخ حكمًا شرعيًا، ثم قال: ولئن سلم أنه حكم شرعي؛ فالنسخ: هو رفع الحكم عن كل المكلفين، وهذا هو عن البعض، فهو تخصيص.
ورده إمام الشَّارحين؛ حيث قال: لبسه صلَّى الله عليه وسلَّم حكم، ثم نزعه حكم آخر ينسخ الأول، فكما أن الثاني حكم شرعيٌّ كان الأول كذلك، ولكنه نسخ، وكان الثاني يعم الرجال والنساء، لكن خرجت النساء بدليل آخر، وذهبت طائفة إلى تحريم الحرير للرجال والنساء جميعًا، واحتجوا في ذلك بما رواه الحافظ الطحاوي قال: حدثنا أبو بكرة قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك قال: (سألت امرأة ابن عمر قالت: أَنحلَّى بالذهب؟ قال: نعم، قالت: ما تقول في الحرير؟ فقال: يكره ذلك، قلت: ما يكره، أخبرني أحلال هو أم حرام؟ قال: كنا نتحدث أن من لبسه في الدنيا؛ لم يلبسه في الآخرة)، وبما رواه الحافظ الطحاوي أيضًا عن بجر بن ناصر قال: حدثنا وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا عشانة المعافري حدثه: أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يخبر: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يمنع أهله الحلية والحرير، ويقول: «إن كنتن تحببن حلية الجنة وحريرها؛ فلا تلبسنها في الدنيا»، وبما رواه أيضًا من حديث الأزرق بن قيس قال: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب يوم التروية وهو يقول: (يا أيها الناس؛ لا تلبسوا الحرير ولا تلبسوها نساءكم ولا أبناءكم، فإنه من لبس في الدنيا؛ لم يلبسه في الآخرة)، وأخرجه مسلم أيضًا.
وأجاب الجمهور عن ذلك: بأن ما روي عن ابن عمر محمول على الرجال خاصة، يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الذهب والحرير حل لإناث أمتي، وحرام على ذكورها»، رواه الحافظ الطحاوي والطبراني، وما روي أيضًا عن علي بن أبي طالب: أن نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي»، أخرجه الحافظ الطحاوي وابن ماجه، وما روي أيضًا عن أبي موسى الأشعري: عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «الحرير والذهب حلال لإناث أمتي، حرام على ذكورها»، أخرجه الحافظ الطحاوي والترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح)، وفي الباب أيضًا عن عبد الله بن عمرو وعقبة بن عامر، وبأن ما روي عن عقبة يخالفه روايته الأخرى، وهي سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم»، وبأن ما روي عن ابن الزبير بأنه لم يبلغه الحديث المخصص؛ لعموم الحرمة في قوله: (من لبسه في الدنيا؛ لم يلبسه في الآخرة) انتهى.
وقال ابن العربي: (اختلف العلماء في لباس الحرير على عشرة أقوال؛ الأول: محرم بكل حال، الثاني: محرم إلا في الحرب، الثالث: يحرم إلا في السفر، الرابع: يحرم إلا في المرض، الخامس: يحرم إلا في الغزو، السادس: يحرم إلا في العلم، السابع: يحرم على الرجال والنساء، الثامن: يحرم لبسه من فوق دون لبسه من أسفل؛ وهو الفرش، التاسع: مباح بكل حال، العاشر: محرم وإن خلط مع غيره؛ كالخز) انتهى.
قلت: وفيه تكرار، فإن الحرب والغزو شيء واحد، فالقولان يرجعان إلى قول واحد، وقد يقال بدله: يحرم على الرجال دون النساء، ويزاد حادي عشر: يحرم إلا في البرد، والقول الثامن: وهو عدم حرمة افتراشه هو قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وتبعه ابن الماجشون من أصحاب مالك، وهو قول العراقيين، وهو إحدى قولين عند الشافعي.
قال النووي: وهو الأصح، فإن الافتراش ملحق بزينة النساء للأزواج؛ لأنَّ ذلك من تمام
%ص 488%
التزيُّن للزوج المطلوب شرعًا، وصحح الرافعي التحريم، والله تعالى أعلم.
==========
[1] في الأصل: (ثلاثة عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] تكرر في الأصل: (ولا غيره).
==================
[1] في الأصل: (ثلاثة عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
[1] في الأصل: (ثلاثة عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/635)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي

 مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيتمي مجلد 3. الزواجر عن إقتراف الكبائر - دار الفكر المؤلف ابن حجر الهيت...